مراجعات الكتب

فلسفة الجنون

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

من الكتب التي ترجمتُها مؤخراً، كتابٌ بعنوان “”فلسفة الجنون: تجربة التفكير الذهاني”. يقع في أكثر من ثمانمئة صفحة، وصدرت ترجمته عام 2022 عن دار ملهمون في الإمارات. مؤلِّفه هو ووتر كوستر، كاتب ومؤلف هولندي، خاض نوبات ذهانية عديدة كان أشدها عندما شُخص بالذهان عام 1987 وعام 2007، وهو في الأصل عالم لغويات وفيلسوف.

في كتابه فلسفة الجنون، يوضح الكاتب طبيعة التجربة الذهانية التي يخوضها المرء، ويقف على العناصر الكثيرة المشتركة بينها وبين التفلسف والتصوف، لذلك فإنه يقتبس من الذهانيين ومن المتصوفين والفلاسفة، ويتحدث عن تجاربهم المتشابهة والملامح التي يختبرونها فيها. غير أنه يريد الإثبات أن التجربة الذهانية تعني القدرة على الوصول إلى ما يسعى الفيلسوف والمتصوف للوصول إليه، أي سر الوجود، المبدأ الأصل، جوهر الحياة، أو أياً كانت تسميته، الفارق الوحيد هو أن الذهاني يعيش ما يسعى إليه المتصوف والفيلسوف، ويقصد بذلك التجربة الذهانية التي تُمكن المرء من إدراك ذلك المبدأ الأصل، وليست التي تهبط به في أمراض جنون العظمة، والهلوسات، والتيه الوجودي والارتياب. وبعبارة أخرى، فإن الكاتب يريد إرشاد هذه الفئات الثلاث في المسارات التي يتبعونها من أجل الوقوف على المبدأ الأول والأصل للوجود.

جديرٌ بالقول أن قراءتي للكتاب ومراجعتي له وحديثي عنه مرهون بنظرتي إليه، فكل قراءة للنص مختلفة من حيث الفقرات التي يتم التركيز عليها والطريقة التي يُفهم عبرها، لذلك أقدم هنا قراءتي حسب منظوري الخاص للكتاب، والذي جذبني في المقام الأول وأمتعني في ترجمته وقراءته.

يُقارب الكاتب بين الفلسفة والجنون بصورة تدمج بينهما وتبحث في العديد من أوجه التشابه، وذلك عبر أربعة أجزاء طويلة جعلها تُمثل العناصر الأربعة التي اعتُقد قديماً أن العالم مُتشكل بوساطتها (التراب والمياه والهواء والنيران). تتخلل هذه الفصول فقرات طويلة ومتوزعة على طول الكتاب، معنونة بالملاحق والفواصل، تحدث فيها الكاتب عن تجربته الذهانية، ما اختبر فيها وما شعره وأحسَّ به، وكيف تمَّ التعامل معه في المصحات، وعن رؤيته المختلفة ومنظوره لفهم العالم ضمن سيناريو مُحكم ودقيق، ويمكن للقارئ الذي يجد صعوبة في فهم موضوع الكتاب قراءة هذه الملاحق والفواصل، وقراءة العديد من تجارب الذهانيين والفلاسفة والمتصوفة والمتوزعة في صفحات الكتاب، لاستكناه الطبيعة اللافتة للتجارب التي حاول الكتاب الربط بينها والإشارة إلى مواضع التشابه العديدة.

في الجزء الأول، والمعنون “التمعن“، يتحدث الكاتب عن الكيفية التي يختبر بها البشر العالم من حولهم عبر حواسهم وإدراكهم الحسي، وعن ابتعادهم عنه عن الفلسفة أو العلم أو الفن أو الجنون، حيث تعني واقعية الشيء وجوده المُستقل عنا، وكلما انخفضت واقعية التجربة التي عشناها فإننا نختبر زيادة في تصوراتنا الذاتية، غير أن المجنون لا يرى العالم باعتبار واقعيته بشكل طبيعي، بل يراه تارة بواقعية مُفرطة وتارة أخرى بواقعية معدومة، وهو يتنقل بين هذين المنظورين بصورة مُستمرة، فالواقعية المُفرطة أن يرى الذهاني عالمه مجموعة من المسلمات والبديهيات والأحداث الحتمية التي ترتبط ببعضها البعض ضمن علاقة سببية تشير إلى وجود خطة عامة لهذا العالم، أو مؤامرة متقنة تجمع العناصر سوية، ويكون البشر عندئذٍ مؤدين لأدوارهم الحتمية وكأنهم دمى في عالم كُتب السيناريو له مسبقاً، بينما تكون الواقعية المعدومة منطوية على شكوكٍ عديدة متعلقة برؤية المجنون إلى محيطه وعالمه، حيث لا يكون على يقينٍ من أي شيء وتراوده الأسئلة حول حقيقة ما يعيشه وواقعية تجاربه والأحداث من حوله، ولا يكون أكيداً حول أية قوانين طبيعية أو حتمية تحكم عالمه، أما اللغة فلا تعني فيها الكلمات ما تعنيه إلا مصادفة، بل إن العالم واللغة يبحثان عن بعضهما البعض من دون أن يلتقيا.

كما تختلط رؤية الذهاني إلى عالمه فتارة يفيض خارجه على داخله وتارة يفيض داخله إلى خارجه، فنجده معتقداً بأن العالم نتاج تصوره عنه، وأن كل ما يحيط به نتاج فكره وتصوراته وأفكاره، أو نجد كل ما يحيطه يتمحور حوله بطريقة أو أخرى، حيث يكون العالم الخارجي متوجهاً إليه ومختلطاً بذهنه وتصوراته، كأن تكون ابتسامة المذيعة في إحدى نشرات الأخبار رسالة مشفرة تحاول فيها أن تنبِّهه إلى أمر ما، ويمكن أن يعيش في عالمٍ يعتقد فيه أن كل أفكاره ألهِمت إليه من مصدر خارجي ما ينتظر أن يكشف عنه.

ويضطرب مفهوم الذهاني للزمان من حوله، يبدأ الكاتب حديثه عن ذلك بمقولة لأوغسطين: “ما الزمان إذن؟ إنني أعرفه طالما أن أحداً لم يسألني، ولكن عندما أهمُّ بالشرح عنه لمن يسأل، أجد نفسي عاجزاً عن ذلك”. ورغم أن هذه مشكلة نظرية للفيلسوف، فإنها تُمثل مشكلة حقيقية في حياة المجنون، وتتسبب له بإرباك شديد. يملك البشر العاديون زماناً داخلياً أو إيقاعاً في أذهانهم لمضي الأيام والأشهر والسنوات، ويختبرون الزمان الخارجي عنهم على أنه مجموعة من الأرقام والفترات المختلفة، ويعيشون بتصورٍ زماني يجمع بين إيقاعهم الداخلي ونظيره الخارجي، غير أن الذهاني يفتقر إلى هذا التزامن أو التوافق بين الإيقاعين، فهو لا يرى الزمان خطياً مثلاً وبمفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل بل يختبره كحاضر أبدي لا ينتهي، يجمع عناصر الماضي وتصورات المستقبل والتجربة المعيشة سوية في إطار لا ينتهي ويظل مستمراً وأبدياً. لذلك تكون متعته بالوجود مكثفة للغاية، ولكن كذلك حزنه عندما يصيبه يكون مكثفاً وشديداً ويمكنه اختباره في أي وقت، ما يجعله في حالة مزاجية شديدة التقلب.

أما المكان فيختبره العاديون ضمن صورتين، الخلفية والمقدمة، فعندما ندخل مكاناً أو ننظر لما حولنا فإننا نكون منتبهين بالضرورة إلى شيء بعينه بينما تظل بقية عناصر المكان حاضرة أمامنا وضمن منظورنا، ولكننا لا ننظر إليها بصورة مباشرة إلا إن اختبرنا فيها تغيراً، فتظل في الخلفية، ولكن الذهاني لا خلفية لديه بل يتمثل المكان بعناصره جميعاً في نظره، فينشغل بكل عناصره وتفاصيله وكل ما يتبدى له، ولا يتمكن من إلقاء أي شيء إلى خلفية ما تفترض بديهية وجود هذا الشيء، كما أنه يرى العالم من حوله مجزأ بصورة كبيرة، حيث يملك كل عنصر وشيء تميزه في ذاته من دون الحاجة إلى سياقه، فلا ترتبط الموجودات في عينه، بل يمكن أن ينظر إلى العصفور وزقزقته وكأنهما شيئين منفصلين. وقد يختبر الصور التي تعد ثنائية الأبعاد على أنها ثلاثية الأبعاد، ويختبر عالمنا ثلاثي الأبعاد على أنه ثنائي الأبعاد، بما ينطوي عليه ذلك من تعميق أو تسطيح للرؤية. وعندما يشاهد التلفاز فإنه لا يضع اعتباراً للمسافات المكانية ويشعر بأن عالم التلفاز حاضر هنا والآن في مكانه، ولإدراكه الشديد بتميز المكان فإن تنقله بين مكانين مختلفين، كأن يخرج من منزله إلى المقهى، يعني انتقاله بين عالمين لكل منهما قوانينه وعناصره المميزة وإمكاناته المختلفة، وفيما نرى نحن العالم بالضوء الطبيعي أي الشمس، فإن المتصوف يراه بالضوء الأبيض الذي يُعلي الوحدة بين العناصر على مميزاتها، والذهاني يراه بالضوء الأسود الذي تتميز فيه العناصر كلُّ بما يفرقها عن غيرها.

وفي الجزء الثاني، المعنون: “التصوف الذهاني“، يبحث الكاتب في العديد من التجارب الصوفية التي يشترك بها المتصوف مع المجنون أو الذهاني في الاعتماد على المجاز للشرح والتفسير والتحدث، ويتحدث عن اختلاف التجربة الصوفية عن الذهانية للمنظور الذي يمكن للمرء النظر عبره إليهما، فإن كان المرء متديناً سيعدها تجربة صوفية للعناصر الدينية فيها، وإن لم يكن كذلك فسيعدها تجربة ذهانية تشير إليه بوجود مختلف عنه. ويتحدث الكاتب عن أربعة طرق يمكن للمرء عبرها فهم هذه التجربة المشتركة بينهما:

  1. الانفصال عن الواقع: أي أن يفصل المرء نفسه عن كل ما يتعلق بالواقع المحيط به من قوانين وقواعد وبديهيات ومسلمات، وتخلصه من المخاوف الدنيوية والتوقعات والعلاقات التي تربطه بعالمه، فاستقباله الحقيقة الخفية يحتاج روحاً خفيفة غير مثقلة بما يتعلق بالعالم الدنيوي، مثل تجارب النسبية الشديدة.
  2. التحرر الخيالي: أي أن يتحرر الذهاني أو المتصوف من الهلوسات والتصورات والرؤى المتعلقة بعالمه، وهو الشعور بالواحد والاقتراب منه بعيداً عن أية هلوسات تخص العالم المادي، فالواحد غير موصوف ولا يتجسد ولا يرى، وعلى الذهاني أن يقاوم هذه الهلوسات وأن يدعها تمر عبره ولا تؤثر عليه.
  3. التحرر اللغوي: أي انفصال الذهاني عن اللغة كذلك والقوانين التي تحكمها والسياقية التي تسمها، وأن يفصل بينها وبين دلالتها، ولأن اللغة وجدت للتعبير عن الواقع فإن الذهاني والمتصوف يعجزان عن التعبير عن تجاربهما عبرها إلا باعتبار المجاز الذي يقترب من وصف ما مرا به ولكنه لا يصفه بالتمام، فتكون لغتهما عفوية وتلقائية وتعكس اللحظة الحاضرة وخالية من المعاني المحتمة عليها، حيث يشعر السامع أنه وسط عاصفة لغوية وانفجار في الكلمات والمعاني، فتتوسع دلالات الكلمات وتعود اللغة إلى نقطة الصفر حيث لا تحتكم لأية قواعد زمانية ولا مكانية ولا سياقية، بل تحتكم إلى المصدر الخالي من الزمان والمشير أبداً إلى الأبدية.
  4. التحرر الفكري: أي التحرر من التفكير المفاهيمي أو الاستطرادي أو المنطقي، وأن يندمج المرء مع الفكرة التي يفكر بها ويصبحان جوهراً واحداً بدلاً من الفصل بينهما، وأن يحقق المرء وجوداً له خارج منظومة المعارف والمفاهيم المتعارف عليها، وأن يرتفع عن عالمه الفكري ليصل إلى وحدة وجودية مع المحيط يجعل العالم من حوله يبدو متجدداً في كل مرة.

وفي الجزء الثالث بعنوان “ضباب خفيف“، يتحدث الكاتب عن أربع حالات مشتركة بين التصوف والجنون:

  1. التوهم بالواحد: الذي تحدث فيه عن الجنون الصوفي في توهم أفلوطين حول الواحد، والذي عدَّه جوهر كل شيء والأصل الذي انبثق منه وجود الأشياء جميعاً، ويتحدث عن الواحد في انفصاله عن الزمان والمكان وعن وجوده الخالد والتجريدي الذي لا يمكن وصفه.
  2. التوهم بالكينونة: حيث يرى المتصوف والمجنون العالم بموجوداته التي تحتفظ بما يميزها، فيبدو العالم مجموعة من الأشياء التي يُشع وجودها من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى علاقات تربطها بغيرها، ويعيش الذهاني عندئذٍ كينونة مكثفة تظهر فيها تجاربه وخبراته متعاظمة الأهمية، وتكون لغته جامعة لتفاصيل عديدة دون التركيز على موضوع واحد، وقد نختبر ذلك نحن على أنه انعدام التركيز على موضوع بعينه في حين أنه تركيز مكثف على كل شيء.
  3. التوهم باللانهاية: حيث يختبر المتصوف والمجنون اللانهاية كتجربة معيشة في الزمان والمكان والوجود والفكر، فتمتد في نظرهما العناصر جميعاً ويصبح الحاضر زماناً غير منتهٍ، فتندمج الأضداد ويختبرون اللانهاية في أدق المشاعر كالخوف والمتعة والحب.
  4. التوهم باللاوجود: أي أن يختبر الذهاني اللاوجود أصلاً بدلاً من الوجود، فلا يعود أكيداً من حقيقة وجوده أو وجود العالم من حوله، بل يكتنف الغموض كل ما يحيط به، ويشير الكاتب إلى فلسفة هيدجر في ضرورة الالتفات إلى اللاوجود بين الحين والآخر لزعزعة مسلماتنا حول الوجود وحتميته المفترضة.

وفي الجزء الرابع “حمى بلورية“، يتحدث الكاتب عن التجربة الجنونية في التناقض والقداسة والخطة التي يتبعها العالم، ففي نقاط الالتقاء بين الفلسفة والجنون، تحدث عن المفارقات التي يراها شيلينج بين التفكير والوجود، وتجربة إلياد الصوفية واقترابه من الفلسفة الهندية في اليوغا، ومذكرات الفيلسوف دانيال شريبر في المصحة العقلية، والتي بينت امتزاج فلسفته بالجنون وتجاربه الذهانية، ومحاولته حل التناقض العالمي بين الأضداد المختلفة، كالوجود واللاوجود.

 تحدث الكاتب عن مفهوم المقدس لدى البشر، والذي يجعلهم يخلعون المعاني والقيم على الأشياء، ووافق تشارلز تايلور في أن الإنسان الحديث نزع هذه القداسة عن العالم وأضفاها على نفسه بحيث أصبح هو المعيار الأصل، واتسمت أفكاره بالأهمية ومكانته بالقدسية، غير أن الإنسان إذ نزع عن عالمه القداسة وأرساها على نفسه فقد ارتكب خطأ جعله يقع في حيرة تجاه هذا العالم، كيف يفهمه ويدركه ويتصوره ويقيِّمه،  لذلك نجد تايلور ينادي بإعادة دور المقدس في العلاج النفسي لتمكين المريض من فهم العالم بالصورة التي هو عليه، وينتقد الكاتب الصورة الحديثة للجنون في أنه مرض يتطلب علاجاً بدلاً من حالة وجودية فريدة تحتاج الإرشاد للوصول إلى المبدأ الأصل في الوجود.

ويتحدث الكاتب عن مفهوم الخطة الجنونية التي يملكها الذهاني في نفسه، فيرى العالم أشبه بالفيلم السينمائي أو المؤامرة، كل شيء فيه حتمي ومخطط له وظهر لسببٍ ما، وهناك سردية تحكم كل تفصيلة يعيشها، يكون الزمان أفقياً والمكان ذا عوالم متعددة لا تعني فيه المسافات شيئاً، ويبدو العالم في نظره خطة محكمة لخداعه وإخفاء حقيقة مُهمة ما، فالأحداث تلعب دوراً في الحبكة الرئيسية والشخصيات مجرد دمى ناطقة ذات وجود حتمي في القصة، كأفلام “Truman Show” و”Shutter Island” و”Inland Impire” و”The Matrix”. لهذا يشعر الذهاني أن أفعاله وكلماته تؤثر على محيطه بصورة مباشرة ومتعاظمة.

وفي النهاية، يستعين الكاتب بمجاز العناصر الأربعة التي تُشكل الكون، حيث يرتفع المرء عن الأرض ويخوض في دوامة هوائية تسمو به عالياً ودوامة مائية تجعله يغوص في أعماق البحار نحو وجود جديد، لينتهي إلى النيران التي تسوي كل شيء وتجعله متشابهاً ومكرراً، وتبقي على التكرار الوحيد المتمثل على شكل دورانٍ يخلق التناقض المفضي إلى الوحدة التي تستهلكه ثم ينفيه في آن ويخلقه من جديد. هو موقد الحياة المتجدد باستمرار.

يُعد الكتاب مرناً وسهلاً رغم مادته الطويلة والجادة، ويظل طرحه في الإطار الفينومينولوجي للوصف والتحقق، ورغم ذلك فإنَّ قراءة واحدة قد لا تكفيه، فهناك العديد من المفاهيم والتصورات التي حاول الكاتب تقديمها بصورة جيدة، غير أن على ذهن القارئ أن يكون مستعداً لاستقبالها، ولعلَّ ذلك يتحقق في قراءة بعض الكتب الخاصة بالذهان والتجارب الصوفية، والوقوف على حياة وفلسفة أهم الفلاسفة الذين شخصوا بالذهان فيما بعد.

شارك الصفحة

فلسفة الجنون قراءة المزيد »

العيش فلسفيًا: مراجعةٌ لكتاب الفلسفة طريقة حياة

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“نحن نولد مرة واحدة، ولن نولد بعد ذلك إلى الأبد، وبرغم ذلك فما تزال أنت، يا من لا حكم لك على الغد، تسوِّف بهجتك؟ غير أن الحياة تُهدر سدى في هذه التسويفات، ويموت الواحد منا ولم يعرف قط طعم السلام”

الفلسفة طريقة حياة – بيير هادو، ترجمة عادل مصطفى

كتابٌ بسيط ونافع للمُبتدئين في قراءة الفلسفة، يقف على بعض المواضيع والمُقدمات الفلسفية التي تناولت الجانب المعيشي من الفلسفة، ويقدِّم لبعض الشخصيات البارزة في هذا الجانب.

تحدث المؤلف عن الهمِّ الفلسفي الفردي، وضرورته في انتشال المرء من واقعه المرير إلى آفاق المعاني المتنوعة والنظريات البهيجة، لا سيَّما أن الظروف التي تصنع الفيلسوف عادة ما تكون بشعة وأليمة، ومن هنا، فإن الفلسفات الأولى كانت طرقاً للحياة اعتمدها البعض هرباً من تعقيد حياتهم وزيادة الجنون فيها، فظهر ما يسمى بالتدريبات الروحية التي ظهرت على شكل وصايا نفسية، يُلزم بها الإنسان نفسه لينأى بها عن الألم والخسارة، وعن التصور المَرَضي للموت الذي ينغص على الفرد حياته.

وتناول الكتاب امتزاج التدريبات الروحية بالتعاليم المسيحية، قبل أن يتناول، كمثالٍ على الحياة الفلسفية الجديرة، التهكم السقراطي الناجم عن توترٍ يُصيب العلاقة بين الجهل بالمفهوم اللغوي لدى الشخص، وبين الخبرة المباشرة التي تضعه في قلب هذا المفهوم فيعيشه واقعاً. وتحدث عن صورة سقراط في الفلسفة القديمة، فهو المتشكك المتسائل الذي لا يعرف شيئاً ولا يصبو إلى تثبيت رأي أو موقف، بل إلى طرح الأسئلة، متهكماً أثناء ذلك باللغة وحدودها المتواضعة أمام الفكر البشري، فكان موته بذلك انتصاراً للفلسفة ولتعاليمها. لذلك كانت غاية المحاورات السقراطية الوصول إلى نوعٍ من الوجود لا يمكن الوصول إليه من دون الآخر.

ثم تحدث بيير عن ضجر ماركوس أوريولوس من الحياة والملل الذي كان يعتريه للتكرار الذي بدت في نظره، فظل يؤكد مراراً على رتابة الوجود الإنساني ومسرحية الحياة التي ما تفتأ تُعيد نفسها، فيضع فلسفة جديرة للخروج من هذه الألاعيب عبر اليقظة والانتباه والتيقن من أن الموت لن يحرمنا شيئاً جوهرياً إذ يسلب منا الحياة الرتيبة، ويلفت نظر قارئه إلى التمسك باللحظة الحاضرة ونفي الحكم القيمي عن الأشياء، لرؤية العالم على ما هو عليه دون أحكام مسبقة.

كما تناول هادو في كتابه القيمة العلاجية للكتابة وكونها لا تكتفي بالتعبير عن الكاتب، بل إنها تُشكِّله من جديد في نظر غيره حتى أثناء عملية الكتابة، فهي تُلقي بصاحبها إلى الكُل المجتمعي ليُحقق من خلاله وجوداً خارجياً ضرورياً لأداء واجباته الإنسانية، ومن هنا فإنه يعدُّ الكتابة تدريباً روحياً، وفعل تطوري يحمل نفس الكاتب عبر المراحل ويسمو بها عالياً، فنفس الكاتب تتشكل بالكتابة وتتطور لتخدم الروح المجتمعية:

“فالكتابة، شأنها شأن غيرها من التدريبات الروحي، تغيِّر مستوى النفس، وتُضفي عليها الكلية. ومعجزة هذا التدريب، الذي يمارس في الوحدة، هي أنه يُتيح لممارسه أن ينفذ إلى كُلية العقل داخل حدود المكان والزمان”

ثم يركز المؤلف حديثه حول لذة الوجود لدى الرواقية وغيرها من الفلسفات، ورؤيتها للحظة الحاضرة على أنها منطوية على اللذة الوجودية العظمى التي لا يمكن للمرء أن يدركها في ماضيه أو حاضره، بل إنه يتمتع بها في اللحظة الآنية التي تُعبر عنه وتنطوي على أفعاله وأفكاره وأحاسيسه ومشاعره. لذلك فإن “فنَّ العيش” كامنٌ في قدرة المرء على التقاط اللحظة الحاضرة الحُبلى بالمعاني وتذوق لذتها في نفسه: “دَع الروح السعيدة بالحاضر تتعلم أن تبغض الانشغال بما يكمُن في البَعد”.

ثم ينتقل بيير إلى الحديث عن الاتجاه الذي نحته جميع الفلسفات في الارتفاع بالفرد عالياً عن محيطه وموقعه ومكانته، للتخلص من النظرة الجزئية له عن العالم واستبدال النظرة الكُلية بها، أي أن يملك الفرد ملاذاً لنفسه يلجأ إليه ليسمو ويعلو ويراقب من منظوره سير الحياة، وفي هذا الصدد فإنه يتناول آراء بعض الفلاسفة في أن الوجود ليس سوى فقاقيع مائية لا تلبث أن توجد حتى تنفجر فلا يعود لها أثر:

“ليس أبهج من أن يكون لديك ملاذات وطيدة آمنة، شيدتها تعاليم الحكماء، بوسعك أن تلقي منها نظرة من عِلٍ على الآخرين وتشهدهم جميعاً تائهين هائمين على وجوههم يلتمسون سبل الحياة”.

ويتناول كذلك “أنسنة” الأفراد للطبيعة من حولهم، ليرونها مُلبية لحاجاتهم ورغباتهم التي لا تنضب، الأمر الذي يحول بينهم وبين فهمهم لها ولقوانينها الذاتية وجودها المُستقل عنهم واللغة التي تُحدثهم بها، ويجعلهم أكثر اندفاعاً في حياتهم وتعاركاً وأكثر ميلاً إلى تقديس الطقوس الاجتماعية والنظم الموضوعية على الحقائق الواقعية التي تقدمها لهم الطبيعة. ومن هنا فإنه ينتقد الرؤى الفردية للعالم الخالية من “الدهشة الفلسفية” أو “اللمسة الفنية” التي ترى العالم كما هو مُستقل بجماله وكينونته.

وينتقد أخيراً الدراسات الفلسفية الحديثة التي حولت الفلسفة إلى دراسة تاريخية جامدة، أو مساقات أكاديمية جافة تخضع للقوانين والأنظمة واللوائح أكثر ما تخضع للإبداع الفردي والابتكار اللفظي، الأمر الذي كان نتيجة طبيعية لسيطرة رأس المال على مؤسسات علمية وأكاديمية، يُطلب منها في المقام الأول توفير البيئة الملائمة لبناء الإنسان الحديث، لقد كانت الفلسفة القديمة مُعبرة بالدرجة الأولى عن فنٍّ للعيش، بل كانت نتيجة هذا الفن، غير أن الفلسفة الحديثة تحولت إلى “رطانة تكتيكية مقصورة على المتخصصين”. أما الحكمة الفلسفية فيُثبت الكاتب وجودها في قدرة المرء على تحرير نفسه من رغباته وأهوائه وتحقيق وجودٍ جدير له في الحياة مع الآخرين، يحفظ له خصوصيته الفكرية ويجعله منخرطاً في الوقت نفسه في واجبات الحياة العامة.

وبهذا تكون الفلسفة تهذيب للنفس وتأديبها وعلوٌ بها إلى المراتب العليا من الوعي والفكر والعقلانية المجردة، وهي طريقة في العيش تنأى بالفرد عن سفاسف الأمور والأحكام العاطفية التي تعميه عن إدراك الجمال الكوني، بعيداً عن التلقين الجامعي لها الذي يهدف إلى حشو أدمغة الطلبة بمذاهبها وطرقها: “صعبة هي ممارسة الفلسفة ولكن الأشياء الممتازة هي دائماً صعبة بقدر ما هي نادرة”.

إنه كتاب جميلٌ ونافع بلا شك، ولعله يُقرأ مراراً.

شارك الصفحة

العيش فلسفيًا: مراجعةٌ لكتاب الفلسفة طريقة حياة قراءة المزيد »

سيولة الحب التي لا تُحتمل: مراجعة لكتاب الحب السائل

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“وربما يتطلب حب الجار قفزة إيمانية، لكن النتيجة هي ميلاد البشرية، وهو أيضاً الانتقال المقدر من غريزة البقاء إلى الأخلاق، إنه انتقال يجعل الأخلاق جزءاً من البقاء، وربما شرطاً لا غنى عنه من أجل البقاء، فيصبح بقاء إنسان ما بهذا المكون (الفطرة) بقاء الإنسانية الكامنة في الإنسان”.

زيجمونت باومان

يشرح عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في كتابه “الحب السائل” حال الهشاشة النفسية الحديثة وضعف العلاقات البشرية وسيولتها، بفعل الأثر الإمبريالي الحديث والفلسفة السائلة التي تقتلع الإنسان من جذوره وانتماءاته ومعتقداته الراسخة وتجعله ريشه في مهب الريح، تتقاذفه الأفكار السطحية باستمرار دون أن يقر له قرار.

تحدث باومان عن سهولة الوقوع في الحب اليوم وسهولة الخروج منه لانتفاء معناه الحقيقي، ولتوهم أصحابه أنهم بالفعل يعيشون قصة حب بعد جعلها مؤقتة ولحظية، وسلب الجوهر الحقيقي منه، وتمطيطه ليشمل علاقات قد لا تستمر أكثر من بضعة أشهر أو حتى بضعة أسابيع، لاختلاطه بمفهوم الرغبة السريعة التي تتجه بالنفس إلى داخلها فتهدمها وتلصق بها الندم السريع واللايقين وانعدام الاستقرار وانعدام الأمان، والمختلفة تماماً عن الحب الذي يتجه بالنفس إلى خارجها فيبني العلاقات ويعتمد على طول الزمان والاستقرار وتوفر الأمان عوامل مهمة لبقائه واستمراريته وتطوره، فكان من نتائج هذه النظرة المشوهة للحب انتشار ثقافة العناية بالجسد والعمد إلى ديمومة الشباب واستهلاك أكبر قدر من المنتجات التي تعد بطول فترة الشباب ودوام مظاهره.

وتناول الكاتب الفصل الحديث بين ممارسة العلاقات وبين التكاثر والإنجاب والارتباط والاستقرار، حيث أصبح مفهوم العلاقة العابرة، أو العلاقات الصافية، منتشر للغاية عند من يظنون أنه يشبع لديهم الرغبات السريعة في استبدال الشريك دائماً بالأكثر وسامة أو ذكاء أو جمالاً، إلا أن كوارث هذا الفصل خلقت القلق وانعدام الأمان في نفس الإنسان لعدم اتضاح حدود العلاقات واقتلاع الرغبة في الاستقرار من نفس الإنسان، فأصبح إنسان اليوم الجنسي قلقاً خائفاً غير واثق بمن حوله، يعمد إلى تلبية حاجاته الحقيقية برغبات سريعة هدامة تزيد من وضعه سوءاً.

وتحدث عن سيولة الهوية الجنسية للمرء والجدل الكبير الذي يثار حولها، فقد تملكت السيولة حياة المرء لدرجة أنه لم يعد يعرف من هو/هي، ولا يعرف ميوله ولا موقعه من الإعراب وسط مجتمع متغير باستمرار، ودون مبادئ ثابتة يعمد إليها إلا مبادئ السوق وقوانينه. وتناول أثر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي خلقت مفهوم “علاقات الجيب”، التي يمكن أن تبدأ بضغطة زر وتنتهي بالطريقة ذاتها، مخلفة الأثر العميق في نفوس أصحابها الذين يوهمون أنفسهم بأن هذا الشكل من العلاقات أفضل لتحقيق “خيارات” مستمرة أفضل وأكثر جدة، فكان أثر وسائل التواصل قاطعاً لأصل التواصل البشري ومانعاً له، بدلاً من تعميق مفهومه وترسيخه، فانتهى بأن يخلق نماذج بشرية تعيش الوحدة على الشاشات وتوهم نفسها بالخيارات العديدة المتاحة لها، دون أن ترسو على خيار واحد منها، خاصة أن مفاهيم القرب أو البعد الافتراضي حلت محل القرب الواقعي، فأصبحت العلاقات معلبة في علب التعامل السوقي النقدي، حيث يمكن استبدالها بسهولة دون تحمل أي مسؤولية.

وتناول المؤلف مفهوم الاقتصاد الأخلاقي القائم على الجماعات التراحمية، التي تتخذ من حفظ الكرامة الإنسانية شعاراً لها، على عكس اقتصاد السوق الذي سلَّع كل قيمة ونفى عنها أهميتها وجعل من كل مبدأ ومعتقد بضاعة يمكن شراؤها بثمن “يناسبها”، حتى أصبحت الحروب تقاس بثمن الحياة البشرية المهدرة دون أن يتحمل الإنسان الحديث أي مسؤولية عن الكوارث التي يتسبب بها.

ومن هنا، عاد باومان إلى مفاهيم حب الجار المرسخة في الديانات والثقافات التراحمية، والتي تحملنا على تجاوز رغباتنا في مجرد البقاء والتخلق بأخلاق التراحم والتعاطف الضرورية لحفظ كرامتنا الإنسانية وجعلها شعار المرحلة في كل مرة، ومن هنا كان التأكيد على ضرورة العودة إلى العلاقات البشرية الحقيقية التي ترفع من الإنسان وتساويه بأخيه وتمنحه القدرة على التسامي بنفسه في كل علاقة وكل حوار إنساني مثمر.

كما أثرت الثقافة السائلة على قدرة المرء على التعبير عن حياته، فشابتها بشوائب القلق من الآخرين والخوف منهم وعدم الثقة فيهم، فخلقت مدناً من التناقضات تعج بالمخلفات البشرية لهذه السيولة، تعمد إلى معالجة مشاكل العولمة بموارد ووسائل جعلتها العولمة نفسها سطحية وغير ملائمة، ومن هنا كانت نماذج المدن الحديثة مثالاً بارزاً على نتاج الثقافة السائلة، في تجميعها قدر كبير من الأغراب القلقين والملقين اللوم على الأعراق المختلفة أو الأجناس المختلفة أو المهاجرين أو اللاجئين، رغبة منهم في إقصاء الآخر والتقوقع على أنفسهم، رغم أن كل ما يقلقهم كان نتاج هذه الثقافة بالذات.

وقد انتبه الفيلسوف الأخلاقي كانط منذ زمن لخطر وجود مثل هذه المجتمعات ودعا إلى الوحدة الإنسانية التي يجمعها الواجب الأخلاقي، وضرورة عدم تسليع القضايا الأخلاقية والقيم والمبادئ والمعتقدات، لأنها تمثل الحبال القوية التي تربطنا بإنسانيتنا وتجعلنا على قدر سامٍ من الوجود الإنساني الجدير، إلا أن حالة التفكك التي أصابت الثقافة اليوم منحت السلطة السائدة الحق في تقويض إنسانية بعض المجتمعات ومنع الحقوق عن بعض الفئات وامتهان كرامة بعض الشعوب، فكان مثال اللاجئين بارزاً لكيفية تعاملها مع نتاج ما اقترفته، فحصرتهم في غيتوهات تسلبهم استقرارهم وهويتهم ومكانهم وزمانهم ووجودهم الإنساني وتجعلهم أشباحاً وظلالاً تعيش على هامش المجتمعات “الأقوى” ومجرد عوامل مزعجة لا ترغب في حل مسألتها.

وفي النهاية أكد الكاتب على أن الحلول لمثل هذه الملامح البشعة للوجود الإنساني الحديث لا يمكن أن تكون حلولاً محلية، بل تصيب الفلسفة الإنسانية الجديدة في جذورها وتعيد للكرامة الإنسانية قيمتها الحقيقية وتجعلها الغاية الأسمى لكل عامل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، ولا يتأتى ذلك إلا بانفتاح الحوار الإنساني العالمي على كل هذه المشاكل وتناول المسببات في عملية حوارية متواصلة ومتجددة تخلق في كل مرة حالة بشرية معيشية على قدر أرقى وأفضل وأكثر احتراماً للوجود الإنساني دون أي عوامل تفرقة.

إنه كتاب جديرٌ ومُهم، يُقرأ مراراً.

شارك الصفحة

سيولة الحب التي لا تُحتمل: مراجعة لكتاب الحب السائل قراءة المزيد »

أنماط التعلق: مراجعة لكتاب التعلق بالآخر

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

من أفضل الكتب التي يمكن أن يقرأها المرء ليفهم نفسه والآخر، كتاب “التعلق بالآخر” للطبيب أمير ليفين والكاتبة راشيل هيلر، وقد تُرجم الكتاب للعربية بعنوان “متعلق: العلم الجديد لتعلق البالغين وكيف يستطيع مساعدتك في العثور على الحب والحفاظ عليه”.

يندرج ضمن كتب علم النفس وعلم الاجتماع، والتي ينهيها المرء فيجد تغيراً يصيبه واتساعاً في الأفق وحلولاً للكثير من المعضلات التي اعتادت أن تؤرقه.

قرأته بالإنجليزية، لذلك سأتحدث عن محتواه بترجمتي الخاصة للمصطلحات.

بُني الكتاب على مفهوم نظرية التعلق في علم النفس، والتي لحظت أن هناك ثلاثة أنماط شهيرة من التعلق لدى البشر، وهي التعلق القلق، والتعلق التجنبي، والتعلق الآمن.

فالتعلق القلق anxious هو الذي ينتج عن شخصية ينخفض لديها تقدير الذات، وترتفع عندها الانفعالات والتصرفات السريعة دون تمهل في التفكير، تتميز بالقفز إلى الاستنتاجات السريعة حتى دون وجود مبرر منطقي يدعم ذلك، وعادة ما يظل فيها المرء منشغلاً بالعلاقة، يفكر فيها مطولاً ويحلل أبسط التصرفات والأقوال والأفعال بطرق واسعة وتأويلات عديدة قد لا تحتملها بالضرورة، ما يعني أن صاحب التعلق القلق يظل منشغل الذهن بشريكه، سريعاً في التقاط مشاعره واختلاف نبرة صوته وطبيعة ما يصيبه، لذلك يعدون الأفضل في فهم الآخر وضيقه، إلا أنهم سرعان ما يعكسون ذلك على العلاقة ويستنتجون أن ضيق الآخر مرتبط بتقصيرهم بالضرورة، فعادة ما يعودون إلى أنفسهم باللوم والانتقاد والتساؤل، أو نجدهم يتخذون موقفاً دفاعياً سريعاً أمام شركائهم، لردِّ أي اتهام محتمل يوجه إليهم، دون فهم طبيعة المشاعر في المقام الأول وطبيعة الموقف وتأويله الأقرب إليه، فنسمعهم يرددون عبارات شبيهة بـ:

“فهمتُ الآن، إنه ينوي هجري بهذه التصرفات، لن أجد شريكاً جديراً آخر في حياتي، علمتُ أن هذه العلاقة أفضل من أن تدوم بيننا، لقد أفسدتُ كل شيء ولا سبيل للإصلاح، علمتُ أن الأمور ستسوء في النهاية، أعرف حظي جيداً، شريكي إنسان رائع فلماذا يود أن يكون بصحبة شريك مثلي؟ عليه أن يترجاني لأرضى عنه وإلا فلينسَ أمري، لا يمكن له أن يعاملني بهذه الطريقة، سأريه ما أنا فاعلٌ!”

لذلك فإن من عادة ذوي التعلق القلق أن يخلقوا المشاكل والجدال وأن يهددوا بانتهاء العلاقة وأن يمارسوا الحيل والألاعيب التي تستفز الطرف الآخر لجذب اهتمامه أو إثارة غضبه، لتلبية حاجة نفسية خفية في القرب والحميمية، كما نجدهم يتطرفون في تصرفاتهم وعادة يغادرون المكان أو يقطعون النقاش فوراً مع شركائهم إن لم يعجبهم ما يدور حوله.

 

أما التعلق التجنبي avoidant فيضم الأشخاص الذين يقدسون مساحاتهم الخاصة وتصورهم عن الاستقلالية والاعتماد على النفس، ورغم أن هذه المفاهيم لا تعني إهمال الشريك أو إهمال الحاجات العاطفية للمرء، إلا أننا نجد تصورهم عن العواطف مستخف بها، يعدونها نقاط ضعف لدى المرء ويجب عدم إظهارها أو الحديث عنها، لذلك فإن واجههم الشريك بحاجته في القرب أو الحديث عن مشاعره وأفكاره نجدهم يستخفون بذلك ويصفونه بالمتطلب، ويقنعون أنفسهم أنهم بعيدون كل البعد عن هذه الحاجات الإنسانية، وأنهم يترفعون عن هذا الضعف البشري، يتصورون قوتهم في البعد والمساحة الخاصة زماناً ومكاناً، فعادة ما يقضون أياماً من غير شركائهم أو يفضلون غرفاً مستقلة بهم، لعدم راحتهم في التعامل مع الجانب الإنساني العاطفي، كما أن نظرتهم إلى الآخرين مثالية للغاية، فإما المرء فاضلاً في نظرهم أو مذنباً بالكامل ولا يطاق، لذلك نجدهم يرددون عبارات شبيهة بـ:

“أشعر بالاختناق في هذه العلاقة، إنه يسعى إلى التحكم بي، إن شريكي متطلب للغاية وأنا بحاجة إلى الابتعاد لفترة من الزمن، أعلم أنني بعيد كل البعد عن الانخراط في أية علاقة حميمية، تصرفاتها تثبت تماماً أنها غير مناسبة لي! إن كانت تلك الشريكة المناسبة لي فهذا التصرف يثبت عكس ذلك تماماً! إنها تفعل ذلك لإغاظتي، هذا واضح جداً، سأكون أفضل بكثير لو بقيتُ وحدي، لو كنتُ مع شريكي السابق (أو فلاناً آخر) لكنتُ في حال أفضل”

ومن المتوقع دائماً أنهم يقللون من شأن شركائهم ويقارنونهم بالآخرين، ولديهم تصور مثالي عن “الشريك المناسب” والذي دائماً ما يكون مختلفاً عن شريكهم الحالي، فلديهم تصور مثالي عن الحياة غير موجود في الحقيقة، ولا يجدون أنفسهم مخطئين يوماً في ذلك، أو في سخرتيهم من عواطف الآخرين، إلا أن الكتاب يوضح أن هؤلاء إن تعرضوا لأزمات نفسية عميقة أو حوادث مؤسفة، كوفاة عزيزٍ أو أزمة نفسية شديدة أو حادثٍ صادم، فإن ما كبتوه طويلاً من الحاجات الإنسانية يظهر فوراً على السطح، فنجدهم يعترفون بحاجاتهم العاطفية ويقدرون حاجات شركائهم، فيلين جانبهم أكثر.

لذلك فإن من عادتهم أن يتصرفوا بتجنبٍ كبير، كأن يهربوا من النقاش إن تطلب ذلك انخراطهم في حوار صادق، وألا يشعروا بمسؤوليتهم عن مشاعر الآخر أو حاجاته أو أفكاره، فيعمدون إلى تجاهله والاستخفاف به، والتقليل من أوقات القرب منه أو الدعم العاطفي الضروري، وألا يشاركونه أفكارهم أو مخططاتهم القادمة أو ما يخصهم من أمور.

 

أما النوع الثالث فهو التعلق الآمن secure، وهو الذي يكون فيه المرء متزناً نفسياً، مدركاً لحاجاته العاطفية والنفسية، موضحاً للآخر ما يريده من العلاقة في كل مرة، ما يُحبه وما يرفضه وما يحتاج وقتاً لأن يفهمه، وعادة فإن ذوي التعلق الآمن يحتوون الآخرين، سواء كانوا من ذوي التعلق القلق أو التجنبي، فحتى عند بدء أي جدال يملكون المهارة في إعادة الأمور إلى نصابها عبر السؤال عن نية الآخر في هذا الجدال، أو طبيعة ما يضايقه لبدء الشجار، أو مقصده من الشكوى أو التذمر أو التعليقات المستمرة، وبمعنى آخر، فإنهم يفضلون إدراك مقصد الشريك بدلاً من أخذ كلماته الظاهرة فقط على محمل الجد، لذلك فإن من الصعب أن يخوض المرء معهم جدالاً حاداً لأنهم ماهرون في فهم الآخر واحتياجاته، فيعمدون إلى توضيح مواقفهم وإدراك موقف الآخر ضمن ما يسمى “بالتواصل الفعال”، وقد تحدث الكتاب عن هذا التواصل مسهباً، ليوضح أنه الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الناجحة، حتى بين مختلف أنواع التعلق.

لا ينشغل ذوو التعلق الآمن بشركائهم طوال الوقت، ولا يتجاهلون حاجاتهم العاطفية والنفسية، بل يعاملونهم كجزء هام من حياتهم، ويحترمون أفكارهم ويشاركونهم مخططاتهم القادمة، ولا يمارسون الألاعيب والحيل النفسية لاستفزاز الآخر، بل يعودون دائماً إلى المقاصد الأولى والحاجات النفسية التي تدفع المرء أحياناً إلى سوء التواصل، وعندما يضطرون إلى خوض جدال معين نجدهم يركزون فقط على المشكلة دون إصدار أي تعميمات أو استنتاجات سريعة أو اتهام للآخر، ذاك أنهم يشعرون بالمسؤولية عن راحة شركائهم ومسرتهم، ولأهمية هذا النوع من التعلق فإن الكاتب يوجه الكثير من الإرشادات العملية والنصائح للقارئ ليحقق هذا النمط من التعلق ويتمرن عليه.

وبعد مناقشة الكتاب للأنواع الثلاثة، يعمد إلى الحديث عن طبيعة العلاقات التي تربط بين أنواع التعلق، كالعلاقة بين ذوي التعلق التجنبي والقلق، وبين التعلق التجنبي والآمن، والتعلق القلق والآمن، مشيراً إلى أن أفضل خيار لدى المرء أن يكون مع ذوي التعلق الآمن، وليس ذلك فقط لأنهم سيحترمونه ويحتوونه، ولكن لأنهم سيغيرون فيه مع الوقت ويعلمونه الكثير عن أساليب الحياة الأكثر صحية، ويساعدونه على الخروج من قلقه أو سوء فهمه لحاجاته.

ويقدم الكتاب نصائح كثيرة لمختلف أنواع التعلق، سواء منهم من كان في علاقة أم لا، ويضع اختبارات للقارئ ليتعرف فيها إلى نمط تعلقه، ونمط تعلق شريكه، وليقيم أنماط التعلق لدى مختلف من اختاروا مشاركة قصصهم ومواقفهم، لذلك فإن الكتاب عمليٌّ للغاية وذكي ومرن، ومن لا يحب الجانب النظري الطويل فيه فهناك جانب عملي طويل كذلك وماتع.

يُقرأ الكتاب مراراً لتحقيق الاستفادة الكبرى منه، وذلك على فترات متباعدة، أحببته كثيراً وأنصح به.

شارك الصفحة

أنماط التعلق: مراجعة لكتاب التعلق بالآخر قراءة المزيد »

أن تكون انطوائيًا في هذا العصر: مراجعة لكتاب الهدوء

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعد كتاب “الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام”، للكاتبة الأمريكية سوزان كين من أفضل ما قرأت من الكتب التي تخاطب النفس البشرية وتصل إلى تحليل مكنونها، بطريقة غاية في السلاسة والسهولة، وفي الوقت نفسه غاية في الحميمية والصدق.

يشعر الكثير منا بالغرابة weirdness في الأجواء الاجتماعية أو برفقة الشخصيات الأكثر انفتاحاً منهم على التجارب المختلفة والتعارف المستمر، ورغم نجاح جهودهم الحثيثة في تزييف سعادتهم وسرورهم بوجودهم برفقة الآخرين، إلا أن ذلك يتطلب منهم وقتاً طويلاً “لإعادة شحن” بطاريتهم الاجتماعية، ما يستلزم منهم أياماً طويلة يقضونها بعيدين عن الضجيج وأحاديث الآخرين، ليتمكنوا من خلق التوازن في حياتهم.

ولكن ليست هذه بالمهمة السهلة، على عكس ما تبدو، وبخاصة وإن عاش المرء منا مقتنعاً بأن ثمة خطب ما فيه، وبأنه أقرب للكآبة والرفض المجتمعي بسبب شخصيته التي ترفض الاجتماع مع الآخرين لأكثر من يوم واحد في الأسبوع مثلاً، وإن نشأ المرء في بيئة تعزز النموذج الانبساطي وتراه المثال الأكثر قرباً للنجاح وتحقيق الذات، فستضاف إلى معاناة المرء مشاعر الذنب والقلق الكبير في أنه لن يحقق ما يصبو إليه إلا إن تمكن من قهر طبيعته وكسرها، ما يزيد من رهابه الاجتماعي وشعوره بالفشل والوقوع في العديد من الفخاخ النفسية التي ستستنزف قواه تماماً ليتمكن من فهمها، قبل الخروج منها.

هذا الكتاب مُطمئن بدرجة كبيرة للانطوائيين، فهو يبين العديد من جوانب هذه الشخصية الطبيعية للغاية، ويناقش تجاربها الثمينة، ويستنطق العلوم المتعلقة بها، ويتضمن جانباً حميمياً للغاية فيه، ذاك أن الكاتبة شخصية انطوائية كتبت هذا الكتاب هدية لنا، الأمر الذي سيجده العديد من القراء عظيماً للغاية.

ورغم أنني وجدتُّه من الكتب التي يمكن أن أحط من شأنها إن كتبت مراجعة عنها، وأخشى أن تفسد لغتي الجامدة حميميته وصدقه، فإنني سأختصر القول في بعض مواضيعه، خدمة لمن يريدون الإطار العام للكتاب قبل تقرير اقتناءه.

تتحدث الكاتبة عن النموذج الانطوائي “المظلوم” مجتمعياً وأكاديمياً بصورته السلبية الأقرب للكآبة والتقوقع بعيداً عن الآخرين والمجتمع، مصححة الصورة في أذهان العديدين في أن الشخصية الانطوائية تقدر التفاعل الاجتماعي، ولكن البنّاء والعميق والذي يحمل القيمة الجدية لها، ولا تثمن الأحاديث السريعة الأفقية التي يمكن أن يجريها الغرباء مع بعضهم.

وتتناول الكاتبة ربط النجاح العملي بالشخصية الانبساطية في بلادها، أمريكا الشمالية، واختراع سوق العمل “للمثل الأعلى الانبساطي” الذي بوسعه تحقيق النجاحات المتتالية تبعاً للشبكة الاجتماعية التي ينسجها، الأمر الذي تخلل الاتجاه الكنسي حتى، وذلك بربط الإيمان بالتفاعل الاجتماعي الانبساطي، حتى بات الانطوائيون يشعرون بأنهم بمجرد وجودهم لا يخدمون الرب بصدق وأمانة.

وفي بيئة العمل، تحدثت الكاتبة عن الفرق التي تحد من النشاط الإبداعي للأعضاء، والتي عادة ما تشوش فكر الانطوائيين وتقيد قدراتهم وتضاعف جهودهم ضمن المجموعة، مقارنة بما يمكن أن ينجزوه بأنفسهم، مقدمة العديد من الأمثلة على الشخصيات الناجحة في مجال الأعمال، والتي تفضل العمل وحدها معظم الوقت، تبعاً لميولها الانطوائية في ذلك، ذاك أن الانخراط في العمل الجماعي يشتت الأفكار ويضيع الغاية والهدف، بينما تساعد العزلة المرء على التركيز على أهدافه وقضاء وقت أطول في التفكير في مختلف الحلول والجوانب الممكنة، ومن هنا، فإن التعاون الجماعي قد يقتل روح الإبداع لدى الشخصيات الانطوائية.

ثم تحدثت الكاتبة عما يُنشئ الشخصية الانطوائية، كالعوامل الوراثية والبيئة التي ينشأ فيها المرء، وعن الميول المختلفة لكلا الشخصيتين التي تجعل الانطوائي يميل إلى الحذر والهدوء والاستمتاع بالتدفق الذي يدفعه إلى العمل لمجرد العمل والاستمتاع به، على خلاف الانبساطي الذي يستمتع بالجلبة والعلاقات والتفكير العالي، وعادة ما يدفع إلى العمل لتوقعه الحصول على مكافأة جديرة.

وكان من الماتع للغاية حديثها عن المجتمعات الآسيوية والمجتمع الأمريكي، والفروقات الكبيرة بينها، والظاهرة خاصة عند تفاعلهما سوية، فالمجتمعات الشرقية تقدر الجماعة والهدوء والإنصات ومراعاة الآخرين، بينما يثمن المجتمع الأمريكي الفردية والتعبير والإفصاح، مشيرة إلى الفروق الكبيرة بين الثقافات التي تشابه الفروق بين الشخصيات.

ثم تتبعت طرق الانطوائيين في تزييف انبساطيتهم، الأمر الذي يفعلونه عادة في محاولة لتقليل الحرج والتأقلم مع بيئة خلقت للانبساطيين أصلاً، متناولة طريقة الرصد الذاتي التي يعمد فيها الانطوائي إلى خلق نسخة انبساطية منه ليتمكن من تحقيق بعض غاياته، مع ضرورة أن يمتلك “أماكن الإنعاش” لإعادة شحن نفسه وتذكيرها بأنه لا يزال على ما هو عليه بطبيعته، رغم التمثيلية التي يضطر إليها.

أما الفصل العاشر فكان أفضل الفصول وأكثرها حميمية، فقد تناولت فيه طبيعة الزواج الذي يضم الشخصية الانبساطية ونظيرتها الانطوائية، وسير الأمور عادة فيه، وطبيعة ما يشعر به كلا الطرفين المتضادين والراغبين، في الوقت نفسه، في الحفاظ على علاقتهما، مستعينة ببعض التجارب الواقعية الذي خاضها بعض الأزواج، وفي الفصل الأخير أوجزت بعض النصائح والإرشادات للتعامل مع الأطفال الانطوائيين، تضمنت احترام اختياراتهم والبعد عن محاولة فرض أي واقعٍ يرفضونه ويزيد من قلقهم ورهابهم تجاه المجتمع، ومساعدتهم على تثمين قدراتهم في عالمٍ يعج بالانبساطيين “إحصائياً” ومُصمم خصيصاً لهم.

إنه أحد كتبي المفضلة، وأنا ممتنة للغاية للكاتبة، أرشحه للجميع، وللانطوائيين خاصة.

شارك الصفحة

أن تكون انطوائيًا في هذا العصر: مراجعة لكتاب الهدوء قراءة المزيد »

ما الحياة المحتملة؟ مراجعة لكتاب: حياة تالفة

Picture of أصالة كنبيجه
أصالة كنبيجه

باحثة في تخصص الخدمة الاجتماعية

يتهيأ الشاب في غرفته للخروج ومقابلة أصدقائه، ممتعضًا من توجيهات أمه المستمرة، الداعية للتركيز في دراسته وعدم الإكثار من الخروج مع رفاقه أو التأخر في عودته، بالإضافة إلى ملاحظاتها الدائمة حول اختياراته في الملبس. يغادر المنزل وهو يقدم أعذاره ويؤكد فهمه لكل هذه الدروس التربوية المتكررة.

وحين يقابل أصدقائه يبحث بحذر عن أمارات تدلُّ على استحسانهم لما يقوله، وعن ذوقه فيما ارتداه ويتباهى بقدرته على التنصل من توجيهات أسرته وفعله لما يريد. إنه يأمل بشكل خاص الحصول على تأييدهم ومباركتهم لشخصيته وقراراته الحرة.

مشهد يتكرر في الكثير من البيوت وبصور شتّى في المجتمعات، يقدّم كتاب حياة تالفة تحليلًا ناجزًا له، ولغيره من المشاهد النفسية والاجتماعية التي أفرزتها الحداثة وما بعدها.

ومع تعدد الأطروحات والاشتغالات التي تناولت الحداثة موضوعًا وظاهرة في متونها وأوساطها، واهتممتُ بها كثيرًا انطلًاقا من اختصاصي الجامعي في العلوم الإنسانية والاجتماعية واهتمامي الشخصي بتركيبة النسيج المجتمعي، إلا أني ما وقفتُ حتى الآن بمثل ما وقفتُ عليه عند كتاب “حياة تالفة” لتود سلون أستاذ علم النفس النقدي، الاستشاري والباحث في المجالات النفسية والاجتماعية وتقاطعاتها، حيث وجدتُ في هذا الكتاب منهجية تحليل تستحق الإشادة والنظر.

وحريٌ بالذكر أنه عرّف الحداثة بكونها مجموعة من العمليات المنتظمة في تراتيب متنوعة، تعكس في جملتها وصف ماكس فيبر لها “عقلنة المؤسسات الاجتماعية”، وتركيز كارل ماركس على جانب “التطور الاقتصادي الرأسمالي” منها، بالإضافة إلى تحليل دوركايم  لـ “التعقيد في تقسيم العمل” وأخيرًا تناول هابرماس لطبيعة “العلاقة بين الأنظمة التقنية والعالم المعيش للثقافة”، مع تركيز المؤلف على أطروحة الأخير منهم.

وسأناقش الكتاب في مسارين يعكسان مساءلة الحداثة باعتبار التغييرات الطارئة على التجربة الإنسانية بسببها، وهي:

  • تلف الحياة أو تلف المعاني؟
  • غريق الحداثة أين يجد قشته؟

أولًا/ تلف الحياة أو تلف المعاني؟

يعالج المؤلف هذا المراد تحت أكثر من فصل ومحور، ولكن الرؤية الكليّة تمثلت في تأثيرات الحداثة وما يتصل بها من عمليات ألقت بظلالها على ثلاثة عوالم هي عالم الشخصية وعالم المجتمع وعالم الثقافة، مقتبسًا هذا التقسيم من هابرماس، المتحدث الأبرز للمنظور السوسيولوجي المعروف بالنظرية النقدية، وقائد الجيل الثاني من المنتسبين إلى مدرسة فرانكفورت النقدية.

  • عالم المجتمع: الذي يمُثل أساس التفاعل المجتمعي، ويرسي قواعده ابتداءً من الأسرة التي أضحت اليوم مؤسسة تربوية اخترقتها قيم الرأسمالية من المفهوم والشكل، مرورًا بالعلاقات، وحتى ممارسات التنشئة الاجتماعية، متأثرة في تكوينها، وعلاقاتها، وممارساتها التربوية، بل وأدوار الأفراد داخلها، التي أصبحت تحاكم وفقًا لمنطق السوق والتعاقدية.

وهنا تبرز أسئلة مهمة لا يقدم الكتاب إجاباتها بقدر ما يثُيرها ويدفع القارئ للوصول إليها: إلى أي مدى انحسر دور الأسرة في تشكيل هوية الفرد؟ وإلى أي مدى تأثر دور الممارسات التربوية في التنشئة والتهيئة للانخراط في السياق الاجتماعي الأكبر؟

  • عالم الثقافة: الذي يُمثل أنظمة المعرفة والمعنى، التي تعرضت للتفكيك وتفتيت الأجزاء، من خلال الأبنية الحديثة للوعي التي تفصل بين النظرة الدينية -كونها رافد جوهري لتمثيل منظومة المعنى- وبين المجتمع.

فنشأت حالات فردية أو جماعية ثائرة على التصورات الأساسية والمعاني الكلية التي استند عليها المجتمع حتى تميّز بها في خصوصيته وفرادة منطلقاته، حالات ثائرة أو مقاومة لقيم المجتمع وركائزه باعتبارها عثرة في طريق النمو الفرداني، أو التوسع المعرفي، أو الحرية، وغيرها من الدعاوى المنشرة، وهذا بدوره يساهم في تشكيل أزمة الهوية؛ لأنها أشبه ما تكون بثورة إنسان على مصادر تكوينه وأسس بناء هويته.

  • عالم الشخصية: الذي يُمثل الهوية، والمتضرر الأبرز من مظاهر الحداثة، نظرًا لحالة التشويش التي وصل إليها، والأزمات التي انبثقت عنها، وقد تطورت في بعضها لتكون مجموعة من الاضطرابات النفسية.

وهنا أستذكر ما قرأته في كتاب معنى الحياة في العالم الحديث لعبد الله الوهيبي:

“الفرد لا يطمئن ولا تستقر نفسه ما لم يعتنق منظومة تأويل متسقة ومعقولة، تؤدي إلى جمع عناصر حياته المشتتة والمتباينة بأي طريقة منظمة”، وهذا بدوره يؤثر على دوافع الفرد، وبطبيعة الحال تصرفاته وسلوكياته.

حين تتباعد فضاءات كل عالم من هذه العوالم، فإن الفراغات بينها تُملأ بتحديات كثيرة، مثل:

وجود مجتمعات وعلاقات بعيدة عن السلطة الدينية والثقافية في ممارساتها وتفاعلاتها، فيُترك الأمر لاجتهادات الرؤى الفردية أو الجماعية لتتولّى زمامه؛ مما يُفقد الإنسان بوصلته الأخلاقية ويدفعه للتخبط بين كل تلك الرؤى، بحثًا عن تصوّر كُلّي أو منظومة متسقة من التصورات والمعاني القادرة على توجيه سلوكياته وأفكاره وضبط أحكامه.

وهذا ما يشير إليه الكتاب حين يُدين الإيقاع السريع للحداثة، الذي أثّر على قدرة الفرد في تكوين تصوّراته ومعانيه ومروره بدورة الحياة الطبيعية للتجربة الإنسانية من جهة، والتنافر بين مكونات الروافد الأولية التي يساهم في تشكيلها المجتمع والثقافة من جهة أخرى.

وهذا كما وصفه الكتاب يعني أن “أبناء العصر الحديث مفلسون تقريبًا من الموارد الرمزية التي تمُكنهم من استيعاب الفوضى الظاهرية في الحياة الاجتماعية والشخصية”.

بعد قراءاتي لهذه الأجزاء أشير إلى أن المشكل في كل عالم من تلك العوالم الثلاثة هو عدم التجانس بين المكوّنات في حين، والصراع بينها في حينٍ آخر، وذلك نظرًا للتغيرات الطارئة على النظام الاقتصادي بما يتضمنه من مفاهيم وممارسات ومؤسسات، والذي طال تأثيره المنظومة الاجتماعية والثقافية التي يشكل الفرد تصوّراته وتوجهاته المتدفقة إلى أوصال حياته وفقًا لها وفي إطارها منذ الطفولة وحتى نهاية عمره.

ثانيًا/ غريق الحداثة أين يجد قشّته؟

كان عنوان الفصل الأخير من الكتاب: “التخلص من الاستعمار”، وهو يعني استعمار الحداثة لتلك العوالم، والأزمات المُفضية إليها.

وهنا أستذكر تقسيمًا واضحًا وملائمًا للمقام، أقتبسه من أحد لقاءات المؤتمر الدولي للفلسفة الذي حضرته مؤخرًا، من تقديم الأستاذة نسرين غندورة من معهد بصيرة.

تقول الأستاذة نسرين أنّ الهوية تتألف من الصفات والسمات، والدين والمعتقدات، والدوافع والرغبات، والقدرات والمهارات، وتاريخ شخصية الفرد، والشكل الخارجي، والوعي والإدراك.

أربعة عناصر منها تتأثر مباشرة بالعوامل الاجتماعية والثقافية، والبقية يُمكن أن يكون العامل الفردي فيها سيّدًا للموقف.

وهذا يُفسّر الاضطراب الحاصل في الهوية حين تُمرر إليها اضطرابات العوامل الاجتماعية والثقافية، أو يظهر الخلل في العملية الأساسية ألا وهي “التمرير الثقافي”، أو التنشئة الاجتماعية بوصفٍ أدق.

وبحسب الكتاب فإن هذه المسؤولية تقع على عاتق الكبار أو الوالدين ودورهم في التعامل مع هذا التحدي منذ سنوات الطفولة المبكرة، ويصيغ هذه الفكرة في سؤال بليغ: “كيف يُمكن أن نحيا مع أطفالنا في عالم من صنع الحداثة، حياة إنسانية يُمكن احتمالها؟”.

وأظن أنّ هذا تحدٍ كبير نعايشه اليوم، ومسؤوليتنا تجاهه تتمثل في شحذ أدواتنا، وتجهيز عتادنا للقيام بأدوارنا التربوية، والحفاظ على أكبر قدر ممكن من القيم سواء الإنسانية عامة، أو القيم الاجتماعية بخصوصيتها الثقافية.

ومن جانب آخر يقترح الكتاب حلًا متمثًلًا في تنشيط عمليات الإنتاج الفني والثقافي المُعبّر عن الهوية المحليّة، في سبيل مدافعة الأفكار القادمة من الوسط الخارجي، أو قيم الرأسمالية التي تُشيّء كل شيء حتى الإنسان، وهذا حتى تكون البيئة المحلية زاخرة بأنماط من المعارف والمعاني التي تعبر عن حقيقتها وواقعها وإنسانية الإنسان داخلها.

عودًا على المشهد الذي ابتدأته، ووفقا للرؤية التحليلية التي انتهجها الكاتب، إن مثل هذه المشاهد تعبيرٌ محض عن تحدي النظام القديم والمرجعية الاجتماعية، في محاولة لإثبات قدرة الذات على ابتكارها للجديد المغاير الذي لا يتصل بالضرورة بما سبقه، والذي يوفر القبول الاجتماعي الذي تحتاجه في أوساط الأقران والأنداد، وهذا منشأ صراع مستمر داخل النفس.

وبرغم إشادتي بمنهجية تحليل الكاتب في حياة تالفة، إلّا أني وددتُ لو أنه تناول أزمة النفس الحديثة من خلال المراحل العمرية المختلفة، لأنها وإن اتفقت في أساس نشأتها، إلا أن العديد من العوامل الدخيلة على التجربة الإنسانية يمكن أن يكون لها دور بارز في تفاقمها، أو الحد منها، حسب كل مرحلة.

شارك الصفحة

ما الحياة المحتملة؟ مراجعة لكتاب: حياة تالفة قراءة المزيد »

هايكو العرب: مراجعة لكتاب مهاكاة ذي الرمة

Picture of حسان بن إبراهيم الغامدي
حسان بن إبراهيم الغامدي

باحث في الثقافة الإسلامية

لئن كان من محاسن منصات التواصل الاجتماعي على الأدب توفيرها مساحات للتجريب، فإن من مثالبها استسهال الكتابة الأدبية وتصييرها “صيحة” مؤقتة، يشارك فيها الكتّاب بممارسة عفوية غير جادة ولا متواصلة، تبعًا لما هو شائع بين مؤثري الكتابة الأدبية على هذه المنصات.

كان شعر “الهايكو” الياباني صيحةً أدبيةً على تويتر، وصلت ذروتها عام 2017م، تُرجمت قصائد الهايكو من اليابانية والإنجليزية، وجرب الكثيرون كتابة هايكو عربي يحاكي هايكو اليابان قدر المستطاع.

لكني، وربما كثيرون مثلي، لم أستسغ ما قرأته من هذه المحاولات، ولم أستطع الولوج إلى لحظة الاستمتاع بهذا النوع الأدبي المستورد، وقررت التوقف عن محاولاتي لتذوقه والتفاعل معه.

لكن ذلك لم يمنعني من اقتناء كتاب “مهاكاة ذي الرمة: أطروحة الهايكو العربي”، فمؤلفه هو الشاعر حيدر العبدالله، وحيدر ينتمي إلى قلة من شعراء العرب اليوم ممن يملكون مشروعًا شعريًا يعملون عليه بجد ووعي، ويجربون مساحات جديدة دون التخلي عن أصالة شعرهم وجذوره، ودون الاستخفاف بقواعد الشعر العربي وعموده، مع ثقافة شعرية متينه، مما يَعِدُ بتناولٍ عربيٍ جادٍّ مع هذا النوع الشعري الغريب.

ويتلمس قارئ الكتاب جدية حيدر في تناول شعر الهايكو وتجريبه من لحظات الكتاب الأولى وحتى إسدال الستار مع الخاتمة، فالكتاب يسعى إلى وضع أسس نقدية متينة لكتابة “هايكو” عربي، يستلهم الشعر العربي القديم، وهو ما تطلب من حيدر أن يجرد ديوان “ذي الرمة” الذي اختاره مصدر إلهام للهايكو العربي، وأن يلج إلى بنية الهايكو الياباني، والمتمثلة في فلسفة الزن وربطها بالتصوف الإسلامي، وأن يكتب قصائد هايكو عربية ضمن بحور الخليل.

صدر الكتاب أواخر عام 2022م عن دار أدب، في ثلاثمئة صفحة، موزعة على أربعة أبواب، بمراجع تربو على الخمسين، تتوزع بين كتب الطبقات والتراجم، وكتب النقد العربي القديم والجديد، وكتب النقد الغربي، والمصادر العربية القديمة والحديثة المتعلقة بالطبيعة، ودراسات المستشرقين، وكتب الصوفية، وطبعًا ديوان ذي الرمة بمجلداته الثلاث.

إننا أمام كتاب مغامر بلا شك، ولشاعر ينشر كتابًا نقديًا لأول مرة، ولكن الشروط الجادة التي يضعها على عاتقه تعدُ بالكثير، والجميل أنه وفى بوعوده.

أن تغزونا الطبيعة

يختم حيدر كتابه بسطر يقول فيه: “سُئلتُ مرة: لماذا الهايكو تحديدًا؟ فقلت: الشاعر المغامر لا يسأل لماذا. بل يسأل: لمَ لا”.

رغم ذلك فإن حيدر سيأخذنا في الباب الأول إلى اليابان، في جغرافيا الهايكو، ليتعرف على الثقافة التي أنتجت هذا النوع الأدبي، ولا يكتب حيدر نصًا أنثربولوجيًا عن الإنسان الياباني ولغته وطعامه وعاداته وملابسه وطبقاته الاجتماعية، ولكنه سيكتب نصًا أدبيًا عن رحلته إلى اليابان، وكيف نظرت عينا الشاعر إلى التحولات العميقة التي أصابت المجتمع الياباني، وكيف تعاني قمة جبل فوجي وهي تلوّح للناظرين من بين ناطحات السحاب، هذه القمة التي تمثل رمزًا للموضوع الأساسي لشعر الهايكو: الطبيعة.

ومن هنا تغدو الإجابة مبرّرة حين نقول إننا نحتاج الهايكو لنرمم علاقتنا مع الطبيعة، فشعر الهايكو شعرٌ وصفيٌ خالص، لا يستعمل المجازات والتشبيهات، وينحي الشعور بعيدًا، ولا يقصد غير وصف ما يراه الشاعر، فالعدسة مركزة على جزء محدد من المشهد، والشاعر لن يكتب إلا عن وصفه.

لذلك فإن حساسية الهاكي للمشهد الطبيعي ستنمو من جديد، وسيعود إلى معاجم اللغة العامة والمتخصصة في الحيوانات والنباتات والجبال والطقوس والمظاهر الطبيعية، وبذلك تنشأ بينه وبين الطبيعة صلاتٌ تنبع من التأمل، والتخفف البلاغي، وتنحية الأنا والعواطف، وبعث الحياة في شبكة لغوية ميتة متعلقة بوصف الطبيعة، وكما يقول حيدر:

“لا يُراد للهايكو أن يكون غزوًا بشريًا للطبيعة، بل غزوًا طبيعيًا للبشرية”.

 

شاعر الفلوات

بالإضافة إلى ذلك فإن شعر الهايكو على طريقة حيدر يمنحنا صلةً بالأدب العالمي، ويجدد علاقتنا المهترئة بالشعر القديم.

ولا أدري هل قاد الهايكو شاعرنا إلى ذي الرمة، أم أن شعر ذي الرمة قاده إلى الهايكو، ولكن في كلا الاحتمالين دلالة على نوع القراءة الغني الذي سلكه حيدر في قراءة ديوان ذي الرمة، وهو ما جعله ينفض الغبار عن شاعر أُهمل من قديم الزمان، حين كان الناس ولا يزالون يتناقلون نقائض معاصريه: جرير والفرزدق.

يجد حيدر في ذي الرمة وشعره (ولا أقول شعره وحده) فرصةً لكتابة هايكو عربي موصول بالتراث الشعري العربي، مما يجعل التجربة الجديدة مبنية على تراكم يمنحها احتمالات أكثر للوصول إلى ذوق المتلقي العربي، وتمنح في الوقت نفسه الشاعر كنزًا هائلًا من ثقافته يستلهم منه مسارات لشعريته الجديدة.

وفي شعر ذي الرمة سمة موجودة عند هكاة اليابان، وهي معرفتهم العميقة بالطبيعة ومحبتهم الغامرة لها، وانسجامهم مع ما قد نسميه محاسنها ومثالبها. يختلف وصف ذي الرمة عن وصف غيره من الشعراء قديمًا وحديثًا، الذين يتخذون الطبيعة وسيلةً للتعبير عن آمالهم وآلامهم، أو موضوعًا يتغنون فيه بمباهجها، بينما يقول حيدر عن علاقة ذي الرمة بالطبيعة:

“إنّ تفوّق ذي الرمّة عليهم يكمن في قدرته على احتواء الطبيعة احتواءً موضوعيًا، غير مشروط ولا انتقائي. تحضر الطبيعة عند ذي الرمّة بكامل هكذائيتها، بجدبها وربيعها، وحلوها ومرّها، ومباهجها وأهوالها، وشتائها وقيظها، دون أن يضع نفسه في مركزها، أو يجعلها فرعًا عن ذاته”.

لقد صاحب ذو الرمة الطبيعة وصادقها وتقبلها بكل ما فيها، وكان الوليد بن عبدالملك قد سأل الفرزدق عن أشعر الناس فقال أنا، قال أفتعلم أحدًا أشعر منك؟ قال لا، إلا أن غلامًا من بني عدي بن كعب يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات!

بحثًا عن الإيقاع

 ينقد حيدر بجرأة شديدة وبالأسماء تجارب الهكاة العرب، وهي في نظره “لا تعدو كونها تمارين على كتابة هذا الشكل العربي الجديد، وتنم في معظمها عن قصور في فهم مقومات الهايكو الياباني، وعدم إدراك لإمكانات تبيئته عربيًا، مع المحافظة على شروطه الفنية قدر الإمكان”.

وينقل عن محمد عظيمة تبريره لإخفاق الهايكو العربي، حين نظر له الكتّاب كشكل أدبي قصير لا يحتاج إلى أي براعة لغوية، وهو ما يذكرني بتجارب الأدباء العرب مع القصة القصيرة التي يمكن الحكم على أكثرها بالتواضع دون أي تردد، والظريف أن حيدر انتقد محاولات عظيمة نفسه في كتابة الهايكو وإدراك جوهره.

يُعرّف حيدر العبدالله شعر الهايكو بأنّه: “نصٌ شعريٌ متصوّف، يربط الطبيعة بالإنسان، ويُقال في نفسٍ واحد”، وقد شرح في الكتاب البنية الصوفية التي يرتكز عليها الهايكو الياباني ومثيله في التراث العربي، وانعكاسه على الصيغة اللغوية البسيطة لشعر الهايكو، كما تكلم باستفاضة عن موضوع الهايكو وعلاقته باختيار ذي الرمة والقرائن الموسمية المتعلقة بفصول السنة الأربعة التي تساعد على الاتصال بالطبيعة، ولكن ماذا عن النفَس الواحد؟

يعد التنفس واحدةً من أهم أدوات الصوفي الياباني في الوعي باللحظة وتنمية مدركاته، وكان الهايكو قد نشأ في المعابد البوذية الصوفية، وبتراكم التجارب اختاروا أن توزن قصيدة الهايكو بسبع عشرة حركة صوتية هي ما يُمكن للنفس الواحد احتماله.

قام حيدر بتطبيق هذه التقنية الإيقاعية على العروض العربي المتمثل في بحور الخليل، وقدم نموذجًا تطبيقيًا من شعر الهايكو لكل بحر من هذا البحور موضحًا تفعيلاته وكأنك في محاضرة لمادة العروض. ولا يقصد حيدر بإصراره على الهايكو الموزون تعقيدَ كتابة الهايكو، بل وضع إطار شكلي محدد للهكاة العرب، يصرفهم للاهتمام بالمحتوى الشعري دون الانشغال بشكله، يقول حيدر: “من شأن تنظيم الهايكو أن يُريح الهكاة العرب، ويُفرّغهم لخوض تجربة شعريّة مطمئنة، حين يتّكئون على بحر معين، سبق لهم أن أتقنوه وتمرنوا عليه في نصوصهم الغنائية”.

وبادر حيدر بنفسه، فهاكى ديوان ذي الرمة، وكتب مستلهمًا من شعره مئة قصيدة هايكو، مضبوطةً بتفعيلات الخليل، تاركًا للنقاد حرية تقييم تجربته بعد أن ضبط لهم أدوات قراءتها ونقدها.

وهذه نماذج من أجمل ما هاكه حيدر من شعر ذي الرمة:

قال ذو الرمة:

تبسّم لمحَ البرقِ عن مُتَوضّحٍ  

كنورِ الأقاحي شافَ ألوانَها القطْرُ

يشبّه ذو الرمة ثغر حبيبته بزهرة الأقحوان، وهي البابونج، حين يغسل المطر بتلاتها، فيقول حيدر مهاكيًا:

الأرضُ تحسو

رشفتيْ بابونجٍ

بعد المطرْ

قال ذو الرمة:

لانَتْ عريكتُها من طولِ ما سمعَتْ 

بينَ المفاوِزِ تنآمُ الصدى الغَرِدِ

يصف ذو الرمة الناقة وهي تُسرع في مسيرها بتأثير صوت البوم الذي يُعجبها، فيقول حيدر مهاكيًا:

ناقةٌ تطربُ للبومِ

فتنداحُ

خُطاها

ولئن كنا نرقب قصيدة جديدةً من حيدر كل فترة، فما أحرانا بانتظار كتابٍ نقديٍ جديد منه، لا تنقص لغته الجمال، ولا تعوزه الجدية، ولا تمنعه الثرثرة المتكاثرة من التجديد.

شارك الصفحة

هايكو العرب: مراجعة لكتاب مهاكاة ذي الرمة قراءة المزيد »

عروبة القهوة: مراجعة لكتاب ديوان القهوة ومقدمته الجليلة

Picture of حسان بن إبراهيم الغامدي
حسان بن إبراهيم الغامدي

باحث في الثقافة الإسلامية

ما عاد للتاريخ قصة وحيدة يكررها علينا المؤرخون من كتاب لآخر، فالحدث الواحد قد نراه من زاوية الدراما السياسية، أو الحكاية الاجتماعية، أو حتى من منظور الأشياء الجامدة من حولنا، مثل البحار، والغابات، والمقابر، والطرق، وحبوب القهوة!

تتسابق دور النشر لإصدار كتب عن القهوة، سواء كانت كتبًا بحثية أو قصصية، وسواء كانت لمؤلفين عربًا أو مترجمة عن لغات أجنبية. فالقهوة بضاعة رائجة، في كوب أنيق أو على سطر صفحة من كتاب.

ولئن كانت أكثر هذه الكتب تكرر كلامًا معتادًا عن تاريخ اكتشاف البُنّ في أفريقيا واليمن، أو حكايات تحريم القهوة أول أمرها، أو قصص المقاهي الأوروبية وعلاقتها بنشأة المجال العام، فإن لكتاب “ديوان القهوة” الصادر عن دار صوفيا أواخر عام ٢٠٢٢م جديدًا من القول في موضوع قديم.

يضمّ الكتاب منظومات وأراجيز وموشحات ومقطعات شعرية ابتداء من القرن التاسع الهجري، كتبها أصحابها في خضم الجدل الفقهي حول الموقف من القهوة، حققها الأستاذ ماجد الأهدل، الذي كشف بتحقيقه هذا عن تمكن من آلة التحقيق والتعامل مع المخطوطات، وعلق في حواشيها بما يعين القارئ على استيعابها، من معاني الكلمات، أو بعض السياقات الفقهية والتاريخية التي توضح المعنى، مع اختصار وإرشاد للمراجع والمصادر.

 كما أضاف في أول الكتاب “مقدمة جليلة في تاريخ القهوة”، تكشف عن السياق العربي الكامل لنشأة وتطور شراب القهوة في كافة أشكاله، استنطق خلالها المجموع الشعري، وأجال النظر في كتب التواريخ والتراجم والطبقات والمشيخات والأثبات، وتتبع بالنقد والتمحيص أقوال من سبقه في تاريخ القهوة، كل ذلك في لسان فصيح وماتع.

وقهوةً مزّةً راووقها خَضِلُ.

قد لا يصدق المرء أن نشأة القهوة كانت في ظرف روحاني، فهي وإن استخدمت حبوبها في أرض الحبشة بصورة محدودة، إلا أنها لم تتحول إلى مشروب وتنتشر وتشتهر وتتنوع طرق استخدامها إلا بعد اكتشافها أول القرن التاسع الهجري على يد الشيخ علي بن عمر الشاذلي (ت٨٢٨هـ)، وكان شيخًا صوفيًا تتلمذ على علماء مصر والحجاز، واستقر في قرية المخا باليمن، وقد وجد في بعض دوابه نشاطًا غريبًا، فتتبع مرعاها ووجدها تأكل من شجرة البن، فأخذ بعض ثمر الشجرة وهي حبوب البن، وجربها مقلية ومطبوخة، فإذا بها تمنحه نشاطًا ومزاجًا فريدًا، فاستطابها ودلّ مريديه عليها، لتعينهم في سهرهم على العبادة والذكر، وانتشرت في أوساط الصوفية بمشارق الأرض ومغاربها.

كانت لهذه النشأة الصوفية أثر في اختراع أقوال أسطورية عن نشأة القهوة، تتبعها مؤلف الكتاب بالرصد والنقض، مثل كون مكتشفها من بعض الأنبياء عليهم السلام، أو أنها من شجر الجنة، وقد بقيت آثار هذه النشأة في بعض المظاهر، مثل تسمية القهوة بـ”الشاذلية” أو عُد اكتشاف القهوة من كرامات الشيخ الشاذلي كما جاء في قصيدة مُدح بها:

كم كراماتٍ له باهرةٍ   ليس يُحصي عَدّها من عَلِمَا

إن من أشهرها بئر المخا   حيثُ لا ينقص منها النّزحُ ما

ثمّ منها قهوةُ البنّ التي   نورها اللّماعُ يجلو الظُلَمَا

سِرّها في كلّ قُطرٍ قد سرى حيثُ عمّ العُربَ ثمّ العَجَمَا

لكن كيف يُسمي الصوفيون هذا الشراب الذي أحبوه “قهوةً”، وهو اسم الخمر كما هو معلوم في اللسان العربي القديم، فقد قال الشاعر الجاهلي الأعشى قاصدًا الخمر:

نازعتُهُم قُضُبَ الرّيحانِ مُتكئًا   وقهوةً مُزّةً راووقها خَضِلُ

وقد قال بعضهم إن تسميتها قهوةً كاسم الخمر سببه أنها تُشبع شاربها وتمنعه شهوة الطعام، لكن في إحدى الموشحات التي ضمها الكتاب، والتي قيلت في مديح الشيخ أبي بكر العيدروس أحد مشايخ الصوفية، تسبيبًا ظريفًا لتسميتها قهوة موافقة للخمر:

من خِدرها العيدروس أبرزها

وللندامى الكِرام أبرزها

وبالمعاني الحسان طرّزها

وهيّمَ القومَ عندما وَضَعَا   لها اسمَ راحٍ ونِعمَ ما صنعا  فَعلا

فتاوى القهوة.

لم يمتد الطور الصوفي لشرب القهوة كثيرًا، فسرعان ما تعرفت عليها فئات اجتماعية كثيرة، وربما وجدوا فيها شرابًا ملائمًا لجلسات الأُنس والسمر، ففي وصف بعض الأماكن التي تُشرب فيها القهوة بمكة المكرمة أنها تُشبه “الخمّارات”، ويجتمع فيها الرجال بالنساء، وتُستعمل بها الأدوات الموسيقية، ويُلعب فيها بالشطرنج وبعض الألعاب الأخرى، حتى لاحظ بعض المسؤلين ذلك، فجمع علماء وأطباء وأصدروا فتوى بتحريمها عام ٩١٧هـ.

من المعتاد في الكتب المعاصرة لتاريخ القهوة أن تتوقف طويلًا عند فتوى تحريمها، وابتُذل الكلام في الدلالات الفكرية لتلك الفتوى، من الخوف من المستجدات، إلى سيطرة ذهنية التحريم، وهو ما حجب عنا واقع الجدل الفقهي والاجتماعي الذي أفرزته فتاوى التحريم، والذي يتضمن دلالات بديعة عن قوة المجتمعات، وعن كفاءة الجماعة العلمية في التعامل مع هذا الشراب المستحدث، وهي تنقل لنا صورةً مختلفةً عن استقبال الفتاوى الرسمية قبل العصر الحديث، وكيف تعامل معها عموم الناس.

أتاح ماجد الأهدل بسرده البانورامي لفتاوى التحريم أن نتعرف على قصة حياة كل فتوى منها، والتي انتهت بتأثيرها المؤقت والمحدود، وموتها آخر الأمر. ففتوى التحريم بمكة المكرمة انتهت بعد مرسوم سلطاني يمنع المنكرات التي كانت تحدث أثناء شرب القهوة لا ذات القهوة، وكانت المراسيم نفسها محدودة الأثر في أهل مكة الذين كانوا يعاملونها كـ”بهارج سلطانية” كما يقول الأهدل، بل ينقل عن ابن حجر الهيتمي قوله في حاملي هذه المراسم أنهم كانوا يشربون القهوة بعد قراءة المرسوم على الأهالي! وفي مصر التي حدثت بها فتنة كبيرة بسبب فتوى التحريم المتعجلة، بقي جدل الفتوى نخبويًا بين الفقهاء والوعاظ، بينما كان الناس مستمرين في تناولها، بعد أن ضعف أصحاب الشرطة من ملاحقتهم ومنعهم. أما في الشام فقد دارت بها مناظرة بين رأس المحرمين ورأس المبيحين، والتي انتهت بظهور الإباحة على التحريم، ونظم القصائد في محاسنها ونقد من يحرمها. وفي اسطنبول مركز الدولة، تحايل الناس على قرار منعها بفتح المقاهي في الشوارع الخلفية بعد الاتفاق مع أصحاب الشرطة الذين كانوا من زبائنها، وسرعان ما أقبل العلماء والأمراء وبقية الناس على شربها في هذه المقاهي.

ديوان القهوة

كابتشينو وفلات وايت وكولد برو.

لا تتوقف حسنات فتوى تحريم القهوة على ما أنتجته من ألوان القصائد والموشحات والمنظومات، أو ما أثارته من ألوان الاستدلال والاستنباط في خضم الجدل بين المبيحين والمحرمين، ولكنها امتدت إلى إبداع ألوان من الوصفات والمنكهات والإضافات على مشروب القهوة.

فلئن كان السبب الأول لتحريم القهوة هو ما يصاحبها من أشكال اللهو المحرم، فإن السبب الثاني متعلق بنظرية طبية شاعت في ذلك الوقت، وهي نظرية قديمة شاعت عن “أبقراط”، تقول بأن خصائص الأشياء جميعًا أربعة: اليُبس والبرودة والرطوبة والحرارة، وأن الصحة هي في التوازن والاعتدال بين هذه الخصائص، وأن المرض يكون في اختلالها وطغيان بعضها على بعض.

يتتبع ماجد الأهدل أثر هذه النظرية في تحريم القهوة، فهي في نظر بعض محرميها تؤدي إلى تأثر هذا التوازن واختلاله، مما جعل بعضهم يقترح خروجًا من الخلاف الفقهي إضافة بعض العناصر التي تمنع من تأثيرها المضر، مثل العسل والسكر والهيل والقرنفل والزنجبيل، فكما يقول المؤلف: “والذي أستريح له في تفسير تعدد هذه الوصفات، أن مبدأ هذه الإضافات والمطيبات هو الطب، وابتداء أمر الإضافات إنما كان بدايةً للخروج من الخلاف في إضرار القهوة المزعوم، ثمّ وافق هذا التعديل هوى وشهوة في الذوق، فاستفحل أمر الإضافات حتى نُسيت العلة الأولى لها، وغدت الإضافات قائمة على الاستحباب والإلف والذوق، حتى صارت هذه الإضافات مفارز لتصنيف الوصفات على حسب البلدان”.

واستنادًا إلى مجموعة المنظومات والقصائد والموشحات والأراجيز والمقطّعات، يكشف الأهدل عن نضج مشروب القهوة في بيئتها العربية، سواء من حيث تحميصها، أو تحليتها بالسكر، أو شربها سوداء، أو إضافة الحليب لها وسائر المنكهات، أو حتى شربها بالثلج! فقائمة المشروبات التي تجدها في كل مقهى، مثل الكابتشينو والفلات وايت والبلاك والكولد برو، إنما هو ابتكار عربي خالص، وذلك قبل معرفة الأوروبيين لشراب القهوة بمئتي سنة تقريبًا.

وقد يمتنع القارئ غير المهتم بالتفاصيل الفقهية عن قراءة المنظومات التي جمعها الديوان، وهي وإن كانت منظومات وقصائد نبعت من الجدل الشرعي حول القهوة، إلا أنها نقلت لنا صورًا متعددةً من تقاليد شرب القهوة وإهدائها، ووضع آداب معينة في تناولها وتقديمها للآخرين، وهي تقاليدٌ وآداب ما زالت حيةً إلى يوم الناس هذا.

شارك الصفحة

عروبة القهوة: مراجعة لكتاب ديوان القهوة ومقدمته الجليلة قراءة المزيد »

الخلاصة الاستشراقية: مراجعة لكتاب الدراسات الاستشراقية، مقدمات ومقاربات

Picture of ليلى إبراهيم العصيلي
ليلى إبراهيم العصيلي

باحثة دكتوراه في أصول التربية

ضمن اهتمامي بنطاق العلوم الإنسانية والاجتماعية الذي يندرج تخصصي التربوي تحته، أحاول بين الفينة والأخرى استكشاف مجالات معرفية أخرى إيمانًا مني بأهمية هذا الاطلاع خارج التخصص في إثراء العقل وتنميته، وكان من ضمن هذه الموضوعات مؤخرًا موضوع الاستشراق وصوره المتجددة، فكان أن قرأت كتاب (الاستشراق الجديد) للأستاذ عبدالله الوهيبي، تزامنا مع الاستماع للدكتورة ملاك الجهني عبر بودكاست جولان في حديثها عن (إدوارد سعيد خارج المكان، داخل الزمان)، ثم كتبت تغريدة عن هذا التزامن المثري، فاقترح علي أحدهم مشكورًا الاطلاع على كتاب الأستاذة هاجر العبيد: الدراسات الاستشراقية مقدمات ومقاربات، وهو موضوع هذه المراجعة.

وموضوع الاستشراق يثير في مخيلة معظم الناس صورًا نمطية تنتمي للماضي، يقفز للذهن ذلك الأوروبي الذي عكف على تعلم اللغة العربية، وأقبل على كتب التراث ليحققها، أو تاريخنا الإسلامي ليشوهه أو ينصفه بحسب مزاجه ومدى موضوعيته، أو نصوصنا الشرعية ليقدح فيها أو يُسلم بسببها، أو ذلك الرحالة الذي اختار مخالطة العرب والمسلمين والكتابة عنهم في منهج أقرب للأنثروبولوجيا، إلا أن الاستشراق متجدد، وصوره متحولة، وهو إن اختفى في صورته القديمة الصريحة، إلا أنه عاد لابسًا أثوابًا أخرى كمراكز الأبحاث، ومراكز الدراسات المستقبلية وغيرها.

    كتاب الدراسات الاستشراقية

ويأتي هذا الكتاب المنشور عام 2021م، والذي بلغ عدد صفحاته (213) ضمن سلسلة تكوين الصادرة عن مركز نماء للبحوث والدراسات، وهي سلسلة تهدف إلى: “تزويد العقل المشتغل بالدراسات الإسلامية والإنسانية بأداة تكوينية ترسي لديه المعالم الأساسية لموضوعات ومسائل ومفاهيم وطرائق تحصيل ملكة النظر في كل علم من العلوم الإسلامية والإنسانية، فكتبها تحتوي على الخصائص التربوية والتعليمية للكتب المؤسسة للدرس في كل علم من العلوم.”

والمؤلفة هي الأستاذة هاجر العبيد، أكاديمية وباحثة ومترجمة مهتمة بالعلوم الاجتماعية وحاصلة على ماجستير في الدراسات الاستشراقية، لها كتاب حول (أثر الاستشراق في الدراسات ما بعد الكولونيالية) وعدد من المقالات المترجمة حول الاستشراق، ويعد الكتاب مدخلًا جيدًا للقارئ غير المتخصص، يعرفه بمفهوم الاستشراق والدراسات الاستشراقية، وتاريخ الاستشراق ويناقش علاقته بحقول معرفية ومفاهيم مقاربة كالأنثروبولوجيا، والعولمة وما بعد الحداثة والإسلاموفوبيا والاستعراب والاستغراب.

عنوان الكتاب معبر عن مضمونه تعبيرًا جيدًا (الدراسات الاستشراقية: مقدمات ومقاربات) فموضوعه الدراسات الاستشراقية (التي تبين الكاتبة الفرق بينها وبين الدراسات الشرقية)، وهو يتناول هذا الموضوع من زاويتين، الأولى مقدمات تعريفية وتاريخية، والأخرى مقاربات لميادين تتقاطع مع الاستشراق بشكل أو بآخر، وقد ذكرت المؤلفة في المقدمة: “ما أريد أن أصل إليه من خلال هذا العنوان هو ذلك التعقيد في موضوع الاستشراق بصفة عامة وتشعبه في أكثر من جانب“.

أما الغلاف فكان اختياره ذكيًا حيث حمل إحدى لوحات الفن الاستشراقي الذي يصور حضارة الشرق بعيون غربية، حيث يحضر السجاد الشرقي والألوان الغنية والعمائم، والكتاب يتقارب كثيرًا في موضوعه وأفكاره وعناصره مع كتاب الأستاذ عبد الله الوهيبي الصادر عن (آفاق المعرفة) الذي قرأت طبعته الثانية الصادرة في نفس العام بعنوان (الاستشراق الجديد: مقدمات أولية) وكلاهما مناسب للقارئ غير المتخصص في تعريفه بحقل الاستشراق وتطوراته.

ويقع الكتاب في ثلاثة فصول: تضمن الأول منها: مقاربات أولية في المفاهيم والنشأة، أما الفصل الثاني، فقد خصصته الباحثة للاستشراق المتجدد، وناقشت في الفصل الثالث: مقاربات حول الاستعراب والاستغراب، ويمكن القول بأن الفصل الأول يمثل (المقدمات) التي أُشير إليها في عنوان الكتاب، بينما يمثل الفصلين الثاني والثالث (المقاربات).

ملخص الكتاب:

قدّم للكتاب الدكتور سعد البازعي مثنيًا على كونه يقدم خارطة واضحة للقارئ المختص وغير المختص عن الاستشراق توضح ضبابية مساراته وتطوراته التي لم تقف عند صورة الاستشراق في الماضي، بل تقصت المؤلفة جوانبه المتنامية التي يحتاج القارئ العربي الاطلاع عليها، ثم تبع ذلك توطئة جميلة من المؤلفة مكتوبة بعناية تشد القارئ للكتاب، وتبيّن أهمية الموضوع، وتشعبه، وغرض الكتاب.

الفصل الأول: مقاربات أولية في المفاهيم والنشأة:

يناقش المبحث الأول مصطلح (الاستشراق) ومراحل نشأته وتطوره، والتذبذب في تعريفه، ثم وضعت المؤلفة بعض الأسس التي تؤطره في ظل صعوبة التعريف المحدد، ثم عرجت في المبحث الثاني على مصطلح (المستشرق) والتحولات التي أصابت دلالته وموقعه من القبول والرفض داخل دائرة الاستشراق وخارجها، وفي المبحث الثالث تأخذنا المؤلفة في رحلة تاريخية نتعرف بها على أطوار الاستشراق من مبعثه إلى حقبة الاستشراق الكلاسيكي، ثم الاستعمار وما بعده، مستعرضة مظاهر كل مرحلة وخصائصها.

الفصل الثاني: الاستشراق المتجدد:

وهو أطول فصول الكتاب وأكثرها تشعبًا في المباحث، حيث يبدأ بالتمهيد حول التغيرات في الاستشراق من أيام مجده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى تغير صورته بعد الحرب العالمية الثانية وانزياح مركز القوة الغربية من أوروبا للولايات المتحدة الأمريكية، والدور الكبير لكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد في سبعينيات القرن العشرين في إنهاء الاستشراق بصورته الكلاسيكية وتدشين مرحلة ما بعد الاستشراق.

وفي مباحث هذا الفصل التي بلغت ستة، تناقش المؤلفة تباعًا، علاقة الاستشراق بحقول متعددة: الأنثروبولوجيا، ما بعد الحداثة، العولمة، دراسات المناطق ومراكز البحوث الأمريكية، والإسلاموفوبيا، ونقد المستشرقين الذاتي للإسلاموفوبيا، وبدت لي بعض المباحث في هذا الفصل بحاجة لمزيد من التنظيم في عرض الأفكار، والتقليل من الاقتباسات، لتكون أكثر إمتاعًا في القراءة.

الفصل الثالث: مقاربات أولية في الاستعراب:

تطرقت المؤلفة في هذا الفصل لمصطلحين مهمين هما (الاستعراب والاستغراب) ويمكن تعريف الأول بأنه الدراسات المعنية بالعرب وخاصة الدراسات الأندلسية، أما الاستغراب فهو حقل يؤسس لنظرية جديدة يكون فيها الشرق دارسًا للغرب، وينتقل من موضوع مدروس إلى ذات دارسة، بغرض القضاء على مركب النقص الذي ولدته المركزية الغربية ودعمها الاستشراق، وتناقش المؤلفة بإسهاب دلالات المصطلحين، ومراحل نموهما، وعلاقتهما بالاستشراق.

غرض الكتاب:

نجحت المؤلفة -من وجهة نظري- في تحديد الغرض الدقيق من الكتاب وتحقيقه، فقد أوضحت في المقدمة أن غرضها ليس الإتيان بجديد، أو تحليل المضامين والحكم عليها، بقدر ما هو تقديم استعراضٍ منهجيّ علميّ موجَز عن الاستشراق وربط أجزائه تاريخيًا، وتوضيح علاقته بالاستعراب والاستغراب، مما يمثل مفاتيح للقارئ يبحر بعدها بالقراءة والاطلاع، ومن أهم أهداف الكتاب تحديث معلومات القارئ العربي حول الاستشراق وتطوراته، فالعلوم تقوم على التراكم والتجديد، وبالنظر لحداثة نشر الكتاب وقت كتابة هذه المراجعة، فقراءته تقدم للقارئ فكرة جيدة عن تطورات الاستشراق.

الدراسات الاستشراقية

من أهم أفكار الكتاب:

تطرق الكتاب لعدة أفكار مهمة لفتت انتباهي، من أبرزها أوجه التشابه والاختلاف بين الاستشراق الكلاسيكي والمتجدد، فهما يتقاطعان في وحدة مجالهما الحيوي، فكلاهما يدرس الشرق بهدف فهمه ومن ثم السيطرة عليه، أما أوجه الاختلاف فمتعددة وأبرزها: التحول من الاهتمام بالدراسات اللغوية إلى الدراسات الاجتماعية، أو من منهج الفيلولوجيا إلى الأنثروبولوجيا، وبعبارة أخرى، من دراسة النصوص الشرقية إلى دراسة الإنسان الشرقي، وهذا يعني انضمام متخصصين من الدراسات الإنسانية المختلفة لخدمة الاستشراق في ثوبه الجديد.

وذكرتني هذه الفكرة في الكتاب بندوة شاهدتها في اليوتيوب، أقامتها جامعة كارنيجي ميلون عام 2014 حول مستقبل العلوم الإنسانية، حيث ناقشت تقريرًا بعنوان The Heart of Matter وقيل فيها إن الولايات المتحدة ليست الأفضل في الرخاء الاقتصادي أو الرفاهية الصحية أو الأمن، إلا أنها قوة عظمى لا منازع لها منذ الحرب العالمية الثانية، ويعود الفضل في قوتها العسكرية إلى الحروب التي خاضها علماء الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا والإدارة، أكثر مما يعود للعسكريين؛ فعلماء الإنسانيات هم الذين يسهّلون فهم الشعوب وبقاء النفوذ الأمريكي فيها بعد انتهاء الحروب!

ومن الفروق التي تناولتها المؤلفة بين الاستشراق الكلاسيكي والمتجدد، تحول تركيز الاستشراق من ثنائية الشرق والغرب، إلى تذويب الهويات القومية والثقافية للشعوب بهدف إخضاعها، ومن الانغلاق على النخبة المفكرة إلى تعبئة عامة الجماهير الغربية بأفكار كالإسلاموفوبيا، ويمكن ربط هذين الفرقين بمبحث (الاستشراق وما بعد الحداثة) حيث طرحت المؤلفة تساؤلًا هو: “إذا كان الاستشراق مرتبطًا ارتباطا وثيقًا بالحداثة، فكيف يمكنه أن يكون مرتبطًا بما بعد الحداثة؟” ثم تقدم جوابا: “يمكن ذلك بافتراض أن ما بعد الحداثة في بعض النواحي الحاسمة هي مواصلة للخطاب الحداثوي، أو هي في بعض الدرجات تكوّن تمظهره الأخير الناضج… ولكن من الواضح وجود اختلافات كبرى أيضا ثم تعود لتقول “إن عدم الارتياح المعاصر فيما يخص الهوية الثقافية وصلاحية التراث ودعم الأصوات المقهورة -وكلها قضايا ما بعد حداثوية بامتياز- قد تصدّرت الاهتمام بأبحاث المستشرقين التي ساعدت في كثير من الحالات على التركيز على هذه القضايا وتوضيحها“، وبوصفي قارئة مهتمة بموضوع الحداثة وما بعد الحداثة، تمنيت أن تسهب المؤلفة أكثر في إجابة هذه المفارقة.

كذلك شدّني تناول المؤلفة لموضوع (الاستغراب) في الفصل الأخير، ومشروع الدكتور حسن حنفي في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) في تأسيس هذا العلم، فالاستغراب يفتح أملًا للذات العربية لأن تتحول لذات دارسة بدلًا من أن تبقى موضوعًا مدروسًا، أملًا في تقويتها وخروجًا من التبعية الفكرية إلى التفاعل والإنتاج، وتورد المؤلفة آراء مختلفة منها المؤيد للاستغراب لدرجة اعتباره ضرورة حضارية، ومنها الذي يستنكره بحجة أن العرب أضعف فكريًّا من أن يتحولوا لذواتٍ دارسة!

وبقدر ما شدّتني مقدمة الكتاب وأمسكت بيدي بحرارة مصافحةً ومرحبة لألِج عالم هذا الكتاب وأتقلب بين صفحاته، فوجئت بانتهاء الكتاب بمبحث الاستغراب نهاية مفاجئة، لا ختام فيها ولا خلاصة ولا توديع، لأجد نفسي بعدها في صفحة قائمة المراجع، كمسافر فُتح له باب الطائرة وقيل انزل، وهو لم يشعر بهبوطها على المدرج!

شارك الصفحة

الخلاصة الاستشراقية: مراجعة لكتاب الدراسات الاستشراقية، مقدمات ومقاربات قراءة المزيد »

عبقرية الكذب: هل كذب كبار الفلاسفة؟

«لم يسرّ أحد قطّ منكرة إلا ظهرت في آثار يده أو فلتات لسانه» أبو جعفر المنصور (ت158هـ)

«كل فلسفة كبيرة لا تعدو أن تكون -حتى يومنا هذا- اعترافًا يدلي به صاحبه» فريدريك نيتشه (ت1900م)

ظهرت في القرن العشرين كتب كثيرة تتناول حيوات الفلاسفة، ودقائق معايشهم الشخصية، وانشغل طائفة من الكتّاب بكشف خطاياهم، وإشهار حماقاتهم، كما فعل بول جونسون في كتابه المعروف (المثقفون Intellectuals) [صدر بالإنجليزية عام 1988م]، وأيضًا نايجل رودجرز وميل ثومبثون في كتابهما (جنون الفلاسفة Philosophers Behaving Badly) [صدر بالإنجليزية عام 2004م]، وكلاهما مترجم إلى العربية. والسمة البارزة في هذين الكتابين “الفضح” والتعرية، والهجاء المكثف، لاسيما وأن في حيوات جملة من الفلاسفة من المخازي ما يغري بذلك، وفي النفوس جواذب دفينة لتتبع ذنوب المشاهير والمبجّلين وقبائحهم، تتعزّى بها وتتعلّل عن سلوك سبل المعالي.

وفي سياق مقارب نشر عام 2015م الفيلسوف الفرنسي فرانسو نودلمان كتابه (عبقرية الكذب Le Génie du mensonge ) وقد صدرت ترجمته مؤخرًا عن دار صفحة سبعة، وهو يتناول “كذب الفلاسفة“، وعُني مؤلفه بطرح تحليل مطوّر لتناقضات حياة بعض الفلاسفة، وعلاقة نظرياتهم المركّبة مع حياتهم الشخصية، وتتبّع خطاباتهم الفلسفية لكشف ممارساتهم النظرية وسعيهم الدؤوب إلى «إعادة تطويع الواقع وتنسيقه».

ولابد لنا أولًا قبل المضي في الحديث أن نبرر هذا الاهتمام بالفلاسفة: لماذا الحديث عن كذب الفلاسفة؟ ولماذا هذا التدقيق والتنقيب عن الخطايا الشخصية لدى هذا الصنف من الناس؟ الجواب يكمن في حقيقة خطرة وجوهرية، وهي أن اللغة الفلسفية والخطابات التجريدية «توهم بوجودها المستقلّ عن الذوات التي شيّدتها»، فهي تشعر الدارس لها بنقاء أسطوري، وأصالة مزعومة، وتكرس قدرًا واسعًا من اشتغالها التأويلي للبرهنة على عموميتها النظرية، وعمق “موضوعيتها” المعرفية، وفي طريقها لاستئصال «المصالح الشخصية من اللغة لكي تقدم ذاتها في صورة الحقيقة الكونية التي لا تحمل اسمًا خاصًا، وعبر الإنكار للدوافع الذاتية التي تستند إليها؛ تشجّع على الكذب»، أي مناقضة حقيقة الذات تحديدًا، ولذا فإن تأمل أفكار الفيلسوف والكاتب ومقارنة توكيداته مع نمط حياته وسلوكه الشخصي وعقده الذاتية يكشف أحيانًا عن ظواهر لافتة تتجلى في صورة تناقض فجّ، أو مفارقة ملحوظة، أو كذب سافر.

يحاول نودلمان أن يتجاوز إغراء الرغبة بالفضح والإدانة والتشهير، إلى تبني مسار التحليل والربط والتعليل، أي إلى تعميق الفهم للأطروحة الفلسفية أو النظرية بوضعها أمام مرآة السلوك الشخصي لمنتجها، لاسيما وأن ما يمكن وصفه بالكذب أو التناقض في أفكار الفيلسوف وسلوكه لا يلزم أن يكون بالضرورة سلوكًا قصديًا واعيًا؛ «فالكذابون لا يعلمون دومًا أنهم يكذبون، لا سيما عندما تنطلي الخديعة على الآخرين، وعليهم هم أنفسهم في الوقت عينه» كما يقول، وهذا يصعّب المهمة في اكتشاف الكذبة التي من هذا النوع؛ لأن «أصعب ما يمكن اكتشافه من الأكاذيب هو الكذب الذي يثيره المرء تجاه نفسه دون أن يدرك بواعثه بوضوح»، وللأسف –كما يقرر أحد النفسانيين- فإن «القدرة البشرية على التخيّل تجعلنا قادرين على الحلم، وعلى صنع عوالم بديلة من وحي خيالنا، وهذا هو المصدر الأساسي لقدرتنا الإبداعية، لكن هذه القدرة الفريدة تأتي مصحوبة بنقيضها، أو الوجه الآخر للعملة: إذ يمكننا أن نخدع أنفسنا، والآخرين، ونتوهم أن الأمور على خلاف الحقيقة التي نعرفها، ونتصرف وفقًا لذلك».

ولاتساع مجال الموضوع اختار نودلمان حفنة قليلة من الفلاسفة الفرنسيين لإخضاع نتاجهم لهذه العملية التحليلية الكاشفة، وبيّن في البداية ملامح الطريقة التي تثير الريبة في خطاب “الكاذب”، والتي يتبعها –بقصد أو بدونه- لتشييد عالم متماسك ومنطقي، وتتمثل -عادةً- في الإلحاح والمبالغة والإعادة والإسهاب والاستفاضة لتأكيد قول “الحقيقة”؛ «فالإصرار، والتكرار، والشرح الذي لا ينتهي للفكرة يصدر عن صراعٍ مستعصٍ، فثمة شيء غير قابل للصياغة إطلاقًا، وهو ينخر في روح المتكلم حتى يبلغ مراتب الهوس»، وهو أيضًا نتيجة «نشاز معيشي في الوقت الحاضر، بل صراع معاصر بين ما يُقال وبين ما يُقصد به»، وليست الغاية هنا تأكيد التناقض بين النظرية الأخلاقية والممارسة المنافقة، بل ما هو أبعد من ذلك، حيث يتجلى الكذب أو النفاق اللاواعي في انبناء النظرية على السلوك بنحوٍ ما، فليست القضية أن الفيلسوف يقول شيئًا بينما يفعل خلافه، بل أن الفيلسوف إنما يقرر نظريته تلك على هذه الكيفية أو تلك؛ لأنه يعيش بصورة تناقضها!، والمؤلف يحاول بذلك تخفيف الإدانة الأخلاقية المتضمنة في الوصم بالكذب، وتغليب الأدوات التحليلية لسبر البنية النفسية المعقدة التي تقف خلف هذا “الكذب”.  

جان جاك روسو

يشير أولًا إلى جان جاك روسو (ت1778م)، وهو هدف مهم وسهل للكثير من الكتّاب في هفوات الفلاسفة، وهو يشتهر بتمجيد الحقيقة، ويكتب مئات الصفحات من “الاعترافات” بالحقيقة، ولأجل خدمتها، ثم يعود بعدها ليكتب كتابًا خاصًا بعنوان (روسو يحاكم روسو) ويدافع فيه بضراوة عن الاتهامات الموجهة ضده، كالسرقة والاحتيال والخلاعة والتجديف، إلا أنه يتجاهل تمامًا حقيقة ساطعة في حياته، وهي خطيئته الكبرى بتخليه عن أولاده الخمسة وتركهم في أحد الملاجئ، ويتعامى عن ذلك ليصف نفسه بالكائن الأخلاقي، بل يطبع على خاتمه عبارته المفضلة للشاعر الروماني جوفينال “نذر حياته في خدمة الحقيقة”.

كيف تصرف روسو حيال هذه المفارقة (من غير قصد واضح ربما)؟ لقد عكف على تصنيف كتاب ضخم بعنوان (إميل أو التربية Émile ou De l’éducation) ونشره عام 1762م يقدّم نفسه من خلاله باعتباره منظرًّا تربويًا، وأبًا مميزًا، وخبيرًا في شؤون الأطفال، وقد واجه الكتاب هجومًا وتهديدات جعلت روسو يهرب إلى سويسرا، ومع هذا الهجوم تصاعد هذيان روسو وهوسه بوجود مؤامرة عالمية ضده، وهو يتوهم أن هذا الهجوم سببه أفكاره حول تربية الأطفال، فيبالغ في الدفاع عن هذه الأفكار، ويصطبغ خطابه في هذا السياق بطابع درامي في الانتصار للحقيقة. كان الوهم المضمر يدفعه للاعتقاد بأن الاعتراف به مربّيًا بارعًا سيمحو تهمته بكونه أبًا فظيعًا، يرمي بلا مبالاة أطفاله الخمسة ولا يعود إليهم أبدًا، «وهكذا فإن الأوهام الذهانية لروسو –المقتنع بأن العالم أجمع ينحي عليه باللائمة بسبب تخلّيه عن أطفاله- تنتهي به إلى وضع بحث تربوي يصوّر نفسه فيه كمربٍ حنون!»، وكما بالغ هنا، بالغ أيضًا في تقديم خطاياه والاعتراف بها؛ «فالإفراط في الاعتراف بذنوبه ما هو إلا وسيلة يحرم بها الآخرين من توجيه اللوم إليه».

ميشيل فوكو
ميشيل فوكو

ننتقل إلى فيلسوف معاصر بارز، وهو ميشيل فوكو (ت1984م)، والذي اشتهر بـ”حفرياته” عن الحقيقة، وفضح بنى السلطة وسياساتها وأنظمتها المعرفية، وقد قدّم عدة محاضرات مهمة في آخر حياته في جامعة بيركلي ثم في الكوليج دو فرانس بعنوان (شجاعة الحقيقة)، وفي هذه المحاضرات –في انعطافة مثيرة للتأمل- انتقل فوكو من تحليل ما يسميه (السياسة الحيويةbiopolitics ) إلى نوع من المقاربة الأخلاقية لضبط الذات ومراقبة النفس، وفحص الحالات المؤسسية التي تستوجب قول الحقيقة، كما في الإقرار القضائي والاعتراف الكنسي، مع الاهتمام بحيوات الفلاسفة وأنماط سلوكهم وعلاقته بأطروحاتهم النظرية.

وفي أثناء تفكيك مفاهيم الشجاعة الفلسفية لا سيما في نموذج سقراط، والذي يعدّ أشهر أنموذج للفلسفة الشجاعة التي تقف شامخة على أعتاب الموت، كما في حديث سقراط قبيل إعدامه، في أثناء حديث فوكو المسهب عن كل ذلك كان فوكو يخفي -بل يكبت بقوة- حقيقة ضخمة ستنهي حياته، وهي أنه كان حينها يعيش آخر أيامه، بعد تأكد إصابته بالإيدز، نتيجة ممارساته الجنسية الشاذة، الممزوجة بالسادية والمازوخية المقززة، وكما يقول دنييل ديفير زميل فوكو فإن الهاجس الذي كان يشغل فوكو حينها هو معرفة كم تبقى له من وقت في هذه الحياة، فقد كان يلقي محاضرته الأخيرة مقدِّمًا «مسرحية فلسفية يؤدي فيها دوره الخاص بطريق الوكالة، وقد كان –في الوقت الذي يشيد فيه بجسارة الحقيقة- يعمل على [إخفاء] سرّه المتعلق بإصابته بالإيدز. لقد أنتج هذا الإنكار إقرارًا مفارقًا، واعترافًا مقنعًا بالخصال المهيبة لفلاسفة العصور الغابرة»، لقد كان «يعيد تجسيد السيناريو السقراطي مناقضًا نيتشه، ولكن من دون التصريح بذلك!».

جان بول سارتر

ويتتبع المؤلف فيلسوف معاصر آخر وهو جان بول سارتر (ت1980م)، من خلال فحص أطروحاته من بدايته الأدبية والروائية وحتى شهرته وتحوله لمنظر ومؤثر في أعقاب الحرب الثانية، حيث تحوّل سارتر إلى اعتناق راديكالية سياسية، بعد مواقف رخوة وأفكار تميل إلى التسوية أثناء الحرب، ليطور بعد ذلك موقفًا أخلاقيًا قويًا عن “التزام” المثقف، أي ضرورة مفارقته للحياد، واعتقاد مبادئ تغييرية للدفاع عن الإنسان وحقوقه، ويفسّر الفيلسوف الفرنسي فلاديمير يانيليفيتش (ت1985م) هذا الانقلاب الواضح بأنه «ينبع من شعور سارتر بالذنب من كونه لم يرتق إلى مستوى المقاومة الحقّة»، فالانخراط في الحراك السياسي ودعم المضطهدين بصوت عالٍ بعد الحرب كان بمثابة الاعتذار. (في اقتباس معروف ينسب لسارتر ولم أجد مصدره، يقول فيه: “كان يُحب أن يُريها لوحات جميلة، وأفلامًا جميلة؛ لأنه لم يَكُن جميلًا، وكان ذلك بمثابة الاعتذار!”).

وهذا الحماس الأخلاقي للالتزام يصل إلى درجة المزايدة أحيانًا كما كتب سارتر في افتتاح مجلته الشهيرة “الأزمنة الحديثة” عام 1948م أنه يعتبر كلًا من فلوبير وغونكور «مسؤولين عن القمع الذي أعقب كومونة باريس [عام 1871م]؛ لأنهما لم يكتبا سطرًا واحدًا يحول دون ارتكابه!». ومع ذلك لم يكن سارتر مخادعًا نفسه طوال الوقت، بل اعترف لسيمون بوفوار في عام 1974م بأنه «يكاد أن يكون منتحلًا لسمعته كمقاوم»، وفي المحصلة نجد أن سارتر –بحسب نولدمان على الأقل- الذي «قضى فترة الحرب دون بطولة تذكر؛ قد أصبح أيقونة الالتزام، مستنكرًا تواطؤ أولئك المفكرين الصامتين أمام ارتكاب المظالم والجرائم»، وهنا تكمن المفارقة، حيث تعكس الأطروحة النظرية تفاعلات نفسية متناقضة تحاول التغلّب على الإخفاقات الذاتية أو محوها أو تجاوزها.

عبقرية الكذب1

كثيرًا ما يصحب اسم سارتر صاحبته المنظرة والأديبة سيمون دي بوفوار (ت1986م)، والتي اشتهرت بكتابتها واحدًا من أشهر النصوص النسوية في القرن العشرين المعنون (الجنس الآخر Le Deuxième Sexe) الصادر عام 1949م، والذي كان من الأدبيات الرئيسية لما يسمى “الموجة النسوية الثانية”، وفيه تناضل بوفوار ضد “الأيديولوجيا” الأبوية والاعتقاد الجندري الذكوري، وترفض الاستسلام للربط بين سمات الجسد العضوية (كالحمل والإنجاب) والوظائف المرتبطة بها، والتي تحجّم من “تحرر” النساء، و”تخضعهن” لاعتقاد مزعوم بطبيعة أنثوية حتمية، في حين أن هذا الاعتقاد ليس سوى دور اجتماعي مصنوع، فـ”المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك” بسبب المجتمع، إلى آخر هذا النوع من الأفكار الأيديولوجية التي تحوّلت إلى كليشيهات شعبية في العقود اللاحقة. ولكن ما مدى تناسق عقيدة بوفوار الجذرية مع سلوكها الفعلي؟ أو ما تأثير حياتها الشخصية في تبلور هذه النظرية؟

بعد وفاة بوفوار بعدة سنوات تكشفت حقائق جديدة، ففي عام 1997م نشر الكاتب الأمريكي نيلسون ألغرين مراسلاته الكثيرة مع بوفوار، والتي تبلغ قرابة 300 رسالة غرامية على مدى 17 عامًا، وتضمنت تناقضًا فجًا مع كل ما تؤمن به بوفوار وما تدافع عنه، ففي أواسط الأربعينات سافرت بوفوار إلى الولايات المتحدة لإلقاء عدة محاضرات جامعية، وهناك التقت بألغرين، ونشأت بينهما صلة غرامية طويلة، نتج عنها هذا الكم من المراسلات، وفي بدايتها تقول له أنها تعبت بعد مجيئها إلى شيكاغو من كثرة النقاشات والجدل النظري، وأنها «تتوق إلى أن يُنظر إليها بوصفها امرأة لا مفكّرة»، وتواصل كتابة رسائل شديدة الحميمية عن ولهها المفرط وعشقها الجارف لهذا الرجل، تكتب له مرةً «إنني راضية بما أعانيه بسببك»، و«أنا أشعر طوال النهار أنك ساكن جسدي وقلبي وروحي. أنا ضفدعتك الصغيرة العاشقة»، ثم يتطور بها الحال فتقول: «ما زالت سعادتي هي في أن أكون بين ذراعيك… لقد قضي الأمر، وقد أسقط في يدي، وعلى أن أتقبّل هذه التبعيّة، وأنا راضية بذلك طالما أنني أحبك!»، في عبارة استسلامية لا تتناسب إطلاقًا مع النزعة الاستقلالية التحررية المعهودة في مرافعاتها النسوية، بل تتعهد لعشيقها بأن تكون «لطيفة للغاية، ومحتشمة للغاية، ومطيعة طاعة المرأة العربية!» (ولنغض الطرف هنا عن هذه اللمحة الاستشراقية)، وتقول: «سوف تراني أنظف المنزل، وأعدّ جميع أنواع الطعام».

يحاول نودلمان تفسير هذا التناقض/الكذب في أفكار وحياة بوفوار (بل إنه وفي أثناء غراميتها المشبوبة كانت تخبر عشيقها عن مشاريعها الكتابية النسوية)، ويرى بأن أطروحتها النظرية هي محاولة للتغلّب على فخّ الغرام الجامح الذي لم تستطع تفاديه، فقد كانت تجازف بفقدان حريتها في تجربة العشق التي تخوضه بضراوة مع ألغرين، ثم تستدرك الأمر بإخضاع التجربة للتحليل العقلي، والمحاكمة الأدبية، والتأويل التاريخي، وهذا ما أفضى إلى تضخّم حجم كتابها “الجنس الآخر” (في الترجمة العربية يقع في جزئين وفي قرابة 800 صفحة)، «فضخامة هذا الكتاب تقف شاهدًا على الصراع النفسي بين التجربة العاطفية، والرغبة في ضبط النفس من خلال الكتابة النظرية» كما يقول نودلمان، فالكتابة في هذه الحالة لا تقصد خداع القرّاء بالأساس، بل تهدف –ربما من غير وعي- إلى خداع الذات والكذب على النفس، لاسيما حين تصف في كتابها “قوة الأشياء” علاقتها بألغرين باعتبارها الطرف المستقل والمسيطر في العلاقة!

عبقرية الكذب

قد يفوت البعض إدراك التأثير الجوهري للصدق في البناء الأخلاقي للإنسان، فليس الصدق مجرد فضيلة أخلاقية، ولا الكذب حماقة هامشية يمكن غضّ النظر عنها، بل الأمر أعظم من ذلك، فالصدق لا سيما بمفهومه الواسع الذي يشمل الصدق في القول بمطابقة الكلام للواقع، والصدق في الاعتقاد بثبوته في القلب، والصدق في الأفعال بإتمامها على وجهها؛ كفيل بتغيير مجمل حالة الفرد الأخلاقية، وهو أعظم الطرق الموصلة إلى كمال الصلاح والخير والفضيلة، كما قال صلى الله عليه وسلم (إنّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ)، ومن جرّب تحرّي الصدق التام في جميع ملفوظه صَغُر أو كُبَر؛ لابد وأن تصدق أفعاله، وتستقيم له جوارحه، بل تصلح له سائر أحواله.

فإن قلت: وكيف يكون ذلك؟ فيقال قد أجاب عن ذلك الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ) رحمه الله، فذكر أن آثار تحرّي الصدق في سائر العمل تتبيّن من وجوه، (وإن كان بعضها أوضح من بعض):

الوجه الأول أن الارتباط بين أقسام الصدق (صدق اللسان والقلب والجوارح) وثيق وعميق، ويعود إلى أصل واحد، بل «يكاد من التزم بعضها أن لا يفارق الآخر»، فصدق اللسان فرع عن صدق القلب، وصدق الجوارح فرع عن صدق اللسان، وإذا نظرت في دوافع الكذب والتي تتمحور –بحسب بعض الباحثين المعاصرين- حول أربعة دوافع أساسية: الأول لتحقيق المصالح، الثاني لتجنب العقاب، الثالث لتفادي الاحراج، الرابع لتقديم انطباع حسن لدى الآخرين، فسترى أنها تتولد عن تعظيم أمر الخلق، وتطلّب الجاه فيهم، وضعف لحْظ مراد الخالق، ومراعاة يوم الحساب، فعاد ضعف تصديق القلب على الجوارح بالنقص والخلل، ولو كمل صدق القلب لما عَظُم في نفس المرء كلام الناس وأنظارهم. 

والوجه الثاني: «أن التزام الصدق يحمل على الوفاء بالعقود والعهود والوعود في معاملة الناس؛ فتجري أعمال المرء مع غيره على سداد واستقامة».

والوجه الثالث –وهو معنى لطيف-: «أن الملتزم للصدق يُمسك نفسه عن أعمال السوء مخافة أن يُسأل عنها فيصدق فيجرّ على نفسه سوءًا أو يكذب، وهو لا يرضى مواقعة الكذب فتجري أعماله على البر سالمة من الفجور، والملتزم للكذب الضاري عليه يرتكب العظائم، ولا يبالي أن ينفي عن نفسه كاذبًا»، وقد سبقه إلى هذا المعنى الإمام ابن العربي (ت543هـ) رحمه الله فقال: «الصدق هو الأصل الذي يهدي إلى البر كله؛ لأن الإنسان إذا تحرّاه لم يعصِ أبدًا، لأنه إذا أراد أن يسرق، أو يزني، أو يؤذي أحدًا خاف أن يقال له “زنيت أو سرقت”، فإن سكت جرّ الريبة إليه، وإن قال: لا؛ كذب، وإن قال نعم، فسق، وسقطت منزلته، وذهبت حرمته». وقد لاحظ الإمام أبوعبدالله الحليمي (ت403هـ) رحمه الله أن خصال النفاق المذكورة في حديث (علامات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) «إذا تؤمّلت كان مرجعها جميعًا إلى الكذب»، فأصل النفاق بُني على الكذب، كما روي عن الحسن.

وأزيد وجهًا رابعًا حاصله أن تحرّي الصدق حسنة جليلة، والحسنة تجرّ أختها، ولأجل ذلك يقع تتابع الحسنات في عمل القلب وسائر الجوارح؛ فـ«الاعتياد بكل خصلة حسنة يجرّ إلى غيرها، كما أن الاعتياد بالقليل من شيء يجرّ إلى كثيره»، كما أشار بعض الشُرّاح.

أما الكذب فهو يفسد النفس، ويوجب اضطراب الذات، ويورث فيها العلل، ولذا يعوّل المعالج النفسي جوردن بيترسون على الصدق في تحقيق الحياة الطيبة والسواء الداخلي للفرد، ويحلل المنزلق الذي ينتظر الكاذب، فيفضي به إلى أبعد بكثير مما يظن، يقول: «‎أولًا، يكذب المرء كذبة صغيرة؛ ثم يتبعها بعدد من الكذبات الصغيرة التي تدعمها. وبعد ذلك، يأتي دور التفكير المشوّه الذي يهدف إلى تجنّب الشعور بالخزي الناتج عن تلك الكذبات، ثم يضيف بعض الكذبات لتغطية تبعات التفكير المشوّه. ثم يحدث أفظع ما في الأمر كله؛ وهو تحوّل تلك الكذبات -التي صارت ضرورية الآن- من خلال الممارسة؛ إلى اعتقاد وفعل تلقائيين، منهجيين، موجهين عصبيًا على مستوى “اللاوعي” لتحقيق غرض محدد. وبعد ذلك، تُخفق التجربة المقززة ذاتها كفعل عماده الزيف في تحقيق النتائج المنشودة… ثم يأتي دور الغطرسة والشعور بالفوقية اللذين يصاحبان حتمًا إنتاج كذبات ناجحة؛ وأخيرًا، تأتي هذه الفرضية: “الكينونة ذاتها عرضة لألاعيبي؛ لذا فهي غير جديرة بالاحترام”»، وهذه الآلية المتتابعة صيغة من صيغ الدوامة النفسية التي يقع فيها الكاذب، وهناك مسارات أخرى أكثر تعقيدًا، وكلها تكشف عن دور الكذب في تشويه صورة الواقع، الواقع الخارجي، ثم واقع الذات، ومن ثمّ الاصطدام الدامي مع حقائق الوجود، التي لا تتغير بالاختلاق والمخادعة، فإنكارك الشفهي لوجود الحائط لا يهدمه، وفي آخر المطاف لا يبقى للكاذب إلا المرارة الحتمية الناجمة عن فشله الدائم في تشويه وجه الحقيقة.

شارك الصفحة

عبقرية الكذب: هل كذب كبار الفلاسفة؟ قراءة المزيد »