Author name: nadiim

ما الحياة المحتملة؟ مراجعة لكتاب: حياة تالفة

Picture of أصالة كنبيجه
أصالة كنبيجه

باحثة في تخصص الخدمة الاجتماعية

يتهيأ الشاب في غرفته للخروج ومقابلة أصدقائه، ممتعضًا من توجيهات أمه المستمرة، الداعية للتركيز في دراسته وعدم الإكثار من الخروج مع رفاقه أو التأخر في عودته، بالإضافة إلى ملاحظاتها الدائمة حول اختياراته في الملبس. يغادر المنزل وهو يقدم أعذاره ويؤكد فهمه لكل هذه الدروس التربوية المتكررة.

وحين يقابل أصدقائه يبحث بحذر عن أمارات تدلُّ على استحسانهم لما يقوله، وعن ذوقه فيما ارتداه ويتباهى بقدرته على التنصل من توجيهات أسرته وفعله لما يريد. إنه يأمل بشكل خاص الحصول على تأييدهم ومباركتهم لشخصيته وقراراته الحرة.

مشهد يتكرر في الكثير من البيوت وبصور شتّى في المجتمعات، يقدّم كتاب حياة تالفة تحليلًا ناجزًا له، ولغيره من المشاهد النفسية والاجتماعية التي أفرزتها الحداثة وما بعدها.

ومع تعدد الأطروحات والاشتغالات التي تناولت الحداثة موضوعًا وظاهرة في متونها وأوساطها، واهتممتُ بها كثيرًا انطلًاقا من اختصاصي الجامعي في العلوم الإنسانية والاجتماعية واهتمامي الشخصي بتركيبة النسيج المجتمعي، إلا أني ما وقفتُ حتى الآن بمثل ما وقفتُ عليه عند كتاب “حياة تالفة” لتود سلون أستاذ علم النفس النقدي، الاستشاري والباحث في المجالات النفسية والاجتماعية وتقاطعاتها، حيث وجدتُ في هذا الكتاب منهجية تحليل تستحق الإشادة والنظر.

وحريٌ بالذكر أنه عرّف الحداثة بكونها مجموعة من العمليات المنتظمة في تراتيب متنوعة، تعكس في جملتها وصف ماكس فيبر لها “عقلنة المؤسسات الاجتماعية”، وتركيز كارل ماركس على جانب “التطور الاقتصادي الرأسمالي” منها، بالإضافة إلى تحليل دوركايم  لـ “التعقيد في تقسيم العمل” وأخيرًا تناول هابرماس لطبيعة “العلاقة بين الأنظمة التقنية والعالم المعيش للثقافة”، مع تركيز المؤلف على أطروحة الأخير منهم.

وسأناقش الكتاب في مسارين يعكسان مساءلة الحداثة باعتبار التغييرات الطارئة على التجربة الإنسانية بسببها، وهي:

  • تلف الحياة أو تلف المعاني؟
  • غريق الحداثة أين يجد قشته؟

أولًا/ تلف الحياة أو تلف المعاني؟

يعالج المؤلف هذا المراد تحت أكثر من فصل ومحور، ولكن الرؤية الكليّة تمثلت في تأثيرات الحداثة وما يتصل بها من عمليات ألقت بظلالها على ثلاثة عوالم هي عالم الشخصية وعالم المجتمع وعالم الثقافة، مقتبسًا هذا التقسيم من هابرماس، المتحدث الأبرز للمنظور السوسيولوجي المعروف بالنظرية النقدية، وقائد الجيل الثاني من المنتسبين إلى مدرسة فرانكفورت النقدية.

  • عالم المجتمع: الذي يمُثل أساس التفاعل المجتمعي، ويرسي قواعده ابتداءً من الأسرة التي أضحت اليوم مؤسسة تربوية اخترقتها قيم الرأسمالية من المفهوم والشكل، مرورًا بالعلاقات، وحتى ممارسات التنشئة الاجتماعية، متأثرة في تكوينها، وعلاقاتها، وممارساتها التربوية، بل وأدوار الأفراد داخلها، التي أصبحت تحاكم وفقًا لمنطق السوق والتعاقدية.

وهنا تبرز أسئلة مهمة لا يقدم الكتاب إجاباتها بقدر ما يثُيرها ويدفع القارئ للوصول إليها: إلى أي مدى انحسر دور الأسرة في تشكيل هوية الفرد؟ وإلى أي مدى تأثر دور الممارسات التربوية في التنشئة والتهيئة للانخراط في السياق الاجتماعي الأكبر؟

  • عالم الثقافة: الذي يُمثل أنظمة المعرفة والمعنى، التي تعرضت للتفكيك وتفتيت الأجزاء، من خلال الأبنية الحديثة للوعي التي تفصل بين النظرة الدينية -كونها رافد جوهري لتمثيل منظومة المعنى- وبين المجتمع.

فنشأت حالات فردية أو جماعية ثائرة على التصورات الأساسية والمعاني الكلية التي استند عليها المجتمع حتى تميّز بها في خصوصيته وفرادة منطلقاته، حالات ثائرة أو مقاومة لقيم المجتمع وركائزه باعتبارها عثرة في طريق النمو الفرداني، أو التوسع المعرفي، أو الحرية، وغيرها من الدعاوى المنشرة، وهذا بدوره يساهم في تشكيل أزمة الهوية؛ لأنها أشبه ما تكون بثورة إنسان على مصادر تكوينه وأسس بناء هويته.

  • عالم الشخصية: الذي يُمثل الهوية، والمتضرر الأبرز من مظاهر الحداثة، نظرًا لحالة التشويش التي وصل إليها، والأزمات التي انبثقت عنها، وقد تطورت في بعضها لتكون مجموعة من الاضطرابات النفسية.

وهنا أستذكر ما قرأته في كتاب معنى الحياة في العالم الحديث لعبد الله الوهيبي:

“الفرد لا يطمئن ولا تستقر نفسه ما لم يعتنق منظومة تأويل متسقة ومعقولة، تؤدي إلى جمع عناصر حياته المشتتة والمتباينة بأي طريقة منظمة”، وهذا بدوره يؤثر على دوافع الفرد، وبطبيعة الحال تصرفاته وسلوكياته.

حين تتباعد فضاءات كل عالم من هذه العوالم، فإن الفراغات بينها تُملأ بتحديات كثيرة، مثل:

وجود مجتمعات وعلاقات بعيدة عن السلطة الدينية والثقافية في ممارساتها وتفاعلاتها، فيُترك الأمر لاجتهادات الرؤى الفردية أو الجماعية لتتولّى زمامه؛ مما يُفقد الإنسان بوصلته الأخلاقية ويدفعه للتخبط بين كل تلك الرؤى، بحثًا عن تصوّر كُلّي أو منظومة متسقة من التصورات والمعاني القادرة على توجيه سلوكياته وأفكاره وضبط أحكامه.

وهذا ما يشير إليه الكتاب حين يُدين الإيقاع السريع للحداثة، الذي أثّر على قدرة الفرد في تكوين تصوّراته ومعانيه ومروره بدورة الحياة الطبيعية للتجربة الإنسانية من جهة، والتنافر بين مكونات الروافد الأولية التي يساهم في تشكيلها المجتمع والثقافة من جهة أخرى.

وهذا كما وصفه الكتاب يعني أن “أبناء العصر الحديث مفلسون تقريبًا من الموارد الرمزية التي تمُكنهم من استيعاب الفوضى الظاهرية في الحياة الاجتماعية والشخصية”.

بعد قراءاتي لهذه الأجزاء أشير إلى أن المشكل في كل عالم من تلك العوالم الثلاثة هو عدم التجانس بين المكوّنات في حين، والصراع بينها في حينٍ آخر، وذلك نظرًا للتغيرات الطارئة على النظام الاقتصادي بما يتضمنه من مفاهيم وممارسات ومؤسسات، والذي طال تأثيره المنظومة الاجتماعية والثقافية التي يشكل الفرد تصوّراته وتوجهاته المتدفقة إلى أوصال حياته وفقًا لها وفي إطارها منذ الطفولة وحتى نهاية عمره.

ثانيًا/ غريق الحداثة أين يجد قشّته؟

كان عنوان الفصل الأخير من الكتاب: “التخلص من الاستعمار”، وهو يعني استعمار الحداثة لتلك العوالم، والأزمات المُفضية إليها.

وهنا أستذكر تقسيمًا واضحًا وملائمًا للمقام، أقتبسه من أحد لقاءات المؤتمر الدولي للفلسفة الذي حضرته مؤخرًا، من تقديم الأستاذة نسرين غندورة من معهد بصيرة.

تقول الأستاذة نسرين أنّ الهوية تتألف من الصفات والسمات، والدين والمعتقدات، والدوافع والرغبات، والقدرات والمهارات، وتاريخ شخصية الفرد، والشكل الخارجي، والوعي والإدراك.

أربعة عناصر منها تتأثر مباشرة بالعوامل الاجتماعية والثقافية، والبقية يُمكن أن يكون العامل الفردي فيها سيّدًا للموقف.

وهذا يُفسّر الاضطراب الحاصل في الهوية حين تُمرر إليها اضطرابات العوامل الاجتماعية والثقافية، أو يظهر الخلل في العملية الأساسية ألا وهي “التمرير الثقافي”، أو التنشئة الاجتماعية بوصفٍ أدق.

وبحسب الكتاب فإن هذه المسؤولية تقع على عاتق الكبار أو الوالدين ودورهم في التعامل مع هذا التحدي منذ سنوات الطفولة المبكرة، ويصيغ هذه الفكرة في سؤال بليغ: “كيف يُمكن أن نحيا مع أطفالنا في عالم من صنع الحداثة، حياة إنسانية يُمكن احتمالها؟”.

وأظن أنّ هذا تحدٍ كبير نعايشه اليوم، ومسؤوليتنا تجاهه تتمثل في شحذ أدواتنا، وتجهيز عتادنا للقيام بأدوارنا التربوية، والحفاظ على أكبر قدر ممكن من القيم سواء الإنسانية عامة، أو القيم الاجتماعية بخصوصيتها الثقافية.

ومن جانب آخر يقترح الكتاب حلًا متمثًلًا في تنشيط عمليات الإنتاج الفني والثقافي المُعبّر عن الهوية المحليّة، في سبيل مدافعة الأفكار القادمة من الوسط الخارجي، أو قيم الرأسمالية التي تُشيّء كل شيء حتى الإنسان، وهذا حتى تكون البيئة المحلية زاخرة بأنماط من المعارف والمعاني التي تعبر عن حقيقتها وواقعها وإنسانية الإنسان داخلها.

عودًا على المشهد الذي ابتدأته، ووفقا للرؤية التحليلية التي انتهجها الكاتب، إن مثل هذه المشاهد تعبيرٌ محض عن تحدي النظام القديم والمرجعية الاجتماعية، في محاولة لإثبات قدرة الذات على ابتكارها للجديد المغاير الذي لا يتصل بالضرورة بما سبقه، والذي يوفر القبول الاجتماعي الذي تحتاجه في أوساط الأقران والأنداد، وهذا منشأ صراع مستمر داخل النفس.

وبرغم إشادتي بمنهجية تحليل الكاتب في حياة تالفة، إلّا أني وددتُ لو أنه تناول أزمة النفس الحديثة من خلال المراحل العمرية المختلفة، لأنها وإن اتفقت في أساس نشأتها، إلا أن العديد من العوامل الدخيلة على التجربة الإنسانية يمكن أن يكون لها دور بارز في تفاقمها، أو الحد منها، حسب كل مرحلة.

شارك الصفحة

ما الحياة المحتملة؟ مراجعة لكتاب: حياة تالفة قراءة المزيد »

التفكير في التفكير

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

كتب نديم

يعد التفكير في التفكير أو التفكير فيما وراء المعرفة من أبرز الآليات التي تنظم تفكير الإنسان، وتقوّم معرفته، وتزيد من قدراته على حل المشكلات، فالتقدم في شتى المستويات العلمية مرهون بتحسين عمليات التفكير، إذ التفكير هو الأداة الرئيسة التي تخلق المشكلات والأسئلة المعرفية التي بدورها تقود إلى البحث وسعة الاطلاع ومن ثم إلى الإنجازات وفتح أبواب جديدة للمعرفة. إن عملية التفكير في التفكير ترتكز في أصلها على المعرفة وطبيعتها، وبيان قدرة الإنسان على مراقبة درجة فهمه للمعاني والأفكار مما يمكنه من مراقبة مستويات إدراكه الذهني، وتقدير مستوى فهمه، فيعمل على تحسين استيعابه بوسائل مختلفة تناسب قدراته وصولا إلى معالجة نقص الاستيعاب، وفتح نوافذ إبداعية ابتكارية.

إن هذا المقال يسعى بالدرجة الأولى إلى بيان آلية التفكير في التفكير من خلال نماذج تطبيقية تُنتقى من النص النبوي الكريم، نرصد من خلاله مفاهيم وآليات التفكير في التفكير، واستنطاق أهم الطرق المعينة على ذلك، وعلى قياس هذه النماذج يقاس تحصيل المعرفة.

جاء في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)).

والشاهد هنا اختلاف الفقهاء في حد الغيبة أهي باللسان؟ أم بالقلب؟ والمتفق عليه أن ذكر المساوئ باللسان غيبة، لكن هل يدخل في ذلك القلب؟ ذهب الإمام الغزالي والنووي إلى أن الغيبة تكون في القلب أيضا، ويشرح ذلك الغزالي بقوله: ” فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، بل الشك أيضا معفو عنه”.

والحق أن ما قرره النووي ووضحه الغزالي أمر جدير بالعناية والاهتمام به، وعلى أقل تقدير يمكن أن نستنتج أن الغيبة لن تصل إلى اللسان إلا إذا مرت على القلب وتحدث المرء فيها في نفسه، وبناء على هذا فإن التوجيه النبوي البليغ يحثنا نحو ملاحظة عمليات تفكيرنا نحو تصوراتنا عن الأفراد الذين تدفعهم أعمالهم أو ظنونا أو نحو من ذلك بما يعود على ذكرهم بالسوء فنقع في الغيبة، وتفعيل التفكير في تفكيرنا يسهم في تجنبنا الوقوع في هذا الأمر.

وضبط هذه العملية في التفكير تتم بعدة طرق:

أولا: معرفة الإنسان بنفسه من حيث موقعه ونظرته في قبوله لأفعال الآخرين.

ثانيا: إدراك نفسه حيال تلك السلوكيات التي تصدر منه في حال عدم تقبل الآخر أو عدم تمشيه مع نظرته المتمركزة حول ذاته، مما يؤول إلى وقوع المشكلة، وهو حديث النفس المقصود بالإساءة نحو الآخرين، فيلزم منه إعلاء شأن المرء لنفسه، ويوقعه في الغيبة باللسان.

ثالثا: بعد معرفته بنفسه، وإدراكه للإشكال الواقع فيه، تتم عملية المعالجة لهذا الإشكال الذي بات واضحا من الفهم والاستيعاب لعمليات التفكير الداخلية التي مر بها حيال هذا الموقف، فيكون قادرا على مراقبة ذاته فيحصل التصحيح والتقويم. وفي هذا المخطط توضيح وبيان للتفكير في التفكير حيال موضوع الغيبة:

التفكير في التفكير

كما جاء في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه عن أنس رضي الله عنه، قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).

المراد هنا لا يؤمن المؤمن الإيمان التام إلا من حصّل هذه الخصلة وهي أن يحب المرء لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه. والسؤال الوارد هنا: ما هي طريقة التفكير التي تحقق هذه الغاية المنشودة من الحديث الشريف؟ إن جواب هذا السؤال يؤكد لنا أمرين:

الأول: أهمية طريقة التفكير في التفكير وأنها ليست ترفا ذهنيا نكد به الذهن.

الثاني: أن كمال الإيمان لا يتوصل إليه إلا لمن أحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه، مع العلم بأن طبيعة الإنسان تنحى نحو إيثارها لنفسها دون غيرها، وإن آثرت فهي تؤثر القريب من الولد والوالد، ثم الأقرب فالأقرب، والنفوس بطبيعتها تتفاوت في هذا الجانب، إلا أن الحديث يؤكد بعموم هذا الإيثار لقريب أو بعيد دون تحديد، وإطلاق لفظ (أخيه) في الحديث النبوي دال على هذا المعنى وأن المسلمين أخوة، وتحقق هذه المرتبة العالية من الأخلاق الإنسانية من حيث استراتيجية التفكير تحصّل بطريقة التفكير في التفكير ومراقبة الإنسان لذاته. وهذا مخطط يوجز خطوات التفكير في التفكير حيال هذه الفضيلة:

ومن خلال ما سبق يتبين أن الوصول إلى مكارم الأخلاق لا يتم إلا عن طريق وعينا بطبيعتنا البشرية بأنها طبيعة ينتابها النقص والضعف، ولذلك جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) سورة الشمس، آية رقم: 9، وهذا الوعي بمراقبة عمليات التفكير يمكننا من الاستيعاب الجيد لأفكارنا خلال المواقف المختلفة فنعمل على معالجة النقص وإمكانية التنبؤ بما سيحدث من مواقف مشابهة لما مررنا به.

ومما يجدر التنبيه عليه أن أبرز الأسباب الصارفة عن التفكير في التفكير: عدم إعطاء المواقف التي نمر بها فرصة للتأمل، وعدم تقديم أسئلة ذاتية نكشف من خلالها طرائق تفكيرنا، وهذا يؤكد لنا دور التفكير التأملي تجاه أنفسنا، وأهمية الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا، ورصد عمليات تفكيرنا تجاه مواقفنا المتكررة نحو أمر من الأمور، وملاحظة طرائق التفكير قبل الموقف وأثناء الموقف وبعد الموقف.

ونختم بمقولة ابن خلدون التي تتضمن أهمية التفكير في التفكير وأن هذا الفعل يدل على رسوخ أي حضارة إنسانية وطول أمدها وعسر نزعها، فيقول: “والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران وألوان والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال، وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها“. ونص آخر نستنتج منه أن التفكير في التفكير يُحكِم الصناعة والتعليم، فيقول: “ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيه الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليم العلم“.

وأعتقد بأننا لو فتشنا في كتب تراثنا عن عمليات التفكير وأثرها لوجدنا ثراء علميا وكنزا معرفيا، إلا أن الإشكالية تكمن في أن البحث في كتب التراث يتطلب معرفة دقيقة بعلوم الأصول واللغة والكلام والاجتماع.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".
إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز.

التفكير في التفكير قراءة المزيد »

السؤال مفجر للمعرفة

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

السؤال مفجر للمعرفة

 

المعرفة والسؤال:

إن المعرفة الخالية من مشكلة متمثلة بحزمة من الأسئلة هي معرفة وهمية لصاحبها، ولو كانت هذه المعرفة سهلة التناول وظن المكنة منها؛ كون المعرفة التي لا تنشأ من إشكال أو سؤال من شأنها أن تصل إلى المتلقي خاوية من مضامينها الحقيقية التي تخلقها الإشكاليات والأسئلة، فتصنع فيها المعنى الملبي لجميع الاتجاهات الفكرية والثقافية والاجتماعية والإنسانية. ويزداد التأكيد على هذه القضية بأن فهم أي علم أو معرفة مرهون بالإحاطة بالأسئلة المنتجة لهذا العلم أو تلك المعرفة، إذ هي السياقات التي أنشأت هذا العلم بمجالها التداولي. وحتى المعرفة التي تكون واضحة في نفسها فإنها بحاجة إلى استنطاقها عن طريق خلق الأسئلة التي تناسب عصرها التي هي فيه، فلا يكتفى بأسئلة ذلك الزمان مع أهمية ألا تكون الأسئلة ركيكة أو ضعيفة في نفسها، ولذلك من الضروري إعادة تشكيل الأسئلة وفق معطيات العصر. ومن الأمثلة على ذلك: المنهج، إذ هو من معطيات عصرنا الحديث، فوجب أن تتوجه الأسئلة نحو المداخل المنهجية والنظرية وفق تشكلات كل علم من العلوم. ومن الأمثلة كذلك التي يتجدد فيها روح السؤال: سؤال نشأة العلوم، فسؤال النشأة متقارب جدا عبر الأزمان، لكن من الضروري على أهل علم كل عصر أن يشكلوا سؤال النشأة وفق احتياج عصرهم لا عصر من سبقهم ولو كانوا في رتبة أعلى في الطلب والإتقان.

الفهم والسؤال:

إن السؤال في المقام الأول ناشئ عن الوعي والفهم، فلا يولد سؤال من عدم، بل حصل فهم عن شيء ليستفهم عن أشياء، والسؤال هو دليل وجود العقول وحياتها، وهو لباس الوعي والفكر، وابن مجاله التداولي، ولذلك الأمة التي لا تسأل، يُسأل لها، وثمة بوّن بين سؤال الأمة نفسها وسؤال يستجلب لها، وحتى إن وجدت هذه الأسئلة فيلزم لها أن تتجدد ولا تبقى على طول الدهر كما هي، إذ يوحي ذلك على مؤشر تراجع للفكر والوعي، كون الأسئلة بطبيعتها قابلة للتطور والنمو.

الوضوح والسؤال:

إن قوة بيان الأفكار تكمن فيما يحيطها من الأسئلة، كون السؤال سياج يحمي المعرفة من الغموض، وكلما كانت العبارة مبينة كاشفة عن أفكارها كانت الأسئلة الضمنية تحميها من الالتباس والتعمية، ذلك أن كل كتابة مبِينة تسفر عن أفكارها، وكل فكرة من أفكارها قائمة على أسئلة لها وظائف غاياتها الإبانة، ولا يلحظ ذلك إلا القارئ الفطن، وإن رمت أن تطلع على بعض الكتابات التي تصرح بالأسئلة فطالع كتابات عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وجامع البيان المعروف بتفسير الطبري ودونك مقدمته، وتفسير الكشاف للزمخشري، ومن الكتب الحديثة يحضرني كتاب كينونة ناقصة للدكتور عبد الله البريدي. وكل كتابة تورد الرأي المخالف هي تستعين على ما تتضمن المخالفة من أسئلة لإيضاح الفكرة والرأي، ولذلك الكتابة الخالية من الأسئلة المباشرة أو الضمنية أو إيراد الآراء المخالفة هي كتابة باهتة تفتقد روح المعنى ونصاعة الوضوح وكثافة الفكرة.

السؤال مفجر للمعرفة 1

 

التطوير والسؤال:

إن انفتاح العلم والمعرفة لا يكون من داخل العلم بل يكون من خارجه، أي بالأسئلة التي تثوّر العقل نحو استجابة للأسئلة المثارة، وهذا يدل على فضيلة السؤال، بل إن بعض الأسئلة تكشف لنا تلاقي العلوم وتلاقحها من بعضها، كما تسهم الأسئلة في تصحيح مسار العلوم، فكما تتطور العلوم بفعل السؤال، فالسؤال نفسه يسهم في تصحيح العلم، وهذا من شأنه أن يوجه الفكر نحو العناية بالوسائل أكثر من النتائج، إلا أن الإنسان بطبيعة فكره يعنى بالنتائج أكثر من الوسائل، مما يؤدي إلى تمركز الفكر نحو النتائج، والذي ينبغي استيعابه أن الوسائل لا تقل أهمية عن النتائج بل إن الوسائل هي التي صنعت النتائج، وما دام هذا الدور للوسائل فإن أبرز هذه الوسائل الأسئلة، فيجب أولا الوعي بأهميتها وإعطائها الدور المنوط بها.

 التفكير والسؤال:

إن نمو التفكير مرهون بوجود السؤال، وخصوصا المهارات العليا من التفكير من التحليل والتركيب والتقويم والابتكار، فإنها تتغذى على مدى نجاعة الأسئلة وعمقها، وهذا ما نلحظه في كافة البحوث العلمية المرتكزة على مهارات التفكير العليا، إذ هي في الأصل ناشئة عن إشكال معرفي مرده إلى أسئلة، تُعرف بأسئلة البحث، وخلف كل سؤال مجموعة من الأسئلة الصغرى التي تفجر منها السؤال الملفوظ وهو السؤال الكلي، فوراء كل بحث علمي مكين إشكالات وأسئلة حفزت الذهن إلى تجاوز الإشكاليات وإحضار إشكاليات مبنية على تجاوز السابقة وهكذا في سلم الإشكالات المخلقة من الأسئلة المحفزة التي تسعى نحو التقدم والتفوق والتغلب على نفسها لتعيد نفسها بطريقة جديدة، ومن هنا يُعلم أن تعليم السؤال نفسه مقدم على سؤال الإنتاج والابتكار.

عناوين الكتب والسؤال:

عناوين الكتب هي في أصلها جواب عن سؤال يتوارى خلف العنوان تولّد في عقل الكاتب، فاصطفاف عناوين الكتب فوق رفوف المكتبات بمثابة نداء للقراء؛ تلبية لدواعي الفضول المعرفية المثارة من الأسئلة الذاتية من قبل كل قارئ، فالقارئ الجاد لا يخلو من الأسئلة التي تثير لديه فضول الطلب، وتلح عليه بالاستزادة من المعرفة الملبية لسؤالات العقل اليقظ، فالعناوين بفعل أسئلتها المباشرة أو الضمنية مدعاة إلى مشاركة الآخرين المعرفة واستنهاض للهمم واستدعاء للعقول النيرة باستنطاق مزيد من الأسئلة.

الدهشة والقلق والسؤال:

قبل إثارة السؤال في النفس ينتابنا شعور يسبق السؤال، وهذا الشعور هو الدهشة والغرابة، وهذا الشعور إيجابي من حيث أنه يقتل الألفة في النظر إلى الأشياء بأنها هكذا تكونت أو هكذا صارت، إلا أن شعور الدهشة يعيد للعقول نماءها ويصب فيها ماء الحياة، فيثمر ذلك الشعور السؤال، والسؤال المثار بعد الدهشة يحملنا على التفكير المتباعد الذي يفسح مساحة للتفكير والفضول المعرفي، بخلاف الألفة المصاحبة للتفكير المتقارب التي تحاول أن تقارب الظواهر وتقيسها بالأشياء فتجعلها بشكل طبيعي ولا ترى فيها الغرابة، والشعور بالدهشة لا يكفي لإثارة الأسئلة والإشكالات ما لم يصاحب ذلك الشعور قلق، فهو الذي يضمن بقاء الدهشة وعدم زوالها، والسؤال هو كينونة القارئ والكاتب وكل عقل نيّر.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".
إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز.

السؤال مفجر للمعرفة قراءة المزيد »

هايكو العرب: مراجعة لكتاب مهاكاة ذي الرمة

Picture of حسان بن إبراهيم الغامدي
حسان بن إبراهيم الغامدي

باحث في الثقافة الإسلامية

لئن كان من محاسن منصات التواصل الاجتماعي على الأدب توفيرها مساحات للتجريب، فإن من مثالبها استسهال الكتابة الأدبية وتصييرها “صيحة” مؤقتة، يشارك فيها الكتّاب بممارسة عفوية غير جادة ولا متواصلة، تبعًا لما هو شائع بين مؤثري الكتابة الأدبية على هذه المنصات.

كان شعر “الهايكو” الياباني صيحةً أدبيةً على تويتر، وصلت ذروتها عام 2017م، تُرجمت قصائد الهايكو من اليابانية والإنجليزية، وجرب الكثيرون كتابة هايكو عربي يحاكي هايكو اليابان قدر المستطاع.

لكني، وربما كثيرون مثلي، لم أستسغ ما قرأته من هذه المحاولات، ولم أستطع الولوج إلى لحظة الاستمتاع بهذا النوع الأدبي المستورد، وقررت التوقف عن محاولاتي لتذوقه والتفاعل معه.

لكن ذلك لم يمنعني من اقتناء كتاب “مهاكاة ذي الرمة: أطروحة الهايكو العربي”، فمؤلفه هو الشاعر حيدر العبدالله، وحيدر ينتمي إلى قلة من شعراء العرب اليوم ممن يملكون مشروعًا شعريًا يعملون عليه بجد ووعي، ويجربون مساحات جديدة دون التخلي عن أصالة شعرهم وجذوره، ودون الاستخفاف بقواعد الشعر العربي وعموده، مع ثقافة شعرية متينه، مما يَعِدُ بتناولٍ عربيٍ جادٍّ مع هذا النوع الشعري الغريب.

ويتلمس قارئ الكتاب جدية حيدر في تناول شعر الهايكو وتجريبه من لحظات الكتاب الأولى وحتى إسدال الستار مع الخاتمة، فالكتاب يسعى إلى وضع أسس نقدية متينة لكتابة “هايكو” عربي، يستلهم الشعر العربي القديم، وهو ما تطلب من حيدر أن يجرد ديوان “ذي الرمة” الذي اختاره مصدر إلهام للهايكو العربي، وأن يلج إلى بنية الهايكو الياباني، والمتمثلة في فلسفة الزن وربطها بالتصوف الإسلامي، وأن يكتب قصائد هايكو عربية ضمن بحور الخليل.

صدر الكتاب أواخر عام 2022م عن دار أدب، في ثلاثمئة صفحة، موزعة على أربعة أبواب، بمراجع تربو على الخمسين، تتوزع بين كتب الطبقات والتراجم، وكتب النقد العربي القديم والجديد، وكتب النقد الغربي، والمصادر العربية القديمة والحديثة المتعلقة بالطبيعة، ودراسات المستشرقين، وكتب الصوفية، وطبعًا ديوان ذي الرمة بمجلداته الثلاث.

إننا أمام كتاب مغامر بلا شك، ولشاعر ينشر كتابًا نقديًا لأول مرة، ولكن الشروط الجادة التي يضعها على عاتقه تعدُ بالكثير، والجميل أنه وفى بوعوده.

أن تغزونا الطبيعة

يختم حيدر كتابه بسطر يقول فيه: “سُئلتُ مرة: لماذا الهايكو تحديدًا؟ فقلت: الشاعر المغامر لا يسأل لماذا. بل يسأل: لمَ لا”.

رغم ذلك فإن حيدر سيأخذنا في الباب الأول إلى اليابان، في جغرافيا الهايكو، ليتعرف على الثقافة التي أنتجت هذا النوع الأدبي، ولا يكتب حيدر نصًا أنثربولوجيًا عن الإنسان الياباني ولغته وطعامه وعاداته وملابسه وطبقاته الاجتماعية، ولكنه سيكتب نصًا أدبيًا عن رحلته إلى اليابان، وكيف نظرت عينا الشاعر إلى التحولات العميقة التي أصابت المجتمع الياباني، وكيف تعاني قمة جبل فوجي وهي تلوّح للناظرين من بين ناطحات السحاب، هذه القمة التي تمثل رمزًا للموضوع الأساسي لشعر الهايكو: الطبيعة.

ومن هنا تغدو الإجابة مبرّرة حين نقول إننا نحتاج الهايكو لنرمم علاقتنا مع الطبيعة، فشعر الهايكو شعرٌ وصفيٌ خالص، لا يستعمل المجازات والتشبيهات، وينحي الشعور بعيدًا، ولا يقصد غير وصف ما يراه الشاعر، فالعدسة مركزة على جزء محدد من المشهد، والشاعر لن يكتب إلا عن وصفه.

لذلك فإن حساسية الهاكي للمشهد الطبيعي ستنمو من جديد، وسيعود إلى معاجم اللغة العامة والمتخصصة في الحيوانات والنباتات والجبال والطقوس والمظاهر الطبيعية، وبذلك تنشأ بينه وبين الطبيعة صلاتٌ تنبع من التأمل، والتخفف البلاغي، وتنحية الأنا والعواطف، وبعث الحياة في شبكة لغوية ميتة متعلقة بوصف الطبيعة، وكما يقول حيدر:

“لا يُراد للهايكو أن يكون غزوًا بشريًا للطبيعة، بل غزوًا طبيعيًا للبشرية”.

 

شاعر الفلوات

بالإضافة إلى ذلك فإن شعر الهايكو على طريقة حيدر يمنحنا صلةً بالأدب العالمي، ويجدد علاقتنا المهترئة بالشعر القديم.

ولا أدري هل قاد الهايكو شاعرنا إلى ذي الرمة، أم أن شعر ذي الرمة قاده إلى الهايكو، ولكن في كلا الاحتمالين دلالة على نوع القراءة الغني الذي سلكه حيدر في قراءة ديوان ذي الرمة، وهو ما جعله ينفض الغبار عن شاعر أُهمل من قديم الزمان، حين كان الناس ولا يزالون يتناقلون نقائض معاصريه: جرير والفرزدق.

يجد حيدر في ذي الرمة وشعره (ولا أقول شعره وحده) فرصةً لكتابة هايكو عربي موصول بالتراث الشعري العربي، مما يجعل التجربة الجديدة مبنية على تراكم يمنحها احتمالات أكثر للوصول إلى ذوق المتلقي العربي، وتمنح في الوقت نفسه الشاعر كنزًا هائلًا من ثقافته يستلهم منه مسارات لشعريته الجديدة.

وفي شعر ذي الرمة سمة موجودة عند هكاة اليابان، وهي معرفتهم العميقة بالطبيعة ومحبتهم الغامرة لها، وانسجامهم مع ما قد نسميه محاسنها ومثالبها. يختلف وصف ذي الرمة عن وصف غيره من الشعراء قديمًا وحديثًا، الذين يتخذون الطبيعة وسيلةً للتعبير عن آمالهم وآلامهم، أو موضوعًا يتغنون فيه بمباهجها، بينما يقول حيدر عن علاقة ذي الرمة بالطبيعة:

“إنّ تفوّق ذي الرمّة عليهم يكمن في قدرته على احتواء الطبيعة احتواءً موضوعيًا، غير مشروط ولا انتقائي. تحضر الطبيعة عند ذي الرمّة بكامل هكذائيتها، بجدبها وربيعها، وحلوها ومرّها، ومباهجها وأهوالها، وشتائها وقيظها، دون أن يضع نفسه في مركزها، أو يجعلها فرعًا عن ذاته”.

لقد صاحب ذو الرمة الطبيعة وصادقها وتقبلها بكل ما فيها، وكان الوليد بن عبدالملك قد سأل الفرزدق عن أشعر الناس فقال أنا، قال أفتعلم أحدًا أشعر منك؟ قال لا، إلا أن غلامًا من بني عدي بن كعب يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات!

بحثًا عن الإيقاع

 ينقد حيدر بجرأة شديدة وبالأسماء تجارب الهكاة العرب، وهي في نظره “لا تعدو كونها تمارين على كتابة هذا الشكل العربي الجديد، وتنم في معظمها عن قصور في فهم مقومات الهايكو الياباني، وعدم إدراك لإمكانات تبيئته عربيًا، مع المحافظة على شروطه الفنية قدر الإمكان”.

وينقل عن محمد عظيمة تبريره لإخفاق الهايكو العربي، حين نظر له الكتّاب كشكل أدبي قصير لا يحتاج إلى أي براعة لغوية، وهو ما يذكرني بتجارب الأدباء العرب مع القصة القصيرة التي يمكن الحكم على أكثرها بالتواضع دون أي تردد، والظريف أن حيدر انتقد محاولات عظيمة نفسه في كتابة الهايكو وإدراك جوهره.

يُعرّف حيدر العبدالله شعر الهايكو بأنّه: “نصٌ شعريٌ متصوّف، يربط الطبيعة بالإنسان، ويُقال في نفسٍ واحد”، وقد شرح في الكتاب البنية الصوفية التي يرتكز عليها الهايكو الياباني ومثيله في التراث العربي، وانعكاسه على الصيغة اللغوية البسيطة لشعر الهايكو، كما تكلم باستفاضة عن موضوع الهايكو وعلاقته باختيار ذي الرمة والقرائن الموسمية المتعلقة بفصول السنة الأربعة التي تساعد على الاتصال بالطبيعة، ولكن ماذا عن النفَس الواحد؟

يعد التنفس واحدةً من أهم أدوات الصوفي الياباني في الوعي باللحظة وتنمية مدركاته، وكان الهايكو قد نشأ في المعابد البوذية الصوفية، وبتراكم التجارب اختاروا أن توزن قصيدة الهايكو بسبع عشرة حركة صوتية هي ما يُمكن للنفس الواحد احتماله.

قام حيدر بتطبيق هذه التقنية الإيقاعية على العروض العربي المتمثل في بحور الخليل، وقدم نموذجًا تطبيقيًا من شعر الهايكو لكل بحر من هذا البحور موضحًا تفعيلاته وكأنك في محاضرة لمادة العروض. ولا يقصد حيدر بإصراره على الهايكو الموزون تعقيدَ كتابة الهايكو، بل وضع إطار شكلي محدد للهكاة العرب، يصرفهم للاهتمام بالمحتوى الشعري دون الانشغال بشكله، يقول حيدر: “من شأن تنظيم الهايكو أن يُريح الهكاة العرب، ويُفرّغهم لخوض تجربة شعريّة مطمئنة، حين يتّكئون على بحر معين، سبق لهم أن أتقنوه وتمرنوا عليه في نصوصهم الغنائية”.

وبادر حيدر بنفسه، فهاكى ديوان ذي الرمة، وكتب مستلهمًا من شعره مئة قصيدة هايكو، مضبوطةً بتفعيلات الخليل، تاركًا للنقاد حرية تقييم تجربته بعد أن ضبط لهم أدوات قراءتها ونقدها.

وهذه نماذج من أجمل ما هاكه حيدر من شعر ذي الرمة:

قال ذو الرمة:

تبسّم لمحَ البرقِ عن مُتَوضّحٍ  

كنورِ الأقاحي شافَ ألوانَها القطْرُ

يشبّه ذو الرمة ثغر حبيبته بزهرة الأقحوان، وهي البابونج، حين يغسل المطر بتلاتها، فيقول حيدر مهاكيًا:

الأرضُ تحسو

رشفتيْ بابونجٍ

بعد المطرْ

قال ذو الرمة:

لانَتْ عريكتُها من طولِ ما سمعَتْ 

بينَ المفاوِزِ تنآمُ الصدى الغَرِدِ

يصف ذو الرمة الناقة وهي تُسرع في مسيرها بتأثير صوت البوم الذي يُعجبها، فيقول حيدر مهاكيًا:

ناقةٌ تطربُ للبومِ

فتنداحُ

خُطاها

ولئن كنا نرقب قصيدة جديدةً من حيدر كل فترة، فما أحرانا بانتظار كتابٍ نقديٍ جديد منه، لا تنقص لغته الجمال، ولا تعوزه الجدية، ولا تمنعه الثرثرة المتكاثرة من التجديد.

شارك الصفحة

هايكو العرب: مراجعة لكتاب مهاكاة ذي الرمة قراءة المزيد »

الجهل محفز معرفي

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-george-becker-792031-2 2

   إن الأشياء لا تكون فضيلة بذاتها، إنما تنبثق الفضيلة من لوازم الأشياء ومقتضياتها، والجهل بحسب المتعارف عليه ذم كله، حتى إذا فتشنا عن كثير من سياقاته نجده كذلك، فهذا عصر الجاهلية وسمٌ لأحوال العصر الذي كان قبل الإسلام، وعند المناطقة مصنف إلى الجهل البسيط والمركب، وإذا أُطلق على شخص بأنه جاهل كان ذلك الوصف غاية في النقص، هذا وإن الجهل تعدد معانيه بتعدد أضداده، فمن الجهل ضد الحلم، ومنه ضد العلم، ومنه ما هو ضد الوقار والسكينة، وهكذا تتعدد المعاني بتعدد السياقات التداولية، وجل المعاني تدور حول الذم والنقص، وهذا صواب، إلا أن هذا المقال يود أن ينوه بأن الجهل الذاتي الداخلي -النابع من الكينونة المتطلعة لجبر نقصها الطبيعي لا الخارجي المعروف بالتجهيل- قد يقودنا إلى الفضائل إن كان محفزا إلى المعرفة، وسبيلا إلى الارتقاء بها، والتقدم في سلم الحضارة، يقول كليرك ماكسويل: إن الوعي بالجهل مقدمة لكل تقدم حقيقي في العلوم.

   إن مكمن الفكرة وجوهرها ينطلق من معنى الجهل وهو خلو الذهن من الأفكار أو المعلومات، وهذا بشأنه أن يُحدث اضطرابًا؛ كون الطبيعة الإنسانية لا تألف الخلو ولو اضطرت لقبول الخطأ، فيكون ذلك محفزًا على امتلاء الذهن بعد إدراك خلوه، وهذا من حيث ما يتعلق بجهل الإنسان، وبالمقابل هناك ما أسميه بجهل المعرفة الكامن في طبيعتها المحاطة بصور من الجهل، فالبنية المعرفية محاطة بأطر من الفجوات والأسئلة المثارة، ولا يبدأ الوصول لتلك الفجوات إلا بإدراك جهلنا في أنفسنا وفي المعرفة نفسها، فنعمل على ملء الذهن والتخلص من الفراغ؛ وصولًا إلى مقاربة الصورة الحقيقة للأشياء، مما يضمن لنا حركية العقل في البحث والتنقيب في حقول المعرفة بحيث لا ينضب محزونها وتتحرر من ثغراتها وتعيد إنتاجها، وهذا بدوره أن يجعل من الجهل المُدرك مشروعًا لاستكشاف المشكلات العلمية والعمل على حلها.

هذا وإن الجهل الواعي يأخذ تمثلات متعددة منها: السؤال، والمشكلة البحثية في البحث الأكاديمي، وصور التفكير، والشك، وأساليب بناء النظرية. ولنبدأ بالسؤال.

    أليس السؤال هو عين إدراك الجهل؟ وإذا كان السؤال يتطلب جوابًا فأيهما أوسع مدى السؤال أم الجواب؟ أقول في الجواب الأول: بلى إنه الإدراك المركب من الجهل الذاتي للإنسان، وجهل المعرفة الكامن في طبيعتها بوجود ثغراتها، أما الثاني بالطبع السؤال أوسع من الجواب لسببين: الأول: أن السؤال مرتبط بالجهل أكثر من الجواب؛ كون السؤال مصارحة الإنسان بجهله ومكاشفته لذاته بخلاف ما قد يتوارى الجهل في الجواب، والثاني: أن الجواب محدد الأطر ضيق النطاق؛ كون السؤال يصعد للأعلى أي جالبًا لغيره من الأسئلة، وهو أشبه ما يكون بالآفاق الممتدة، أما الجواب بخلاف ذلك فإن اتجاهه نازل لا صاعد، أشبه ما يكون بالبئر، يعطي عمقًا من المعرفة لكنه في مسار محدود، ولذلك لا تتقدم أي منظومة حضارية إلا بالجرأة على السؤال وانفتاح آفاقه، وما الجرأة في هذا المقام إلا مواجهة الجهل ومكاشفته.

   ثاني هذه التمثلات للجهل الواعي تكمن في المشكلة البحثية المتعلقة بالبحث الأكاديمي، حيث لا تبنى أركانه إلا إذا كانت المشكلة البحثية مصوغة بشكل واضح تجلي جهل الباحث بالنتائج التي ينشد الوصول إليها، وما بين المشكلة البحثية والنتائج المرجوة منطقة يسودها الجهل لا يعبرها الباحث إلا من خلال التفكير العلمي، والمنهجية التي تكون مطيته في كسر ثورة الجهل التي تمثلت في المشكلة البحثية، ومن يتأمل المسافة بين صياغة المشكلة البحثية والنتائج التي توصل إليها الباحث يدرك أن الجهل محفز معرفي يفتت الركام ويحطم الجدران، وهذا عين ما يفهم من أن الجهل المُدرك يهدم الجهل.

   إن صور التفكير المنطقي والتأملي والرياضي والعلمي والناقد والإبداعي كلها تقابل صورة التفكير الخرافي الذي ينبت من الجهل، فإذا كان التفكير عبارة عن سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله، فإن أبرز مثير هو الشعور بالجهل الحادث من وقوف عملية التفكير حول موضوع ما، وبناء عليه فإن الجهل الواعي يدفع التفكير الخرافي، ويعمل على بث ما يضاده، فتكون وظيفة الجهل الواعي في هذا المقام إنتاج عقلية معرفية تتعاطى مع الحقول المعرفية بشتى صور التفكير.

الجهل محفز معرفي

   الشك هو أحد صور الجهل التي يفصح عنها العقل المستنير، حيث يرجع معنى الشك في اللغة إلى التداخل؛ كون الشاك يتداخل له أمران أو أكثر في مشك واحد وهو لا يتيقن واحدا منهم، واجتماع عدة تصورات لأمر يستلزم تصورا واحدا يستحيل منطقا وعقلا، فنسبة التردد والشك هي في أساسها جهل بالاختيار الأقرب للصواب، وهذا من شأنه أن يفتح أفق التفكير، ويبحث عن الأدلة والبراهين التي ترجح خيارًا وفي الوقت نفسه تستبعد الخيارات الأخرى؛ لعدم كفاية الأدلة أو عدم رجحانها، والشك في هذا المقام أقرب ما يكون إلى الشك المنهجي أو الاحترازي؛ الذي يكف عن المعرفة الإنسانية الولوجَ في متاهات الغموض أو الخرافة، ومنبت هذا الشك هو في أساسه جهل دفعه الشك مما يستلزم حضور الروح النقدية لإبراز الدلائل والبراهين والإيجابيات والسلبيات.

   ومن تمثلات الجهل بصورته الإيجابية ما يرتبط في أساليب بناء النظرية، وهذا ما كشفه كارل بوبر حين فرّق بين الأسلوب العلمي الذي اتخذه المحلل النفسي فرويد وإنشتاين، حيث ينطلق فرويد من مجريات الماضي ليصل إلى فهم الحاضر، بخلاف إنشتاين الذي لا ينظر إلى الماضي بل يحاول أن يعي المستقبل، وهنا تكمن المفارقة بين الطريقتين من حيث الغاية، فالغاية عند فرويد وصفية تفسيرية للظواهر، وهذه على الأرجح غير وارد فيها الخطأ، أما إنيشتاين فيتغيا حسن التنبؤ، وهذه الغاية أسمى ما تنشده العلوم، وبناء عليه فإن الجهل الواعي أقرب ما يكون إلى اتجاه مدرسة إنشتاين العلمية؛ كونها عرضة للخطأ، وكلما اقترب العلم من طبيعته -المعرّض للخطأ– كان قابلًا للتحديث والتطور، ويؤكد بوبر ذلك بأن النظرية التي تشرح كل شيء لا تشرح شيئًا، وأن العلم الحقيقي هو القابل للدحض والخطأ وليس التأكيد، وهذا ما أود التنبيه عليه بأن الجهل مصاحب للمعرفة بطبيعته ومطور لها، يقول يوفال هراري: ثورة العلم هي ثورة الاعتراف بالجهل وليس ثورة المعرفة.

   إذا كانت هذه النظرة الإيجابية للجهل الواعي من بابها الواسع، فإنه لا يكون كذلك إذا جئنا بهذا التصور للعلوم الشرعية من العقيدة والقرآن والحديث …؛ كون هذه العلوم مكتملة البناء، وتؤخذ بصفتها مسلمات، وهذا لا يعني عدم إعطاء دور للعقل فيها، إنما أدلتها وبراهينها نقلية وعقلية متوافقة مع العقل، ولذلك لا يكون الجهل واعيًا إلا في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الطبيعية؛ كونه يمنح العلوم الإنسانية تمدد أفقيًا، والعلوم الطبيعية تمدد عموديًا بنائيًا، الأفقي في العلوم الإنسانية بصفتها علوم احتمالية من شأنها أن تتوسع فيها الفلسفة والنظريات كلا على حدة عن الأخرى لعوامل بيئية وثقافية واجتماعية متباينة، أما العلوم الطبيعية فهي علوم محايدة منطقية يكون فيها بناء النظريات بعضها من بعض بطريقة تراكمية، فالجهل الواعي يمد التوسع أفقيا وعموديا.

   نحن غارقون في كينونة الجهل، وما نحتاجه هو التنبه واليقظة له كل حين، لكن ليس هذا الإشكال، الإشكال يكمن في عدم إدراك هذا الجهل، أو ضعف تصوره لأسباب: لعلها تبدأ بوهم المعرفة، والخضوع للأحكام المسبقة، والأخذ بالتصورات الأولية، والدخول في التفكير الجمعي، في حين أن الجهل يتغذى بالانتباه واليقظة والسؤال والشك وتجلية الإشكال العلمي، والمقارنة، وما المعرفة إلا تصور للمجهول، وما من معرفة إنسانية إلا يخالجها الجهل فالمعرفة الحية صيرورة دائمة وقودها الجهل الواعي، وهذه طبيعة المعرفة.

   إن الجهل بالمعرفة معرفة واعدة، وهو الذي يفتح آفاق السؤالات التي منها ينبثق التطور، والجهل هو الضمان لاستمرار علمية التحديث والتطور، إن الجهل داء لا يداوى إلا بالجهل نفسه، وذلك عن طريق وعيه وإدراكه، والنفس السوية تعمل على إزاحته.

وأخيرًا أقول: إن الحقائق في هذه الحياة قليلة جدًا، جلها في الإيمان بالله وما يترتب على ذلك، وما دون ذلك فهي حقائق مؤجلة يكشف نقصها الجهلُ بما وراءها، والأزمنة التي تلح عليها بالأسئلة، وعدم اليقين بالموجود.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".
إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز.

الجهل محفز معرفي قراءة المزيد »

"هنا وفي تلك الحِقْبة المتفرِّدة على متنِ الدّهر في تاريخ اللّغات، نزل القرآن الكريم بلسانٍ عربيّ مُبين

القرآن الكريم وخلود اللُّغة العربيَّة

القرإن الكريم1

الحمدُ لله الذي أنزل على عبدهِ الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصّلاة والسّلام على من أُوتي جوامع الكلّم، وعلى آلهِ وصحبهِ وسلّم، وبعد:

فإنّ لغةً يتنزَّلُ بها كلام الله سبحانه وتعالى، لهي لغة مصطفاة منتقاة تهيأت لاستيعاب أكرم المعاني وأسناها؛ وهذا وحده دليلُ شرِفها وبرهان فخرِها؛ إذ من المعلوم ضرورةً عند علماء الأمة سلفِها وخلفِها أن البيان الذي قَهر القُوى، وأعْجزَ القُدَر، وألجم أساطنة الخطاب إلجامًا، وأفحم شقاشق الشُّعراء إفحامًا، ما كانت معانيه لتتزَّل من عليائِها إلا في أشرق دِيباجة وأنصعها وأحلاها وأوفاها، وذلك لأن معاني القرآن الكريم هي كلام الله سبحانه وتعالى، وفضلُ كلام الله على كلام النّاس كفضلِ الله على النّاس.

جلال اللّغة العربيّة وجمالها:

الجلال والجمال المطلقان من صفات الله -سبحانه وتعالى- فَهُما إذنْ من صفات كلامه، ومن ثمَّ كان لزامًا أن تتوافرَ هاتان الصّفتان في الألفاظ والتراكيب اللازِمة لتلقي معاني هذا الكلام الإلهي، واستيعابها، والوفاء بدقائقها، دون تقصير أو تفريط، وهذا ما تشهد به دقائق اللّغة العربيّة، ولطائفها؛ إذ لكلِّ تركيب فيها معنى محددًا ودلالةً خاصّة، فقولك: محمّد مستقيم، يختلف عن قولك: محمّد المستقيم، وقولك: المستقيم محمّد، وعن قولك: محمّد ذو استقامة، وهكذا… فكلُّ اختلافٍ في التركيب يتبعه اختلاف في المعنى، كما أن لكلِّ لفظٍ في اللّغة العربيّة دلالة تُميزه عن غيره، فلفظ (الخبر) يختلف عن لفظ (النبأ)، من حيث أن الأول أعمُّ من الثاني؛ فالخبر يكون لكلِّ أمرٍ صغير أو كبير، عظيم أو حقير، أمّا النبأ فلا يُستعمل إلا فيما هو أهمّ وأعظم، وفي القرآن الكريم: «وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» (النمل: 22).

بل إن للحروف والحركات والهيئات اعتبارات خاصّة في الدلالة على المقصود، ولا تكاد تجد لذلك نظيرًا في لغة أخرى، وهو ما أشار إليه ابن خلدون في مقدّمته، إذ يقول: “وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد؛ لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تُعَيِّن الفاعلَ من المفعولِ من المجرورِ أعني المضاف، ومثل الحروف التي تُفضِي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى، و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب، و أما غيرها من اللّغات فكلّ معنى أو حال لابدَّ له من ألفاظ تخصه بالدلالة؛ و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب، وهذا هو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: “أوتيت جوامع الكلّم واختصر لي الكلام اختصارًا”، فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت، أي الأوضاع، اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها، إنّما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا”، فاصطفاء الله -سبحانه وتعالى- للّغة العربيّة لتكون وعاءً لمعانيه التي فيها صلاح أمر الخلق دُنيا ودِينا، معاشًا ومعادًا، إنما هو دليل ظاهر وأمارة بيِّنة على جلال هذه اللّغة وجمالها في الوقتِ ذاته.

نزول القرآن وأوضاع اللّغة:

كان لتوقيت نزول القرآن الكريم خصوصيّة مع أوضاع اللّغة العربيّة، ذلك أن العرب في ذلك الوقت على جهة الخصوص كانوا قد بلغوا الذروة في الاستعمال اللّغوي، والتعرُّف على دقائقِ اللّغة، وفهم مغازيها، وأحسُّوا برهف سليقتهم أنهم بلغوا من التحضر البياني ما لم يبلغه أحدٌ من الناس، فصاروا يتبارون في فنون القول، ويتنافسون في ضروب الكلام نثرًا وشعرًا، ويتعاطون المعاني ويميزون غثَّها من سمينها، وأصبحوا خبراء في هذا الشأن، علماء بدقائقه، وقد حفظت لنا المدونة النقديّة ما يؤيد هذا التحضر اللّغوي، حيث أُقيمت المجالِس في الأسواق لتحكيم الشّعر، وتفضيل الكلام، فها هو النّابغة الذِّبيّاني كانت تضرب له قبّة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فيفصل بينهم، ويضع كلّ شعر في طبقته، مُبيّنًا أوجه الإجادة والقصور في الكلام… نعم لقد بلغ العرب في هذه الحِقبة من الزّمن مالم يبلغه غيرهم من النّاس في الإبانة عن المعاني جلّها ودقِّها، ظاهرها وخفيها، وأحدثوا تَقدمًا لغويًا قلما تجده في لغة أخرى، فاستبعدوا غريب الألفاظ ووحشيها، وأبقوا على مستعملها ولطيفها، واستنطقوا دلالات الحروف ومعانيها، وصرفوا القول تصريفًا، وعلموا مواضع التأنق في الكلام؛ ابتداءً وانتهاءً، كما علموا كيفية التنقل بين الأغراض، وميزوا بين الشعر المتماسك والكلام المتناسق، والشعر الذي يشبه بعر الكبش، والكلام الذي ليس له (عِناج) أي رابط وصلة! فقالوا فلان يقول البيت وأخيه، وفلان يقول البيت وابن عمه، يقولُ الجاحظ: “فحين حملوا حدّهم ووجّهوا قواهم لقول الشّعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللّغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النّسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرّف الأنواء، والبصر بالخيل والسّلاح وآلة الحرب، والحفظ لكلّ مسموع والاعتبار بكلّ محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كلّ أمنيّة”، هنا وفي تلك الحِقْبة المتفرِّدة على متنِ الدّهر في تاريخ اللّغات، نزل القرآن الكريم بلسانٍ عربيّ مُبين، فلما سمعه عقلاء القومِ منهم علموا علم اليقين أنْ لا سبيل إلى معارضته أو مباراته أو النَسج على مِنواله، وعجزت آلة تحضرهم (اللّسان) عن ذلك، فانقسم القوم آنذاك إلى فِرقتين، فِرقة أيدت هذا الحقُّ المُبِين، وآمنتُ بصفوةِ المُرسَلين، وسلَّمت لكلام ربِّ العالمين، بعدما أذعنوا لشاهد الفطرة التي فطر الله النّاس عليها.

وفِرقة تمادت في العناد، واستمرت في اللّداد، وعمدت إلى إنكار ما بَدَا من الحقّ في أسماعهم كبرًا ولجاجًا، وأعلنوا المعاداة، وشرعوا في تقلُّد آلة أخرى بديلاً عن اللّسان، فطاردوا بكلّ ما أُوتوا من قوّة هذا البيان الذي فَضح عجزهم، وأبان عن تقصيرهم، وحدّد سقف طُموحهم، وأنّه يعلو ولا يُعلَى عليه بشهاداتهم، والحقّ ما نطق به الأعداء.    

 أما غير العقلاء منهم فذهبوا إلى مُعارضتهِ بكلام سفههُ العامَّة منهم قبل الخاصّة، كما في أخبار سجاح ومسيلمة الكذاب، وغيرهما، وقد نقل الباقلاّني شيئًا من هذا الكلام ثمّ قال: “فأما كلام مسيلمة الكذاب، وما زعم أنه قرآن، فهو أخسُّ من أن نشتغل به، وأسخف من أن نفكر فيه، وإنّما نقلنا منه طرفًا ليَتعجّب القارئ، وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضلَّ، وعلى ركاكته قد أزلَّ، وميدان الجهل واسع!“.

قرأن كريم

القرآن وصيانة اللّغة العربيّة:

كان للقرآنِ الكريم بالغ الأثر في الحفاظ على اللّغة العربيّة من الضياع والانهيار الذي طال كثيرًا من اللّغات، فأضعفها من بَعدِ قوّة، وأدى إلى اندثار معالمها، ومحو آثارها، وذلك لأن هذه اللّغات لم يتهيأ لها من العوامل ما تهيأ للّغة العربيّة بنزول القرآن الكريم بها، ومن أهم هذه العوامل:

أولاً: حفظ اللّغة من اللّحن:

بعد أن استقرت دولة المسلمين، واتسعت رقعتها، واختلط العرب بغيرهم، ودخل الأعاجم في دين الله أفواجًا، واتّصل العرب بالأمم المجاورة، فشا اللّحن وانتشر وأحسَّ العربُ بهذا الخطر الداهم، إذ كان كلامهم فصيحًا خاليًا من اللّحن والخطأ، مستقيمًا في أساليبه منسجمًا في تراكيبه، وبدأ اللحن خفيفًا على ألسنة العامَّة خصوصًا الموالي، ثم سرعان ما شاع وانتشر حتى جرى على ألسنة الخاصّة، ثم بدأ يتسرّب إلى قراءة القرآن الكريم، فكانت الحاجة إلى تقويم اللّسان، ومقاومة اللّحن الذي أصاب اللّغة، فانتفض البلغاء والفصحاء الباقين على العهد الأوّل بلغتهم، وأخذوا يُقوِّمون ما استطاعوا حتى أُلِّفتْ المؤلفات التي تناولت هذه القضية نحو: كتاب: ما تلحن فيه العامّة للكسائي، وكتاب: ما يلحن فيه العامّة لأبي عبيدة معمر بن المثنى، وكتاب التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة بن الحسن الأصفهاني، وكتاب: تمام فصيح الكلام لأحمد بن فارس، وكتاب: تثقيف اللّسان وتلقيح الجنان لابن مكي الصقلي، وغيرها.

ثانيًا: اكتساب اللّغة العربيّة مهارات جديدة:

أفاد القرآن الكريم اللّغة العربيّة مهاراتٍ جديدة لم تكن معروفة قبل نزوله، فعلم التجويد والوقف والابتداء من العلوم التي نشأت خدمة لسلامة نطقِ ألفاظ القرآن، وتصحيح مخارج الحروف، والتدقيق في الابتداء بالمعاني والوقف عليها، وانعكس ذلك على اللّغة تجويدًا وإتقانًا لمخارج حروفها، وسلامة منطقها، بل امتدت هذه المهارات إلى الشّعر، فعرف أهل العِلم بالمعاني الوقف والابتداء في الشّعر!

 كما أن القرآن الكريم أفاد اللّغة العربيّة تهذيبًا في الألفاظ، وعلوا في التراكيب، فازدادت مهارات الكُتَّاب بما استثمروه من محاكاة هذا الأسلوب العليّ، والاقتباس من ألفاظه، ومعانيه، كما كان سببًا في استحداث أغراض جديدة في فنون القول، فنشأ المديح الإلهي والمديح النبوي، وتحدّث الشُّعراء عن حتمية الموت والحياة بفلسفة جديدة مستمدة من روح القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، كما ظهر فنّ الزّهد، وتأسست معالم شعريته، وازدان الكلام بالحكم والمواعظ الربانية، كما أمدهم القرآن بأحسنِ الأمثال وأروع التشبيهات والاستعارات والكنايات، ولازال عطاؤه مستمًرا حتى تجفّ الأقلام وتُرفع الصّحف.

 ثالثًا: كان القرآن سببًا في تأليف كثير من العلوم الشرعيّة والعربيّة كالنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع، وإعجاز القرآن وبلاغته، وكتب تفسير الغريب، وتأويل مشكل لفظه، والأشباه والنظائر، وتأثرت العلوم الأدبية بتلك العلوم المتعلقة بالقرآن، فألفوا في الأشباه والنظائر في الشعر، وفي غريب الشعر ومستعمله، وفي المعاني المختارة منه، كما نشأت العلوم التي تستمد من لغة القرآن مادّتها ومنهجها نحو أصول الفقه والتفسير، والقراءات وغيرها.

القرإن الكريم

رابعًا: حافظ القرآن على التّواصل المعرفي بين الأجيال:

فهذا وعد الله سبحانه الذي لا يتبدّل ولا يتحوّل: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»[سورة الحجر: 9]، فكان حفظُ القرآن لازمًا لحفظ اللّغة التي نزل بها، وكان من أثر هذا الحفظ استمرار الاتصال المعرفي بين الأجيال اللاحقة والأجيال السابقة، في فهم ألفاظ اللّغة وتراكيبها، وفنونها، فسهَّل عملية التعرّف على لغة القدماء، بحيث إذا قرأ الجيل الحالي معاني الشّعر القديم لم يُعْيه فهم هذه المعاني إلا في بعضِ الألفاظ الغريبة، وقد سهلت المعاجم -التي استمدت كثيرًا من معين القرآن الكريم مادتها- هذا الأمر.

خامسًا: أسهم القرآن في انتشار اللّغة في البلدان غير العربيّة، إذ لابدّ للمسلّم عربيًا كان أو أعجميًا أن يتلوَ القرآن باللّغة العربيّة في صلاته، وتلاوته حفظًا وتعبدًا، “ذاك لأنَّا لم نتعبد بتلاوته وحفظه، والقيام بأداء لفظه على النحو الذي أنزل عليه، وحراسته من أن يغير ويبدل، إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر، تُعرف في كلّ زمان، ويُتوصل إليها في كلّ أَوان، ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السلف، ويأثرها الثاني عن الأول، فمَنْ حالَ بيننا وبين ما له كان حفظُنا إياه، واجتهادُنا في أنْ نؤدِّيَه ونرعاه، كان كمن رام أن يُنسِينَاه جملةً ويُذْهبَه من قلوبنا دفعةً”، الأمر الذي دعا كثيرًا من البلدان إلى ابتعاث أبنائها إلى الدول العربية لتعلُّمِ علومها، ثم العودة لتدريس هذه العلوم في مدارسهم وجامعاتهم، مما أدى إلى التبادل المعرفي والثقافي بين الدول، وزاد من انتشار اللّغة العربيّة، وازداد عدد الناطقين بها من غير العرب، تفهمًا لمقاصد الشّريعة، إذ لابدّ من تعلم العربيّة لفهم هذه المقاصد فهمًا صحيحًا يستقيم مع مؤداها.

سادسًا: التصدّي لعوامل انهيار اللّغة الفصحى:

ظهرت كثير من الدعوات تنادي بإحلال اللّهجات العاميّة واللّغات المحلّيَّة محلَّ اللّغة الفصحى، بحججٍ واهية، وبَراهين مُتهالكة، من نحو الدعوة إلى تقريب المفاهيم والمصطلحات التراثية من الأجيال الحديثة، والعناية بنقل أكبر قدر من العلوم والمعارف إلى الجيل الحالي، ولا يخفى ما وراء هذه النداءات من حملات ممنهجة تهدف إلى النيل من اللّغة العربيّة، وتستهدف إضعافها، ولكنها سرعان ما تبوء بالفشل والخيبة والخسران، وذلك لأنّ القرآن الكريم وقف حصنًا منيعًا ضد تمييع اللّغة بأي وجه من الوجوه، لأنّ هذه الدعوات تتناقض مع منهجه القويم المتمثل في قوله تعالى:« وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ» [سورة القمر: 17]، ويقول الشيخ حمود شاكر عن هذه الحملات الشعواء محذِّرًا الأمة الإسلامية من التفريط أو التهاون في شأنها: “والصراع الدائر اليوم بين الثقافة العربية الإسلامية التي نحن ورثتها وبين الثقافة الغربية المسيحية قد جمع أكبر همته في ميدان اللّغة لأنّه يعرف هذه الحقيقة التي بينتها، فبدأ دعوة هذه الأمم العربيّة المتفرقة إلى اتخاذ العاميّة الإقليمية لغة سائدة في كل إقليم عربيّ لكي يحطم هذا الأصل الحامل لثقافتنا وديننا، وليزيد في تمزيق حياتنا وتدميرها، وبلغ دعاته بعض مأربهم”.

كانت هذه أهمُ العوامل التي ضَمِنت للّغة العربيّة البقاء والخلود والتصدّي لعوادي الزّمن، ومواجهة الهجمات الشرسة التي تعرّضت وتَتَعرّض لها، فضلاً عن الأحداث التي أدّت إلى تشتيت الدولة الإسلاميّة، بعد امتدادها واتِّساع رُقعتها وقوّة سلطانها، والتي لو تهيأت لأيِّ لغة من اللّغات لكانت أقوَى أسباب ضعفها واندِثارها، ولكن اللّغة العربيّة مرعيَّةٌ بوعد الله وبكلامه الباقِي، فلهُ الحمدُ والمِنّةُ على جليل هذه النّعمةُ، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السّبيل.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".
إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز.

القرآن الكريم وخلود اللُّغة العربيَّة قراءة المزيد »

الخطأ مكوّن معرفي

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

التخصص كمدير يحرمك الترقية

              إننا مدينون للأخطاء البصيرة التي تصلنا للعلم والمعرفة

الكاتب

إن صناعة العلم والمعرفة لا ترتقي إلا على سلم من الأخطاء، فالإنسان كائن مخطئ، والأخطاء جزء رئيس من تكوين العقلية النافذة إلى أعماق المعرفة، لا سيّما أن جل المعارف والعلوم تدين للخطأ البصير الذي يقودها إلى جسور الصواب، إن الوصول إلى الماء الكامن في قعر البئر لا يكون إلا بحدوث الغبار والاستغناء عن كثير من التراب وهكذا المعرفة، إذ إن استنتاج النظريات وتقعيد العلوم وإنتاج المعارف والإبداع في الفنون وتجريد المعاني فلسفيا ليس بمنأى عن المغالطات العقلية أو المنطقية التي قد تكون هي سبيل للارتقاء في المعرفة.

وفي هذا المقال إبراز وبيان للخطأ الذي أحد وجوهه المغالطات المنطقية التي يكون فيها الخطأ عن طريق حركة العقل في رصد الفكرة، وليس البناء الداخلي للفكرة أو القضية المتناولة، فالمقال لا يركز كثيرا على خلل بعض القواعد والنظريات بقدر ما يرصد منطق العقل ويتعقب خطواته في النظر للمسائل التي يقررها، بيد أن وجود هذه المغالطات لا يعد عيبا في كل سياق؛ فالإنسان كائن أهوائي لا يستطيع أن ينفك انفكاكا تاما من انحيازاته الإدراكية والمعرفية، لا سيّما إذا كان التأمل والنظر يدور في فلك العلوم الإنسانية، فالعلوم الإنسانية لا تحكمها القوانين الرياضية، أو العلوم الطبيعية؛ لصعوبة الإحاطة بالظواهر الإنسانية فهي مجال خصب لوقوع المغالطات؛ كون العلوم الإنسانية مؤطرة بتحيزاتها الحضارية والثقافية والاجتماعية، وهي داعية إلى أن يتلبس الباحث بنسقها دون شعور منه.

تعرف المغالطات بأنها الاستدلالات الخاطئة لإثبات فكرة ما أو دحضها، إذ إن المغالطة تكمن في طريقة الاستدلالات التي تتمظهر برداء الاستدلال الصحيح، وتشترك هذه المغالطات مع الانحيازات الإدراكية للعقل وتتداخل معها، فالانحياز هو ميل العقل بطريقة معينة في التفكير واتخاذ نمط إدراكي محدد يقولب النظر إلى القضايا والأفكار بطريقة انحيازية غير موضوعية، وبذلك يفترق الانحياز الإدراكي عن المغالطة – من حيث التعريف – بأنه نمط مغلوط في التفكير، بينما المغالطة – وهو موضع اهتمامنا في هذا المقال – نمط مغلوط في الاستدلال على الفكرة المراد تقريرها، فكل انحياز في التفكير قد ينتج مغالطة إذ هو الدائرة الأعم والأشمل. وسأسوق في هذا المقال أربع مغالطات مع التمثيل لها لبيان الفكرة.

الخطأ مكةن معرفي

مغالطة الاحتكام إلى الزمان:

تسمى هذه المغالطة في كتب المغالطات (الاحتكام إلى القدم والحداثة) وقد آثرت هذه التسمية؛ لتعم المغالطتين وإيضاح أن الحكم في هذه المغالطة يستند إلى الزمن إما كليا أو إلى حد كبير، فالاحتكام إلى القدم مغالطة تقوم على فكرة أن كل ما هو قديم فهو صحيح، وأن مرور الزمن على تلك الأفكار ضامن على أنها الأفضل. والإنسان بطبعه يميل إلى المألوف ويرتاح ويأنس له، ومن هنا من لم يتنبه إلى هذه المغالطة فقد يقع فيها؛ كونها تميل إلى الشائع المألوف عبر الأزمان، وتقويم قضية عاشت ردحا من الزمن ومراجعتها يحتاج إلى شجاعة وفطنة. ومن الأمثلة التي أوردها هنا قضية تفضيل الشعر القديم (الجاهلي) على الشعر الذي جاء في العصور التي تليه، إذ أن هناك من فضل الشعر الجاهلي لأقدميته، وقد تنبه بعض النقاد إلى هذه المغالطة، منهم ابن قتيبة حيث يرد على هذه المغالطة بقوله: “فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيّره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأي قائله”. ولو كان علة المفضِل للقديم على الحديث الحرص على اللغة والشاهد النحوي، إلا أن القديم ليس مقدما لذاته وكذلك الحديث، إنما الذي ينبغي أن يصدر الحكم على القول نفسه دون زمانه، وإن كان الشعر الجاهلي أجود فصاحة إلا أن فيما بعده فيه فصاحة ولو خلت منه بعض النصوص. ويقابل هذه المغالطة مغالطة الاحتكام إلى الحديث؛ لحداثة زمانه.

مغالطة الاحتكام إلى الألفاظ:

يطلق على هذه المغالطة مغالطة (المظهر فوق الجوهر) والتي تعني الاحتكام بجودة النصوص على الألفاظ وزخرفها دون المضمون، وقد آثرت تسميتها بالاحتكام إلى الألفاظ؛ كونها مختصة بالنصوص المكتوبة، وتنميقها اللغوي القائم على التصوير البياني والتحسين البديعي من سجع وجناس وترصيع و …، والإنسان بطبعه يميل إلى سلطة الشكل؛ كونها أول ما تهاجم حواسه قبل عقله وتفكيره، وترك فجوة بين الحواس والعقل يقعنا في تصورات مغلوطة منها هذه المغالطة. من الأمثلة النظرية على وقوع مغالطة الاحتكام إلى الألفاظ قول أبي هلال العسكري: “وليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدّمت.” ومن المحال الأخذ بهذا التصور إذ المعاني منها الشريفة ليست المبتذلة، ومنها دون ذلك كما الألفاظ. ومن الأمثلة التطبيقية التي أسوقها هنا قول امرئ القيس في وصف شعر محبوبته:      

                             غدائره مستشزرات إلى العلا             تضل العِقاص في مثنّى ومرسل

أراد امرؤ القيس هنا أن يصف تبعثر شعر محبوبته فوقع على كلمة (مستشزرات) وقد عاب بعض البلاغيين هذه اللفظة على امرئ القيس؛ لثقلها عند النطق، فخلت عندهم بشرط الفصاحة، وهم محقون بثقل اللفظة لتقارب مخارج حروفها، إلا أننا حين نتأمل هذه اللفظة ونربطها بالمعنى الذي أراده الشاعر من طول شعر محبوبته وكثافته وتداخله نلحظ أنه أصاب المعنى؛ بأن لاءم وآخى بين اللفظ والمعنى، ألا يدل تقارب خصلات الشعر وشدة تداخله مع بعضه بتقارب مخارج حروف الكلمة؟!

الخطأ مكون معرفي

مغالطة الحصر:

تسمى هذه المغالطة في كتب المنطق (مغالطة التقسيم المخطئ أو مغالطة البدائل المخطئة) وتعني أن يفترض وجود خيارين أو ثلاثة أو عددا محددا يقيّد الأفكار مما يخرج غيرها منها. وقد آثرت تسميتها بالحصر؛ اتساقا مع المثال المسوق، من ذلك ما أورده الدكتور شفيع السيد من نقد على تقسيم البلاغيين لأضرب الخبر حسب الحالة الذهنية للمخاطب في ثلاثة أمور: خالي الذهن، والمتردد، والمنكر، فالأول لا يؤكد له، والثاني يؤكد بمؤكد واحد، والثالث بأكثر من مؤكد، ثم يوضح أن هذا الحصر يخرج كثيرا من الأساليب عن هذه القسمة، فليس كل ما اقترن بأداة التوكيد يكون موجها لمخاطب شاك، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}الكوثر: ١.

مغالطة التعميم:

يقول جوردور أولبورت: “ما نكاد نتلقى حبّة من الوقائع حتى نشيّد منها قبة من التعميمات” ومعنى هذه المغالطة وجود نتيجة معينة لمجموعة من العوامل اجتمعت في سياق ما ثم نعممها على جميع السياقات، وهي أشبه ما تكون بالاستقراء الناقص، وكشف هذه المغالطة ينبه إلى ضرورة الاستقراء الواعي. من الأمثلة التي توضح هذه المغالطة ما قُرر عند البلاغيين في قواعد الفصل بين الجمل موطن (شبة كمال الاتصال) وهو الذي تنزل فيه الجملة الثانية منزلة الجواب من الأولى فيفصل بينهما كما يفصل بين الجواب والسؤال، وقد تداول البلاغيون هذه القاعدة أنها من المسلمات، إلا إن الدكتور محمد الأمين الخضري بيّن أن هذه القاعدة لا تتوافق مع كل السياقات، فقد يجيء (شبه كمال الاتصال) بالوصل لا بالفصل، كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ(36)وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)القصص: ٣٦ – ٣٧، والشاهد قوله تعالى : (وَقَالَ مُوسَىٰ) يقول المؤلف: فاعتبار الفصل مراعى فيه استشراف السامع وتطلعه إلى جواب موسى، والعطف قدح لزناد الفكر، واستدراج إلى حسن التأمل، ودعوة إلى التدبر، والموازنة بين المتناقضين مستثمراً استشراقه وتيقظه لمعرفة الجواب في توجيهه إلى غرض لا يكفي بمجرد الجواب، بل ليقف موقف الناقد المتأمل ليوازن بين الحق والباطل. وأحسب أن الاستشراف والتساؤل لا يضيع مع الواو، بل يمضي صاعداً على طريق الاستئناف إلى درجة التأمل في الجواب والمقارنة بينه وبين ما أثار السؤال.

إن سوق هذه المغالطات لا تخلو من الانحيازات المعرفية التي قد تتخفى فيها بعض الدوافع الشخصية أو الحضارية أو القومية أو الاقتصادية أو الفنية، إلا أن المقصود في هذه الأمثلة والمراد الوصول إليه أن الخطأ طبيعة بشرية، وأنه كامن في كيونية المعرفة والعلم، وأن هذه الأخطاء طريق مؤسس للعلم، وطريق من طرق نقده وتطويره، إذ بالأخطاء يوضح الصواب أكثر ويبين، وبسياسة الأخطاء يعرف العالم من الجاهل.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".
إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز.

الخطأ مكوّن معرفي قراءة المزيد »

البلاغة المغيّبة في الدرس البلاغي

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-pixabay-159833

إن علم البلاغة علم قرآني؛ كونه تفسيرا واستنباطا وتدبرا للنص القرآني، فجميع علوم اللغة منطوية في ظله، تحت ظلال المعاني القرآنية، تسير حيث سار المعنى دون الخضوع إلى سطوة القواعد والأحكام المسبقة. والبلاغة القرآنية متحررة من النقد، فكرها خالص لتذوق الأسرار والنكات التي تُستقى من عطاءات النظر والتدبر.
تمثل البلاغة القرآنية أرفع صور البلاغة الكونية، وأعمقها معنىً وأغزرها فائدة، ولما كان لهذه البلاغة المنزلة الرفيعة التي تفارق بها بلاغة اللسان الإنساني، جاءت الدراسات البلاغية -في أغلب أحوالها- جامعة للظواهر البلاغية بينهما، ولم نقف في الدراسات البلاغية على فوارق تبيّن البون الشاسع بين البلاغة العربية والقرآنية، والتي على أساسها نحظى بمقاربة الأسس المنهجية للبلاغة القرآنية.

وحتى ما جاء في كتب إعجاز النظم الكريم التي قد بدأ البحث فيها عن أسباب تفوق البلاغة القرآنية على بلاغة اللسان البشري، لم تصب تلك الفوارق على أساس ممنهج إلا شذرات، من ذلك ما جاء عند الخطابي بالأثر النفسي، ونقض العادة عند الرماني، وكذلك الباقلاني الذي سماه الخروج عن العادة، ونظم التراكيب عند الجرجاني، ونظم الترتيب عند البقاعي، ومبتكرات القرآن عند ابن عاشور، والسبيكة القرآنية عند الدكتور بسام ساعي، ومنهج الإقناع والمحاجة الحقة عند الدكتور محمود توفيق، وغير ذلك من الإشارات التي لم تُسق بصورة كلية، حيث كان أبرز المشتغلين بموضوع الإعجاز هم من علماء الكلام المعتزلة والأشاعرة الذي كان من أبرز أهدافهم التصدي للرد على الطاعنين في القرآن، ومن المعلوم أن مبحث معجزات الأنبياء وإثبات دلائل النبوة هو واحد من الموضوعات التي اشتغل بها علم الكلام فصبغت مناهجهم بالمنهج العقلي القائم على الاستدلال والاحتجاج مما اعترى الدرس البلاغي بعض القصور الذي لم يتأتّى معه استشراف الأسرار البلاغية في النظم الكريم المفارقة لبلاغة اللسان، ولعل هذا ما ساق إلى تكرار الأمثلة وتضخم المصطلحات، وإشكالات بعض التسميات -لا في حقيقتها- التي لا يصح إطلاقها على النظم الكريم. ونلامس كذلك هذه الظاهرة – ظاهرة الدراسة أو التأسيس من خلال النقد والرد – في عصرنا حين كتب الدكتور يوسف العليوي كتابه الفذ (الأسس المنهجية لدراسة البلاغة القرآنية) فقد خصص فصولا عن أثر المناهج الحديثة في دراسة البلاغة القرآنية وبيّن مظاهر انحرافها عن أصول الشرع واللغة في أسسها ومعالجتها.

وعلى هذا يمكننا القول إن جل الدراسات التي تناولت علم البلاغة سواء عن طريق قضية الإعجاز القرآني، أو الفنون البلاغية التي توسلت بالنص الشعري -في غالب معالجاتها- لم تستوعب مسائل البلاغة القرآنية وقضاياها، بل إن جل القواعد البلاغية في أبوابها الثلاث (المعاني والبيان والبديع) وضعت في غيبة من النظم الكريم، فجاءت كل ظاهرة بلاغية مثبتة نفسها وفروعها من دواوين الشعر دون توجيه سهام النظر في الأساس إلى البلاغة القرآنية، وإن وجدت الشواهد القرآنية فهي لا تمثل إلا القليل من تلك الاستشهادات الشعرية، حتى إذا عرضنا تلك القاعدة البلاغية على النظم القرآني وجدناها مهتزة غير ثابتة؛ وما ذلك إلا لخصوصية بلاغة النظم الكريم، واتساع السياق القرآني من أسباب النزول، وملابسات السورة، وخصائصها، والقرآن المكي والمدني، وغياب هذا التصور أو التداخل اللصيق مع علم البلاغة من علوم القرآن وعلم الأصول حتما يقود إلى إخضاع النص القرآني لتلك القاعدة البلاغية دون التفطن إلى صعوبة حصر وتقنين الأساليب البلاغية للقرآن الكريم.

إن التأمل في سير البلاغة يهدينا إلى أسباب ذلك؛ حيث سارت البلاغة في مسارين: المسار الأول: هو المسار التطبيقي أو الأدبي الذي بدأ تقريبا من سيبويه وهو من اللغويين، والجاحظ وهو من الأدباء، والخطابي وهو من علماء الإعجاز، ومن شاكلهم، ثم تبلور على يد عبد القاهر الجرجاني الذي صوّب الفكر نحو الكشف عن مناحي الجمال في النظم القرآني، فقد جمع مادته ومباحثه المتناثرة من كتب المتقدمين كما في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فعالج ظواهر بلاغية في القرآن ومثّل لها وأبان عن وجهها، وبذلك فتح الطريق لجار الله الزمخشري في تفسيره (الكشاف) الذي طبق ما في الدلائل والأسرار مضيفا لذلك أصولا بلاغية جديدة فاتسم تفسيره برحابة توظيف القواعد والظواهر الأسلوبية مع مراعاة سياقي المقال والمقام.

وأما المسار الثاني: فهو المسار النظري الذي اهتم بتجريد القواعد البلاغية والظواهر الأسلوبية في كلام العرب كما ظهر عند الرازي في (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) و(مفتاح العلوم) للسكاكي، و(الإيضاح) للخطيب القزويني، ولا يخفى التأثر بمعطيات الفلسفة والمنطق في هذا المسار، ومن ذلك ما جاء عند المناطقة في الدلالة اللفظية الوضعية، وهو نفسه ما كرّس في فاتحة علم البيان من أن دلالة اللفظ على معناه تكون بأقسام الدلالة اللفظية الوضعية، وهي إما دلالة المطابقة أو دلالة الالتزام، أو دلالة التضمن، وعلى وازنه ما في كتب المنطق من الانتقال من البسيط إلى المركب، وهو ما نشاهده جليا في مقدمة كتب البلاغيين في حديثهم عن الفصاحة وهي لا تتعلق إلا بالمفردة، ثم علم المعاني الذي بدأ الإسناد وختم بالفصل والوصل بين الجمل، وأجلى من ذلك قسمة السكاكي لكتابه (المفتاح) حين بدأ بعلم الصرف الذي يهتم بالمفردة، ثم النحو الذي يهتم بالجملة، ثم البلاغة. ووجه آخر من التأثير هو تقسيم الغرض من الخبر: الفائدة، ولازم الفائدة، وهي قسمة قائمة على منطق العقل، ومثلها القسمة العقلية لأضرب الخبر القائمة على ذهنية المخاطب: الخالي ذهنه من الحكم، أو المتردد، أو المنكر، وكذلك تعريفهم للأسلوب الخبر وهو ما احتمل الصدق أو الكذب وهل الصدق مطابقة مدلول الكلام للواقع الخارجي، وقس على ذلك التقسيمات الكثيرة في علوم البلاغة الذي ذهبت إلى تجزئتها كما في الاستعارة والجناس وهلم جرا. وما سقت ذلك؛ إلا لأن هذا المسار اتكأ على الفلسفة وقواعد المنطق و(تركيب المعاني) عليها، وقصدا عدلتُ من لفظ تركيب البلاغة إلى تركيب المعاني؛ كون البلاغة في أصلها تأبى ذلك؛ إذ إن الأصل في الفكر البلاغي أن يبدأ من المعاني انتهاء إلى القاعدة التي لا تكون كلية بطبيعة حالها، بل نسبية؛ كون المعاني لا تنحصر، وكون الفكر البلاغي مفارق للفكر الصرفي والنحوي من حيث تتبع المعاني وتشعبها.

البلاغة المغيّبة في الدرس البلاغي1

إن وظيفة البلاغة هي الوقوف على أسرار الكلام المنظوم، وإدراك مطابقته لمقتضى الحال، ولا يكون ذلك إلا بالمكنة من علوم اللغة والذوق الواعي المدرب على أساليب الكلام العالي، إلا أن هناك من يقول: “إن وظيفة البلاغة تتبع سمات الكلام البليغ والنسج على منواله”. وهذا الوجه يحتاج إلى تصويب وإيضاح، حيث يقصد به أنه محاكاة للأساليب البليغة والنسج على منوالها حتى يتحرر أسلوب الناظم، وهذا هدف وليس وظيفة، إضافة إلى أن تتبع بلاغة القول لا يقوم به إلا من لديه المكنة من إدراك أسرار المنظوم، ولا تدرك الأسرار إلا بتحصيل قدر كاف من النحو والصرف والدلالة والأدب، فتكون هذه المعرفة هي الزاد الأساس إلى حسن نظم الكلام ورصفه، ثم تأتي البلاغة في مرحلة تالية؛ كونها ثمرة العكوف على دراسة علوم اللغة، ولذلك من رام أن يصنع كلاما بليغا فعليه بالمحاكاة ثم التفقه في علوم اللغة، أما البلاغة فهي ممزوجة بالنقد القائم على محاكمة الأساليب والتراكيب الموصلة إلى معرفة مدى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهذا النهج الذي يُعنى بمعرفة طبقات الكلام وعلل تفاضل الأقوال هو الطريق والغاية في آن إلى البلاغة، أما البلاغة القرآنية فإن الحس النقدي بوصفه أداة فاعلة في نظم اللسان يكون زادا لتحصيل أسرار النظم القرآني من حيث إنه منطويٌ في عقل دارس البلاغة القرآنية، وبعبارة أخرى، مقاربة إعجاز النظم القرآني لا يثبت بتفاضله على نصوص أخرى كما هو دور الناقد في بلاغة اللسان، إنما بالسير خلف المعاني القرآنية وكيفية مطابقتها لمقتضى الحال مع مراعاة سياقي المقال والمقام. وعلى ما تقدم يمكن القول: إن المسار التقعيدي الذي انطلق من القالب المنطقي تختلف أهدافه ورؤاه ووظائفه عن المسار الأول.


ولذلك من رام أن يظفر بالبلاغة على وجهها النقي والواسع يجدها ماثلة في كتب التفاسير البلاغية؛ كون الاشتغال البلاغي في تفسير النص القرآني لم يكن متوسلا باللغة وحدها، بل اتسع هذا الاشتغال في التفسير من الوقوف على السياق المقالي المتمثل في البنية اللغوية للنصوص إلى السياق المقامي الذي ينفتح مع علوم القرآن وعلم الأصول وعلم العقيدة، مما أسهم ذلك البحث البيني من ضيق النظر في العبارة إلى سعة النظر وانفتاح التوجيه الموسِّع للبلاغة العربية.

والناظر في تعاطي الدرس البلاغي في أوساطنا الأكاديمية يجد أنه لم يبرح البلاغة التعليمية أو الجزئية التي تخطتها البلاغة القرآنية وفُتحت آفاقها كما هي عند المفسرين، وأن الوعي الفردي لا يكفي لتخطي هذا الإشكال، فلا بد من إشعال هذا الإشكال أولا والشعور به لتتحرك على إثره المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية انطلاقا من أن الكلام البليغ لا يحكمه إطار قاعدي، وقوالب مُعدة، وهذا من أسس التفكير البلاغي؛ وبيانه أن المعنى يتحرك أنّى شاء وفق تحقيق غايته المنشودة المطابقة للمقام والمقتضى، ثم بعد ذلك نفسره وفق القاعدة المرام ملاحظتها لا تقريرها وتعميمها على كل تركيب مشابه، وعلى ذلك تتم مراجعة هذا التراث واستثماره وتقديم قراءة عميقة تبرز لنا البلاغة العربية بصورة أجلى وأكمل.
وقد لامس هذا الإشكال عدد من العلماء والدارسين وقُدّم في صور متعددة، منها ما ورد عن علاقة البلاغة بعلم الأصول يقول السبكي في شرحه للتلخيص: “اعلم أن علمي الأصول الفقه والمعاني في غاية التداخل، فإن الخبر والإنشاء اللذين يتكلم فيهما المعاني هما موضوع غالب الأصول، وإن كل ما يتكلم عنه الأصولي من كون الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، ومسائل الإخبار، والعموم والمخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والتفصيل، والتراجيح كلها ترجع إلى موضوع علم المعاني، وليس في أصول الفقه ما ينفرد به كلام الشارع عن غيره إلا الحكم الشرعي والقياس وأشياء يسيرة”. والحق أن هذه الكلمة من الكلام العالي.

ومن تداخل البلاغة بعلوم القرآن وأهمية التفقه في علوم القرآن وأن ذلك يعد دراسة للبلاغة والأسلوب، ما نبه عليه الدكتور محمد أبو موسى في كتابه (مراجعات في أصول الدرس البلاغي) عن أهمية كتاب الزركشي (البرهان في علوم القرآن) فيقول: ” وكان الزركشي بعيد الغور في حسه ببلاغة القرآن وسر إعجازه، وكان معانا وهو يكتب هذا الكتاب، وقد ظلمنا العلم بإغفال هذه الكتاب وأضعنا جانبا من علم البلاغة والأدب بهذا الإغفال الذي لا مبرر له”. وفي الدائرة نفسها في (البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية) ينبه إلى نجاعة فكرة نسخ القرآن ونقلها إلى الحقل الأدبي، فيقول: “هذا أصل يجب أن نقدمه بين يدي الفكرة التي نريد تأكيدها وهي ضرورة انتفاع الدراسة الأدبية بما في علوم القرآن، لأنها في جملتها قائمة على اللغة والشعر. ولو تصورت أنني نقلت موضوع النسخ من حقل الدراسات القرآنية إلى حقل دراسة الأدب فكيف أراه؟”.

وهذا الطاهر بن عاشور يسطّر في مقدمة تفسيره (التحرير والتنوير) الأساليب التي ابتكرها القرآن الكريم سماها مبتكرات القرآن، يقول عنها: “وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب؛ فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون، وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه؛ إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة، ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام”.

وفي الدراسة الجريئة التي قدمها الدكتور بسام ساعي (المعجزة؛ إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم) وقف على بعض ظواهر التجديد في لغة القرآن التي يفترق بها عن كل منظوم، وهو ما بينه في مصطلح (السبيكة القرآنية) ويقصد بها التراكيب البيانية والعلاقات اللغوية أو النحوية التي لم تعرفها اللغة العربية، وحرص في هذا السياق ألا تتجاوز الأمثلة التي أوردها ثلاث كلمات وهي ما أسماها الوحدة اللغوية الصغرى، ومن الأمثلة التي أوردها ووضع بإزائها تعبيراتنا البشرية؛ ليبين لنا المفارقة، ما جاء تحت عنوان: (التراكيب والتعبيرات القرآنية):
قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ البقرة: ٢٤٥، من الذي.
قوله تعالى: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ البقرة: ٢٤٦، هل ينتظر منكم.
قوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِذْ﴾ آل عمران:8، بعد أن.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا﴾ الأنعام:112، وهكذا جعلنا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ﴾ هود: ٨٧، لا شك أنك.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ هود: ١١١، وكل واحد منهم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ﴾ يوسف: ٨٠، وقد فرطتم قبل ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا﴾ الفرقان: ٤٢، كاد أن يضلنا.

وهو بهذه الأمثلة يشير إلى أن هذه التراكيب لم تعرفها العربية، وأنها بعيدة عن استعمالاتنا البشرية، ومع ذلك فقد نجد أن مثل هذا التراكيب انسابت في لغتنا، وما يزال الكثير من التراكيب القرآنية مرشحا للدخول إلى لغتنا، وهي من المواطن التي ينبغي جمعها ودراستها.

البلاغة المغيّبة

ولعل سائلا يسأل: ما موقع السبيكة القرآنية عما في نظرية النظم؟ وقد حاولت أن أستنتج فروقا أصوغها في الجدول التالي مع العلم بأنها نسبية أكثر من كونها حدود صارمة:

نظرية النظم

السبيكة القرآنية

صيغت على شكل منظومة من المفاهيم والعلاقات التي تقدم تفسيراً منطقياً منهجياً فارتقت إلى النظرية

صيغت على شكل مفهوم محدد وفق السياق التي جاءت فيه (التجديد في لغة الوحي)

تنظر إلى طريقة تركيب الكلام

تنظر إلى طريقة سمت الكلام

صفات النظم تشرك الآيات القرآنية بغيرها من النصوص

لها تميزها وتفردها بما استجد من خصائص لغوية جديدة

النظم يُدرك من المتخصص والعارف باللغة

السبيكة تُدرك من ليس له أدنى مهارة باللغة

النظم يصلك إلى التفسير والتحليل

السبيكة تصلك إلى الأثر

ومن الدراسات التطبيقية التي نوهت بالمفارقة بين البلاغة اللسانية والقرآنية – في أهم مبحث من مباحث علم المعاني وهو الفصل والوصل – الدراسة التي قام بها الدكتور محمد الأمين الخضري التي جاءت بعنوان (الواو وموقعها في النظم القرآني) حيث بيّن أن قواعد باب الفصل والوصل وضعت في غيبة عن القرآن الكريم، مما جعلها دراسة تفيد الناشئة والمتأدبين في طرائق التعبير لا استجلاء أسرار النظم القرآني. ومن استعرض هذا الكتاب لا يرده إلا التساؤل الآتي: لماذا لا يعاد النظر في أوساطنا التعليمية لدراسة قواعد الفصل والوصل كما استجلاها المؤلف من النص القرآني؟!

والشواهد كثيرة، إلا إني أقول: إن أبرز الملامح للبلاغة التفسيرية هي النظر للنصوص من داخل المعنى نفسه الذي بدوره يغذي الألفاظ والتراكيب بما يتلاءم مع السياقات والملابسات له، فلا تقام الأحكام البلاغية للجمل المنتظمة في تراكيب متنوعة لمجرد العدول أو الانزياح، أو حكما للألفاظ بمعناها المعجمي، أو الحكم بالفصاحة من عدمها لمجرد ثقل النطق أو تنافر الحروف بعيدا عن المعنى ومتطلب المقام، وهذا النظر هو الذي بدوره يقوّم الذوق الفني والأدبي وينميه، بخلاف ما يُرجى من البلاغة التعليمية التي أبلغ عطاء لها تزويد الدارس بالتعاريف والقوالب المعدة لإدخال الأساليب فيها، وهذا من شأنه أن يحد من عملية التأويل والاستنباط، كما أنه يربك تلقائية الفكر البلاغي، الذي يجنح إلى الفن أكثر من العلم؛ كون الفكر البلاغي ينطلق من الذوق لا التقييد بالقواعد، وهذا الذوق له شروطه التي من مقدمتها أن يكون الدارس على مكنة ودراية من علوم اللغة، وتصرف العرب بأساليب بيانها.

من خلال هذا الإشكال رأيت أن أعنون المقال بالبلاغة المغيَبة؛ تنبيها على ما تناثر عند ثلة من العلماء والباحثين والدارسين وأقدم مقالة تحفز الفكر البلاغي إلى مراجعة تراثه وتقويمه، واستثمار الكنز البلاغي الكامن في النص القرآني، وتزويد البلاغة بلطائف وأسرار ينفتح معها التوجيه إلى آفاق خصبة وميادين رحبة، وإذكاء ساحة الدرس البلاغي بمناقشة الجهود التي أطلقت عنان التفكير البلاغي المنضبط مع النص القرآني وحررت بعض مسائل البلاغة وأضافت بعض الأصول.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".
إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز.

البلاغة المغيّبة في الدرس البلاغي قراءة المزيد »

مبادرة “إرث” تُطلق موقعها لخدمة الباحثين في تاريخ العلوم

أطلقت شركة نديم أواخر عام 2022م مبادرة جديدة حملت اسم “إرث“، وهي مبادرة متخصصة في قضايا تاريخ علوم التراث الإسلامي، تسعى عبر باقة منوعة من البرامج والمشاريع إلى صناعة مجتمع بحثي عربي يناقش قضايا تاريخ العلوم التراثية.

وبدأت المبادرة بعدد من البرامج، مثل “فلك: قصة العلوم الشرعية”، وبرنامج “تأهيل الباحثين في تاريخ العلوم الشرعية”، كما أسست ناديًا لمناقشة الكتب المتعلقة بتاريخ العلوم، في القديم والحديث، وباللغة العربية والمترجمة.

واستكتبت المبادرة عددًا من المتخصصين لكتابة المقالات ومراجعات الكتب في مجال اهتمامها، مثلت بداية شيقة للآفاق التي يُمكن الكتابة عنها في مجال تاريخ العلوم، ولاقت اهتمامًا ومناقشةً مع متابعي المبادرة وجديد ما تنشره.

وكان آخر ما أطلقته مبادرة إرث موقعًا متخصصًا في قضايا تاريخ العلوم، شرعت فيه بمشروعين أساسيين، عمل عليه طاقم متنوع من الباحثين والمتخصصين في علوم التراث.

المشروع الأول: جامع المصنفات في العلوم الشرعية.

وهو مشروعٌ يسعى إلى استقصاء المصنفات التي دونت في العلوم الشرعية عبر القرون، وتوفير بياناتها على منصة رقمية تسهل الوصول إليها والتعرف على بياناتها مع توفير خدمات بحثية تزود المطالع بما يحتاج إليه من المعلومات والإحصاءات. وتشكل المرحلة الأولى من المشروع جمع المصنفات المطبوعة التي دونت في العلوم الشرعية منذ بداية التدوين وحتى عام 241هـ.

ويمكن للباحث استعراض المصنفات حسب العلوم، وحسب الأقاليم، وحسب التواريخ، وغيرها من التصنيفات.

المشروع الثاني: دليل المصنفات في تاريخ العلوم.

وهو مشروع بحثي يسعى إلى استقصاء المصنفات التي دونت في تاريخ العلوم الشرعية، وتوفير بياناتها على منصة رقمية تسهل الوصول إليها واستعراضها، مع توفير خدمات بحثية تساعد المطالع على الوصول إلى ما يحتاج إليه من العناوين، وإصدار نسخة ورقية رقمية لمن رغب بالمطالعة الشاملة للدليل.

وتسعى مبادرة “إرث” أن يكون هذا الدليل مرجعًا أصيلًا للباحثين في الاطلاع على الكتب والمصنفات والرسائل الجامعية التي دونت في تاريخ العلوم الشرعية، وأن يتبع هذا الإصدار إصدارات أخرى تستوفي جميع ما كتب في هذا الحقل المعرفي المهم.

شارك الصفحة
المزيد من الأخبار

مبادرة “إرث” تُطلق موقعها لخدمة الباحثين في تاريخ العلوم قراءة المزيد »

مبادرة مخطوطات القرآن

Picture of حسان بن إبراهيم الغامدي
حسان بن إبراهيم الغامدي

ساهم في الحوار: شيخة القحطاني وسهلة طه وهند البصري

يعرّف روّاد منصة فيس بوك من المهتمين بالدراسات الغربية اسم “أحمد وسام شاكر“، وهو باحث عربي شاب، أطلق مبادرة علمية باسم “مخطوطات القرآن”، صنعت تفاعلًا علميًا في مجال عربي إسلامي، ما زالت اليد الطولى فيه للبحث الأكاديمي الغربي.

أحاور في هذا اللقاء أحمد وسام شاكر، للتعرف على مبادرته، وكيف تكونت علاقته بمجال مخطوطات القرآن، وما هي الآفاق التي يطمح لها.

عرّفنا على مجال مخطوطات القرآن.

يعتني مجال مخطوطات القرآن بدراسة الظواهر المجودة على المصاحف المخطوطة، وعادة ما تُربط نشأة هذا المجال بالدرس الاستشراقي الغربي مع المستشرق واللاهوتي الدنماركي جاكوب كريستيان أدلر في القرن الثامن عشر الميلادي. اهتم هذا المستشرق بالكتابات الكوفية القديمة، وكان مقصده من الاهتمام بها دراسةُ الخطوط العربية وتطورها، وكانت المصاحف المخطوطة القديمة واحدة من المصادر المهمة لهذه الخطوط.

واستمرت هذه العناية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فاهتم المستشرق تيودور نولدكه بالمصاحف المخطوطة في كتابه المركزي تاريخ القرآن، وتابعه على ذلك المستشرقون من بعده، فالوثيقة المادية تعد المصدر الأهم في المنهجية الغربية، والاعتماد على المصادر التراثية وحدها في نظرهم مظنة ضعف وقصور. دفعهم ذلك إلى البحث الموسع عن المصاحف المخطوطة المبكرة وجمعها من خزائن الكتب العربية والغربية.

وكان من أهدافهم أيضًا نشر “نسخة نقدية” للقرآن الكريم، يُثبتون بها الرسم القديم للقرآن، والقراءات المتواترة والشاذة، مع وضع الحواشي النقدية.

توقف هذا الاهتمام مع وفاة أساطين المستشرقين، والظروف السياسية المصاحبة للعرب العالمية الثانية، ولكن سرعان ما عاد النشاط الاستشراقي مع اكتشاف مصاحف الجامع الكبير في صنعاء، ففي أوائل سبعينات القرن الماضي اُكتشفت آلاف الجذاذات والرقوق القرآنية التي تعود إلى القرون الهجرية الأولى، وانكب المستشرقون على دراستها والاعتناء بها.

لكن العناية بظواهر المصاحف المخطوطة لم تبدأ في الدرس الاستشراقي، ففي التراث الإسلامي علمٌ مخصص لدراسة أهم هذه الظواهر وهو علم رسم المصحف، والذي يعتني أساسًا بحصر الكلمات القرآنية التي جاءت مخالفة للقاعدة الإملائية القياسية، مثل كتابة كلمة الصلاة بالواو. وكان العلماء الأوائل يعتنون بدراسة المصاحف المخطوطة، فيأتي أحدهم إلى حالة معينة من حالات الرسم، ويقول رأيتها في مصحف قديم بدمشق، أو في مصحف قديم ببغداد، والآخر يقول شاهدت غير ذلك في مصحف بمصر وهكذا.

كيف بدأت علاقتك بهذا المجال؟

كُنت أسكن في كندا أيام دراستي بالمرحلة الثانوية، وكُنت أشعر بغربة شديدة في تلك الفترة، أتكلم بلغة لا أُحسّ بها، وأعيش في ثقافة لا أنتمي لها، وكان في داخلي ظمأ شديد لأي شيء يربطني بثقافتي وتراثي.

من تقادير الأمور أني كُنت أشاهد برنامجًا على التلفاز، وكان أحد المتحدثين يتكلم عن موضوع يطرق سمعي لأول مرة، فكان يقول بأن في المكتبة البريطانية أقدم نسخة من المصحف الشريف، وأن هذه النسخة صُوّرت ونُشرت مطبوعة، ويمكن شراءها من المكتبات التجارية، أو مطالعتها بالمكتبات العامة.

أدهشتني هذه المعلومة، ففي ذلك الوقت ما كنت أعرف شيئًا عن المصاحف المخطوطة، بل ما كنت أعرف شيئًا عن المخطوطات. ذهبت إلى المكتبة العامة القريبة مني، وطلبت منهم هذا الكتاب، فأخبروني أنه غير متوفر عندهم الآن، ووعدوني أنهم سيوفرونه بعد أسبوعين. ظللت مترقبًا لمكالمتهم، وفي شوق للحظة مطالعتي لهذه النسخة. اتصلوا بالفعل بعد أسبوعين، وذهبت إلى المكتبة، وقدم لي الموظف الكتاب وفوجئت بأنه في مجلدين ضخمين، وضعهما على الطاولة، وأخبرني بأن الكتاب غير متاح للاستعارة، وأن لي أن أطالعه في المكتبة متى شئت.

وأذكر إلى الآن أن أول ما طالعته في فاتحة الكتاب كان نصًا من كتاب الفهرست للنديم، يصف فيه خطوط المصاحف الأولى، وهو الوصف الذي ينطبق على النسخة المنشورة في الكتاب، مما يعني أنني أنظر إلى نسخة من مصحف من القرن الهجري الأول على ما ظهر من خطه وخصائصه.

كان هذا الكتاب بداية دخولي لهذا المجال، ومن ثم تعرفت على تاريخ هذه المصاحف المخطوطة، وأماكنها القديمة في المساجد الإسلامية العتيقة، مثل مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه في مصر، وبدأت أتعمق في هذا المجال، ولي فيه أكثر من عشر سنوات إلى الآن.

صورة 3

 

من أنشطتك في هذا المجال مبادرة “مخطوطات القرآن”، عرفنا على هذه المبادرة.

بدأت مبادرة مخطوطات القرآن عام 2020م عندما دفع الحظر الكلي أيام وباء كورونا الناسَ إلى الإقبال على البرامج والمبادرات الافتراضية، فحاولت استثمار هذا الزخم للتعريف بهذا المجال، وصناعة مساحة علمية يلتقي بها الباحثون العرب والمهتمون بدراسة مخطوطات القرآن من كل مكان.

 حدثتك قبل قليل عن مساهمة المستشرقين في هذا المجال منذ أواخر القرن الثامن عشر، ولديهم منهجياتهم، ودراساتهم، وتقاليدهم العلمية. ولابد أن تكون لنا مساهمتنا الخاصة في هذا المجال، ولكن الأمر في حاجة إلى تضافر الجهود، الذي يُمكن أن يحدث في مثل هذه المساحة التي تتيحها مبادرة مخطوطات القرآن.

نستهدف في المبادرة الباحثين العرب وطلاب الجامعات والأكاديميين، بحيث يكون هناك تواصل مباشر بين المتخصصين والطلاب يُساعد على فتح آفاق جديدة للبحث العلمي. كما استضفنا في المبادرة عددًا من الباحثين الذين قدموا محاضرات متنوعة حول مخطوطات القرآن، وحاضر معنا أيضًا عدد من المستشرقين. ونشرنا كذلك عددًا من الأبحاث والمقالات والمراجعات في قضايا مخطوطات القرآن، ونسعى لنشرها في كتاب جماعي. تعاقدت المبادرة مع عدد من المؤسسات العربية، ليكون لها دور في التنسيق العلمي والإسهام في إقامة الندوات والدورات والفعاليات العلمية.

الهدف من كل ذلك أن يكون للعرب حراك علمي في مجال مخطوطات القرآن، فالإسهام العربي في هذا الميدان قليل، ونود أن نسهم فيه بما يليق بنا.

ألحظ اهتمامك بالنقوش الكتابية التي ما زالت تُكتشف في أنحاء مختلفة من المملكة العربية السعودية، والتي تعود إلى القرون الهجرية الأولى. هل لهذه النقوش علاقة بمجال مخطوطات القرآن؟

بالفعل ثمة علاقة بينهما، فالنقوش التي ذكرتها تعود إلى القرن الهجري الأول، وكثير منها مؤرخة، وهذه النقوش تفيد الباحثين في التعرف على الخط المستعمل في تلك المرحلة الزمنية، ومقارنته بالخط المستعمل في مخطوطات المصاحف المبكرة.

كما أن بعض هذه النقوش اشتمل على آيات من القرآن الكريم، وهي نقوش مهمة للتعرف على خصائص الرسم المجودة فيها ومقارنتها بما نُقل إلينا في كتب التراث، فالنقوش تقدم لنا روافد مهمة لدراسة القضايا المتعلقة بمخطوطات القرآن الكريم.

ما هي الآفاق المستقبلية لعملك الشخصي في مجال مخطوطات القرآن؟

أحاول دائمًا أن أحذر من السير وراء المشكلات التي يطرحها البحث الأكاديمي الغربي بوصفها المشكلات التي تستحق البحث والدراسة والمعالجة. فرغم متابعتي الشديدة للدراسات الغربية في هذا المجال، واستفادتي الكبيرة منها، إلا أني أسعى لحل المشكلات التي يطرحها البحث الشرعي والتراثي العربي.

أحب أن قدم شيئًا يجمع بين التراث الإسلامي الكبير جدًا في هذا المجال، وبين العناصر البحثية المستفادة من الأكاديميا الغربية، فمخطوطات المصاحف، والنقوش، والبرديات، كلها عناصر بحثية جديدة ستقدم لنا إضافات علمية مهمة، وقد تحل بعض الإشكالات التي تُثار في مجال البحث الإسلامي.

على سبيل المثال، أعمل الآن على مرويات لابن عباس رضي الله عنه في تخطئة كتّاب المصحف فيبعض المواضع، فأنا أقرأ هذه المرويات من خلال المصادر التراثية، وأدرس ألفاظها، وشيئًا من أسانيدها، وكذلك أتتبع ما قيل فيها من كلام العلماء والمفسرين واللغويين على مدى قرون كثيرة، ثم أحاول إضافة عنصر جديد في معالجة هذه المرويات من خلال النظر في مخطوطات المصاحف القديمة، وكيف يُمكن أن تُقيّم هذه المرويّات أو توجّهها.

وأجد شخصيًا أن هذه العناصر البحثية الجديدة تقوّي كثيرًا من الآراء المذكورة في التراث، وتقوّض السرديات الاستشراقية، وتساعد على إثراء البحث التراثي والشرعي.

شارك الصفحة
المزيد من الحوارات

مبادرة مخطوطات القرآن قراءة المزيد »