عروبة القهوة: مراجعة لكتاب ديوان القهوة ومقدمته الجليلة

Picture of حسان بن إبراهيم الغامدي
حسان بن إبراهيم الغامدي

باحث في الثقافة الإسلامية

ما عاد للتاريخ قصة وحيدة يكررها علينا المؤرخون من كتاب لآخر، فالحدث الواحد قد نراه من زاوية الدراما السياسية، أو الحكاية الاجتماعية، أو حتى من منظور الأشياء الجامدة من حولنا، مثل البحار، والغابات، والمقابر، والطرق، وحبوب القهوة!

تتسابق دور النشر لإصدار كتب عن القهوة، سواء كانت كتبًا بحثية أو قصصية، وسواء كانت لمؤلفين عربًا أو مترجمة عن لغات أجنبية. فالقهوة بضاعة رائجة، في كوب أنيق أو على سطر صفحة من كتاب.

ولئن كانت أكثر هذه الكتب تكرر كلامًا معتادًا عن تاريخ اكتشاف البُنّ في أفريقيا واليمن، أو حكايات تحريم القهوة أول أمرها، أو قصص المقاهي الأوروبية وعلاقتها بنشأة المجال العام، فإن لكتاب “ديوان القهوة” الصادر عن دار صوفيا أواخر عام ٢٠٢٢م جديدًا من القول في موضوع قديم.

يضمّ الكتاب منظومات وأراجيز وموشحات ومقطعات شعرية ابتداء من القرن التاسع الهجري، كتبها أصحابها في خضم الجدل الفقهي حول الموقف من القهوة، حققها الأستاذ ماجد الأهدل، الذي كشف بتحقيقه هذا عن تمكن من آلة التحقيق والتعامل مع المخطوطات، وعلق في حواشيها بما يعين القارئ على استيعابها، من معاني الكلمات، أو بعض السياقات الفقهية والتاريخية التي توضح المعنى، مع اختصار وإرشاد للمراجع والمصادر.

 كما أضاف في أول الكتاب “مقدمة جليلة في تاريخ القهوة”، تكشف عن السياق العربي الكامل لنشأة وتطور شراب القهوة في كافة أشكاله، استنطق خلالها المجموع الشعري، وأجال النظر في كتب التواريخ والتراجم والطبقات والمشيخات والأثبات، وتتبع بالنقد والتمحيص أقوال من سبقه في تاريخ القهوة، كل ذلك في لسان فصيح وماتع.

وقهوةً مزّةً راووقها خَضِلُ.

قد لا يصدق المرء أن نشأة القهوة كانت في ظرف روحاني، فهي وإن استخدمت حبوبها في أرض الحبشة بصورة محدودة، إلا أنها لم تتحول إلى مشروب وتنتشر وتشتهر وتتنوع طرق استخدامها إلا بعد اكتشافها أول القرن التاسع الهجري على يد الشيخ علي بن عمر الشاذلي (ت٨٢٨هـ)، وكان شيخًا صوفيًا تتلمذ على علماء مصر والحجاز، واستقر في قرية المخا باليمن، وقد وجد في بعض دوابه نشاطًا غريبًا، فتتبع مرعاها ووجدها تأكل من شجرة البن، فأخذ بعض ثمر الشجرة وهي حبوب البن، وجربها مقلية ومطبوخة، فإذا بها تمنحه نشاطًا ومزاجًا فريدًا، فاستطابها ودلّ مريديه عليها، لتعينهم في سهرهم على العبادة والذكر، وانتشرت في أوساط الصوفية بمشارق الأرض ومغاربها.

كانت لهذه النشأة الصوفية أثر في اختراع أقوال أسطورية عن نشأة القهوة، تتبعها مؤلف الكتاب بالرصد والنقض، مثل كون مكتشفها من بعض الأنبياء عليهم السلام، أو أنها من شجر الجنة، وقد بقيت آثار هذه النشأة في بعض المظاهر، مثل تسمية القهوة بـ”الشاذلية” أو عُد اكتشاف القهوة من كرامات الشيخ الشاذلي كما جاء في قصيدة مُدح بها:

كم كراماتٍ له باهرةٍ   ليس يُحصي عَدّها من عَلِمَا

إن من أشهرها بئر المخا   حيثُ لا ينقص منها النّزحُ ما

ثمّ منها قهوةُ البنّ التي   نورها اللّماعُ يجلو الظُلَمَا

سِرّها في كلّ قُطرٍ قد سرى حيثُ عمّ العُربَ ثمّ العَجَمَا

لكن كيف يُسمي الصوفيون هذا الشراب الذي أحبوه “قهوةً”، وهو اسم الخمر كما هو معلوم في اللسان العربي القديم، فقد قال الشاعر الجاهلي الأعشى قاصدًا الخمر:

نازعتُهُم قُضُبَ الرّيحانِ مُتكئًا   وقهوةً مُزّةً راووقها خَضِلُ

وقد قال بعضهم إن تسميتها قهوةً كاسم الخمر سببه أنها تُشبع شاربها وتمنعه شهوة الطعام، لكن في إحدى الموشحات التي ضمها الكتاب، والتي قيلت في مديح الشيخ أبي بكر العيدروس أحد مشايخ الصوفية، تسبيبًا ظريفًا لتسميتها قهوة موافقة للخمر:

من خِدرها العيدروس أبرزها

وللندامى الكِرام أبرزها

وبالمعاني الحسان طرّزها

وهيّمَ القومَ عندما وَضَعَا   لها اسمَ راحٍ ونِعمَ ما صنعا  فَعلا

فتاوى القهوة.

لم يمتد الطور الصوفي لشرب القهوة كثيرًا، فسرعان ما تعرفت عليها فئات اجتماعية كثيرة، وربما وجدوا فيها شرابًا ملائمًا لجلسات الأُنس والسمر، ففي وصف بعض الأماكن التي تُشرب فيها القهوة بمكة المكرمة أنها تُشبه “الخمّارات”، ويجتمع فيها الرجال بالنساء، وتُستعمل بها الأدوات الموسيقية، ويُلعب فيها بالشطرنج وبعض الألعاب الأخرى، حتى لاحظ بعض المسؤلين ذلك، فجمع علماء وأطباء وأصدروا فتوى بتحريمها عام ٩١٧هـ.

من المعتاد في الكتب المعاصرة لتاريخ القهوة أن تتوقف طويلًا عند فتوى تحريمها، وابتُذل الكلام في الدلالات الفكرية لتلك الفتوى، من الخوف من المستجدات، إلى سيطرة ذهنية التحريم، وهو ما حجب عنا واقع الجدل الفقهي والاجتماعي الذي أفرزته فتاوى التحريم، والذي يتضمن دلالات بديعة عن قوة المجتمعات، وعن كفاءة الجماعة العلمية في التعامل مع هذا الشراب المستحدث، وهي تنقل لنا صورةً مختلفةً عن استقبال الفتاوى الرسمية قبل العصر الحديث، وكيف تعامل معها عموم الناس.

أتاح ماجد الأهدل بسرده البانورامي لفتاوى التحريم أن نتعرف على قصة حياة كل فتوى منها، والتي انتهت بتأثيرها المؤقت والمحدود، وموتها آخر الأمر. ففتوى التحريم بمكة المكرمة انتهت بعد مرسوم سلطاني يمنع المنكرات التي كانت تحدث أثناء شرب القهوة لا ذات القهوة، وكانت المراسيم نفسها محدودة الأثر في أهل مكة الذين كانوا يعاملونها كـ”بهارج سلطانية” كما يقول الأهدل، بل ينقل عن ابن حجر الهيتمي قوله في حاملي هذه المراسم أنهم كانوا يشربون القهوة بعد قراءة المرسوم على الأهالي! وفي مصر التي حدثت بها فتنة كبيرة بسبب فتوى التحريم المتعجلة، بقي جدل الفتوى نخبويًا بين الفقهاء والوعاظ، بينما كان الناس مستمرين في تناولها، بعد أن ضعف أصحاب الشرطة من ملاحقتهم ومنعهم. أما في الشام فقد دارت بها مناظرة بين رأس المحرمين ورأس المبيحين، والتي انتهت بظهور الإباحة على التحريم، ونظم القصائد في محاسنها ونقد من يحرمها. وفي اسطنبول مركز الدولة، تحايل الناس على قرار منعها بفتح المقاهي في الشوارع الخلفية بعد الاتفاق مع أصحاب الشرطة الذين كانوا من زبائنها، وسرعان ما أقبل العلماء والأمراء وبقية الناس على شربها في هذه المقاهي.

coffee

كابتشينو وفلات وايت وكولد برو.

لا تتوقف حسنات فتوى تحريم القهوة على ما أنتجته من ألوان القصائد والموشحات والمنظومات، أو ما أثارته من ألوان الاستدلال والاستنباط في خضم الجدل بين المبيحين والمحرمين، ولكنها امتدت إلى إبداع ألوان من الوصفات والمنكهات والإضافات على مشروب القهوة.

فلئن كان السبب الأول لتحريم القهوة هو ما يصاحبها من أشكال اللهو المحرم، فإن السبب الثاني متعلق بنظرية طبية شاعت في ذلك الوقت، وهي نظرية قديمة شاعت عن “أبقراط”، تقول بأن خصائص الأشياء جميعًا أربعة: اليُبس والبرودة والرطوبة والحرارة، وأن الصحة هي في التوازن والاعتدال بين هذه الخصائص، وأن المرض يكون في اختلالها وطغيان بعضها على بعض.

يتتبع ماجد الأهدل أثر هذه النظرية في تحريم القهوة، فهي في نظر بعض محرميها تؤدي إلى تأثر هذا التوازن واختلاله، مما جعل بعضهم يقترح خروجًا من الخلاف الفقهي إضافة بعض العناصر التي تمنع من تأثيرها المضر، مثل العسل والسكر والهيل والقرنفل والزنجبيل، فكما يقول المؤلف: “والذي أستريح له في تفسير تعدد هذه الوصفات، أن مبدأ هذه الإضافات والمطيبات هو الطب، وابتداء أمر الإضافات إنما كان بدايةً للخروج من الخلاف في إضرار القهوة المزعوم، ثمّ وافق هذا التعديل هوى وشهوة في الذوق، فاستفحل أمر الإضافات حتى نُسيت العلة الأولى لها، وغدت الإضافات قائمة على الاستحباب والإلف والذوق، حتى صارت هذه الإضافات مفارز لتصنيف الوصفات على حسب البلدان”.

واستنادًا إلى مجموعة المنظومات والقصائد والموشحات والأراجيز والمقطّعات، يكشف الأهدل عن نضج مشروب القهوة في بيئتها العربية، سواء من حيث تحميصها، أو تحليتها بالسكر، أو شربها سوداء، أو إضافة الحليب لها وسائر المنكهات، أو حتى شربها بالثلج! فقائمة المشروبات التي تجدها في كل مقهى، مثل الكابتشينو والفلات وايت والبلاك والكولد برو، إنما هو ابتكار عربي خالص، وذلك قبل معرفة الأوروبيين لشراب القهوة بمئتي سنة تقريبًا.

وقد يمتنع القارئ غير المهتم بالتفاصيل الفقهية عن قراءة المنظومات التي جمعها الديوان، وهي وإن كانت منظومات وقصائد نبعت من الجدل الشرعي حول القهوة، إلا أنها نقلت لنا صورًا متعددةً من تقاليد شرب القهوة وإهدائها، ووضع آداب معينة في تناولها وتقديمها للآخرين، وهي تقاليدٌ وآداب ما زالت حيةً إلى يوم الناس هذا.

شارك الصفحة

التعليقات

المزيد من مُراجعــات الكُتب