تصنيف آخر

مسالك التفكير بين حقول المعرفة

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

مسالك التفكير بين حقول المعرفة

 “إنني لغتي
(جان بول سارتر)

كلما اقترب طبعك من طبع العلم الذي تطلبه زادت الوشائج التي تصلك بأسراره، وأن قوى الخواطر والأفكار مستمدة من اللغة، وأن كينونتنا ووجودنا وإدراكنا ونشاطنا ومسارب فكرنا كامن في اللغة، وهي مستودع الثقافة، ومنها ينهض الإنسان ويرتقي في سلم الحضارة.
إن أول فكرة تصادفنا في هذه المقدمة هي علاقة الطبع والتفكير باللغة ومدى اعتماد أحدهما على الأخرى، وقد تباينت الآراء في ذلك، فقيل بأن اللغة تعتمد على التفكير، وقيل بأن التفكير يعتمد على اللغة، أو أنهما مستقلان، أو بينهما علاقة متبادلة، وقد جرت العادة أن على الباحث أو المتلقي أن يختار بين تلك الآراء، وإني أجدنا في سعة عن هذا الاختيار القاتل بأن يلغي اتجاه على حساب آخر، ولذا فإني أميل إلى جل هذه الاتجاهات إلا الاتجاه القائل بأنهما مستقلان ولا يؤثر أحدهما على الآخر؛ كون التفكير لا يستقل عن اللغة، واللغة لا تستقل عن التفكير، وباقي الآراء قد تكون صائبة لكن تكون بينهم تراتبية معينة، وذلك تحت أسباب وظروف وملابسات شتى في تقديم أحدهما على الآخر.
إذا ما جئنا لنربط بين قوة اللغة وأثرها في التفكير يكاشفنا العصر الجاهلي – وما هو بجاهلي – من حيث قوة تأثر التفكير باللغة، فقد اكتسب العرب الأوائل من اللغة العربية معناها وصفتها وسمتها وسموها، وهو حسن الكشف والبيان عن مكنون الطبع والفكر، هذا وإذا رمنا أن نستنطق ظلال اللغة وأثرها على مهارات التفكير في عدد من الحقول المعرفية لألفينا تلك المهارات حاضرة بصورتها التطبيقية، من ذلك التفكير الإبداعي الذي غدا عشبا وبستانا من اللغة، وأضحى التفكير ممزوجا بالعربية الذي كساها ملاحة وإبداعا، وقد أُثر عن العرب أمثالا بليغة تمثلت في تفكيرهم وسلوكهم، من ذلك ما اشتهروا به من التأني وعدم العجلة، جاء في المثل: (القطوف يبلغ الوساع) وهذا أسلوب من أساليب التصوير البياني، والقطوف من الدواب البطيء المتقارب الخطا، والوساع ما اتسع في السير، ولك أن تتكفر في الإيجاز والمعاني المكنوزة الذي يمثله هذا المثل. ومن الصفات التي تمثلت في سلوك العرب الكرم والعطاء، فيقول قائلهم: (ارخ يديك واسترخ إن الزناد من مرخ) وهذا تشبيه تمثيلي يضرب للرجل الكريم الذي لا يحتاج أن تلح عليه في الطلب، انظر الآن وتأمل كيف شعّ التفكير من اللغة. ومما جاء عنهم كذلك في المثل: (أصم عما ساءه سميع) وبُطّاش البيان والفكر حذفوا الجار والمجرور؛ تعويلا على فطنة المتلقي في تحصيل المعنى، وإبداع العرب اللغوي في إشراك المتلقي صناعة القول، إذا التقدير: سميع للحسن، والشاهد هو حلم العربي، والأمثلة كثيرة جدا. ومِساحات الإبداع واسعة، ولعل ذلك هو ما دعا الأخفش إلى أن يقول: (أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا) ومثله القائل لأبي تمام المجدد: (لم لا تقول ما يفهم؟ فقال له أبو تمام: لم لا تفهم ما يقال؟).

مسالك التفكير

إن المكنة اللغوية للعرب ألقت بظلالها على عمليات التفكير، فتمثلت في مهارات التفكير الإبداعي الذي يتصف بالأصالة والجدة (الصور البيانية وكافة الظواهر البلاغية) وعدم التقييد بالقواعد المنطقية (النحوية) والطلاقة ( توليد عدد كبير من الألفاظ التي تدل على المعنى الواحد) والمرونة ( التراكيب التي تشمل على عدة معاني تتجاور ولا تتدافع) والتفكير الإبداعي تفكير مركب يتطلب مستوى عال من العمليات العقلية، ولو رُصفت الأمثال السابقة على التفكير البسيط لوجدناها خالية من الصور البلاغية العالية، من التصوير البياني والإيجاز وألوان البديع، ولظهرت لنا معاني مألوفة لا تتجاوز المفهوم الحسي لألفاظها، لكن مفهوم العدول الذي اشتهر في الحقل البلاغي يوازي التفكير الإبداعي، ذلك أن العدول يتجاوز المألوف من التراكيب النحوية إلى غير المألوف فيما يسمى بالسبكة البلاغية، فليس القصد من السبك والحبك الإفهام، إنما يتعدى ذلك إلى ما يطرب ويهز النفس ويحرك الطباع، وهذا من ناحية التفكير الإبداعي.

وإذا ما جئنا لأعظم الحقول المعرفية وأغناها وهو أصول الفقه المرتبط ارتباطا وثيقا باللغة، وجدنا أسس التفكير العلمي متعاضدا مع المكنة اللغوية كما عند الفقهاء الحنفيين في سبل استنباطهم للأحكام الشرعية، بدءا من وجود الإشكالية التي تتمثل أولا بضعف اللغة، وانتشار العجمة بسبب الفتوحات واتساع الرقعة الإسلامية، ، وقلة الصحابة – رضي الله عنهم – وقلة رواية الحديث، ونشأة الفرق والمذاهب، وصولا إلى المرحلة الثانية التي تبدأ بحل المشكل وهي جمع المادة التي تستقى منها الحلول، وقد تمثل ذلك في القرآن الكريم والحديث النبوي، ثم فرض الفروض التي هي التصور الذهني الذي يهدي إلى الحلول وإيجاد العلائق بين النص والحكم الشرعي فقد تمثلت الفروض عند المدرسة الحنفية إما بعبارة النص (ما كان السياق لأجله) أو بإشارته (ما لم يكن السياق لأجله لكنه يعلم بالتأمل في معنى اللفظ) أو بدلالته (ما ثبت بمعنى النظم لغة لا استنباطا بالرأي) أو بمقتضاه (ما ثبت بزيادة على النص اقتضى صحة معناه أو صدقه) وبناء على هذه الفروض يحصل اختيار ما يكتنزه النص من معان وأسرار لاستنباط الحكم ثم تفسيره، واستخلاص النتائج والتعاميم منه، وهذه الذهنية العلمية التي نُظّر لها حديثا ظهرت في القرن الثاني من الهجرة.

وإذا ما طالعنا حقل النقد الأدبي وجدنا أمامنا مثالا بارزا على التفكير النقدي وهو مدونة ابن سلام في طبقات فحول الشعراء، وتعد هذه المدونة من أقدم الوثائق المدونة في النقد العربي، حيث جمع أعمال أربعة عشر ومئة شاعرا من الجاهلية والإسلامية وهو ما يعرف الآن بالاستقراء الناقص؛ لأنه اقتصر على ما لا يجهله عالم، ولا يستغني عن علمه ناظر، وهذه الخطوة تمثل المرحلة الأولى في عمليات التفكير الناقد، ثم تلي ذلك مرحلة ربط المعلومات من خلال المفاهيم التي ساقها من الانتحال والرواية والذوق وثقافة الناقد والأغراض الشعرية، وبتلك المفاهيم والربط بينها وبين الحصيلة الشعرية وصل إلى مرحلة التقويم والتي على أساسها وضع عشر طبقات تضم أربعين شاعرا، كل طبقة تحوي أربعة شعراء، ولم يكن التقويم خاليا من البراهين والحجج التي تؤيد تسكين الشعراء في كل طبقة، فمن خلال المعايير والمفاهيم النقدية التي مهّد لها الناقد ابن سلام في مقدمة كتابه مكنته من الوصول إلى التقويم القائم على معايير موضوعية خالية من الذاتية والعوامل الشخصية في التقويم.

وإذا ما طالعنا الحقل الأدبي ورمنا استكشاف صناعة الشعر، لوجدناه عملا معقدا ليس بالسهل، يقول الفرزدق: (أنا أشعر تميم عند تميم، ولقد تمر عليّ ساعة ونزع ضرس أهون عليّ من قول بيت من الشعر!) والصناعة كل فعل يتقن ويجوّد على وجه البصيرة، ومن تجويد الصناعة ما أطلق من ألقاب على بعض الشعراء من المهلهل لرقة شعره، والمحبّر لتزيينه شعره، والمنخّل لتنقية شعره وتصفيته، والمرقّش لتنميق شعره، وعلقمة الفحل لتجويد شعره، فإذا كان هذا في أصل الصناعة فكيف بمن كان يمكث حولا يصفّي وينقّح ويجوّد ويقاوّم الطبع والدفقة الشعورية الأولى، وهذا هو شأن التفكير التأملي الذي يمكّن من التبصر في صناعة الشعر إلى حد الاستقصاء في سبكه وحبكه وفق حالة نفسية من شك أو تردد ترافق الشاعر حتى يثقف الفكرة، وقد لوّح بهذا النوع من التفكير أحد شعراء مدرسة الصنعة والتفكير التأملي كعب ابن زهير، حيث يقول:

فمن للقوافي شانها من يحوكها؟           إذا ما ثوى كعب وفوّز جرول

كفيتُك لا تلقى من الناس واحدا        تنخّل منها مثل ما نتنخّل

نثقفها حتى تلين متونها                    فيقصر عنها كل ما يتمثل

وإذا أتينا لمستويات التفكير التأملي في شعر الحوليات كما يطلق عليها؛ كون أن الشاعر يخرجها بعد حول كامل، وجدنا ثلاث مستويات: المستوى الأول وهو مستوى الفكرة العابرة أو ما نسميها بالدفقة الشعورية الأولى، ووصفها بالشعورية؛ لأن الشاعر إنما وصف بهذا الوصف لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره من الناس، ولا يخلو هذا المستوى من التأمل إلا أنه المرحلة الأول من التأمل، ويلي ذلك المستوى الثاني وهو التأمل المقصود أو المدروس وهو الذي يتضمن مراجعة الفكرة وتطويرها وسبكها منظومة مرصوفة، والفرق بين المستويين، أن الفكرة في المستوى الأول هي نتاج تأمل عام لما يلاقيه الشاعر من تأمل في مواقف الحياة وإعمال الفكر فيها بقدح الأسئلة على تلك المواقف واستغرابه والدهشة منها أحيانا، وهو بهذا المستوى يكون متوقدَ الذهن حادا في التفكير، أما المستوى الثاني ففيه إخلاص للنتيجة المتأمَلة وقصدية في ذلك الموقف دون غيره، ويشمل التفكير التأملي في هذه المرحلة الدفقة الشعورية الأولى ورعايتها إلى أن يصوغها وفق قالب شعري يتلاءم مع روح الفكرة، وهذان المستويان يكونا لكافة الشعراء إلا شعراء الحوليات فإنهم في استغراقهم للفكر التأملي يتطلبون مستوى ثالثا وهو التأمل التثقيفي أو التأمل الناقد الذي يتطلب مزيدا من النظر والمراجعة المكاشفة والحفر والتفتيش وصولا إلى الغاية المأمولة في إحكام النسج والدقة في اختيار الألفاظ.

pexels-karolina-grabowska-4963886

أقول الآن إن البنى الفكرية والثقافية الكامنة في تراثنا تحوي العمليات العقلية العليا من استدلال واستقراء وحل المشكلات وتحليل وتركيب وتقويم وإبداع، ولا نهضة تُنشد من دون توعية توقظ الفكر وتشعل فتيله بما يواكب تطلعات العصر، ولا غرو أن التمكن من زمام اللغة يريك ما وراء اللغة وما تدل عليه، وغاية العقول النيرة المتوقدة بحاسة التفكير أن تمسح آثارها على الأفكار والفرضيات والنظريات فتملأ بإبداعها وتأملها ونقدها فجوات العلوم وتبث فيها روح التجديد، فتحريك علومنا واستنفارها يخرج منها ما اكتنز فيها من أفكار، وكما قال الدكتور محمد أبو موسى: “كل قارئ يتدبر ويراجع ويغلغل الفكر في كلام العلماء يجد فيه ركازا من العلم هو من المسكوت عنه، وكما أن الركاز في باطن الأرض لا يستخرج ولا يكتشف إلا بالبحث والتنقيب كذلك ركاز العلم في كلام العلماء، ثم إن هذا الركاز هو الذي يمد العلوم بالاتساع والنمو والازدهار والتجديد”. وهذا من الكلام العالي الذي يستنفر المؤسسات التعليمية لتفلت النظر إلى التمكين اللغوي أولا، ثم الاهتمام بالتفكير ومهاراته وتيسير السبل بتعليمه وفق اتجاهين، الأول: يكون بصورة مستقلة يتصور الناظر أساليب التفكير، مما يخلق لديه خريطة إدراكية يرقب من خلالها أساليب ونظريات التفكير، والثاني: تعليم التفكير مدمجا مع شتى مناهج المعرفة؛ حتى يتصور الذهن حركة تطور العلوم وسيرورتها عبر العصور، وهذا الأمر لا يبلغ الغاية إلا بمدخل اللغة؛ حيث هي الوعاء الثقافي الذي درات في رحاه عمليات التفكير، وبمقدار مكنتنا من اللغة تكون محصلتنا من إنتاج الأفكار.

شارك الصفحة

التعليقات

    November 5, 2022

    سلمت يراعك، دكتور محسن على هذه القراءة الفاحصة والمؤصلة والعميقة، فلكل جزيل الشكر وكبير الامتنان.

    1
    0
    November 5, 2022

    بارك الله فيك ونفع الله بك
    دكتورنا وحبيبنا د. محسن

    0
    0
    November 6, 2022

    بارك الله فيك

    0
    0
    November 6, 2022

    عندما يجتمع الفكر مع العطاء يتضح لنا أن هناك مفهوما نراه في شخصك الكريم

    0
    0
    November 10, 2022

    ماشاءالله تبارك الله مقال جدا جميل الى الامام دكتور محسن بالتوفيق يارب

    0
    0
    February 27, 2023

    أيها الفاضل :
    صنعت فأجدت سقيت فأرويت أعطيت فما أبقيت .
    جزاك الله خير وزادك نفعاً وانتفاعاً

    0
    0
المزيد من المقالات

مسالك التفكير بين حقول المعرفة Read More »

في مديح قوائم الكتب

في مديح قوائم الكتب
Picture of عبدالله الوهيبي
عبدالله الوهيبي

مؤلف وباحث

«إن من سينتخب من فوضى قوائمنا الحديثة “أسوء مئة كتاب”

سيسدي لجيل الشباب معروفًا حقيقيًا ودائمًا»

(أوسكار وايلد ت1900م)

(1)

وُلِد الشيخ العلّامة موفق الدين عبداللطيف بن يوسف البغدادي (ت629هـ) رحمه الله بدار جدّه في بغداد، واشتغل بحفظ القرآن في صغره ورواية الحديث، ودرس العربية، ثم اتسع طلبه لعلوم الشريعة فنظر في الفقه وعلوم القرآن وغيرها، وعلى عادة أهل العلم في ذلك الزمان فارق بغداد طلبًا للشيوخ والعلوم في غيرها من الحواضر، وكان قد هوي كتب الحكمة والفلسفة وكتب الأوائل والطبّ، فرحل إلى الموصل، ثم دخل الشام، ثم مصر، وفيها لقي الأستاذ موفق الدين أبو القاسم مكي بن عثمان الشافعي (ت615هـ) وكان من أهل النظر في الفلسفة، فباحثه البغدادي وذاكَرَه، وكان أبو القاسم أخبر منه بهذا الفن، فطفق يدلّه على الكتب المهمة، ويأتيه ببعضها، ويوقفه على النصوص، فيكتب البغدادي منها، ويشتري بعضها، حتى تبصّر وزاد علمه بكلام الفلاسفة ودرجاتهم، وقد فرح البغدادي بصحبة هذا الأستاذ، وأفصح عن شديد انتفاعه بدلالته وحسن تبصيره، وكتب:  

«أقل منافع الأستاذ الفاضل أن يدلّ على الكتاب الصالح والطريق الصحيح، وهذا من إرشاده أعظم شيء مع قلته وخفّة مؤونته، فلو قال لك الأستاذ: “اشتغل بهذا الكتاب وارفض هذا الكتاب”؛ فقد أفادك فائدة جليلة، ونبّهك على فضيلة استحق بها منك الشكر على الأبد، وبهذا المقدار يستحق رئاسة الأستاذية، ويوجب عليك حقّ التلمذة، وتصير من أتباعه، ولو لم يفدك في الكتاب شيئًا أصلًا سوى الدلالة عليه؛ لكفى ذلك شرفًا، وحقًا واجبًا».

وتزداد الحاجة إلى هذه الدلالة على “الكتاب الصالح” مع التغيرات الكثيرة التي نعايشها في هذا الزمان المتأخر، فلم تكن الكتب حين دوّن البغدادي تجربته بالكثرة الكاثرة التي نشاهدها في هذا الوقت، ولا كانت متاحة لعموم الناس بشتى طبقاتهم بأدنى جهد في الغالب كما نرى، حيث تفاقمت المعارف في كل العلوم والفنون حتى أوشكت أن تغرق المتعلّم والباحث، بل فعلت والقوارب شحيحة. ويزيد الأمر شدةً تعذّر عثور الطالب في هذا الزمن على شيخٍ يوقفه على دقائق العلوم في دهاليز الكتب، وأستاذٍ يدلّه دلالة خاصة إلى مظانّ المعرفة الصالحة، فقد تبدّلت أنظمة التعلّم ومناهجه، وتغيّرت طرائق الترقي في النظر العلمي، وأساليب تكوين المعارف وبنائها، وهذا وذاك مما يقوّي الحاجة لقوائم الكتب، وتوصيات الخبراء العلمية في التآليف والمؤلفين. بل إن التوصيات المشوّقة والقوائم المميّزة تحفّز المتابع على القراءة (رصدت بعض التقارير تداعيات وسم شهير (BookTok#) على موقع تيك توك (TikTok) مخصص للتوصية بالكتب، حيث شوهد أكثر من 64 مليار مشاهدة حول العالم حتى لحظة كتابة هذا المقال، والذي كان له أثر في زيادة مبيعات الكتب في بريطانيا وأمريكا).

(2)

تختصر توصيات الكتب والقوائم المختصة الطريق على الراغب، وتحميه من الإحباط الذي يواجهه كثير ممن يغامر في غابة العلوم بلا خارطة، حين يكتشف ضخامة الكتب المتاحة، وضآلة إمكاناته في قراءتها، ماديًا أو زمنيًا، فأنت تحتاج إلى مال قارون وعمر نوح -كما قال بعض الأساتذة- حتى يتسنى لك الإلمام بمطالعة ما يستحق من الكتب والعلوم، إلا أن التوصيات والقوائم الحكيمة تخبرك أن أصول العلوم والكتب الجليلة في كثير من العلوم –إذا دقّقت النظر- قليلة، وهذا يصدق أيضًا على الفنون والآداب؛ فيرى الروائي الأمريكي هنري ميلر (ت1980م) مثلًا أن الكتب الفريدة في الأدب كله ربما لا تصل إلى خمسين كتابًا، برغم ضخامة الأكوام الهائلة من كتب الأدب التي تقف في طوابير متزاحمة على أرفف المكتبات، ولكن هذا لا يعني أنها تكفي لتكوين العقل وبناء الملكة وتوسعة الاطلاع، فهو يعتقد أن قراءة «عشرين ألف أو ثلاثين ألف كتاب رقم معتدل جدًا بالنسبة إلى شخص مثقف في زماننا».

كما أن التوصيات والقوائم تسهم في تنظيم ذهن الناظر، فلا يقدم على تبديد زمانه فيما لا ينتفع به، ولا يفسد خواطره –في أوائل بحثه- بمصاعب نظرية ودقائق علمية لا يحتاج إليها، قال برنارد شو (ت1950م) مرةً أن بعض الكتب لا ينبغي قراءتها إلا بعد أن يتجاوز المرء الخمسين من عمره. وبغض النظر عن دقة ذلك؛ إلا أن هناك نوعًا من التصانيف لا ينتفع بها إلا الخبير في العلم والحياة.

ثم إن التنافس بين دور النشر وأشكال التسويق المختلفة للكتب، وظاهرة الكتب “الأكثر مبيعًا” تضع في طريق القارئ نماذجًا ركيكة من المعارف الاستهلاكية، وتفسد ذوق الناظر بالرائج المبتذل، ومن غير توصيات موضوعية وقوائم مختصّة يصعب تفادي الوقوع في أسْر الغثاء المتاح والمتوفر في واجهة المكتبات التجارية.    

في مديح قوائم الكتب

(3)

تواجه القوائم والتوصيات الكتبية في واقعنا العلمي نقدًا واستنكارًا من البعض، إما لأنها تنطوي على شكل من أشكال “الوصاية” والتنميط، وأن القراءة الحقّة هي التي تنطلق من أسئلة الذات، وتلاحق إجاباتها بين السطور ووسط الهوامش وخلف العناوين التي يفضي بعضها إلى بعض بفضل التتبّع الذاتي الجادّ، أو لعدم أهلية أصحابها، أو لكونها تقلّص من فرص التمتع بـ”لذّة” الاكتشاف الذاتي، و”دهشة” الكتب المغمورة والممتعة، كما أوصت فرجينيا وولف (ت1941م) بذلك، حين كتبت في جملة متطرّفة: «فيما يتعلق بالقراءة؛ فإن النصيحة الوحيدة حقًا التي يمكن أن يسديها شخص لآخر هي إياك أن تأخذ بنصيحة أحد!».

فهذه ثلاث مبررات ثقافية وأيديولوجية وجمالية لا ترحّب بالقوائم، ولستُ مهتمًا هنا بخوض جدل بشأنها، ففي تضاعيفها مزيجًا من الصواب والخطأ، فانتشار القوائم من عموم القرّاء غير المختصين، و”دمقرطة” تقويم الكتب في عصر الشبكات المفتوحة؛ أنتجت –بلا ريب- ألوانًا من الابتذال والإسفاف وغلبة السوقية الذوقية، بل إن التوصيات ذاتها تحوّلت –أحيانًا- إلى “استعراض” ثقافي حتى بين المتخصصين، فالنفاق –كما يعبّر الكاتب الفرنسي بيير بيارد في كتابه “كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها”- شائع بين المتخصصين فيما يتعلق بالقراءة، حيث يوصي البعض بكتب لا يعرف منها إلا العنوان، ولذا أؤيد رأي من يطالب بإنشاء قائمة تضم أسوء الكتب في القوائم المتداولة، كما في الاقتباس الافتتاحي.

والعلم -في حقيقته- ليس هو المعلومة المفردة، بل هو حسن الإدراك لموضعها بين المعارف، والبصر بِصِلات الكتب فيما بينها، وموقع الناظر منها، ومن غير هذه المعرفة لا يمكن للمرء أن يوصي بكتب لا يفقه موقعها ولا موقعه منها، فيبالغ في الضئيل، ويجهل الجليل، ويعكس البوصلة.   

كما أن تداول قوائم معينة أو توصيات دون غيرها –لا سيما في الفنون والأدب- يحجب النور عن كتب أخرى، ربما تكون أهمّ وأمتع. ومع كل ذلك فالحقيقة أن هذا النقد لا يقلل البتّة من الأهمية القصوى للقوائم المختصّة، بل يؤكدها، فمن غير خريطة خبير –أوليّة على الأقل- لن يجاوز المرء العتبة، وسيظلّ أسيرًا لأنصاف المثقفين وللرائج الركيك، ولن يتمكّن بسهولة من اكتشاف جماليات لم يتطوّر حسّه بعدُ لتذوّقها.

في مديح قوائم الكتب

(4)

وأكثر التوصيات المتداولة شديدة العموم، وتصطبغ بطابع الذوقية الشخصية، ويقلّ فيها القوائم والتوصيات المختصة، وأملي أن أرى يومًا موقعًا خاصًا أو مساحة هنا أو هناك تضم قوائم مختصة في العلوم المختلفة، إما على التدرج المعهود في تلقّي المعرفة، فقائمة للمبتدئ والمتوسط والمتوسع، وإما بحسب الموضوعات، كقائمة تختص بكتب الجنايات أو العقوبات في مذهب أو قانون معتمد، وأخرى بالحروب العالمية، وقائمة تسرد أهم الكتب في تواريخ الرأسمالية وتطوراتها، وما شابه ذلك، وإما بحسب التاريخ والحقب، كقائمة تضم أهم الكتب في فقه الحنفية في القرن العاشر، وثانية في أشعار القرون الثلاثة الأولى، وأخرى تقترح أبرز كتب التاريخ في القرن السابع أو الثامن الهجري، ورابعة تفيد ألمع كتب الأدب الفرنسي في العصر الوسيط، وهكذا. وهذه التوصيات وفقًا لهذه التصنيفات كثيرة في بعض اللغات كالإنجليزية، وهي مفيدة غاية الإفادة، ولا يعرف فضلها إلا من جرّب وكابد المفاوز القاحلة في المعارف غير المطروقة.

وأضيف كلمة صغيرة هنا، وهي أن التوصيات –كما تعرف- ليست الطريق الوحيد إلى المعرفة المهمة، فالعلم أوسع من ذلك، والطرق إلى الفنون أشمل بلا ريب، و«إن ملاحظة عابرة من صديق، وحاشية، ومرض، ومنعطفات غريبة للذاكرة، وألف شيء وشيء؛ يمكن أن تدفع المرء للسعي وراء كتاب»، ويكون هذا الكتاب أنفع لصاحبه وأمتع لذهنه من توصيات كثيرة.

 (5)

وهذه العلوم التي تقود إليها التوصيات ينبغي أن تخدم غاية الإنسان من وجوده، وأمله الأقصى من حياته، ومن غير العناية بذلك لا تزيد الكتب العالمَ إلا ظلمةً، ولا تكون نورًا إلا إذا أنار القلب بحسن القصد وإخلاص الطلب أولًا، فإذا صادف نور الكتب الصالحة نور القلب؛ ازداد وهجًا ولمع ابتهاجًا؛ «نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ»، وقد سأل أبو القاسم بن يوسف التجيبي المغربي الشيخ أبو العباس أحمد بن تيمية (ت728هـ) رحمه الله أن يوصيه بكتاب يكون عليه اعتماده في علم الحديث وفي علوم الشريعة، فأوصاه الشيخ بما رأى، ثم أشار إلى كثرة الكتب في التراث، وقال: «وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعابًا؛ فمن نوّر الله قلبه هداه بما يبلّغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرةً وضلالًا».

شارك الصفحة

التعليقات

    July 21, 2022

    تدوينة رائعة
    لا تحرمونا هذا الجمال ✨

    10
    1
    July 21, 2022

    مقال ممتاز.. سلمت يمينك

    7
    1
    July 21, 2022

    اللهم اهدنا ودلنا ولا تضلنا

    2
    1
    July 22, 2022

    تدوينة رائعة واقتباسات نفيسة
    اللهم نور قلوبنا

    3
    1
    July 22, 2022

    جميل جدا .. جزيتم خيرا..

    4
    1
    July 22, 2022

    اتمنى تخصيص زاوية مستدامة لكاتبنا الجميل😍🙏

    4
    0
    July 23, 2022

    مقالة جمييلة 👌🏼

    2
    0
    July 23, 2022

    عنون المقالة اشبه بغطاء محركة سيارة رياضيه ، لكن حين تكشف الكبوت تجد عبارات مصابه بصدأ لدرجة تحعلك تفقد تركيزك

    0
    3
    July 23, 2022

    حروف يا عبدالله ترياق
    أنا مدين لك جدا
    قرأت كل كتاباتك
    جزاك الله عنا كل خير

    3
    0
    July 24, 2022

    مقالة موفقة، جزاكم الله خيراً
    كنت أتشوق أن أرى توصية لقائمة كتب في نهايتها 🙁

    3
    0
    July 24, 2022

    وفّقك الله لما تكتب دائماً ♥️

    1
    0
    August 4, 2022

    تدوينةٌ تسر القلب والفكر بحسن أسلوبها و أصالة فكرتها التي نرجو أن تشرق .

    2
    0
    August 7, 2022

    دايم مبدع

    0
    0
    September 30, 2022

    شكر الله لك

    1
    0
    November 5, 2022

    فمن غير خريطة خبير –أوليّة على الأقل- لن يجاوز المرء العتبة، وسيظلّ أسيرًا لأنصاف المثقفين وللرائج الركيك ~> الخربطة الله يخليك 😿💔

    1
    0
المزيد من المقالات

في مديح قوائم الكتب Read More »

يا أيها الشعراء الشباب، أرجوكم اقرؤوا كل شيء | آدم زاغايفسكي

Adam Zagajewski
 

أشعر بخطر واحد على الأقل هنا [في هذه المقالة]. إذ قد أضع بمحض الصدفة – عبر مناقشة سبل القراءة، أو رسم بورتريه لـ”قارئ جيد” – تصورًا بأني شخصيًا قارئ مثالي، ولا يوجد ما هو أبعد عن الحقيقة من ذلك، فأنا قارئ فوضوي، والفجوات في تعليمي تسلب الأنفاس أكثر من جبال الألب السويسرية. وهكذا فملاحظاتي يجب أن ترى على أنها تنتمي إلى الأحلام، وضربًا من يوتوبيا شخصية، بدلًا عن كونها توصيفًا لإحدى فضائلي القليلة: القراءة بشكل فوضوي!

أفرغت قبل فترة أحد الحقائب التي رافقتي ذات عطلة صيفية. فلننظر إلى الكتب التي أخذتها معي إلى سويسرا بالقرب من بحيرة جنيف. لا بد أني جلبت [كتب] جان جاك روسو، و[لورد] بايرون، ومدام دو ستايل، ويوليوش سوفاكي، وآدم ميكيفيتش، و[إدوارد] غيبون، و[فلاديمير] نابوكوف، بما أنهم جميعًا على صلة بهذه البحيرة الشهيرة بطريقة أو أخرى، لكن – في الواقع – لم يأت أحد منهم إلى هذه الرحلة معي، إذ أرى على طاولة مكتبي بدلًا عن هؤلاء كتاب جيكوب بوركهارت “الإغريق والحضارة الإغريقية” (نعم، بالترجمة الإنجليزية، حيث اقتنيته من مكتبة تبيع بنصف السعر في هيوستن [بالولايات المتحدة])، ومختارات من مقالات [رالف والدو] إمرسن، وقصائد شارل بودلير باللغة الفرنسية، وقصائد ستيفان جورج بترجمة إلى البولندية، وكتاب هانز يوناس الكلاسيكي عن الغنوصية (باللغة الألمانية)، ومجموعة قصائد للشاعر زبينغيف هربرت، ومجلد أعمال هوغو فون هوفمنستال الكاملة الضخم المشتمل على مقالاته العظيمة. بعض هذه الكتب من عدة مكتبات في باريس، وبالتالي يطرح المجرود قبل قليل احتمالًا بأني قارئ عصابي يؤثر كتب المكتبة العامة على مسؤولية المالك، وكأن قراءة الكتب التي لا أملكها تعطيني حرية إضافية قليلة (إنها المكتبات – المكان الوحيد الذي نجح مشروع الاشتراكية فيه).

لكن لماذا أقرأ؟ وهل عليّ حقًا الإجابة عن هذا السؤال؟ يبدو لي أن الشعراء يقرؤون لشتى الأسباب، بما فيها تلك المباشرة والتي لا تختلف عن دوافع أي إنسان. لكن قراءتنا تندرج في أغلبها تحت لوحتين: لوحة الذاكرة ولوحة النشوة. فنحن نقرأ بدافع الذاكرة (أي للمعرفة والتعلم) لكوننا نشعر بالفضول إزاء ما أنتجه أسلافنا الكثر قبل أن تتفتح عقولنا، وهذا ما ندعوه بالتقليد – أو التاريخ.

لكننا نقرأ أيضًا للنشوة. لماذا؟ دون سبب. لأن الكتب لا تحتوي فقط على الحكمة والمعلومات المنظمة بل أيضًا على الطاقة التي تشبه ما يعتري الشامان حين يرقص ويثمل، وهذا يصدق بالفعل على (جزء من) الشعر، لأننا شخصيًا نشهد تلك اللحظات الغريبة حين تقودنا قوة ما تتطلب الطاعة المطلقة، وفي أحيان تخلّف وراءها بقع سوداء على الورق مثلما تخلّف النار الرماد (يطلق الفرنسيون على فعل الكتابة “تسويد الورق”)، وما إن تقع أسير نوبة كتابة تحت النشوة حتى تتصرف مثل مدمن مخدرات يريد المزيد على الدوام، إذ ستفعل أي شيء من أجلها، ولا تبدو القراءة [في سبيل ذلك] تضحية لا لزوم لها.

تقع الكتب التي أقرؤها – إن كان اعتراف مثل هذا مطلوبًا أو مرغوبًا – ضمن هاتين الفئتين، كتب الذاكرة وكتب النشوة. لا يمكنك قراءة كتاب من كتب النشوة في آخر الليل، إذ يعقب ذلك الأرق. بل عليك بقراءة التاريخ قبل النوم، وترك رامبو لحين الظهيرة؛ فالعلاقة بين الذاكرة والنشوة غنية ومفارقة وجذابة، إذ يمكن أن تنمو النشوة من الذاكرة أحيانًا فتنتشر مثل نار في هشيم – ويمكن لسونيتة قديمة التقطتها عين طمّاعة أن تشعل شرارة قصيدة جديدة. لكن الذاكرة والنشوة لا يتداخلان طوال الوقت، إذ قد يفرق بينهما بحر من اللامبالاة.

يوجد أساتذة من ذوي الذاكرة الحادة لكنهم لا ينتجون إلا قليلًا. قد ترى في أحايين عجوزًا يرتدي ربطة عنق بأسلوب الفراشة وظهره منحن بفعل السنوات فتقول: ذلك الشخص عالم بكل شيء. والحق أن بعض أولئك القراء العجزة على قدر كبير من المعرفة (ليس بالضرورة أن يكون ذلك العجوز الضئيل الذي رأيته ذلك اليوم)، لكن ذلك مختلف بشدة عن الإبداع، وعلى الطرف الآخر من المعادلة نرى المراهقين المنتشرين بفعل [موسيقى] الهيب هوب، لكننا لا نأمل بحصاد فنّي غني من هكذا شغف بالتحديد.

الواضح أن الذاكرة والنشوة محتاجان لبعضهما بشدة؛ إذ تتطلب النشوة قليلًا من المعرفة، ولا تفقد الذاكرة شيئًا حين تلونها المشاعر الجياشة. وما يشكل بشأن القراءة مهم للغاية بالنسبة لنا – وضمير الجميع يقصد الشعراء، ومن يميلون إلى التفكير والتأمل – لأن تعليمنا قد ابتعد بقدر كبير عن المثالية. فلم تول المدارس الليبرالية التي دخلتموها (أو الشيوعية التي درست فيها) اهتمامًا بالكتب الكلاسيكية إلا قليلًا، بل أن اهتمامها بعمالقة الحداثة أقل؛ إذ أنها فخورة أكثر بإنتاج خط من المنتمين لجماعة “الحيوان الأكبر”، المكون من المستهلكين شديدي الاعتداد بأنفسهم. صحيح أننا لم نتعذب مثل مراهقي إنجلترا في القرن التاسع عشر (أو فرنسا أو ألمانيا أو حتى بولندا في ذلك الصدد): إذ لم نُلزَم بحفظ نصوص فرجيل وأوفيد كاملةً، لكن علينا أن نكون ذاتيي التعليم. فالفرق بهذا الخصوص بين شخص مثل جوزيف برودسكي، الذي ترك المدرسة في سن الخامسة عشر ومضى ليقرأ كل ما وقعت عليه يداه، وبين شخص مضى في سلم التعليم الأمريكي الحديث بأكمله، بما في ذلك الدكتوراة، بينما لا يخرج في قراءته عن مناطق قراءات الجامعات الرفيعة إلا قليلًا، لا يحتاج إلى تعليقٍ كثير. فنحن نقرأ بشكل رئيسي خارج الدائرة الأكاديمية وفي حياة ما بعد الجامعة. ومن أعرفهم من الشعراء الأمريكي قراء نهمون ومع ذلك أرى بوضوح أنهم بنوا معرفتهم خلال فترة ما بين التخرج ودخول منتصف العمر. وأغلب الطلاب الأمريكيين لمرحلة ما بعد البكالوريوس ذوي معرفة شحيحة، أقل من نظرائهم الأوروبيين، لكن العديد منهم سيعوض هذا الفارق في السنين القادمة.

Young Poets, Please Read Everything

لدي انطباع أيضًا أن العديد من الشعراء الأمريكيين الشباب يقرؤون اليوم في أفق ضيق للغاية؛ إذ أن غالب قراءاتهم في الشعر، وليس سواه إلا قليل من النقد الأدبي. من المؤكد أنه لا خطب في قراءة الشعر منذ هوميروس إلى زبينغيف هربرت وآن كارسون، لكن هذا الضرب من القراءة يبدو لي غارقًا في التخصص. إذ يبدو كما لو أن تسمع طالبًا في تخصص الأحياء يقول لك: “إني أقرأ كتب علم الأحياء فقط”، أو رائد فضاء لا يقرأ إلا كتب علم الفضاء، أو رياضيًا يقرأ فقط ملحق الرياضة من جريدة “نيويورك تايمز”. لا يوجد خطأ شنيع في قراءة الشعر “فقط”، لكن يحوم ظل من الاحتراف المهني سابق أوانه على هذا الفعل، علاوة على ضرب من السطحية.

تطرح قراءة الشعر “فقط” فرضية أن هناك شيئًا صلبًا ومعزولًا بشأن تأليف الشعر في الوقت المعاصر، وكأن الشعر بات معزولًا من أسئلة الفلسفة المركزية، ومن قلق المؤرخ، ومن حيرة الرسام، ومن شقاء السياسي النزيه، أي من منبع الثقافة العميق الشائع. فالطريقة التي ينظم بها الشاعر الشاب قراءته – في الواقع – شديدة الحسم بشأن مكانة الشعر بين الفنون الأخرى، إذ تحدد – ليس فقط لفرد واحد – إذا ما كان الشعر مجالًا مركزيًا (حتى لو قرأه فقط قلة سعيدة من الناس) يستجيب للأحداث الرئيسية ذات لحظة تاريخية معينة، أو أنه شكل مثير للاهتمام إلى حد معين من الكدح الذي ما زال يستمر في جذب عدد قليل من المعجبين التعساء لسبب ما.

لعل الأمر على النقيض من ذلك تمامًا، إذ تعكس أنماط قراءاتنا ما نخلص إليه في أعماقنا – ولو لم تكن عن وعي بشكل كامل – إزاء مكانة الشعر. فهل نحن راضون بنهج المتخصص الضيق، وبالعلاقة الحصرية مع الأدب النمطي لأولئك الكتاب الذي ارتكنوا إلى الحكايات الصغيرة عن القلوب المكسورة؟ أم سنطمح – بدلًا عن ذلك – إلى لحظة الشاعر النبيلة، إذ يعاني من أجل تفكيره وغنائه ومخاطرته، وتقبله بمروءةٍ وجرأةٍ واقعَ إنسانية زماننا الآخذة بالتضاؤل (دون نسيان القلوب الكسيرة)؟ لذا، أرجوكم أيها القراء الشباب، اقرؤوا كل شيء. اقرؤوا لأفلاطون وأورتيغا إي غاسيت، وهوراس وهولدرلين، ورونسار وباسكال، ودوستويفسكي وتولستوي، وأوسكار ميووش وتشيسواف ميووش، وكيتس وفيتغنشتاين، وإمرسن وإملي دكنسن، وتي. إس. إليوت وأمبرتو سابا، وثيوسيدس وكوليت، وأبولينيير وفرجينيا وولف، وآنا أخماتوفا ودانتي، وباسترناك وماتشادو، ومونتيني والقديس أوغسطين، وبروست وهوفمانستال، وسافو وشمبورسكا، وتوماس مان وأسخيليوس. اقرؤوا السير والرسائل الفلسفية، والمقالات الأدبية والتحاليل السياسية. اقرؤوا حبًا بالمتعة، ولأجل إلهامكم، والفوضى الحلوة في رؤوسكم الجميلة. لكن اقرؤوا أيضًا ما لا يمثلكم، اقرؤوا حبًا بالحيرة والعجز، وحبًا باليأس وسعة الاطلاع. اقرؤوا الملاحظات الجافة والتهكمية للفلاسفة الساخرين مثل إميل سيوران أو حتى كارل شميت، واقرؤوا الصحف، ولمن يحتقرون الشعر أو ينبذونه أو يتجاهلونه ببساطة، وحاولوا تفهُّم سبب فعلهم ذلك. اقرؤوا ما كتب أعدائكم وأصدقائكم، ومن يعززون إحساسكم بما يتطور في الشعر، واقرؤوا حتى لمن لا يمكنكم فهم ظلامهم أو حقدهم أو جنونهم أو عظمتهم، لأنكم بهذه الطريقة فقط ستكبرون وتعيشون أكثر من أعماركم، وتصيرون إلى ما تصبون نحوه.

شارك الصفحة

التعليقات

المزيد من المقالات

يا أيها الشعراء الشباب، أرجوكم اقرؤوا كل شيء | آدم زاغايفسكي Read More »

حياتنا بين الحقيقة التي نعيشها وبين الخيال الذي نتمناه: قراءة في كتاب فوائت الحياة

Picture of ندى الأشرم
ندى الأشرم

مهتمة بتعزيز عادة القراءة ومؤسس لعدة مبادرات قرائية

كان ناقماً طيلة حياته على والديه الذين تسببا بتعاسته، كان ينظر لفقره وكأنه السد الذي يمنعه من الوصول لجنة الحياة ومتعها، أمضى حياته بأكملها وهو يتأمل ويفكر كيف كان سيحيا لو لم يكن الطفل الخامس لهذه العائلة البائسة، كبر وكبرت معه خيالاته، تخيل نفسه دوماً شاباً ثرياً ينال كل ما يتمنى حتى قبل أن يطلبه، كانت المدرسة بالنسبة له هاجساً مرعباً، والدخول في علاقات صداقة مع أقرانه أمراً مستبعداً. استمر على ما هو عليه حتى قارب الثلاثين من عمره، ولم ينعم مطلقًا بدفء الأصدقاء ولا العائلة، وعند بلوغه الثلاثين تلقى عرضًا مغريًا للعمل خارج وطنه، فتلقفه بلهفة وطار محلقاً يسبق الريح ظناً من أنه قد أدرك مناه أخيراً، حطت رحاله في الدار الغريبة عنه التي لا يعرف فيها أحد غير نفسه. هناك أدرك أنه لم يكن يطارد حلماً ليتحقق، بل كان يلهث خلف سراب! بِيعت أحلامه وتبعثرت أمانيه بعد أن ظهرت له حقيقة تعرضه لعملية

نصب أفقدته حتى ذاك القليل الذي كان يمتلكه. ورغم عودته خائبًا لوطنه لا يزال يُقنع نفسه أنه يحيا الحياة التي لا يستحقها، بل يستحق ما هو أفضل منها.

هذه القصة وإن كانت محض خيال إلا إنها تحكي واقعاً نعيشه ونراه. فكلنا هذا الذي يهرول بين حياة يعيشها وأخرى يتخيلها ويتمناها، قد لا ينال منها شيء أبداً، ولكنها تبقى غصة في قلبه تتجسد أمامه كلما رأى ما تمناه وقد تملكه غيره.

هذا الحديث عن تلك الحياة الافتراضية التي يُنغّص غيابها واقعنا، هو لب ما جاء في كتاب (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها).

”هناك دائمًا الحياة التي سيتبين أنها الحياة التي عشناها، والحياة التي  صاحبتها، الحياة (أو الحيوات) الموازية، التي لم تحدث في الواقع، تلك التي نعيشها في عقولنا، الحياة أو (الحيوات) التي نتمناها: المجازفات التي لم نُقدم عليها، والفرص التي تجنبناها أو التي لم تتح لنا. ونحن نشير إليها بوصفها حياتنا التي لم نعشها، لأننا نعتقد أنها بصورة ما كانت متاحة لنا، لكنها لم تكن ممكنة لسبب ما. وربما نقضي قدرا كبيرًا من حياتنا في محاولة البحث عن هذا السبب والتذرع به“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

ravi-sharma-GJGmnpase1A-unsplash

يُصور الكاتب والمعالج والمحلل النفسي البريطاني آدم فيلبس صورة بانورامية للحياة في كتابه الذي بين أيدينا (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها) ويفصلها لجزئين اثنين، جزء يعرض الحياة الواقعية وما بها من مصاعب وآلام، وجزء حالم بُني على قناعة أن الحياة التي نعيش على أمل بلوغها هي حقًا ما ننتظره وهي ما نتمناه ونرتضيه وما يجب أن يُسعدنا.

الكتاب عبارة عن مقالات تناولت مبدأ الحياة العام، الذي ينطلق من فكرة واعتقاد قائم على أن هذه الحياة هي للملذات والسعادة فقط، وأنه لا يُفترض بها أن تنحو منحى آخر، ونظراً لأن الحياة بطبيعتها تخلو من هذا الفصل بين الألم واللذة، فإننا ندخل في حالة إحباط في كل مرة نتعرض بها للحياة الطبيعية، ومنبع هذا الإحباط هو الإحساس باليأس الحاصل جراء غياب الحياة المتوقعة بأحوالها المُتخيلة، ويرجّح فيلبس بكتابه العامل المؤثر في مسألة الحياة المتوقعة والمُتمناة، إلى وسائل التأثير الخارجية مثل المسرحيات والروايات والأعمال الأدبية عمومًا، التي كانت على مر عقود من الزمن تغرس في الذهن الصورة المثالية للحياة التي لم يعشها أحد قط!

تلك القصص التي ملئت بها الأعمال السينمائية والأدبية عقول الناس حول لذة الوصول للحب والحلم والغايات وغيرها، أوجدت في النفس ميلاً دائمًا نحو الاقتناع بأحقيتها بالعيش السعيد الخالي من المنغصات. بالإضافة إلى ذلك، يعرض فيلبس بالكتاب الحقيقة المرة التي جعلت من الحياة في منظورها الحداثي مصدراً للمتعة فتضاءلت أمامها معايير الأخلاق، فليس من المفترض أن يعيش المرء صالحاً إذ يكفيه في هذه الحياة أن يعيش سعيداً، وهذا الاعتقاد يجنح إلى رفض الألم والمعاناة، واعتبار الصعاب مشاكل لابد من التخلص منها بأسرع وقت ممكن للوصول للحالة السعيدة المنشودة. وعلى الرغم من رفض الكاتب لهذا التصور إلا أنه أيضًا لا يدعي الترحيب بالألم والمعاناة، بل إنه يؤكد على ازدواجية الحياة، واختلاط الألم باللذة والمتعة بها. ويرى فيلبس أن هذا الفكر الشائع يدفع بالبشر نحو الحنين الدائم والتمجيد الذي لا ينقطع لمراحل الطفولة والمراهقة، كونها أجمل مراحل العمر، وفي المقابل ينظر لمرحلة النضج  والرشاد إلى كونها مرحلة مرهقة وشاقة، في حين أن العكس هو الصحيح من وجهة نظر المؤلف.

إننا لا يمكن أن نتخيل حياتنا بدون ما تحتويه من حيوات لم نعشها. إننا لدينا شعور دائم، وإن كان غامضًا وغريبًا، بأن الحيوات التي نعيشها تدفعها الحيوات التي تفوتنا. وتُعرّف حيواتنا بالفقدان، لكن فقدان ما كان يمكن أن يكون، فقدان أمور لم نجربها قط. وبمجرد أن تصبح الحياة الأخرى، الحياة الأفضل -الحياة الأكمل- هي هذه الحياة التي نحياها، تكون لدينا مهمة كبيرة بين أيدينا. وكأن شخصًا ما يطلب منا لا أن نعيش وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن. بل أن نعيش في رخاء، ليس مجرد حياة طيبة وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن, وهذا نوع مختلف من المطالب. وتصبح قصة حياتنا هي قصة الحيوات التي حرمنا عيشها“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

أقول بأن صفحات الكتاب جاءت لتحدثنا بما نُحدث به ذواتنا، ذاك الهمس الذي نبقيه حبيس مسامعنا، يُحدثنا تارة بالرضا، وتارة بالقنوط واليأس، وبالنهاية تكون لك الحياة كما أرادها الله لك أن تكون، لا تزيد ولا تنقص، ولن ينال المرء منها إلا ما قد قسمه الله وقدره، يقول النبي ﷺ: “أيها الناس اتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم”.

إن واقع حياة المؤمن إن كان صادقًا في إيمانه يقيه شر هذه الوساوس النفسية، كما أن إيماننا بحقيقة قصر أمد هذه الحياة يجعلنا نتطلع دومًا إلى الحياة التي لا فناء بعدها، تلك هي الحياة التي تستحق فعلًا منا كل هذا القلق.

لبيك إن العيش عيش الآخرة.

شارك الصفحة

التعليقات

    March 15, 2022

    لابأس أن يستأنس بمثل هذه الكتب ولكن نحن كمسلمين لدينا المنبع الصافي وهو الكتاب والسنة؛ من أراد فهم الحياة فهماً حقيقياً فليعد للكتاب والسنة؛

    9
    3
    June 24, 2023

    .

    0
    0

المزيد من مُراجعــات الكُتب

حياتنا بين الحقيقة التي نعيشها وبين الخيال الذي نتمناه: قراءة في كتاب فوائت الحياة Read More »

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن

تجربة تلخيص@300x-20
Picture of د. سوسن العتيبي
د. سوسن العتيبي

دكتوراه أصول الدين ومقارنة الأديان من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

حظي التلخيص في التراث الإسلامي بمكانة رفيعة، وفوائد جمّة، وحفظ لتالد تالف؛ فبعض الكتب لم تُحفظ جواهرها إلا في قالب تلخيص أو في ثنايا كتاب لاحق. وترافق التلخيص مع الاختصار، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فالتفريق بينهما مهم لمن رام التدقيق. والتلخيص قد يكون اقتصاراً على مهمات الكتاب وإيجاز الكلام وحذف الشواهد والأمثلة فيشابه الاختصار، وقد يكون إبانة إضافة وتيسير للإفهام. والتلخيص إبانة عن المقصود، كقول: لخص لي كلامك، أي بيّنه. والإبانة تخليص للكلام من الغموض المباعد بين المتحدث والمتحدث إليه. فالتلخيص يجمع عدة معان، أهمها: الإبانة.

لم يكن طه عبد الرحمن أول دائرة الملخصات التي دأبتُ عليها لغرض ذاتي أولاً؛ إذ الملخص نوع من إبانة مقصود الكاتب الذي قد يغمض أثناء القراءة دون التفحص الدقيق، فإن كان النظر ينقل لنا المعاني قراءة، فاليد تنقلها لنا تحليلاً؛ وقد يكون تلخيصا للأيام التي تلغي فيها الذاكرة طريقا قطعناه مع الكتاب -ومن لا ينسى؟-، وقد يكون لإيجاز الكلام والبحث عن الهيكل العام، وتتكاثر الدوافع لتكاثر الأغراض. ومفردة “التلخيص” واحدة، غير أنها جملة من المهارات والآليات المطلوبة لإنجاز: الإبانة أو الإيجاز أو الشرح، أو كل المعاني المحتملة بحسب كل مجال وغرض وكتاب، وبما أنها ممارسة فالممارسة تكتسب وتتطور مع الزمن حتى تصير خبرة تعين صاحبها على طيّ ما كان من المفاوز في البدايات.
من واقع التجربة؛ لم يكن تلخيص كتب طه عبد الرحمن كبقية الملخصات، إذ عمدت إلى تلخيصها بدقّة على فترات، فترة التحصيل للفهم (الإبانة)، ثم أعدت تلخيص جملة من كتبه لغرض الإيجاز والتركيز على متطلبات كتابة الأطروحة، ثم الثالثة والأخيرة أعدت تلخيص كل أعماله لغرض التثبت من الفهم والبحث عن البنية الأعمق لكل كتاباته مجتمعة عبر ترتيب زمني واستغرقت متوسط ٩ أشهر بواقع ٦ ساعات يومياً.

طه عبدالرحمن
طه عبدالرحمن

يتميز طه عبد الرحمن بطريقة كتابته الاستدلالية، وفق ترتيب أكسيومي يبدأ بمسلمات ثم يتدرج استدلالاً معها، وكتبه متخمة بدراسات قرأها ثم لخص ما تيسر منها بحسب غرضه، وهذا يتطلب أحيانًا الرجوع لبعض الكتب التي اعتمد عليها للتثبت من أصل مصدره ورؤيته له. فمعرفة النمط العام لكتاباته يسهل علينا مهمة مقاربته بالهيكل الأنفع لتحصيل فوائد كتبه، فأقرب هيكل يمكن أن نرسم عليه كتب طه عبد الرحمن ما يسمّى بـ “عظم السمكة” أو “التشجير” من الأصول حتى أدق التفريعات ثم الخلوص للنتائج؛ إذ كتابته أكاديمية بامتياز، وجل كتبه كتبت بطريقة تقرأ من الأول حتى الأخير لاستخلاص النتيجة.

من أراد الابتداء بتلخيص كتاب من كتبه فليبدأ أولاً بالمقدمة، ويركز عليها كثيراً، ثم ينظر في الهيكل العام للكتاب وتقسيمات الأبواب والفصول، ويحاول في ورقة مستقلة أن يربط بين المقدمة والهيكل العام، ثم يبدأ بقراءة كل فصل مع تلخيصه لاستخلاص المحور وما لحقه من استدلالات، واستخلاص طريقة استدلال طه عبد الرحمن على محاوره بأنواع البراهين والاستدلالات التي استعملها، ثم بعد ذلك وضع الخلاصة، وإكمال تلخيص الكتاب حتى النهاية على هذا النحو، فهذا أول الأمر للفهم، ثم قد يعود القارئ الذي حصّل قدراً جيداً من المعرفة المطلوبة لغرض نقدي؛ حيث ينظر إلى طريقة استدلال طه عبد الرحمن ويوازنها بما صرّح به من طرق استدلالية، أو بتتبع النقلات الاستدلالية، ليرى مدى تلاحم استدلاله أو وجود نقاط لم تكن واضحة أو ثغرات وقع فيها؛ إذ بعض هذه الثغرات قد يتجاوزها طه عبد الرحمن لأنه ذكرها في مؤلفات سابقة؛ فيبقيها على معهود سالف، ليس في ذكره إلا الإطالة.


أما إن كان الغرض قراءة الكتاب فقط؛ فيتطلب التلخيص معرفة نوع الكتاب: منهجي، موضوع بعينه… ولأي فترة من فترات حياة طه عبد الرحمن ينتمي حتى يعرف أين يضع قدمه، أثم كتب تسبق هذا الكتاب أم لا؟ إذ قراءة كتاب مثل “المفاهيم الأخلاقية” قد لا يفيد كثيراً من لم يقرأ الكتب التي قدمها طه عبد الرحمن لتبيين فلسفته الائتمانية. كذا قراءة كتاب مثل “فقه الفلسفة: القول الفلسفي” قد لا يفيد كثيرًا من لم يقرأ ما تقدّم من كتب.

نصائح خلاصة تجربتي مع كتب طه عبد الرحمن لمن أراد قراءة الأعمال الكاملة له:

  • لا بدّ من امتلاك القدرة الآلية والمعرفية التي تمكّنك من قراءة وتلخيص كتبه، ومتابعة الخطط الأنسب لك والمنشورة على الصفحة الخاصة بتقديم أعماله على تويتر.
  • الأنفع أن تقرأ الكتب وتلخصها وفق خط زمني، تبدأ من البحوث الأولى حتى تصل لآخر ما كتب -متّع الله به-، لأن بعض الفجوات في بعض كتبه لا يسدها إلا معرفة ما كتب سابقًا.
  • ضاعف التركيز على مقدمة كل كتاب، خصوصًا الكتب المركزية في بداية كتاباته.
  • ركز على البنية العامة المتكررة في كتبه، وهذه تحتاج منك لقوّة حدس للآليات والمفاهيم المضمرة التي قد تشربها طه عبد الرحمن ولم يجد حاجة للتصريح بها، أو قد لا يعي أنه يستعملها باستمرار.
  • تنبه لتغيرات في بعض المفاهيم، وبعض المسميات، وبعض الآليات، وهذه تفتح لك باب معرفة أسرار تولد المفاهيم الجديدة عنده، كذا الحجاج لمشروعية بعض المساهمات التي قدّمها، والتفريعات التي استخرجها بعد تمكّن بعض المفاهيم والنظرات، وبعض المفاهيم والآليات التي استغنى عنها لوجود ما فاقها إجرائية، كذا دقة النقد الذي تطور معه بشكل ملحوظ.
  • ستجد من الصعب وضع مفهوم عام لقضية ما عند طه عبد الرحمن دون حفظ سياق الكتاب الذي انتقد من خلاله بحسب المجالات، أو الخطابات، أو الواقع، أو الواجب، نحو مفهوم “الأخلاق” أو مفهوم “الإنسان”… إلخ؛ فهذه غالبًا محكومة بالسياقات وإن ظنّ الظان أنها ثابتة في كل مؤلفات طه عبد الرحمن.

في خاتمة المقال: الإلقاء الثاني فرع عن الانتقاء المصاحب للإلقاء، وتجربتي تجربة انتقاء مضمر وإن لم يتضح لي ما ألقيته وأبقيت ما انتقيته، ثم قدّمته، وفق معطيات شخصيتي وتجربتي، قد تختلف لدى شخص آخر فيلقي للسائل بحسب تحيزاته وانتقاءته، وبمجموع التجارب تتكثف الخبرة وتضاء زوايا أكثر.

شارك الصفحة

التعليقات

    February 23, 2022

    الله يعطيكي العافية

    4
    0
    February 24, 2022

    جزاك الله خيرًا على هذا القال المفيد♥️

    3
    0
    August 15, 2023

    شكرا لك عين الصواب فيما ذكرى

    0
    0

المزيد من المقالات

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن Read More »

قصة الورق: ماهو أهم من المطبعة والبارود والبوصلة

صناعة الورق-06
Picture of حسّان بن إبراهيم الغامدي
حسّان بن إبراهيم الغامدي

باحث في الثقافة الإسلامية

يرصد المؤرخون تحولات البشر من خلال أحداث كبرى، تصبح الحياة بعدها مختلفة عما قبلها، سواء كانت هذه الأحداث سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو غير ذلك. في القرن السابع عشر للميلاد، كان فرنسيس بيكون (ت: 1626م)، الفيلسوف الإنجليزي المعروف، قد حدد ثلاثة ابتكارات غيرت حياة البشرية، وهي الطباعة والبارود والبوصلة، إذ يقول بأنهاغيرت كل الأشياء في كل أنحاء العالم، ولعلك قد وقفت على مثل هذه الاقتباسات التي تعظّم من أثر المطبعة في حياة أوروبا تحديدًا، وأثر غيابها في تأخر العرب والمسلمين، لكن الباحث الأمريكي جوناثان بلوم، قد جادل في كتابهالورق قبل الطباعة: تاريخ الورق وتأثيره في العالم الإسلاميبأن الورق كان الاختراع الأكبر في تاريخ البشرية، موافقًا في ذلك المستشرق النمساوي ألفريد فون كريمر حين قال بأن ازدهار النشاط الفكري الذي أتاحه الورق قدافتتح عهدًا جديدًا للحضارة الإنسانية“.

صدر كتاب بلوم مترجمًا إلى العربية في هذا العام 2021م عن دار أدب للنشر والتوزيع بالشراكة مع مركز إثراء التابع لأرامكو، وقد ترجمه أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور أحمد العدوي، ونشر بعنوانقصة الورق: تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعةفي أكثر من 400 صفحة. يرصد الكتاب رحلة الورقة من لحظة اختراعها في الصين، حتى وصولها إلى أوروبا، بعد أن تقضي حقبًا طويلةً في العالم الإسلامي الذي عمل على تطوير تقنيات تصنيعها، وتعميم استخدامها، مؤثرةً في واقع المعرفة داخل الحضارة الإسلامية.

يتوزع محتوى الكتاب على سبعة فصول، وفصل أخير يعرض فيه المؤلف قائمة الكتب التي يُحيل إليها في متن الكتاب، إذ خلت هوامشه الإحالات والملاحظات، وهي تضحية مؤثرة وغريبة، لصالح تعليقات عرضية في جوانب الصفحات، تضمنت التوضيحات الفنية الإثرائية التي قد تعرقل استرسال القارئ، ومثّل هذا الأمر تحديًا لمترجم الكتاب، الذي واجه عشرات الاقتباسات والإحالات من غير هوامش تحدد الكتب والصفحات، باذلًا جهدًا كبيرًا لنقل الاقتباسات كما هي في أصلها العربي، فضلًا عن ترجمته الرائعة للكتاب.

رهبانٌ وبيروقراطيون

عرف البشر حوامل مختلفة للكتابة، مثل الرق، والبردي المصري، وأشرطة الخيزران، والأقمشة الحريرية، وغيرها، ولكن التحديات التي واجهت الكتابة عليها لم تسمح لها بالتطور، والتأثير في حياة البشر، فقد كان التزوير على بعض هذه الحوامل سهلًا للغاية، والبعض الآخر كان يتعرض للتلف سريعًا، غير الكلفة العالية التي كان يتطلبها تجهيز المادة الخام للكتابة، فعلى سبيل المثال، كانت النسخة الواحدة من الكتاب المقدس تتطلب ذبح بضع مئات من الماشية!

اُخترع الورق بالصين في القرن الثاني قبل الميلاد، وكان يستعمل في البداية للتغليف، إذ كان سطح الورق أول الأمر خشنًا للغاية ولا يسمح بالكتابة عليه، ثم تطورت صناعة الورق شيئًا فشيئًا حتى أمست الورقة الصينية ملائمة للكتابة عليها بعد قرن تقريبًا، ليتوسع استعمالها في الكتابة والرسم والطباعة بالقوالب الخشبية، بل واستعملت مناديل للمراحيض، فينقل المؤلف عن رحّالة عربي في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي قوله عن الصينين الذين زارهم في رحلته المسمّاةعجائب الدنيا وقياس البلدان:

وليس لهم [يعني أهل الصين] نظافةٌ، ولا يستنجون بالماء إذا أحدثوا، بل يمسحون ذلك بالقراطيس الصينية“.

لعبت الصين دورًا أساسيًا في نشر الديانة البوذية، وساهم المبشرون البوذيون بدورهم في نقل صناعة الورق إلى مختلف أرجاء آسيا، وقد تعرف المسلمون أول الأمر على الورق في أنحاء آسيا الوسطى، وهي المنقطة التي وصل إليها الورق بعد خمسة قرون من اكتشافه في الصين، بينما نقل المسلمون الورق إلى شواطئ الأندلس بعد نحو قرنين، وهو ما يلفت الانتباه إلى الاستجابة السريعة التي تعاملت بها الحضارة الإسلامية مع هذا الاكتشاف المهم، خاصةً إذا قارنّا ذلك بحال الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، وعدم معرفتهما بالورق قبل الإسلام، على الرغم من مجاورتهما لطريق الحرير الذي كان الرهبان البوذيون يرتحلون عبره، مبشرين بالبوذية والورق في آن معًا.

جوناثان بلوم

يفند بلوم الرواية التاريخية التي تقول بأن المسلمين تعرفوا على الورق من خلال مجموعة من الأسرى الصينيين في معركة طلاس، ويؤكد على النشأة البيروقراطية لاستعمال الورق في البلاط العباسي، حين أسس هارون الرشيد أول مصنع للورق في بغداد عام 178هـ/795م، لتوفير حاجة دواوين الدولة من الورق، الذي حلّ محلّ أوراق البردي والرقّ، أما عن لحظة الاستبدال هذه، فينقل جوناثان بلوم اقتباسًا مهمًا من مقدمة ابن خلدون حين يقول:

“[فأشار الفضل بن يحيى] بصناعة الكاغد وصُنعه، وكتبَ فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناسمن بعدهصُحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت“.

من هو الفضل بن يحيى؟ كان الفضل بن يحيى البرمكي وزيرًا لهارون الرشيد وأخًا له من الرضاعة، وهو ينحدر من سلالة عملت في البلاط العبّاسي، حين أسلم رئيسها خالد بن برمك، والتحق بالخليفة أبي العباس السفاح، متوليًا النظر في ديوان الجيش والخراج، ومؤسسًا لواحدةٍ من أهم الأسر التي ساندت العباسيين قبل نكبتهم الشهيرة. أما برمك، الذي تُنسب له العائلة، فكان كبير كهنة معبدٍ بوذيّ في مدينة بلخ، شمال أفغانستان اليوم، وهو ما يعني أن الفضل بن يحيى البرمكي قد عرف فضل الورق على سائر حوامل الكتابة من خلال خبرة أسلافه، وساهمت المسؤوليات الإدارية والسياسية التي أُنيطت بكاهل الأسرة في تقديرهم للورق، الذي كان أقل ثمنًا وأكثر مرونةً من ورق البردي والرق، فضلًا عن صعوبة محو ما يُكتب عليه دون ترك أثر يسهل اكتشافه، وهو ما قلل عمليات التزوير.

يرصد الكتاب الرحلة المثيرة التي انتقلت فيها صناعة الورق بين حواضر العالم الإسلامي، ابتداءً من فارس وآسيا الوسطى، وحتى المغرب والأندلس، مرورًا بالعراق والشام ومصر، وما أدخلته كل واحدة من هذه الحواضر من التقنيات والتطويرات على صناعة الورق، سواء في المواد الخام، أو حجم الورقة، أو شكل الأسطح وملمسها، واضعًا على جنبات الصفحات نماذج لمخطوطات مبكرة ومتأخرة لكل إقليم، في صور بالغة الجودة والجمال.

الورقة والخط والمداد

واصل صُنّاع الورق تطويراتهم على سطح الورق، حتى أنتجوا آخر الأمر الورقة البيضاء الأكثر نعومةً والأعلى جودةً على الإطلاق، وهي التي سمحت للخطّاطين إظهار قدراتهم الفنية بكتابة مصاحف في خطوط دقيقة ورقيقة، وكان ذلك بالتزامن مع تطوير الكتابة باللغة العربية، وابتكار أحبار تتناسب مع الورق الجديد.

يكشف بلوم عن الأزمة الأساسية التي كانت وراء تطوير الخط العربي، فالإملاء العربي سابقًا يعاني من مشكلات كثيرة، كانت الحروف غير منقطة، ولم يتفق الكتبة على طريقة محددة في رسم الحروف في أماكنها المختلفة بالكلمة، فضلًا عن علامات الترقيم التي لم تدخل إلى اللغة العربية إلا في العصر الحديث. ولذا كان الحفظ هو الأساس في قراءة الكتب، فعندما يقرأ شخص كتابًا في خط غير واضح المعالم، فهو يستند إلى حفظه الذي يساعده في قراءة الكلمات. فعلى سبيل المثال أعلنت جامعة برمنجهام عن شذرات من مصحف تزعم أنه كُتب في حياة النبي أو بعد وفاته تقريبًا، ولو حاولت قراءة المخطوط من غير استناد إلى حفظك ففي غالب الظن لن تقدر على ذلك.

الكتاب في نسخته الأصلية

يتتبع الكتاب حكاية الخط العربي، من كتّاب المصاحف في المدينة النبوية زمن الأمويين، إلى ياقوت المستعصمي وتلاميذه، مرورًا بخط الورّاقين، وأعمال ابن مقلة عليه، وتلميذ تلاميذه ابن البوّاب، ولعل أهم الخطوط التي يتتبعها هو خط الوراقين، الذي ساد زمنًا طويلًا في دكاكين الوراقة، ومثّل الذروة التي وصل إليها النسّاخون القلقون من معاناة قراء الكتب، فبخلاف المصحف، لا يستطيع القارئ أن يعتمد على حفظه لقراءة كتاب في الفقه على سبيل المثال. سيتطور هذا الخط لاحقًا ليصبح هو خط النسخ الذي نعتمد عليه اليوم، والذي تقرأ هذا المقال من خلاله، ولسهولة الكتابة والقراءة بهذا الخط، استخدمه النصارى في كتابة الأناجيل.

استخدم الكُتّاب أول الأمر مادةً للكتابة على ورق البردي عُرفت باسمالمداد، وكان المداد هذا غير مناسب للكتابة على الرق، فاستعملوا للكتابة عليه مادة أُخرى عُرفت باسمالحبر، لكن هذه المادة كانت غير مناسبة للكتابة على الورق، الذي كان يتآكل بسببها، ولذا أصبح المداد الكربوني هو المعتمد في النهاية للكتابة على الورق.

قاد هذا التطور الثلاثي في الورق والخطوط والأحبار ثورةً مخطوطيةً هائلةً في الحضارة الإسلامية، إذ أمدّها بإمكانيات فريدة استثمرتها في إنتاج معارف وفنون متوعة، وسيكشف الكتاب أن هذا التطور الثلاثي يُمثل البنية التحتية التي قام عليها التطور في الرياضيات وابتكار الأرقام، وكذلك في الجغرافيا ورسم الخرائط، وعلم الأنساب ومشجراته، بل وفي التخطيط العسكري والعمراني، وفي الأخير بالذات يحكي الكتاب قصة الانفصال بين المصمم والبنّاء، والذي حدث لأول مرة داخل الحضارة الإسلامية، تحت تأثير الاختراع العظيم: الورق.

ولأن جوناثان بلوم مؤرخ في الفن بالذات، فقد خصص فصلًا لأثر الورق في الفنون الإسلامية، يُبيّن فيه كيف أتاح الورق مساحة واسع للفنانين المسلمين، الذين وضعوا بصماتهم داخل الكتب الأدبية، واستغلوا إمكانات الورق لتزيين المساجد والقصور والأضرحة والعملات والمنسوجات والأواني الخزفية وغيرها بالرسومات والعبارات المكتوبة بخطوط بالغة الجمال. أتاحت الخلفية العلمية لبلوم رصد هذه التطورات التي وفّرها الورق، ولكنه تكلم بشكل طفيف عن أثر الورق في العلوم الشرعية وتطورها، ولم يتتبع مخطوطاتها والظواهر الفنية بها، وهي ثغرة كبيرة في الكتاب، حتى أنني قرأت مراجعةً للكتاب في النيويورك تايمز لكبير النقّاد الفنيين بها، يستنتج من الكتاب أن الدور الأبرز للورق كان علمانيًا! وهذا يخالف واقع المخطوطات التي كان غالبها يدور في فلك العلوم الشرعية، والعلوم التي تخدمها.

الورق في المطبعة

اضمحلت صناعة الورق في العالم الإسلامي تحت ضربات تيمورلنك، الذي قضى عليها تمامًا في العراق والشام، وأخذ معه نخب الحرفيين إلى عاصمته سمرقند. بينما عصفت الأزمات الاقتصادية في مصر تحت حكم المماليك بصناعة الورق، وجعلت العرب والمسلمين مجرد مستوردين ومستهلكين للورق الأوروبي، وواجهوا معه مشكلات شرعية، فقد كان التجار الأوروبيون يضعون علامة مائية على الورق تُمثّل علامة جودة، وكانت هذه العلامات في أكثر الأحيان على شكل صليب.

تعرف الأوروبيون على صناعة الورق من خلال المسلمين في الشام والأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة، الحادي عشر والثاني عشر للميلاد، وهو ما مهّد الطريق لاختراع المطبعة ذات الحروف المتحركة بعد خمسة قرون من استعمال الأوروبيين للورق، وما كان للمطبعة أهمية كبيرة من غيره، فقد كانت طباعة نسخة واحدة من كاتب على الرق، ستساوي قيمة نسخ كتاب واحد على الورق، فضلًا عن كُلفة إعداد الرق من جلود الماشية، ولذا يُصرّ بلوم أن المطبعة بوصفها واحدة من أهم محركات التغير الاجتماعي والسياسي بأوروبا، ما كانت لتكون لها أهمية تُذكر لولا الرحلة التي عبرتها الورقة من غرب الصين إلى الأندلس، والتي كان أبطالها المسلمون.

وتتكرر تفسيرات بعض الباحثين حول سبب رفض العالم الإسلامي للمطبعة، ويعيدونها في الأساس إلى فتوى شيخ الإسلام العثماني المحرّمة لها، ثم يبنون على ذلك نظريات حول موقف الإسلام من العلم والمعرفة والابتكارات. يُقلل جوناثان بلوم من أثر غياب المطبعة على انتشار المعرفة في العالم الإسلامي، الذي عوض غيابها من خلال آلية الإملاء والاستملاء، وكفلت هذه الطريقة بإصدار عشرات بل مئات النسخ للكتاب الواحد، ثم يحدد المؤلف السياق الاجتماعي الذي ظهرت فيه المطبعة بأوروبا التي كانت تعيش نزعةً تقنية، بينما لم تظهر في العالم الإسلامي مثل هذه النزعة، وكان يعيش في حواضره آلاف النسّاخ الذين اعتاشوا من نسخ الكتب والمصاحف، وكان اختراع المطبعة يهدد حياتهم بصورة كبيرة، فضلًا عن المخاوف العلمية من تحريف الكتب، وهي ذات أثر بالغ ومتفهم من رفض المطبعة.

سُرعان ما تلمس الأوروبيون المنفعة من طباعة الكتب العربية، وهنا يكشف لنا الكتاب عن قصة دخول الحروف العربية إلى المطبعة في أوروبا، وابتكار خطوط مناسبة لها، ثم طباعة الأناجيل والمصاحف والكتب، قبل أن يعود العالم الإسلامي لتصحيح موقفه من المطبعة، بعد أن خفّت الاعتراضات على طباعة الكتب باللغة العربية  إبّان ابتكار الطباعة الحجرية.

شارك الصفحة

التعليقات

    December 16, 2021

    جزاكم الله خيرا ونفع بكم

    1
    0
    December 16, 2021

    ننتظر جديد أ. حسان

    2
    0
    February 21, 2022
    1
    0
    March 12, 2022

    جزاكم الله خيرا

    1
    0
    March 17, 2022

    مراجعة مثيرة عن جزء مبخوس حقه من تاريخ تطور النشر في العالم. شكرًا جزيلًا

    0
    0
    June 19, 2022

    مراجعة نافعة ، ننتظر المزيد.

    0
    0
    February 17, 2023

    جزاكم الله خير

    0
    0

المزيد من مُراجعــات الكُتب

قصة الورق: ماهو أهم من المطبعة والبارود والبوصلة Read More »

الطبري .. حياته وآثاره

الطبري-10
Picture of عمرو شرقاوي
عمرو شرقاوي

باحث في التفسير

«الطبري .. حياته وآثاره»، من تأليف: فرانز روزنثال، نقله إلى العربية، د. أحمد العدوي.

نُشِرَ الكتاب عن مركز تراث للبحوث والدراسات بمصر، وصدرت طبعته الأولى في ذي القعدة 1442 هـ/يونيو/حزيران 2021م، ويقع في (287 صفحة).

والكتاب عبارة عن مقدِّمة للترجمة الإنجيليزية لـ«تاريخ الطبري»، كتبها (فرانز روزنثال)، وضمَّنها سيرة مفصَّلة لحياة أبي جعفر الطبري (ت: 310)، وتضمنت سردًا لمصنفاته، ما وصلنا منها، وما لم يصلنا.

و(فرانز رونثال) أحد روَّاد الاستشراق الأمريكي، وينتمي إلى عائلة يهودية الأصل في (برلين)، وتتلمذ على نفرٍ من كبار المستشرقين الألمان، وهو مستشرق غزير الإنتاج، ومن أهمِّ أعماله ترجمته لـ «مقدمة ابن خلدون»، وتحقيقه لكتاب السخاوي (ت: 902) «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ»، وكتابه: «علم التأريخ عند المسلمين»، وغيرها، وتوفي (روزنثال) عام (2003م).

فرانز رزنثال

قسَّم (رونثال) مقدِّمته أو كتابه الذي ترجمه د. أحمد العدوي إلى خمسة أقسام:

القسم الأول: ملاحظات عامة على المصادر.

وتعرض فيه للمصادر التي ترجمت للطبري (ت: 310)، وذكر فيه بعض الكتب المفقودة في الترجمة لأبي جعفر (ت: 310)، ونبَّه على بعض الملاحظات النقديَّة المتعلقة بالمصادر، وقد اعتمد في ترجمته على مصادر أصلية، وهي:

1- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (ت: 463).

2- تاريخ دمشق، لابن عساكر (ت: 571).

3- معجم الأدباء، لياقوت الحموي (ت: 626).

4- سير أعلام النبلاء، للذهبي (ت: 748).

واعتمد على كثير من المصادر الأخرى غير الرئيسة جمع منها عدة أخبار من أخبار أبي جعفر (ت: 310)، وألَّف بينها.

القسم الثاني: الطبري؛ صباه وشبابه.

استعرض فيه حياة الطبري (ت: 310)، المولود في (آمل) بإقليم (طبرستان)، والتي ظل الطبري على صلات حسنة بأهلها حتى بعد استقراره في بغداد، كما تعرض لنشأته، وحاول أن يستنبط شيئًا عن عائلة الطبري، وبخاصة والده، الذي كان ينفق على ولده محمد بن جرير طيلة حياته، وذكر البلاد التي رحل إليها طلبًا للعلم، وأبرز أصحابه في رحلته، وشيوخه، ومن لقيه من علماء الأمصار التي رحل إليها، وأشهر ما تعرض له من محن، كما عرض لقضية اتهامه بالتشيع.

ومن الملاحظات الجيدة التي قدَّمها (روزنثال) أهمية الانتباه إلى «الجوانب الشخصيَّة في حياة العلماء»، وأنَّ كثيرًا من المصادر تميلعادةإلى تجاهل ذلك.

القسم الثالث: نصف قرن من النشاط العلمي في بغداد.

وقسَّمه إلى قسمين:

الأول: الطبري الإنسان.

وتعرض فيه إلى جوانب من حياة أبي جعفر (ت: 310)، وطريقته في يومه، وملبسه، ومأكله، وتعامله مع أصحابه، والناس خاصَّة كانوا أو عامَّة، وذكر فيه أشياء طريفة أكثرها مأخوذ من أوسع ترجمة عربية للإمام الطبري (ت: 310)، وهي التي أودعها ياقوت الحموي (ت: 626) كتابه «معجم الأدباء».

وقد أظهر المؤلف في هذا القسم جانبًا مهمًّا من حياة أبي جعفر (ت: 310)، وبيان ما كان عليه من توازن، وحسن عشرة لأصحابه، وجلسائه، وتلامذته، والناس.

وقد أثار المؤلف قضية زواج الإمام الطبري (ت: 310)، وتكلم فيها بكلام طريف، يمكن للمتأمِّل أن يقف عنده، وتعرض لموقف الإمام من الوظائف الرسمية، والبعد عنها، مما يعرف القارئ ما كان يمتلكه الطبري من نفس شريفة.

ومن الأمور الطريفة التي أظهرها (روزنثال) ما كان عليه الطبري من مظهر حسن، واهتمام بصحته، وتجنبه لبعض المأكولات، وإقباله على البعض الآخر، وطرافة ذلك التي كانت تظهر منه رحمه الله.

الثاني: الطبري العالم.

كان الطبري (ت: 310) ذا همة عالية في سائر العلوم، وكان من أهل التبحر فيها، وقد ظهر ذلك في العلوم التي كتب فيها، ويكفي: تفسيره، وتاريخه، وما كتبه في الفقه والحديث.

وتعرض (روزنثال) لخصومته مع الظاهرية، ومحنته مع الحنابلة، وما كان عليه الطبري (ت: 310) من توسط واعتدال في هذه المواقف، وذكر شواهد ذلك من خلال مناظراته لبعض العلماء، وتحدث عن انتشار مذهبه (الجريري)، حتى انتهى إلى وفاته رحمه الله ورضي عنه.

وأظهر (روزنثال) جانبًا مهمًّا من الجوانب التي برع فيها الطبري (ت: 310)، وهو الجانب الطبي، وقد كان كتاب (فردوس الحكمة) لعلي بن ربن الطبري (ت: 236) من مصادر الطبري (ت: 310) الطبية، ولا يزال الكتاب من أهم المصادر الطبية القديمة!

القسم الرابع: مصنفات الطبري (ت: 310).

توسع (روزنتال) في هذا القسم فذكر المطبوع والمفقود من تراث أبي جعفر (ت: 310)، وحاول ترتيبها، وأجاد في هذا القسم بما يفتح مجالًا للبحث ممن جاء بعده.

وقد أشار في ثنايا ما ذكره عدة عبارات للإمام الطبري (ت: 310) من كتبه النفيسة التي لم يُعثَر عليها بعدُ، ومن ذلك قوله:

إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوُّه الموكل به عن دعائه إلى سبيله، والقعود له رصدًا بطرق ربِّه المستقيمة، صادًّا له عنها، كما قال لربه، عز ذكره، إذ جعله من المنظرين: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(١٧) [الأعراف: 16-17] طمعًا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال لربه: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) [الإسراء: 62]، فحقٌ على كل ذي حجى أن يُجهد نفسه في تكذيب ظنِّه، وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه، ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه، وعصيانه أمره، ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه، واتباعه أمره” [نقله الذهبي (ت: 748) في سير أعلام النبلاء: (14/ 278)].

القسم الخامس: تاريخ الطبري.

تكلم فيه عن نشأة مشروع ترجمة تاريخ الطبري، وما قابله من صعوبات إلى غير ذلك.

وذيل (رزنتال) مقدمته بملحقين:

الأول: جزء من تفسير الطبري (ت: 310) لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(٧٩) [الإسراء: 79]، وهي الآية التي تسببت بنشوب الخلاف بينه وبين الحنابلة، وجزء من تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، وكانت أحد أسباب اتهامه بالتشيع!

الثاني: تضمن تصنيف الإنتاج الأدبي للطبري، وترتيبه زمنيًّا.

وقد أدَّى مترجم الكتاب د. أحمد العدوي خدمة عظيمة للكتاب تمثلت في أمور:

الأول: ردُّ النصوص إلى أصولها العربية من نفس المصادر التي اعتمدها (روزنثال).

الثاني: التعليق على النص توضيحًا، واستدراكًا.

وبالجملة: فإن الكتاب قد جُمع فيه ما تفرق في غيره، ويمكن أن يكون قاعدة انطلاق لكثير من المناقشات حول حياة الإمام أبي جعفر الطبري (ت: 310)، وتراثه.

وفي الكتاب من التحليلات ما يمكن أن يناقش فيه المؤلف، وقد أحسن مترجم الكتاب في مواضع كثيرة من تعليقه على أوهام (روزنثال).

ويمكن أن نشير في خاتمة هذا العرض إلى بعض المصادر المهمة التي يمكن الرجوع إليها لمعرفة أبي جعفر وحياته، ومنها:

1- معجم الأدباء، لياقوت (ت: 626): (6/ 2441).

2- أصول الدين عند الإمام الطبري، د. طه محمد رمضان، ط. دار الكيان.

3- الاستدلال في التفسير، دراسة في منهج ابن جرير الطبري، د. نايف الزهراني، ط. مركز تفسير.

وأختم تعريف الكتاب بقول الإمام ابن العربي المالكي الأندلسي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(٥) [المزمل: 5]، ستة أقوال، والسادس منها قوله:

ثقله: أنَّه لا يبوء بعبئه إلا من أُيِّد بقوة سماوية، وكذلك هو، ما أعلم من حصَّله بعد الصحابة والتابعين إلَّا محمد بن جرير الطبري، [سراج المريدين: (2/ 431)].

شارك الصفحة

add page link here

التعليقات

    December 5, 2021

    يارب أول وحدة تعلق بالموقع مبارك يا آل نديم ..وحبذا يتم إدراج مراجعات عبدالله الوهيبي لبعض الكتب♥️..

    1
    1
      December 24, 2021

      ما شاء الله، شامل!

      0
      0
    February 21, 2022
    0
    0

المزيد من مُراجعــات الكُتب

الطبري .. حياته وآثاره Read More »

كيف أسسنا #مكتبة_بكل_مكان؟

كيف أسسنا مكتبة في كل مكان-04 (1)

يتقاطع المقهى مع القراءة بشكلٍ غريب، إذ يجتمع فيهما الاختلاء مع الذات أو الصديق، وشعور الصفاء والترويح عن النفس، والانزواء عن العالم، ليصبح الفرد فيهداخل المكتبة/المقهى، خارج العالم!”، كما هو عنوان كتاب المترجم الأستاذ راضي النماصي.

بداياتٌ متعثّرة

ذات يومٍ، وأثناء لقائي مع الصديقمحمد عبدالجبّاربأحد المقاهي، اتفقنا على تأسيس مبادرة تطوعية لنشر المكتبات المصغرة في المقاهي، بتكاليف تقترب من الرقم صفر!  وذلك عن طريق التواصل مع المؤلفين، وعرض الفكرة عليهم، ليتبرعوا للمشروع بنسخ من كتبهم، ثم ننسق لاحقًا مع المقاهي لتخصيص مساحة بسيطة من المقهى لعرض الكتب بها.

وجرى التنسيق على أن تعمل كافة الفرق التطوعية التابعة لفريق رفد في كافة مناطق المملكة لتحقيق نفس الهدف  تواصلتُ أولًا مع الأصدقاء في نادي القراءة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وبدأنا المشروع على نطاقٍ ضيّق، كنّا نزور المقاهي القريبة من منازلنا، نحصل على مواعيد مع أصحاب المقاهي، غالبًا ما رُفضت فكرتنا، ونادرًا ما تلقاها مُلّاك المقاهي بالقبول، كانوا يرفضون أحيانًا لصغر حجم المقهى، أو عدم وجود مساحة مخصصة للكتب، بالرغم من توفر مساحاتٍ كبيرة في أحايين كثيرة. كان بعض العاملين يُصارحوننا بصعوبة أخذ الموافقة من الإدارة، وأذكرُ أني في أحد المرّات انتظرتُ ساعتين حتى أتمكن من لقاء صاحب المقهى، والذي وافق مباشرةً بمجرد شرح الفكرة!

واجهتنا مشكلةٌ أخرى مع المؤلفين، إذ كان عدد منهم لا يرى أهميةً لوجود الكتب في المقاهي، والبعض الآخر كان يشترط أولًا انتشار الفكرة ونجاحها، بينما اعتذر آخرون لعدم وجود مظلة رسمية لمبادرتنا في ذلك الوقت. وبالمقابل فقد أخجلنا كرم عدد من المؤلفين، إذ سرعان ما راسلونا بالنسخ مشجعين ومثنين على المبادرة وفريقها، وهو ما دفعنا للمضي قدمًا رغم كل شيء.

التحليق عاليًا

نسقنا مع المجموعات التطوعية التابعة لمؤسسةرفد، وفرقها منتشرة في كافة مناطق المملكة، حملوا على أكتافهم المبادرة لأفكار لم نحلم بها، فقد توالت الأيام، وكبُرت الفكرة، وازداد عدد الفرق التطوعية في مختلف نواحي المملكة، جدّة، الرياض، المدينة المنورة، خميس مشيط .. كان الفريق ينمو شيئاً فشيئاً، وأصبح الكتّاب يتواصلون معنا للتبرع بكتبهم، والمقاهي تراسل الفريق على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لتدعوه إلى افتتاح مكتبات في فروعها، ولم أصدق نفسي وأنا أرى واحدًا من كبرى مقاهي الرياض يدعونا لافتتاح مكتبة في أكبر فروعه!

استمرّ البرنامج قرابة عام ونصف، افتتح الفريق في كافة أنحاء المملكة ما يزيد على 350 مكتبة في المقاهي، أصبح زوّار المقاهي يتصفحون عناوين الكتب في الوقت الذي ينتقون مشروبهم المفضل من قائمة الطلبات. هل نشعر بالفخر؟ بلا شك. هل كان العمل مرهقاً؟ والساعات التي شملت التخطيط والمتابعة وتفعيل حلقة الوصل بين المتبرعين بالكتب والمقاهي مرهقةً أيضًا؟ كانت بلا شك تحدياً حقيقياً، لشباب في بداية حياتهم المهنيّة وأعباء الوظيفة والأسرة تناوشهم. لكن الأمر حدث والحمد الله! بدأت الصحف تتواصل معنا لنشر أخبار وتغطيات لنا، واستضافت قناة فضائية شهيرة مؤسس الفريق ، كما دعمنا عدد من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي.

التطوّع النبيل

لا ينكشف لنا غير وجه واحد للنجاح في كثير من الأحيان، لكني عرفتُ معرفدأن له أكثر من شكلٍ ومظهر، فكلّ مرةٍ أزور أحد المقاهيصدفةًوأرى مشروعنا قد وصل إليه، وأتأمل المكتبة في جانب من جوانبه، ينتابني شعورٌ غامرٌ بالرضا، وتتعاظمُ السعادة عندما أرى شخصاً يقرأ أمامي ما كان نتاجاً لجهدنا التطوعي.

في التطوع قصصٌ لا تنتهي، وجوهرهُ نبيلٌ لا تقف عليه في غيره من المجالات، وكانت واحدةً من أهم التحديات التي توقعتها هي البحثُ عن متطوعين في كافة المدن، فما الذي يدفعُ إنساناً لبذل وقته، وجهده، وماله كي ينشر لتوزيع كتب في المقاهي المنتشرة بمدينته؟ وما الذي يجبره أن ينتظر ساعاتٍ للقاء مدير أو مالك المقهى؟ ثمّ لماذا يتقبل رسائل الرفض أو التجاهل من ملّاكها أو مدراءها بأسلوبٍ فجّ غير مقبول؟ أو من مؤلفي الكتب في بعض الأحيان؟ والحقيقة أن قلةً قليلةً قد صبرت معنا وكافحت لحين تحقيق هذا الهدف النبيل، وواجهت التحديات لحين الوصول إلى مستوىً مقبول من الإنجاز، ولا أزال أذكر شاباً كان يفتقرُ للمواصلات، وكان جلّ ما يستطيع فعله هو نشر الصور والتصاميم على وسائل التواصل الاجتماعي، نبيل!

الدروس والنهايات

وبالنسبة للمردود على الصعيد الشخصي، فقد تعرفت على شبابٍ متفانين بحق، باذلين لكلّ ما في وسعهم لإنجاز المطلوب دون كسلٍ أو ملل، وأقلّ ما أكسبتني إياه هذه التجربة الفريدة هي الخبرة، في التعامل مع مختلف فئات المجتمع سواءً لملاك المقاهي أو المتطوعين وإدارتهم، ومن أصعب ما واجهت هو التحفيز غير المادي، الأمر الذي يتطلب درايةً كبيرة في الذكاء العاطفي والاجتماعي، وما يتطلبه أعضاء الفريق لإتمام المهام، وأيضاً الجمعُ بين الوظيفة ومهام التطوع وباقي المهامّ الموكلة إليّ في الأسرة أو الحياة الشخصية، فقد باتت مهارة إدارة الوقت، وإدارة ضغوط الحياة من أهم المهارات في هذا العصر.

كانت النهاية لحظة أن قرر الفريق التوقف عن المشروع، وذلك لأن الغاية قد تحققت بالوصول إلى نسبة ممتازة من تغطية المقاهي في المدن الرئيسية للمملكة، الأمرُ الذي جعل الفريق يقرر إنهاء المبادرة والتركيز على مشاريع أخرى متنوعة، كإقامة المحاضرات الثقافية، واستضافة ضيوفٍ مؤثرين في مختلف مجالات المعرفة، خصوصاً مع تزامن أزمة كورونا مع تحول أغلب الأنشطة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، أو الاجتماعات الافتراضية عن بُعد، كما صار  التركيز على جانب تلخيص الكتب صوتياً، أو مجالالبودكاست، وأطلق الفريقبودكاست مكاتيب، والذي شرفتُ فيما بعد بتقديم برنامجٍ من عشر حلقات بعنوانرواحل“.

شارك الصفحة
https://nadiim.com/library-everywhere/

التعليقات

    December 6, 2021

    تجربة رائعة وتغطية مميزة 👌🏼

    3
    0
    December 15, 2021

    ربي يسعدكم على تفانيكم في هذا المشروع الجميل واتوق لان ارى هذه المكتبات المصغره وانعم بقراءة ممتعه في جو هاديء،ومريح 🤍

    2
    0
    December 18, 2021

    دائماً مبدع ياصديقي منذ أن عرفتك🌺هنيئًا لنا بك في دار نشر الوعي المعرفي بالمنطقة الغربية..
    محبك أيمن السهلي

    2
    0
    December 18, 2021

    بارك الله فيكم و شكر سعيكم و حمى الله بلدنا الثاني بلد الحرمين مهبط الوحي...محب نديم من الجزائر

    1
    0
    January 14, 2022

    بارك الله في جهدكم ..

    1
    0
    February 21, 2022
    0
    0
المزيد من المقالات

كيف أسسنا #مكتبة_بكل_مكان؟ Read More »

سبحات الذوق: قراءة تذوقية على ضوء كتاب تذوّق الشعر لـ أ.د. كمال لاشين.

لمَّا كان مطلع استحسان الحسن في هزَّة الطرب التي تسري في نفس المستقبِل عفوًا دون تكلُّفٍ واستنطاق؛ كان التذوُّق مفتاح باب الجمالفي النفس والكونومهمازُ حسن استيعابه واستثماره من بعد سريان الحياة فيهِ عبر وسيط اللغة. ولمَّا كانت القراءة لغةً هي الضمَّ والجمع وفك الرموز بخلق الوشائج فيما بينها حتَّى تُبين عن أسرارها؛ كان قدر الإبانة عن مقصود الكاتب بقدر اتساع الجمع بين رموزه ومعانيه؛ جمعًا يؤدِّيه لاستقرار المعاني في نفسه استقرارًا ينفذ منه إلى تصوراته وانفعالاته اللغوية والسلوكية والحسِّية، وإنما تحصل القدرة على الجمع بين المتشابهات على قدر تذوُّقها، ويكون تأثيرها على وسع فقهها؛ ولا يكون ذلك إلا بتكرار التعرُّض حتَّى تلين الأسباب وتتفتَّق الأفهام ويكون التذوّق مرتبة شمَّاء من مراتب الحسِّ والبصيرة والحذق = يدخل بها صاحبها إلى مسارب المعاني مما كان ظاهره الاستتار. يقول الدكتور الأستاذ محمد أبو موسى في كتابه خصائص التراكيب: “قدرتك على التذوُّق هي بداية الطريق في البلاغة، فإذا لم توجد هذه القدرة فليس هناك طريق ولا بلاغةويزيد: “حين ينظر ليتعرَّف على أسباب الحسن أو الاستهجان يكون قد بدأ العمل البلاغي، ويكون قد وضع قدمه على طريق علماء هذا العلم، وشغله حينئذ هو تفقُّد اللغة، والأحوال والصيغ والخصوصيات، والصور والرموز، وكل ما يتَّصل ببنية الشعر واللغة والأدب، ثم إنه لا يقع على هذا الذي وجب به الفضل إلا بمعونة الذوق، وهذا يعني أن هناك مرحلة سابقة للنظر البلاغيِّ يكون الدارس فيها قد هيأ نفسه وأشربها من بيان اللغة وجيِّد الكلام“.

ومثل هذا لا يختص بباب اللغة والأدب فحسب، بل يخلع معناه على ميادين المعارف والسلوكيات الإنسانية؛ فعلمك بالشيء يكون أبلغ متى أحسنت تقصِّي مظان حسنه، وهذا التقصي المستملح إنما يكون جبلَّة في أصل خلقة الإنسان الذي صوَّره خالقه في أحسن تقويم ابتداءً، وأودع فيه قصدَ الإحسان والاستحسان، وبثَّ فيه القدرة على نوال مراده، وهو على هذا قد أتاح له فسحة الاختيار فيما دون ذلك، فالمرء يسمو بحسن اختياره إن شاء حتَّى يبلغ عنان السماء، أو يهوي برداءة ذوقه سبعين خريفًا في مهاوي الفساد والازدراء، وقد عهدنا هذا المعنى الذائع في لغة العرب حين قالت: ”اختيار المرء وافد عقلهومثله: ”قيمة كل امرئٍ ما يحسنه، فحسن الانتخاب في أصله منقبة تُبين عن قدر صاحبها وعقله ووجدانه؛ ولعل الجاحظ ممَّن أوثق عُرى الاتصال بمحاسن المعاني ومُلح المباني، فكان إمام عصره في هذا الباب حتى قال فيه ابن العميد: ”كُتب الجاحظ تُعلِّم العقل أولًا، والأدب ثانيًا؛ وما أحوج الإنسان في رحلة عمره لمن تكون خلطته محراثًا لتهذيب حسّه، وجلاء فهمه، وحسن ذوقه، فبمثلهم يعلو ويأتلق في كلِّ حال.

التذوق تحت سماء المعجم اللغوي

أمَّا التذوُّق لغة: فمن ذاق الشيء، يذوقه ذوقًا، وذَوَاقًا، ومذاقًا: إذا اختبر طعمَه، والتمسَ معرفة مذاقه في الفم. والتذوُّقبناء على وزنالتفعُّلمن: ذاق يذوق ذوقًا؛ فهو يفيد معنى المبالغة من حيث أفاد تكرار الفعل المرة تلو المرة،وبالنظر إلى أصل اللفظ فإن الذوق أصله: ما أُدرك بوجهٍ من وجوه الحسِّ كما علمت، ودَلالة الحسِّ هي الأصل، وهي الأقوىكما يقول الدكتور كمال لاشين في كتابه تذوق الشعر. وقيل أن الذوق ليس حاسة مستقلة، فجعلوه من جملة حاسة اللمس، ثمَّ إنهم نقلوا الذوق والتذوق من باب المحسوسات إلى باب المعنويات على ما جرت عليه ألفاظ اللغة العربية نحو: ذاق السيف، وذاق الفرس: إذا اختبرهما، وقد ورد في شعر العرب مصداق ذلك؛ كشعر كعب بن سعد الغَنَوي لما أنشد: “وما ذاق طعم النوم غيرُ قليل، كما وردت ألفاظ الذوق والتذوق في محكم كتابه فجاءت في معنى العذاب: ﴿ليذوقوا العذاب﴾ [النساء: 56]، وجاءت في معنى الرحمة ﴿وليذيقكم من رحمته﴾ [الروم:46].

ولعلنا لو فصَّلنا القول في هذا الباب فأصل الذوقولا يخفى على شريف علمكمتعلِّقٌ بالطَّعوم، وعلى هذا فلا يبلغ سرَّ النكهة المنزوية إلا خبير، قد سبر مكنُون المكوِّنات بروحه، وجاوز حصر مجرَّد البلع إلى رحابة التلذًّذ بانسجام الأضداد وائتلاف المتباينات، ومثل هذه المنزلة إنما تكون مَلكة جبلِّية وفتح ربَّاني يناله وافر الحسِّ موفور المعاني في نفسهِ؛ فيستخرج ضياء المعنى العميق من أسداف ظاهرها، ويصطاد الفكرة الغرَّاء من خِباءها المبهم إلا عمَّن درك شعابها على قدر ارتياده لمظانها، وبذا يمايز بين جيِّدها ورديئها، وينتخب الدرَّ من بين الحلي انتخاب المدرك المتمرّس الحصيف لا الجاهل الغِر

ثلاثية الإحسان والإنسان والتذوّق

أمَا وقد بيَّنا معنى التذوُّق فيلزم ذلك أن نعرّج على أصل المفهوم في التكوين الإنساني لينطلق الإنسانُ من جوهره لأفلاك المعنى في حياته ومعارف دنياه، فيسلك سبيلًا إلى أسرار المعاني بحسن تذوُّقه، وهل يكون ذلك إلا باستحسان الحسن طبيعةً؟ فالمرء بفطرته مجبولٌ على حب المحاسن والأطايب؛ تدفعه نفسه دفعًا للطيِّب من القول والعمل، ومن هذا حسن التعبُّد، وحسن التفاعل الإنساني، وحسن الخلق، وحسن العلم، وحسن البيان. ويكفي الإنسان أن يطالع تاريخه حتَّى يتفطَّن لمبتدأ المحاسن في لغته وإرثه المعرفي، فالعرب إنما تجلَّت لغتهم وآثارهم وآدابهم عن طريق الاستدلال أيبدلالة الخبر الشاهد على الغائب من الأخبار، وهذا الاستدلال يقوم أوَّل ما يقوم على حسن التذوّقكما يشير الأستاذ الدكتور كمال عبد الباقي لاشين، ويزيد في موضعٍ آخر مُبينًا عن حسن تذوق العرب في جاهليتهم وحين حسن إسلامهم نظير مخالطتهم لفحول الشعراء والخطباء،ومن طريق ما كانوا يحسنونه من تذوُّق طبقات البيان عُرِض عليهم القرآن، ودُعُوا إلى الإيمان؛ لأن دعوتهم إلى الإسلام كانت تقتضي أن يوقنوا أن القرآن الذي يُتلى عليهموهو مُعجزة النبي إليهممباينٌ لجنس كلامهم، فائت له، وإن كان بلغتهم نزل.” وبتذوُّق بيان القرآن استيقنوا الإسلام على ما عهدوا من تذوُّق بيان فصحاء العرب وبلغائهم. أمَّا حسن التذوُّق بالمجمل فآية القلب السليم من أوضار الدنيا وآفات الزمان، وبرهان النفس العلية الشريفة، ودلالة على العقل القويم المستنير؛ فالإنسان النبيل إذن صنو الذوق الرفيع، يلازمه في كل حال، في سكناته وحركاته وفلتاته، تعرفهُ عبرها وتستدل بها عليه أينما حلَّت رحاله. يقول شيخ العربية محمود شاكر في فضل التذوق على حضارة الأمم: “كل حضارة بالغة تفقد دقة التذَّوُّق، تفقد معها أسباب بقائها، والتذّوُّق ليس قوامًا للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضًا قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله وتباين أنواعه وضروبه“. فالتذّوُّق إذن ملازم لنهضة الأمم، وهي ضرورة مُلحة لرفعتها باستعذاب كل حسن، وتطلب كل مليح على وسع طاقة أربابها. يزيد الناقد الفذ والأديب الجهبذ فيقول: “فحسن التذوق يعني سلامة العقل، والنفس والقلب من الآفات، فهو لب الحضارة وقوامها، لأنه أيضا قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارةوهذا يتعاضد مع ما قدَّمنا في هذا المعنى، وهو مؤكَّد على جدوى تهذيب الأذواق في أبواب الدنيا إذ بها تدبُّ الحياة في جسد الأمة؛ولن تتمكن الأمة من إعادة بناء نفسها، وبعث حضارتها الوليدة، والبناء عليها، إلَّا بالعودة إلى حسن التذوُّق. فلن يحصل آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها“. فليس بوسع المرء منَّا أن يتذوّق معرفة وبيان على الوجه المحمود التام في معزلٍ عن علومها وفكرها وحضارتها وسياقها الاجتماعي والثقافي ونحو ذلك.

محمود شاكر رحمه الله

الجمال بوصفه فرع التذوق

ما ينفك التلازم المنطقي بين معنى التذوُّق ومعنى الجمال، فالعلاقة بينهما تبادلية، يتذوّق المرء الجمال ليشعر به ويستشعر ذاته وكينونته، ويتموضع الجمال حتَّى يلقى متذوقًا بصيرًا يستنطق مكامن حسنه. وللجمال موقع محجوز في فضاءات الفلسفة، فكانط ممَّن عَدَّ الجمال من أسباب المتعة وهو لا يتجزأ عنده من العملية المعرفية؛ حيث أن الخيال والفهم يتشاركان على حدٍّ سواء في إنتاج المعرفة. وفي حالة الجمال تصبح الكليات المعرفية للخيال والفهم في حالة من اللعب الحر، وفي نوعٍ من التفاعل المتناغم. وقد أوجز شيخ البلاغيين محمد أبو موسى لما قال مقولته الذائعةأُعيذك بالله من أن تقرأ ما يُدهش ولا تندهشفحركة الأفكار في النفس والعقل إنما هي جوهر المعرفة وينبوع الفائدة مذ كانت العناصر المرئية والمقروءة والمكتوبة فاعلة في بعضها البعض، تتناغم وتنسجم بحسب قدرة الناظر والوارد في خلق الصلات فيما بينها، وعلى وسع طاقته في ردِّ ما حقَّه الرد منها وتنظيم ما شذَّ منها، وتفريع ما لزم، وهذه سمات المتذوِّق حقًا. وللدكتور أبو موسى إشارة بديعة هَهُنا يقول فيها: “العقل الذي يستحسن الحسن، ليس أقل مقدارًا من العقل الذي صنع الحسنوهذه مقاربة جليلة تفيد بعلو كعب الذائقة الحسنة التي حسن معها الاصطفاء كما حسن من الصانع صنعته فيما شاء. وقد ورد عن سهل بن هارون على لسان الجاحظ في البيان والتبيُّن قوله الخلَّاب: “العقلُ رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلموكلُّ عنصر كما تلحظ إنما هو عاملٌ فيما ينعقد به، وقد علَّق الدكتور كمال لاشين على هذا فقال: “البيان الإنساني حامل لكل ما يدل على الروح والعقل والعلم. ومعنى هذا أننا في تذوقنا للبيان في أي صورة كان، إنما نبحث في بيان الرجل عن مبلغ علمه، ونبحث في علمه عن مبلغ عقله، ونبحث في عقله عن روحهوهل التذوّق بعد هذا إلا قراءة في صفحات الدنيا سعيًا للبحث عن روح الإنسان التي هي جِماع مناقصه وفضائله؟ 

أداة التحصيل المعرفي والذوقي

لا يخفى على سليمِ ذوقٍ فضل البيان على سائر المزايا اللغوية والفكرية، فالمعنى المعتاد الباهت يغدو نضرًا إن حسن بيانه وكمل بنيانه بجودة الديباجة، وكم من معارف خارج الأطر الأدبية استمالت العقول والألباب بما ازدانت به من صنعة بيانية. يقول الدكتور أبو موسى: “عظمة البيان العالي أن يجعل ما لا قيمة له لا قيمة فوقه، وقد نقل محمد كرد علي عن بلونشلي الألماني ما تعريبه: “للآداب في أفكار الأفراد تأثير أعظم من تأثير العلم، إذ أن لجمال الشكل والصورة وقعًا كبيرًا في النفس أكثر من العلوم التي هي في الغالب قضايا غثّة باردة، وإن كتب شكسبير معروفة أكثر من كتب نيوتنوهذا واقعٌ ومشاهد في مختلف الثقافات والسياقات المعرفية، وإنما يدل على الطبيعة الفطرية التي تهفو للجمال تذوقًا وحسًا. والمرء منَّا يقوِّمُ ذوقه بكثرة مخالطة البيان العالي وأهله، ويهذِّب عقله بقدر ملازمته للنبهاء النوابغ في فنونهم وعقولهم، وقياسًا فمنادمة الكتاب الذي يعلو بحسِّك لا يقل أهميَّة عن الكتاب الذي يسمو بعقلك، بل ولعله يزيد عنه بدرجة لأن الحس اليقظ دليل حياة، والمرء إنما يحتاج لحياة حسِّه خارج دفتيِّ الكتب لتستقيم دنياه وأهلها، فإن وافق حسن البيان دقَّة الفهم وجلاء العقل فقد حيَّزت النعم وظفر النديم.

تذوق النصوص موسوم بفن المتذوق ومجال اهتمامه

لعل ممَّا يُحمد في المختص انسدال ظلال صنعته ومناط مهارته على سائر علومه وسلوكياته، وهذا مشاهد في أحوال متباينة، لكنها في الشعر أظهر، فتجد علماء اللغة والرواة ينتخبون من الشعر ما يلازم صنعتهم وما هو ممتد من جذع علومهم، يقول الدكتور لاشين: “النحويون اختاروا من الشعر ما فيه صنعة إعراب، وأهل الغريب والمعاني اختاروا منه ما فيه صنعة غريبٍ محوجٍ إلى تفسير، أو معنى خفي محتاجٌ إلى استخراج، وأهل الأخبار والأنساب اختاروا ما فيه الخبر والنسب والمثل والشاهدفلا ينفك متذوّق من مثل هذا بل وبه يحصل التفاضل، وكما قال ابن جني مرَّة في سياقٍ موافق: “من أتقن علمًا فقد أتقن علومًاوعلى نسقه: فمن تذوَّق معنى فقد ذاق معانٍ؛ تنكشف له بالزمان، إذ من سمت الجمال ألا ينكشف دفعة واحدة، ولا يلقاك بحسنه من أول مقابلة، إنما يبوح لك بأسراره على قدر ورودك وتكرار مطالعتك، فإن انكشف منه نزر فقد أذن لما بعده بالظهور. يقول الدكتور محمد أبو موسى في هذا المعنى: “ومن عمد إلى جليل فنظر فيه نظرًا قريبًا سطحيًا فقد صغّر ما حقِّه أن لا يصغّروعليه فالمعاني الشريفة إنما بلغت شأوها هذا على ما يلقاه الطالب من جهدٍ حتى يبلغها، وينال منها ثمرة صبره و عاقبة جهده؛ فتلذُّ عنده، ويمتد أثرها في نفسه وعقله وبيانه وسلوكه.

محمد أبو موسى

في ميادين حسن الانتخاب وحسن الاستشهاد

تقول العرباختيار المرء قطعة من عقلهويقول الجاحظ “… وبعد، فكم من بيت شعر سارَ، وأجود منه مقيم في بطون الدفاتر، لا تزيده الأيام إلا خمولًا، كما لا تزيد الذي دونه إلا شهرة ورفعةوالأمر أوسع من بيت شعر، ففي بطون الكتب من المعاني ما لم يحصه القرَّاء ويقيِّده النبهاء، وبالمقابل فلعل سطرًا من متن يكون قبلة ساعٍ نحو سفرٍ جليل، ولعل معنًى خالط عقل قارئ فطن دلَّ على منظومته الفكرية، وإنما الناس يتفاضلون بأذواقهم وحسن انتخاب معانيهم، واجتباء أوعية معارفهم، ومثل هذا يظهر بحسن إيراد الاستشهاد في جملة الكلام، فتعرف به القارئ النابه من المتلصِّص على المعارف تلصُّصًا يحمِّله أسفارًا تثقل كاهله فتتبدّى على ظاهر مبناه المتهالك وضامر عقله.

ما يحتاجه المتذوِّق

أما وقد اتضحت منزلة التذوُّق؛ فيحسن بالقارئ أن يستصحب معه في رحلته الجمالية فضل الاستعداد الفطري في التذوُّق؛ إذ أن الطبع أصل الاستحسان ومنطلقه، فإن لم توفَّق بذرة المعنى لأرضٍ خصبة تُحسن وفادتها وتعرف قدرها، فلن تثمر ثمرة يانعة تسرُّ الناظر وتبهج النائل؛ يقول ابن المقفع: ” وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم. والعقول سجيَّاتٌ وغرائز تقبَل الأدب، وبوسع القارئ أن يتلمَّس آثار الطبع على لغة الكاتب بآثاره البينة الجليَّة. ولعل من المفيد في هذا الموضع أن يعي المرء حقيقة أنَّ الطبع وإن كان سجيّة فلا يعارض أهمية الدُّربة والعناية بتجويد الأصل ومرانه، بل هذا ممَّا يسمو بالذائقة ويُربيها، فإنَّك متى جمدتَ هزلتْ قواها فيك وانفصمتْ عُراها.

وكما أن الاستعداد الفطري لازم، فإدراك أن المرء إنما يتقلَّب بين إقبال وإدبار لا يقل أهمية، وكذا التذوُّق الذي هو استجابة نفسية مردُّها للنفس اللجوج التي لا تسلِّم عقالها طوعًا على الدوام، بل شأنها التقليب، وإنما يكون ارتياضها على قدر مرانها وتفهم تباين الأذواق وفق تباين السياقات الوجدانية والفكرية. يقول المرزوقي في شرح ديوان الحماسة: “… ومعلومٌ أن طبع كل امرئإذا ملك زمام الاختياريجذبه إلى ما يستلذه ويهواه، ويصرفه عما ينفر منه ولا يرضاهبل نعتقد كثيرًا أن ما يستجيده زيدٌ، يجوز ألا يطابقه عليه عمروإذ كان ذلك موقوفًا على استحلاء المُستحلي، واجتواء المجتوِي.”

وممَّا لا يمكن إغفاله ، أن المتذوِّق الحق يعرف طبقة المتكلم ومنازل الكلام، فيفرِّق ما بين الطبقات والمنازل على قدرها، ويحسن الفصل بين الأنماط على منازل أهلها، فإن لم يقدر على ذلك ففي تذوقه نظر. وللباقلاني إشارة في هذا المعنى ذكرها في إعجاز القران؛ فيقول مبيِّنًا: “وبحسن التذوق يَعرف المتذوِّق درجة القائل من البيان، وطبقته بين المبينين من ذوق كلامه“.

ولعل الإنصافبعد كل هذايعدُّ من أجلِّ مقاصد التذوُّق، فلعلك تقرأ النص فتحسُّ منه بنغمةٍ تطربك لا تعرفُ لها تفسيرًا غير أنها وافقت ذوقك الجمالي، وقد يكون مناط التأثير لا يخرج عن إلفٍ واعتياد وهذا وجه من أوجه آفة العصبية التي قال عنها الجرجاني: “وما ملكت العصبية قلبًا، فتركت فيه للتثبُّت موضعًا، أو أبقت فيه للإنصاف نصيبًا، وما زُين عقل وقلب وبيان بزينة أعزُّ وأبهى من زينة الإنصاف والتثبُّت قبل تصدير الأحكام وترسيخ التصورات.

فصاحة البيان وعُجمة السلوك

وما دمنا في ذكر حلية الإنصاف، فكماله إنما يكون في موافقة القول للعمل، والنفس للَّفظ، فبهذا يتمايز الكلام وأهله، وبهذا يُفصل بين القارئ الألمعي وحامل لواء الاستعراض البارد الذي لا يفضي لبث الروح في المعاني والإنسان. يقول إبراهيم بن أدهم: “أعربنا في كلامنا فما نلحن حرفًا، ولحنّا في أعمالنا فما نُعرب حرفًاونعوذ بالله من أن نكون ممَّن يحسن التذوُّق ولا يحسن الإبانة عن تلك الهزَّة الطروب في سائر انفعالاته اللغوية، والسلوكية، وما يكون فوق اللغة الملفوظة والمحكية. زيَّنا الله وإياكم بحياة الحسِّ والوجدان، ورفعة العقل وحسن البيان.

شارك الصفحة
https://nadiim.com/sabahat-aldhawq-dalal-alamody/

التعليقات

    December 5, 2021

    يا للجمال! أتذكر في هذا السياق مقولة:
    "من ذاق عرف.. ومن عرف اغترف"
    فأغترف من هذا المقال أعذب المعاني، مضيفةً بذلك لقاموسي المزيد من الوصف لهذه المفردات: (تذوّق - إحسان - بيان)

    شكرًا لأن الحاسة البيانية رضت الليلة وحمدت ربنا الجميل على جمال ما أودع في الروح من معاني ودلال 3>

    17
    0
    December 6, 2021

    ما إروعها من من مقالة ....سلمت وسلمت أناملك التي تطربنا بهذا البيان الساحر ! المقلة غنية بالمعني الرائقة والعميقة وبحاجة الى إعادة قراءة لتصيد لآلأها الدفينة

    11
    0
      December 20, 2021

      جمال تذوقك للادب كجمال حبك للورد. وحسك للجمال منبعه فطره زُرعت بين جنبات روحك من قبل من انبتتك وربتك..

      خالتك وفاء..

      3
      0
    December 6, 2021

    إن مقالة كهذي ينبغي أن تُنقش بالذهب علي جدار أعيننا في كل مرة نحس فيها بهتان لوحة حياتنا.

    9
    0
    December 6, 2021

    بسم الله ما شاء الله💚
    اللهم آمين آمين لتلكم الدعوات ولك الأمثال
    راق لي آخر عنوان في المقالة جداً، نعوذ بالله من عجمة السلوك..
    أسألك الدعاء🌺
    أختك

    6
    1
    December 6, 2021

    ما شاء الله مقالة في شكل كتاب مصغّر يجب أن ُتقرأ بروية وامعان لتذوق جمال المرادفات في المعاني بل يحب أن تنشر في في الصحف والمجلات الأدبية المتخصصة في اللغة العربية والبلاغة.

    تخصص اللغويات التطبيقية يوفر للخريج فيض من الالهام في تدفق العبارات كفطرة مكتسبة تبعث في كتاباته روح الحياة للقارئ. للأسف هذا التخصص يظن البعض أنه مقتصر على اللغة الإنجليزية فقط بينما هو يشمل كافة اللغات الحية ويغطي مجالات عدة مثل الترجمة والأدب والأدب المقارن ويمثل باب مفتوح للخريج إلي فضاء القراءة والثقافة والاطلاع وعكس ما يكتسبه من ذلك للقراء الملهمين.

    احسنتي يا إبنتي في اختيار الكلمات وجمعها وتوضيبها وتركيبها وترتيبها لتخرج لنا هذة المقالة المتميزة.

    - والدك

    بارك الله بك اينما كنتي وحيثما حللتي.

    17
    1
    December 7, 2021

    قلّ أن نقرأ مقالةً ونجد أنفسنا قد طبقنا كل مافيها (عليها).. رحلة آسرة على اتساعها إلا أنها لم تخلو من حسن الاستشهاد وبديع الربط ..
    الحمد لله على نعمة الجمال، والحمد لله على نعمة البيان التي بها نتلمّس مواطنه ونسبر غور بواطنه.

    - فنافن

    5
    1
    December 17, 2021

    احسنت وبارك الله فيك

    3
    1
    February 21, 2022
    3
    0
    March 21, 2022

    ممتاز

    3
    0
المزيد من المقالات

سبحات الذوق: قراءة تذوقية على ضوء كتاب تذوّق الشعر لـ أ.د. كمال لاشين. Read More »