المقالات

الصمت ودلالته البيانية

الصمت ودلالته البيانية

الحمدُ لله الذي جعل دلائل صنعته في كل شيءٍ ناطقة، والصّلاة والسّلام على من كان نطقه وحيًا، وصمته برهانًا، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعد:

    فقد كان للصّمتِ في الموروثِ العربيّ حضورٌ بارزٌ، بوصفِهِ قسيمَ النطق في عملية التُّـواصل، فإذا كان النطق هو الوسيلة الإيجابية في الكشفِ عن المعاني فإن الصّمتَ وإن كان فعلاً سلبيًا يتحقّقُ بتركِ الكلام أو تعمُّدِ السّكوت، إلا أنه يحسُن عندما يقع موقعه المناسِب من الحديث، ولأجلِ المزايا البيانيّـة للصّمت والتي قاربت مزايا النطق وطاولتها، ذهبَ كثيرٌ من العلماء إلى المفاضلةِ بينهما في الأثرِ البياني، وأصبحَ لكلِّ منهما أنصارٌ ومؤيدون، فقال أنصار الصّمت:”إذا كان الكلام من فضةٍ فالسكوت من ذهبٍ”، كما قالوا:”الندمُ على الصّمتِ خيرٌ من الندمِ على القولِ” وقال أنصار الكلام كيف يكون الصّمت أنفع والإيثار له أفضل، ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمُّ ويخصُّ، وَالرواة لمْ يرووا سكوتَ الصّامتين كما رووا كلام الناطقين، وبالكلام أرسلَ اللهُ أنبياءه لا بالصّمت، ومواضع الصّمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة وطول الصّمت يفسدُ البيان.

     تحدثَ علماء اللُّغة والبلاغة القدامى عن مصطلحِ الصّمت ببلاغتِهِ وكثافةِ بيانِهِ المَحسُوس وقد اصطلحوا عليهِ بـ”الحذف”، ونظروا إليهِ نظرةَ إجلال لأهميتهِ في البلاغةِ والإيجازِ على وجهِ التحديد.

     وقدْ عُرِّفت البلاغة عِندما سُئِلَ بعضهم عنها بأنّها:“الإيجازُ من غيرِ عجزٍ”، ونقل لنا الجاحظُ في كتابهِ (البيان والتبيين) قولَ ابن المُقفّع الّذي عدَّ السّكوت والاستماع أوّل وُجوه المعانيّ التي تَجري بها البلاغة. إذْ يقول:”البلاغةُ اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكونُ في السكوتِ، ومنها ما يكون في الاستماعِ ومنها ما يكون في الإشارةِ،…”.

     إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز يمنحُهُ الضياء ويكشفُ له آفاق عالمه الداخليّ بصورةٍ أبعد وأصدق.  الصّمتُ يحفظُ على المرءِ انفعالاته عندما يرى من الآخرين ما يذهله ويطرقه، يحفظُ عليه ما يُعانيه من آلامٍ لا يستشعرها غيره مهما تفوّه بها أو وصف.

     فَتأمّل صمت يوسف -عليه السّلام- في قولِهِ تعالى: ﴿فأسَرَّها يوسفُ في نفسِهِ﴾ هذه الجملة تحكي كيفَ عالجَ عليه السلام سُوء ما رُميَ بهِ، بل إنّها تصوّرُ مدى تحمُّلهِ ألم التهمةِ البشعة التي وُجهت إليهِ: ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ لمْ يجد لكلامِهِ جدوى في الوقت الذي ضاق فيه صدره، لمْ يجد إلاّ الصّمت والإسرار. صمْتٌ يدفعُ الشخص العادي للانتصار والدفاع عن النّفس لكن يوسف -عليه السلام- آثر الصّمت، آثر الانتظار، آثر العُزوف عن الكلام في أمورٍ لا يُمكن لأيِّ حديثٍ أنْ يكشفَ زيفها أو يُجلِّي تهافتها.

“وقد تَنطِقُ الأشياءُ وهيَ صوامتُ” – المعرِّي.

      إنَّ كثيرًا من الدلالات غير اللّفظية يُمكنُ أنْ تندرجَ في إطـارِ الصّمت ولو على سبيل المجازِ والتوسعِ، فلغة الإشارة مثلاً من الوسائل الدلالية القديمة والسابقة للفظِ المنطوق عند أصحاب النظريات اللّغوية، وأيضًا دلالة الحال، ولُغة الجسد والإيحاء وغير ذلك، يقولُ الجاحظ :”…وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد؛ أولها اللّفظ، ثم الإشارة، ثم العقدُ، ثم الخطُّ، ثم الحالُ؛ وتسمّى نِصْبَة، والنِّصْبَةُ هي: الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات”.

      والدلالةُ غير اللفظية كلغةِ الإشارة، ودلالة الحال أو النِّصبة-كما سماها الجاحظ- تُعدُّ وسيلة للتعبير في حالة صمْت اللِّسان. وهُنا نذكرُ مريمَ -عليها السّلام- لمَّا أتت بابنها تحمله، ما كان منها إلا أنْ لجأت إلى الإشارة، بعد ما نذرتْ أن تصومَ عن الكلام كما أمرها الله، ولو كانت إشارتها خرقًا لقواعد الصّمت لحنثتْ، ولكنَّ ذلك لم يَكُن.

    إنَّ لُغة الجسد والإشارة المُعبرة وغيرها قرائــنٌ تؤدي عن المُتكلم كثيرًا من الرسائل التي لا يسعها الكلام، فهي أبلغُ وأوقعُ في القلب من كلِّ حديثٍ وأبينُ من كلِّ كلامٍ!

قالَ الشّاعر عن إشارات العين:

“أشارَت بِطَرفِ العَينِ خَشيَةَ أَهلِـها    إِشــارَةَ مَحزونٍ وَلَــم تَتَكَلَّمِ

فَأَيقَنتُ أَنَّ الطَـــرفَ قَـــد قــالَ مَرحَبًا    وَأَهــلاً وَسَهلاً بِالحَبيبِ المُتَيَّمِ”

     إنَّ كلامَ السكوت هذا يعرِّفه من مرَّ بتجربةِ عشقٍ صادقة كالتي أنطقت الشعراء والأدباء بتلك الكلمات العذبة الرقراقة، إنها لُغة ذات أحرف مخصُوصة، أحرف نورانية تتسعُ لِما لا تتسع له الأحرف الملفوظة، فإذا كانت قلة الألفاظ بلاغةً، فإن لغةَ الصّمت في بعض المواقف أبلغ من كلِّ وجـازةٍ، وأفصح من كلِّ إبانةٍ.

     لقد لهج كثيرٌ من الشعراء والأدباء بهذا المعنى، فالرَّافعيُّ ونزار كانت لهم فلسفةٌ خاصة في الصّمتِ، فيرون أنّهُ وسيلة أقـرب من الكلام إلى أفئِدةِ العاشقين، يقولُ الرّافعي في ذلك: “تتكلمُ ساكتةً وأردُّ عليها بسكوتي، صمتٌ ضائعٌ كالعبثِ، ولكنْ له في القلبين عملُ كلامٍ طويل…”

     ويقولُ قبّاني:”هل تسمعين أشواقي عندما أكون صامتًا؟ إنَّ الصَّمتَ يا سيدتي هو أقوى أسلحتي. هل شعرتِ بروعة الأشياء التي أقولها عندما لا أقول شيئًا؟”

الصمت ودلالته البيانيه 1

       وللصمتِ دلالات أُخرى تتعلق بالأحوالِ النّفسية، فمقام “الهيبة” من المقاماتِ الداعية إلى الصّمتِ، كأن يكون المُهيب على قدرٍ من الهيمنة والعظمة، فكلّما تعالى السلطان وتعاظم القدر، وازداد الجاه، كان الصّمت هو الترجمانُ لِما يختلجُ في النفوسِ ويتراءَى للأوهامِ، وقد صَور لنا القرآنُ الكريم هذا المقام تصويرًا دقيقًا في قولهِ تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ [طه: 108] أي وسكنت أصوات الخلائق للرحمن، فلا تسمع إلا حسن الأقدام إلى المحشر. وقيل:”الهمسُ هو: الصوتُ الخفيّ الّذي يوجد لتحريك الشفتين، يقال: همسَ فلان إلى فلان بحديثٍ، إذا أسره إليه وأخفاه، ففي هذا الموقف تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، ويستولي سلطان الحقيقة على الحضور فيسود الصّمت، حتى يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى”.

وقد أجاد الفرزدق تصوير دلالة الصّمت في هذا المقام، فقال مادحًا زين العابدين:

“يُغضي حياء، ويُغضى من مهابتــه        فَمَـــــــا يُكَلِّــــــــمُ إِلَّا حِــــــــينَ يَبْتَســـمُ”

     جعلَ الفرزدق ممدوحَه مهيبًا في حال إغضائه، وهذا من أبلغ الوصف؛ لأنّه إذا كان مهيبًا في إغضائه فكيفَ به إذا توجَّه بناظريه إلى مَنْ يُخاطبه؟

      استطاعَ الفرزدق نقل إحساسه بجلال المعنى، استطاعَ مداخلة النفوس ولو على سبيل الفــرض والتخييل، الناسُ أمام هذا المهيب صامتون، منتظرون إشارة طمأنة، تبسمه هو باعثُ الاطمئنان في قلوبِ المخاطبين، هو فكاك ألسنتهم، هو طـلاقة أفكارهم وهُـدُوِّ نُفوسهم.

      ومن المقامات النفسية الداعية إلى الصّمت “مقام التأدب” كالإنصات إلى حديثٍ ذي خطر؛ قال الله تعالى في نعت تواصي الجنّ بعضهم لبعض عند شهود الرسول -صلى الله عليه وسلم –﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: 29]. 

      والصّمتُ في كلِّ ما سبق محمود مُرتضى حَسَن، ومنه ما يكون مذمومًا سمجًا، كصمتِ العجزِ والعيِّ؛ وذلك لأنهم يجعلون العجز والعيّ من الخرق سواء كان في الجوارحِ أم في الألسنة، قال أحيحة بن الجلاح:

“وَالصَمتُ خَيرٌ لِلفَتى     ما لَم يَكُن عيٌّ يَشينُهُ”

     وهناك صمتٌ عارضٌ يتخلّل الحديث لأمرٍ ما؛ كالنسيان أو شرود الذهن أو الرهبة ونحو ذلك، وهو ما أطلقوا عليه ( الإرتاج ) ومنه قولهم:قد أُرْتِـجَ عليه: إذا أغلق عليه ما يُريد من الكلام، فلم يَدرِ ما يقول، وللعرب في ذلك حكايات طريفة، منها لما أتى يزيد بن أبي سفيان الشامَ واليًا لأبي بكر -رضي الله عنه- خطب، فأُرْتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله، فأُرْتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله، ثم أُرْتِج عليه، فقال: “يا أهل الشام، عسى الله أن يجعلَ من بعد عُسْرِ يُسْرًا، ومن بعد عيٍّ بيانا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل، ثم نزل. فبلغ ذلك عمرو ابن العاص فاستحسنه”.

     وصَعَد ثابت قُطنةَ منبرًا بسجستان فحمد الله، ثمّ أُرتِج عليه، فنزل وهو يقولُ:

“فـإِلّا أَكُن فيكُم خَطيبًا فَإِنَّني      بِسَيفي إِذا جَدَّ الوَغى لَخَطيبُ”

فقيلَ له: “لو قلتها على المنبرِ كنت أخطبَ الناس”.

     أما الصّمت الذي يتعلق ببلاغةِ النّظم، فهو قلادة الجِيدِ وقاعدة التجويد عند البلاغيين، وهو صمت عن أجزاء مخصوصة من الكلام، يرى المتكلم أنه مهمّا تحدث أو وصف فإنه لن يُوفّى الموصُوف حقه، أو أن الكلامَ ذاته قاصر عن أداء المعنى الذي يجول في الخاطر، وعبارتهم المشهورة في ذلك: “إن من الأشياء ما تُحِيطُ بهِ المعرفةُ ولا تُؤدِّيه الصّفةُ” وقد جعلَ الإمام عبد القاهر الجُرجانيّ بابَ الحذفِ من هذا النوع، فقال في كتابِهِ (دلائل الإعجاز):”الحذف بابٌ دقيقٌ المَسلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأمر شبيهٌ بالسحر، فإنَّك ترى به تركَ الذِكر، أفصَحَ من الذكرِ، والصَّمتُ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادةِ، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بيانًا إذا لمْ تبِنْ” وذلك كقوله تعالى:﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل : 9]، والتقدير: ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم، يقولُ الجرجاني: إلا أن البلاغةَ في أن يُجاء به كذلك محذوفًا.

      والحذفُ بابٌ متسعٌ يجري في أمور كثيرة، كحذفِ حرفٍ أو أكثر من الكلمة كما في الترخيم والضرائر الشعرية ونحوهِما، وحذف بعض أجزاء الجملة كالمسند أو المسند إليه لدواعٍ بلاغية، وحذف الجمل لدلالة السّياق عليها كما في أسلوب الاحتباك، وحذف فضول الكلام كما في القصّص القرآني، إذ نراهُ يعرض لِما فيه العبرة والموعظة في كلِّ قصةٍ دون ذكر لأوصافِ المكانِ أو الزمانِ، وغير ذلك مِما لا يُحصيه العد، وهذا من الصّمت البليغ الذي يتخلل الحديث ويجري في أثنائِه، وهو مقصودُ البلاغيين في قولهم والصّمتُ عن الإفادةِ أزيدَ للإفادةِ.

     والصّمت أيضًا بابٌ متسعٌ لا يُمكن حصر أنواعِهِ، ففي كلِّ عملية تواصل نلحظ كثيرًا من أنواع الصّمت، كالصّمت للدهشة أو لانتظار خبر أو ترقب جواب أو فك شفرة ترسلها العين أو ملامح الوجه أو حركات الجسد أو نزعات الغضب أو الفرح أو الحزن أو غير ذلك من المشاعر والأحوال والأفكار، إنَّ اللّغةَ الصامتة قد تكون أكثر رحابةً إلى آفاقِ المعنى من اللّغة الناطقة، فلا تتقيد بحدود النحو أو المنطق أو البلاغة، بل لا تتقيد بطقوس أو عادات، إنَّها لُغة تعبيرية حُرة حكيمة تحكي كلّ انفعالٍ وتصفُ كلّ إحساسٍ وتُعبّر عن كلّ خاطرةٍ دون أن تقولَ شيئًا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الصمت ودلالته البيانية قراءة المزيد »

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٣م

كان عام 2023م حافلًا بالبرامج والمبادرات الجديدة التي أطلقتها شركة نديم، وهي التي يقف خلفها فريق يؤمن بضرورة البناء المعرفي للأفراد مهما تنوعت مجالات اهتماماتهم.

وقد أحببنا أن يشارككم الفريق بمفضلاته السنوية من الكتب، حيث اختار كل واحد كتاباً مما قرأه خلال العام الماضي، ليرشحه للمهتمين، فنتج من ذلك باقة متنوعة من الكتب سواء في تخصصاتها أو أنماطها أو لغاتها.

بين يديكم مفضلات فريق نديم، آملين أن تجدوا بها ما يوافق اهتماماتكم، وما قد يكون رفيقًا حلوَا لأيامكم القادمة، لاسيما وأنه لا ينقصها لا الفائدة ولا المتعة.

قراءة التراث الأدبي: صوى ومعالم، لعبد الله بن سليم الرشيد.

كتاب جميل نابع من خبرة طويلة في التعامل مع التراث الأدبي نثراً وشعراً، تناول إطلالة على مصادره الأساسية والفرعية، وآليات لقراءة النثر وقراءة الشعر.

عبيد الظاهري، المشرف على شركة نديم.

شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين رحمه الله.

عزمت على قراءته مع صديقتي بمعدل نصف ساعة كل يوم، وقد تفاجأت أنها كانت رحلة ممتعة، جعلتني أنتظر هذه النصف ساعة من يومي بفارغ الصبر.

إيمان الفيفي، متطوعة في برامج نديم.

علم النفس دينًا: مذهب عبادة الذات، لبول سي. فيتز.

يحتاج المرء بين فينة وأخرى إلى الكتابات النقدية التي تناقش الأفكار السائدة في حقل ما، هذا الكتاب من هذا النوع، يناقش كيف أصبحت مقولة “تحقيق الذات” المقولة المؤسسة لكثير من النظريات في هذا الحقل، وكيف انعكست هذه المقولة وتسربت إلى طرائق تفكيرنا وأنماط حياتنا ونظرتنا إلى أنفسنا والوجود من حولنا

عبد الرحمن دباس، أخصائي مشاريع.

محركات الأفكار: تنقيب في الجذور ورصد للمنابع، لعبد الرحمن الريس.

قسّم المصنّف الكتاب إلى أربعة موضوعات رئيسية: المحرّكات النفسية، والعقلية، والخارجية، ومحركات الأفكار والخطابات الحداثية، تندرج تحتها مجموعة من المُحركات، وختم الكلام عن اعتبار المُحركات في القراءة الفكريّة.

الكتاب ذكي ومميّز وماتع، ميّزته النقولات الأصيلة من التراث الإسلامي لكبار الفقهاء كـابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، والغزالي، وابن الجوزي، والمعلّمي، وغيرهم

سمية سعود، متطوعة في مبادرة التراث التيمي.

اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية رحمه الله.

أحببت فيه الدعوة القوية لاعتزاز المسلم بشخصيته وهويته ودينه. تحدث عن دقائق في فقه أحكام التشبه ما قرأتها من قبل عند أحد، كما أدهشني في الاستنباط من الأدلة التي يستشهد بها. مبهر وباعث للتأمل.

شيماء، منسقة مشاريع.

كيف تغير العالم: رياديو الأعمال الاجتماعية وفعالية الأفكار الجدية، لديفيد بورنستاين.

ملهم، ومليء بالقصص والأفكار التي تخدم رواد الأعمال الاجتماعية. الكتاب ينطلق من أفكار للتغيير الاجتماعي على مستوى العالم.

حسين العبدلي، متطوع في مبادرة منصت.

النبأ العظيم، لمحمد دراز رحمه الله.

كتاب صغير الحجم عظيم النفع، يثبت أن القرآن كلام الله بطرق شتى مقنعة، ويبحث في أوجه الإعجاز اللغوي للقرآن. دفعني الكتاب للتأمل في أسلوب القرآن الذي يجمع بين إيجاز اللفظ والوفاء بالمعنى، والبيان والإجمال، وإقناع العقل وإمتاع العاطفة.

يارا عمار، مترجمة.

الثمين من أخبار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، لتركي الميمان.

عرضٌ شامل لجوانب سيرته وحياته العامرة بالخير، يدرك معها القارئ سرّ محبة الناس له، وانتشاره، وثقتهم فيه حتى يومنا هذا، باقيًا ذكره الطيب محفوظًا على ألسنة الطيبين. يذكرني هذا بقول عمر رضي الله عنه: “يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته “.

لبنى المفرج، متطوعة في مبادرة منصت.

فرصة أخرى، لروبرت هاين.

كان العنوان مثيراً للدهشة، وحسب المرء أن يرى الأمل في محطات الآخرين فينعكس ذلك على حياته. وقد اخترتها لأنها تجمع بين السيرة الذاتية وقصة لم يُعتد أن تحدث وتوثق، فحظ المرء من تلك الحكايات أن يعرف دهاليزها ودواخلها ممن عاين وجرب.

آلاء الخطيب، أخصائية مشاريع.

الداء والدواء، لابن القيم رحمه الله.

من أجمل الكتب التي تدفع القارئ لإعادة ترتيب أولويات حياته، ومراجعة خارطة سيره فيها، وهو كتاب غني عن التعريف.

أمنية محمود أبو الفتح، متطوعة في برامج نديم.

الدماغ الخلاق: علم أعصاب العبقرية، لنانسي أندرياسن.

رحلة تبحث في أسرار الإبداع والعبقرية، رائدتها محاضرة في الأدب الإنجليزي غيرت مسارها المهني إلى دراسة الطب، وتخصصت في علم الأعصاب، لتصبح أخيرًا معالجةً نفسية. مزيج تخصصات ظهر أثره في السرد المشوّق لمباحث الكتاب وجوانبه العلمية.

خلود بن صدّيق، مصممة.

تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، للبيروني رحمه الله.

من أكثر الحضارات إسهاماً في علوم الحكمة والطبيعيات والمنطقيات حضارة الهند. وعنهم تُرجمت كثير من الكتب التي استمد منها الإسلاميون في الأصول والمنطق والكلام والفلسفة والطب والمواد وغيرها. وأبو الريحان البيروني (ت:٤٤٠هـ) من أخص الناس بمعرفة أحوال أهل الهند، وهذا الكتاب وافٍ بكثير من أحوالهم في الاعتقاد والمعاش والعوائد والطبائع والأجناس، على درجة معتبرة من التحقيق. وعنه يصدر كثير ممن بعده.

عثمان العمودي، محرر.

هبة الألم: لماذا نُعذّب وما موقفنا من ذلك، لبول براند وفيليب يانسي.

أن ترى الألم بين حافّتي العذاب والنعيم، بين اللاشعور وأن تحس بوخزة إبرة. أن يلتصق ظهرا الألم واللذة كتوأم مختلف! الكتاب يعطي نظرة مختلفة للقارئ عن قيمة الشعور بالألم، قيمة ما نسعى لكبح جماحه كل ما بدا طرفه، وبين طياته تتلمس معنى وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.

منيرة التركي، متطوعة في مبادرة قراء الجرد.

شرح شمائل النبي للإمام الترمذي رحمه الله، لعبدالمحسن البدر.

بعد قراءة هذا الكتاب لم أعد أستطيع الاستمتاع بأي كتاب آخر. تقربت إلى الرسول ﷺ أكثر من خلاله، أحببت الرسول ﷺ أكثر. تعلمت كيف كان يتعامل الرسول ﷺ مع المواقف المختلفة، كيف كان شكله، كيف كان يبتسم ويضحك، وكيف كان يتحدث. كلما أصبح يومي ثقيلاً قرأت جزءاً من الكتاب، أخفف به ثقل الحياة.

فهيمة حسين، متطوعة في برامج نديم.

لغز الماء في الأندلس، لشريف عبدالرحمن جاه.

كتاب نادر في موضوعه، تعرفت من خلاله على أسرار ومعجزات عمارة الماء في الأندلس، ومحاكم المياه، وتعرفت على أنظمة الري والفلاحة المتبعة آنذاك، والتي لا زال بعضها يُعمل بها للآن، وفي الكتاب أسماء لكتب ودراسات أخرى عاد إليها المؤلف، كتاب ثري ونادر، ما استطعت الحصول عليه إلا في معارض الكتب.

أثير العمري، متطوعة في مبادرة قراء الجرد.

دلائل الإعجاز، للجرجاني رحمه الله.

لما فيه من جلالة الموضوع، وذكاء الأفكار، وحسن العرض، ورقّة اللفظ، وجزالة السّبك. فكأنّما هو كتبٌ جُمعت في كتاب؛ يجد فيه المتعلّم بغيته، والمتأدّب طلبته، والباحث مراده. ولا يخرج قارئه بعده كما دخل، ولكن بقلبٍ غير القلب، وعقل غير العقل، وروح ترى في القرآن قوتًا وطبًّا.

عبدالعزيز التركي، مطور أعمال.

نشأة الإنسانيات، لجورج مقدسي.

ملحمةٌ في الدراسات الحضارية المقارنة، ودرسٌ في التنقيب داخل كتب التراجم والطبقات، ودورةٌ تدريبيةٌ في الاستقراء والتحليل والاستنتاج.

حسان الغامدي، محرر.

مداواة النفوس، لابن حزم رحمه الله.

من رام صلاح نفسه وتزكيتها كما أمر بذلك ربنا جلا وعلا، فدونه هذا الكتاب النفيس والقيم بفوائده، وخصوصاً أن المؤلف قد أبان عيوباً في نفسه، وجاهد في إصلاحها، وبين السبيل لذلك، وقد أجاد رحمه الله.

سهام الحربي، متطوعة في مبادرة منصت.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٣م قراءة المزيد »

التفكير في التفكير

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

كتب نديم

يعد التفكير في التفكير أو التفكير فيما وراء المعرفة من أبرز الآليات التي تنظم تفكير الإنسان، وتقوّم معرفته، وتزيد من قدراته على حل المشكلات، فالتقدم في شتى المستويات العلمية مرهون بتحسين عمليات التفكير، إذ التفكير هو الأداة الرئيسة التي تخلق المشكلات والأسئلة المعرفية التي بدورها تقود إلى البحث وسعة الاطلاع ومن ثم إلى الإنجازات وفتح أبواب جديدة للمعرفة. إن عملية التفكير في التفكير ترتكز في أصلها على المعرفة وطبيعتها، وبيان قدرة الإنسان على مراقبة درجة فهمه للمعاني والأفكار مما يمكنه من مراقبة مستويات إدراكه الذهني، وتقدير مستوى فهمه، فيعمل على تحسين استيعابه بوسائل مختلفة تناسب قدراته وصولا إلى معالجة نقص الاستيعاب، وفتح نوافذ إبداعية ابتكارية.

إن هذا المقال يسعى بالدرجة الأولى إلى بيان آلية التفكير في التفكير من خلال نماذج تطبيقية تُنتقى من النص النبوي الكريم، نرصد من خلاله مفاهيم وآليات التفكير في التفكير، واستنطاق أهم الطرق المعينة على ذلك، وعلى قياس هذه النماذج يقاس تحصيل المعرفة.

جاء في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)).

والشاهد هنا اختلاف الفقهاء في حد الغيبة أهي باللسان؟ أم بالقلب؟ والمتفق عليه أن ذكر المساوئ باللسان غيبة، لكن هل يدخل في ذلك القلب؟ ذهب الإمام الغزالي والنووي إلى أن الغيبة تكون في القلب أيضا، ويشرح ذلك الغزالي بقوله: ” فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، بل الشك أيضا معفو عنه”.

والحق أن ما قرره النووي ووضحه الغزالي أمر جدير بالعناية والاهتمام به، وعلى أقل تقدير يمكن أن نستنتج أن الغيبة لن تصل إلى اللسان إلا إذا مرت على القلب وتحدث المرء فيها في نفسه، وبناء على هذا فإن التوجيه النبوي البليغ يحثنا نحو ملاحظة عمليات تفكيرنا نحو تصوراتنا عن الأفراد الذين تدفعهم أعمالهم أو ظنونا أو نحو من ذلك بما يعود على ذكرهم بالسوء فنقع في الغيبة، وتفعيل التفكير في تفكيرنا يسهم في تجنبنا الوقوع في هذا الأمر.

وضبط هذه العملية في التفكير تتم بعدة طرق:

أولا: معرفة الإنسان بنفسه من حيث موقعه ونظرته في قبوله لأفعال الآخرين.

ثانيا: إدراك نفسه حيال تلك السلوكيات التي تصدر منه في حال عدم تقبل الآخر أو عدم تمشيه مع نظرته المتمركزة حول ذاته، مما يؤول إلى وقوع المشكلة، وهو حديث النفس المقصود بالإساءة نحو الآخرين، فيلزم منه إعلاء شأن المرء لنفسه، ويوقعه في الغيبة باللسان.

ثالثا: بعد معرفته بنفسه، وإدراكه للإشكال الواقع فيه، تتم عملية المعالجة لهذا الإشكال الذي بات واضحا من الفهم والاستيعاب لعمليات التفكير الداخلية التي مر بها حيال هذا الموقف، فيكون قادرا على مراقبة ذاته فيحصل التصحيح والتقويم. وفي هذا المخطط توضيح وبيان للتفكير في التفكير حيال موضوع الغيبة:

التفكير في التفكير

كما جاء في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه عن أنس رضي الله عنه، قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).

المراد هنا لا يؤمن المؤمن الإيمان التام إلا من حصّل هذه الخصلة وهي أن يحب المرء لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه. والسؤال الوارد هنا: ما هي طريقة التفكير التي تحقق هذه الغاية المنشودة من الحديث الشريف؟ إن جواب هذا السؤال يؤكد لنا أمرين:

الأول: أهمية طريقة التفكير في التفكير وأنها ليست ترفا ذهنيا نكد به الذهن.

الثاني: أن كمال الإيمان لا يتوصل إليه إلا لمن أحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه، مع العلم بأن طبيعة الإنسان تنحى نحو إيثارها لنفسها دون غيرها، وإن آثرت فهي تؤثر القريب من الولد والوالد، ثم الأقرب فالأقرب، والنفوس بطبيعتها تتفاوت في هذا الجانب، إلا أن الحديث يؤكد بعموم هذا الإيثار لقريب أو بعيد دون تحديد، وإطلاق لفظ (أخيه) في الحديث النبوي دال على هذا المعنى وأن المسلمين أخوة، وتحقق هذه المرتبة العالية من الأخلاق الإنسانية من حيث استراتيجية التفكير تحصّل بطريقة التفكير في التفكير ومراقبة الإنسان لذاته. وهذا مخطط يوجز خطوات التفكير في التفكير حيال هذه الفضيلة:

ومن خلال ما سبق يتبين أن الوصول إلى مكارم الأخلاق لا يتم إلا عن طريق وعينا بطبيعتنا البشرية بأنها طبيعة ينتابها النقص والضعف، ولذلك جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) سورة الشمس، آية رقم: 9، وهذا الوعي بمراقبة عمليات التفكير يمكننا من الاستيعاب الجيد لأفكارنا خلال المواقف المختلفة فنعمل على معالجة النقص وإمكانية التنبؤ بما سيحدث من مواقف مشابهة لما مررنا به.

ومما يجدر التنبيه عليه أن أبرز الأسباب الصارفة عن التفكير في التفكير: عدم إعطاء المواقف التي نمر بها فرصة للتأمل، وعدم تقديم أسئلة ذاتية نكشف من خلالها طرائق تفكيرنا، وهذا يؤكد لنا دور التفكير التأملي تجاه أنفسنا، وأهمية الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا، ورصد عمليات تفكيرنا تجاه مواقفنا المتكررة نحو أمر من الأمور، وملاحظة طرائق التفكير قبل الموقف وأثناء الموقف وبعد الموقف.

ونختم بمقولة ابن خلدون التي تتضمن أهمية التفكير في التفكير وأن هذا الفعل يدل على رسوخ أي حضارة إنسانية وطول أمدها وعسر نزعها، فيقول: “والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران وألوان والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال، وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها“. ونص آخر نستنتج منه أن التفكير في التفكير يُحكِم الصناعة والتعليم، فيقول: “ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيه الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليم العلم“.

وأعتقد بأننا لو فتشنا في كتب تراثنا عن عمليات التفكير وأثرها لوجدنا ثراء علميا وكنزا معرفيا، إلا أن الإشكالية تكمن في أن البحث في كتب التراث يتطلب معرفة دقيقة بعلوم الأصول واللغة والكلام والاجتماع.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

التفكير في التفكير قراءة المزيد »

السؤال مفجر للمعرفة

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

السؤال مفجر للمعرفة

 

المعرفة والسؤال:

إن المعرفة الخالية من مشكلة متمثلة بحزمة من الأسئلة هي معرفة وهمية لصاحبها، ولو كانت هذه المعرفة سهلة التناول وظن المكنة منها؛ كون المعرفة التي لا تنشأ من إشكال أو سؤال من شأنها أن تصل إلى المتلقي خاوية من مضامينها الحقيقية التي تخلقها الإشكاليات والأسئلة، فتصنع فيها المعنى الملبي لجميع الاتجاهات الفكرية والثقافية والاجتماعية والإنسانية. ويزداد التأكيد على هذه القضية بأن فهم أي علم أو معرفة مرهون بالإحاطة بالأسئلة المنتجة لهذا العلم أو تلك المعرفة، إذ هي السياقات التي أنشأت هذا العلم بمجالها التداولي. وحتى المعرفة التي تكون واضحة في نفسها فإنها بحاجة إلى استنطاقها عن طريق خلق الأسئلة التي تناسب عصرها التي هي فيه، فلا يكتفى بأسئلة ذلك الزمان مع أهمية ألا تكون الأسئلة ركيكة أو ضعيفة في نفسها، ولذلك من الضروري إعادة تشكيل الأسئلة وفق معطيات العصر. ومن الأمثلة على ذلك: المنهج، إذ هو من معطيات عصرنا الحديث، فوجب أن تتوجه الأسئلة نحو المداخل المنهجية والنظرية وفق تشكلات كل علم من العلوم. ومن الأمثلة كذلك التي يتجدد فيها روح السؤال: سؤال نشأة العلوم، فسؤال النشأة متقارب جدا عبر الأزمان، لكن من الضروري على أهل علم كل عصر أن يشكلوا سؤال النشأة وفق احتياج عصرهم لا عصر من سبقهم ولو كانوا في رتبة أعلى في الطلب والإتقان.

الفهم والسؤال:

إن السؤال في المقام الأول ناشئ عن الوعي والفهم، فلا يولد سؤال من عدم، بل حصل فهم عن شيء ليستفهم عن أشياء، والسؤال هو دليل وجود العقول وحياتها، وهو لباس الوعي والفكر، وابن مجاله التداولي، ولذلك الأمة التي لا تسأل، يُسأل لها، وثمة بوّن بين سؤال الأمة نفسها وسؤال يستجلب لها، وحتى إن وجدت هذه الأسئلة فيلزم لها أن تتجدد ولا تبقى على طول الدهر كما هي، إذ يوحي ذلك على مؤشر تراجع للفكر والوعي، كون الأسئلة بطبيعتها قابلة للتطور والنمو.

الوضوح والسؤال:

إن قوة بيان الأفكار تكمن فيما يحيطها من الأسئلة، كون السؤال سياج يحمي المعرفة من الغموض، وكلما كانت العبارة مبينة كاشفة عن أفكارها كانت الأسئلة الضمنية تحميها من الالتباس والتعمية، ذلك أن كل كتابة مبِينة تسفر عن أفكارها، وكل فكرة من أفكارها قائمة على أسئلة لها وظائف غاياتها الإبانة، ولا يلحظ ذلك إلا القارئ الفطن، وإن رمت أن تطلع على بعض الكتابات التي تصرح بالأسئلة فطالع كتابات عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وجامع البيان المعروف بتفسير الطبري ودونك مقدمته، وتفسير الكشاف للزمخشري، ومن الكتب الحديثة يحضرني كتاب كينونة ناقصة للدكتور عبد الله البريدي. وكل كتابة تورد الرأي المخالف هي تستعين على ما تتضمن المخالفة من أسئلة لإيضاح الفكرة والرأي، ولذلك الكتابة الخالية من الأسئلة المباشرة أو الضمنية أو إيراد الآراء المخالفة هي كتابة باهتة تفتقد روح المعنى ونصاعة الوضوح وكثافة الفكرة.

السؤال مفجر للمعرفة 1

 

التطوير والسؤال:

إن انفتاح العلم والمعرفة لا يكون من داخل العلم بل يكون من خارجه، أي بالأسئلة التي تثوّر العقل نحو استجابة للأسئلة المثارة، وهذا يدل على فضيلة السؤال، بل إن بعض الأسئلة تكشف لنا تلاقي العلوم وتلاقحها من بعضها، كما تسهم الأسئلة في تصحيح مسار العلوم، فكما تتطور العلوم بفعل السؤال، فالسؤال نفسه يسهم في تصحيح العلم، وهذا من شأنه أن يوجه الفكر نحو العناية بالوسائل أكثر من النتائج، إلا أن الإنسان بطبيعة فكره يعنى بالنتائج أكثر من الوسائل، مما يؤدي إلى تمركز الفكر نحو النتائج، والذي ينبغي استيعابه أن الوسائل لا تقل أهمية عن النتائج بل إن الوسائل هي التي صنعت النتائج، وما دام هذا الدور للوسائل فإن أبرز هذه الوسائل الأسئلة، فيجب أولا الوعي بأهميتها وإعطائها الدور المنوط بها.

 التفكير والسؤال:

إن نمو التفكير مرهون بوجود السؤال، وخصوصا المهارات العليا من التفكير من التحليل والتركيب والتقويم والابتكار، فإنها تتغذى على مدى نجاعة الأسئلة وعمقها، وهذا ما نلحظه في كافة البحوث العلمية المرتكزة على مهارات التفكير العليا، إذ هي في الأصل ناشئة عن إشكال معرفي مرده إلى أسئلة، تُعرف بأسئلة البحث، وخلف كل سؤال مجموعة من الأسئلة الصغرى التي تفجر منها السؤال الملفوظ وهو السؤال الكلي، فوراء كل بحث علمي مكين إشكالات وأسئلة حفزت الذهن إلى تجاوز الإشكاليات وإحضار إشكاليات مبنية على تجاوز السابقة وهكذا في سلم الإشكالات المخلقة من الأسئلة المحفزة التي تسعى نحو التقدم والتفوق والتغلب على نفسها لتعيد نفسها بطريقة جديدة، ومن هنا يُعلم أن تعليم السؤال نفسه مقدم على سؤال الإنتاج والابتكار.

عناوين الكتب والسؤال:

عناوين الكتب هي في أصلها جواب عن سؤال يتوارى خلف العنوان تولّد في عقل الكاتب، فاصطفاف عناوين الكتب فوق رفوف المكتبات بمثابة نداء للقراء؛ تلبية لدواعي الفضول المعرفية المثارة من الأسئلة الذاتية من قبل كل قارئ، فالقارئ الجاد لا يخلو من الأسئلة التي تثير لديه فضول الطلب، وتلح عليه بالاستزادة من المعرفة الملبية لسؤالات العقل اليقظ، فالعناوين بفعل أسئلتها المباشرة أو الضمنية مدعاة إلى مشاركة الآخرين المعرفة واستنهاض للهمم واستدعاء للعقول النيرة باستنطاق مزيد من الأسئلة.

الدهشة والقلق والسؤال:

قبل إثارة السؤال في النفس ينتابنا شعور يسبق السؤال، وهذا الشعور هو الدهشة والغرابة، وهذا الشعور إيجابي من حيث أنه يقتل الألفة في النظر إلى الأشياء بأنها هكذا تكونت أو هكذا صارت، إلا أن شعور الدهشة يعيد للعقول نماءها ويصب فيها ماء الحياة، فيثمر ذلك الشعور السؤال، والسؤال المثار بعد الدهشة يحملنا على التفكير المتباعد الذي يفسح مساحة للتفكير والفضول المعرفي، بخلاف الألفة المصاحبة للتفكير المتقارب التي تحاول أن تقارب الظواهر وتقيسها بالأشياء فتجعلها بشكل طبيعي ولا ترى فيها الغرابة، والشعور بالدهشة لا يكفي لإثارة الأسئلة والإشكالات ما لم يصاحب ذلك الشعور قلق، فهو الذي يضمن بقاء الدهشة وعدم زوالها، والسؤال هو كينونة القارئ والكاتب وكل عقل نيّر.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

السؤال مفجر للمعرفة قراءة المزيد »

الجهل محفز معرفي

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-george-becker-792031-2 2

   إن الأشياء لا تكون فضيلة بذاتها، إنما تنبثق الفضيلة من لوازم الأشياء ومقتضياتها، والجهل بحسب المتعارف عليه ذم كله، حتى إذا فتشنا عن كثير من سياقاته نجده كذلك، فهذا عصر الجاهلية وسمٌ لأحوال العصر الذي كان قبل الإسلام، وعند المناطقة مصنف إلى الجهل البسيط والمركب، وإذا أُطلق على شخص بأنه جاهل كان ذلك الوصف غاية في النقص، هذا وإن الجهل تعدد معانيه بتعدد أضداده، فمن الجهل ضد الحلم، ومنه ضد العلم، ومنه ما هو ضد الوقار والسكينة، وهكذا تتعدد المعاني بتعدد السياقات التداولية، وجل المعاني تدور حول الذم والنقص، وهذا صواب، إلا أن هذا المقال يود أن ينوه بأن الجهل الذاتي الداخلي -النابع من الكينونة المتطلعة لجبر نقصها الطبيعي لا الخارجي المعروف بالتجهيل- قد يقودنا إلى الفضائل إن كان محفزا إلى المعرفة، وسبيلا إلى الارتقاء بها، والتقدم في سلم الحضارة، يقول كليرك ماكسويل: إن الوعي بالجهل مقدمة لكل تقدم حقيقي في العلوم.

   إن مكمن الفكرة وجوهرها ينطلق من معنى الجهل وهو خلو الذهن من الأفكار أو المعلومات، وهذا بشأنه أن يُحدث اضطرابًا؛ كون الطبيعة الإنسانية لا تألف الخلو ولو اضطرت لقبول الخطأ، فيكون ذلك محفزًا على امتلاء الذهن بعد إدراك خلوه، وهذا من حيث ما يتعلق بجهل الإنسان، وبالمقابل هناك ما أسميه بجهل المعرفة الكامن في طبيعتها المحاطة بصور من الجهل، فالبنية المعرفية محاطة بأطر من الفجوات والأسئلة المثارة، ولا يبدأ الوصول لتلك الفجوات إلا بإدراك جهلنا في أنفسنا وفي المعرفة نفسها، فنعمل على ملء الذهن والتخلص من الفراغ؛ وصولًا إلى مقاربة الصورة الحقيقة للأشياء، مما يضمن لنا حركية العقل في البحث والتنقيب في حقول المعرفة بحيث لا ينضب محزونها وتتحرر من ثغراتها وتعيد إنتاجها، وهذا بدوره أن يجعل من الجهل المُدرك مشروعًا لاستكشاف المشكلات العلمية والعمل على حلها.

هذا وإن الجهل الواعي يأخذ تمثلات متعددة منها: السؤال، والمشكلة البحثية في البحث الأكاديمي، وصور التفكير، والشك، وأساليب بناء النظرية. ولنبدأ بالسؤال.

    أليس السؤال هو عين إدراك الجهل؟ وإذا كان السؤال يتطلب جوابًا فأيهما أوسع مدى السؤال أم الجواب؟ أقول في الجواب الأول: بلى إنه الإدراك المركب من الجهل الذاتي للإنسان، وجهل المعرفة الكامن في طبيعتها بوجود ثغراتها، أما الثاني بالطبع السؤال أوسع من الجواب لسببين: الأول: أن السؤال مرتبط بالجهل أكثر من الجواب؛ كون السؤال مصارحة الإنسان بجهله ومكاشفته لذاته بخلاف ما قد يتوارى الجهل في الجواب، والثاني: أن الجواب محدد الأطر ضيق النطاق؛ كون السؤال يصعد للأعلى أي جالبًا لغيره من الأسئلة، وهو أشبه ما يكون بالآفاق الممتدة، أما الجواب بخلاف ذلك فإن اتجاهه نازل لا صاعد، أشبه ما يكون بالبئر، يعطي عمقًا من المعرفة لكنه في مسار محدود، ولذلك لا تتقدم أي منظومة حضارية إلا بالجرأة على السؤال وانفتاح آفاقه، وما الجرأة في هذا المقام إلا مواجهة الجهل ومكاشفته.

   ثاني هذه التمثلات للجهل الواعي تكمن في المشكلة البحثية المتعلقة بالبحث الأكاديمي، حيث لا تبنى أركانه إلا إذا كانت المشكلة البحثية مصوغة بشكل واضح تجلي جهل الباحث بالنتائج التي ينشد الوصول إليها، وما بين المشكلة البحثية والنتائج المرجوة منطقة يسودها الجهل لا يعبرها الباحث إلا من خلال التفكير العلمي، والمنهجية التي تكون مطيته في كسر ثورة الجهل التي تمثلت في المشكلة البحثية، ومن يتأمل المسافة بين صياغة المشكلة البحثية والنتائج التي توصل إليها الباحث يدرك أن الجهل محفز معرفي يفتت الركام ويحطم الجدران، وهذا عين ما يفهم من أن الجهل المُدرك يهدم الجهل.

   إن صور التفكير المنطقي والتأملي والرياضي والعلمي والناقد والإبداعي كلها تقابل صورة التفكير الخرافي الذي ينبت من الجهل، فإذا كان التفكير عبارة عن سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله، فإن أبرز مثير هو الشعور بالجهل الحادث من وقوف عملية التفكير حول موضوع ما، وبناء عليه فإن الجهل الواعي يدفع التفكير الخرافي، ويعمل على بث ما يضاده، فتكون وظيفة الجهل الواعي في هذا المقام إنتاج عقلية معرفية تتعاطى مع الحقول المعرفية بشتى صور التفكير.

الجهل محفز معرفي

   الشك هو أحد صور الجهل التي يفصح عنها العقل المستنير، حيث يرجع معنى الشك في اللغة إلى التداخل؛ كون الشاك يتداخل له أمران أو أكثر في مشك واحد وهو لا يتيقن واحدا منهم، واجتماع عدة تصورات لأمر يستلزم تصورا واحدا يستحيل منطقا وعقلا، فنسبة التردد والشك هي في أساسها جهل بالاختيار الأقرب للصواب، وهذا من شأنه أن يفتح أفق التفكير، ويبحث عن الأدلة والبراهين التي ترجح خيارًا وفي الوقت نفسه تستبعد الخيارات الأخرى؛ لعدم كفاية الأدلة أو عدم رجحانها، والشك في هذا المقام أقرب ما يكون إلى الشك المنهجي أو الاحترازي؛ الذي يكف عن المعرفة الإنسانية الولوجَ في متاهات الغموض أو الخرافة، ومنبت هذا الشك هو في أساسه جهل دفعه الشك مما يستلزم حضور الروح النقدية لإبراز الدلائل والبراهين والإيجابيات والسلبيات.

   ومن تمثلات الجهل بصورته الإيجابية ما يرتبط في أساليب بناء النظرية، وهذا ما كشفه كارل بوبر حين فرّق بين الأسلوب العلمي الذي اتخذه المحلل النفسي فرويد وإنشتاين، حيث ينطلق فرويد من مجريات الماضي ليصل إلى فهم الحاضر، بخلاف إنشتاين الذي لا ينظر إلى الماضي بل يحاول أن يعي المستقبل، وهنا تكمن المفارقة بين الطريقتين من حيث الغاية، فالغاية عند فرويد وصفية تفسيرية للظواهر، وهذه على الأرجح غير وارد فيها الخطأ، أما إنيشتاين فيتغيا حسن التنبؤ، وهذه الغاية أسمى ما تنشده العلوم، وبناء عليه فإن الجهل الواعي أقرب ما يكون إلى اتجاه مدرسة إنشتاين العلمية؛ كونها عرضة للخطأ، وكلما اقترب العلم من طبيعته -المعرّض للخطأ– كان قابلًا للتحديث والتطور، ويؤكد بوبر ذلك بأن النظرية التي تشرح كل شيء لا تشرح شيئًا، وأن العلم الحقيقي هو القابل للدحض والخطأ وليس التأكيد، وهذا ما أود التنبيه عليه بأن الجهل مصاحب للمعرفة بطبيعته ومطور لها، يقول يوفال هراري: ثورة العلم هي ثورة الاعتراف بالجهل وليس ثورة المعرفة.

   إذا كانت هذه النظرة الإيجابية للجهل الواعي من بابها الواسع، فإنه لا يكون كذلك إذا جئنا بهذا التصور للعلوم الشرعية من العقيدة والقرآن والحديث …؛ كون هذه العلوم مكتملة البناء، وتؤخذ بصفتها مسلمات، وهذا لا يعني عدم إعطاء دور للعقل فيها، إنما أدلتها وبراهينها نقلية وعقلية متوافقة مع العقل، ولذلك لا يكون الجهل واعيًا إلا في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الطبيعية؛ كونه يمنح العلوم الإنسانية تمدد أفقيًا، والعلوم الطبيعية تمدد عموديًا بنائيًا، الأفقي في العلوم الإنسانية بصفتها علوم احتمالية من شأنها أن تتوسع فيها الفلسفة والنظريات كلا على حدة عن الأخرى لعوامل بيئية وثقافية واجتماعية متباينة، أما العلوم الطبيعية فهي علوم محايدة منطقية يكون فيها بناء النظريات بعضها من بعض بطريقة تراكمية، فالجهل الواعي يمد التوسع أفقيا وعموديا.

   نحن غارقون في كينونة الجهل، وما نحتاجه هو التنبه واليقظة له كل حين، لكن ليس هذا الإشكال، الإشكال يكمن في عدم إدراك هذا الجهل، أو ضعف تصوره لأسباب: لعلها تبدأ بوهم المعرفة، والخضوع للأحكام المسبقة، والأخذ بالتصورات الأولية، والدخول في التفكير الجمعي، في حين أن الجهل يتغذى بالانتباه واليقظة والسؤال والشك وتجلية الإشكال العلمي، والمقارنة، وما المعرفة إلا تصور للمجهول، وما من معرفة إنسانية إلا يخالجها الجهل فالمعرفة الحية صيرورة دائمة وقودها الجهل الواعي، وهذه طبيعة المعرفة.

   إن الجهل بالمعرفة معرفة واعدة، وهو الذي يفتح آفاق السؤالات التي منها ينبثق التطور، والجهل هو الضمان لاستمرار علمية التحديث والتطور، إن الجهل داء لا يداوى إلا بالجهل نفسه، وذلك عن طريق وعيه وإدراكه، والنفس السوية تعمل على إزاحته.

وأخيرًا أقول: إن الحقائق في هذه الحياة قليلة جدًا، جلها في الإيمان بالله وما يترتب على ذلك، وما دون ذلك فهي حقائق مؤجلة يكشف نقصها الجهلُ بما وراءها، والأزمنة التي تلح عليها بالأسئلة، وعدم اليقين بالموجود.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الجهل محفز معرفي قراءة المزيد »

"هنا وفي تلك الحِقْبة المتفرِّدة على متنِ الدّهر في تاريخ اللّغات، نزل القرآن الكريم بلسانٍ عربيّ مُبين

القرآن الكريم وخلود اللُّغة العربيَّة

القرإن الكريم1

الحمدُ لله الذي أنزل على عبدهِ الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصّلاة والسّلام على من أُوتي جوامع الكلّم، وعلى آلهِ وصحبهِ وسلّم، وبعد:

فإنّ لغةً يتنزَّلُ بها كلام الله سبحانه وتعالى، لهي لغة مصطفاة منتقاة تهيأت لاستيعاب أكرم المعاني وأسناها؛ وهذا وحده دليلُ شرِفها وبرهان فخرِها؛ إذ من المعلوم ضرورةً عند علماء الأمة سلفِها وخلفِها أن البيان الذي قَهر القُوى، وأعْجزَ القُدَر، وألجم أساطنة الخطاب إلجامًا، وأفحم شقاشق الشُّعراء إفحامًا، ما كانت معانيه لتتزَّل من عليائِها إلا في أشرق دِيباجة وأنصعها وأحلاها وأوفاها، وذلك لأن معاني القرآن الكريم هي كلام الله سبحانه وتعالى، وفضلُ كلام الله على كلام النّاس كفضلِ الله على النّاس.

جلال اللّغة العربيّة وجمالها:

الجلال والجمال المطلقان من صفات الله -سبحانه وتعالى- فَهُما إذنْ من صفات كلامه، ومن ثمَّ كان لزامًا أن تتوافرَ هاتان الصّفتان في الألفاظ والتراكيب اللازِمة لتلقي معاني هذا الكلام الإلهي، واستيعابها، والوفاء بدقائقها، دون تقصير أو تفريط، وهذا ما تشهد به دقائق اللّغة العربيّة، ولطائفها؛ إذ لكلِّ تركيب فيها معنى محددًا ودلالةً خاصّة، فقولك: محمّد مستقيم، يختلف عن قولك: محمّد المستقيم، وقولك: المستقيم محمّد، وعن قولك: محمّد ذو استقامة، وهكذا… فكلُّ اختلافٍ في التركيب يتبعه اختلاف في المعنى، كما أن لكلِّ لفظٍ في اللّغة العربيّة دلالة تُميزه عن غيره، فلفظ (الخبر) يختلف عن لفظ (النبأ)، من حيث أن الأول أعمُّ من الثاني؛ فالخبر يكون لكلِّ أمرٍ صغير أو كبير، عظيم أو حقير، أمّا النبأ فلا يُستعمل إلا فيما هو أهمّ وأعظم، وفي القرآن الكريم: «وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» (النمل: 22).

بل إن للحروف والحركات والهيئات اعتبارات خاصّة في الدلالة على المقصود، ولا تكاد تجد لذلك نظيرًا في لغة أخرى، وهو ما أشار إليه ابن خلدون في مقدّمته، إذ يقول: “وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد؛ لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تُعَيِّن الفاعلَ من المفعولِ من المجرورِ أعني المضاف، ومثل الحروف التي تُفضِي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى، و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب، و أما غيرها من اللّغات فكلّ معنى أو حال لابدَّ له من ألفاظ تخصه بالدلالة؛ و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب، وهذا هو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: “أوتيت جوامع الكلّم واختصر لي الكلام اختصارًا”، فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت، أي الأوضاع، اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها، إنّما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا”، فاصطفاء الله -سبحانه وتعالى- للّغة العربيّة لتكون وعاءً لمعانيه التي فيها صلاح أمر الخلق دُنيا ودِينا، معاشًا ومعادًا، إنما هو دليل ظاهر وأمارة بيِّنة على جلال هذه اللّغة وجمالها في الوقتِ ذاته.

نزول القرآن وأوضاع اللّغة:

كان لتوقيت نزول القرآن الكريم خصوصيّة مع أوضاع اللّغة العربيّة، ذلك أن العرب في ذلك الوقت على جهة الخصوص كانوا قد بلغوا الذروة في الاستعمال اللّغوي، والتعرُّف على دقائقِ اللّغة، وفهم مغازيها، وأحسُّوا برهف سليقتهم أنهم بلغوا من التحضر البياني ما لم يبلغه أحدٌ من الناس، فصاروا يتبارون في فنون القول، ويتنافسون في ضروب الكلام نثرًا وشعرًا، ويتعاطون المعاني ويميزون غثَّها من سمينها، وأصبحوا خبراء في هذا الشأن، علماء بدقائقه، وقد حفظت لنا المدونة النقديّة ما يؤيد هذا التحضر اللّغوي، حيث أُقيمت المجالِس في الأسواق لتحكيم الشّعر، وتفضيل الكلام، فها هو النّابغة الذِّبيّاني كانت تضرب له قبّة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فيفصل بينهم، ويضع كلّ شعر في طبقته، مُبيّنًا أوجه الإجادة والقصور في الكلام… نعم لقد بلغ العرب في هذه الحِقبة من الزّمن مالم يبلغه غيرهم من النّاس في الإبانة عن المعاني جلّها ودقِّها، ظاهرها وخفيها، وأحدثوا تَقدمًا لغويًا قلما تجده في لغة أخرى، فاستبعدوا غريب الألفاظ ووحشيها، وأبقوا على مستعملها ولطيفها، واستنطقوا دلالات الحروف ومعانيها، وصرفوا القول تصريفًا، وعلموا مواضع التأنق في الكلام؛ ابتداءً وانتهاءً، كما علموا كيفية التنقل بين الأغراض، وميزوا بين الشعر المتماسك والكلام المتناسق، والشعر الذي يشبه بعر الكبش، والكلام الذي ليس له (عِناج) أي رابط وصلة! فقالوا فلان يقول البيت وأخيه، وفلان يقول البيت وابن عمه، يقولُ الجاحظ: “فحين حملوا حدّهم ووجّهوا قواهم لقول الشّعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللّغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النّسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرّف الأنواء، والبصر بالخيل والسّلاح وآلة الحرب، والحفظ لكلّ مسموع والاعتبار بكلّ محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كلّ أمنيّة”، هنا وفي تلك الحِقْبة المتفرِّدة على متنِ الدّهر في تاريخ اللّغات، نزل القرآن الكريم بلسانٍ عربيّ مُبين، فلما سمعه عقلاء القومِ منهم علموا علم اليقين أنْ لا سبيل إلى معارضته أو مباراته أو النَسج على مِنواله، وعجزت آلة تحضرهم (اللّسان) عن ذلك، فانقسم القوم آنذاك إلى فِرقتين، فِرقة أيدت هذا الحقُّ المُبِين، وآمنتُ بصفوةِ المُرسَلين، وسلَّمت لكلام ربِّ العالمين، بعدما أذعنوا لشاهد الفطرة التي فطر الله النّاس عليها.

وفِرقة تمادت في العناد، واستمرت في اللّداد، وعمدت إلى إنكار ما بَدَا من الحقّ في أسماعهم كبرًا ولجاجًا، وأعلنوا المعاداة، وشرعوا في تقلُّد آلة أخرى بديلاً عن اللّسان، فطاردوا بكلّ ما أُوتوا من قوّة هذا البيان الذي فَضح عجزهم، وأبان عن تقصيرهم، وحدّد سقف طُموحهم، وأنّه يعلو ولا يُعلَى عليه بشهاداتهم، والحقّ ما نطق به الأعداء.    

 أما غير العقلاء منهم فذهبوا إلى مُعارضتهِ بكلام سفههُ العامَّة منهم قبل الخاصّة، كما في أخبار سجاح ومسيلمة الكذاب، وغيرهما، وقد نقل الباقلاّني شيئًا من هذا الكلام ثمّ قال: “فأما كلام مسيلمة الكذاب، وما زعم أنه قرآن، فهو أخسُّ من أن نشتغل به، وأسخف من أن نفكر فيه، وإنّما نقلنا منه طرفًا ليَتعجّب القارئ، وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضلَّ، وعلى ركاكته قد أزلَّ، وميدان الجهل واسع!“.

قرأن كريم

القرآن وصيانة اللّغة العربيّة:

كان للقرآنِ الكريم بالغ الأثر في الحفاظ على اللّغة العربيّة من الضياع والانهيار الذي طال كثيرًا من اللّغات، فأضعفها من بَعدِ قوّة، وأدى إلى اندثار معالمها، ومحو آثارها، وذلك لأن هذه اللّغات لم يتهيأ لها من العوامل ما تهيأ للّغة العربيّة بنزول القرآن الكريم بها، ومن أهم هذه العوامل:

أولاً: حفظ اللّغة من اللّحن:

بعد أن استقرت دولة المسلمين، واتسعت رقعتها، واختلط العرب بغيرهم، ودخل الأعاجم في دين الله أفواجًا، واتّصل العرب بالأمم المجاورة، فشا اللّحن وانتشر وأحسَّ العربُ بهذا الخطر الداهم، إذ كان كلامهم فصيحًا خاليًا من اللّحن والخطأ، مستقيمًا في أساليبه منسجمًا في تراكيبه، وبدأ اللحن خفيفًا على ألسنة العامَّة خصوصًا الموالي، ثم سرعان ما شاع وانتشر حتى جرى على ألسنة الخاصّة، ثم بدأ يتسرّب إلى قراءة القرآن الكريم، فكانت الحاجة إلى تقويم اللّسان، ومقاومة اللّحن الذي أصاب اللّغة، فانتفض البلغاء والفصحاء الباقين على العهد الأوّل بلغتهم، وأخذوا يُقوِّمون ما استطاعوا حتى أُلِّفتْ المؤلفات التي تناولت هذه القضية نحو: كتاب: ما تلحن فيه العامّة للكسائي، وكتاب: ما يلحن فيه العامّة لأبي عبيدة معمر بن المثنى، وكتاب التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة بن الحسن الأصفهاني، وكتاب: تمام فصيح الكلام لأحمد بن فارس، وكتاب: تثقيف اللّسان وتلقيح الجنان لابن مكي الصقلي، وغيرها.

ثانيًا: اكتساب اللّغة العربيّة مهارات جديدة:

أفاد القرآن الكريم اللّغة العربيّة مهاراتٍ جديدة لم تكن معروفة قبل نزوله، فعلم التجويد والوقف والابتداء من العلوم التي نشأت خدمة لسلامة نطقِ ألفاظ القرآن، وتصحيح مخارج الحروف، والتدقيق في الابتداء بالمعاني والوقف عليها، وانعكس ذلك على اللّغة تجويدًا وإتقانًا لمخارج حروفها، وسلامة منطقها، بل امتدت هذه المهارات إلى الشّعر، فعرف أهل العِلم بالمعاني الوقف والابتداء في الشّعر!

 كما أن القرآن الكريم أفاد اللّغة العربيّة تهذيبًا في الألفاظ، وعلوا في التراكيب، فازدادت مهارات الكُتَّاب بما استثمروه من محاكاة هذا الأسلوب العليّ، والاقتباس من ألفاظه، ومعانيه، كما كان سببًا في استحداث أغراض جديدة في فنون القول، فنشأ المديح الإلهي والمديح النبوي، وتحدّث الشُّعراء عن حتمية الموت والحياة بفلسفة جديدة مستمدة من روح القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، كما ظهر فنّ الزّهد، وتأسست معالم شعريته، وازدان الكلام بالحكم والمواعظ الربانية، كما أمدهم القرآن بأحسنِ الأمثال وأروع التشبيهات والاستعارات والكنايات، ولازال عطاؤه مستمًرا حتى تجفّ الأقلام وتُرفع الصّحف.

 ثالثًا: كان القرآن سببًا في تأليف كثير من العلوم الشرعيّة والعربيّة كالنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع، وإعجاز القرآن وبلاغته، وكتب تفسير الغريب، وتأويل مشكل لفظه، والأشباه والنظائر، وتأثرت العلوم الأدبية بتلك العلوم المتعلقة بالقرآن، فألفوا في الأشباه والنظائر في الشعر، وفي غريب الشعر ومستعمله، وفي المعاني المختارة منه، كما نشأت العلوم التي تستمد من لغة القرآن مادّتها ومنهجها نحو أصول الفقه والتفسير، والقراءات وغيرها.

القرإن الكريم

رابعًا: حافظ القرآن على التّواصل المعرفي بين الأجيال:

فهذا وعد الله سبحانه الذي لا يتبدّل ولا يتحوّل: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»[سورة الحجر: 9]، فكان حفظُ القرآن لازمًا لحفظ اللّغة التي نزل بها، وكان من أثر هذا الحفظ استمرار الاتصال المعرفي بين الأجيال اللاحقة والأجيال السابقة، في فهم ألفاظ اللّغة وتراكيبها، وفنونها، فسهَّل عملية التعرّف على لغة القدماء، بحيث إذا قرأ الجيل الحالي معاني الشّعر القديم لم يُعْيه فهم هذه المعاني إلا في بعضِ الألفاظ الغريبة، وقد سهلت المعاجم -التي استمدت كثيرًا من معين القرآن الكريم مادتها- هذا الأمر.

خامسًا: أسهم القرآن في انتشار اللّغة في البلدان غير العربيّة، إذ لابدّ للمسلّم عربيًا كان أو أعجميًا أن يتلوَ القرآن باللّغة العربيّة في صلاته، وتلاوته حفظًا وتعبدًا، “ذاك لأنَّا لم نتعبد بتلاوته وحفظه، والقيام بأداء لفظه على النحو الذي أنزل عليه، وحراسته من أن يغير ويبدل، إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر، تُعرف في كلّ زمان، ويُتوصل إليها في كلّ أَوان، ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السلف، ويأثرها الثاني عن الأول، فمَنْ حالَ بيننا وبين ما له كان حفظُنا إياه، واجتهادُنا في أنْ نؤدِّيَه ونرعاه، كان كمن رام أن يُنسِينَاه جملةً ويُذْهبَه من قلوبنا دفعةً”، الأمر الذي دعا كثيرًا من البلدان إلى ابتعاث أبنائها إلى الدول العربية لتعلُّمِ علومها، ثم العودة لتدريس هذه العلوم في مدارسهم وجامعاتهم، مما أدى إلى التبادل المعرفي والثقافي بين الدول، وزاد من انتشار اللّغة العربيّة، وازداد عدد الناطقين بها من غير العرب، تفهمًا لمقاصد الشّريعة، إذ لابدّ من تعلم العربيّة لفهم هذه المقاصد فهمًا صحيحًا يستقيم مع مؤداها.

سادسًا: التصدّي لعوامل انهيار اللّغة الفصحى:

ظهرت كثير من الدعوات تنادي بإحلال اللّهجات العاميّة واللّغات المحلّيَّة محلَّ اللّغة الفصحى، بحججٍ واهية، وبَراهين مُتهالكة، من نحو الدعوة إلى تقريب المفاهيم والمصطلحات التراثية من الأجيال الحديثة، والعناية بنقل أكبر قدر من العلوم والمعارف إلى الجيل الحالي، ولا يخفى ما وراء هذه النداءات من حملات ممنهجة تهدف إلى النيل من اللّغة العربيّة، وتستهدف إضعافها، ولكنها سرعان ما تبوء بالفشل والخيبة والخسران، وذلك لأنّ القرآن الكريم وقف حصنًا منيعًا ضد تمييع اللّغة بأي وجه من الوجوه، لأنّ هذه الدعوات تتناقض مع منهجه القويم المتمثل في قوله تعالى:« وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ» [سورة القمر: 17]، ويقول الشيخ حمود شاكر عن هذه الحملات الشعواء محذِّرًا الأمة الإسلامية من التفريط أو التهاون في شأنها: “والصراع الدائر اليوم بين الثقافة العربية الإسلامية التي نحن ورثتها وبين الثقافة الغربية المسيحية قد جمع أكبر همته في ميدان اللّغة لأنّه يعرف هذه الحقيقة التي بينتها، فبدأ دعوة هذه الأمم العربيّة المتفرقة إلى اتخاذ العاميّة الإقليمية لغة سائدة في كل إقليم عربيّ لكي يحطم هذا الأصل الحامل لثقافتنا وديننا، وليزيد في تمزيق حياتنا وتدميرها، وبلغ دعاته بعض مأربهم”.

كانت هذه أهمُ العوامل التي ضَمِنت للّغة العربيّة البقاء والخلود والتصدّي لعوادي الزّمن، ومواجهة الهجمات الشرسة التي تعرّضت وتَتَعرّض لها، فضلاً عن الأحداث التي أدّت إلى تشتيت الدولة الإسلاميّة، بعد امتدادها واتِّساع رُقعتها وقوّة سلطانها، والتي لو تهيأت لأيِّ لغة من اللّغات لكانت أقوَى أسباب ضعفها واندِثارها، ولكن اللّغة العربيّة مرعيَّةٌ بوعد الله وبكلامه الباقِي، فلهُ الحمدُ والمِنّةُ على جليل هذه النّعمةُ، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السّبيل.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

القرآن الكريم وخلود اللُّغة العربيَّة قراءة المزيد »

الخطأ مكوّن معرفي

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

التخصص كمدير يحرمك الترقية

              إننا مدينون للأخطاء البصيرة التي تصلنا للعلم والمعرفة

الكاتب

إن صناعة العلم والمعرفة لا ترتقي إلا على سلم من الأخطاء، فالإنسان كائن مخطئ، والأخطاء جزء رئيس من تكوين العقلية النافذة إلى أعماق المعرفة، لا سيّما أن جل المعارف والعلوم تدين للخطأ البصير الذي يقودها إلى جسور الصواب، إن الوصول إلى الماء الكامن في قعر البئر لا يكون إلا بحدوث الغبار والاستغناء عن كثير من التراب وهكذا المعرفة، إذ إن استنتاج النظريات وتقعيد العلوم وإنتاج المعارف والإبداع في الفنون وتجريد المعاني فلسفيا ليس بمنأى عن المغالطات العقلية أو المنطقية التي قد تكون هي سبيل للارتقاء في المعرفة.

وفي هذا المقال إبراز وبيان للخطأ الذي أحد وجوهه المغالطات المنطقية التي يكون فيها الخطأ عن طريق حركة العقل في رصد الفكرة، وليس البناء الداخلي للفكرة أو القضية المتناولة، فالمقال لا يركز كثيرا على خلل بعض القواعد والنظريات بقدر ما يرصد منطق العقل ويتعقب خطواته في النظر للمسائل التي يقررها، بيد أن وجود هذه المغالطات لا يعد عيبا في كل سياق؛ فالإنسان كائن أهوائي لا يستطيع أن ينفك انفكاكا تاما من انحيازاته الإدراكية والمعرفية، لا سيّما إذا كان التأمل والنظر يدور في فلك العلوم الإنسانية، فالعلوم الإنسانية لا تحكمها القوانين الرياضية، أو العلوم الطبيعية؛ لصعوبة الإحاطة بالظواهر الإنسانية فهي مجال خصب لوقوع المغالطات؛ كون العلوم الإنسانية مؤطرة بتحيزاتها الحضارية والثقافية والاجتماعية، وهي داعية إلى أن يتلبس الباحث بنسقها دون شعور منه.

تعرف المغالطات بأنها الاستدلالات الخاطئة لإثبات فكرة ما أو دحضها، إذ إن المغالطة تكمن في طريقة الاستدلالات التي تتمظهر برداء الاستدلال الصحيح، وتشترك هذه المغالطات مع الانحيازات الإدراكية للعقل وتتداخل معها، فالانحياز هو ميل العقل بطريقة معينة في التفكير واتخاذ نمط إدراكي محدد يقولب النظر إلى القضايا والأفكار بطريقة انحيازية غير موضوعية، وبذلك يفترق الانحياز الإدراكي عن المغالطة – من حيث التعريف – بأنه نمط مغلوط في التفكير، بينما المغالطة – وهو موضع اهتمامنا في هذا المقال – نمط مغلوط في الاستدلال على الفكرة المراد تقريرها، فكل انحياز في التفكير قد ينتج مغالطة إذ هو الدائرة الأعم والأشمل. وسأسوق في هذا المقال أربع مغالطات مع التمثيل لها لبيان الفكرة.

الخطأ مكةن معرفي

مغالطة الاحتكام إلى الزمان:

تسمى هذه المغالطة في كتب المغالطات (الاحتكام إلى القدم والحداثة) وقد آثرت هذه التسمية؛ لتعم المغالطتين وإيضاح أن الحكم في هذه المغالطة يستند إلى الزمن إما كليا أو إلى حد كبير، فالاحتكام إلى القدم مغالطة تقوم على فكرة أن كل ما هو قديم فهو صحيح، وأن مرور الزمن على تلك الأفكار ضامن على أنها الأفضل. والإنسان بطبعه يميل إلى المألوف ويرتاح ويأنس له، ومن هنا من لم يتنبه إلى هذه المغالطة فقد يقع فيها؛ كونها تميل إلى الشائع المألوف عبر الأزمان، وتقويم قضية عاشت ردحا من الزمن ومراجعتها يحتاج إلى شجاعة وفطنة. ومن الأمثلة التي أوردها هنا قضية تفضيل الشعر القديم (الجاهلي) على الشعر الذي جاء في العصور التي تليه، إذ أن هناك من فضل الشعر الجاهلي لأقدميته، وقد تنبه بعض النقاد إلى هذه المغالطة، منهم ابن قتيبة حيث يرد على هذه المغالطة بقوله: “فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيّره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأي قائله”. ولو كان علة المفضِل للقديم على الحديث الحرص على اللغة والشاهد النحوي، إلا أن القديم ليس مقدما لذاته وكذلك الحديث، إنما الذي ينبغي أن يصدر الحكم على القول نفسه دون زمانه، وإن كان الشعر الجاهلي أجود فصاحة إلا أن فيما بعده فيه فصاحة ولو خلت منه بعض النصوص. ويقابل هذه المغالطة مغالطة الاحتكام إلى الحديث؛ لحداثة زمانه.

مغالطة الاحتكام إلى الألفاظ:

يطلق على هذه المغالطة مغالطة (المظهر فوق الجوهر) والتي تعني الاحتكام بجودة النصوص على الألفاظ وزخرفها دون المضمون، وقد آثرت تسميتها بالاحتكام إلى الألفاظ؛ كونها مختصة بالنصوص المكتوبة، وتنميقها اللغوي القائم على التصوير البياني والتحسين البديعي من سجع وجناس وترصيع و …، والإنسان بطبعه يميل إلى سلطة الشكل؛ كونها أول ما تهاجم حواسه قبل عقله وتفكيره، وترك فجوة بين الحواس والعقل يقعنا في تصورات مغلوطة منها هذه المغالطة. من الأمثلة النظرية على وقوع مغالطة الاحتكام إلى الألفاظ قول أبي هلال العسكري: “وليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدّمت.” ومن المحال الأخذ بهذا التصور إذ المعاني منها الشريفة ليست المبتذلة، ومنها دون ذلك كما الألفاظ. ومن الأمثلة التطبيقية التي أسوقها هنا قول امرئ القيس في وصف شعر محبوبته:      

                             غدائره مستشزرات إلى العلا             تضل العِقاص في مثنّى ومرسل

أراد امرؤ القيس هنا أن يصف تبعثر شعر محبوبته فوقع على كلمة (مستشزرات) وقد عاب بعض البلاغيين هذه اللفظة على امرئ القيس؛ لثقلها عند النطق، فخلت عندهم بشرط الفصاحة، وهم محقون بثقل اللفظة لتقارب مخارج حروفها، إلا أننا حين نتأمل هذه اللفظة ونربطها بالمعنى الذي أراده الشاعر من طول شعر محبوبته وكثافته وتداخله نلحظ أنه أصاب المعنى؛ بأن لاءم وآخى بين اللفظ والمعنى، ألا يدل تقارب خصلات الشعر وشدة تداخله مع بعضه بتقارب مخارج حروف الكلمة؟!

الخطأ مكون معرفي

مغالطة الحصر:

تسمى هذه المغالطة في كتب المنطق (مغالطة التقسيم المخطئ أو مغالطة البدائل المخطئة) وتعني أن يفترض وجود خيارين أو ثلاثة أو عددا محددا يقيّد الأفكار مما يخرج غيرها منها. وقد آثرت تسميتها بالحصر؛ اتساقا مع المثال المسوق، من ذلك ما أورده الدكتور شفيع السيد من نقد على تقسيم البلاغيين لأضرب الخبر حسب الحالة الذهنية للمخاطب في ثلاثة أمور: خالي الذهن، والمتردد، والمنكر، فالأول لا يؤكد له، والثاني يؤكد بمؤكد واحد، والثالث بأكثر من مؤكد، ثم يوضح أن هذا الحصر يخرج كثيرا من الأساليب عن هذه القسمة، فليس كل ما اقترن بأداة التوكيد يكون موجها لمخاطب شاك، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}الكوثر: ١.

مغالطة التعميم:

يقول جوردور أولبورت: “ما نكاد نتلقى حبّة من الوقائع حتى نشيّد منها قبة من التعميمات” ومعنى هذه المغالطة وجود نتيجة معينة لمجموعة من العوامل اجتمعت في سياق ما ثم نعممها على جميع السياقات، وهي أشبه ما تكون بالاستقراء الناقص، وكشف هذه المغالطة ينبه إلى ضرورة الاستقراء الواعي. من الأمثلة التي توضح هذه المغالطة ما قُرر عند البلاغيين في قواعد الفصل بين الجمل موطن (شبة كمال الاتصال) وهو الذي تنزل فيه الجملة الثانية منزلة الجواب من الأولى فيفصل بينهما كما يفصل بين الجواب والسؤال، وقد تداول البلاغيون هذه القاعدة أنها من المسلمات، إلا إن الدكتور محمد الأمين الخضري بيّن أن هذه القاعدة لا تتوافق مع كل السياقات، فقد يجيء (شبه كمال الاتصال) بالوصل لا بالفصل، كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ(36)وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)القصص: ٣٦ – ٣٧، والشاهد قوله تعالى : (وَقَالَ مُوسَىٰ) يقول المؤلف: فاعتبار الفصل مراعى فيه استشراف السامع وتطلعه إلى جواب موسى، والعطف قدح لزناد الفكر، واستدراج إلى حسن التأمل، ودعوة إلى التدبر، والموازنة بين المتناقضين مستثمراً استشراقه وتيقظه لمعرفة الجواب في توجيهه إلى غرض لا يكفي بمجرد الجواب، بل ليقف موقف الناقد المتأمل ليوازن بين الحق والباطل. وأحسب أن الاستشراف والتساؤل لا يضيع مع الواو، بل يمضي صاعداً على طريق الاستئناف إلى درجة التأمل في الجواب والمقارنة بينه وبين ما أثار السؤال.

إن سوق هذه المغالطات لا تخلو من الانحيازات المعرفية التي قد تتخفى فيها بعض الدوافع الشخصية أو الحضارية أو القومية أو الاقتصادية أو الفنية، إلا أن المقصود في هذه الأمثلة والمراد الوصول إليه أن الخطأ طبيعة بشرية، وأنه كامن في كيونية المعرفة والعلم، وأن هذه الأخطاء طريق مؤسس للعلم، وطريق من طرق نقده وتطويره، إذ بالأخطاء يوضح الصواب أكثر ويبين، وبسياسة الأخطاء يعرف العالم من الجاهل.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الخطأ مكوّن معرفي قراءة المزيد »

البلاغة المغيّبة في الدرس البلاغي

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-pixabay-159833

إن علم البلاغة علم قرآني؛ كونه تفسيرا واستنباطا وتدبرا للنص القرآني، فجميع علوم اللغة منطوية في ظله، تحت ظلال المعاني القرآنية، تسير حيث سار المعنى دون الخضوع إلى سطوة القواعد والأحكام المسبقة. والبلاغة القرآنية متحررة من النقد، فكرها خالص لتذوق الأسرار والنكات التي تُستقى من عطاءات النظر والتدبر.
تمثل البلاغة القرآنية أرفع صور البلاغة الكونية، وأعمقها معنىً وأغزرها فائدة، ولما كان لهذه البلاغة المنزلة الرفيعة التي تفارق بها بلاغة اللسان الإنساني، جاءت الدراسات البلاغية -في أغلب أحوالها- جامعة للظواهر البلاغية بينهما، ولم نقف في الدراسات البلاغية على فوارق تبيّن البون الشاسع بين البلاغة العربية والقرآنية، والتي على أساسها نحظى بمقاربة الأسس المنهجية للبلاغة القرآنية.

وحتى ما جاء في كتب إعجاز النظم الكريم التي قد بدأ البحث فيها عن أسباب تفوق البلاغة القرآنية على بلاغة اللسان البشري، لم تصب تلك الفوارق على أساس ممنهج إلا شذرات، من ذلك ما جاء عند الخطابي بالأثر النفسي، ونقض العادة عند الرماني، وكذلك الباقلاني الذي سماه الخروج عن العادة، ونظم التراكيب عند الجرجاني، ونظم الترتيب عند البقاعي، ومبتكرات القرآن عند ابن عاشور، والسبيكة القرآنية عند الدكتور بسام ساعي، ومنهج الإقناع والمحاجة الحقة عند الدكتور محمود توفيق، وغير ذلك من الإشارات التي لم تُسق بصورة كلية، حيث كان أبرز المشتغلين بموضوع الإعجاز هم من علماء الكلام المعتزلة والأشاعرة الذي كان من أبرز أهدافهم التصدي للرد على الطاعنين في القرآن، ومن المعلوم أن مبحث معجزات الأنبياء وإثبات دلائل النبوة هو واحد من الموضوعات التي اشتغل بها علم الكلام فصبغت مناهجهم بالمنهج العقلي القائم على الاستدلال والاحتجاج مما اعترى الدرس البلاغي بعض القصور الذي لم يتأتّى معه استشراف الأسرار البلاغية في النظم الكريم المفارقة لبلاغة اللسان، ولعل هذا ما ساق إلى تكرار الأمثلة وتضخم المصطلحات، وإشكالات بعض التسميات -لا في حقيقتها- التي لا يصح إطلاقها على النظم الكريم. ونلامس كذلك هذه الظاهرة – ظاهرة الدراسة أو التأسيس من خلال النقد والرد – في عصرنا حين كتب الدكتور يوسف العليوي كتابه الفذ (الأسس المنهجية لدراسة البلاغة القرآنية) فقد خصص فصولا عن أثر المناهج الحديثة في دراسة البلاغة القرآنية وبيّن مظاهر انحرافها عن أصول الشرع واللغة في أسسها ومعالجتها.

وعلى هذا يمكننا القول إن جل الدراسات التي تناولت علم البلاغة سواء عن طريق قضية الإعجاز القرآني، أو الفنون البلاغية التي توسلت بالنص الشعري -في غالب معالجاتها- لم تستوعب مسائل البلاغة القرآنية وقضاياها، بل إن جل القواعد البلاغية في أبوابها الثلاث (المعاني والبيان والبديع) وضعت في غيبة من النظم الكريم، فجاءت كل ظاهرة بلاغية مثبتة نفسها وفروعها من دواوين الشعر دون توجيه سهام النظر في الأساس إلى البلاغة القرآنية، وإن وجدت الشواهد القرآنية فهي لا تمثل إلا القليل من تلك الاستشهادات الشعرية، حتى إذا عرضنا تلك القاعدة البلاغية على النظم القرآني وجدناها مهتزة غير ثابتة؛ وما ذلك إلا لخصوصية بلاغة النظم الكريم، واتساع السياق القرآني من أسباب النزول، وملابسات السورة، وخصائصها، والقرآن المكي والمدني، وغياب هذا التصور أو التداخل اللصيق مع علم البلاغة من علوم القرآن وعلم الأصول حتما يقود إلى إخضاع النص القرآني لتلك القاعدة البلاغية دون التفطن إلى صعوبة حصر وتقنين الأساليب البلاغية للقرآن الكريم.

إن التأمل في سير البلاغة يهدينا إلى أسباب ذلك؛ حيث سارت البلاغة في مسارين: المسار الأول: هو المسار التطبيقي أو الأدبي الذي بدأ تقريبا من سيبويه وهو من اللغويين، والجاحظ وهو من الأدباء، والخطابي وهو من علماء الإعجاز، ومن شاكلهم، ثم تبلور على يد عبد القاهر الجرجاني الذي صوّب الفكر نحو الكشف عن مناحي الجمال في النظم القرآني، فقد جمع مادته ومباحثه المتناثرة من كتب المتقدمين كما في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فعالج ظواهر بلاغية في القرآن ومثّل لها وأبان عن وجهها، وبذلك فتح الطريق لجار الله الزمخشري في تفسيره (الكشاف) الذي طبق ما في الدلائل والأسرار مضيفا لذلك أصولا بلاغية جديدة فاتسم تفسيره برحابة توظيف القواعد والظواهر الأسلوبية مع مراعاة سياقي المقال والمقام.

وأما المسار الثاني: فهو المسار النظري الذي اهتم بتجريد القواعد البلاغية والظواهر الأسلوبية في كلام العرب كما ظهر عند الرازي في (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) و(مفتاح العلوم) للسكاكي، و(الإيضاح) للخطيب القزويني، ولا يخفى التأثر بمعطيات الفلسفة والمنطق في هذا المسار، ومن ذلك ما جاء عند المناطقة في الدلالة اللفظية الوضعية، وهو نفسه ما كرّس في فاتحة علم البيان من أن دلالة اللفظ على معناه تكون بأقسام الدلالة اللفظية الوضعية، وهي إما دلالة المطابقة أو دلالة الالتزام، أو دلالة التضمن، وعلى وازنه ما في كتب المنطق من الانتقال من البسيط إلى المركب، وهو ما نشاهده جليا في مقدمة كتب البلاغيين في حديثهم عن الفصاحة وهي لا تتعلق إلا بالمفردة، ثم علم المعاني الذي بدأ الإسناد وختم بالفصل والوصل بين الجمل، وأجلى من ذلك قسمة السكاكي لكتابه (المفتاح) حين بدأ بعلم الصرف الذي يهتم بالمفردة، ثم النحو الذي يهتم بالجملة، ثم البلاغة. ووجه آخر من التأثير هو تقسيم الغرض من الخبر: الفائدة، ولازم الفائدة، وهي قسمة قائمة على منطق العقل، ومثلها القسمة العقلية لأضرب الخبر القائمة على ذهنية المخاطب: الخالي ذهنه من الحكم، أو المتردد، أو المنكر، وكذلك تعريفهم للأسلوب الخبر وهو ما احتمل الصدق أو الكذب وهل الصدق مطابقة مدلول الكلام للواقع الخارجي، وقس على ذلك التقسيمات الكثيرة في علوم البلاغة الذي ذهبت إلى تجزئتها كما في الاستعارة والجناس وهلم جرا. وما سقت ذلك؛ إلا لأن هذا المسار اتكأ على الفلسفة وقواعد المنطق و(تركيب المعاني) عليها، وقصدا عدلتُ من لفظ تركيب البلاغة إلى تركيب المعاني؛ كون البلاغة في أصلها تأبى ذلك؛ إذ إن الأصل في الفكر البلاغي أن يبدأ من المعاني انتهاء إلى القاعدة التي لا تكون كلية بطبيعة حالها، بل نسبية؛ كون المعاني لا تنحصر، وكون الفكر البلاغي مفارق للفكر الصرفي والنحوي من حيث تتبع المعاني وتشعبها.

البلاغة المغيّبة في الدرس البلاغي1

إن وظيفة البلاغة هي الوقوف على أسرار الكلام المنظوم، وإدراك مطابقته لمقتضى الحال، ولا يكون ذلك إلا بالمكنة من علوم اللغة والذوق الواعي المدرب على أساليب الكلام العالي، إلا أن هناك من يقول: “إن وظيفة البلاغة تتبع سمات الكلام البليغ والنسج على منواله”. وهذا الوجه يحتاج إلى تصويب وإيضاح، حيث يقصد به أنه محاكاة للأساليب البليغة والنسج على منوالها حتى يتحرر أسلوب الناظم، وهذا هدف وليس وظيفة، إضافة إلى أن تتبع بلاغة القول لا يقوم به إلا من لديه المكنة من إدراك أسرار المنظوم، ولا تدرك الأسرار إلا بتحصيل قدر كاف من النحو والصرف والدلالة والأدب، فتكون هذه المعرفة هي الزاد الأساس إلى حسن نظم الكلام ورصفه، ثم تأتي البلاغة في مرحلة تالية؛ كونها ثمرة العكوف على دراسة علوم اللغة، ولذلك من رام أن يصنع كلاما بليغا فعليه بالمحاكاة ثم التفقه في علوم اللغة، أما البلاغة فهي ممزوجة بالنقد القائم على محاكمة الأساليب والتراكيب الموصلة إلى معرفة مدى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهذا النهج الذي يُعنى بمعرفة طبقات الكلام وعلل تفاضل الأقوال هو الطريق والغاية في آن إلى البلاغة، أما البلاغة القرآنية فإن الحس النقدي بوصفه أداة فاعلة في نظم اللسان يكون زادا لتحصيل أسرار النظم القرآني من حيث إنه منطويٌ في عقل دارس البلاغة القرآنية، وبعبارة أخرى، مقاربة إعجاز النظم القرآني لا يثبت بتفاضله على نصوص أخرى كما هو دور الناقد في بلاغة اللسان، إنما بالسير خلف المعاني القرآنية وكيفية مطابقتها لمقتضى الحال مع مراعاة سياقي المقال والمقام. وعلى ما تقدم يمكن القول: إن المسار التقعيدي الذي انطلق من القالب المنطقي تختلف أهدافه ورؤاه ووظائفه عن المسار الأول.


ولذلك من رام أن يظفر بالبلاغة على وجهها النقي والواسع يجدها ماثلة في كتب التفاسير البلاغية؛ كون الاشتغال البلاغي في تفسير النص القرآني لم يكن متوسلا باللغة وحدها، بل اتسع هذا الاشتغال في التفسير من الوقوف على السياق المقالي المتمثل في البنية اللغوية للنصوص إلى السياق المقامي الذي ينفتح مع علوم القرآن وعلم الأصول وعلم العقيدة، مما أسهم ذلك البحث البيني من ضيق النظر في العبارة إلى سعة النظر وانفتاح التوجيه الموسِّع للبلاغة العربية.

والناظر في تعاطي الدرس البلاغي في أوساطنا الأكاديمية يجد أنه لم يبرح البلاغة التعليمية أو الجزئية التي تخطتها البلاغة القرآنية وفُتحت آفاقها كما هي عند المفسرين، وأن الوعي الفردي لا يكفي لتخطي هذا الإشكال، فلا بد من إشعال هذا الإشكال أولا والشعور به لتتحرك على إثره المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية انطلاقا من أن الكلام البليغ لا يحكمه إطار قاعدي، وقوالب مُعدة، وهذا من أسس التفكير البلاغي؛ وبيانه أن المعنى يتحرك أنّى شاء وفق تحقيق غايته المنشودة المطابقة للمقام والمقتضى، ثم بعد ذلك نفسره وفق القاعدة المرام ملاحظتها لا تقريرها وتعميمها على كل تركيب مشابه، وعلى ذلك تتم مراجعة هذا التراث واستثماره وتقديم قراءة عميقة تبرز لنا البلاغة العربية بصورة أجلى وأكمل.
وقد لامس هذا الإشكال عدد من العلماء والدارسين وقُدّم في صور متعددة، منها ما ورد عن علاقة البلاغة بعلم الأصول يقول السبكي في شرحه للتلخيص: “اعلم أن علمي الأصول الفقه والمعاني في غاية التداخل، فإن الخبر والإنشاء اللذين يتكلم فيهما المعاني هما موضوع غالب الأصول، وإن كل ما يتكلم عنه الأصولي من كون الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، ومسائل الإخبار، والعموم والمخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والتفصيل، والتراجيح كلها ترجع إلى موضوع علم المعاني، وليس في أصول الفقه ما ينفرد به كلام الشارع عن غيره إلا الحكم الشرعي والقياس وأشياء يسيرة”. والحق أن هذه الكلمة من الكلام العالي.

ومن تداخل البلاغة بعلوم القرآن وأهمية التفقه في علوم القرآن وأن ذلك يعد دراسة للبلاغة والأسلوب، ما نبه عليه الدكتور محمد أبو موسى في كتابه (مراجعات في أصول الدرس البلاغي) عن أهمية كتاب الزركشي (البرهان في علوم القرآن) فيقول: ” وكان الزركشي بعيد الغور في حسه ببلاغة القرآن وسر إعجازه، وكان معانا وهو يكتب هذا الكتاب، وقد ظلمنا العلم بإغفال هذه الكتاب وأضعنا جانبا من علم البلاغة والأدب بهذا الإغفال الذي لا مبرر له”. وفي الدائرة نفسها في (البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية) ينبه إلى نجاعة فكرة نسخ القرآن ونقلها إلى الحقل الأدبي، فيقول: “هذا أصل يجب أن نقدمه بين يدي الفكرة التي نريد تأكيدها وهي ضرورة انتفاع الدراسة الأدبية بما في علوم القرآن، لأنها في جملتها قائمة على اللغة والشعر. ولو تصورت أنني نقلت موضوع النسخ من حقل الدراسات القرآنية إلى حقل دراسة الأدب فكيف أراه؟”.

وهذا الطاهر بن عاشور يسطّر في مقدمة تفسيره (التحرير والتنوير) الأساليب التي ابتكرها القرآن الكريم سماها مبتكرات القرآن، يقول عنها: “وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب؛ فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون، وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه؛ إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة، ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام”.

وفي الدراسة الجريئة التي قدمها الدكتور بسام ساعي (المعجزة؛ إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم) وقف على بعض ظواهر التجديد في لغة القرآن التي يفترق بها عن كل منظوم، وهو ما بينه في مصطلح (السبيكة القرآنية) ويقصد بها التراكيب البيانية والعلاقات اللغوية أو النحوية التي لم تعرفها اللغة العربية، وحرص في هذا السياق ألا تتجاوز الأمثلة التي أوردها ثلاث كلمات وهي ما أسماها الوحدة اللغوية الصغرى، ومن الأمثلة التي أوردها ووضع بإزائها تعبيراتنا البشرية؛ ليبين لنا المفارقة، ما جاء تحت عنوان: (التراكيب والتعبيرات القرآنية):
قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ البقرة: ٢٤٥، من الذي.
قوله تعالى: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ البقرة: ٢٤٦، هل ينتظر منكم.
قوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِذْ﴾ آل عمران:8، بعد أن.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا﴾ الأنعام:112، وهكذا جعلنا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ﴾ هود: ٨٧، لا شك أنك.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ هود: ١١١، وكل واحد منهم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ﴾ يوسف: ٨٠، وقد فرطتم قبل ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا﴾ الفرقان: ٤٢، كاد أن يضلنا.

وهو بهذه الأمثلة يشير إلى أن هذه التراكيب لم تعرفها العربية، وأنها بعيدة عن استعمالاتنا البشرية، ومع ذلك فقد نجد أن مثل هذا التراكيب انسابت في لغتنا، وما يزال الكثير من التراكيب القرآنية مرشحا للدخول إلى لغتنا، وهي من المواطن التي ينبغي جمعها ودراستها.

البلاغة المغيّبة

ولعل سائلا يسأل: ما موقع السبيكة القرآنية عما في نظرية النظم؟ وقد حاولت أن أستنتج فروقا أصوغها في الجدول التالي مع العلم بأنها نسبية أكثر من كونها حدود صارمة:

نظرية النظم

السبيكة القرآنية

صيغت على شكل منظومة من المفاهيم والعلاقات التي تقدم تفسيراً منطقياً منهجياً فارتقت إلى النظرية

صيغت على شكل مفهوم محدد وفق السياق التي جاءت فيه (التجديد في لغة الوحي)

تنظر إلى طريقة تركيب الكلام

تنظر إلى طريقة سمت الكلام

صفات النظم تشرك الآيات القرآنية بغيرها من النصوص

لها تميزها وتفردها بما استجد من خصائص لغوية جديدة

النظم يُدرك من المتخصص والعارف باللغة

السبيكة تُدرك من ليس له أدنى مهارة باللغة

النظم يصلك إلى التفسير والتحليل

السبيكة تصلك إلى الأثر

ومن الدراسات التطبيقية التي نوهت بالمفارقة بين البلاغة اللسانية والقرآنية – في أهم مبحث من مباحث علم المعاني وهو الفصل والوصل – الدراسة التي قام بها الدكتور محمد الأمين الخضري التي جاءت بعنوان (الواو وموقعها في النظم القرآني) حيث بيّن أن قواعد باب الفصل والوصل وضعت في غيبة عن القرآن الكريم، مما جعلها دراسة تفيد الناشئة والمتأدبين في طرائق التعبير لا استجلاء أسرار النظم القرآني. ومن استعرض هذا الكتاب لا يرده إلا التساؤل الآتي: لماذا لا يعاد النظر في أوساطنا التعليمية لدراسة قواعد الفصل والوصل كما استجلاها المؤلف من النص القرآني؟!

والشواهد كثيرة، إلا إني أقول: إن أبرز الملامح للبلاغة التفسيرية هي النظر للنصوص من داخل المعنى نفسه الذي بدوره يغذي الألفاظ والتراكيب بما يتلاءم مع السياقات والملابسات له، فلا تقام الأحكام البلاغية للجمل المنتظمة في تراكيب متنوعة لمجرد العدول أو الانزياح، أو حكما للألفاظ بمعناها المعجمي، أو الحكم بالفصاحة من عدمها لمجرد ثقل النطق أو تنافر الحروف بعيدا عن المعنى ومتطلب المقام، وهذا النظر هو الذي بدوره يقوّم الذوق الفني والأدبي وينميه، بخلاف ما يُرجى من البلاغة التعليمية التي أبلغ عطاء لها تزويد الدارس بالتعاريف والقوالب المعدة لإدخال الأساليب فيها، وهذا من شأنه أن يحد من عملية التأويل والاستنباط، كما أنه يربك تلقائية الفكر البلاغي، الذي يجنح إلى الفن أكثر من العلم؛ كون الفكر البلاغي ينطلق من الذوق لا التقييد بالقواعد، وهذا الذوق له شروطه التي من مقدمتها أن يكون الدارس على مكنة ودراية من علوم اللغة، وتصرف العرب بأساليب بيانها.

من خلال هذا الإشكال رأيت أن أعنون المقال بالبلاغة المغيَبة؛ تنبيها على ما تناثر عند ثلة من العلماء والباحثين والدارسين وأقدم مقالة تحفز الفكر البلاغي إلى مراجعة تراثه وتقويمه، واستثمار الكنز البلاغي الكامن في النص القرآني، وتزويد البلاغة بلطائف وأسرار ينفتح معها التوجيه إلى آفاق خصبة وميادين رحبة، وإذكاء ساحة الدرس البلاغي بمناقشة الجهود التي أطلقت عنان التفكير البلاغي المنضبط مع النص القرآني وحررت بعض مسائل البلاغة وأضافت بعض الأصول.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

البلاغة المغيّبة في الدرس البلاغي قراءة المزيد »

في مختصرات النحو ومُتُونه

Picture of د. أسامة بن عبدالرزاق شيراني
د. أسامة بن عبدالرزاق شيراني

دكتوراه من قسم اللغويات بالجامعة الإسلامية بالمدينة، ومعلم سابق لعلوم العربية بمعهد المسجد النبوي

– ننشر هذه المقالة ضمن برامج مبادرة إرث المتخصصة في تاريخ العلوم التراثية –

لعلَّ «عِلْمَ النَّحْوِ» أقدَمُ العلوم الإسلامية تصنيفًا وتأليفًا، وتكاد تُجْمِعُ الروايات العتيقة على أنَّ أبا الأسود الدؤليَّ أوَّلُ «من أَسَّسَ الْعَرَبيَّةَ وَفَتَحَ بَابَهَا وَأَنْهَجَ سَبِيلَهَا وَوضَعَ قِيَاسَهَا»[1]، من عِنْدِهِ أو بأمرٍ من عليِّ بْنِ أبي طالبٍ أو عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أو حَثٍّ من ابن عباس رضي الله عنهم أو حضٍّ من زياد بن أبيه[2]، والأكثرون على أنَّ ذلك في عهدِ عليٍّ رضي الله عنه، والزَّمانُ إذ ذاك غضّ، والناسُ لم يبلُغُوا بَعْدُ سنة أربعين من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقد كان من سِمَات التأليف فيه: وَضْعُ المختصرات والمُتُونِ الجامِعَة، و«الاختصار» تَرْكُ فُضُولِ الكَلام واستِيجازُ معانيه أو أخْذُ أوسَاطِه وتَرْكُ شُعَبِه[3]، ثم درج المتأخرون بعد المئة الثامنة -تقريبًا- على تسميتها «مُتُونًا» وتلقيب الْمُخْتَصِر بـ«الماتِنِ»[4]، و«المتن» في العربية القُدْمى: ما اشتدَّ من الأرض وارتَفَع، وفي ظَهْرِ الإنسان مُكْتَنَفُ صُلْبَهِ -لَحْمًا وعَصَبًا- يَمِينًا وشِمَالًا، وفي السَّهْمِ ما بين رِيشِه وَوَسَطِه، فالجامِعُ لمعانيه: الصَّلَابة[5].

واستعمَلَ لفظَ «المتن» -قبلَ ذلك بزمان- عُلَماءُ الحديث[6]، حين نظروا فيه «سنَدًا ومَتْنًا»، فالأول الطريقُ الموصل إليه، والثاني ما انتهى إليه الإسناد من الكلام، فكأنَّهم شبَّهُوه بمتن الأرض، فهو أعلى ما في الرِّوَايَة وأَجْلَاه، ولعلَّ المتأخِّرين استعاروا هذه الدلالة منهم لـ«المختصرات»، ونزَّلُوها منزلة الرواية، إذ هي غايةُ المتعلم، أو أنَّه غلب -على المختصرات- الروايةُ بالإسناد المتصل عن صاحبها، مع إيجازها وحُسْنِ سَبْكِها، فكان الشَّبَهُ بينهما.

والطبيعيُّ في نَشَاءَةِ العلوم أن تبتدئَ كُتُبُهَا مختصرَةً فمتوسِّطَةً فمُطَوَّلة، ثم يعود الناسُ للاختصار الجامعِ مقاصد المطوَّلات، وهذا ما نلْمَحُه من رواية أبي بكر الأنباري (328هـ) لقصة أبي الأسودِ في نقط المصحف، حين قال في آخرها: «فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع (المختصر) المنسوب إليه بعد ذلك»[7]، والناسُ مختلفُون في المختصَر أهو للنَّحْوِ أم للنقط.

وأقدَمُ ما بينَ يدينا اليوم في النَّحْو كتابُ سيبويه (180هـ)، إمام النحويين ورئيسهم، وهو سِفْرٌ من أعظَمِ أسفار الدُّنْيا، بيد أنَّ حاجاتِ أهل كُلِّ زمانٍ مختلفة، فأنشأ الناسُ يصنفون على ما يُشَاكِلُهم.

وكثيرٌ من الباحثين -اليوم- لا يحضُرُه من كُتُبِ النَّحْوِ سوى تصانيف المتأخرين، كألفية ابن مالك (672هـ) والآجرومية وكُتُبِ ابن هشام (761هـ)، مع أن مختصرات النَّحْوِ الجامعة أقدم من كلِّ هذه، وقد عُرِفَتْ في زمانٍ لم يضَعْ أهْلُه ما يُماثِلُها -في العلوم الأخرى- افتنانًا وإيجازًا، وأُحِبُّ أن أَلْفِتَ نَظَرَك -في هذه الكلمة- إلى أهمِّ ما وصلَ إلينا مطبوعًا منها -من القرن الثاني حتى أواخر العاشر الهجري-، وبعضُها كان نَدِيَّ النحويين ومحتَشَدَ تصانيفهم وأقاويلهم ومذاهبهم، وهي بابُ ما وراءَها من المطوَّلات، وهذه المختصرات منها ما ضمَّ في تضاعيفِه أبوابَ عِلْمِ النَّحو وحدَه -بمعناه المتأخر المعنيِّ بأحوال اللفظ المركب-، ومنها ما زاد مسائلَ من التصريف المعنوي كـ«المصادر والجُمُوعِ والتصغير والنَّسَب»، ومنها ما زادَ مسائلَ من التصريف اللفظي كـ«الإعلال والإبدال والإمالة»، ومنها ما زاد مسائل «الخطِّ والكتابة»، أي «الإملاء» باللفظ المعاصر، ومن هذه المختصرات ما صحَّتْ نسبِتُه إلى زَمَانِه ومؤلِّفه، ومنها ما نُحِلَ عليه، أو تنازَعه النقيضان، وهي درجات في الحجم وسَعَةِ الحديث، فمنها ما خُوطِبَ به المبتدئون، ومنها ما خُوطِبَ به المتوسِّطون، ومنها ما خُوطِبَ به المُنْتَهُون، وإن كان المنتهي منتفعًا بما خُوطِبَ به المبتدئ، ليكون تذكرَة له.

وضابِطُ ما سأوردُه منها هنا: أن يكون مُسَمًّى بما يفيد الاختصار أو التَّقْدمة، أو مُضَمَّنًا ذلك، أو قائمًا على الإيجاز، أو مبنيًّا على عرضِ جُلِّ المسائل مجرَّدة عن شواهِدها وعِلَلِها، ولم يتجاوز حدَّ التوسُّط، أو هو مما تناوله العلماءُ بالشَّرْحِ والإبانة.

ومن المختصرات ما كانَ في أبوابٍ نحويَّةٍ خاصَّة، وقد تَكُون أقربَ إلى علم متن اللغَةِ من النَّحو كالمصنفات في حروف المعاني أو الجُمَل أو قواعد الإعراب، وذلك مما لن أُعَرِّجَ عليه هنا، إذ الغرضُ ما صُنِّفَ في جُلِّ مسائل النَّحْو وما لَحِقها في كُتُبهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] من لفظ ابن سَلَّامٍ الجُمَحِيّ (232هـ). طبقات فحول الشعراء: 1/12.

[2] ينظر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة: 27-32، ومراحل تطور الدرس النحوي: 57 (فما بعدها).

[3] ينظر: مقاييس اللغة: 2/189 (خ ص ر).

[4] يقول الأستاذ سعيد الأفغاني (1417هـ): «(المتون) في العلوم: اصطلاح جرى عليه المعلمون، يطلقونه على مبادئ فن من الفنون، تُكَثَّفُ في رسائلَ قصيرةٍ يستظهرُها للطلاب، ترسيخا لمسائل العلم في حفظهم… ثم يشرعون بعد استظهار الطلاب لها في شرح ألفاظها وحل معقداتها» من تاريخ النحو: 180.

[5] ينظر: تاج اللغة وصحاح العربية: 6/2200 (م ت ن)، ومقاييس اللغة: 5/294-295 (م ت ن).

[6] ممن استعمل لفظ «المتن» للحديث: الإمام مسلم بن الحجاج (261هـ)، ينظر: التمييز (له): 170، 171.

[7] إيضاح الوقف والابتداء: 41، وأميلُ إلى أنَّه مختصر النقط، وبيانُ هذا يطول، وممن حمله على (النحو) د. غانم قَدُّوري الحمد، ينظر كتابه: علم النَّقْطِ والشكل (التاريخ والأصول): 24 (الحاشية: 2).

شارك الصفحة
المزيد من مقالات إرث

في مختصرات النحو ومُتُونه قراءة المزيد »

العَربيَّةُ بَين فِقهين

Picture of د. أسامة بن عبدالرزاق شيراني
د. أسامة بن عبدالرزاق شيراني

دكتوراه من قسم اللغويات بالجامعة الإسلامية بالمدينة، ومعلم سابق لعلوم العربية بمعهد المسجد النبوي

– ننشر هذه المقالة ضمن برامج مبادرة إرث المتخصصة في تاريخ العلوم التراثية –

غَيْرُ مَخْبُوءٍ عَن ذِهْنِ النَّبيهِ أن فَسادَ تأويل ألقابِ العلوم بابُ اختلالِ النظرِ فيها، ونُزُوعٌ عن جادَّة فَهْمِهَا، إذ تستحيل الرسومُ الأولى هيئاتٍ لم يرَها المتقدمون، وصُوَرًا لم يعرفها السابقون.

وقد نالَ علومَ العربية القُدْمَى قدرٌ من هذا، فرأينا الأوائل يخوضون في مسائلَ وأدركنا الأواخرَ تخوضُ في أخرى، مع أنهم أجمعين يزعمون الحديث عن مسمًّى واحد، ولم يدرُجْ متقدمو علماء العربية[1] على تعريفِ عامَّةِ الألقاب التي أوردوها أعلامًا على العلوم أو صِفَاتٍ لها، بل اكتفوا فيها بدلالة اللقب الْمُفْرَدِ أو المركَّبِ، ولو كانت اصطلاحيَّةً احتملتْ معنًى خاصًّا أو عامًّا لم يُعْرَف من قبل، فمن ذلك إغضاؤهم عن تعريف «اللسان» و«اللغة» و«النحو»  و«التصريف» وغيرها من آحاد الألقاب، وكان من شأنهم الذي لا يخفى على كلِّ ذي بَصَرُ الاستطرادُ في تصانيفهم، فترى الخليل بن أحمد (179هـ) يصدِّرُ «العين» بمقدمة صوتيَّة باذخة -وهو عندنا كتابٌ في علم متن اللغة-، وترى سيبويه (180هـ) يعرضُ في «الكتاب» للنحو والتصريف واللغة والأصوات -وهو عندنا كتابٌ في علم النحو-، وهم في كلِّ ذلك يقْدُرُون الكلماتِ قَدْرَها، فلا يقولون إلا على مِقْدَار ما يَرُومون، فكانت لألقابِهم دلالاتٌ ظاهرَة، لا يذهب الفطِنُ في استنطاقِ معانيها كُلَّ مذهب -وإن مسَّهُ نفحُ استطرادِهم-.

ومن الألقاب التي أوردوها وسمَّوْا بها بعض أسفارهم: «فقه اللغة»، فعرفوه بمعنًى سلَبَهُ المتأخرون رَسْمَه، حتى غدا اليوم شيئًا لم يَخُضْ فيه أصحابُه، وبنى على ذلك مُعَاصِرُونَا الوقيعةَ في عَمَلِ المتقدمين ونسبتهم إلى التقصير فيه، وهذه قِصَّة اللَّقَب والملقَّب به أصيلًا ودخيلًا.

أولًا: «فقه اللغة» الأصيل.

الفقْه -في العربية-: الفهم، واللغة: «أصواتٌ يُعَبِّرُ بها كُلُّ قومٍ عن أغراضِهم»[2]، ولم يجئْ لفظُ «اللغة» في القرآن الكريم وكلام رسول الله وأهل الصَّدرِ الأول، لأن دلالته يومئذ أخصُّ، فكان «اللسان» هو المقدَّم، وعليه جرى كتاب الله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، ﴿بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾، وأما «اللغة» فجاءت في كلام أهل المئتين -الأولى والثانية- على مَا ميَّزَ طرائقَ كُلِّ قبيلٍ من العربٍ بوجهٍ من وجوهِ الكلام، فقالوا: «لُغَة قريش ولُغَة تميم ولُغَة قيسٍ ولُغَة أسد»، وبين هذه اللغات فروقٌ صوتيَّةً وتصريفيَّة ونحويَّة ودلاليَّة -وإن قلَّتْ-، وجامِعُها: «اللسان العربيّ»، ليكون نظيرَه: «اللسان الرُّومي والفارسيّ والحبشيّ»، وهلمَّ جرًّا[3]، ثم اتَّسَعَتْ دلالة «اللغة» لتكون مرادفة للسان العربيِّ، وعليها تعريفُ ابن جني (392هـ) الذي نقلتُه آنفًا.

ومنتهى الأمر من هذا أن «فقه اللغة» يعني فهم لسانِ العرب، وهذا معنًى واسعٌ يشملُ فهم كُلِّ علوم العربية، ولا ريبَ أن مُطْلِقَه يريدُ هذا الأصلَ، ولكنَّه أجَلُّ من أن يدَعه عَرِيًّا من أيِّ بَيَان، فأيَّ فَهْمٍ أرادَ منِ استحدَثَ هذا اللقب؟ وأيَّ سبيل سلَك؟ وطريقُ هذا: النظرُ في محلِّ إطلاقِه، والمسائل التي تنازعته.

ومِن أَقْدَمِ مَنْ رأيتُه يورد اللقب: المعافى بن زكريا (390هـ) حين أجمل صِفَات الكمَلَةِ من نُقَّادِ الشعر؛ قائلًا: «إِنَّ نَقْد الشّعْر عَلَى التَّحْقِيق عَزيزٌ جدا، وَإِن النَّاقِد الَّذِي يُعْتَمدُ فِي النَّقْد عَلَيْه، ويُرجع فِي صِحَّته إِلَيْهِ: لَا يَكُون كَامِلًا حَتَّى… يكون ناقدًا فِي فقه اللُّغَة، غَيْر مُقَصِّر عَلَى تأدية مسموعها، وحفظ مَنْصُوصِها ومَسْطُورها، ومضطلعًا بلطيف الْإِعْرَاب وَقِيَاس النَّحْو، حَافِظًا للأمثال المضروبة، مهتديًا بأعلام الْعقل المنصوبة، حَاصِرًا لمجاري الْعُرْفِ وَالْعَادَة، آخِذا من كُلّ عِلْمٍ وأدب بحظٍّ، وضاربًا فِي صناعات الْفِكر بِسَهْم»[4].

وسياقُ كلامِه مُوحٍ إليكَ أنَّ «فقيه اللغة» هو الناظرُ فيها نظرًا زائدًا، غير مكتفٍ بظاهر لفظِها، مُبِينًا عن شَواكِل أمرها، فيكون عارفًا بمسالك العرب في مخاطباتها، ومجاري القولِ عندها، مفرِّقًا بين مشتبه منطقِها، وقوانين علومِها.

وفي زمانِه سمَّى ابن فارس (395هـ) كتابَه المشهور بـ«الصاحبيِّ في فقه اللغة وسَنَنِ العَرَبِ في كلامها»، وزاد في مقدمته «فقه اللغة العربية»، أما «الصاحبيِّ» فنسبة إلى الْمُهْدى إليه الصاحب بن عبَّاد (385هـ)، وأما الباقي من ترجمة الكتاب فيبينُ عنها ما حواه من أبوابٍ ومسائل، وقد صدَّره بقوله: «إِنَّ لِعِلْمِ العرب أصلًا وفرعًا: أمَّا الفرعُ: فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا: (رجل وفرس وطويل وقصير)، وهذا هو الَّذِي يُبدأ بِهِ عند التعلُّم، وأمَّا الأصلُ: فالقولُ عَلَى موضوع اللغة وأوَّليتها ومَنْشَئِها، ثُمَّ عَلَى رُسُوم العرب فِي مخاطبتها، وَمَا لَهَا من الافْتِنان تحقيقًا ومجازًا»[5]، فالفرعُ عنده أبي زكرياءَ: معرفة آحاد المسائل النحويَّة والتصريفية وغيرها، والأصلُ: معرفة مادَّة اللغة إجمالًا، وأصلها القديم، ومنازعِها، والصِّفات اللغويَّة الكُبْرَى في كلامِها، وأنواعِ افتنانِها في الخطابِ حقيقة ومجازًا، وإذا أنضيتَ -في تأمُّلِ حديثِه- رِكابَ فَهْمِكَ: عَرَفْتَ أنَّ هذا النوع من العلوم لا يَبْلُغه المبتدئ، ولا يَبْنِيه صاحب الرأيِ الفطير، بل هو ابنُ زمانٍ طويل، وقد ضَمَّ كتابُ ابن فارس (395هـ) أبوابًا لا تخرُج عن أصل  علم العربية، فمن ذلك: حديثُه في نشأة اللغة العربية، وأصل الخط العربي، وبيان فضل العربية على اللغات، وسَعَتها وقدرِ ما يُحَاط منها، واختلافها، والفصيح والمذموم من لغاتها، وحدِّ اللغة التي نزل بها القرآن، والخطأ في اللغة، والاحتجاج بها، ومسائلَ في القياسِ عليها، وخصائص من كلام العرب لم تُعْرف في اللغات الأخرى، والألفاظ التي عرفتها العربُ بمعنًى وخصَّها الإسلام بمعنى، وأصول الأسماء، وكَيْفَ تقع عَلَى المسميات، ثم سرد حروف المعاني وما أشبهها من مبنيِّ الأسماء مرتبة على حروف المعجم مشروحَة مفسَّرة، ثم عرض لمسائلَ تناولها البلاغيون -من بعدُ- كأبواب من الخبر والإنشاء والحقيقة والمجاز، وختم بأبواب من خصائص كلام العرب كإطلاقِ الواحد مرادًا به الجمع، وإطلاق الجمع مرادًا به الواحد والاثنان. وكتابُه بَيْنَ يَدَيْك فانظُرْ فيه.

ولعلَّه بانَ لك الآن معنى «فقه اللغة» عند المتقدمين، وغايتُهم منه، وطريقُهم إليه، ولذا كان من أعظم التصانيف المدوَّنَةِ فيه «الخصائص» لعبقريِّ العربية ابن جني (392هـ)، فهو -وإن لم يَحْكِ «فقه اللغة» لَقْبًا- مِن أجلِّ كُتُبِ هذا الفنِّ وأعظمها، وقد عرضَ فيه لأسرارِ العربية ومظاهر عبقريِّتها، ومنازِع النحويين في النظر إليها، ومما قالَه في أوَّلِه مُبينا عن غرضِه: «وإنما هذا الكتاب مبنيٌّ على إثارة مَعَادِن المعاني، وتقريرِ حال الأوضاع والمَبَادِي, وكيف سَرَت أحكامُها في الأَحْناء والحواشي»[6]، وكان محلَّ تعظيمٍ وتبجيل، حتى قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) وهو يردُّ عليه معترفًا بفضله: «وابن جني له فضيلة وذكاء، وغَوْصٌ على المعاني الدقيقة في (سر الصناعة، والخصائص، وإعراب القرآن) وغير ذلك، فهذا الكلام إن كان لم يقله فهو أشبه بفَضِيلَتِه»[7].

وجاءِ من بعدهم الثعالبي (429هـ) فسمَّى كتابه «فقه اللغة وسرَّ العربية»، ثم كسَر كتابه على قسمين: فقه اللغة، وسرِّ العربية، وخصَّ الأوَّل بالفروق اللغوية بين الكلمات في واحدٍ وثلاثين بابًا تضمُّ أصول المعاني التي كانت فيها، وذلك مبنيٌّ على فَهْمِ كلامِ العرب، وطائفةٌ منه ليست من صريحِ كلامها، وأما الثاني ففي خصائص لُغَة العربِ في الصوت والبناء والتركيب والمعاني، وهو قريبٌ مما صنعَه ابن فارس (395هـ)، وكلاهما مستضيءٌ بنورِ ابن قتيبة (276هـ) في «تأويل مشكل القرآن» -رحمهم الله جميعًا-.

وجاءَ من بعدهم بزمانٍ القَلْقَشَنْدي (821هـ) فذكر من العلومِ المتداولَة «عِلْمَ اللغة»، وقال فيه: «من الكتب المختصرة فيه: (الْمُنْتخب والْمُجَرَّدُ) لكُراع، و(أدب الكاتب) لابن قتيبة، و(فقه اللغة) للثعالبي، و(الفصيح) لثعلب…»[8].

ودلالة (علم اللغة) غيرُ مُشْكِلة: فإن مرادَها علمُ (مَتْنِ اللغة)، وهو العلم المعنيُّ بألفاظ العرب المسموعة التي لم تجرِ على قياسِ، ومن مظانِّه ما يسمَّى اليوم بـ(المعجمات اللغوية) كالعين والتهذيب والصحاح والقاموس المحيط ولسان العرب وغيرها، ولذا ذكر القَلْقَشَنْدي (821هـ) منها (المنتخب والمجرد)، وأما (أدب الكاتب) ففي مسائلَ من علم متن اللغة ومسائلَ من علم الخطِّ وغيرهما مما يُصْلِحُ من شأنِ الكاتب، وأما (الفصيح) فيقرُب من باب لحنِ العامَّة أو إصلاح الخطأ الشائع، على أنَّ في صنيع القَلْقَشَنْدي (821هـ) تجوُّزًا، فـ(فقيه العرب) غير مقتصر على ظاهر هذه التصانيف، بل نظرُه موصولٌ بدقائقِها.

هذا طرفٌ من قصَّة «فقه اللغة» الأصيل، فهو «درسٌ خاصٌّ بالعربية وجماليَّاتها، ومادَّتُه: اللغةُ العربية، وغايته: خدمة القرآن، ومقاومة اللحن، وفهم العربية فهمًا دقيقًا؛ يزيد الإنسانَ معرفة بالعربية، ويزيدُه فقها في استخدامها في التعبير، والتذوُّقِ لما يقول ويكتب، ولذلك لا يخوض المتعلِّمُ في مسائله إلا بعد أن يُتْقِنَ العربية في قواعدها ومَتْنِها»[9].

د أسامة شيراني

ثانيًا: «فقه اللغة» الدخيل.

أخذ عُلَماء اللغات -بأُورُبَّا في القرن الثامن عشر المسيحيِّ- يبحثون في التأريخ الثقافي للغات الغَرْبِيَّة من خلال الوثائق المكتوبة بها، بعد أن تُرْجِمَ الكتاب المقدَّسُ إلى عددٍ من اللغات -منها السِّنسِكْريتية-، فانتهوا إلى مصطلحٍ خاصٍّ بهذا البحث هو: (فِلُلُوجي – Philology)، درسوا فيه النصوص القديمة -من جهة قواعدها ومعاني كلماتها-، وفكّوا الْمُعَمَّى من رموز الكتابات القديمة التي ماتتُ لغاتها، واهتموا بالآثار وتحقيقها ومقارنتها، فمادَّة هذا العلم الأولى: النقوشُ والكتابات القديمة، وغايته: معرفةُ أصول اللغات الإنسانية، وقد قضوا في هذا العلمِ زمانًا طويلًا، حتى بلَغَتْ بهم أفانين البحث والنظر إلى عِلْم آخرَ أطلقوا عليه: (لِنْقْوِسْتِكْس-Linguistics)، ليبحث في لُغَة الإنسان من حيثُ هي، عَمَلًا وتطوُّرًا وتشكُّلًا، نطقًا أو كتابة، من دون نظرٍ إلى صوابٍ أو خطأ، يبحثون فيه بحثًا علميًّا مختصًّا باللغة نفسها، للكشف عن حقائق اللغات وقوانينها المشتركة، فكان منهجُه التجريبَ العلمي، المعنيَّ بتحليل المادَّة الخاضعة لإدراك الحواسِّ، وغايتُه من كلِّ ذلك: الكشف عن الحقائق الجامعة لِلُّغات الإنسانية في بابَةٍ واحدة، من خلال طريقين: وضع النظريات الشاملة عن اللغة والحياة اللغوية، ووضع الأسس البحثية في اللغة.

فهذان العِلمان الغربيَّان نَشَآ في أحضان الفكر الغربيِّ، واضحيِ المعالم والصُّوى، غير أنَّ الباحثين المحدَثين -من العرب- ترجموا اسم العلم الأول لـ(فقه اللغة)، والثاني (لعلم اللغة)، ثم زادوا على ذلك أن نقلوا مباحثَ هذين العلمين الدَّخِيلَيْن إلى العربية، ثم حكموا على اللَّقَبين القديمين ومدلولهما بالقصور ونقص المعرفة!

ومن خبَرِ ذلك أن جامعة عربية ابتعثت بعض طلبتها إلى الغَرْبِ لدراسة العربية، فدرسوا العِلْمين وأرادوا درسَ فقه العربية على طريقة الغرب، أو المزج بين العلمين في سِنْخٍ واحد، ولما آبوا إلى بلادهم وضعوا مقررا دراسيًّا في ذلك، ويذكر الدكتور زكي مبارك (1952م) أن المستعرب جويدي (1935م) أُسْنِدَتْ إليه مادَّة فقه اللغة في الجامعة المصرية، فأشار في محاضرته الأولى بتاريخ (7/أكتوبر/ 1926م) أن كلمة (فيللوجي): «تصعب ترجمتها بالعربية، وأنَّ لها في اللغات الغَرْبِيَّة معنًى خاصًّا لا يتفق عليه أصحاب العلم والأدب…»[10].

وقد استسهل المحدثون ترجمتها لـ«فقه اللغة»، فآل الأمرُ إلى ما تراهُ اليوم في الكتُبِ والبحوث الكثيرة الموسومة بـ(فقه اللغة وعلم اللغة)، وممن أشار إلى فرقِ ما بين العلمين: د. محمد محمد حسين r في كتابه (مقالات في الأدب واللغة)، وشيخنا أ.د. محمد يعقوب تركستاني في كتابه (في فقه اللغة العربية)[11]، وهو من أوسع من حرَّر هذه القضية.

ولستُ هنا في مقامِ الحثِّ على اطِّرَاح دراسة العلوم المحدَثة، ولكنَّ الغاية من مقالتي هذه أن أصِلَك بخبَرِ المسلكين، وفي الكتاب الأخير فروقٌ ضافية -بين درسِ السابقين واللاحقين-، وغايةِ كُلِّ درس، وطرائقه، وآثاره، وسيَقِفُك كُلُّ ذلك -بإذن الله- على نهج الصواب.

_________________________________________

[1] استقرَّ عامة المتأخرين على عدِّ (المتقدمين) من العلماء من لم يجاوزِ القرنَ الرابعَ الهجريّ، وأما إن وقع مثلُ هذا اللفظ في كلام المتقدمين أنفسهم كأبي العباس المبرَّد (285هـ) وأضرابه فيكون بحسَبِه، إذ يعني به طبقة الخليل بن أحمد (179هـ) وشيوخه ومن قَبْلَهم.

[2] الخصائص: 1/34.

[3] ينظر: لغات طيِّء: 1/5 -فما بعدها- (رسالة جامعية)، وفي فقه اللغة العربية (للتركستاني): 67-76.

[4] الجليس الصالح الكافي: 290.

[5] الصاحبي: 48.

[6] الخصائص: 1/32، والأحناء جمعُ حِنْو، وهي الجوانب.

[7] مجموع الفتاوى: 20/486.

[8] صبح الأعشى: 1/538.

[9] في فقه اللغة العربية (للتركستاني): 89.

[10] النثر الفني في القرن الرابع: 391 (ط. هنداوي).

[11] ينظر: مقالات في الأدب واللغة: 56-120، وفي فقه اللغة العربية (للتركستاني): 77-104.

شارك الصفحة
المزيد من مقالات إرث

العَربيَّةُ بَين فِقهين قراءة المزيد »