أنماط التعلق: مراجعة لكتاب التعلق بالآخر

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

من أفضل الكتب التي يمكن أن يقرأها المرء ليفهم نفسه والآخر، كتاب “التعلق بالآخر” للطبيب أمير ليفين والكاتبة راشيل هيلر، وقد تُرجم الكتاب للعربية بعنوان “متعلق: العلم الجديد لتعلق البالغين وكيف يستطيع مساعدتك في العثور على الحب والحفاظ عليه”.

يندرج ضمن كتب علم النفس وعلم الاجتماع، والتي ينهيها المرء فيجد تغيراً يصيبه واتساعاً في الأفق وحلولاً للكثير من المعضلات التي اعتادت أن تؤرقه.

قرأته بالإنجليزية، لذلك سأتحدث عن محتواه بترجمتي الخاصة للمصطلحات.

بُني الكتاب على مفهوم نظرية التعلق في علم النفس، والتي لحظت أن هناك ثلاثة أنماط شهيرة من التعلق لدى البشر، وهي التعلق القلق، والتعلق التجنبي، والتعلق الآمن.

فالتعلق القلق anxious هو الذي ينتج عن شخصية ينخفض لديها تقدير الذات، وترتفع عندها الانفعالات والتصرفات السريعة دون تمهل في التفكير، تتميز بالقفز إلى الاستنتاجات السريعة حتى دون وجود مبرر منطقي يدعم ذلك، وعادة ما يظل فيها المرء منشغلاً بالعلاقة، يفكر فيها مطولاً ويحلل أبسط التصرفات والأقوال والأفعال بطرق واسعة وتأويلات عديدة قد لا تحتملها بالضرورة، ما يعني أن صاحب التعلق القلق يظل منشغل الذهن بشريكه، سريعاً في التقاط مشاعره واختلاف نبرة صوته وطبيعة ما يصيبه، لذلك يعدون الأفضل في فهم الآخر وضيقه، إلا أنهم سرعان ما يعكسون ذلك على العلاقة ويستنتجون أن ضيق الآخر مرتبط بتقصيرهم بالضرورة، فعادة ما يعودون إلى أنفسهم باللوم والانتقاد والتساؤل، أو نجدهم يتخذون موقفاً دفاعياً سريعاً أمام شركائهم، لردِّ أي اتهام محتمل يوجه إليهم، دون فهم طبيعة المشاعر في المقام الأول وطبيعة الموقف وتأويله الأقرب إليه، فنسمعهم يرددون عبارات شبيهة بـ:

“فهمتُ الآن، إنه ينوي هجري بهذه التصرفات، لن أجد شريكاً جديراً آخر في حياتي، علمتُ أن هذه العلاقة أفضل من أن تدوم بيننا، لقد أفسدتُ كل شيء ولا سبيل للإصلاح، علمتُ أن الأمور ستسوء في النهاية، أعرف حظي جيداً، شريكي إنسان رائع فلماذا يود أن يكون بصحبة شريك مثلي؟ عليه أن يترجاني لأرضى عنه وإلا فلينسَ أمري، لا يمكن له أن يعاملني بهذه الطريقة، سأريه ما أنا فاعلٌ!”

لذلك فإن من عادة ذوي التعلق القلق أن يخلقوا المشاكل والجدال وأن يهددوا بانتهاء العلاقة وأن يمارسوا الحيل والألاعيب التي تستفز الطرف الآخر لجذب اهتمامه أو إثارة غضبه، لتلبية حاجة نفسية خفية في القرب والحميمية، كما نجدهم يتطرفون في تصرفاتهم وعادة يغادرون المكان أو يقطعون النقاش فوراً مع شركائهم إن لم يعجبهم ما يدور حوله.

 

أما التعلق التجنبي avoidant فيضم الأشخاص الذين يقدسون مساحاتهم الخاصة وتصورهم عن الاستقلالية والاعتماد على النفس، ورغم أن هذه المفاهيم لا تعني إهمال الشريك أو إهمال الحاجات العاطفية للمرء، إلا أننا نجد تصورهم عن العواطف مستخف بها، يعدونها نقاط ضعف لدى المرء ويجب عدم إظهارها أو الحديث عنها، لذلك فإن واجههم الشريك بحاجته في القرب أو الحديث عن مشاعره وأفكاره نجدهم يستخفون بذلك ويصفونه بالمتطلب، ويقنعون أنفسهم أنهم بعيدون كل البعد عن هذه الحاجات الإنسانية، وأنهم يترفعون عن هذا الضعف البشري، يتصورون قوتهم في البعد والمساحة الخاصة زماناً ومكاناً، فعادة ما يقضون أياماً من غير شركائهم أو يفضلون غرفاً مستقلة بهم، لعدم راحتهم في التعامل مع الجانب الإنساني العاطفي، كما أن نظرتهم إلى الآخرين مثالية للغاية، فإما المرء فاضلاً في نظرهم أو مذنباً بالكامل ولا يطاق، لذلك نجدهم يرددون عبارات شبيهة بـ:

“أشعر بالاختناق في هذه العلاقة، إنه يسعى إلى التحكم بي، إن شريكي متطلب للغاية وأنا بحاجة إلى الابتعاد لفترة من الزمن، أعلم أنني بعيد كل البعد عن الانخراط في أية علاقة حميمية، تصرفاتها تثبت تماماً أنها غير مناسبة لي! إن كانت تلك الشريكة المناسبة لي فهذا التصرف يثبت عكس ذلك تماماً! إنها تفعل ذلك لإغاظتي، هذا واضح جداً، سأكون أفضل بكثير لو بقيتُ وحدي، لو كنتُ مع شريكي السابق (أو فلاناً آخر) لكنتُ في حال أفضل”

ومن المتوقع دائماً أنهم يقللون من شأن شركائهم ويقارنونهم بالآخرين، ولديهم تصور مثالي عن “الشريك المناسب” والذي دائماً ما يكون مختلفاً عن شريكهم الحالي، فلديهم تصور مثالي عن الحياة غير موجود في الحقيقة، ولا يجدون أنفسهم مخطئين يوماً في ذلك، أو في سخرتيهم من عواطف الآخرين، إلا أن الكتاب يوضح أن هؤلاء إن تعرضوا لأزمات نفسية عميقة أو حوادث مؤسفة، كوفاة عزيزٍ أو أزمة نفسية شديدة أو حادثٍ صادم، فإن ما كبتوه طويلاً من الحاجات الإنسانية يظهر فوراً على السطح، فنجدهم يعترفون بحاجاتهم العاطفية ويقدرون حاجات شركائهم، فيلين جانبهم أكثر.

لذلك فإن من عادتهم أن يتصرفوا بتجنبٍ كبير، كأن يهربوا من النقاش إن تطلب ذلك انخراطهم في حوار صادق، وألا يشعروا بمسؤوليتهم عن مشاعر الآخر أو حاجاته أو أفكاره، فيعمدون إلى تجاهله والاستخفاف به، والتقليل من أوقات القرب منه أو الدعم العاطفي الضروري، وألا يشاركونه أفكارهم أو مخططاتهم القادمة أو ما يخصهم من أمور.

 

أما النوع الثالث فهو التعلق الآمن secure، وهو الذي يكون فيه المرء متزناً نفسياً، مدركاً لحاجاته العاطفية والنفسية، موضحاً للآخر ما يريده من العلاقة في كل مرة، ما يُحبه وما يرفضه وما يحتاج وقتاً لأن يفهمه، وعادة فإن ذوي التعلق الآمن يحتوون الآخرين، سواء كانوا من ذوي التعلق القلق أو التجنبي، فحتى عند بدء أي جدال يملكون المهارة في إعادة الأمور إلى نصابها عبر السؤال عن نية الآخر في هذا الجدال، أو طبيعة ما يضايقه لبدء الشجار، أو مقصده من الشكوى أو التذمر أو التعليقات المستمرة، وبمعنى آخر، فإنهم يفضلون إدراك مقصد الشريك بدلاً من أخذ كلماته الظاهرة فقط على محمل الجد، لذلك فإن من الصعب أن يخوض المرء معهم جدالاً حاداً لأنهم ماهرون في فهم الآخر واحتياجاته، فيعمدون إلى توضيح مواقفهم وإدراك موقف الآخر ضمن ما يسمى “بالتواصل الفعال”، وقد تحدث الكتاب عن هذا التواصل مسهباً، ليوضح أنه الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الناجحة، حتى بين مختلف أنواع التعلق.

لا ينشغل ذوو التعلق الآمن بشركائهم طوال الوقت، ولا يتجاهلون حاجاتهم العاطفية والنفسية، بل يعاملونهم كجزء هام من حياتهم، ويحترمون أفكارهم ويشاركونهم مخططاتهم القادمة، ولا يمارسون الألاعيب والحيل النفسية لاستفزاز الآخر، بل يعودون دائماً إلى المقاصد الأولى والحاجات النفسية التي تدفع المرء أحياناً إلى سوء التواصل، وعندما يضطرون إلى خوض جدال معين نجدهم يركزون فقط على المشكلة دون إصدار أي تعميمات أو استنتاجات سريعة أو اتهام للآخر، ذاك أنهم يشعرون بالمسؤولية عن راحة شركائهم ومسرتهم، ولأهمية هذا النوع من التعلق فإن الكاتب يوجه الكثير من الإرشادات العملية والنصائح للقارئ ليحقق هذا النمط من التعلق ويتمرن عليه.

وبعد مناقشة الكتاب للأنواع الثلاثة، يعمد إلى الحديث عن طبيعة العلاقات التي تربط بين أنواع التعلق، كالعلاقة بين ذوي التعلق التجنبي والقلق، وبين التعلق التجنبي والآمن، والتعلق القلق والآمن، مشيراً إلى أن أفضل خيار لدى المرء أن يكون مع ذوي التعلق الآمن، وليس ذلك فقط لأنهم سيحترمونه ويحتوونه، ولكن لأنهم سيغيرون فيه مع الوقت ويعلمونه الكثير عن أساليب الحياة الأكثر صحية، ويساعدونه على الخروج من قلقه أو سوء فهمه لحاجاته.

ويقدم الكتاب نصائح كثيرة لمختلف أنواع التعلق، سواء منهم من كان في علاقة أم لا، ويضع اختبارات للقارئ ليتعرف فيها إلى نمط تعلقه، ونمط تعلق شريكه، وليقيم أنماط التعلق لدى مختلف من اختاروا مشاركة قصصهم ومواقفهم، لذلك فإن الكتاب عمليٌّ للغاية وذكي ومرن، ومن لا يحب الجانب النظري الطويل فيه فهناك جانب عملي طويل كذلك وماتع.

يُقرأ الكتاب مراراً لتحقيق الاستفادة الكبرى منه، وذلك على فترات متباعدة، أحببته كثيراً وأنصح به.

شارك الصفحة

التعليقات

    April 13, 2024

    حلو كتير

    2
    0
المزيد من مُراجعــات الكُتب