مراجعات الكتب

البلاغة النبوية: دراسة في سمت الكلام الأول

Picture of شعاع بنت حسين القحطاني
شعاع بنت حسين القحطاني

بكالوريوس لغة عربية

مدخل:

خُصّت هذه الأمة بأرفع وأنفع العلوم لأجلّ الغايات والمآرب، منها علوم العربية، وكان علم البلاغة مرتقاها وواسطة عقدها، فإذا كانت اللغة تعنى بالكلام تركيبًا وبالكلمة بنية ومعنى، جاءت البلاغة تعنى بالكلام من حيث معانيه الرفيعة والدقيقة، وما يقدم إليها من تراكيب فصيحة، فإذا كانت اللغة تعبر عن الفكر، فالبلاغة الفكر كله.

والحق الذي لا يقارعه شك أن البيان النبوي قد سما لأرفع درجات الفصاحة والبلاغة، وقد اختص ﷺ بجوامع الكلم، وقد خاطبه ربه تبارك وتعالى باستعمال الكلمة البليغة المؤثرة ﴿وَعِظهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسَهُمْ قَوْلاً بليغاً [النساء: 63].

يقول الجاحظ وهو يصف بلاغته وفصاحته ﷺ: “وأنا ذاكرٌ بعد هذا فنًّا آخر من كلامه ﷺ، وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه، وكثرت معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلُّف، وكان كما قال تبارك وتعالى: قُل يا محمد: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86]”.

ولما بلغت فصاحته وبلاغته ﷺ المنتهى، كانت المشكلة -في عصرنا- صعوبة فهم الدلالات البلاغية الدقيقة في الحديث النبوي الشريف؛ فانبرى المصنّفون في التأليف، وإعداد الأبحاث؛ تحريًّا للطائفه ودقائق مقاصده، ولعل من أهم ما صنّف حديثًا لهذا الغرض (شرح أحاديث من صحيح مسلم- دراسة في سمت الكلام الأول) للدكتور محمّد أبو موسى، هذا السفرُ المبارك والذي أحسب أنه سيكون لدارسه تأصيل في الدرس البلاغي، ومفتاح اكتساب مهارة التحليل الذوقي بمعزل عن التقعيد الجامد، وللباحث ومضات إلهام، وسبر أغوار، وفك لحمة عيّ -بإذن الله-.

محمد أبو موسى
د. محمد محمد أبو موسى

مؤلّف الكتاب ومنهجيّته:

مؤلف الكتاب هو الشيخ العلامة أستاذ البلاغيين المعاصرين محمد أبوموسى، أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية (جامعة الأزهر بالقاهرة)، ممن قيضهم الله للعلم وطلبته، وهيأ بفضله -سبحانه- ثم بفضلهم سبلًا للعلم.

شخصية علمية ذات مناقب ومواهب، وله منهجيته الخاصة في دراسة البلاغة، مضى يصنع معرفته بها ويهبها من بعده، في التحليل والاستنباط.

والنَّاظر في مصنّفاته والمتتبع لدروسه وشروحه، يلحظ ويستقرئ هذه المنهجيّة، فهو يمضي إلى رصد منابع الأفكار من ثم يستخرج الفكرة من الأخرى، فتتناسل وتتكاثر وتتفرّع، وهذه كانت طريقته في بناء العلم وصناعة المعرفة، إذ تُتَلقّى بالعقل من ثم تُدار ويُفاد منها بنتاج جديد لا يقتصر على النقل فقط.

وهو يعضّد ذلك بقوله: “والكتب التي تعلّمك العقل، هي الكتب التي تجعلك شريكًا في استخراج واستكشاف المعرفة التي تتعلمها منها”.

 

داخل الكتاب:

يقع الكتاب في مجلدين، من ١٠٨٨صفحة، شرح فيهما ١٢٢حديثًا من صحيح مسلم، من أبواب عدة، يشرع بتحليلها، من ثم يسقطها على مختلف أطوار الحياة، ويعرض لذلك بقوله: “ولا شك أن تحليل البيان يزيدنا اقترابا منه، ولما اقتربت من كلامه ﷺ وجدته كأنه كان يضع الدواء لأدوائنا… وكأنه كان يخاطب الأمة إلى آخر زمن التكليف”.

وقد ذكر سبب التأليف في مقدمته: “فقد كتبت كتابًا في شرح أحاديث من صحيح البخاري، وكتبت على غلافه (دراسة في سمت الكلام الأول)، وكانت النية معقودة على صناعة كتاب آخر، “شرح أحاديث من صحيح مسلم (دراسة في سمت الكلام الأول)”، وقد كررت هذه الكلمة؛ لأني أريد أن ألفت إليها أهل العلم؛ لأن دراسة سمت كلام كل جيل، وسمت كلام كل ذي بيان من الضروريات التي أهملناها… وكنت ولا زلت كلفًا بدراسة كلام الله، وكلام رسول ﷺ، ودراسة كلام الجيل الذي نزل فيه القرآن؛ لأن دراسة الفروق بين هذه الثلاثة من الدين، ومن العلم الذي يجب أن يكون شائعًا في هذه الأمة”.

وإذا ما رحنا نستجلي دقائقه ومواطن الجدّة فيه، فإننا نلحظ عقد المؤلف لموازنات عديدة بين الحديث النبوي الشريف وآيات القرآن الكريم، لفظًا، أو تركيبًا، أو معنى.

تارة يشير مباشرة لذلك، وتارةً يدعه لعقل القارئ وكأنه يمنحه الدليل، أو يشحذه للبحث وإعمال الفكر واستقراء القرآن للتأكد من أصل العبارة النبوية في كل حديث يعرض.

من مثل: “وكنت أريد أن أضع قوله ﷺ :”لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”-، بإزاء قوله -تعالى-: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، وأوازن بين اقتران وصف الزانية بالمشركة، والزاني بالمشرك، ثم أعود إلى نفي الإيمان عنه؛ لأن هناك مسافة ليست بعيدة بين المشرك، وبين غير المؤمن، وأن جملة الحديث الأولى، بينها وبين جملة سورة النور الأولى رحم، ورجّح ذلك قوله قبل الآية:﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]“.

وهو يدعو الباحثين والمشتغلين في هذا الميدان لأن تجمع الآيات والأحاديث التي في موضوعها وتُدرس بيانيًّا.

وهنا يلفت إلى خاصية من خصائص البيان النبوي، “قلت هذا؛ لأن كل بيانه ﷺ بيان للكتاب… يعني أن بيانه بيان لكل المتفرقات القرآنية…وهذا يجعلنا أمام بيان له خصوصية خاصة؛ لأنه ليس تفسيرًا حرفيًا لآية، وليس تفسيرًا بعيدًا، ولا مباشرًا أو غير مباشر لآية، وإنما هو خلاصة الخلاصة لكثير من الآيات، وغالبا ما تكون هذه الآيات ليست إحداها نصًا للذي نص عليه البيان النبوي”.

وخاصية أخرى وهي تشابه الأبنية: “وفي هذا الحديث ملمح من ملامح فصاحته، وهو تشابه الأبنية وسلاستها،… فالجمل الثلاث الأولى “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن”، أُفرغت إفراغًا واحدًا، وتجاوزت التشابه في سمت البناء وحذوه إلى التوحد، وكأنه ﷺ لما جرت الأولى على لسانه سهلة… أجرى الجملتين التاليتين على حذوها وسمتها وهذا يقرب هذه المعاني في هذا الأسلوب… وهذا من سمت كلام النبوة، ويلاحظ أن معاني الجمل الثلاثة متباعدة فالأولى في الأعراض، والثانية في الأموال، والثالثة في العقول، ولكن شريف النظم ألّف المختلف وجعل المختلف مؤتلفًا، وهذا من السهل الممتنع”.

كَذَا المفارقة بين اللفظ والمعنى: “ولو سألت وقلت لماذا قال ﷺ ولا يشرب الخمر حين يشربها، ولم يقل شاربها… الذي عندي هو أن خطيئة الشرب واقع ضررها على نفسه بخلاف الخطيئتين قبلها؛ لأنها تتعلق بحق الغير، صاحب العرض وصاحب المال، فكان هذا الفرق في المبنى إشارة إلى هذا الفرق في المعنى”.

وإزاء عقد الموازنات بين البيان النبوي والقرآني، يشير إلى الفائدة المتحصلة من النظر في علاقات معاني الأحاديث التي ترد في باب واحد.

هذه من جملة إلماحاته لدراسة الفروق بين مستويات البيان العربي الثلاث، فضلًا عن خصائص ودلالات التراكيب في مواضعها من البيان النبوي.

ملحظ:

هذا الكتاب كنز معرفي لكل مشتغل، وكل طالب يقصد التحصيل في الدرس البلاغي واكتساب مهارة التحليل، بيد أن هناك مأخذ جليّ، فلا يخلو عمل من نقص، فالمؤلف يستأنف شرح وتحليل الأحاديث ويستطرد من ثم يعود لما انقطع عنه، وهذا من شأنه التشتيت، أو في بعضه يحتاج معه لمكابدة وإمعان نظر للفهم والاستنباط.

ومازال هناك خصائص تتطلّب دقة رصد ودراسة عميقة؛ لعل الله يقيّض لها أربابها؛ لإثراء هذا الجانب.

شارك الصفحة
المزيد من المراجعات

البلاغة النبوية: دراسة في سمت الكلام الأول قراءة المزيد »

حياتنا بين الحقيقة التي نعيشها وبين الخيال الذي نتمناه: قراءة في كتاب فوائت الحياة

Picture of ندى الأشرم
ندى الأشرم

مهتمة بتعزيز عادة القراءة ومؤسس لعدة مبادرات قرائية

كان ناقماً طيلة حياته على والديه الذين تسببا بتعاسته، كان ينظر لفقره وكأنه السد الذي يمنعه من الوصول لجنة الحياة ومتعها، أمضى حياته بأكملها وهو يتأمل ويفكر كيف كان سيحيا لو لم يكن الطفل الخامس لهذه العائلة البائسة، كبر وكبرت معه خيالاته، تخيل نفسه دوماً شاباً ثرياً ينال كل ما يتمنى حتى قبل أن يطلبه، كانت المدرسة بالنسبة له هاجساً مرعباً، والدخول في علاقات صداقة مع أقرانه أمراً مستبعداً. استمر على ما هو عليه حتى قارب الثلاثين من عمره، ولم ينعم مطلقًا بدفء الأصدقاء ولا العائلة، وعند بلوغه الثلاثين تلقى عرضًا مغريًا للعمل خارج وطنه، فتلقفه بلهفة وطار محلقاً يسبق الريح ظناً من أنه قد أدرك مناه أخيراً، حطت رحاله في الدار الغريبة عنه التي لا يعرف فيها أحد غير نفسه. هناك أدرك أنه لم يكن يطارد حلماً ليتحقق، بل كان يلهث خلف سراب! بِيعت أحلامه وتبعثرت أمانيه بعد أن ظهرت له حقيقة تعرضه لعملية

نصب أفقدته حتى ذاك القليل الذي كان يمتلكه. ورغم عودته خائبًا لوطنه لا يزال يُقنع نفسه أنه يحيا الحياة التي لا يستحقها، بل يستحق ما هو أفضل منها.

هذه القصة وإن كانت محض خيال إلا إنها تحكي واقعاً نعيشه ونراه. فكلنا هذا الذي يهرول بين حياة يعيشها وأخرى يتخيلها ويتمناها، قد لا ينال منها شيء أبداً، ولكنها تبقى غصة في قلبه تتجسد أمامه كلما رأى ما تمناه وقد تملكه غيره.

هذا الحديث عن تلك الحياة الافتراضية التي يُنغّص غيابها واقعنا، هو لب ما جاء في كتاب (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها).

”هناك دائمًا الحياة التي سيتبين أنها الحياة التي عشناها، والحياة التي  صاحبتها، الحياة (أو الحيوات) الموازية، التي لم تحدث في الواقع، تلك التي نعيشها في عقولنا، الحياة أو (الحيوات) التي نتمناها: المجازفات التي لم نُقدم عليها، والفرص التي تجنبناها أو التي لم تتح لنا. ونحن نشير إليها بوصفها حياتنا التي لم نعشها، لأننا نعتقد أنها بصورة ما كانت متاحة لنا، لكنها لم تكن ممكنة لسبب ما. وربما نقضي قدرا كبيرًا من حياتنا في محاولة البحث عن هذا السبب والتذرع به“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

فوائت الحياة

يُصور الكاتب والمعالج والمحلل النفسي البريطاني آدم فيلبس صورة بانورامية للحياة في كتابه الذي بين أيدينا (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها) ويفصلها لجزئين اثنين، جزء يعرض الحياة الواقعية وما بها من مصاعب وآلام، وجزء حالم بُني على قناعة أن الحياة التي نعيش على أمل بلوغها هي حقًا ما ننتظره وهي ما نتمناه ونرتضيه وما يجب أن يُسعدنا.

الكتاب عبارة عن مقالات تناولت مبدأ الحياة العام، الذي ينطلق من فكرة واعتقاد قائم على أن هذه الحياة هي للملذات والسعادة فقط، وأنه لا يُفترض بها أن تنحو منحى آخر، ونظراً لأن الحياة بطبيعتها تخلو من هذا الفصل بين الألم واللذة، فإننا ندخل في حالة إحباط في كل مرة نتعرض بها للحياة الطبيعية، ومنبع هذا الإحباط هو الإحساس باليأس الحاصل جراء غياب الحياة المتوقعة بأحوالها المُتخيلة، ويرجّح فيلبس بكتابه العامل المؤثر في مسألة الحياة المتوقعة والمُتمناة، إلى وسائل التأثير الخارجية مثل المسرحيات والروايات والأعمال الأدبية عمومًا، التي كانت على مر عقود من الزمن تغرس في الذهن الصورة المثالية للحياة التي لم يعشها أحد قط!

تلك القصص التي ملئت بها الأعمال السينمائية والأدبية عقول الناس حول لذة الوصول للحب والحلم والغايات وغيرها، أوجدت في النفس ميلاً دائمًا نحو الاقتناع بأحقيتها بالعيش السعيد الخالي من المنغصات. بالإضافة إلى ذلك، يعرض فيلبس بالكتاب الحقيقة المرة التي جعلت من الحياة في منظورها الحداثي مصدراً للمتعة فتضاءلت أمامها معايير الأخلاق، فليس من المفترض أن يعيش المرء صالحاً إذ يكفيه في هذه الحياة أن يعيش سعيداً، وهذا الاعتقاد يجنح إلى رفض الألم والمعاناة، واعتبار الصعاب مشاكل لابد من التخلص منها بأسرع وقت ممكن للوصول للحالة السعيدة المنشودة. وعلى الرغم من رفض الكاتب لهذا التصور إلا أنه أيضًا لا يدعي الترحيب بالألم والمعاناة، بل إنه يؤكد على ازدواجية الحياة، واختلاط الألم باللذة والمتعة بها. ويرى فيلبس أن هذا الفكر الشائع يدفع بالبشر نحو الحنين الدائم والتمجيد الذي لا ينقطع لمراحل الطفولة والمراهقة، كونها أجمل مراحل العمر، وفي المقابل ينظر لمرحلة النضج  والرشاد إلى كونها مرحلة مرهقة وشاقة، في حين أن العكس هو الصحيح من وجهة نظر المؤلف.

إننا لا يمكن أن نتخيل حياتنا بدون ما تحتويه من حيوات لم نعشها. إننا لدينا شعور دائم، وإن كان غامضًا وغريبًا، بأن الحيوات التي نعيشها تدفعها الحيوات التي تفوتنا. وتُعرّف حيواتنا بالفقدان، لكن فقدان ما كان يمكن أن يكون، فقدان أمور لم نجربها قط. وبمجرد أن تصبح الحياة الأخرى، الحياة الأفضل -الحياة الأكمل- هي هذه الحياة التي نحياها، تكون لدينا مهمة كبيرة بين أيدينا. وكأن شخصًا ما يطلب منا لا أن نعيش وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن. بل أن نعيش في رخاء، ليس مجرد حياة طيبة وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن, وهذا نوع مختلف من المطالب. وتصبح قصة حياتنا هي قصة الحيوات التي حرمنا عيشها“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

أقول بأن صفحات الكتاب جاءت لتحدثنا بما نُحدث به ذواتنا، ذاك الهمس الذي نبقيه حبيس مسامعنا، يُحدثنا تارة بالرضا، وتارة بالقنوط واليأس، وبالنهاية تكون لك الحياة كما أرادها الله لك أن تكون، لا تزيد ولا تنقص، ولن ينال المرء منها إلا ما قد قسمه الله وقدره، يقول النبي ﷺ: “أيها الناس اتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم”.

إن واقع حياة المؤمن إن كان صادقًا في إيمانه يقيه شر هذه الوساوس النفسية، كما أن إيماننا بحقيقة قصر أمد هذه الحياة يجعلنا نتطلع دومًا إلى الحياة التي لا فناء بعدها، تلك هي الحياة التي تستحق فعلًا منا كل هذا القلق.

لبيك إن العيش عيش الآخرة.

شارك الصفحة
المزيد من المراجعات

حياتنا بين الحقيقة التي نعيشها وبين الخيال الذي نتمناه: قراءة في كتاب فوائت الحياة قراءة المزيد »

من أجل فلسفة عربية: مراجعة لكتاب الحق العربي في الاختلاف الفلسفي

Picture of محسن بن علي الشهري
محسن بن علي الشهري

دكتوراه البلاغة والنقد

يعد مجال الفلسفة -فن إبداع المفاهيم- من أخصب المجالات نقلًا عن الآخر والتأثر به، وقد تفاوت التأثر العربي الإسلامي تأثراً متفاوتا على مختلف العصور، فمنذ مراحل الاشتغال الفلسفي الإسلامي وقع الفكر العربي في منزلق الإشكالات الفلسفية وسؤالاتها متأثرا بجميع التحولات الفلسفية التي رصدت عن الثقافة الغربية، وجاءت تلك المراحل بإجمال على النحو الآتي: المرحلة الأولى التي تمحورت حول مبحث الوجود والتي تبحث عن العلل الغائية للموجودات، ومثَل هذه المرحلة سقراط (ت:399ق.م) وأفلاطون (ت:347ق.م) وأرسطوطاليس (ت:322ق.م) الملقب بالمعلم الأول، ثم تلت تلك المرحلة الوسيطة التي مثلتها الفلسفة الإسلامية، ولم تخل الكتابات الفلسفية من تلك الانطباعات التي برزت في المرحلة السابقة لها، ومن أبرز أسماء تلك المرحلة الفارابي (ت:950م) وابن سينا (ت:1037م) والغزالي (ت:1111م) وابن رشد (ت:1198م) ثم نأتي بعد ذلك إلى المرحلة الثانية في القرن السابع عشر وهي ما عرف بعصر النهضة أو الحداثة، وأول من أشعل فتيل هذه المرحلة الفيلسوف ديكارت (ت:1650م) الذي نقل البحث الفلسفي من الوجود إلى الذات، موضحاً أن علل الموجودات تكمن في الذات المفكرة وليس في الوجود نفسه، ولذلك لقب بـ “أبو الفلسفة الحديثة” ثم تلاه بعد ذلك الفيلسوف كانت (ت:1804م) الناقد للعقل المجرد والعملي والذي تبلور على يديه مبحثا المعرفة والأخلاق، وبذلك اكتملت أركان الفلسفة أو السؤالات الكبرى للفلسفة وهي: سؤال الوجود والمعرفة والأخلاق، ثم نصل أخيراً عند المرحلة الثالثة وهي المرحلة الأوسع والتي تكونت فيها العلوم الإنسانية، ألا وهي مرحلة التأويل، ويقصد بها الخروج أو التحرر من الذات المفكرة إلى آفاق أرحب أداتها التأويل، وأبرز أسماء هذه المرحلة ماركس (ت:1883م) ونيتشه (ت:1900م) وفرويد (1939ت:م) وهذه صورة مختزلة لأبرز التحولات الفلسفية التي تؤطر سؤالاتها وطريقة تناولها.

يرصد كتاب الفيلسوف المغربي الدكتور عبد الرحمن -الصادر عام 2014م، الطبعة الثالثة عن المركز الثقافي العربي بالمغرب، وعدد صفحاته 216- اشتباك الفلسفة الغربية مع تحولاتها بالثقافة الإسلامية، والإشكالات العديدة التي نشأت من التعلق بالمنهج الأوربي للفلسفة سؤالًا وتفكيرًا ومنهجًا، وأثر الارتكاز على منطلقات افترقت عنها الثقافة الإسلامية في المجال التداولي.

إن مناقشة هذا الكتاب لقضية الأثر الفلسفي يدعو على نحو راسخ إلى إعادة تثوير الفلسفة وتمحيصها وتقويمها ودفعها إلى مجال عربي إسلامي تداولي، يفصلها عن الفلسفة الأجنبية، كما يمثّل ببعض الممارسات الفلسفية الخاطئة التي تؤدي إلى الجمود في حين أن الاشتغال الحقيقي للفلسفة لا ينبغي أن يكون إلا في ضوء المنجزات اللسانية المرتبطة بالقومية والمجال التداولي.

يتضمن الكتاب مقدمة، وستة فصول، وخاتمة يعرض فيها المؤلف شبهة قد تتولد بعد قراءة الكتاب، وهي الدعوة إلى صناعة فلسفة عربية غير إسلامية، كون القومية والإسلام ضدان لا يجتمعان، وقد سمى المؤلف هذه الشبهة (شبهة الفكر الفلسفي الكبرى) وقد تناول المؤلف ردها بحسب ما جاء في النظم الكريم من استعمال مفهوم القومية.

نقد السؤال الفلسفي:
يكشف طه عبد الرحمن عن حقيقة الأسئلة الفلسفية التي تعد ركيزة أساسية من ركائز الفلسفة بغية تجاوزها والخروج من مآلات الحداثة، فالسؤال الفلسفي القديم اليوناني ارتكز على فحص الدعوى بالأسئلة، بقصد الوقوف على حدود العقل، في حين ارتكز السؤال الفلسفي الأوربي الحديث على النقد متوسلاً بمعايير العقل وحدها، جاعلاً العقل نفسه موضع تساؤل، وهذا التفريق الدقيق من قبل المؤلف يوقفنا على الفرق بين المنطق الصوري القديم الذي عُني بالعمليات العقلية التي تؤدي إلى تحصيل التصورات والتصديقات، والمنطق المادي الذي يقوم على حقائق الواقع، وبذلك فإن سؤال الفحص يعنى بالشكل والصورة، بخلاف سؤال النقد الذي يعنى بمضمون الفكر ومادته، وعلى ذلك التصور يتجاوز المؤلف هذين الشكلين من السؤال إلى شكل أحدث وهو “السؤال المسؤول” وهو سؤال يسأل عن وضعه كسؤال بقدر ما يسأل عن موضوعه، وبذلك يصحح السؤال من السؤالية إلى المسوؤلية والتي بدورها أن تجعل الفلسفة أخلاقاً يقوم الفيلسوف على تطبيقها من منطلق المسؤولية وليس التنظير كما في السؤالية، فالفيلسوف العربي الجديد ليس هو الذي يخوض في أي سؤال اتفق ولا ذاك الذي يخوض في سؤال خاض فيه غيره تقليدا له، إنما هو الذي لا يسأل إلا السؤال الذي يلزمه وضعه ويلزمه الجواب عنه، أي عليه مسؤولية وضعه ومسؤولية الجواب عنه، ولا لزوم للسؤال الفلسفي ولا للجواب عنه في وضعية هذا المتفلسف إلا حيث تتعين الحاجة إلى تحرير القول الفلسفي العربي وفتح آفاق الإبداع فيه.

الفلسفة قومية لا كونية:

بالأدلة والبراهين وبالارتباطات المتعددة الجوانب ينقض المؤلف دعوى كونية الفلسفة، وأولى هذه الارتباطات، ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي الاجتماعي، وهو ارتباط بدهي، فكل فلسفة نتاج السياق التاريخي والاجتماعي المخصوص، وتقديم البدهي على غيره في الحجج ترتيب منطقي وأولى أن يقدم، والارتباط الثاني هو ارتباط الفلسفة بالسياق اللغوي الأدبي واللغة هي الوعاء للفلسفة والمحل لها ولا بد أن يتأثر الحال بالمحل، أما الحجة الثالثة هو الاختلاف الفكري بين الفلاسفة داخل الأمة الواحدة حتى أضحت الفجوة داخل ذلك الاختلاف تصدّر الفلسفة بأسماء الفلاسفة، كما الأرسطية والكانطية و …، فإذا كان هذا داخل أمة واحدة فكيف يكون الحال بين سائر الأمم؟ فلا شك أن ذلك الاختلاف سيكون أكبر من أن يقارب، والحجة الرابعة هو التصنيف القومي للفلسفة، كما في الفلسفة الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، وأن هذا التقسيم هو تقسيم في جوهر هذه الفلسفات نتيجة تأثرها بالأفكار القومية.

طه عبدالرحمن

طاقات اللغة في إبداع المفاهيم الفلسفية:

كثيرا ما يولي طه عبد الرحمن أهمية بالغة في تناول المصطلحات والمفاهيم ويفجر طاقاتها الكامنة فيها، منطلقاً من الجذور اللغوية ثم المعاني المنبثقة من السياق التداولي، يقول المؤلف في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث: “لا يخفى على أحد أن اللغة أداة من أقوى الأدوات التي يستخدمها المتكلم لتبليغ مقاصده إلى المخاطب وللتأثير فيه بحسب هذه المقاصد؛ وبقدر ما تكون هذه الأسباب مألوفة للمخاطب وموصولة بزاده من الممارسة اللغوية فهماً وعملاً يكون التبليغ أقيد والتأثير أشد“. وعلى هذا الأساس نجده يطبق ذلك على مصطلح القومية ويوضح الخواص والميزات له، فيذكر له ثلاث خصائص أساسية هي: القيام والقِوام والقَومة، فالقيام مشتق من القيام التي فيها النهوض والحركة والعمل، وهي ضد القعود وطبيعته السكون، وبذلك يكون القوم بناء على ما سبق، أنه اسم جمع يدل لا على مجرد الجماعة إنما الجماعة التي لا تفتأ أن تتحرك وتعمل، أما القوام فهو ما ينبغي أن يتقوم عليه الأمر وليس أن يكون كيف كان، وعلى ذلك فإن القومية الحية هي جملة من القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع، أما القومة فهي عمل الجهاد والاجتهاد الذي يقوم به القوم، وبذلك يتضح أن القومية الحية هي اجتماع القوم على دوام العمل وفق القيم العليا وأن القومة هي بلوغ العمل القيمي الغاية وشموله لجميع أفراد القوم، ومن خلال هذه الرؤية يحقق المؤلف مبتغاه بمكنة لغوية فكرية، بأن الفلسفة العالمية المفروضة لا تندفع إلا بمثل هذه القومية الحية.

وإذا كان هذا دأب المؤلف في عرضه للمصطلحات فإنه يشدد النظر على المفاهيم المنقولة وأنه يجب التفريق بين ما هو عبارة عقلية تعم الغربيين وما عداهم، فيفيدهم النظر والبناء عليها، وما هو إشارة خيالية تخص الغربيين من دون سواهم، فلا يفيد الاشتغال بها إلا على سبيل الاطلاع ما يختص به غيرهم، مما أدى ذلك إلى الوقوع في التجميد للطاقة الدلالية للمفاهيم.

ويقسم المؤلف المفاهيم الفلسفية إلى قسمين: مفاهيم مأصولة أو أصلية، ومفاهيم منقولة، والمنقولة هي التي تؤول إلى الجمود والتكلس، كونها لا تتأسس على معطيات موضوعية ولأنها حاملة لخصوصية المجال الأجنبي التي ولدت منه، مما يترتب عليه أنها تأتينا مسلوخة من القيم والمعايير، ولا أدل على ذلك من مصطلح الحداثة، فجموده يكمن أن من تسموا بالحداثيين من مثقفي العرب لا ينفكون يرددون بشأنه في سياقه العربي الجديد ما علموا من أوصافه وأطواره في مجاله الأصلي، حتى زعموا أنه ينبغي أن يتحقق في هذا السياق العربي بنفس الأسباب التاريخية التي تحقق بها في أصله الأوربي، لتسليمهم بمبدأ منقول هو الآخر، وهو مبدأ التاريخ الإنساني الكلي، وإدراج هذا المفهوم في فضائنا الفلسفي الخاص كان يستلزم إخضاعه للقيم العملية التي تميز المجال التداولي العربي.

والذي ينبغي الأخذ بالمدلول اللغوي للمفهوم الفلسفي العربي وبناء المدلول الاصطلاحي عليه، وضعاً وظيفياً، فالفيلسوف الحي لا يكتفي بأن يجد وجوها من المناسبة بين المدلولين، حتى يجلب المشروعية لاستعمال اللفظ الذي استعمله لهذا المفهوم، بل يدخل في إنشاء فلسفي حوله من خلال حقله الدلالي، مقارنا ومفرعا وموسعا، والخروج عن هذه الأعراف التداولية يوقع في عقم التعريفات للفلسفة من كون جانبها التقريري قد لا يستند إلى الجانب التمثيلي أو يستند إلى جانت تمثيلي غريب عن المجال التداولي للمتلقي؛ وفي المقابل يأتي إنتاج التعريفات في الفلسفية الحية من كون جانبها التقريري يستند بالضرورة إلى الجانب التمثيلي أو ينتقل عن جانبه التمثيلي الأصلي الذي لا يوافق المجال التداولي للمتلقي إلى تمثيل يوافق هذا المجال.

الإبداع الفلسفي:

على عادة المؤلف نراه يتناول المصطلح من عدة نواحي؛ وفي ذلك تثوير للفكرة وإغنائها وإذكاء معانيها وتزكية حدودها، فعند تناوله لتعريف الإبداع نجده يلامس مرادفاته وما يقابلها، فمرادف الإبداع الابتكار ومقابله الاحتذاء، والاختراع مقابله الاقتباس، والانشاء مقابله الانتحال، وبهذا يكون أدنى درجات الإبداع الابتكار ثم الاختراع ثم الإنشاء، وتعليل هذا الترتيب، أن الابتكار إبداع صورة، والاختراع إبداع مادة، والإنشاء إبداع للصورة أو للمادة مع صنعة، والإبداع بصنعة أقوى من إبداع بلا صنعة، والإبداع كما هو معلوم مرهون بانتفاء الموانع، وأشد تلك الموانع الأساطير ولكل من هذه العوامل مجموعة مخصوصة من الأساطير المتفرغة من الأسطورة الأصلية تكون مانعاً.

فالابتكار يحصل إضفاء شيء جديد على معلوم سابقاً، ومانع الابتكار هو التقديس المنقول من ترجمة القول الفلسفي الأجنبي على صورته الأصلية كما ينقل النص الديني على وجهه، والخروج من هذا التقديس هو التصرف في النص المنقول وفق المجال التداولي العربي، فمدار التفلسف ليس على الرواية إنما على الدراية.

أما الاختراع الذي يحصل من لا شيء أو من غير معطى سابق، وعلى هذا يترتب أن الاختراع هو بمنزلة دعوة إلى خرق حدود طاقة الإنسان وإلى خرق طبائع الأشياء، بالمختصر هو تحقيق ما يشبه المعجزة، وعلى ما تقدم فإن مانع الاختراع هو الإعجاز، ومدخل الإعجاز عند العربي الأول أتى من الافتنان بما نسج حول ظهور الفلسفة من أخبار وأساطير عجيبة منسوبة إلى فعل الآلهة بتوسط الكهنة والمتنبئين، وهذا الطريق في تلقي الفلسفة لم يكن بطريق العقل الخالص كما كان ينبغي، وإنما بطريق متغلغل في الأسطورة، إضافة إلى أنها جاءت في شكل نموذج فكري يختلف عما عهده العرب، إذ تنبني هذه الفلسفة من مقدمات ونتائج في تسلسل منطقي محكم، بينما كانت حكمة العرب عبارة عن أقوال متفرقة لا تقديم ظاهر فيها ولا استنتاج صارم، فهالهم الفرق بين هذين المسلكين، وطريق الخروج من التصور الإعجازي المنسوج حول الفلسفة هو أن ينطلق المتفلسف العربي من معطيات القول الطبيعي، أشكالاً ومضامين، ألفاظاً وتراكيب، ثم يشتغل عليها، استشكالًا واستدلالًا، للارتقاء بها من عالم التجربة المباشرة التي تدور فيه إلى عالم الفكرة غير المباشرة الذي تجد فيه دلالاتها العقلية، وإذا تمكن من ذلك فيكون لدى المتفلسف العربي قولان: عربي وأجنبي، وهو بهذا لا يشعر أن الغير يفضله في قدرته أو في قوله.

أما الإنشاء الذي هو إبداع فيه صنعة والصنعة هنا إخراج القول الفلسفي في أشكال بلاغية لا يستغنى عنها بغيرها، وعند استبدال هذا الشكل يخرج القول إلى غرض آخر، وبذلك يكون المانع الذي ينبغي رفعه لحصول الإنشاء هو بالذات هذا الاستقلال عن الشكل، ويكون ادعاء استقلال المعنى العقلي عن الشكل اللغوي مؤسساً على اعتقاد أسطوري ما انفك عنه عبر توالي طبقات الفلاسفة، وقد برزت هذه الأسطورة عند العرب في مظهرين: أسبقية المعنى على اللفظ، وأسبقية النطق على الرسم، ومقاومة عائق الاستقلال الذي تتولد منه أساطير أسبقية المعنى على اللفظ وأسبقية النطق على الرسم، ولا مقاومة لهذا العائق إلا عن طريق العمل بمبدأ كتابية القول الفلسفي الذي يجعل المتفلسف يحد اللفظ بالمعنى ويحد المعنى باللفظ كما يجعله يعامل الشكل البلاغي في المكتوب معاملته له في المنطوق.

شارك الصفحة
المزيد من المراجعات

من أجل فلسفة عربية: مراجعة لكتاب الحق العربي في الاختلاف الفلسفي قراءة المزيد »

قصة الورق: ماهو أهم من المطبعة والبارود والبوصلة

Picture of حسّان بن إبراهيم الغامدي
حسّان بن إبراهيم الغامدي

باحث في الثقافة الإسلامية

يرصد المؤرخون تحولات البشر من خلال أحداث كبرى، تصبح الحياة بعدها مختلفة عما قبلها، سواء كانت هذه الأحداث سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو غير ذلك. في القرن السابع عشر للميلاد، كان فرنسيس بيكون (ت: 1626م)، الفيلسوف الإنجليزي المعروف، قد حدد ثلاثة ابتكارات غيرت حياة البشرية، وهي الطباعة والبارود والبوصلة، إذ يقول بأنهاغيرت كل الأشياء في كل أنحاء العالم، ولعلك قد وقفت على مثل هذه الاقتباسات التي تعظّم من أثر المطبعة في حياة أوروبا تحديدًا، وأثر غيابها في تأخر العرب والمسلمين، لكن الباحث الأمريكي جوناثان بلوم، قد جادل في كتابهالورق قبل الطباعة: تاريخ الورق وتأثيره في العالم الإسلاميبأن الورق كان الاختراع الأكبر في تاريخ البشرية، موافقًا في ذلك المستشرق النمساوي ألفريد فون كريمر حين قال بأن ازدهار النشاط الفكري الذي أتاحه الورق قدافتتح عهدًا جديدًا للحضارة الإنسانية“.

صدر كتاب بلوم مترجمًا إلى العربية في هذا العام 2021م عن دار أدب للنشر والتوزيع بالشراكة مع مركز إثراء التابع لأرامكو، وقد ترجمه أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور أحمد العدوي، ونشر بعنوانقصة الورق: تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعةفي أكثر من 400 صفحة. يرصد الكتاب رحلة الورقة من لحظة اختراعها في الصين، حتى وصولها إلى أوروبا، بعد أن تقضي حقبًا طويلةً في العالم الإسلامي الذي عمل على تطوير تقنيات تصنيعها، وتعميم استخدامها، مؤثرةً في واقع المعرفة داخل الحضارة الإسلامية.

يتوزع محتوى الكتاب على سبعة فصول، وفصل أخير يعرض فيه المؤلف قائمة الكتب التي يُحيل إليها في متن الكتاب، إذ خلت هوامشه الإحالات والملاحظات، وهي تضحية مؤثرة وغريبة، لصالح تعليقات عرضية في جوانب الصفحات، تضمنت التوضيحات الفنية الإثرائية التي قد تعرقل استرسال القارئ، ومثّل هذا الأمر تحديًا لمترجم الكتاب، الذي واجه عشرات الاقتباسات والإحالات من غير هوامش تحدد الكتب والصفحات، باذلًا جهدًا كبيرًا لنقل الاقتباسات كما هي في أصلها العربي، فضلًا عن ترجمته الرائعة للكتاب.

رهبانٌ وبيروقراطيون

عرف البشر حوامل مختلفة للكتابة، مثل الرق، والبردي المصري، وأشرطة الخيزران، والأقمشة الحريرية، وغيرها، ولكن التحديات التي واجهت الكتابة عليها لم تسمح لها بالتطور، والتأثير في حياة البشر، فقد كان التزوير على بعض هذه الحوامل سهلًا للغاية، والبعض الآخر كان يتعرض للتلف سريعًا، غير الكلفة العالية التي كان يتطلبها تجهيز المادة الخام للكتابة، فعلى سبيل المثال، كانت النسخة الواحدة من الكتاب المقدس تتطلب ذبح بضع مئات من الماشية!

اُخترع الورق بالصين في القرن الثاني قبل الميلاد، وكان يستعمل في البداية للتغليف، إذ كان سطح الورق أول الأمر خشنًا للغاية ولا يسمح بالكتابة عليه، ثم تطورت صناعة الورق شيئًا فشيئًا حتى أمست الورقة الصينية ملائمة للكتابة عليها بعد قرن تقريبًا، ليتوسع استعمالها في الكتابة والرسم والطباعة بالقوالب الخشبية، بل واستعملت مناديل للمراحيض، فينقل المؤلف عن رحّالة عربي في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي قوله عن الصينين الذين زارهم في رحلته المسمّاةعجائب الدنيا وقياس البلدان:

وليس لهم [يعني أهل الصين] نظافةٌ، ولا يستنجون بالماء إذا أحدثوا، بل يمسحون ذلك بالقراطيس الصينية“.

لعبت الصين دورًا أساسيًا في نشر الديانة البوذية، وساهم المبشرون البوذيون بدورهم في نقل صناعة الورق إلى مختلف أرجاء آسيا، وقد تعرف المسلمون أول الأمر على الورق في أنحاء آسيا الوسطى، وهي المنقطة التي وصل إليها الورق بعد خمسة قرون من اكتشافه في الصين، بينما نقل المسلمون الورق إلى شواطئ الأندلس بعد نحو قرنين، وهو ما يلفت الانتباه إلى الاستجابة السريعة التي تعاملت بها الحضارة الإسلامية مع هذا الاكتشاف المهم، خاصةً إذا قارنّا ذلك بحال الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، وعدم معرفتهما بالورق قبل الإسلام، على الرغم من مجاورتهما لطريق الحرير الذي كان الرهبان البوذيون يرتحلون عبره، مبشرين بالبوذية والورق في آن معًا.

جوناثان بلوم

يفند بلوم الرواية التاريخية التي تقول بأن المسلمين تعرفوا على الورق من خلال مجموعة من الأسرى الصينيين في معركة طلاس، ويؤكد على النشأة البيروقراطية لاستعمال الورق في البلاط العباسي، حين أسس هارون الرشيد أول مصنع للورق في بغداد عام 178هـ/795م، لتوفير حاجة دواوين الدولة من الورق، الذي حلّ محلّ أوراق البردي والرقّ، أما عن لحظة الاستبدال هذه، فينقل جوناثان بلوم اقتباسًا مهمًا من مقدمة ابن خلدون حين يقول:

“[فأشار الفضل بن يحيى] بصناعة الكاغد وصُنعه، وكتبَ فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناسمن بعدهصُحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت“.

من هو الفضل بن يحيى؟ كان الفضل بن يحيى البرمكي وزيرًا لهارون الرشيد وأخًا له من الرضاعة، وهو ينحدر من سلالة عملت في البلاط العبّاسي، حين أسلم رئيسها خالد بن برمك، والتحق بالخليفة أبي العباس السفاح، متوليًا النظر في ديوان الجيش والخراج، ومؤسسًا لواحدةٍ من أهم الأسر التي ساندت العباسيين قبل نكبتهم الشهيرة. أما برمك، الذي تُنسب له العائلة، فكان كبير كهنة معبدٍ بوذيّ في مدينة بلخ، شمال أفغانستان اليوم، وهو ما يعني أن الفضل بن يحيى البرمكي قد عرف فضل الورق على سائر حوامل الكتابة من خلال خبرة أسلافه، وساهمت المسؤوليات الإدارية والسياسية التي أُنيطت بكاهل الأسرة في تقديرهم للورق، الذي كان أقل ثمنًا وأكثر مرونةً من ورق البردي والرق، فضلًا عن صعوبة محو ما يُكتب عليه دون ترك أثر يسهل اكتشافه، وهو ما قلل عمليات التزوير.

يرصد الكتاب الرحلة المثيرة التي انتقلت فيها صناعة الورق بين حواضر العالم الإسلامي، ابتداءً من فارس وآسيا الوسطى، وحتى المغرب والأندلس، مرورًا بالعراق والشام ومصر، وما أدخلته كل واحدة من هذه الحواضر من التقنيات والتطويرات على صناعة الورق، سواء في المواد الخام، أو حجم الورقة، أو شكل الأسطح وملمسها، واضعًا على جنبات الصفحات نماذج لمخطوطات مبكرة ومتأخرة لكل إقليم، في صور بالغة الجودة والجمال.

الورقة والخط والمداد

واصل صُنّاع الورق تطويراتهم على سطح الورق، حتى أنتجوا آخر الأمر الورقة البيضاء الأكثر نعومةً والأعلى جودةً على الإطلاق، وهي التي سمحت للخطّاطين إظهار قدراتهم الفنية بكتابة مصاحف في خطوط دقيقة ورقيقة، وكان ذلك بالتزامن مع تطوير الكتابة باللغة العربية، وابتكار أحبار تتناسب مع الورق الجديد.

يكشف بلوم عن الأزمة الأساسية التي كانت وراء تطوير الخط العربي، فالإملاء العربي سابقًا يعاني من مشكلات كثيرة، كانت الحروف غير منقطة، ولم يتفق الكتبة على طريقة محددة في رسم الحروف في أماكنها المختلفة بالكلمة، فضلًا عن علامات الترقيم التي لم تدخل إلى اللغة العربية إلا في العصر الحديث. ولذا كان الحفظ هو الأساس في قراءة الكتب، فعندما يقرأ شخص كتابًا في خط غير واضح المعالم، فهو يستند إلى حفظه الذي يساعده في قراءة الكلمات. فعلى سبيل المثال أعلنت جامعة برمنجهام عن شذرات من مصحف تزعم أنه كُتب في حياة النبي أو بعد وفاته تقريبًا، ولو حاولت قراءة المخطوط من غير استناد إلى حفظك ففي غالب الظن لن تقدر على ذلك.

الكتاب في نسخته الأصلية

يتتبع الكتاب حكاية الخط العربي، من كتّاب المصاحف في المدينة النبوية زمن الأمويين، إلى ياقوت المستعصمي وتلاميذه، مرورًا بخط الورّاقين، وأعمال ابن مقلة عليه، وتلميذ تلاميذه ابن البوّاب، ولعل أهم الخطوط التي يتتبعها هو خط الوراقين، الذي ساد زمنًا طويلًا في دكاكين الوراقة، ومثّل الذروة التي وصل إليها النسّاخون القلقون من معاناة قراء الكتب، فبخلاف المصحف، لا يستطيع القارئ أن يعتمد على حفظه لقراءة كتاب في الفقه على سبيل المثال. سيتطور هذا الخط لاحقًا ليصبح هو خط النسخ الذي نعتمد عليه اليوم، والذي تقرأ هذا المقال من خلاله، ولسهولة الكتابة والقراءة بهذا الخط، استخدمه النصارى في كتابة الأناجيل.

استخدم الكُتّاب أول الأمر مادةً للكتابة على ورق البردي عُرفت باسمالمداد، وكان المداد هذا غير مناسب للكتابة على الرق، فاستعملوا للكتابة عليه مادة أُخرى عُرفت باسمالحبر، لكن هذه المادة كانت غير مناسبة للكتابة على الورق، الذي كان يتآكل بسببها، ولذا أصبح المداد الكربوني هو المعتمد في النهاية للكتابة على الورق.

قاد هذا التطور الثلاثي في الورق والخطوط والأحبار ثورةً مخطوطيةً هائلةً في الحضارة الإسلامية، إذ أمدّها بإمكانيات فريدة استثمرتها في إنتاج معارف وفنون متوعة، وسيكشف الكتاب أن هذا التطور الثلاثي يُمثل البنية التحتية التي قام عليها التطور في الرياضيات وابتكار الأرقام، وكذلك في الجغرافيا ورسم الخرائط، وعلم الأنساب ومشجراته، بل وفي التخطيط العسكري والعمراني، وفي الأخير بالذات يحكي الكتاب قصة الانفصال بين المصمم والبنّاء، والذي حدث لأول مرة داخل الحضارة الإسلامية، تحت تأثير الاختراع العظيم: الورق.

ولأن جوناثان بلوم مؤرخ في الفن بالذات، فقد خصص فصلًا لأثر الورق في الفنون الإسلامية، يُبيّن فيه كيف أتاح الورق مساحة واسع للفنانين المسلمين، الذين وضعوا بصماتهم داخل الكتب الأدبية، واستغلوا إمكانات الورق لتزيين المساجد والقصور والأضرحة والعملات والمنسوجات والأواني الخزفية وغيرها بالرسومات والعبارات المكتوبة بخطوط بالغة الجمال. أتاحت الخلفية العلمية لبلوم رصد هذه التطورات التي وفّرها الورق، ولكنه تكلم بشكل طفيف عن أثر الورق في العلوم الشرعية وتطورها، ولم يتتبع مخطوطاتها والظواهر الفنية بها، وهي ثغرة كبيرة في الكتاب، حتى أنني قرأت مراجعةً للكتاب في النيويورك تايمز لكبير النقّاد الفنيين بها، يستنتج من الكتاب أن الدور الأبرز للورق كان علمانيًا! وهذا يخالف واقع المخطوطات التي كان غالبها يدور في فلك العلوم الشرعية، والعلوم التي تخدمها.

الورق في المطبعة

اضمحلت صناعة الورق في العالم الإسلامي تحت ضربات تيمورلنك، الذي قضى عليها تمامًا في العراق والشام، وأخذ معه نخب الحرفيين إلى عاصمته سمرقند. بينما عصفت الأزمات الاقتصادية في مصر تحت حكم المماليك بصناعة الورق، وجعلت العرب والمسلمين مجرد مستوردين ومستهلكين للورق الأوروبي، وواجهوا معه مشكلات شرعية، فقد كان التجار الأوروبيون يضعون علامة مائية على الورق تُمثّل علامة جودة، وكانت هذه العلامات في أكثر الأحيان على شكل صليب.

تعرف الأوروبيون على صناعة الورق من خلال المسلمين في الشام والأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة، الحادي عشر والثاني عشر للميلاد، وهو ما مهّد الطريق لاختراع المطبعة ذات الحروف المتحركة بعد خمسة قرون من استعمال الأوروبيين للورق، وما كان للمطبعة أهمية كبيرة من غيره، فقد كانت طباعة نسخة واحدة من كاتب على الرق، ستساوي قيمة نسخ كتاب واحد على الورق، فضلًا عن كُلفة إعداد الرق من جلود الماشية، ولذا يُصرّ بلوم أن المطبعة بوصفها واحدة من أهم محركات التغير الاجتماعي والسياسي بأوروبا، ما كانت لتكون لها أهمية تُذكر لولا الرحلة التي عبرتها الورقة من غرب الصين إلى الأندلس، والتي كان أبطالها المسلمون.

وتتكرر تفسيرات بعض الباحثين حول سبب رفض العالم الإسلامي للمطبعة، ويعيدونها في الأساس إلى فتوى شيخ الإسلام العثماني المحرّمة لها، ثم يبنون على ذلك نظريات حول موقف الإسلام من العلم والمعرفة والابتكارات. يُقلل جوناثان بلوم من أثر غياب المطبعة على انتشار المعرفة في العالم الإسلامي، الذي عوض غيابها من خلال آلية الإملاء والاستملاء، وكفلت هذه الطريقة بإصدار عشرات بل مئات النسخ للكتاب الواحد، ثم يحدد المؤلف السياق الاجتماعي الذي ظهرت فيه المطبعة بأوروبا التي كانت تعيش نزعةً تقنية، بينما لم تظهر في العالم الإسلامي مثل هذه النزعة، وكان يعيش في حواضره آلاف النسّاخ الذين اعتاشوا من نسخ الكتب والمصاحف، وكان اختراع المطبعة يهدد حياتهم بصورة كبيرة، فضلًا عن المخاوف العلمية من تحريف الكتب، وهي ذات أثر بالغ ومتفهم من رفض المطبعة.

سُرعان ما تلمس الأوروبيون المنفعة من طباعة الكتب العربية، وهنا يكشف لنا الكتاب عن قصة دخول الحروف العربية إلى المطبعة في أوروبا، وابتكار خطوط مناسبة لها، ثم طباعة الأناجيل والمصاحف والكتب، قبل أن يعود العالم الإسلامي لتصحيح موقفه من المطبعة، بعد أن خفّت الاعتراضات على طباعة الكتب باللغة العربية  إبّان ابتكار الطباعة الحجرية.

شارك الصفحة
المزيد من المراجعات

قصة الورق: ماهو أهم من المطبعة والبارود والبوصلة قراءة المزيد »

الطبري .. حياته وآثاره

Picture of عمرو شرقاوي
عمرو شرقاوي

باحث في التفسير

«الطبري .. حياته وآثاره»، من تأليف: فرانز روزنثال، نقله إلى العربية، د. أحمد العدوي.

نُشِرَ الكتاب عن مركز تراث للبحوث والدراسات بمصر، وصدرت طبعته الأولى في ذي القعدة 1442 هـ/يونيو/حزيران 2021م، ويقع في (287 صفحة).

والكتاب عبارة عن مقدِّمة للترجمة الإنجيليزية لـ«تاريخ الطبري»، كتبها (فرانز روزنثال)، وضمَّنها سيرة مفصَّلة لحياة أبي جعفر الطبري (ت: 310)، وتضمنت سردًا لمصنفاته، ما وصلنا منها، وما لم يصلنا.

و(فرانز رونثال) أحد روَّاد الاستشراق الأمريكي، وينتمي إلى عائلة يهودية الأصل في (برلين)، وتتلمذ على نفرٍ من كبار المستشرقين الألمان، وهو مستشرق غزير الإنتاج، ومن أهمِّ أعماله ترجمته لـ «مقدمة ابن خلدون»، وتحقيقه لكتاب السخاوي (ت: 902) «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ»، وكتابه: «علم التأريخ عند المسلمين»، وغيرها، وتوفي (روزنثال) عام (2003م).

فرانز رزنثال

قسَّم (رونثال) مقدِّمته أو كتابه الذي ترجمه د. أحمد العدوي إلى خمسة أقسام:

القسم الأول: ملاحظات عامة على المصادر.

وتعرض فيه للمصادر التي ترجمت للطبري (ت: 310)، وذكر فيه بعض الكتب المفقودة في الترجمة لأبي جعفر (ت: 310)، ونبَّه على بعض الملاحظات النقديَّة المتعلقة بالمصادر، وقد اعتمد في ترجمته على مصادر أصلية، وهي:

1- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (ت: 463).

2- تاريخ دمشق، لابن عساكر (ت: 571).

3- معجم الأدباء، لياقوت الحموي (ت: 626).

4- سير أعلام النبلاء، للذهبي (ت: 748).

واعتمد على كثير من المصادر الأخرى غير الرئيسة جمع منها عدة أخبار من أخبار أبي جعفر (ت: 310)، وألَّف بينها.

القسم الثاني: الطبري؛ صباه وشبابه.

استعرض فيه حياة الطبري (ت: 310)، المولود في (آمل) بإقليم (طبرستان)، والتي ظل الطبري على صلات حسنة بأهلها حتى بعد استقراره في بغداد، كما تعرض لنشأته، وحاول أن يستنبط شيئًا عن عائلة الطبري، وبخاصة والده، الذي كان ينفق على ولده محمد بن جرير طيلة حياته، وذكر البلاد التي رحل إليها طلبًا للعلم، وأبرز أصحابه في رحلته، وشيوخه، ومن لقيه من علماء الأمصار التي رحل إليها، وأشهر ما تعرض له من محن، كما عرض لقضية اتهامه بالتشيع.

ومن الملاحظات الجيدة التي قدَّمها (روزنثال) أهمية الانتباه إلى «الجوانب الشخصيَّة في حياة العلماء»، وأنَّ كثيرًا من المصادر تميلعادةإلى تجاهل ذلك.

القسم الثالث: نصف قرن من النشاط العلمي في بغداد.

وقسَّمه إلى قسمين:

الأول: الطبري الإنسان.

وتعرض فيه إلى جوانب من حياة أبي جعفر (ت: 310)، وطريقته في يومه، وملبسه، ومأكله، وتعامله مع أصحابه، والناس خاصَّة كانوا أو عامَّة، وذكر فيه أشياء طريفة أكثرها مأخوذ من أوسع ترجمة عربية للإمام الطبري (ت: 310)، وهي التي أودعها ياقوت الحموي (ت: 626) كتابه «معجم الأدباء».

وقد أظهر المؤلف في هذا القسم جانبًا مهمًّا من حياة أبي جعفر (ت: 310)، وبيان ما كان عليه من توازن، وحسن عشرة لأصحابه، وجلسائه، وتلامذته، والناس.

وقد أثار المؤلف قضية زواج الإمام الطبري (ت: 310)، وتكلم فيها بكلام طريف، يمكن للمتأمِّل أن يقف عنده، وتعرض لموقف الإمام من الوظائف الرسمية، والبعد عنها، مما يعرف القارئ ما كان يمتلكه الطبري من نفس شريفة.

ومن الأمور الطريفة التي أظهرها (روزنثال) ما كان عليه الطبري من مظهر حسن، واهتمام بصحته، وتجنبه لبعض المأكولات، وإقباله على البعض الآخر، وطرافة ذلك التي كانت تظهر منه رحمه الله.

الثاني: الطبري العالم.

كان الطبري (ت: 310) ذا همة عالية في سائر العلوم، وكان من أهل التبحر فيها، وقد ظهر ذلك في العلوم التي كتب فيها، ويكفي: تفسيره، وتاريخه، وما كتبه في الفقه والحديث.

وتعرض (روزنثال) لخصومته مع الظاهرية، ومحنته مع الحنابلة، وما كان عليه الطبري (ت: 310) من توسط واعتدال في هذه المواقف، وذكر شواهد ذلك من خلال مناظراته لبعض العلماء، وتحدث عن انتشار مذهبه (الجريري)، حتى انتهى إلى وفاته رحمه الله ورضي عنه.

وأظهر (روزنثال) جانبًا مهمًّا من الجوانب التي برع فيها الطبري (ت: 310)، وهو الجانب الطبي، وقد كان كتاب (فردوس الحكمة) لعلي بن ربن الطبري (ت: 236) من مصادر الطبري (ت: 310) الطبية، ولا يزال الكتاب من أهم المصادر الطبية القديمة!

القسم الرابع: مصنفات الطبري (ت: 310).

توسع (روزنتال) في هذا القسم فذكر المطبوع والمفقود من تراث أبي جعفر (ت: 310)، وحاول ترتيبها، وأجاد في هذا القسم بما يفتح مجالًا للبحث ممن جاء بعده.

وقد أشار في ثنايا ما ذكره عدة عبارات للإمام الطبري (ت: 310) من كتبه النفيسة التي لم يُعثَر عليها بعدُ، ومن ذلك قوله:

إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوُّه الموكل به عن دعائه إلى سبيله، والقعود له رصدًا بطرق ربِّه المستقيمة، صادًّا له عنها، كما قال لربه، عز ذكره، إذ جعله من المنظرين: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(١٧) [الأعراف: 16-17] طمعًا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال لربه: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) [الإسراء: 62]، فحقٌ على كل ذي حجى أن يُجهد نفسه في تكذيب ظنِّه، وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه، ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه، وعصيانه أمره، ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه، واتباعه أمره” [نقله الذهبي (ت: 748) في سير أعلام النبلاء: (14/ 278)].

القسم الخامس: تاريخ الطبري.

تكلم فيه عن نشأة مشروع ترجمة تاريخ الطبري، وما قابله من صعوبات إلى غير ذلك.

وذيل (رزنتال) مقدمته بملحقين:

الأول: جزء من تفسير الطبري (ت: 310) لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(٧٩) [الإسراء: 79]، وهي الآية التي تسببت بنشوب الخلاف بينه وبين الحنابلة، وجزء من تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، وكانت أحد أسباب اتهامه بالتشيع!

الثاني: تضمن تصنيف الإنتاج الأدبي للطبري، وترتيبه زمنيًّا.

وقد أدَّى مترجم الكتاب د. أحمد العدوي خدمة عظيمة للكتاب تمثلت في أمور:

الأول: ردُّ النصوص إلى أصولها العربية من نفس المصادر التي اعتمدها (روزنثال).

الثاني: التعليق على النص توضيحًا، واستدراكًا.

وبالجملة: فإن الكتاب قد جُمع فيه ما تفرق في غيره، ويمكن أن يكون قاعدة انطلاق لكثير من المناقشات حول حياة الإمام أبي جعفر الطبري (ت: 310)، وتراثه.

وفي الكتاب من التحليلات ما يمكن أن يناقش فيه المؤلف، وقد أحسن مترجم الكتاب في مواضع كثيرة من تعليقه على أوهام (روزنثال).

ويمكن أن نشير في خاتمة هذا العرض إلى بعض المصادر المهمة التي يمكن الرجوع إليها لمعرفة أبي جعفر وحياته، ومنها:

1- معجم الأدباء، لياقوت (ت: 626): (6/ 2441).

2- أصول الدين عند الإمام الطبري، د. طه محمد رمضان، ط. دار الكيان.

3- الاستدلال في التفسير، دراسة في منهج ابن جرير الطبري، د. نايف الزهراني، ط. مركز تفسير.

وأختم تعريف الكتاب بقول الإمام ابن العربي المالكي الأندلسي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(٥) [المزمل: 5]، ستة أقوال، والسادس منها قوله:

ثقله: أنَّه لا يبوء بعبئه إلا من أُيِّد بقوة سماوية، وكذلك هو، ما أعلم من حصَّله بعد الصحابة والتابعين إلَّا محمد بن جرير الطبري، [سراج المريدين: (2/ 431)].

شارك الصفحة
المزيد من المراجعات

الطبري .. حياته وآثاره قراءة المزيد »