التفكير في التفكير

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

Stacks of old literature on wooden shelves generated by artificial intelligence

يعد التفكير في التفكير أو التفكير فيما وراء المعرفة من أبرز الآليات التي تنظم تفكير الإنسان، وتقوّم معرفته، وتزيد من قدراته على حل المشكلات، فالتقدم في شتى المستويات العلمية مرهون بتحسين عمليات التفكير، إذ التفكير هو الأداة الرئيسة التي تخلق المشكلات والأسئلة المعرفية التي بدورها تقود إلى البحث وسعة الاطلاع ومن ثم إلى الإنجازات وفتح أبواب جديدة للمعرفة. إن عملية التفكير في التفكير ترتكز في أصلها على المعرفة وطبيعتها، وبيان قدرة الإنسان على مراقبة درجة فهمه للمعاني والأفكار مما يمكنه من مراقبة مستويات إدراكه الذهني، وتقدير مستوى فهمه، فيعمل على تحسين استيعابه بوسائل مختلفة تناسب قدراته وصولا إلى معالجة نقص الاستيعاب، وفتح نوافذ إبداعية ابتكارية.

إن هذا المقال يسعى بالدرجة الأولى إلى بيان آلية التفكير في التفكير من خلال نماذج تطبيقية تُنتقى من النص النبوي الكريم، نرصد من خلاله مفاهيم وآليات التفكير في التفكير، واستنطاق أهم الطرق المعينة على ذلك، وعلى قياس هذه النماذج يقاس تحصيل المعرفة.

جاء في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)).

والشاهد هنا اختلاف الفقهاء في حد الغيبة أهي باللسان؟ أم بالقلب؟ والمتفق عليه أن ذكر المساوئ باللسان غيبة، لكن هل يدخل في ذلك القلب؟ ذهب الإمام الغزالي والنووي إلى أن الغيبة تكون في القلب أيضا، ويشرح ذلك الغزالي بقوله: ” فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، بل الشك أيضا معفو عنه”.

والحق أن ما قرره النووي ووضحه الغزالي أمر جدير بالعناية والاهتمام به، وعلى أقل تقدير يمكن أن نستنتج أن الغيبة لن تصل إلى اللسان إلا إذا مرت على القلب وتحدث المرء فيها في نفسه، وبناء على هذا فإن التوجيه النبوي البليغ يحثنا نحو ملاحظة عمليات تفكيرنا نحو تصوراتنا عن الأفراد الذين تدفعهم أعمالهم أو ظنونا أو نحو من ذلك بما يعود على ذكرهم بالسوء فنقع في الغيبة، وتفعيل التفكير في تفكيرنا يسهم في تجنبنا الوقوع في هذا الأمر.

وضبط هذه العملية في التفكير تتم بعدة طرق:

أولا: معرفة الإنسان بنفسه من حيث موقعه ونظرته في قبوله لأفعال الآخرين.

ثانيا: إدراك نفسه حيال تلك السلوكيات التي تصدر منه في حال عدم تقبل الآخر أو عدم تمشيه مع نظرته المتمركزة حول ذاته، مما يؤول إلى وقوع المشكلة، وهو حديث النفس المقصود بالإساءة نحو الآخرين، فيلزم منه إعلاء شأن المرء لنفسه، ويوقعه في الغيبة باللسان.

ثالثا: بعد معرفته بنفسه، وإدراكه للإشكال الواقع فيه، تتم عملية المعالجة لهذا الإشكال الذي بات واضحا من الفهم والاستيعاب لعمليات التفكير الداخلية التي مر بها حيال هذا الموقف، فيكون قادرا على مراقبة ذاته فيحصل التصحيح والتقويم. وفي هذا المخطط توضيح وبيان للتفكير في التفكير حيال موضوع الغيبة:

jilbert-ebrahimi-HAwA1N2gjo8-unsplash

كما جاء في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه عن أنس رضي الله عنه، قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).

المراد هنا لا يؤمن المؤمن الإيمان التام إلا من حصّل هذه الخصلة وهي أن يحب المرء لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه. والسؤال الوارد هنا: ما هي طريقة التفكير التي تحقق هذه الغاية المنشودة من الحديث الشريف؟ إن جواب هذا السؤال يؤكد لنا أمرين:

الأول: أهمية طريقة التفكير في التفكير وأنها ليست ترفا ذهنيا نكد به الذهن.

الثاني: أن كمال الإيمان لا يتوصل إليه إلا لمن أحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه، مع العلم بأن طبيعة الإنسان تنحى نحو إيثارها لنفسها دون غيرها، وإن آثرت فهي تؤثر القريب من الولد والوالد، ثم الأقرب فالأقرب، والنفوس بطبيعتها تتفاوت في هذا الجانب، إلا أن الحديث يؤكد بعموم هذا الإيثار لقريب أو بعيد دون تحديد، وإطلاق لفظ (أخيه) في الحديث النبوي دال على هذا المعنى وأن المسلمين أخوة، وتحقق هذه المرتبة العالية من الأخلاق الإنسانية من حيث استراتيجية التفكير تحصّل بطريقة التفكير في التفكير ومراقبة الإنسان لذاته. وهذا مخطط يوجز خطوات التفكير في التفكير حيال هذه الفضيلة:

ومن خلال ما سبق يتبين أن الوصول إلى مكارم الأخلاق لا يتم إلا عن طريق وعينا بطبيعتنا البشرية بأنها طبيعة ينتابها النقص والضعف، ولذلك جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) سورة الشمس، آية رقم: 9، وهذا الوعي بمراقبة عمليات التفكير يمكننا من الاستيعاب الجيد لأفكارنا خلال المواقف المختلفة فنعمل على معالجة النقص وإمكانية التنبؤ بما سيحدث من مواقف مشابهة لما مررنا به.

ومما يجدر التنبيه عليه أن أبرز الأسباب الصارفة عن التفكير في التفكير: عدم إعطاء المواقف التي نمر بها فرصة للتأمل، وعدم تقديم أسئلة ذاتية نكشف من خلالها طرائق تفكيرنا، وهذا يؤكد لنا دور التفكير التأملي تجاه أنفسنا، وأهمية الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا، ورصد عمليات تفكيرنا تجاه مواقفنا المتكررة نحو أمر من الأمور، وملاحظة طرائق التفكير قبل الموقف وأثناء الموقف وبعد الموقف.

ونختم بمقولة ابن خلدون التي تتضمن أهمية التفكير في التفكير وأن هذا الفعل يدل على رسوخ أي حضارة إنسانية وطول أمدها وعسر نزعها، فيقول: “والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران وألوان والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال، وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها“. ونص آخر نستنتج منه أن التفكير في التفكير يُحكِم الصناعة والتعليم، فيقول: “ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيه الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليم العلم“.

وأعتقد بأننا لو فتشنا في كتب تراثنا عن عمليات التفكير وأثرها لوجدنا ثراء علميا وكنزا معرفيا، إلا أن الإشكالية تكمن في أن البحث في كتب التراث يتطلب معرفة دقيقة بعلوم الأصول واللغة والكلام والاجتماع.

شارك الصفحة

التعليقات

المزيد من المقالات