السؤال مفجر للمعرفة

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-cup-of-couple-7657599

 

المعرفة والسؤال:

إن المعرفة الخالية من مشكلة متمثلة بحزمة من الأسئلة هي معرفة وهمية لصاحبها، ولو كانت هذه المعرفة سهلة التناول وظن المكنة منها؛ كون المعرفة التي لا تنشأ من إشكال أو سؤال من شأنها أن تصل إلى المتلقي خاوية من مضامينها الحقيقية التي تخلقها الإشكاليات والأسئلة، فتصنع فيها المعنى الملبي لجميع الاتجاهات الفكرية والثقافية والاجتماعية والإنسانية. ويزداد التأكيد على هذه القضية بأن فهم أي علم أو معرفة مرهون بالإحاطة بالأسئلة المنتجة لهذا العلم أو تلك المعرفة، إذ هي السياقات التي أنشأت هذا العلم بمجالها التداولي. وحتى المعرفة التي تكون واضحة في نفسها فإنها بحاجة إلى استنطاقها عن طريق خلق الأسئلة التي تناسب عصرها التي هي فيه، فلا يكتفى بأسئلة ذلك الزمان مع أهمية ألا تكون الأسئلة ركيكة أو ضعيفة في نفسها، ولذلك من الضروري إعادة تشكيل الأسئلة وفق معطيات العصر. ومن الأمثلة على ذلك: المنهج، إذ هو من معطيات عصرنا الحديث، فوجب أن تتوجه الأسئلة نحو المداخل المنهجية والنظرية وفق تشكلات كل علم من العلوم. ومن الأمثلة كذلك التي يتجدد فيها روح السؤال: سؤال نشأة العلوم، فسؤال النشأة متقارب جدا عبر الأزمان، لكن من الضروري على أهل علم كل عصر أن يشكلوا سؤال النشأة وفق احتياج عصرهم لا عصر من سبقهم ولو كانوا في رتبة أعلى في الطلب والإتقان.

الفهم والسؤال:

إن السؤال في المقام الأول ناشئ عن الوعي والفهم، فلا يولد سؤال من عدم، بل حصل فهم عن شيء ليستفهم عن أشياء، والسؤال هو دليل وجود العقول وحياتها، وهو لباس الوعي والفكر، وابن مجاله التداولي، ولذلك الأمة التي لا تسأل، يُسأل لها، وثمة بوّن بين سؤال الأمة نفسها وسؤال يستجلب لها، وحتى إن وجدت هذه الأسئلة فيلزم لها أن تتجدد ولا تبقى على طول الدهر كما هي، إذ يوحي ذلك على مؤشر تراجع للفكر والوعي، كون الأسئلة بطبيعتها قابلة للتطور والنمو.

الوضوح والسؤال:

إن قوة بيان الأفكار تكمن فيما يحيطها من الأسئلة، كون السؤال سياج يحمي المعرفة من الغموض، وكلما كانت العبارة مبينة كاشفة عن أفكارها كانت الأسئلة الضمنية تحميها من الالتباس والتعمية، ذلك أن كل كتابة مبِينة تسفر عن أفكارها، وكل فكرة من أفكارها قائمة على أسئلة لها وظائف غاياتها الإبانة، ولا يلحظ ذلك إلا القارئ الفطن، وإن رمت أن تطلع على بعض الكتابات التي تصرح بالأسئلة فطالع كتابات عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وجامع البيان المعروف بتفسير الطبري ودونك مقدمته، وتفسير الكشاف للزمخشري، ومن الكتب الحديثة يحضرني كتاب كينونة ناقصة للدكتور عبد الله البريدي. وكل كتابة تورد الرأي المخالف هي تستعين على ما تتضمن المخالفة من أسئلة لإيضاح الفكرة والرأي، ولذلك الكتابة الخالية من الأسئلة المباشرة أو الضمنية أو إيراد الآراء المخالفة هي كتابة باهتة تفتقد روح المعنى ونصاعة الوضوح وكثافة الفكرة.

pexels-george-milton-7034294 2

 

التطوير والسؤال:

إن انفتاح العلم والمعرفة لا يكون من داخل العلم بل يكون من خارجه، أي بالأسئلة التي تثوّر العقل نحو استجابة للأسئلة المثارة، وهذا يدل على فضيلة السؤال، بل إن بعض الأسئلة تكشف لنا تلاقي العلوم وتلاقحها من بعضها، كما تسهم الأسئلة في تصحيح مسار العلوم، فكما تتطور العلوم بفعل السؤال، فالسؤال نفسه يسهم في تصحيح العلم، وهذا من شأنه أن يوجه الفكر نحو العناية بالوسائل أكثر من النتائج، إلا أن الإنسان بطبيعة فكره يعنى بالنتائج أكثر من الوسائل، مما يؤدي إلى تمركز الفكر نحو النتائج، والذي ينبغي استيعابه أن الوسائل لا تقل أهمية عن النتائج بل إن الوسائل هي التي صنعت النتائج، وما دام هذا الدور للوسائل فإن أبرز هذه الوسائل الأسئلة، فيجب أولا الوعي بأهميتها وإعطائها الدور المنوط بها.

 التفكير والسؤال:

إن نمو التفكير مرهون بوجود السؤال، وخصوصا المهارات العليا من التفكير من التحليل والتركيب والتقويم والابتكار، فإنها تتغذى على مدى نجاعة الأسئلة وعمقها، وهذا ما نلحظه في كافة البحوث العلمية المرتكزة على مهارات التفكير العليا، إذ هي في الأصل ناشئة عن إشكال معرفي مرده إلى أسئلة، تُعرف بأسئلة البحث، وخلف كل سؤال مجموعة من الأسئلة الصغرى التي تفجر منها السؤال الملفوظ وهو السؤال الكلي، فوراء كل بحث علمي مكين إشكالات وأسئلة حفزت الذهن إلى تجاوز الإشكاليات وإحضار إشكاليات مبنية على تجاوز السابقة وهكذا في سلم الإشكالات المخلقة من الأسئلة المحفزة التي تسعى نحو التقدم والتفوق والتغلب على نفسها لتعيد نفسها بطريقة جديدة، ومن هنا يُعلم أن تعليم السؤال نفسه مقدم على سؤال الإنتاج والابتكار.

عناوين الكتب والسؤال:

عناوين الكتب هي في أصلها جواب عن سؤال يتوارى خلف العنوان تولّد في عقل الكاتب، فاصطفاف عناوين الكتب فوق رفوف المكتبات بمثابة نداء للقراء؛ تلبية لدواعي الفضول المعرفية المثارة من الأسئلة الذاتية من قبل كل قارئ، فالقارئ الجاد لا يخلو من الأسئلة التي تثير لديه فضول الطلب، وتلح عليه بالاستزادة من المعرفة الملبية لسؤالات العقل اليقظ، فالعناوين بفعل أسئلتها المباشرة أو الضمنية مدعاة إلى مشاركة الآخرين المعرفة واستنهاض للهمم واستدعاء للعقول النيرة باستنطاق مزيد من الأسئلة.

الدهشة والقلق والسؤال:

قبل إثارة السؤال في النفس ينتابنا شعور يسبق السؤال، وهذا الشعور هو الدهشة والغرابة، وهذا الشعور إيجابي من حيث أنه يقتل الألفة في النظر إلى الأشياء بأنها هكذا تكونت أو هكذا صارت، إلا أن شعور الدهشة يعيد للعقول نماءها ويصب فيها ماء الحياة، فيثمر ذلك الشعور السؤال، والسؤال المثار بعد الدهشة يحملنا على التفكير المتباعد الذي يفسح مساحة للتفكير والفضول المعرفي، بخلاف الألفة المصاحبة للتفكير المتقارب التي تحاول أن تقارب الظواهر وتقيسها بالأشياء فتجعلها بشكل طبيعي ولا ترى فيها الغرابة، والشعور بالدهشة لا يكفي لإثارة الأسئلة والإشكالات ما لم يصاحب ذلك الشعور قلق، فهو الذي يضمن بقاء الدهشة وعدم زوالها، والسؤال هو كينونة القارئ والكاتب وكل عقل نيّر.

شارك الصفحة

التعليقات

المزيد من المقالات