البلاغة النبوية: دراسة في سمت الكلام الأول
مدخل:
خُصّت هذه الأمة بأرفع وأنفع العلوم لأجلّ الغايات والمآرب، منها علوم العربية، وكان علم البلاغة مرتقاها وواسطة عقدها، فإذا كانت اللغة تعنى بالكلام تركيبًا وبالكلمة بنية ومعنى، جاءت البلاغة تعنى بالكلام من حيث معانيه الرفيعة والدقيقة، وما يقدم إليها من تراكيب فصيحة، فإذا كانت اللغة تعبر عن الفكر، فالبلاغة الفكر كله.
والحق الذي لا يقارعه شك أن البيان النبوي قد سما لأرفع درجات الفصاحة والبلاغة، وقد اختص ﷺ بجوامع الكلم، وقد خاطبه ربه تبارك وتعالى باستعمال الكلمة البليغة المؤثرة ﴿وَعِظهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسَهُمْ قَوْلاً بليغاً﴾ [النساء: 63].
يقول الجاحظ وهو يصف بلاغته وفصاحته ﷺ: “وأنا ذاكرٌ بعد هذا فنًّا آخر من كلامه ﷺ، وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه، وكثرت معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلُّف، وكان كما قال تبارك وتعالى: قُل يا محمد: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾[ص:86]”.
ولما بلغت فصاحته وبلاغته ﷺ المنتهى، كانت المشكلة -في عصرنا- صعوبة فهم الدلالات البلاغية الدقيقة في الحديث النبوي الشريف؛ فانبرى المصنّفون في التأليف، وإعداد الأبحاث؛ تحريًّا للطائفه ودقائق مقاصده، ولعل من أهم ما صنّف حديثًا لهذا الغرض (شرح أحاديث من صحيح مسلم- دراسة في سمت الكلام الأول) للدكتور محمّد أبو موسى، هذا السفرُ المبارك والذي أحسب أنه سيكون لدارسه تأصيل في الدرس البلاغي، ومفتاح اكتساب مهارة التحليل الذوقي بمعزل عن التقعيد الجامد، وللباحث ومضات إلهام، وسبر أغوار، وفك لحمة عيّ -بإذن الله-.
مؤلّف الكتاب ومنهجيّته:
مؤلف الكتاب هو الشيخ العلامة أستاذ البلاغيين المعاصرين محمد أبوموسى، أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية (جامعة الأزهر بالقاهرة)، ممن قيضهم الله للعلم وطلبته، وهيأ بفضله -سبحانه- ثم بفضلهم سبلًا للعلم.
شخصية علمية ذات مناقب ومواهب، وله منهجيته الخاصة في دراسة البلاغة، مضى يصنع معرفته بها ويهبها من بعده، في التحليل والاستنباط.
والنَّاظر في مصنّفاته والمتتبع لدروسه وشروحه، يلحظ ويستقرئ هذه المنهجيّة، فهو يمضي إلى رصد منابع الأفكار من ثم يستخرج الفكرة من الأخرى، فتتناسل وتتكاثر وتتفرّع، وهذه كانت طريقته في بناء العلم وصناعة المعرفة، إذ تُتَلقّى بالعقل من ثم تُدار ويُفاد منها بنتاج جديد لا يقتصر على النقل فقط.
وهو يعضّد ذلك بقوله: “والكتب التي تعلّمك العقل، هي الكتب التي تجعلك شريكًا في استخراج واستكشاف المعرفة التي تتعلمها منها”.
داخل الكتاب:
يقع الكتاب في مجلدين، من ١٠٨٨صفحة، شرح فيهما ١٢٢حديثًا من صحيح مسلم، من أبواب عدة، يشرع بتحليلها، من ثم يسقطها على مختلف أطوار الحياة، ويعرض لذلك بقوله: “ولا شك أن تحليل البيان يزيدنا اقترابا منه، ولما اقتربت من كلامه ﷺ وجدته كأنه كان يضع الدواء لأدوائنا… وكأنه كان يخاطب الأمة إلى آخر زمن التكليف”.
وقد ذكر سبب التأليف في مقدمته: “فقد كتبت كتابًا في شرح أحاديث من صحيح البخاري، وكتبت على غلافه (دراسة في سمت الكلام الأول)، وكانت النية معقودة على صناعة كتاب آخر، “شرح أحاديث من صحيح مسلم (دراسة في سمت الكلام الأول)”، وقد كررت هذه الكلمة؛ لأني أريد أن ألفت إليها أهل العلم؛ لأن دراسة سمت كلام كل جيل، وسمت كلام كل ذي بيان من الضروريات التي أهملناها… وكنت ولا زلت كلفًا بدراسة كلام الله، وكلام رسول ﷺ، ودراسة كلام الجيل الذي نزل فيه القرآن؛ لأن دراسة الفروق بين هذه الثلاثة من الدين، ومن العلم الذي يجب أن يكون شائعًا في هذه الأمة”.
وإذا ما رحنا نستجلي دقائقه ومواطن الجدّة فيه، فإننا نلحظ عقد المؤلف لموازنات عديدة بين الحديث النبوي الشريف وآيات القرآن الكريم، لفظًا، أو تركيبًا، أو معنى.
تارة يشير مباشرة لذلك، وتارةً يدعه لعقل القارئ وكأنه يمنحه الدليل، أو يشحذه للبحث وإعمال الفكر واستقراء القرآن للتأكد من أصل العبارة النبوية في كل حديث يعرض.
من مثل: “وكنت أريد أن أضع قوله ﷺ :”لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”-، بإزاء قوله -تعالى-: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ [النور:3]، وأوازن بين اقتران وصف الزانية بالمشركة، والزاني بالمشرك، ثم أعود إلى نفي الإيمان عنه؛ لأن هناك مسافة ليست بعيدة بين المشرك، وبين غير المؤمن، وأن جملة الحديث الأولى، بينها وبين جملة سورة النور الأولى رحم، ورجّح ذلك قوله قبل الآية:﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور:2]“.
وهو يدعو الباحثين والمشتغلين في هذا الميدان لأن تجمع الآيات والأحاديث التي في موضوعها وتُدرس بيانيًّا.
وهنا يلفت إلى خاصية من خصائص البيان النبوي، “قلت هذا؛ لأن كل بيانه ﷺ بيان للكتاب… يعني أن بيانه بيان لكل المتفرقات القرآنية…وهذا يجعلنا أمام بيان له خصوصية خاصة؛ لأنه ليس تفسيرًا حرفيًا لآية، وليس تفسيرًا بعيدًا، ولا مباشرًا أو غير مباشر لآية، وإنما هو خلاصة الخلاصة لكثير من الآيات، وغالبا ما تكون هذه الآيات ليست إحداها نصًا للذي نص عليه البيان النبوي”.
وخاصية أخرى وهي تشابه الأبنية: “وفي هذا الحديث ملمح من ملامح فصاحته، وهو تشابه الأبنية وسلاستها،… فالجمل الثلاث الأولى “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن”، أُفرغت إفراغًا واحدًا، وتجاوزت التشابه في سمت البناء وحذوه إلى التوحد، وكأنه ﷺ لما جرت الأولى على لسانه سهلة… أجرى الجملتين التاليتين على حذوها وسمتها وهذا يقرب هذه المعاني في هذا الأسلوب… وهذا من سمت كلام النبوة، ويلاحظ أن معاني الجمل الثلاثة متباعدة فالأولى في الأعراض، والثانية في الأموال، والثالثة في العقول، ولكن شريف النظم ألّف المختلف وجعل المختلف مؤتلفًا، وهذا من السهل الممتنع”.
كَذَا المفارقة بين اللفظ والمعنى: “ولو سألت وقلت لماذا قال ﷺ ولا يشرب الخمر حين يشربها، ولم يقل شاربها… الذي عندي هو أن خطيئة الشرب واقع ضررها على نفسه بخلاف الخطيئتين قبلها؛ لأنها تتعلق بحق الغير، صاحب العرض وصاحب المال، فكان هذا الفرق في المبنى إشارة إلى هذا الفرق في المعنى”.
وإزاء عقد الموازنات بين البيان النبوي والقرآني، يشير إلى الفائدة المتحصلة من النظر في علاقات معاني الأحاديث التي ترد في باب واحد.
هذه من جملة إلماحاته لدراسة الفروق بين مستويات البيان العربي الثلاث، فضلًا عن خصائص ودلالات التراكيب في مواضعها من البيان النبوي.
ملحظ:
هذا الكتاب كنز معرفي لكل مشتغل، وكل طالب يقصد التحصيل في الدرس البلاغي واكتساب مهارة التحليل، بيد أن هناك مأخذ جليّ، فلا يخلو عمل من نقص، فالمؤلف يستأنف شرح وتحليل الأحاديث ويستطرد من ثم يعود لما انقطع عنه، وهذا من شأنه التشتيت، أو في بعضه يحتاج معه لمكابدة وإمعان نظر للفهم والاستنباط.
ومازال هناك خصائص تتطلّب دقة رصد ودراسة عميقة؛ لعل الله يقيّض لها أربابها؛ لإثراء هذا الجانب.
البلاغة النبوية: دراسة في سمت الكلام الأول قراءة المزيد »