البلاغة المغيّبة في الدرس البلاغي

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-pixabay-159833

إن علم البلاغة علم قرآني؛ كونه تفسيرا واستنباطا وتدبرا للنص القرآني، فجميع علوم اللغة منطوية في ظله، تحت ظلال المعاني القرآنية، تسير حيث سار المعنى دون الخضوع إلى سطوة القواعد والأحكام المسبقة. والبلاغة القرآنية متحررة من النقد، فكرها خالص لتذوق الأسرار والنكات التي تُستقى من عطاءات النظر والتدبر.
تمثل البلاغة القرآنية أرفع صور البلاغة الكونية، وأعمقها معنىً وأغزرها فائدة، ولما كان لهذه البلاغة المنزلة الرفيعة التي تفارق بها بلاغة اللسان الإنساني، جاءت الدراسات البلاغية -في أغلب أحوالها- جامعة للظواهر البلاغية بينهما، ولم نقف في الدراسات البلاغية على فوارق تبيّن البون الشاسع بين البلاغة العربية والقرآنية، والتي على أساسها نحظى بمقاربة الأسس المنهجية للبلاغة القرآنية.

وحتى ما جاء في كتب إعجاز النظم الكريم التي قد بدأ البحث فيها عن أسباب تفوق البلاغة القرآنية على بلاغة اللسان البشري، لم تصب تلك الفوارق على أساس ممنهج إلا شذرات، من ذلك ما جاء عند الخطابي بالأثر النفسي، ونقض العادة عند الرماني، وكذلك الباقلاني الذي سماه الخروج عن العادة، ونظم التراكيب عند الجرجاني، ونظم الترتيب عند البقاعي، ومبتكرات القرآن عند ابن عاشور، والسبيكة القرآنية عند الدكتور بسام ساعي، ومنهج الإقناع والمحاجة الحقة عند الدكتور محمود توفيق، وغير ذلك من الإشارات التي لم تُسق بصورة كلية، حيث كان أبرز المشتغلين بموضوع الإعجاز هم من علماء الكلام المعتزلة والأشاعرة الذي كان من أبرز أهدافهم التصدي للرد على الطاعنين في القرآن، ومن المعلوم أن مبحث معجزات الأنبياء وإثبات دلائل النبوة هو واحد من الموضوعات التي اشتغل بها علم الكلام فصبغت مناهجهم بالمنهج العقلي القائم على الاستدلال والاحتجاج مما اعترى الدرس البلاغي بعض القصور الذي لم يتأتّى معه استشراف الأسرار البلاغية في النظم الكريم المفارقة لبلاغة اللسان، ولعل هذا ما ساق إلى تكرار الأمثلة وتضخم المصطلحات، وإشكالات بعض التسميات -لا في حقيقتها- التي لا يصح إطلاقها على النظم الكريم. ونلامس كذلك هذه الظاهرة – ظاهرة الدراسة أو التأسيس من خلال النقد والرد – في عصرنا حين كتب الدكتور يوسف العليوي كتابه الفذ (الأسس المنهجية لدراسة البلاغة القرآنية) فقد خصص فصولا عن أثر المناهج الحديثة في دراسة البلاغة القرآنية وبيّن مظاهر انحرافها عن أصول الشرع واللغة في أسسها ومعالجتها.

وعلى هذا يمكننا القول إن جل الدراسات التي تناولت علم البلاغة سواء عن طريق قضية الإعجاز القرآني، أو الفنون البلاغية التي توسلت بالنص الشعري -في غالب معالجاتها- لم تستوعب مسائل البلاغة القرآنية وقضاياها، بل إن جل القواعد البلاغية في أبوابها الثلاث (المعاني والبيان والبديع) وضعت في غيبة من النظم الكريم، فجاءت كل ظاهرة بلاغية مثبتة نفسها وفروعها من دواوين الشعر دون توجيه سهام النظر في الأساس إلى البلاغة القرآنية، وإن وجدت الشواهد القرآنية فهي لا تمثل إلا القليل من تلك الاستشهادات الشعرية، حتى إذا عرضنا تلك القاعدة البلاغية على النظم القرآني وجدناها مهتزة غير ثابتة؛ وما ذلك إلا لخصوصية بلاغة النظم الكريم، واتساع السياق القرآني من أسباب النزول، وملابسات السورة، وخصائصها، والقرآن المكي والمدني، وغياب هذا التصور أو التداخل اللصيق مع علم البلاغة من علوم القرآن وعلم الأصول حتما يقود إلى إخضاع النص القرآني لتلك القاعدة البلاغية دون التفطن إلى صعوبة حصر وتقنين الأساليب البلاغية للقرآن الكريم.

إن التأمل في سير البلاغة يهدينا إلى أسباب ذلك؛ حيث سارت البلاغة في مسارين: المسار الأول: هو المسار التطبيقي أو الأدبي الذي بدأ تقريبا من سيبويه وهو من اللغويين، والجاحظ وهو من الأدباء، والخطابي وهو من علماء الإعجاز، ومن شاكلهم، ثم تبلور على يد عبد القاهر الجرجاني الذي صوّب الفكر نحو الكشف عن مناحي الجمال في النظم القرآني، فقد جمع مادته ومباحثه المتناثرة من كتب المتقدمين كما في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فعالج ظواهر بلاغية في القرآن ومثّل لها وأبان عن وجهها، وبذلك فتح الطريق لجار الله الزمخشري في تفسيره (الكشاف) الذي طبق ما في الدلائل والأسرار مضيفا لذلك أصولا بلاغية جديدة فاتسم تفسيره برحابة توظيف القواعد والظواهر الأسلوبية مع مراعاة سياقي المقال والمقام.

وأما المسار الثاني: فهو المسار النظري الذي اهتم بتجريد القواعد البلاغية والظواهر الأسلوبية في كلام العرب كما ظهر عند الرازي في (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) و(مفتاح العلوم) للسكاكي، و(الإيضاح) للخطيب القزويني، ولا يخفى التأثر بمعطيات الفلسفة والمنطق في هذا المسار، ومن ذلك ما جاء عند المناطقة في الدلالة اللفظية الوضعية، وهو نفسه ما كرّس في فاتحة علم البيان من أن دلالة اللفظ على معناه تكون بأقسام الدلالة اللفظية الوضعية، وهي إما دلالة المطابقة أو دلالة الالتزام، أو دلالة التضمن، وعلى وازنه ما في كتب المنطق من الانتقال من البسيط إلى المركب، وهو ما نشاهده جليا في مقدمة كتب البلاغيين في حديثهم عن الفصاحة وهي لا تتعلق إلا بالمفردة، ثم علم المعاني الذي بدأ الإسناد وختم بالفصل والوصل بين الجمل، وأجلى من ذلك قسمة السكاكي لكتابه (المفتاح) حين بدأ بعلم الصرف الذي يهتم بالمفردة، ثم النحو الذي يهتم بالجملة، ثم البلاغة. ووجه آخر من التأثير هو تقسيم الغرض من الخبر: الفائدة، ولازم الفائدة، وهي قسمة قائمة على منطق العقل، ومثلها القسمة العقلية لأضرب الخبر القائمة على ذهنية المخاطب: الخالي ذهنه من الحكم، أو المتردد، أو المنكر، وكذلك تعريفهم للأسلوب الخبر وهو ما احتمل الصدق أو الكذب وهل الصدق مطابقة مدلول الكلام للواقع الخارجي، وقس على ذلك التقسيمات الكثيرة في علوم البلاغة الذي ذهبت إلى تجزئتها كما في الاستعارة والجناس وهلم جرا. وما سقت ذلك؛ إلا لأن هذا المسار اتكأ على الفلسفة وقواعد المنطق و(تركيب المعاني) عليها، وقصدا عدلتُ من لفظ تركيب البلاغة إلى تركيب المعاني؛ كون البلاغة في أصلها تأبى ذلك؛ إذ إن الأصل في الفكر البلاغي أن يبدأ من المعاني انتهاء إلى القاعدة التي لا تكون كلية بطبيعة حالها، بل نسبية؛ كون المعاني لا تنحصر، وكون الفكر البلاغي مفارق للفكر الصرفي والنحوي من حيث تتبع المعاني وتشعبها.

pexels-barbican-library-12855256

إن وظيفة البلاغة هي الوقوف على أسرار الكلام المنظوم، وإدراك مطابقته لمقتضى الحال، ولا يكون ذلك إلا بالمكنة من علوم اللغة والذوق الواعي المدرب على أساليب الكلام العالي، إلا أن هناك من يقول: “إن وظيفة البلاغة تتبع سمات الكلام البليغ والنسج على منواله”. وهذا الوجه يحتاج إلى تصويب وإيضاح، حيث يقصد به أنه محاكاة للأساليب البليغة والنسج على منوالها حتى يتحرر أسلوب الناظم، وهذا هدف وليس وظيفة، إضافة إلى أن تتبع بلاغة القول لا يقوم به إلا من لديه المكنة من إدراك أسرار المنظوم، ولا تدرك الأسرار إلا بتحصيل قدر كاف من النحو والصرف والدلالة والأدب، فتكون هذه المعرفة هي الزاد الأساس إلى حسن نظم الكلام ورصفه، ثم تأتي البلاغة في مرحلة تالية؛ كونها ثمرة العكوف على دراسة علوم اللغة، ولذلك من رام أن يصنع كلاما بليغا فعليه بالمحاكاة ثم التفقه في علوم اللغة، أما البلاغة فهي ممزوجة بالنقد القائم على محاكمة الأساليب والتراكيب الموصلة إلى معرفة مدى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهذا النهج الذي يُعنى بمعرفة طبقات الكلام وعلل تفاضل الأقوال هو الطريق والغاية في آن إلى البلاغة، أما البلاغة القرآنية فإن الحس النقدي بوصفه أداة فاعلة في نظم اللسان يكون زادا لتحصيل أسرار النظم القرآني من حيث إنه منطويٌ في عقل دارس البلاغة القرآنية، وبعبارة أخرى، مقاربة إعجاز النظم القرآني لا يثبت بتفاضله على نصوص أخرى كما هو دور الناقد في بلاغة اللسان، إنما بالسير خلف المعاني القرآنية وكيفية مطابقتها لمقتضى الحال مع مراعاة سياقي المقال والمقام. وعلى ما تقدم يمكن القول: إن المسار التقعيدي الذي انطلق من القالب المنطقي تختلف أهدافه ورؤاه ووظائفه عن المسار الأول.


ولذلك من رام أن يظفر بالبلاغة على وجهها النقي والواسع يجدها ماثلة في كتب التفاسير البلاغية؛ كون الاشتغال البلاغي في تفسير النص القرآني لم يكن متوسلا باللغة وحدها، بل اتسع هذا الاشتغال في التفسير من الوقوف على السياق المقالي المتمثل في البنية اللغوية للنصوص إلى السياق المقامي الذي ينفتح مع علوم القرآن وعلم الأصول وعلم العقيدة، مما أسهم ذلك البحث البيني من ضيق النظر في العبارة إلى سعة النظر وانفتاح التوجيه الموسِّع للبلاغة العربية.

والناظر في تعاطي الدرس البلاغي في أوساطنا الأكاديمية يجد أنه لم يبرح البلاغة التعليمية أو الجزئية التي تخطتها البلاغة القرآنية وفُتحت آفاقها كما هي عند المفسرين، وأن الوعي الفردي لا يكفي لتخطي هذا الإشكال، فلا بد من إشعال هذا الإشكال أولا والشعور به لتتحرك على إثره المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية انطلاقا من أن الكلام البليغ لا يحكمه إطار قاعدي، وقوالب مُعدة، وهذا من أسس التفكير البلاغي؛ وبيانه أن المعنى يتحرك أنّى شاء وفق تحقيق غايته المنشودة المطابقة للمقام والمقتضى، ثم بعد ذلك نفسره وفق القاعدة المرام ملاحظتها لا تقريرها وتعميمها على كل تركيب مشابه، وعلى ذلك تتم مراجعة هذا التراث واستثماره وتقديم قراءة عميقة تبرز لنا البلاغة العربية بصورة أجلى وأكمل.
وقد لامس هذا الإشكال عدد من العلماء والدارسين وقُدّم في صور متعددة، منها ما ورد عن علاقة البلاغة بعلم الأصول يقول السبكي في شرحه للتلخيص: “اعلم أن علمي الأصول الفقه والمعاني في غاية التداخل، فإن الخبر والإنشاء اللذين يتكلم فيهما المعاني هما موضوع غالب الأصول، وإن كل ما يتكلم عنه الأصولي من كون الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، ومسائل الإخبار، والعموم والمخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والتفصيل، والتراجيح كلها ترجع إلى موضوع علم المعاني، وليس في أصول الفقه ما ينفرد به كلام الشارع عن غيره إلا الحكم الشرعي والقياس وأشياء يسيرة”. والحق أن هذه الكلمة من الكلام العالي.

ومن تداخل البلاغة بعلوم القرآن وأهمية التفقه في علوم القرآن وأن ذلك يعد دراسة للبلاغة والأسلوب، ما نبه عليه الدكتور محمد أبو موسى في كتابه (مراجعات في أصول الدرس البلاغي) عن أهمية كتاب الزركشي (البرهان في علوم القرآن) فيقول: ” وكان الزركشي بعيد الغور في حسه ببلاغة القرآن وسر إعجازه، وكان معانا وهو يكتب هذا الكتاب، وقد ظلمنا العلم بإغفال هذه الكتاب وأضعنا جانبا من علم البلاغة والأدب بهذا الإغفال الذي لا مبرر له”. وفي الدائرة نفسها في (البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية) ينبه إلى نجاعة فكرة نسخ القرآن ونقلها إلى الحقل الأدبي، فيقول: “هذا أصل يجب أن نقدمه بين يدي الفكرة التي نريد تأكيدها وهي ضرورة انتفاع الدراسة الأدبية بما في علوم القرآن، لأنها في جملتها قائمة على اللغة والشعر. ولو تصورت أنني نقلت موضوع النسخ من حقل الدراسات القرآنية إلى حقل دراسة الأدب فكيف أراه؟”.

وهذا الطاهر بن عاشور يسطّر في مقدمة تفسيره (التحرير والتنوير) الأساليب التي ابتكرها القرآن الكريم سماها مبتكرات القرآن، يقول عنها: “وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب؛ فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون، وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه؛ إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة، ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام”.

وفي الدراسة الجريئة التي قدمها الدكتور بسام ساعي (المعجزة؛ إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم) وقف على بعض ظواهر التجديد في لغة القرآن التي يفترق بها عن كل منظوم، وهو ما بينه في مصطلح (السبيكة القرآنية) ويقصد بها التراكيب البيانية والعلاقات اللغوية أو النحوية التي لم تعرفها اللغة العربية، وحرص في هذا السياق ألا تتجاوز الأمثلة التي أوردها ثلاث كلمات وهي ما أسماها الوحدة اللغوية الصغرى، ومن الأمثلة التي أوردها ووضع بإزائها تعبيراتنا البشرية؛ ليبين لنا المفارقة، ما جاء تحت عنوان: (التراكيب والتعبيرات القرآنية):
قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ البقرة: ٢٤٥، من الذي.
قوله تعالى: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ البقرة: ٢٤٦، هل ينتظر منكم.
قوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِذْ﴾ آل عمران:8، بعد أن.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا﴾ الأنعام:112، وهكذا جعلنا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ﴾ هود: ٨٧، لا شك أنك.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ هود: ١١١، وكل واحد منهم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ﴾ يوسف: ٨٠، وقد فرطتم قبل ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا﴾ الفرقان: ٤٢، كاد أن يضلنا.

وهو بهذه الأمثلة يشير إلى أن هذه التراكيب لم تعرفها العربية، وأنها بعيدة عن استعمالاتنا البشرية، ومع ذلك فقد نجد أن مثل هذا التراكيب انسابت في لغتنا، وما يزال الكثير من التراكيب القرآنية مرشحا للدخول إلى لغتنا، وهي من المواطن التي ينبغي جمعها ودراستها.

pexels-suzy-hazelwood-1333742

ولعل سائلا يسأل: ما موقع السبيكة القرآنية عما في نظرية النظم؟ وقد حاولت أن أستنتج فروقا أصوغها في الجدول التالي مع العلم بأنها نسبية أكثر من كونها حدود صارمة:

نظرية النظم

السبيكة القرآنية

صيغت على شكل منظومة من المفاهيم والعلاقات التي تقدم تفسيراً منطقياً منهجياً فارتقت إلى النظرية

صيغت على شكل مفهوم محدد وفق السياق التي جاءت فيه (التجديد في لغة الوحي)

تنظر إلى طريقة تركيب الكلام

تنظر إلى طريقة سمت الكلام

صفات النظم تشرك الآيات القرآنية بغيرها من النصوص

لها تميزها وتفردها بما استجد من خصائص لغوية جديدة

النظم يُدرك من المتخصص والعارف باللغة

السبيكة تُدرك من ليس له أدنى مهارة باللغة

النظم يصلك إلى التفسير والتحليل

السبيكة تصلك إلى الأثر

ومن الدراسات التطبيقية التي نوهت بالمفارقة بين البلاغة اللسانية والقرآنية – في أهم مبحث من مباحث علم المعاني وهو الفصل والوصل – الدراسة التي قام بها الدكتور محمد الأمين الخضري التي جاءت بعنوان (الواو وموقعها في النظم القرآني) حيث بيّن أن قواعد باب الفصل والوصل وضعت في غيبة عن القرآن الكريم، مما جعلها دراسة تفيد الناشئة والمتأدبين في طرائق التعبير لا استجلاء أسرار النظم القرآني. ومن استعرض هذا الكتاب لا يرده إلا التساؤل الآتي: لماذا لا يعاد النظر في أوساطنا التعليمية لدراسة قواعد الفصل والوصل كما استجلاها المؤلف من النص القرآني؟!

والشواهد كثيرة، إلا إني أقول: إن أبرز الملامح للبلاغة التفسيرية هي النظر للنصوص من داخل المعنى نفسه الذي بدوره يغذي الألفاظ والتراكيب بما يتلاءم مع السياقات والملابسات له، فلا تقام الأحكام البلاغية للجمل المنتظمة في تراكيب متنوعة لمجرد العدول أو الانزياح، أو حكما للألفاظ بمعناها المعجمي، أو الحكم بالفصاحة من عدمها لمجرد ثقل النطق أو تنافر الحروف بعيدا عن المعنى ومتطلب المقام، وهذا النظر هو الذي بدوره يقوّم الذوق الفني والأدبي وينميه، بخلاف ما يُرجى من البلاغة التعليمية التي أبلغ عطاء لها تزويد الدارس بالتعاريف والقوالب المعدة لإدخال الأساليب فيها، وهذا من شأنه أن يحد من عملية التأويل والاستنباط، كما أنه يربك تلقائية الفكر البلاغي، الذي يجنح إلى الفن أكثر من العلم؛ كون الفكر البلاغي ينطلق من الذوق لا التقييد بالقواعد، وهذا الذوق له شروطه التي من مقدمتها أن يكون الدارس على مكنة ودراية من علوم اللغة، وتصرف العرب بأساليب بيانها.

من خلال هذا الإشكال رأيت أن أعنون المقال بالبلاغة المغيَبة؛ تنبيها على ما تناثر عند ثلة من العلماء والباحثين والدارسين وأقدم مقالة تحفز الفكر البلاغي إلى مراجعة تراثه وتقويمه، واستثمار الكنز البلاغي الكامن في النص القرآني، وتزويد البلاغة بلطائف وأسرار ينفتح معها التوجيه إلى آفاق خصبة وميادين رحبة، وإذكاء ساحة الدرس البلاغي بمناقشة الجهود التي أطلقت عنان التفكير البلاغي المنضبط مع النص القرآني وحررت بعض مسائل البلاغة وأضافت بعض الأصول.

شارك الصفحة

التعليقات

    May 17, 2023

    رغم أن مجالي بعيد عن علوم العربية إلا أني استمتعت واستفدت ، وتبقى العربية المعجزة الأقرب والأمتع دائما . ما قرأته رائع نفع الله وكتب أجر رجال العلم والمعرفة أهل الخير والصلاح شكرا نديم شكرا للكاتب محسن الشهري

    1
    0
    May 17, 2023

    رغم أن مجالي بعيد عن علوم العربية إلا أني استمتعت واستفدت ، وتبقى العربية المعجزة الأقرب والأمتع دائما . رائع ما قرأته نفع الله وكتب أجر رجال العلم والمعرفة أهل الخير والصلاح شكرا نديم شكرا للكاتب محسن الشهري

    0
    0
    May 17, 2023

    أحسنتم وبارك الله فيكم .

    0
    0
    May 17, 2023

    أبدعت يا دكتور وليس غريباً إبداعكم

    0
    0
    May 17, 2023

    ماشاءالله تبارك الله .. الله يكتب اجرك يا دكتور

    0
    0
    May 17, 2023

    أَيْنَما أنْبتكَ الله أزْهِر ..

    ‏دمت مميزا أخي العزيز الدكتور:محسن الشهري

    ‏ أسأل الله لكم التوفيق والسداد
    ‏نفع الله بكم وبعلمكم وزادكم رفعة في الدنيا والاخرة
    ‏💐 💐

    0
    0
    May 17, 2023

    أَيْنَما أنْبتكَ الله أزْهِر ..

    ‏دمت مميزا أخي العزيز الدكتور :
    ‏محسن الشهري
    ‏ أسأل الله لكم التوفيق والسداد
    ‏نفع الله بكم وبعلمكم وزادكم رفعة في الدنيا والاخرة
    ‏💐 💐

    0
    0
    May 27, 2023

    مقال غزيرٌ ونافعٌ…
    وفقكم الله ونفع بجهودكم

    0
    0
    January 14, 2024

    شكرا لك على هذا الطرح المتميز

    0
    0
المزيد من المقالات