يونيو 2022

يا أيها الشعراء الشباب، أرجوكم اقرؤوا كل شيء | آدم زاغايفسكي

Adam Zagajewski
 

أشعر بخطر واحد على الأقل هنا [في هذه المقالة]. إذ قد أضع بمحض الصدفة – عبر مناقشة سبل القراءة، أو رسم بورتريه لـ”قارئ جيد” – تصورًا بأني شخصيًا قارئ مثالي، ولا يوجد ما هو أبعد عن الحقيقة من ذلك، فأنا قارئ فوضوي، والفجوات في تعليمي تسلب الأنفاس أكثر من جبال الألب السويسرية. وهكذا فملاحظاتي يجب أن ترى على أنها تنتمي إلى الأحلام، وضربًا من يوتوبيا شخصية، بدلًا عن كونها توصيفًا لإحدى فضائلي القليلة: القراءة بشكل فوضوي!

أفرغت قبل فترة أحد الحقائب التي رافقتي ذات عطلة صيفية. فلننظر إلى الكتب التي أخذتها معي إلى سويسرا بالقرب من بحيرة جنيف. لا بد أني جلبت [كتب] جان جاك روسو، و[لورد] بايرون، ومدام دو ستايل، ويوليوش سوفاكي، وآدم ميكيفيتش، و[إدوارد] غيبون، و[فلاديمير] نابوكوف، بما أنهم جميعًا على صلة بهذه البحيرة الشهيرة بطريقة أو أخرى، لكن – في الواقع – لم يأت أحد منهم إلى هذه الرحلة معي، إذ أرى على طاولة مكتبي بدلًا عن هؤلاء كتاب جيكوب بوركهارت “الإغريق والحضارة الإغريقية” (نعم، بالترجمة الإنجليزية، حيث اقتنيته من مكتبة تبيع بنصف السعر في هيوستن [بالولايات المتحدة])، ومختارات من مقالات [رالف والدو] إمرسن، وقصائد شارل بودلير باللغة الفرنسية، وقصائد ستيفان جورج بترجمة إلى البولندية، وكتاب هانز يوناس الكلاسيكي عن الغنوصية (باللغة الألمانية)، ومجموعة قصائد للشاعر زبينغيف هربرت، ومجلد أعمال هوغو فون هوفمنستال الكاملة الضخم المشتمل على مقالاته العظيمة. بعض هذه الكتب من عدة مكتبات في باريس، وبالتالي يطرح المجرود قبل قليل احتمالًا بأني قارئ عصابي يؤثر كتب المكتبة العامة على مسؤولية المالك، وكأن قراءة الكتب التي لا أملكها تعطيني حرية إضافية قليلة (إنها المكتبات – المكان الوحيد الذي نجح مشروع الاشتراكية فيه).

لكن لماذا أقرأ؟ وهل عليّ حقًا الإجابة عن هذا السؤال؟ يبدو لي أن الشعراء يقرؤون لشتى الأسباب، بما فيها تلك المباشرة والتي لا تختلف عن دوافع أي إنسان. لكن قراءتنا تندرج في أغلبها تحت لوحتين: لوحة الذاكرة ولوحة النشوة. فنحن نقرأ بدافع الذاكرة (أي للمعرفة والتعلم) لكوننا نشعر بالفضول إزاء ما أنتجه أسلافنا الكثر قبل أن تتفتح عقولنا، وهذا ما ندعوه بالتقليد – أو التاريخ.

لكننا نقرأ أيضًا للنشوة. لماذا؟ دون سبب. لأن الكتب لا تحتوي فقط على الحكمة والمعلومات المنظمة بل أيضًا على الطاقة التي تشبه ما يعتري الشامان حين يرقص ويثمل، وهذا يصدق بالفعل على (جزء من) الشعر، لأننا شخصيًا نشهد تلك اللحظات الغريبة حين تقودنا قوة ما تتطلب الطاعة المطلقة، وفي أحيان تخلّف وراءها بقع سوداء على الورق مثلما تخلّف النار الرماد (يطلق الفرنسيون على فعل الكتابة “تسويد الورق”)، وما إن تقع أسير نوبة كتابة تحت النشوة حتى تتصرف مثل مدمن مخدرات يريد المزيد على الدوام، إذ ستفعل أي شيء من أجلها، ولا تبدو القراءة [في سبيل ذلك] تضحية لا لزوم لها.

تقع الكتب التي أقرؤها – إن كان اعتراف مثل هذا مطلوبًا أو مرغوبًا – ضمن هاتين الفئتين، كتب الذاكرة وكتب النشوة. لا يمكنك قراءة كتاب من كتب النشوة في آخر الليل، إذ يعقب ذلك الأرق. بل عليك بقراءة التاريخ قبل النوم، وترك رامبو لحين الظهيرة؛ فالعلاقة بين الذاكرة والنشوة غنية ومفارقة وجذابة، إذ يمكن أن تنمو النشوة من الذاكرة أحيانًا فتنتشر مثل نار في هشيم – ويمكن لسونيتة قديمة التقطتها عين طمّاعة أن تشعل شرارة قصيدة جديدة. لكن الذاكرة والنشوة لا يتداخلان طوال الوقت، إذ قد يفرق بينهما بحر من اللامبالاة.

يوجد أساتذة من ذوي الذاكرة الحادة لكنهم لا ينتجون إلا قليلًا. قد ترى في أحايين عجوزًا يرتدي ربطة عنق بأسلوب الفراشة وظهره منحن بفعل السنوات فتقول: ذلك الشخص عالم بكل شيء. والحق أن بعض أولئك القراء العجزة على قدر كبير من المعرفة (ليس بالضرورة أن يكون ذلك العجوز الضئيل الذي رأيته ذلك اليوم)، لكن ذلك مختلف بشدة عن الإبداع، وعلى الطرف الآخر من المعادلة نرى المراهقين المنتشرين بفعل [موسيقى] الهيب هوب، لكننا لا نأمل بحصاد فنّي غني من هكذا شغف بالتحديد.

الواضح أن الذاكرة والنشوة محتاجان لبعضهما بشدة؛ إذ تتطلب النشوة قليلًا من المعرفة، ولا تفقد الذاكرة شيئًا حين تلونها المشاعر الجياشة. وما يشكل بشأن القراءة مهم للغاية بالنسبة لنا – وضمير الجميع يقصد الشعراء، ومن يميلون إلى التفكير والتأمل – لأن تعليمنا قد ابتعد بقدر كبير عن المثالية. فلم تول المدارس الليبرالية التي دخلتموها (أو الشيوعية التي درست فيها) اهتمامًا بالكتب الكلاسيكية إلا قليلًا، بل أن اهتمامها بعمالقة الحداثة أقل؛ إذ أنها فخورة أكثر بإنتاج خط من المنتمين لجماعة “الحيوان الأكبر”، المكون من المستهلكين شديدي الاعتداد بأنفسهم. صحيح أننا لم نتعذب مثل مراهقي إنجلترا في القرن التاسع عشر (أو فرنسا أو ألمانيا أو حتى بولندا في ذلك الصدد): إذ لم نُلزَم بحفظ نصوص فرجيل وأوفيد كاملةً، لكن علينا أن نكون ذاتيي التعليم. فالفرق بهذا الخصوص بين شخص مثل جوزيف برودسكي، الذي ترك المدرسة في سن الخامسة عشر ومضى ليقرأ كل ما وقعت عليه يداه، وبين شخص مضى في سلم التعليم الأمريكي الحديث بأكمله، بما في ذلك الدكتوراة، بينما لا يخرج في قراءته عن مناطق قراءات الجامعات الرفيعة إلا قليلًا، لا يحتاج إلى تعليقٍ كثير. فنحن نقرأ بشكل رئيسي خارج الدائرة الأكاديمية وفي حياة ما بعد الجامعة. ومن أعرفهم من الشعراء الأمريكي قراء نهمون ومع ذلك أرى بوضوح أنهم بنوا معرفتهم خلال فترة ما بين التخرج ودخول منتصف العمر. وأغلب الطلاب الأمريكيين لمرحلة ما بعد البكالوريوس ذوي معرفة شحيحة، أقل من نظرائهم الأوروبيين، لكن العديد منهم سيعوض هذا الفارق في السنين القادمة.

Young Poets, Please Read Everything

لدي انطباع أيضًا أن العديد من الشعراء الأمريكيين الشباب يقرؤون اليوم في أفق ضيق للغاية؛ إذ أن غالب قراءاتهم في الشعر، وليس سواه إلا قليل من النقد الأدبي. من المؤكد أنه لا خطب في قراءة الشعر منذ هوميروس إلى زبينغيف هربرت وآن كارسون، لكن هذا الضرب من القراءة يبدو لي غارقًا في التخصص. إذ يبدو كما لو أن تسمع طالبًا في تخصص الأحياء يقول لك: “إني أقرأ كتب علم الأحياء فقط”، أو رائد فضاء لا يقرأ إلا كتب علم الفضاء، أو رياضيًا يقرأ فقط ملحق الرياضة من جريدة “نيويورك تايمز”. لا يوجد خطأ شنيع في قراءة الشعر “فقط”، لكن يحوم ظل من الاحتراف المهني سابق أوانه على هذا الفعل، علاوة على ضرب من السطحية.

تطرح قراءة الشعر “فقط” فرضية أن هناك شيئًا صلبًا ومعزولًا بشأن تأليف الشعر في الوقت المعاصر، وكأن الشعر بات معزولًا من أسئلة الفلسفة المركزية، ومن قلق المؤرخ، ومن حيرة الرسام، ومن شقاء السياسي النزيه، أي من منبع الثقافة العميق الشائع. فالطريقة التي ينظم بها الشاعر الشاب قراءته – في الواقع – شديدة الحسم بشأن مكانة الشعر بين الفنون الأخرى، إذ تحدد – ليس فقط لفرد واحد – إذا ما كان الشعر مجالًا مركزيًا (حتى لو قرأه فقط قلة سعيدة من الناس) يستجيب للأحداث الرئيسية ذات لحظة تاريخية معينة، أو أنه شكل مثير للاهتمام إلى حد معين من الكدح الذي ما زال يستمر في جذب عدد قليل من المعجبين التعساء لسبب ما.

لعل الأمر على النقيض من ذلك تمامًا، إذ تعكس أنماط قراءاتنا ما نخلص إليه في أعماقنا – ولو لم تكن عن وعي بشكل كامل – إزاء مكانة الشعر. فهل نحن راضون بنهج المتخصص الضيق، وبالعلاقة الحصرية مع الأدب النمطي لأولئك الكتاب الذي ارتكنوا إلى الحكايات الصغيرة عن القلوب المكسورة؟ أم سنطمح – بدلًا عن ذلك – إلى لحظة الشاعر النبيلة، إذ يعاني من أجل تفكيره وغنائه ومخاطرته، وتقبله بمروءةٍ وجرأةٍ واقعَ إنسانية زماننا الآخذة بالتضاؤل (دون نسيان القلوب الكسيرة)؟ لذا، أرجوكم أيها القراء الشباب، اقرؤوا كل شيء. اقرؤوا لأفلاطون وأورتيغا إي غاسيت، وهوراس وهولدرلين، ورونسار وباسكال، ودوستويفسكي وتولستوي، وأوسكار ميووش وتشيسواف ميووش، وكيتس وفيتغنشتاين، وإمرسن وإملي دكنسن، وتي. إس. إليوت وأمبرتو سابا، وثيوسيدس وكوليت، وأبولينيير وفرجينيا وولف، وآنا أخماتوفا ودانتي، وباسترناك وماتشادو، ومونتيني والقديس أوغسطين، وبروست وهوفمانستال، وسافو وشمبورسكا، وتوماس مان وأسخيليوس. اقرؤوا السير والرسائل الفلسفية، والمقالات الأدبية والتحاليل السياسية. اقرؤوا حبًا بالمتعة، ولأجل إلهامكم، والفوضى الحلوة في رؤوسكم الجميلة. لكن اقرؤوا أيضًا ما لا يمثلكم، اقرؤوا حبًا بالحيرة والعجز، وحبًا باليأس وسعة الاطلاع. اقرؤوا الملاحظات الجافة والتهكمية للفلاسفة الساخرين مثل إميل سيوران أو حتى كارل شميت، واقرؤوا الصحف، ولمن يحتقرون الشعر أو ينبذونه أو يتجاهلونه ببساطة، وحاولوا تفهُّم سبب فعلهم ذلك. اقرؤوا ما كتب أعدائكم وأصدقائكم، ومن يعززون إحساسكم بما يتطور في الشعر، واقرؤوا حتى لمن لا يمكنكم فهم ظلامهم أو حقدهم أو جنونهم أو عظمتهم، لأنكم بهذه الطريقة فقط ستكبرون وتعيشون أكثر من أعماركم، وتصيرون إلى ما تصبون نحوه.

شارك الصفحة

التعليقات

المزيد من المقالات

يا أيها الشعراء الشباب، أرجوكم اقرؤوا كل شيء | آدم زاغايفسكي Read More »

توظيف الرواية في البرامج القرائية | تجربة برنامج مجتمع القراء

“ما الكتاب الذي تحلم يوماً بكتابته؟”

يطرح هذا السؤال في أحد المجالس مع ثلة من القراء المخضرمين الذين لطالما حلمت أن تجالسهم، خاصةً لو ضمّ المجلس واحد أو اثنان من الأشخاص “الموسوعة” إياهم الذين قرأوا في كل شيء وأي شيء مع ما يملكون من ملكة التحليل والاستنباط والربط، أولئك الذين يعتبر الاستماع لهم متعة في حد ذاتها، والحديث معهم قلق مخجل – من طرفك- لأنه يكشف لك جهلك المركب.

تؤثر الصمت لكنك تُسأل عن إجابتك، تحاول أن تستحضر ردّاً يليق بالقامات التي تحيط بك، وتقلب في ذهنك أنواع العلوم ودقائقها. لكنك تستسلم أخيراً وتحسم أمرك بتنهيدة قائلاً إنك لو أتيحت لك الفرصة، لكتبت رواية خالدة.

يتنامى شعور بالخزي من النظرات التي أحاطت بك لحظتها، ولم يخلو المجلس من تعليق حول ضياع الأعمار، أن يكون أثرك من الدنيا “حدوتة” مراهقين!

 يحاول رفيقك – الذي شعر بأنك تسخر منه- أن يغير الموضوع، لكنك تقرر استغلال فرصة صمت المجلس بأن تحكي لهم عن أحد التجارب المجتمعية الفريدة في توظيف هذا الفن العريق:

لا يختلف اثنان على أهمية الأسلوب القصصي في التاريخ الإنساني، إن أغلب الموروث الثقافي لدى الأمم هو القصص والأساطير، كما أن القرآن الكريم قد اتخذ من القصص أسلوباً أساسياً في الدعوة إلى الله وتثبيت النبي والمسلمين وبيان دروس لم تكن لتؤتي أثرها نفسه إلا بنقل التجربة الإنسانية كما هي، بمشاعرها ومواقفها وخلجاتها.

لكن نشأة الخلاف تكمن في القصص الخيالية المطوّلة، ما يسمى اليوم بأدب الرواية، فبينما يعتبرها البعض متنفساً وفنًا يؤثر في مختلف مجالات حياة المجتمعات، يراها البعض الآخر مضيعة للوقت والورق، بل يصل إلى مرحلة عدم تسمية من يقرأ الروايات بـ”القارئ”.

وقد أنصف بهاء طاهر الرواية ضمن مقدمة كتابه “في مديح الرواية” قائلاً: “الرواية فن له مكانته وخطره في المجتمعات المتحضرة.. هي بطبيعة الحال ليست منشورات سياسية، ولا وصفة لعلاج الأخلاق أو النفس، وهي لا تقدم إجابات عن الأسئلة التي يضني الفلاسفة أنفسهم في بحثها، ولكنها تشمل شيئاً من ذلك كله وتتجاوزه، وتأثيرها أبقى لأنه أبطأ وأكثر نفاذاً للنفس.”[1]

مجتمع القراء

مجتمع القراء

يجدر بنا في هذه الحالة استعراض أحد التجارب المجتمعية الفريدة في الاستفادة من فن الرواية، وهي تجربة برنامج “مجتمع القراء” والذي أقامته شركة سمو المجتمع في مدينة الخبر

تحكي أ. بينة القحطاني صاحبة البرنامج عن الانطلاقة قائلة: ” كانت رغبة منا أن يكون هناك مجتمع تجتمع فيه القارئات ويحققون شغفهم في مناقشة الكتب، فغالباً الإنسان عندما يعجبه كتاب يحب ويتحمس أن يناقشه من يماثله ويسمع وجهة نظر أخرى، كما تتناول قطعة حلوى وتود أن تشارك حلاوتها كل من تحبه، كذلك الكتاب الجيد يجعلك تتمنى لو ذاق حلاوته العالم بأسره. ففي مجتمع القراء حرصنا أن نوفر هذه البيئة، أن يكون هناك بيئة من القارئات اللاتي يناقشن الكتب ويحللنها من مختلف زواياها.”

لا يهدف مجتمع القراء لمناقشة الكتب فحسب، بل لبث الحياة في ممارسة القراءة.

فعمل البرنامج على تنمية مهارات التحرير ومهارات الفكر النقدي والإبداعي لدى الأعضاء، ونشر المعرفة ورفع مستوى وعي الشباب بأساليب متجددة، والأهم أن يكون دليلاً مسانداً لأندية القراءة الأخرى.

[1] في مديح الرواية، بهاء طاهر ص 6

قاعة المناقشة

لماذا الرواية؟

تخصص مجتمع القراء في مناقشة الروايات والسير الذاتية تحديداً!

وعن هذا تقول أ. بينة القحطاني “لما أحببنا أن نتوجه إلى مجال الروايات بالذات، فهذا لأني أنا وجدت فائدتها صراحةً، وأرى أن الرواية لها شأن عظيم في تغيير فكر الناس وإلا لما اختار الله عز وجل أسلوب سرد القصص أسلوباً أساسياً في القرآن، قال تعالى:” نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [1]” كما أن أغلب الموروث العالمي هو القصص والحكايات.

فوجدنا أن الشيء الذي من الممكن أن تتشارك فيه شريحة كبيرة من المجتمع هو الرواية وحب القصص.”

تعتمد فكرة برنامج مجتمع القراء على ترشيح مجموعة من الفتيات من 18-30 لمناقشة وتحليل مجموعة من الروايات المنتقاة بعناية بين ورش عمل ولقاءات إثرائية وأنشطة إلكترونية ليكون منهجاً للأسس السليمة التي تبني فكر الفرد والمجتمع من خلال ما يقرأ.

ورغم المفهوم السائد بين جماعة من القراء في الانتقاص من الرواية تجيب أ. بينة: “من الأسباب التي دعتنا للتخصص في الروايات هو تصحيح هذا المفهوم، طبعاً جودة اختيارك للرواية مهمة، لأنه بالفعل هنالك روايات كثيرة تعد مضيعة للوقت وتعتبر من الكتب التي لا يمكن أن تثريك إن لم تكن تضرك.

لكن ما كنا نحرص على اختياره هو ما احتوى على قيمة وهدف وأن نبيّن أنه ليست جميع الروايات ذات قيمة سالبة وإنما هناك روايات هادفة بل لها معنىً عميق.”

هل تؤثر الرواية فعلاً؟

إن السلوك الإنساني يتأثر بالقدوة، سواء كانت حقيقية أو خيالية، يعرف جليسك “الموسوعة” حالات الانتحار المتكررة التي عقبت انتشار رواية ” آلام فيرتر” للمؤلف الألماني غوته، والضجة التي أحدثتها رواية جورج أورويل الشهيرة “مزرعة الحيوان” في المسؤولين قبل العامة، تحكي لنا أ. بينة القحطاني كذلك كيف أن إيمانها بفن الرواية كان بسبب أثر الروايات على حياتها هي، لأنها كما تؤمن أنه لا ينبغي أن تكون جل قراءات الإنسان في الروايات إلا أن قراءة الرواية الجيدة بين الحين والآخر تساهم في فهم النفس البشرية مما يساعد في توقع فهم نفسك وفهم الآخر وردود فعله.

كما يشير عبدالله العجيري في كتابه “من عبث الرواية” (ويا للمفارقة بينه وبين عنوان الكتاب السابق) عن الأسباب التي تجعل الرواية من أساليب التوجيه والتغيير:” للعمل الروائي خصائص تجعل منه طريقاً مناسباً لتمرير الأفكار والتصورات والمناهج بأسلوب خفي لا يستثير القارئ، على قاعدة (بطيء، ولكن أكيد المفعول) … فالرواية لا تقدم الأفكار إلى العقل في قالب (صدّق واعتقد) وإنما تصبها في قالب قصصي يعتمد الزخرفة والتمويه. وقد لا يشعر القارئ أن ثمّة فكرة يراد إيصالها إليه من هذا الحدث أو ذاك. وربما تشرب عقله هذه القيم وتلكم التصورات دون إحساس منه أو شعور. ذلك أنه أثناء قراءته للرواية في شغل بمتابعة الأحداث، والربط بين الفصول، والتعرف على الشخصيات، والتفكير فيما سيحصل وبماذا ستختم الرواية. فتكون إمكانية تسرب الأفكار دون شعور أكبر، إذ إن استعداد القارئ النفسي والعقلي للمعارضة والتنقيح والتأمل أضعف في هذه الحالة مما لو طالع كتاباً يطرح الفكرة بطريقة مباشرة.”

إذن الرواية تؤثر، سلباً أو إيجاباً، وهنا تتجلى قيمة البرامج المجتمعية مثل برنامج مجتمع القراء، فمع انتشار الرواية وشيوعها، ينبغي على القارئ الفطن تنمية ملكة التفكير الناقد وتحصيل الأثر الجيد من هذا الفن في التأثير.

[1] سورة يوسف

الغوص في الخريطة

في موسمه الأول كانت فلسفة البرنامج تدور حول “الغوص في الخريطة”.

تم انتقاء روايات من بلدان مختلفة وحقب زمنية متنوعة، كل رواية تناقش مشكلة معينة أو شريحة معينة.

وفي كل لقاء يتم استعراض نبذة عن البلد نفسه، ثم عن المؤلف، وبعدها تناقش الرواية، وتختم باستضافة شخصية متخصصة لتحكي عن المعنى الضمني والرسالة العامة في كل رواية.

 ففي بلد النمسا، كان اللقاء عن رواية “ملك في منفى العمر” حيث يوثق المؤلف قصة والده مع مرض الزهايمر، وكانت من ضيفات اللقاء رئيسة القسم النسائي لدار المسنين في الدمام، والتي تحدثت عن تجربتها في العمل مع كبار السن، وكيف من الممكن أن نعتني بهم في هذه المرحلة الصعبة من حياة الإنسان.

وفي كوريا، نوقشت رواية “الدجاجة التي حلمت بالطيران“، عنوان طفولي؟ هذا ما رأته أ. بينة عند ترشيح الكتاب لها من دكتورة جامعية، لكن عند قراءتك الرواية تشعر أنك أمام “مزرعة الحيوان” أخرى من ناحية القوة والعمق المتواري خلف دجاجة تحلم بالطيران! وأدت مناقشة تلك الرواية إلى تفرع كبير من ناحية حرية التفكير وأن على الإنسان ألا يضيق أفقه في حواجز في عقله ومحيطه بل أن يتخطاها كما فعلت تلك الدجاجة التي رأت ما وراء الحواجز!

كشف الخبايا

في الموسم الثاني اتخذ الطابع “خبايا الكتاب”

وعند سؤال أ. بينة القحطاني عن ذلك قالت “نحن نعرف أن النفس البشرية تحب كشف الخبايا، وتحب أن تعرف الجانب الآخر لأي أمر فعندما تقرأ رواية وتستمتع فيها ليس كما تأخذها وتفككها وتكتشف خباياها، ولهذا في رواية صلاة تشرنوبل لم نقرأها فقط وإنما أقمنا محكمة، وانقسمت القارئات إلى قسمين، قسم مع المسؤولين والقسم الآخر كانوا الضحايا الذين تضرروا وحاولنا أن نعرف من المسؤول الفعلي في تلك المأساة التي حدثت.”

واستكمالاً لدور المجتمع القارئ، لهذا أضيفت جلسات مثاقفة إثرائية عامّة تصب في نفس مجال مجتمع القراء، مثل:” دور الرواية في تجسيد الأحداث”، و”الأدب وثقافة الأمة”.

النزول من البرج

لم يكن مجتمع القراء لينتهي عند عتبات المكتبة، وإنما كان من شروط المجتمع أن تخرج المستفيدات بمبادرات تسهم في خدمة المجتمع في فلك القراءة.

هذا كان من إيمان أ. بينة القحطاني بأن:” الفكرة من مجتمع القراء أن يخرج القارئ من كونه إنساناً منعزلاً في برجه العاجي إلى إنسان فاعل وهذا في نظرنا أن الثقافة الحقّة هي الثقافة التي تقودك إلى التغيير، لأنك عندما تصنع وعياً أنت تصنع فرداً منتجاً، فكانت الفكرة أنك إنسان قرأت وفهمت فالآن لابد أن تعمل، لذلك سلمناهم الراية وساعدناهم بحيث ينقسمن إلى مجموعات يخرجن بمبادرة في فلك نشر ثقافة القراءة.”

وقد دشّنت مبادرات مميزة مثل: “يمامة لتحليق الكتب” و ” مخبز الحرف” و”بنان الحكايا

لقد تميز برنامج مجتمع القراء لا لتوظيفه للرواية بحسب، وإنما بتوظيفه القراءة نفسها، كأداة لتطوير الذات وبناء فكر الإنسان السليم.

مجتمع القراء واستدامة الأثر

لم يقتصر البرنامج على عضوات المجتمع، بل كان من أهداف البرنامج استدامة الأثر، فأطلقت شركة سمو المجتمع موقع مجتمع القراء الذي يحتوي على مواد ثرية ونافعة، من مقالات وملخصات إلى مادة مناقشة كل رواية. كما أعلن عن بودكاست مجتمع القراء المتفرد بنقل ملخصات الروايات بأسلوب جاذب ومؤثرات تنقلك لعالم الرواية.

بعد أن أنهيت سردك لتفاصيل هذه التجربة، وأنت تتنقل بين النظرات المهتمة والأخرى المتشككة المستهينة، ختمتها بمقولة العقاد:” الجسم يغذيه ما يشتهيه.. فاقرأ ما تحب تستفد” وإن كانت العبارة ليست على إطلاقها، إلا أنها صحيحة إلى حد كبير، فاقرأ ما تحب تستفد، والمس حاجة الناس بالأسلوب المناسب، تصنع أثراً.

شارك الصفحة

التعليقات

    June 18, 2022

    تغطية رائعة لتجربة ملهمة

    1
    0
    June 19, 2022

    رائع ، بوركت الجهود

    1
    0
    June 22, 2022

    التجربة الثرية والصحبة الطيبة 💚💚

    0
    0

توظيف الرواية في البرامج القرائية | تجربة برنامج مجتمع القراء Read More »

عبقرية الكذب: هل كذب كبار الفلاسفة؟

Picture of عبدالله الوهيبي
عبدالله الوهيبي

مؤلف وباحث

«لم يسرّ أحد قطّ منكرة إلا ظهرت في آثار يده أو فلتات لسانه» أبو جعفر المنصور (ت158هـ)

«كل فلسفة كبيرة لا تعدو أن تكون -حتى يومنا هذا- اعترافًا يدلي به صاحبه» فريدريك نيتشه (ت1900م)

ظهرت في القرن العشرين كتب كثيرة تتناول حيوات الفلاسفة، ودقائق معايشهم الشخصية، وانشغل طائفة من الكتّاب بكشف خطاياهم، وإشهار حماقاتهم، كما فعل بول جونسون في كتابه المعروف (المثقفون Intellectuals) [صدر بالإنجليزية عام 1988م]، وأيضًا نايجل رودجرز وميل ثومبثون في كتابهما (جنون الفلاسفة Philosophers Behaving Badly) [صدر بالإنجليزية عام 2004م]، وكلاهما مترجم إلى العربية. والسمة البارزة في هذين الكتابين “الفضح” والتعرية، والهجاء المكثف، لاسيما وأن في حيوات جملة من الفلاسفة من المخازي ما يغري بذلك، وفي النفوس جواذب دفينة لتتبع ذنوب المشاهير والمبجّلين وقبائحهم، تتعزّى بها وتتعلّل عن سلوك سبل المعالي.

وفي سياق مقارب نشر عام 2015م الفيلسوف الفرنسي فرانسو نودلمان كتابه (عبقرية الكذب Le Génie du mensonge ) وقد صدرت ترجمته مؤخرًا عن دار صفحة سبعة، وهو يتناول “كذب الفلاسفة“، وعُني مؤلفه بطرح تحليل مطوّر لتناقضات حياة بعض الفلاسفة، وعلاقة نظرياتهم المركّبة مع حياتهم الشخصية، وتتبّع خطاباتهم الفلسفية لكشف ممارساتهم النظرية وسعيهم الدؤوب إلى «إعادة تطويع الواقع وتنسيقه».

ولابد لنا أولًا قبل المضي في الحديث أن نبرر هذا الاهتمام بالفلاسفة: لماذا الحديث عن كذب الفلاسفة؟ ولماذا هذا التدقيق والتنقيب عن الخطايا الشخصية لدى هذا الصنف من الناس؟ الجواب يكمن في حقيقة خطرة وجوهرية، وهي أن اللغة الفلسفية والخطابات التجريدية «توهم بوجودها المستقلّ عن الذوات التي شيّدتها»، فهي تشعر الدارس لها بنقاء أسطوري، وأصالة مزعومة، وتكرس قدرًا واسعًا من اشتغالها التأويلي للبرهنة على عموميتها النظرية، وعمق “موضوعيتها” المعرفية، وفي طريقها لاستئصال «المصالح الشخصية من اللغة لكي تقدم ذاتها في صورة الحقيقة الكونية التي لا تحمل اسمًا خاصًا، وعبر الإنكار للدوافع الذاتية التي تستند إليها؛ تشجّع على الكذب»، أي مناقضة حقيقة الذات تحديدًا، ولذا فإن تأمل أفكار الفيلسوف والكاتب ومقارنة توكيداته مع نمط حياته وسلوكه الشخصي وعقده الذاتية يكشف أحيانًا عن ظواهر لافتة تتجلى في صورة تناقض فجّ، أو مفارقة ملحوظة، أو كذب سافر.

يحاول نودلمان أن يتجاوز إغراء الرغبة بالفضح والإدانة والتشهير، إلى تبني مسار التحليل والربط والتعليل، أي إلى تعميق الفهم للأطروحة الفلسفية أو النظرية بوضعها أمام مرآة السلوك الشخصي لمنتجها، لاسيما وأن ما يمكن وصفه بالكذب أو التناقض في أفكار الفيلسوف وسلوكه لا يلزم أن يكون بالضرورة سلوكًا قصديًا واعيًا؛ «فالكذابون لا يعلمون دومًا أنهم يكذبون، لا سيما عندما تنطلي الخديعة على الآخرين، وعليهم هم أنفسهم في الوقت عينه» كما يقول، وهذا يصعّب المهمة في اكتشاف الكذبة التي من هذا النوع؛ لأن «أصعب ما يمكن اكتشافه من الأكاذيب هو الكذب الذي يثيره المرء تجاه نفسه دون أن يدرك بواعثه بوضوح»، وللأسف –كما يقرر أحد النفسانيين- فإن «القدرة البشرية على التخيّل تجعلنا قادرين على الحلم، وعلى صنع عوالم بديلة من وحي خيالنا، وهذا هو المصدر الأساسي لقدرتنا الإبداعية، لكن هذه القدرة الفريدة تأتي مصحوبة بنقيضها، أو الوجه الآخر للعملة: إذ يمكننا أن نخدع أنفسنا، والآخرين، ونتوهم أن الأمور على خلاف الحقيقة التي نعرفها، ونتصرف وفقًا لذلك».

ولاتساع مجال الموضوع اختار نودلمان حفنة قليلة من الفلاسفة الفرنسيين لإخضاع نتاجهم لهذه العملية التحليلية الكاشفة، وبيّن في البداية ملامح الطريقة التي تثير الريبة في خطاب “الكاذب”، والتي يتبعها –بقصد أو بدونه- لتشييد عالم متماسك ومنطقي، وتتمثل -عادةً- في الإلحاح والمبالغة والإعادة والإسهاب والاستفاضة لتأكيد قول “الحقيقة”؛ «فالإصرار، والتكرار، والشرح الذي لا ينتهي للفكرة يصدر عن صراعٍ مستعصٍ، فثمة شيء غير قابل للصياغة إطلاقًا، وهو ينخر في روح المتكلم حتى يبلغ مراتب الهوس»، وهو أيضًا نتيجة «نشاز معيشي في الوقت الحاضر، بل صراع معاصر بين ما يُقال وبين ما يُقصد به»، وليست الغاية هنا تأكيد التناقض بين النظرية الأخلاقية والممارسة المنافقة، بل ما هو أبعد من ذلك، حيث يتجلى الكذب أو النفاق اللاواعي في انبناء النظرية على السلوك بنحوٍ ما، فليست القضية أن الفيلسوف يقول شيئًا بينما يفعل خلافه، بل أن الفيلسوف إنما يقرر نظريته تلك على هذه الكيفية أو تلك؛ لأنه يعيش بصورة تناقضها!، والمؤلف يحاول بذلك تخفيف الإدانة الأخلاقية المتضمنة في الوصم بالكذب، وتغليب الأدوات التحليلية لسبر البنية النفسية المعقدة التي تقف خلف هذا “الكذب”.  

جان جاك روسو

يشير أولًا إلى جان جاك روسو (ت1778م)، وهو هدف مهم وسهل للكثير من الكتّاب في هفوات الفلاسفة، وهو يشتهر بتمجيد الحقيقة، ويكتب مئات الصفحات من “الاعترافات” بالحقيقة، ولأجل خدمتها، ثم يعود بعدها ليكتب كتابًا خاصًا بعنوان (روسو يحاكم روسو) ويدافع فيه بضراوة عن الاتهامات الموجهة ضده، كالسرقة والاحتيال والخلاعة والتجديف، إلا أنه يتجاهل تمامًا حقيقة ساطعة في حياته، وهي خطيئته الكبرى بتخليه عن أولاده الخمسة وتركهم في أحد الملاجئ، ويتعامى عن ذلك ليصف نفسه بالكائن الأخلاقي، بل يطبع على خاتمه عبارته المفضلة للشاعر الروماني جوفينال “نذر حياته في خدمة الحقيقة”.

كيف تصرف روسو حيال هذه المفارقة (من غير قصد واضح ربما)؟ لقد عكف على تصنيف كتاب ضخم بعنوان (إميل أو التربية Émile ou De l’éducation) ونشره عام 1762م يقدّم نفسه من خلاله باعتباره منظرًّا تربويًا، وأبًا مميزًا، وخبيرًا في شؤون الأطفال، وقد واجه الكتاب هجومًا وتهديدات جعلت روسو يهرب إلى سويسرا، ومع هذا الهجوم تصاعد هذيان روسو وهوسه بوجود مؤامرة عالمية ضده، وهو يتوهم أن هذا الهجوم سببه أفكاره حول تربية الأطفال، فيبالغ في الدفاع عن هذه الأفكار، ويصطبغ خطابه في هذا السياق بطابع درامي في الانتصار للحقيقة. كان الوهم المضمر يدفعه للاعتقاد بأن الاعتراف به مربّيًا بارعًا سيمحو تهمته بكونه أبًا فظيعًا، يرمي بلا مبالاة أطفاله الخمسة ولا يعود إليهم أبدًا، «وهكذا فإن الأوهام الذهانية لروسو –المقتنع بأن العالم أجمع ينحي عليه باللائمة بسبب تخلّيه عن أطفاله- تنتهي به إلى وضع بحث تربوي يصوّر نفسه فيه كمربٍ حنون!»، وكما بالغ هنا، بالغ أيضًا في تقديم خطاياه والاعتراف بها؛ «فالإفراط في الاعتراف بذنوبه ما هو إلا وسيلة يحرم بها الآخرين من توجيه اللوم إليه».

ميشيل فوكو
ميشيل فوكو

ننتقل إلى فيلسوف معاصر بارز، وهو ميشيل فوكو (ت1984م)، والذي اشتهر بـ”حفرياته” عن الحقيقة، وفضح بنى السلطة وسياساتها وأنظمتها المعرفية، وقد قدّم عدة محاضرات مهمة في آخر حياته في جامعة بيركلي ثم في الكوليج دو فرانس بعنوان (شجاعة الحقيقة)، وفي هذه المحاضرات –في انعطافة مثيرة للتأمل- انتقل فوكو من تحليل ما يسميه (السياسة الحيويةbiopolitics ) إلى نوع من المقاربة الأخلاقية لضبط الذات ومراقبة النفس، وفحص الحالات المؤسسية التي تستوجب قول الحقيقة، كما في الإقرار القضائي والاعتراف الكنسي، مع الاهتمام بحيوات الفلاسفة وأنماط سلوكهم وعلاقته بأطروحاتهم النظرية.

وفي أثناء تفكيك مفاهيم الشجاعة الفلسفية لا سيما في نموذج سقراط، والذي يعدّ أشهر أنموذج للفلسفة الشجاعة التي تقف شامخة على أعتاب الموت، كما في حديث سقراط قبيل إعدامه، في أثناء حديث فوكو المسهب عن كل ذلك كان فوكو يخفي -بل يكبت بقوة- حقيقة ضخمة ستنهي حياته، وهي أنه كان حينها يعيش آخر أيامه، بعد تأكد إصابته بالإيدز، نتيجة ممارساته الجنسية الشاذة، الممزوجة بالسادية والمازوخية المقززة، وكما يقول دنييل ديفير زميل فوكو فإن الهاجس الذي كان يشغل فوكو حينها هو معرفة كم تبقى له من وقت في هذه الحياة، فقد كان يلقي محاضرته الأخيرة مقدِّمًا «مسرحية فلسفية يؤدي فيها دوره الخاص بطريق الوكالة، وقد كان –في الوقت الذي يشيد فيه بجسارة الحقيقة- يعمل على [إخفاء] سرّه المتعلق بإصابته بالإيدز. لقد أنتج هذا الإنكار إقرارًا مفارقًا، واعترافًا مقنعًا بالخصال المهيبة لفلاسفة العصور الغابرة»، لقد كان «يعيد تجسيد السيناريو السقراطي مناقضًا نيتشه، ولكن من دون التصريح بذلك!».

جان بول سارتر

ويتتبع المؤلف فيلسوف معاصر آخر وهو جان بول سارتر (ت1980م)، من خلال فحص أطروحاته من بدايته الأدبية والروائية وحتى شهرته وتحوله لمنظر ومؤثر في أعقاب الحرب الثانية، حيث تحوّل سارتر إلى اعتناق راديكالية سياسية، بعد مواقف رخوة وأفكار تميل إلى التسوية أثناء الحرب، ليطور بعد ذلك موقفًا أخلاقيًا قويًا عن “التزام” المثقف، أي ضرورة مفارقته للحياد، واعتقاد مبادئ تغييرية للدفاع عن الإنسان وحقوقه، ويفسّر الفيلسوف الفرنسي فلاديمير يانيليفيتش (ت1985م) هذا الانقلاب الواضح بأنه «ينبع من شعور سارتر بالذنب من كونه لم يرتق إلى مستوى المقاومة الحقّة»، فالانخراط في الحراك السياسي ودعم المضطهدين بصوت عالٍ بعد الحرب كان بمثابة الاعتذار. (في اقتباس معروف ينسب لسارتر ولم أجد مصدره، يقول فيه: “كان يُحب أن يُريها لوحات جميلة، وأفلامًا جميلة؛ لأنه لم يَكُن جميلًا، وكان ذلك بمثابة الاعتذار!”).

وهذا الحماس الأخلاقي للالتزام يصل إلى درجة المزايدة أحيانًا كما كتب سارتر في افتتاح مجلته الشهيرة “الأزمنة الحديثة” عام 1948م أنه يعتبر كلًا من فلوبير وغونكور «مسؤولين عن القمع الذي أعقب كومونة باريس [عام 1871م]؛ لأنهما لم يكتبا سطرًا واحدًا يحول دون ارتكابه!». ومع ذلك لم يكن سارتر مخادعًا نفسه طوال الوقت، بل اعترف لسيمون بوفوار في عام 1974م بأنه «يكاد أن يكون منتحلًا لسمعته كمقاوم»، وفي المحصلة نجد أن سارتر –بحسب نولدمان على الأقل- الذي «قضى فترة الحرب دون بطولة تذكر؛ قد أصبح أيقونة الالتزام، مستنكرًا تواطؤ أولئك المفكرين الصامتين أمام ارتكاب المظالم والجرائم»، وهنا تكمن المفارقة، حيث تعكس الأطروحة النظرية تفاعلات نفسية متناقضة تحاول التغلّب على الإخفاقات الذاتية أو محوها أو تجاوزها.

augustine-wong-zB1JO_sWlOE-unsplash

كثيرًا ما يصحب اسم سارتر صاحبته المنظرة والأديبة سيمون دي بوفوار (ت1986م)، والتي اشتهرت بكتابتها واحدًا من أشهر النصوص النسوية في القرن العشرين المعنون (الجنس الآخر Le Deuxième Sexe) الصادر عام 1949م، والذي كان من الأدبيات الرئيسية لما يسمى “الموجة النسوية الثانية”، وفيه تناضل بوفوار ضد “الأيديولوجيا” الأبوية والاعتقاد الجندري الذكوري، وترفض الاستسلام للربط بين سمات الجسد العضوية (كالحمل والإنجاب) والوظائف المرتبطة بها، والتي تحجّم من “تحرر” النساء، و”تخضعهن” لاعتقاد مزعوم بطبيعة أنثوية حتمية، في حين أن هذا الاعتقاد ليس سوى دور اجتماعي مصنوع، فـ”المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك” بسبب المجتمع، إلى آخر هذا النوع من الأفكار الأيديولوجية التي تحوّلت إلى كليشيهات شعبية في العقود اللاحقة. ولكن ما مدى تناسق عقيدة بوفوار الجذرية مع سلوكها الفعلي؟ أو ما تأثير حياتها الشخصية في تبلور هذه النظرية؟

بعد وفاة بوفوار بعدة سنوات تكشفت حقائق جديدة، ففي عام 1997م نشر الكاتب الأمريكي نيلسون ألغرين مراسلاته الكثيرة مع بوفوار، والتي تبلغ قرابة 300 رسالة غرامية على مدى 17 عامًا، وتضمنت تناقضًا فجًا مع كل ما تؤمن به بوفوار وما تدافع عنه، ففي أواسط الأربعينات سافرت بوفوار إلى الولايات المتحدة لإلقاء عدة محاضرات جامعية، وهناك التقت بألغرين، ونشأت بينهما صلة غرامية طويلة، نتج عنها هذا الكم من المراسلات، وفي بدايتها تقول له أنها تعبت بعد مجيئها إلى شيكاغو من كثرة النقاشات والجدل النظري، وأنها «تتوق إلى أن يُنظر إليها بوصفها امرأة لا مفكّرة»، وتواصل كتابة رسائل شديدة الحميمية عن ولهها المفرط وعشقها الجارف لهذا الرجل، تكتب له مرةً «إنني راضية بما أعانيه بسببك»، و«أنا أشعر طوال النهار أنك ساكن جسدي وقلبي وروحي. أنا ضفدعتك الصغيرة العاشقة»، ثم يتطور بها الحال فتقول: «ما زالت سعادتي هي في أن أكون بين ذراعيك… لقد قضي الأمر، وقد أسقط في يدي، وعلى أن أتقبّل هذه التبعيّة، وأنا راضية بذلك طالما أنني أحبك!»، في عبارة استسلامية لا تتناسب إطلاقًا مع النزعة الاستقلالية التحررية المعهودة في مرافعاتها النسوية، بل تتعهد لعشيقها بأن تكون «لطيفة للغاية، ومحتشمة للغاية، ومطيعة طاعة المرأة العربية!» (ولنغض الطرف هنا عن هذه اللمحة الاستشراقية)، وتقول: «سوف تراني أنظف المنزل، وأعدّ جميع أنواع الطعام».

يحاول نودلمان تفسير هذا التناقض/الكذب في أفكار وحياة بوفوار (بل إنه وفي أثناء غراميتها المشبوبة كانت تخبر عشيقها عن مشاريعها الكتابية النسوية)، ويرى بأن أطروحتها النظرية هي محاولة للتغلّب على فخّ الغرام الجامح الذي لم تستطع تفاديه، فقد كانت تجازف بفقدان حريتها في تجربة العشق التي تخوضه بضراوة مع ألغرين، ثم تستدرك الأمر بإخضاع التجربة للتحليل العقلي، والمحاكمة الأدبية، والتأويل التاريخي، وهذا ما أفضى إلى تضخّم حجم كتابها “الجنس الآخر” (في الترجمة العربية يقع في جزئين وفي قرابة 800 صفحة)، «فضخامة هذا الكتاب تقف شاهدًا على الصراع النفسي بين التجربة العاطفية، والرغبة في ضبط النفس من خلال الكتابة النظرية» كما يقول نودلمان، فالكتابة في هذه الحالة لا تقصد خداع القرّاء بالأساس، بل تهدف –ربما من غير وعي- إلى خداع الذات والكذب على النفس، لاسيما حين تصف في كتابها “قوة الأشياء” علاقتها بألغرين باعتبارها الطرف المستقل والمسيطر في العلاقة!

pexels-paula-schmidt-963486

قد يفوت البعض إدراك التأثير الجوهري للصدق في البناء الأخلاقي للإنسان، فليس الصدق مجرد فضيلة أخلاقية، ولا الكذب حماقة هامشية يمكن غضّ النظر عنها، بل الأمر أعظم من ذلك، فالصدق لا سيما بمفهومه الواسع الذي يشمل الصدق في القول بمطابقة الكلام للواقع، والصدق في الاعتقاد بثبوته في القلب، والصدق في الأفعال بإتمامها على وجهها؛ كفيل بتغيير مجمل حالة الفرد الأخلاقية، وهو أعظم الطرق الموصلة إلى كمال الصلاح والخير والفضيلة، كما قال صلى الله عليه وسلم (إنّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ)، ومن جرّب تحرّي الصدق التام في جميع ملفوظه صَغُر أو كُبَر؛ لابد وأن تصدق أفعاله، وتستقيم له جوارحه، بل تصلح له سائر أحواله.

فإن قلت: وكيف يكون ذلك؟ فيقال قد أجاب عن ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ) رحمه الله، فذكر أن آثار تحرّي الصدق في سائر العمل تتبيّن من وجوه، (وإن كان بعضها أوضح من بعض):

الوجه الأول أن الارتباط بين أقسام الصدق (صدق اللسان والقلب والجوارح) وثيق وعميق، ويعود إلى أصل واحد، بل «يكاد من التزم بعضها أن لا يفارق الآخر»، فصدق اللسان فرع عن صدق القلب، وصدق الجوارح فرع عن صدق اللسان، وإذا نظرت في دوافع الكذب والتي تتمحور –بحسب بعض الباحثين المعاصرين- حول أربعة دوافع أساسية: الأول لتحقيق المصالح، الثاني لتجنب العقاب، الثالث لتفادي الاحراج، الرابع لتقديم انطباع حسن لدى الآخرين، فسترى أنها تتولد عن تعظيم أمر الخلق، وتطلّب الجاه فيهم، وضعف لحْظ مراد الخالق، ومراعاة يوم الحساب، فعاد ضعف تصديق القلب على الجوارح بالنقص والخلل، ولو كمل صدق القلب لما عَظُم في نفس المرء كلام الناس وأنظارهم. 

والوجه الثاني: «أن التزام الصدق يحمل على الوفاء بالعقود والعهود والوعود في معاملة الناس؛ فتجري أعمال المرء مع غيره على سداد واستقامة».

والوجه الثالث –وهو معنى لطيف-: «أن الملتزم للصدق يُمسك نفسه عن أعمال السوء مخافة أن يُسأل عنها فيصدق فيجرّ على نفسه سوءًا أو يكذب، وهو لا يرضى مواقعة الكذب فتجري أعماله على البر سالمة من الفجور، والملتزم للكذب الضاري عليه يرتكب العظائم، ولا يبالي أن ينفي عن نفسه كاذبًا»، وقد سبقه إلى هذا المعنى الإمام ابن العربي (ت543هـ) رحمه الله فقال: «الصدق هو الأصل الذي يهدي إلى البر كله؛ لأن الإنسان إذا تحرّاه لم يعصِ أبدًا، لأنه إذا أراد أن يسرق، أو يزني، أو يؤذي أحدًا خاف أن يقال له “زنيت أو سرقت”، فإن سكت جرّ الريبة إليه، وإن قال: لا؛ كذب، وإن قال نعم، فسق، وسقطت منزلته، وذهبت حرمته». وقد لاحظ الإمام أبوعبدالله الحليمي (ت403هـ) رحمه الله أن خصال النفاق المذكورة في حديث (علامات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) «إذا تؤمّلت كان مرجعها جميعًا إلى الكذب»، فأصل النفاق بُني على الكذب، كما روي عن الحسن.

وأزيد وجهًا رابعًا حاصله أن تحرّي الصدق حسنة جليلة، والحسنة تجرّ أختها، ولأجل ذلك يقع تتابع الحسنات في عمل القلب وسائر الجوارح؛ فـ«الاعتياد بكل خصلة حسنة يجرّ إلى غيرها، كما أن الاعتياد بالقليل من شيء يجرّ إلى كثيره»، كما أشار بعض الشُرّاح.

أما الكذب فهو يفسد النفس، ويوجب اضطراب الذات، ويورث فيها العلل، ولذا يعوّل المعالج النفسي جوردن بيترسون على الصدق في تحقيق الحياة الطيبة والسواء الداخلي للفرد، ويحلل المنزلق الذي ينتظر الكاذب، فيفضي به إلى أبعد بكثير مما يظن، يقول: «‎أولًا، يكذب المرء كذبة صغيرة؛ ثم يتبعها بعدد من الكذبات الصغيرة التي تدعمها. وبعد ذلك، يأتي دور التفكير المشوّه الذي يهدف إلى تجنّب الشعور بالخزي الناتج عن تلك الكذبات، ثم يضيف بعض الكذبات لتغطية تبعات التفكير المشوّه. ثم يحدث أفظع ما في الأمر كله؛ وهو تحوّل تلك الكذبات -التي صارت ضرورية الآن- من خلال الممارسة؛ إلى اعتقاد وفعل تلقائيين، منهجيين، موجهين عصبيًا على مستوى “اللاوعي” لتحقيق غرض محدد. وبعد ذلك، تُخفق التجربة المقززة ذاتها كفعل عماده الزيف في تحقيق النتائج المنشودة… ثم يأتي دور الغطرسة والشعور بالفوقية اللذين يصاحبان حتمًا إنتاج كذبات ناجحة؛ وأخيرًا، تأتي هذه الفرضية: “الكينونة ذاتها عرضة لألاعيبي؛ لذا فهي غير جديرة بالاحترام”»، وهذه الآلية المتتابعة صيغة من صيغ الدوامة النفسية التي يقع فيها الكاذب، وهناك مسارات أخرى أكثر تعقيدًا، وكلها تكشف عن دور الكذب في تشويه صورة الواقع، الواقع الخارجي، ثم واقع الذات، ومن ثمّ الاصطدام الدامي مع حقائق الوجود، التي لا تتغير بالاختلاق والمخادعة، فإنكارك الشفهي لوجود الحائط لا يهدمه، وفي آخر المطاف لا يبقى للكاذب إلا المرارة الحتمية الناجمة عن فشله الدائم في تشويه وجه الحقيقة.

شارك الصفحة

التعليقات

    June 15, 2022

    رائعة 👌🏼👏🏼👏🏼

    3
    0
    June 16, 2022

    الله يسددك وينصرك

    0
    0
    June 16, 2022

    هذا الروسو مادري كيف طابت له نفسه ينظّر في التربيه و هو رمى أطفاله ، بجِّييح

    1
    0
    June 16, 2022

    جميل جميل جميل ^_^

    0
    0
    June 17, 2022

    جميلة الخاتمة .. وربما توسع علي معنى الصدق وتجمل حينما سمعت مقطعاً ل د عبدالرحمن الهاشمي ربط فيه الصدق بالإيمان وبالسواء النفسي حيث يقول: "مؤمن بمعنى: أنه يُصدق ظاهرُه باطنه، يُصدق فكرهُ شعورَهُ وسلوكه، والإيمان أحد معانيه التصديق"

    1
    2
    June 19, 2022

    لله درك يا أستاذ عبدالله ، أبدعت فعلاً.

    0
    0
    June 21, 2022

    سلمت أناملك مبدع كعادتك

    0
    0
    February 18, 2023

    الله يسعدكم

    0
    0
    March 7, 2023

    أول مرة أقرأ للمؤلف بصراحة أبدع في المقدمة وأسقط الأقنعة الزائفة ثم جاءت الخاتمة بعبارات جميلة وموعظة بليغة.
    كتبت فأبدعت

    0
    0
المزيد من مُراجعــات الكُتب

عبقرية الكذب: هل كذب كبار الفلاسفة؟ Read More »

سياحة إلى الذكريات

مع نهاية كل عام.. يعود المرء إلى ظلال ذكرياته، ويسترجع أيام عامه المنصرم، ونحن هنا نسترجع معًا بعضًا من سيرة علي الطنطاوي رحمه الله بقراءة صفحاتٍ من ذكرياته، في رحلة تنقلنا بين الأدب والتاريخ والثقافة والمعرفة؛ لننهل من بحر تجاربه وخبراته.

هذه الذكريات هي بادِرةٌ من الشيخ الأديب لجمع ذكرياته، من شتاتِ سبعينَ عامًا عامرة، قضاها بين انتقال، وطلب علم، وسعي، ومحاماة، وأدب، وثقافة، ومعرفة.

في ثنايا الجزء الأول.. بدأ بسرد سنواته الأولى في هذه الحياة، لكنه استطرد ولم يلتزم بسير السنوات؛ إذ كانت رحلاته وخبراته أوسع من عمره، فهو الفقيه الأديب والأديب الفقيه الذي مثّل لنا أنموذجًا رائعًا في نهم القراءة وحبها والشغف بها.

نقرأ الآن عن أيامه في (مكتب عنبر) -مدرسته الثانوية- وعن شيوخه وأساتذته، ورحلته اليسيرة مع التجارة، وارتحاله من الشام ثم عودته إليها. سيحكي لنا عن أول سطوره التي رأت النور، ونُشرت في طيات الصحف ليقرأها الجمهور، وكيف كانت رحلته مع الصحافة وبداية إصداراته (رسائل الإصلاح). سنسافر معه إلى إندونيسيا، وسيأخذنا في حديث ماتع عن سُرّ من رأى وعن بغدادَ ورمضانها، وإيوان كسرى، ومحكمة دمشق، وسرده للحرب العالمية الثانية… وغيره الكثير الكثير.

وهكذا جاءت ذكرياته على نمط عجيب لا يأتي به إلا من عاش تجاربًا عميقة كما قال لنا واصفًا لها:”ما سرت فيها على الطريق المعروف، ولا اتبعت فيها الأسلوب المألوف، فلم تجئ مرتّبة مع السنين، ولا مقسمة تقسيم الأحداث والوقائع، وما كانت تستقيم دائمًا على الجادة، بل تذهب يمينًا وتذهب شمالًا؛ أبدأ الحديث فلا أتمّه، وأشرع في آخر فلا أستكمله، وما أدري كيف احتمل القراء هذا كله مني

وكما قال معبرًا عن كتابته لذكرياته:

الجندي حين يمشي في مهمة عسكرية يمضي إلى غايته قدمًا لا يعرج على شيء ولا يلتفت إليه، ولكن السائح يسير متمهلاً؛ ينظر يمنة ويسرة، فإن رأى منظراً عجيبًا وقف عليه، وإن أبصر شيئًا غريبًا صوّره، وإن مرّ بأثر قديم سأل عن تاريخه؛ فيكون له من سيره متعة، ويكون له منه منفعة. وأنا لا أحب -في هذه الذكريات- أن أمشي مشية الجندي، بل أسير مسيرة السائح”.

قراءتنا لهذه الذكريات.. هي سياحةٌ في فكر الشيخ وعلمه وآثاره. فهل ستكون أيها القارئ جزءًا من هذه الرحلة وتدرك ركبنا؟

شارك الصفحة
https://nadiim.com/qrajrd-book43/
المزيد من أخبار نديم
عامٌ من نمير
رواء العلم ومجتمع الباحثين
للقراءة
قراء الجرد
منجزات الكتاب الثاني والأربعون
للقراءة
Previous slide
Next slide

سياحة إلى الذكريات Read More »