Author name: nadiim

أن تُفرغ الحياة من المعنى: مراجعة لكتاب مجتمع الاحتراق النفسي

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“تضع ذات – الإنجاز نفسها تحت قهر ذاتها من أجل مضاعفة الأداء. وبهذه الطريقة تستغل نفسها بنفسها، ويصبح الاستغلال التلقائي أكثر فعالية من الاستغلال الغيريِّ، لأنَّ هناك شعوراً زائفاً بالحرية يُصاحبه. يغدو المُستغِل هو المُستغَل في وقت واحد. إن استغلال اليوم يحدث الآن دون هيمنة خارجية، وهذا ما يجعله فعَّالاً للغاية. حيث يتحوَّل النظام الرأسمالي من الاستغلال الغيري إلى الاستغلال التلقائي من أجل الإسراع والمضاعفة داخل عملية الإنتاج. وانطلاقاً من الحُرية المتناقضة التي تتمتع بها، فإنَّ ذوات الإنجاز هي في الوقت ذاته الجاني والضحية، السيد والعبد. وبالمثل تغدو الحرية الوجه الآخر للعنف. إن ذات – الإنجاز التي تُدرك نفسها كما لو كانت مالكة لأمرها، تتحول إلى ذات مُذنبة. فسيادة مجتمع الإنجاز تخلق، في الوقت ذاته، الشخص المُستباح دمه الخاص بها. وعبر هذا المنطق المفارق، لا تزال فكرتا السيادة والمستباح دمه يولِّد بعضهما البعض داخل مُجتمع الإنجاز”

بيونغ شول هان

 مُجتمع الاحتراق النفسي – بيونغ شول هان \ ترجمة بدر الدين مصطفى

 

يتكون كتاب “مجتمع الاحتراق النفسي” لبيونغ شول هان من مقالات قصيرة، وهو كتاب صادر عن دار معنى وبترجمة بدر الدين مصطفى، يدور حول الاحتراق النفسي الذي يتعرَّض إليه المرء في مجتمع اليوم، مُجتمع الإنجاز، مُحلِّلاً بعض جوانب هذا المفهوم، واقفاً على بعض ملامحه ومُسبباته وأعراضه، ومُقارناً إياه بالمجتمع التأديبي (أو المناعيِّ) السابق له.

يتحدث الكاتب في البداية عن طبيعة المُجتمع المناعي الذي يُعد فيه الآخر دخيلاً على الذات، فتُهاجمه الأنا كما يهاجم النظام المناعي الجراثيم الدخيلة بعدِّها آخراً غريباً عن الجسم، ويشير الكاتب إلى أنَّ الإنسان في المجتمع المناعي اتخذ موقف السلب من الآخر، مدركاً حدود نفسه، عالماً بغيرية الآخر واختلافه عنه، فيكون هجومه عليه عنيفاً أو طيِّباً (بمعنى الإقبال عليه للتعلم منه)، غير أنَّ المُجتمع بعد العولمة جعل الآخر جزءاً من تضخم ذات المرء، وفي حين أكَّدت الذات نفسها في المجتمع المناعي عبر نفي الآخر وإدراك اختلافه، فإن الذات في المجتمع ما بعد الحداثي تعيش إيجابية فاعلة ومُتضخمة تتمثل في رؤية النفس دائماً في ملامح الآخر.

ومن هنا، وبعد أن تمثل العنف التاريخي في النفي المتواصل للآخر بعدِّه غريباً، فإن العنف اليوم فيروسيٌّ لأنه كامن في النفس ويؤذيها بتضخمها وابتلاعها المجتمع والآخر، وإدراك العالم من حولها على أنه عناصر من تكوينها، يمكن دائماً التغلب عليه. وبتحوُّل المجتمع اليوم إلى تقديس الإنجاز وعدِّه معياراً لتأكيد الذات ووجودها، تحوَّلت معاناة الإنسان من استحالة الفعل في السابق إلى الإمكانية المفتوحة في الحاضر، وهي غير مفتوحة فحسب، بل تضمُّ خيارات عديدة تُرهق المرء وتُتعبه وتلقي بالملامة عليه عند فشله، فلا يلتفت إلى الصورة الكاملة التي تضم عناصر مُهمة أخرى كالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكانتفاء وجود الآخر إلى جانبه، فيرتدُّ المرء إلى نفسه خائباً سواءً فشل في إنجاز ما يريد، أو نجح في ذلك وراح يبحث عن إرادة أخرى لتلبيتها.

غير أنَّ الميل الكبير إلى تأكيد الذات عبر الإنجاز ينتهي بسأم المرء من نفسه والوقوع في الاكتئاب، فالإنسان يربط الحُرية عندئذٍ بالنشاط الإيجابي للفعل، أي بكثرة الأفعال والإنجازات والأعمال، ويغدو مفهومه عن الراحة والتأمل والتفكير والتمهل مشوَّهاً بعدسة الحاضر، والتي لا تقدِّر أية عناصر إنسانية لا تُفضي إلى ربح المؤسسات المُهيمنة.

لقد فرض علينا نظام اليوم صفات غير إنسانية، كالمهام المتعددة التي تنحدر بالإنسان إلى مستوى الحيوانية البرية، وتُعيده قلقاً على وجوده وأمانه، ومُضطراً لتعدد المهام لضمان بقائه على قيد الحياة. غير أنَّ الإنسان ارتقى عن الحيوانات بالتأمل والتفكر والتفلسف والخلق والإبداع، وهذه العناصر تحتاج التمهل والبطء والإنجاز المحدود والفعل الذي يسبقه التروي. إنَّ استبعاد المكوِّن التأملي من المرء في مجتمعه يندر به ويسلبه القدرة على الفهم والنقد والتفلسف ورؤية الجمال وإدراك حقائق الأمور، فيسهل خداعه وإدهاشه وجذبه وتطويعه وتحويله إلى دُمية طيِّعة.

تُفرغ الحياة من معناها في مجتمع الإنجاز رغم هرولة الجميع من أجل عيشها، غير أن مفهوم عيشها على أكمل وجه يتطلب إدراك الحاجة النفسية إلى عناصر إنسانية تلائم النفس ولا تقهرها، وهذه لا يلقي لها النظام أية أهمية، فهي غير مُربحة له وتناقض النموذج البشري الذي يريد خلقه، أي الإنسان الفاعل والإيجابي والعامل والسريع ومتعدد المهام والذي لا يرى قيمة لنفسه إلا بتضخم إنجازاته المادية والملموسة، والتي لا يكون راضياً عنها أبداً.

إثر ذلك، يكون الغضب هو رد الفعل الطبيعي تجاه محاولات النظام انتزاع العنصر الإنساني من البشر، غير أن حِيل النظام تظهر في امتصاص هذا الغضب وتحويله إلى إجراءٍ وتطبيق البيروقراطية أو المبادئ التسليعية عليه، فتجعله سلعة مُربحة وتنزع منه أثره وتطوِّعه للعجلة المالية.

كلُّ ذلك يخلق مُجتمع التعب المستمر من الوجود، والذي قارنه بيتر هاندكه بتعب الإنسان السلبي الأصيل، والذي يكون نتاج فكر تأمل وإنجازٍ في محله، فالتعب إثر استنزاف النفس لا يشبه التعب إثر عملية فكرية خلَّاقة يحفظ فيها المرء لنفسه قيمة فكرية وأدبية وفلسفية عظيمة، لا يمكن أن تمسَّها أيدي النظام أو تؤثر فيها، إنه تعب مُلهم للنفس على عكس التعب الوجودي اليوم، الذي يلوم النفس باستمرار على عدم تلبيتها الكثير من الصور غير الملائمة لها في الأصل.

يُفضي ذلك كله إلى استغراق الذات في نفسها وجعلها نرجسية لا تدرك بِم تُلبى حاجاتها الأكثر أهمية، فلا ترى أهمية للمجتمع في الذات ولا تدرك أثر الآخر عليها ولا حاجتها إلى النظام الأخلاقي الذي يساعدها على التطور والتحسن لتحقيق تجربة وجودية أكثر ثراءً وقوة، فتُصاب النفس بالاحتراق النفسي والاكتئاب: “إنَّ ذات – الإنجاز المُكتئبة والمُنهكة، تطحن نفسها، إن جاز التعبير. إنها مُتعبة، مكدودة في نفسها، وفي حالة حربٍ مع نفسها”، وتكون الأنا في العالم الرقمي مُستغرقة في النرجسية وتستهلك نفسها في العرض، كما ينتفي شعورها بالآخر وإحساسها بضرورته على أرض الواقع.

وإثر تحول المجتمع التأديبي إلى مجتمع الإنجاز، تختفي الأنا العليا التي كانت تقهر النفس وتمنع عنها وتمارس عليها الحظر والتقييد، وتحل محلها الأنا المثالية التي تُغري النفس بتلبية الحاجات، فتتوهم فيها الذات الحُرية منزوعة القيود، غير أنها تربط الحرية معها بالفعل المستمر والإنجاز الذي لا ينتهي، فتترافق الحرية مع العنف إذ تستغل الذات نفسها ظانَّة أنها مُتحررة، ومن هنا يقارنها الكاتب بالفرد المستباح دمه والمهدور في مجتمعه، والعاجز عن ضمان شيء لنفسه يقيه أثر ضغوط الحياة عليه، وهكذا يظل المرء راكضاً في سباق الفئران، لا يهدأ ولا يتوقف، من أجل “عيش حياته” التي لا يفهم شروطها، متناسياً الحاجة النفسية للتمهل والتفكير، فيصير كالميِّت الحَي، على قيد الحياة إلى درجة الموت، وميِّت لأقصى درجة من أجل الحياة.

شارك الصفحة

أن تُفرغ الحياة من المعنى: مراجعة لكتاب مجتمع الاحتراق النفسي قراءة المزيد »

حقيبة السفر أم حقيبة المصير!

حقيبة السفر ام حقيبة المصير

بعد إفطار خفيف في مطعم وسط فيينا (مايو 2024)، التقطتْ عيني شيئاً مألوفاً لطالما شاهدناه جميعاً مئات المرات، بيد أن عقلي هذه المرة شرع في تفسيره بطريقة غير مألوفة. هذا الشيء هو: جرجرة حقائب السفر للقادمين أو للراحلين، خاصة أنني كنتُ أسكن في منطقة مكتنزة بـ النُزل وغاصة بـ الدرج، التي يعرج عليها أو ينزل منها: السائرون إلى حيث يسكنون أو يرتحلون؛ فإلى أي شيء يذهب هذا التفسير؟!

في تلك اللحظة، اختفت هذه الحقائب فجأة، فلم أعد أراها، واختفى جارُّوها فلم أعد أشاهدهم، وانقلبت هذه الصور إلى رموز جعلتْ تتكاثر في وجداني، ومنها الآتي:

  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمر”، فنحن في الحقيقة لا نجرجر أشياءنا، بل نجرجر أيامنا، يوماً بعد آخر؛ صوب محطته الموالية: الموت. هنا، يبدو اليوم كأنه قطعة ملابس سنحشرها في حقيبة سفرنا، ولذا فلا مفر من أن نبادر بتنظيف يومنا وتهيئته للسفر. هذا يومئ إلى حقيقة أن أيامنا تتسخ من جراء ولوغنا في الحياة، ومن الأوساخ ما يحتاج إلى مطهرات قوية ومكلفة، ومنها ما تكفيه الغسلةُ السريعةُ، ولو كانت بماء بارد!
  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمل”. هنا، يبدو العمل كأنه شيء ضروري سيجد مكانه لا محالة في سفرنا، وهو ما يوجب كونه عملاً صالحاً طيباً، إذ لا يليق أن نضع في حقيبة سفرنا السيء أو الفاسد، أو حتى التافه الذي لا قيمة له، بما في ذلك الملابس المتكررة، التي تعود غالباً دون أن نرتديها!
  • “حقيبة السفر” هي على الحقيقة “حقيبة المصير”. تخيل أنك تعد مصيرك كما تعد حقيبة سفرك. إنه المصير أيها السادة والسيدات، لا مجرد محطة عابرة في سفر عابر! إن الشخصية ليست سوى مشروعِ مصيرٍ قيد التحقق. ليس لأحد أن يعهد بمصيره لغيره! لئن كانت الشخصية دالاً ممتلئاً، فإن مدلولها فارغ، وداخل مركب الامتلاء والفراغ تتخلق “كينونةُ المصير”. الشخصية ليست قِرَاناً اعتباطياً بمصير لم يسعَ الإنسان بطواعية إليه، وإنما هي مصير مُتخيّل مُشتهى، سواء كان نبيلاً أو منحطاً.
  • حقائب السفر تتنوع، فمنها الثمين ومنها الرخيص، ومنها الجميل الذي يؤشر على أناقة أصحابها، فلا تحوي إذ ذاك من المتاع إلا أطيبه وأنفسه، على أن الناس يختلفون في المقاصد، فمنهم من يزين حقائبه من أجل الظفر بنظرات الإعجاب، ومنهم من يكون معجوناً بجمال جواني يتغذى على: إن الله جميل يحب الجمال. وبعض الحقائب قبيح في تصميمه، ومنتن في رائحته، ومنفر في شكله.
  • بعض الحقائب صغير لا يكاد يتوفر إلا على “الأساسيات”، بل لا لعله لا يفي ببعضها، وقد يكون مع ذلك مكسوراً فتسقط أمتعة دونما شعور، وبعضها يكون كبيراً وممتداً ومتماسكاً، فيتسع من ثمَّ للأركان وروافدها الدقيقة والجليلة. وبعضها يتوفر على جيوب إضافية، وربما كانت خفية لا يعملها إلا صاحبها، وقد تكون محكمة بقفل منيع!
  • بعض الحقائب ذو عجلات تسهِّل دفعها، ولو كانت الحقائب كبيرة ثقيلة، وبعضها يتوفر على مقبض علوي متين، يمكِّن صاحبها من التحكم بها ودفعها باتجاهات متعددة بحسب الحاجة. وبعضها يفتقر لمثل هذا كله، مما يجعل صاحبها يواجه عنتاً في حملها أو دفعها، وقد يتخفف من بعض أشيائها ولو رماها في سلة المهملات أو على قارعة الطريق، بل قد يتركها ويمضي دونما حقيبة حتى يدرك الرحلة، ويا لها من رحلة!
  • بعض الحقائب مميز بلون أو تصميم أو شكل، وهو ما يسمح بسرعة التقاطه من “سير الأعمال”، فكيف إذا كانت الحقيبة مميزة وفاخرة ومرنة؟ وبعض الحقائب رتيب مكرور يُقعد صاحبَه وقتاً أطول، وقد يجسُّ حقيبة بعد حقيبة ظاناً أنها حقيبته، فإذا عاين الاسم أدرك أنها لغيره، وقد يستل أحدهم حقيبة صاحبنا بالخطأ ويذهب بها، ولا يكون ثمة قدرة على التواصل فتضيع منه ويكمل الرحلة بعنت، وقد يجد أنه قد طُوِّح بحقيبته خارج السير، لأن أحداً التقطها بالخطأ ولم يعدها إليه مرة أخرى، وقد لا يشاهدها بسبب انزوائها خلف شيء ما، متوهماً أنها سُرقت، فيغدو بلا حقيبة هذه المرة أيضاً!

سأكتفي بهذه المشاهد الخاطفة، تاركاً قدراً من الفراغ في النص، لكي يملأه القارئ بمداد خياله. ولعلي ألتفتُ اِلتفاتة سريعة صوب هذا السؤال: لماذا تغيب عنا تفسيراتٌ معمقةٌ في حالات مألوفة؟ ثمة جواب مكثف، ويكمن في الألفة ذاتها، فالألفة حجاب، حيث تحجب عنا شمس التصورات والتفسيرات الجديدة، وذلك أن عَود الظاهرة كرة بعد أخرى، يُوهم أنه ليس ثمة جديد أو جدير بالتأمل، وهنا نقع في الفخ، المتمثل في “بلادة الألفة”. ولهذا وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن “غيمة الألفة”. حينها، سيجد نفسه خارج الأسوار، محلِّقاً في فضاءات رحيبة، ومحدِّقاً في تفاصيل صغيرة، ولعله إذ ذاك أن يصل إلى شفرات ذات بال، ويفك رموزاً ذات قيمة تفسيرية لظاهرة أو أخرى. وأختم بالقول: إن التأمل قراءة للمألوف بحواس مرهفة، وعقل محلِّق محدِّق. وتحلو بذلك جرجرةُ أيامنا صوب مصيرنا، الذي نعده كما نعد حقائب سفرنا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الترك تسلمنا إلى منهج حياة واعية وفلسفة عميقة تخلق فينا شعورًا صافيًا نقيا.
إن النص الملهم هو الذي يشهد ميلاد قارئ أفضل!
فضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول.

حقيبة السفر أم حقيبة المصير! قراءة المزيد »

التأمل في كلِّ أمر: مراجعة لكتاب مرآة الأفكار لميشيل تورنييه

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

مرآة الأفكار لميشيل تورنييه، كتابٌ من التأملات الفلسفية الجميلة، أبرز فيه الكاتب معنى أن يكون للمرء نظرة فلسفية لوجوده وصيرورته عبر الزمكان، وقدرة على استكناه طبائع الأمور وحقائقها عبر اللغة والمجاز، كان لبعض التشبيهات والمستويات المجازية غرابةٌ لذيذة استوقفتني عدة مرات، إنه من الكتب المُرهقة للعقل، لتنقله بين شتى المواضيع والأفكار، لذلك فإنه يُقرأ على مهل، هناك قيمة عظيمة ينطوي عليها، لا تكمن فقط في مادته، بل في أثره اللاحق على قارئه.

من الأفكار التي ناقشها الكاتب، دور الضحك في الحفاظ على المجتمع طرياً، غير متصلِّب تجاه معتقداته، إذ يمنع عنه التحوُّل الآلي، بينما يكون البكاء اعترافاً بالاستسلام أمام العناصر الحتمية في العالم، كما ناقش التغيرات التي تصيب المرء إثر انتقاله من براءة الطفولة إلى عنفوان المراهقة وتمرُّدها، مشيراً إلى أنها تغيرات محفوفة بالمخاطر دائماً، تورث في النفس كآبة وضيقاً يحتاج الوقت للتبدُّد، جديرٌ بالذكر أن رواية “الحارس في حقل الشوفان” كانت من أبرز الأعمال التي جسدت هذا العنفوان والضيق والتمرُّد الذي يكتسبه المرء في مراهقته.

وتحدث تورنييه عن الصداقة المعتمدة على التقدير المتبادل، مقابل الحُب الذي يمكن أن يظهر من طرفٍ واحد، فيُعمي صاحبه عن عيوب غيره وعمَّا يضرُّ نفسه، ويُعبِّر عن ذلك بقوله أنَّ الحب مشاعر متطرفة تقتات على النفس وتورثها الألم لأنه نتاج شعورٍ بانعدام المساواة في الأصل، في حين تنشأ الصداقة بين طرفين متساويين:

“الصداقة يقتلها الاحتقار. بينما حُمَّى الحبِّ قد تجعل العاشق لا مبالياً تجاه الحماقة، والجُبن، والدَّناءة التي يُبديها المعشوق. لا مبالياً؟ لا .. بل إنه أحياناً يتغذَّى، كالشره والجائع، على أشنع ما في المعشوق من عيوب. لأنَّ الحُبَّ يُمكن أن يكون قمَّاماً”.

والحيوانات القمّامة التي يقصدها هي تلك التي تقتات على الجيف وما يخلفه غيرها من الحيوانات. ويستعمل المؤلف لفظ coprophage التي تُشير إلى أكَلَة البراز.

كما ناقش مواضيع عديدة مُسقطاً الأفكار والتصورات الإنسانية على مجموعة من العلاقات التي تربط بين مفاهيم وموجودات ومخلوقات عديدة، كمناقشته العلاقة والاختلاف بين الكلاب والقطط، بين الثيران والبقر، بين الاستحمام تحت الدوش والاستحمام في الحوض، وما ينطوي عليه ذلك من دلالات فلسفية ونفسية وسياسية، كأن يشير الدوش إلى الرغبة التطهيرية واليسار السياسي المؤمن بالتغيير والتطور والتقدم والنقد، والاستحمام في الحوض إلى الرغبة في الإبقاء على الأمور كما هي عليه، كما في اليمين السياسي المتحفظ، والمؤمن بالحاضر وحماية المصالح وتحقيق الاستقرار.

وطالت تأملاته مرض الطبيعة الذي ينخر فيها باستمرار: أي الإنسان، والإسقاطات الفلسفية لطبائع المدن الحديثة المُصممة للتنقل السريع لا للتأمل والاستقرار والتمتع بمكان الإنسان في الطبيعة، كما أحببتُ مقابلته بين الماء والنار، في أن الأخيرة رمز الروح الإنسانية المشتعلة والمتطلعة، والأولى رمز ظروف الحياة القاهرة والباردة والبليدة: “الحياة تأتي من الماء، لكنَّ النار هي الحياة نفسها، بحرارتها ونورها وأيضاً بهشاشتها .. ’في الحرب بين النار والماء، دائماً ما تخسر النار‘. متشائم، نعم، لأنَّ النار تشير هنا إلى الحماسة، والروح الشابة، والجرأة، بينما يشير الماء إلى القهر الذي تمارسه علينا الحياة الواقعية”.

كما استطاع الكاتب التكهن بمنظور المؤرخ والجغرافيِّ للزمان، في أنَّ الزمان عند الأول تتالٍ لأحداث كارثية أليمة، محورها الحروب والشر المطلق، بينما عند الثاني يكون الزمان مجزأ تبعاً للفصول، حاضراً على الدوام، يمتزج بتفاؤلٍ إنسانيٍّ يؤمن بالتغيير. وتناول الكاتب الراحة الفكرية في الاعتقاد والإيمان، والتي يعدُّها المؤمن مكافأة على حسن تفكيره، في مقابل القلق الفلسفي المتمثل في الشك والأسئلة الدائرة والمحنة التي تصيب المرء إذ يُبتلى بها، وتفلسَفَ حول الفرح، ذلك الشعور الإنساني الذي يرافق فعل الإنسان الخلَّاق والإبداعيَّ، والذي يحمله على الشروع والبدء والفعل، في مقابل المتعة التي تهدم وتستهلك وتنقضي سريعاً وتكون خالية من العنصر الإنساني الأصيل، مشيراً إلى أن العلاقات الحميمية بين الجنسين تحمل بعضاً من الفرح والمتعة في آن، ذاك أنها تنطوي على العنصر الخلَّاق في إنشاء علاقة وثيقة مع الآخر، نتجه عبرها إليه ونستثمر فيه ونؤمن به.

أعجبني كذلك ما ورد حول الكتابة مقابل الكلام، فتورنييه يشير إلى أن الكتابة هي فعل الصمت الاختياري، يمارسه المرء في وحدته ويعبر أثره الزمان والمكان، في حين أنَّ الكلام ينطوي على انفعال شعوري وجداني في إفهام الآخر والتواجد حوله والعناية به، ينتهي ذكره في وقت قريب، من هنا كانت الكتابة المرحلة التالية لتعلم الإنسان الكلام، بما ينطوي عليه من أبعاد اجتماعية.

أحببتُ كذلك ما تفلسف به الكاتب حول اللون الرمادي، في كونه لون العالم الأصل قبل اعتداء الألوان على الأشياء وحجب براءة العالم عنا، وأعجِبت بحديثه عن “الكيف” في مقابل “الكم”، وطريقة الطبيعة الكيفية في مقاومة طريقة الإنساني الكمية، وتمكُّنها من الحفاظ على عنصر مبهم لها تنطوي عليه، به تتميز وتوجد وتبتعد عن الإنسان ووعيه، كما كان لحديثه حول واقعية الطبيعة التي تروِّض الإنسان الأهوج ومثاليته أهمية كبيرة في تبيان الحقيقة التبدُّلية التي تقوم عليها الحياة، أي التنسيب -إضفاء الطابع النسبي على الأشياء- في الطبيعة مقابل المُطلق الذي يبحث عنه الإنسان ليتشبَّه به ويتمثَّل فيه. وكان لحديثه حول الإنسان الذي يتملكه هاجس الموت والعدم أثر كبير في تبيان معنى الغثيان لدى سارتر، أي بكونه عالمٌ مُستقل يحيط بالإنسان فيوجد فيه ويصبغه بصبغته، ليدرك الوجود بصورة باهتة وفاترة، تستدعي الإنسان الفاعل لإحداث الفرق فيها، وتختبر صبره على نفسه أثناء ذلك.

ومن برغسون الذي آمن بأن الإنسان هو الذاكرة، إلى الحديث عن الثقافة والحضارة في كونهما متضادتين، ترفض إحداهما الأخرى وتنفيها، إذ تنطوي الأولى على النقد والعنصر الإنساني الفاعل، والثانية على تقدم خالٍ من رؤية واضحة وناجعة، ومن جمالية الرمز في مقابل الصورة، وقدرة اللغة على خلق جماليات تخصها وحدها للتعبير عن المعنى، في ارتباطها الشديد بالإنسان الفاعل ذي المعنى الأصل والتصور الفريد، إلى مفهوم الفاعلية الإنسانية المُقتبسة من الرب والمتجسدة في الانفعال المصاحب للفعل، والذي رأى فيه سبينوزا عنصراً إلهياً يُنبئ عن علاقة وطيدة بين الإنسان والرب، تمكَّن الكاتب من تبيان العديد من آرائه ووجهات نظره، والوقوف على بعض المعاني المُهمة التي تجعل عالم القارئ من بعده أكثر ثراءً وعمقاً، وتجربته الوجودية أكثر حقيقة وقرباً من جوهره.

إنَّه كتابٌ بديع في الحقيقة.

شارك الصفحة

التأمل في كلِّ أمر: مراجعة لكتاب مرآة الأفكار لميشيل تورنييه قراءة المزيد »

فلسفة الجنون

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

من الكتب التي ترجمتُها مؤخراً، كتابٌ بعنوان “”فلسفة الجنون: تجربة التفكير الذهاني”. يقع في أكثر من ثمانمئة صفحة، وصدرت ترجمته عام 2022 عن دار ملهمون في الإمارات. مؤلِّفه هو ووتر كوستر، كاتب ومؤلف هولندي، خاض نوبات ذهانية عديدة كان أشدها عندما شُخص بالذهان عام 1987 وعام 2007، وهو في الأصل عالم لغويات وفيلسوف.

في كتابه فلسفة الجنون، يوضح الكاتب طبيعة التجربة الذهانية التي يخوضها المرء، ويقف على العناصر الكثيرة المشتركة بينها وبين التفلسف والتصوف، لذلك فإنه يقتبس من الذهانيين ومن المتصوفين والفلاسفة، ويتحدث عن تجاربهم المتشابهة والملامح التي يختبرونها فيها. غير أنه يريد الإثبات أن التجربة الذهانية تعني القدرة على الوصول إلى ما يسعى الفيلسوف والمتصوف للوصول إليه، أي سر الوجود، المبدأ الأصل، جوهر الحياة، أو أياً كانت تسميته، الفارق الوحيد هو أن الذهاني يعيش ما يسعى إليه المتصوف والفيلسوف، ويقصد بذلك التجربة الذهانية التي تُمكن المرء من إدراك ذلك المبدأ الأصل، وليست التي تهبط به في أمراض جنون العظمة، والهلوسات، والتيه الوجودي والارتياب. وبعبارة أخرى، فإن الكاتب يريد إرشاد هذه الفئات الثلاث في المسارات التي يتبعونها من أجل الوقوف على المبدأ الأول والأصل للوجود.

جديرٌ بالقول أن قراءتي للكتاب ومراجعتي له وحديثي عنه مرهون بنظرتي إليه، فكل قراءة للنص مختلفة من حيث الفقرات التي يتم التركيز عليها والطريقة التي يُفهم عبرها، لذلك أقدم هنا قراءتي حسب منظوري الخاص للكتاب، والذي جذبني في المقام الأول وأمتعني في ترجمته وقراءته.

يُقارب الكاتب بين الفلسفة والجنون بصورة تدمج بينهما وتبحث في العديد من أوجه التشابه، وذلك عبر أربعة أجزاء طويلة جعلها تُمثل العناصر الأربعة التي اعتُقد قديماً أن العالم مُتشكل بوساطتها (التراب والمياه والهواء والنيران). تتخلل هذه الفصول فقرات طويلة ومتوزعة على طول الكتاب، معنونة بالملاحق والفواصل، تحدث فيها الكاتب عن تجربته الذهانية، ما اختبر فيها وما شعره وأحسَّ به، وكيف تمَّ التعامل معه في المصحات، وعن رؤيته المختلفة ومنظوره لفهم العالم ضمن سيناريو مُحكم ودقيق، ويمكن للقارئ الذي يجد صعوبة في فهم موضوع الكتاب قراءة هذه الملاحق والفواصل، وقراءة العديد من تجارب الذهانيين والفلاسفة والمتصوفة والمتوزعة في صفحات الكتاب، لاستكناه الطبيعة اللافتة للتجارب التي حاول الكتاب الربط بينها والإشارة إلى مواضع التشابه العديدة.

في الجزء الأول، والمعنون “التمعن“، يتحدث الكاتب عن الكيفية التي يختبر بها البشر العالم من حولهم عبر حواسهم وإدراكهم الحسي، وعن ابتعادهم عنه عن الفلسفة أو العلم أو الفن أو الجنون، حيث تعني واقعية الشيء وجوده المُستقل عنا، وكلما انخفضت واقعية التجربة التي عشناها فإننا نختبر زيادة في تصوراتنا الذاتية، غير أن المجنون لا يرى العالم باعتبار واقعيته بشكل طبيعي، بل يراه تارة بواقعية مُفرطة وتارة أخرى بواقعية معدومة، وهو يتنقل بين هذين المنظورين بصورة مُستمرة، فالواقعية المُفرطة أن يرى الذهاني عالمه مجموعة من المسلمات والبديهيات والأحداث الحتمية التي ترتبط ببعضها البعض ضمن علاقة سببية تشير إلى وجود خطة عامة لهذا العالم، أو مؤامرة متقنة تجمع العناصر سوية، ويكون البشر عندئذٍ مؤدين لأدوارهم الحتمية وكأنهم دمى في عالم كُتب السيناريو له مسبقاً، بينما تكون الواقعية المعدومة منطوية على شكوكٍ عديدة متعلقة برؤية المجنون إلى محيطه وعالمه، حيث لا يكون على يقينٍ من أي شيء وتراوده الأسئلة حول حقيقة ما يعيشه وواقعية تجاربه والأحداث من حوله، ولا يكون أكيداً حول أية قوانين طبيعية أو حتمية تحكم عالمه، أما اللغة فلا تعني فيها الكلمات ما تعنيه إلا مصادفة، بل إن العالم واللغة يبحثان عن بعضهما البعض من دون أن يلتقيا.

كما تختلط رؤية الذهاني إلى عالمه فتارة يفيض خارجه على داخله وتارة يفيض داخله إلى خارجه، فنجده معتقداً بأن العالم نتاج تصوره عنه، وأن كل ما يحيط به نتاج فكره وتصوراته وأفكاره، أو نجد كل ما يحيطه يتمحور حوله بطريقة أو أخرى، حيث يكون العالم الخارجي متوجهاً إليه ومختلطاً بذهنه وتصوراته، كأن تكون ابتسامة المذيعة في إحدى نشرات الأخبار رسالة مشفرة تحاول فيها أن تنبِّهه إلى أمر ما، ويمكن أن يعيش في عالمٍ يعتقد فيه أن كل أفكاره ألهِمت إليه من مصدر خارجي ما ينتظر أن يكشف عنه.

ويضطرب مفهوم الذهاني للزمان من حوله، يبدأ الكاتب حديثه عن ذلك بمقولة لأوغسطين: “ما الزمان إذن؟ إنني أعرفه طالما أن أحداً لم يسألني، ولكن عندما أهمُّ بالشرح عنه لمن يسأل، أجد نفسي عاجزاً عن ذلك”. ورغم أن هذه مشكلة نظرية للفيلسوف، فإنها تُمثل مشكلة حقيقية في حياة المجنون، وتتسبب له بإرباك شديد. يملك البشر العاديون زماناً داخلياً أو إيقاعاً في أذهانهم لمضي الأيام والأشهر والسنوات، ويختبرون الزمان الخارجي عنهم على أنه مجموعة من الأرقام والفترات المختلفة، ويعيشون بتصورٍ زماني يجمع بين إيقاعهم الداخلي ونظيره الخارجي، غير أن الذهاني يفتقر إلى هذا التزامن أو التوافق بين الإيقاعين، فهو لا يرى الزمان خطياً مثلاً وبمفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل بل يختبره كحاضر أبدي لا ينتهي، يجمع عناصر الماضي وتصورات المستقبل والتجربة المعيشة سوية في إطار لا ينتهي ويظل مستمراً وأبدياً. لذلك تكون متعته بالوجود مكثفة للغاية، ولكن كذلك حزنه عندما يصيبه يكون مكثفاً وشديداً ويمكنه اختباره في أي وقت، ما يجعله في حالة مزاجية شديدة التقلب.

أما المكان فيختبره العاديون ضمن صورتين، الخلفية والمقدمة، فعندما ندخل مكاناً أو ننظر لما حولنا فإننا نكون منتبهين بالضرورة إلى شيء بعينه بينما تظل بقية عناصر المكان حاضرة أمامنا وضمن منظورنا، ولكننا لا ننظر إليها بصورة مباشرة إلا إن اختبرنا فيها تغيراً، فتظل في الخلفية، ولكن الذهاني لا خلفية لديه بل يتمثل المكان بعناصره جميعاً في نظره، فينشغل بكل عناصره وتفاصيله وكل ما يتبدى له، ولا يتمكن من إلقاء أي شيء إلى خلفية ما تفترض بديهية وجود هذا الشيء، كما أنه يرى العالم من حوله مجزأ بصورة كبيرة، حيث يملك كل عنصر وشيء تميزه في ذاته من دون الحاجة إلى سياقه، فلا ترتبط الموجودات في عينه، بل يمكن أن ينظر إلى العصفور وزقزقته وكأنهما شيئين منفصلين. وقد يختبر الصور التي تعد ثنائية الأبعاد على أنها ثلاثية الأبعاد، ويختبر عالمنا ثلاثي الأبعاد على أنه ثنائي الأبعاد، بما ينطوي عليه ذلك من تعميق أو تسطيح للرؤية. وعندما يشاهد التلفاز فإنه لا يضع اعتباراً للمسافات المكانية ويشعر بأن عالم التلفاز حاضر هنا والآن في مكانه، ولإدراكه الشديد بتميز المكان فإن تنقله بين مكانين مختلفين، كأن يخرج من منزله إلى المقهى، يعني انتقاله بين عالمين لكل منهما قوانينه وعناصره المميزة وإمكاناته المختلفة، وفيما نرى نحن العالم بالضوء الطبيعي أي الشمس، فإن المتصوف يراه بالضوء الأبيض الذي يُعلي الوحدة بين العناصر على مميزاتها، والذهاني يراه بالضوء الأسود الذي تتميز فيه العناصر كلُّ بما يفرقها عن غيرها.

وفي الجزء الثاني، المعنون: “التصوف الذهاني“، يبحث الكاتب في العديد من التجارب الصوفية التي يشترك بها المتصوف مع المجنون أو الذهاني في الاعتماد على المجاز للشرح والتفسير والتحدث، ويتحدث عن اختلاف التجربة الصوفية عن الذهانية للمنظور الذي يمكن للمرء النظر عبره إليهما، فإن كان المرء متديناً سيعدها تجربة صوفية للعناصر الدينية فيها، وإن لم يكن كذلك فسيعدها تجربة ذهانية تشير إليه بوجود مختلف عنه. ويتحدث الكاتب عن أربعة طرق يمكن للمرء عبرها فهم هذه التجربة المشتركة بينهما:

  1. الانفصال عن الواقع: أي أن يفصل المرء نفسه عن كل ما يتعلق بالواقع المحيط به من قوانين وقواعد وبديهيات ومسلمات، وتخلصه من المخاوف الدنيوية والتوقعات والعلاقات التي تربطه بعالمه، فاستقباله الحقيقة الخفية يحتاج روحاً خفيفة غير مثقلة بما يتعلق بالعالم الدنيوي، مثل تجارب النسبية الشديدة.
  2. التحرر الخيالي: أي أن يتحرر الذهاني أو المتصوف من الهلوسات والتصورات والرؤى المتعلقة بعالمه، وهو الشعور بالواحد والاقتراب منه بعيداً عن أية هلوسات تخص العالم المادي، فالواحد غير موصوف ولا يتجسد ولا يرى، وعلى الذهاني أن يقاوم هذه الهلوسات وأن يدعها تمر عبره ولا تؤثر عليه.
  3. التحرر اللغوي: أي انفصال الذهاني عن اللغة كذلك والقوانين التي تحكمها والسياقية التي تسمها، وأن يفصل بينها وبين دلالتها، ولأن اللغة وجدت للتعبير عن الواقع فإن الذهاني والمتصوف يعجزان عن التعبير عن تجاربهما عبرها إلا باعتبار المجاز الذي يقترب من وصف ما مرا به ولكنه لا يصفه بالتمام، فتكون لغتهما عفوية وتلقائية وتعكس اللحظة الحاضرة وخالية من المعاني المحتمة عليها، حيث يشعر السامع أنه وسط عاصفة لغوية وانفجار في الكلمات والمعاني، فتتوسع دلالات الكلمات وتعود اللغة إلى نقطة الصفر حيث لا تحتكم لأية قواعد زمانية ولا مكانية ولا سياقية، بل تحتكم إلى المصدر الخالي من الزمان والمشير أبداً إلى الأبدية.
  4. التحرر الفكري: أي التحرر من التفكير المفاهيمي أو الاستطرادي أو المنطقي، وأن يندمج المرء مع الفكرة التي يفكر بها ويصبحان جوهراً واحداً بدلاً من الفصل بينهما، وأن يحقق المرء وجوداً له خارج منظومة المعارف والمفاهيم المتعارف عليها، وأن يرتفع عن عالمه الفكري ليصل إلى وحدة وجودية مع المحيط يجعل العالم من حوله يبدو متجدداً في كل مرة.

وفي الجزء الثالث بعنوان “ضباب خفيف“، يتحدث الكاتب عن أربع حالات مشتركة بين التصوف والجنون:

  1. التوهم بالواحد: الذي تحدث فيه عن الجنون الصوفي في توهم أفلوطين حول الواحد، والذي عدَّه جوهر كل شيء والأصل الذي انبثق منه وجود الأشياء جميعاً، ويتحدث عن الواحد في انفصاله عن الزمان والمكان وعن وجوده الخالد والتجريدي الذي لا يمكن وصفه.
  2. التوهم بالكينونة: حيث يرى المتصوف والمجنون العالم بموجوداته التي تحتفظ بما يميزها، فيبدو العالم مجموعة من الأشياء التي يُشع وجودها من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى علاقات تربطها بغيرها، ويعيش الذهاني عندئذٍ كينونة مكثفة تظهر فيها تجاربه وخبراته متعاظمة الأهمية، وتكون لغته جامعة لتفاصيل عديدة دون التركيز على موضوع واحد، وقد نختبر ذلك نحن على أنه انعدام التركيز على موضوع بعينه في حين أنه تركيز مكثف على كل شيء.
  3. التوهم باللانهاية: حيث يختبر المتصوف والمجنون اللانهاية كتجربة معيشة في الزمان والمكان والوجود والفكر، فتمتد في نظرهما العناصر جميعاً ويصبح الحاضر زماناً غير منتهٍ، فتندمج الأضداد ويختبرون اللانهاية في أدق المشاعر كالخوف والمتعة والحب.
  4. التوهم باللاوجود: أي أن يختبر الذهاني اللاوجود أصلاً بدلاً من الوجود، فلا يعود أكيداً من حقيقة وجوده أو وجود العالم من حوله، بل يكتنف الغموض كل ما يحيط به، ويشير الكاتب إلى فلسفة هيدجر في ضرورة الالتفات إلى اللاوجود بين الحين والآخر لزعزعة مسلماتنا حول الوجود وحتميته المفترضة.

وفي الجزء الرابع “حمى بلورية“، يتحدث الكاتب عن التجربة الجنونية في التناقض والقداسة والخطة التي يتبعها العالم، ففي نقاط الالتقاء بين الفلسفة والجنون، تحدث عن المفارقات التي يراها شيلينج بين التفكير والوجود، وتجربة إلياد الصوفية واقترابه من الفلسفة الهندية في اليوغا، ومذكرات الفيلسوف دانيال شريبر في المصحة العقلية، والتي بينت امتزاج فلسفته بالجنون وتجاربه الذهانية، ومحاولته حل التناقض العالمي بين الأضداد المختلفة، كالوجود واللاوجود.

 تحدث الكاتب عن مفهوم المقدس لدى البشر، والذي يجعلهم يخلعون المعاني والقيم على الأشياء، ووافق تشارلز تايلور في أن الإنسان الحديث نزع هذه القداسة عن العالم وأضفاها على نفسه بحيث أصبح هو المعيار الأصل، واتسمت أفكاره بالأهمية ومكانته بالقدسية، غير أن الإنسان إذ نزع عن عالمه القداسة وأرساها على نفسه فقد ارتكب خطأ جعله يقع في حيرة تجاه هذا العالم، كيف يفهمه ويدركه ويتصوره ويقيِّمه،  لذلك نجد تايلور ينادي بإعادة دور المقدس في العلاج النفسي لتمكين المريض من فهم العالم بالصورة التي هو عليه، وينتقد الكاتب الصورة الحديثة للجنون في أنه مرض يتطلب علاجاً بدلاً من حالة وجودية فريدة تحتاج الإرشاد للوصول إلى المبدأ الأصل في الوجود.

ويتحدث الكاتب عن مفهوم الخطة الجنونية التي يملكها الذهاني في نفسه، فيرى العالم أشبه بالفيلم السينمائي أو المؤامرة، كل شيء فيه حتمي ومخطط له وظهر لسببٍ ما، وهناك سردية تحكم كل تفصيلة يعيشها، يكون الزمان أفقياً والمكان ذا عوالم متعددة لا تعني فيه المسافات شيئاً، ويبدو العالم في نظره خطة محكمة لخداعه وإخفاء حقيقة مُهمة ما، فالأحداث تلعب دوراً في الحبكة الرئيسية والشخصيات مجرد دمى ناطقة ذات وجود حتمي في القصة، كأفلام “Truman Show” و”Shutter Island” و”Inland Impire” و”The Matrix”. لهذا يشعر الذهاني أن أفعاله وكلماته تؤثر على محيطه بصورة مباشرة ومتعاظمة.

وفي النهاية، يستعين الكاتب بمجاز العناصر الأربعة التي تُشكل الكون، حيث يرتفع المرء عن الأرض ويخوض في دوامة هوائية تسمو به عالياً ودوامة مائية تجعله يغوص في أعماق البحار نحو وجود جديد، لينتهي إلى النيران التي تسوي كل شيء وتجعله متشابهاً ومكرراً، وتبقي على التكرار الوحيد المتمثل على شكل دورانٍ يخلق التناقض المفضي إلى الوحدة التي تستهلكه ثم ينفيه في آن ويخلقه من جديد. هو موقد الحياة المتجدد باستمرار.

يُعد الكتاب مرناً وسهلاً رغم مادته الطويلة والجادة، ويظل طرحه في الإطار الفينومينولوجي للوصف والتحقق، ورغم ذلك فإنَّ قراءة واحدة قد لا تكفيه، فهناك العديد من المفاهيم والتصورات التي حاول الكاتب تقديمها بصورة جيدة، غير أن على ذهن القارئ أن يكون مستعداً لاستقبالها، ولعلَّ ذلك يتحقق في قراءة بعض الكتب الخاصة بالذهان والتجارب الصوفية، والوقوف على حياة وفلسفة أهم الفلاسفة الذين شخصوا بالذهان فيما بعد.

شارك الصفحة

فلسفة الجنون قراءة المزيد »

الصمت ودلالته البيانية

الصمت ودلالته البيانية

الحمدُ لله الذي جعل دلائل صنعته في كل شيءٍ ناطقة، والصّلاة والسّلام على من كان نطقه وحيًا، وصمته برهانًا، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعد:

    فقد كان للصّمتِ في الموروثِ العربيّ حضورٌ بارزٌ، بوصفِهِ قسيمَ النطق في عملية التُّـواصل، فإذا كان النطق هو الوسيلة الإيجابية في الكشفِ عن المعاني فإن الصّمتَ وإن كان فعلاً سلبيًا يتحقّقُ بتركِ الكلام أو تعمُّدِ السّكوت، إلا أنه يحسُن عندما يقع موقعه المناسِب من الحديث، ولأجلِ المزايا البيانيّـة للصّمت والتي قاربت مزايا النطق وطاولتها، ذهبَ كثيرٌ من العلماء إلى المفاضلةِ بينهما في الأثرِ البياني، وأصبحَ لكلِّ منهما أنصارٌ ومؤيدون، فقال أنصار الصّمت:”إذا كان الكلام من فضةٍ فالسكوت من ذهبٍ”، كما قالوا:”الندمُ على الصّمتِ خيرٌ من الندمِ على القولِ” وقال أنصار الكلام كيف يكون الصّمت أنفع والإيثار له أفضل، ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمُّ ويخصُّ، وَالرواة لمْ يرووا سكوتَ الصّامتين كما رووا كلام الناطقين، وبالكلام أرسلَ اللهُ أنبياءه لا بالصّمت، ومواضع الصّمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة وطول الصّمت يفسدُ البيان.

     تحدثَ علماء اللُّغة والبلاغة القدامى عن مصطلحِ الصّمت ببلاغتِهِ وكثافةِ بيانِهِ المَحسُوس وقد اصطلحوا عليهِ بـ”الحذف”، ونظروا إليهِ نظرةَ إجلال لأهميتهِ في البلاغةِ والإيجازِ على وجهِ التحديد.

     وقدْ عُرِّفت البلاغة عِندما سُئِلَ بعضهم عنها بأنّها:“الإيجازُ من غيرِ عجزٍ”، ونقل لنا الجاحظُ في كتابهِ (البيان والتبيين) قولَ ابن المُقفّع الّذي عدَّ السّكوت والاستماع أوّل وُجوه المعانيّ التي تَجري بها البلاغة. إذْ يقول:”البلاغةُ اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكونُ في السكوتِ، ومنها ما يكون في الاستماعِ ومنها ما يكون في الإشارةِ،…”.

     إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز يمنحُهُ الضياء ويكشفُ له آفاق عالمه الداخليّ بصورةٍ أبعد وأصدق.  الصّمتُ يحفظُ على المرءِ انفعالاته عندما يرى من الآخرين ما يذهله ويطرقه، يحفظُ عليه ما يُعانيه من آلامٍ لا يستشعرها غيره مهما تفوّه بها أو وصف.

     فَتأمّل صمت يوسف -عليه السّلام- في قولِهِ تعالى: ﴿فأسَرَّها يوسفُ في نفسِهِ﴾ هذه الجملة تحكي كيفَ عالجَ عليه السلام سُوء ما رُميَ بهِ، بل إنّها تصوّرُ مدى تحمُّلهِ ألم التهمةِ البشعة التي وُجهت إليهِ: ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ لمْ يجد لكلامِهِ جدوى في الوقت الذي ضاق فيه صدره، لمْ يجد إلاّ الصّمت والإسرار. صمْتٌ يدفعُ الشخص العادي للانتصار والدفاع عن النّفس لكن يوسف -عليه السلام- آثر الصّمت، آثر الانتظار، آثر العُزوف عن الكلام في أمورٍ لا يُمكن لأيِّ حديثٍ أنْ يكشفَ زيفها أو يُجلِّي تهافتها.

“وقد تَنطِقُ الأشياءُ وهيَ صوامتُ” – المعرِّي.

      إنَّ كثيرًا من الدلالات غير اللّفظية يُمكنُ أنْ تندرجَ في إطـارِ الصّمت ولو على سبيل المجازِ والتوسعِ، فلغة الإشارة مثلاً من الوسائل الدلالية القديمة والسابقة للفظِ المنطوق عند أصحاب النظريات اللّغوية، وأيضًا دلالة الحال، ولُغة الجسد والإيحاء وغير ذلك، يقولُ الجاحظ :”…وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد؛ أولها اللّفظ، ثم الإشارة، ثم العقدُ، ثم الخطُّ، ثم الحالُ؛ وتسمّى نِصْبَة، والنِّصْبَةُ هي: الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات”.

      والدلالةُ غير اللفظية كلغةِ الإشارة، ودلالة الحال أو النِّصبة-كما سماها الجاحظ- تُعدُّ وسيلة للتعبير في حالة صمْت اللِّسان. وهُنا نذكرُ مريمَ -عليها السّلام- لمَّا أتت بابنها تحمله، ما كان منها إلا أنْ لجأت إلى الإشارة، بعد ما نذرتْ أن تصومَ عن الكلام كما أمرها الله، ولو كانت إشارتها خرقًا لقواعد الصّمت لحنثتْ، ولكنَّ ذلك لم يَكُن.

    إنَّ لُغة الجسد والإشارة المُعبرة وغيرها قرائــنٌ تؤدي عن المُتكلم كثيرًا من الرسائل التي لا يسعها الكلام، فهي أبلغُ وأوقعُ في القلب من كلِّ حديثٍ وأبينُ من كلِّ كلامٍ!

قالَ الشّاعر عن إشارات العين:

“أشارَت بِطَرفِ العَينِ خَشيَةَ أَهلِـها    إِشــارَةَ مَحزونٍ وَلَــم تَتَكَلَّمِ

فَأَيقَنتُ أَنَّ الطَـــرفَ قَـــد قــالَ مَرحَبًا    وَأَهــلاً وَسَهلاً بِالحَبيبِ المُتَيَّمِ”

     إنَّ كلامَ السكوت هذا يعرِّفه من مرَّ بتجربةِ عشقٍ صادقة كالتي أنطقت الشعراء والأدباء بتلك الكلمات العذبة الرقراقة، إنها لُغة ذات أحرف مخصُوصة، أحرف نورانية تتسعُ لِما لا تتسع له الأحرف الملفوظة، فإذا كانت قلة الألفاظ بلاغةً، فإن لغةَ الصّمت في بعض المواقف أبلغ من كلِّ وجـازةٍ، وأفصح من كلِّ إبانةٍ.

     لقد لهج كثيرٌ من الشعراء والأدباء بهذا المعنى، فالرَّافعيُّ ونزار كانت لهم فلسفةٌ خاصة في الصّمتِ، فيرون أنّهُ وسيلة أقـرب من الكلام إلى أفئِدةِ العاشقين، يقولُ الرّافعي في ذلك: “تتكلمُ ساكتةً وأردُّ عليها بسكوتي، صمتٌ ضائعٌ كالعبثِ، ولكنْ له في القلبين عملُ كلامٍ طويل…”

     ويقولُ قبّاني:”هل تسمعين أشواقي عندما أكون صامتًا؟ إنَّ الصَّمتَ يا سيدتي هو أقوى أسلحتي. هل شعرتِ بروعة الأشياء التي أقولها عندما لا أقول شيئًا؟”

الصمت ودلالته البيانيه 1

       وللصمتِ دلالات أُخرى تتعلق بالأحوالِ النّفسية، فمقام “الهيبة” من المقاماتِ الداعية إلى الصّمتِ، كأن يكون المُهيب على قدرٍ من الهيمنة والعظمة، فكلّما تعالى السلطان وتعاظم القدر، وازداد الجاه، كان الصّمت هو الترجمانُ لِما يختلجُ في النفوسِ ويتراءَى للأوهامِ، وقد صَور لنا القرآنُ الكريم هذا المقام تصويرًا دقيقًا في قولهِ تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ [طه: 108] أي وسكنت أصوات الخلائق للرحمن، فلا تسمع إلا حسن الأقدام إلى المحشر. وقيل:”الهمسُ هو: الصوتُ الخفيّ الّذي يوجد لتحريك الشفتين، يقال: همسَ فلان إلى فلان بحديثٍ، إذا أسره إليه وأخفاه، ففي هذا الموقف تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، ويستولي سلطان الحقيقة على الحضور فيسود الصّمت، حتى يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى”.

وقد أجاد الفرزدق تصوير دلالة الصّمت في هذا المقام، فقال مادحًا زين العابدين:

“يُغضي حياء، ويُغضى من مهابتــه        فَمَـــــــا يُكَلِّــــــــمُ إِلَّا حِــــــــينَ يَبْتَســـمُ”

     جعلَ الفرزدق ممدوحَه مهيبًا في حال إغضائه، وهذا من أبلغ الوصف؛ لأنّه إذا كان مهيبًا في إغضائه فكيفَ به إذا توجَّه بناظريه إلى مَنْ يُخاطبه؟

      استطاعَ الفرزدق نقل إحساسه بجلال المعنى، استطاعَ مداخلة النفوس ولو على سبيل الفــرض والتخييل، الناسُ أمام هذا المهيب صامتون، منتظرون إشارة طمأنة، تبسمه هو باعثُ الاطمئنان في قلوبِ المخاطبين، هو فكاك ألسنتهم، هو طـلاقة أفكارهم وهُـدُوِّ نُفوسهم.

      ومن المقامات النفسية الداعية إلى الصّمت “مقام التأدب” كالإنصات إلى حديثٍ ذي خطر؛ قال الله تعالى في نعت تواصي الجنّ بعضهم لبعض عند شهود الرسول -صلى الله عليه وسلم –﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: 29]. 

      والصّمتُ في كلِّ ما سبق محمود مُرتضى حَسَن، ومنه ما يكون مذمومًا سمجًا، كصمتِ العجزِ والعيِّ؛ وذلك لأنهم يجعلون العجز والعيّ من الخرق سواء كان في الجوارحِ أم في الألسنة، قال أحيحة بن الجلاح:

“وَالصَمتُ خَيرٌ لِلفَتى     ما لَم يَكُن عيٌّ يَشينُهُ”

     وهناك صمتٌ عارضٌ يتخلّل الحديث لأمرٍ ما؛ كالنسيان أو شرود الذهن أو الرهبة ونحو ذلك، وهو ما أطلقوا عليه ( الإرتاج ) ومنه قولهم:قد أُرْتِـجَ عليه: إذا أغلق عليه ما يُريد من الكلام، فلم يَدرِ ما يقول، وللعرب في ذلك حكايات طريفة، منها لما أتى يزيد بن أبي سفيان الشامَ واليًا لأبي بكر -رضي الله عنه- خطب، فأُرْتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله، فأُرْتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله، ثم أُرْتِج عليه، فقال: “يا أهل الشام، عسى الله أن يجعلَ من بعد عُسْرِ يُسْرًا، ومن بعد عيٍّ بيانا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل، ثم نزل. فبلغ ذلك عمرو ابن العاص فاستحسنه”.

     وصَعَد ثابت قُطنةَ منبرًا بسجستان فحمد الله، ثمّ أُرتِج عليه، فنزل وهو يقولُ:

“فـإِلّا أَكُن فيكُم خَطيبًا فَإِنَّني      بِسَيفي إِذا جَدَّ الوَغى لَخَطيبُ”

فقيلَ له: “لو قلتها على المنبرِ كنت أخطبَ الناس”.

     أما الصّمت الذي يتعلق ببلاغةِ النّظم، فهو قلادة الجِيدِ وقاعدة التجويد عند البلاغيين، وهو صمت عن أجزاء مخصوصة من الكلام، يرى المتكلم أنه مهمّا تحدث أو وصف فإنه لن يُوفّى الموصُوف حقه، أو أن الكلامَ ذاته قاصر عن أداء المعنى الذي يجول في الخاطر، وعبارتهم المشهورة في ذلك: “إن من الأشياء ما تُحِيطُ بهِ المعرفةُ ولا تُؤدِّيه الصّفةُ” وقد جعلَ الإمام عبد القاهر الجُرجانيّ بابَ الحذفِ من هذا النوع، فقال في كتابِهِ (دلائل الإعجاز):”الحذف بابٌ دقيقٌ المَسلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأمر شبيهٌ بالسحر، فإنَّك ترى به تركَ الذِكر، أفصَحَ من الذكرِ، والصَّمتُ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادةِ، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بيانًا إذا لمْ تبِنْ” وذلك كقوله تعالى:﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل : 9]، والتقدير: ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم، يقولُ الجرجاني: إلا أن البلاغةَ في أن يُجاء به كذلك محذوفًا.

      والحذفُ بابٌ متسعٌ يجري في أمور كثيرة، كحذفِ حرفٍ أو أكثر من الكلمة كما في الترخيم والضرائر الشعرية ونحوهِما، وحذف بعض أجزاء الجملة كالمسند أو المسند إليه لدواعٍ بلاغية، وحذف الجمل لدلالة السّياق عليها كما في أسلوب الاحتباك، وحذف فضول الكلام كما في القصّص القرآني، إذ نراهُ يعرض لِما فيه العبرة والموعظة في كلِّ قصةٍ دون ذكر لأوصافِ المكانِ أو الزمانِ، وغير ذلك مِما لا يُحصيه العد، وهذا من الصّمت البليغ الذي يتخلل الحديث ويجري في أثنائِه، وهو مقصودُ البلاغيين في قولهم والصّمتُ عن الإفادةِ أزيدَ للإفادةِ.

     والصّمت أيضًا بابٌ متسعٌ لا يُمكن حصر أنواعِهِ، ففي كلِّ عملية تواصل نلحظ كثيرًا من أنواع الصّمت، كالصّمت للدهشة أو لانتظار خبر أو ترقب جواب أو فك شفرة ترسلها العين أو ملامح الوجه أو حركات الجسد أو نزعات الغضب أو الفرح أو الحزن أو غير ذلك من المشاعر والأحوال والأفكار، إنَّ اللّغةَ الصامتة قد تكون أكثر رحابةً إلى آفاقِ المعنى من اللّغة الناطقة، فلا تتقيد بحدود النحو أو المنطق أو البلاغة، بل لا تتقيد بطقوس أو عادات، إنَّها لُغة تعبيرية حُرة حكيمة تحكي كلّ انفعالٍ وتصفُ كلّ إحساسٍ وتُعبّر عن كلّ خاطرةٍ دون أن تقولَ شيئًا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الترك تسلمنا إلى منهج حياة واعية وفلسفة عميقة تخلق فينا شعورًا صافيًا نقيا.
إن النص الملهم هو الذي يشهد ميلاد قارئ أفضل!
فضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول.

الصمت ودلالته البيانية قراءة المزيد »

العيش فلسفيًا: مراجعةٌ لكتاب الفلسفة طريقة حياة

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“نحن نولد مرة واحدة، ولن نولد بعد ذلك إلى الأبد، وبرغم ذلك فما تزال أنت، يا من لا حكم لك على الغد، تسوِّف بهجتك؟ غير أن الحياة تُهدر سدى في هذه التسويفات، ويموت الواحد منا ولم يعرف قط طعم السلام”

الفلسفة طريقة حياة – بيير هادو، ترجمة عادل مصطفى

كتابٌ بسيط ونافع للمُبتدئين في قراءة الفلسفة، يقف على بعض المواضيع والمُقدمات الفلسفية التي تناولت الجانب المعيشي من الفلسفة، ويقدِّم لبعض الشخصيات البارزة في هذا الجانب.

تحدث المؤلف عن الهمِّ الفلسفي الفردي، وضرورته في انتشال المرء من واقعه المرير إلى آفاق المعاني المتنوعة والنظريات البهيجة، لا سيَّما أن الظروف التي تصنع الفيلسوف عادة ما تكون بشعة وأليمة، ومن هنا، فإن الفلسفات الأولى كانت طرقاً للحياة اعتمدها البعض هرباً من تعقيد حياتهم وزيادة الجنون فيها، فظهر ما يسمى بالتدريبات الروحية التي ظهرت على شكل وصايا نفسية، يُلزم بها الإنسان نفسه لينأى بها عن الألم والخسارة، وعن التصور المَرَضي للموت الذي ينغص على الفرد حياته.

وتناول الكتاب امتزاج التدريبات الروحية بالتعاليم المسيحية، قبل أن يتناول، كمثالٍ على الحياة الفلسفية الجديرة، التهكم السقراطي الناجم عن توترٍ يُصيب العلاقة بين الجهل بالمفهوم اللغوي لدى الشخص، وبين الخبرة المباشرة التي تضعه في قلب هذا المفهوم فيعيشه واقعاً. وتحدث عن صورة سقراط في الفلسفة القديمة، فهو المتشكك المتسائل الذي لا يعرف شيئاً ولا يصبو إلى تثبيت رأي أو موقف، بل إلى طرح الأسئلة، متهكماً أثناء ذلك باللغة وحدودها المتواضعة أمام الفكر البشري، فكان موته بذلك انتصاراً للفلسفة ولتعاليمها. لذلك كانت غاية المحاورات السقراطية الوصول إلى نوعٍ من الوجود لا يمكن الوصول إليه من دون الآخر.

ثم تحدث بيير عن ضجر ماركوس أوريولوس من الحياة والملل الذي كان يعتريه للتكرار الذي بدت في نظره، فظل يؤكد مراراً على رتابة الوجود الإنساني ومسرحية الحياة التي ما تفتأ تُعيد نفسها، فيضع فلسفة جديرة للخروج من هذه الألاعيب عبر اليقظة والانتباه والتيقن من أن الموت لن يحرمنا شيئاً جوهرياً إذ يسلب منا الحياة الرتيبة، ويلفت نظر قارئه إلى التمسك باللحظة الحاضرة ونفي الحكم القيمي عن الأشياء، لرؤية العالم على ما هو عليه دون أحكام مسبقة.

كما تناول هادو في كتابه القيمة العلاجية للكتابة وكونها لا تكتفي بالتعبير عن الكاتب، بل إنها تُشكِّله من جديد في نظر غيره حتى أثناء عملية الكتابة، فهي تُلقي بصاحبها إلى الكُل المجتمعي ليُحقق من خلاله وجوداً خارجياً ضرورياً لأداء واجباته الإنسانية، ومن هنا فإنه يعدُّ الكتابة تدريباً روحياً، وفعل تطوري يحمل نفس الكاتب عبر المراحل ويسمو بها عالياً، فنفس الكاتب تتشكل بالكتابة وتتطور لتخدم الروح المجتمعية:

“فالكتابة، شأنها شأن غيرها من التدريبات الروحي، تغيِّر مستوى النفس، وتُضفي عليها الكلية. ومعجزة هذا التدريب، الذي يمارس في الوحدة، هي أنه يُتيح لممارسه أن ينفذ إلى كُلية العقل داخل حدود المكان والزمان”

ثم يركز المؤلف حديثه حول لذة الوجود لدى الرواقية وغيرها من الفلسفات، ورؤيتها للحظة الحاضرة على أنها منطوية على اللذة الوجودية العظمى التي لا يمكن للمرء أن يدركها في ماضيه أو حاضره، بل إنه يتمتع بها في اللحظة الآنية التي تُعبر عنه وتنطوي على أفعاله وأفكاره وأحاسيسه ومشاعره. لذلك فإن “فنَّ العيش” كامنٌ في قدرة المرء على التقاط اللحظة الحاضرة الحُبلى بالمعاني وتذوق لذتها في نفسه: “دَع الروح السعيدة بالحاضر تتعلم أن تبغض الانشغال بما يكمُن في البَعد”.

ثم ينتقل بيير إلى الحديث عن الاتجاه الذي نحته جميع الفلسفات في الارتفاع بالفرد عالياً عن محيطه وموقعه ومكانته، للتخلص من النظرة الجزئية له عن العالم واستبدال النظرة الكُلية بها، أي أن يملك الفرد ملاذاً لنفسه يلجأ إليه ليسمو ويعلو ويراقب من منظوره سير الحياة، وفي هذا الصدد فإنه يتناول آراء بعض الفلاسفة في أن الوجود ليس سوى فقاقيع مائية لا تلبث أن توجد حتى تنفجر فلا يعود لها أثر:

“ليس أبهج من أن يكون لديك ملاذات وطيدة آمنة، شيدتها تعاليم الحكماء، بوسعك أن تلقي منها نظرة من عِلٍ على الآخرين وتشهدهم جميعاً تائهين هائمين على وجوههم يلتمسون سبل الحياة”.

ويتناول كذلك “أنسنة” الأفراد للطبيعة من حولهم، ليرونها مُلبية لحاجاتهم ورغباتهم التي لا تنضب، الأمر الذي يحول بينهم وبين فهمهم لها ولقوانينها الذاتية وجودها المُستقل عنهم واللغة التي تُحدثهم بها، ويجعلهم أكثر اندفاعاً في حياتهم وتعاركاً وأكثر ميلاً إلى تقديس الطقوس الاجتماعية والنظم الموضوعية على الحقائق الواقعية التي تقدمها لهم الطبيعة. ومن هنا فإنه ينتقد الرؤى الفردية للعالم الخالية من “الدهشة الفلسفية” أو “اللمسة الفنية” التي ترى العالم كما هو مُستقل بجماله وكينونته.

وينتقد أخيراً الدراسات الفلسفية الحديثة التي حولت الفلسفة إلى دراسة تاريخية جامدة، أو مساقات أكاديمية جافة تخضع للقوانين والأنظمة واللوائح أكثر ما تخضع للإبداع الفردي والابتكار اللفظي، الأمر الذي كان نتيجة طبيعية لسيطرة رأس المال على مؤسسات علمية وأكاديمية، يُطلب منها في المقام الأول توفير البيئة الملائمة لبناء الإنسان الحديث، لقد كانت الفلسفة القديمة مُعبرة بالدرجة الأولى عن فنٍّ للعيش، بل كانت نتيجة هذا الفن، غير أن الفلسفة الحديثة تحولت إلى “رطانة تكتيكية مقصورة على المتخصصين”. أما الحكمة الفلسفية فيُثبت الكاتب وجودها في قدرة المرء على تحرير نفسه من رغباته وأهوائه وتحقيق وجودٍ جدير له في الحياة مع الآخرين، يحفظ له خصوصيته الفكرية ويجعله منخرطاً في الوقت نفسه في واجبات الحياة العامة.

وبهذا تكون الفلسفة تهذيب للنفس وتأديبها وعلوٌ بها إلى المراتب العليا من الوعي والفكر والعقلانية المجردة، وهي طريقة في العيش تنأى بالفرد عن سفاسف الأمور والأحكام العاطفية التي تعميه عن إدراك الجمال الكوني، بعيداً عن التلقين الجامعي لها الذي يهدف إلى حشو أدمغة الطلبة بمذاهبها وطرقها: “صعبة هي ممارسة الفلسفة ولكن الأشياء الممتازة هي دائماً صعبة بقدر ما هي نادرة”.

إنه كتاب جميلٌ ونافع بلا شك، ولعله يُقرأ مراراً.

شارك الصفحة

العيش فلسفيًا: مراجعةٌ لكتاب الفلسفة طريقة حياة قراءة المزيد »

سيولة الحب التي لا تُحتمل: مراجعة لكتاب الحب السائل

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“وربما يتطلب حب الجار قفزة إيمانية، لكن النتيجة هي ميلاد البشرية، وهو أيضاً الانتقال المقدر من غريزة البقاء إلى الأخلاق، إنه انتقال يجعل الأخلاق جزءاً من البقاء، وربما شرطاً لا غنى عنه من أجل البقاء، فيصبح بقاء إنسان ما بهذا المكون (الفطرة) بقاء الإنسانية الكامنة في الإنسان”.

زيجمونت باومان

يشرح عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في كتابه “الحب السائل” حال الهشاشة النفسية الحديثة وضعف العلاقات البشرية وسيولتها، بفعل الأثر الإمبريالي الحديث والفلسفة السائلة التي تقتلع الإنسان من جذوره وانتماءاته ومعتقداته الراسخة وتجعله ريشه في مهب الريح، تتقاذفه الأفكار السطحية باستمرار دون أن يقر له قرار.

تحدث باومان عن سهولة الوقوع في الحب اليوم وسهولة الخروج منه لانتفاء معناه الحقيقي، ولتوهم أصحابه أنهم بالفعل يعيشون قصة حب بعد جعلها مؤقتة ولحظية، وسلب الجوهر الحقيقي منه، وتمطيطه ليشمل علاقات قد لا تستمر أكثر من بضعة أشهر أو حتى بضعة أسابيع، لاختلاطه بمفهوم الرغبة السريعة التي تتجه بالنفس إلى داخلها فتهدمها وتلصق بها الندم السريع واللايقين وانعدام الاستقرار وانعدام الأمان، والمختلفة تماماً عن الحب الذي يتجه بالنفس إلى خارجها فيبني العلاقات ويعتمد على طول الزمان والاستقرار وتوفر الأمان عوامل مهمة لبقائه واستمراريته وتطوره، فكان من نتائج هذه النظرة المشوهة للحب انتشار ثقافة العناية بالجسد والعمد إلى ديمومة الشباب واستهلاك أكبر قدر من المنتجات التي تعد بطول فترة الشباب ودوام مظاهره.

وتناول الكاتب الفصل الحديث بين ممارسة العلاقات وبين التكاثر والإنجاب والارتباط والاستقرار، حيث أصبح مفهوم العلاقة العابرة، أو العلاقات الصافية، منتشر للغاية عند من يظنون أنه يشبع لديهم الرغبات السريعة في استبدال الشريك دائماً بالأكثر وسامة أو ذكاء أو جمالاً، إلا أن كوارث هذا الفصل خلقت القلق وانعدام الأمان في نفس الإنسان لعدم اتضاح حدود العلاقات واقتلاع الرغبة في الاستقرار من نفس الإنسان، فأصبح إنسان اليوم الجنسي قلقاً خائفاً غير واثق بمن حوله، يعمد إلى تلبية حاجاته الحقيقية برغبات سريعة هدامة تزيد من وضعه سوءاً.

وتحدث عن سيولة الهوية الجنسية للمرء والجدل الكبير الذي يثار حولها، فقد تملكت السيولة حياة المرء لدرجة أنه لم يعد يعرف من هو/هي، ولا يعرف ميوله ولا موقعه من الإعراب وسط مجتمع متغير باستمرار، ودون مبادئ ثابتة يعمد إليها إلا مبادئ السوق وقوانينه. وتناول أثر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي خلقت مفهوم “علاقات الجيب”، التي يمكن أن تبدأ بضغطة زر وتنتهي بالطريقة ذاتها، مخلفة الأثر العميق في نفوس أصحابها الذين يوهمون أنفسهم بأن هذا الشكل من العلاقات أفضل لتحقيق “خيارات” مستمرة أفضل وأكثر جدة، فكان أثر وسائل التواصل قاطعاً لأصل التواصل البشري ومانعاً له، بدلاً من تعميق مفهومه وترسيخه، فانتهى بأن يخلق نماذج بشرية تعيش الوحدة على الشاشات وتوهم نفسها بالخيارات العديدة المتاحة لها، دون أن ترسو على خيار واحد منها، خاصة أن مفاهيم القرب أو البعد الافتراضي حلت محل القرب الواقعي، فأصبحت العلاقات معلبة في علب التعامل السوقي النقدي، حيث يمكن استبدالها بسهولة دون تحمل أي مسؤولية.

وتناول المؤلف مفهوم الاقتصاد الأخلاقي القائم على الجماعات التراحمية، التي تتخذ من حفظ الكرامة الإنسانية شعاراً لها، على عكس اقتصاد السوق الذي سلَّع كل قيمة ونفى عنها أهميتها وجعل من كل مبدأ ومعتقد بضاعة يمكن شراؤها بثمن “يناسبها”، حتى أصبحت الحروب تقاس بثمن الحياة البشرية المهدرة دون أن يتحمل الإنسان الحديث أي مسؤولية عن الكوارث التي يتسبب بها.

ومن هنا، عاد باومان إلى مفاهيم حب الجار المرسخة في الديانات والثقافات التراحمية، والتي تحملنا على تجاوز رغباتنا في مجرد البقاء والتخلق بأخلاق التراحم والتعاطف الضرورية لحفظ كرامتنا الإنسانية وجعلها شعار المرحلة في كل مرة، ومن هنا كان التأكيد على ضرورة العودة إلى العلاقات البشرية الحقيقية التي ترفع من الإنسان وتساويه بأخيه وتمنحه القدرة على التسامي بنفسه في كل علاقة وكل حوار إنساني مثمر.

كما أثرت الثقافة السائلة على قدرة المرء على التعبير عن حياته، فشابتها بشوائب القلق من الآخرين والخوف منهم وعدم الثقة فيهم، فخلقت مدناً من التناقضات تعج بالمخلفات البشرية لهذه السيولة، تعمد إلى معالجة مشاكل العولمة بموارد ووسائل جعلتها العولمة نفسها سطحية وغير ملائمة، ومن هنا كانت نماذج المدن الحديثة مثالاً بارزاً على نتاج الثقافة السائلة، في تجميعها قدر كبير من الأغراب القلقين والملقين اللوم على الأعراق المختلفة أو الأجناس المختلفة أو المهاجرين أو اللاجئين، رغبة منهم في إقصاء الآخر والتقوقع على أنفسهم، رغم أن كل ما يقلقهم كان نتاج هذه الثقافة بالذات.

وقد انتبه الفيلسوف الأخلاقي كانط منذ زمن لخطر وجود مثل هذه المجتمعات ودعا إلى الوحدة الإنسانية التي يجمعها الواجب الأخلاقي، وضرورة عدم تسليع القضايا الأخلاقية والقيم والمبادئ والمعتقدات، لأنها تمثل الحبال القوية التي تربطنا بإنسانيتنا وتجعلنا على قدر سامٍ من الوجود الإنساني الجدير، إلا أن حالة التفكك التي أصابت الثقافة اليوم منحت السلطة السائدة الحق في تقويض إنسانية بعض المجتمعات ومنع الحقوق عن بعض الفئات وامتهان كرامة بعض الشعوب، فكان مثال اللاجئين بارزاً لكيفية تعاملها مع نتاج ما اقترفته، فحصرتهم في غيتوهات تسلبهم استقرارهم وهويتهم ومكانهم وزمانهم ووجودهم الإنساني وتجعلهم أشباحاً وظلالاً تعيش على هامش المجتمعات “الأقوى” ومجرد عوامل مزعجة لا ترغب في حل مسألتها.

وفي النهاية أكد الكاتب على أن الحلول لمثل هذه الملامح البشعة للوجود الإنساني الحديث لا يمكن أن تكون حلولاً محلية، بل تصيب الفلسفة الإنسانية الجديدة في جذورها وتعيد للكرامة الإنسانية قيمتها الحقيقية وتجعلها الغاية الأسمى لكل عامل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، ولا يتأتى ذلك إلا بانفتاح الحوار الإنساني العالمي على كل هذه المشاكل وتناول المسببات في عملية حوارية متواصلة ومتجددة تخلق في كل مرة حالة بشرية معيشية على قدر أرقى وأفضل وأكثر احتراماً للوجود الإنساني دون أي عوامل تفرقة.

إنه كتاب جديرٌ ومُهم، يُقرأ مراراً.

شارك الصفحة

سيولة الحب التي لا تُحتمل: مراجعة لكتاب الحب السائل قراءة المزيد »

أنماط التعلق: مراجعة لكتاب التعلق بالآخر

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

من أفضل الكتب التي يمكن أن يقرأها المرء ليفهم نفسه والآخر، كتاب “التعلق بالآخر” للطبيب أمير ليفين والكاتبة راشيل هيلر، وقد تُرجم الكتاب للعربية بعنوان “متعلق: العلم الجديد لتعلق البالغين وكيف يستطيع مساعدتك في العثور على الحب والحفاظ عليه”.

يندرج ضمن كتب علم النفس وعلم الاجتماع، والتي ينهيها المرء فيجد تغيراً يصيبه واتساعاً في الأفق وحلولاً للكثير من المعضلات التي اعتادت أن تؤرقه.

قرأته بالإنجليزية، لذلك سأتحدث عن محتواه بترجمتي الخاصة للمصطلحات.

بُني الكتاب على مفهوم نظرية التعلق في علم النفس، والتي لحظت أن هناك ثلاثة أنماط شهيرة من التعلق لدى البشر، وهي التعلق القلق، والتعلق التجنبي، والتعلق الآمن.

فالتعلق القلق anxious هو الذي ينتج عن شخصية ينخفض لديها تقدير الذات، وترتفع عندها الانفعالات والتصرفات السريعة دون تمهل في التفكير، تتميز بالقفز إلى الاستنتاجات السريعة حتى دون وجود مبرر منطقي يدعم ذلك، وعادة ما يظل فيها المرء منشغلاً بالعلاقة، يفكر فيها مطولاً ويحلل أبسط التصرفات والأقوال والأفعال بطرق واسعة وتأويلات عديدة قد لا تحتملها بالضرورة، ما يعني أن صاحب التعلق القلق يظل منشغل الذهن بشريكه، سريعاً في التقاط مشاعره واختلاف نبرة صوته وطبيعة ما يصيبه، لذلك يعدون الأفضل في فهم الآخر وضيقه، إلا أنهم سرعان ما يعكسون ذلك على العلاقة ويستنتجون أن ضيق الآخر مرتبط بتقصيرهم بالضرورة، فعادة ما يعودون إلى أنفسهم باللوم والانتقاد والتساؤل، أو نجدهم يتخذون موقفاً دفاعياً سريعاً أمام شركائهم، لردِّ أي اتهام محتمل يوجه إليهم، دون فهم طبيعة المشاعر في المقام الأول وطبيعة الموقف وتأويله الأقرب إليه، فنسمعهم يرددون عبارات شبيهة بـ:

“فهمتُ الآن، إنه ينوي هجري بهذه التصرفات، لن أجد شريكاً جديراً آخر في حياتي، علمتُ أن هذه العلاقة أفضل من أن تدوم بيننا، لقد أفسدتُ كل شيء ولا سبيل للإصلاح، علمتُ أن الأمور ستسوء في النهاية، أعرف حظي جيداً، شريكي إنسان رائع فلماذا يود أن يكون بصحبة شريك مثلي؟ عليه أن يترجاني لأرضى عنه وإلا فلينسَ أمري، لا يمكن له أن يعاملني بهذه الطريقة، سأريه ما أنا فاعلٌ!”

لذلك فإن من عادة ذوي التعلق القلق أن يخلقوا المشاكل والجدال وأن يهددوا بانتهاء العلاقة وأن يمارسوا الحيل والألاعيب التي تستفز الطرف الآخر لجذب اهتمامه أو إثارة غضبه، لتلبية حاجة نفسية خفية في القرب والحميمية، كما نجدهم يتطرفون في تصرفاتهم وعادة يغادرون المكان أو يقطعون النقاش فوراً مع شركائهم إن لم يعجبهم ما يدور حوله.

 

أما التعلق التجنبي avoidant فيضم الأشخاص الذين يقدسون مساحاتهم الخاصة وتصورهم عن الاستقلالية والاعتماد على النفس، ورغم أن هذه المفاهيم لا تعني إهمال الشريك أو إهمال الحاجات العاطفية للمرء، إلا أننا نجد تصورهم عن العواطف مستخف بها، يعدونها نقاط ضعف لدى المرء ويجب عدم إظهارها أو الحديث عنها، لذلك فإن واجههم الشريك بحاجته في القرب أو الحديث عن مشاعره وأفكاره نجدهم يستخفون بذلك ويصفونه بالمتطلب، ويقنعون أنفسهم أنهم بعيدون كل البعد عن هذه الحاجات الإنسانية، وأنهم يترفعون عن هذا الضعف البشري، يتصورون قوتهم في البعد والمساحة الخاصة زماناً ومكاناً، فعادة ما يقضون أياماً من غير شركائهم أو يفضلون غرفاً مستقلة بهم، لعدم راحتهم في التعامل مع الجانب الإنساني العاطفي، كما أن نظرتهم إلى الآخرين مثالية للغاية، فإما المرء فاضلاً في نظرهم أو مذنباً بالكامل ولا يطاق، لذلك نجدهم يرددون عبارات شبيهة بـ:

“أشعر بالاختناق في هذه العلاقة، إنه يسعى إلى التحكم بي، إن شريكي متطلب للغاية وأنا بحاجة إلى الابتعاد لفترة من الزمن، أعلم أنني بعيد كل البعد عن الانخراط في أية علاقة حميمية، تصرفاتها تثبت تماماً أنها غير مناسبة لي! إن كانت تلك الشريكة المناسبة لي فهذا التصرف يثبت عكس ذلك تماماً! إنها تفعل ذلك لإغاظتي، هذا واضح جداً، سأكون أفضل بكثير لو بقيتُ وحدي، لو كنتُ مع شريكي السابق (أو فلاناً آخر) لكنتُ في حال أفضل”

ومن المتوقع دائماً أنهم يقللون من شأن شركائهم ويقارنونهم بالآخرين، ولديهم تصور مثالي عن “الشريك المناسب” والذي دائماً ما يكون مختلفاً عن شريكهم الحالي، فلديهم تصور مثالي عن الحياة غير موجود في الحقيقة، ولا يجدون أنفسهم مخطئين يوماً في ذلك، أو في سخرتيهم من عواطف الآخرين، إلا أن الكتاب يوضح أن هؤلاء إن تعرضوا لأزمات نفسية عميقة أو حوادث مؤسفة، كوفاة عزيزٍ أو أزمة نفسية شديدة أو حادثٍ صادم، فإن ما كبتوه طويلاً من الحاجات الإنسانية يظهر فوراً على السطح، فنجدهم يعترفون بحاجاتهم العاطفية ويقدرون حاجات شركائهم، فيلين جانبهم أكثر.

لذلك فإن من عادتهم أن يتصرفوا بتجنبٍ كبير، كأن يهربوا من النقاش إن تطلب ذلك انخراطهم في حوار صادق، وألا يشعروا بمسؤوليتهم عن مشاعر الآخر أو حاجاته أو أفكاره، فيعمدون إلى تجاهله والاستخفاف به، والتقليل من أوقات القرب منه أو الدعم العاطفي الضروري، وألا يشاركونه أفكارهم أو مخططاتهم القادمة أو ما يخصهم من أمور.

 

أما النوع الثالث فهو التعلق الآمن secure، وهو الذي يكون فيه المرء متزناً نفسياً، مدركاً لحاجاته العاطفية والنفسية، موضحاً للآخر ما يريده من العلاقة في كل مرة، ما يُحبه وما يرفضه وما يحتاج وقتاً لأن يفهمه، وعادة فإن ذوي التعلق الآمن يحتوون الآخرين، سواء كانوا من ذوي التعلق القلق أو التجنبي، فحتى عند بدء أي جدال يملكون المهارة في إعادة الأمور إلى نصابها عبر السؤال عن نية الآخر في هذا الجدال، أو طبيعة ما يضايقه لبدء الشجار، أو مقصده من الشكوى أو التذمر أو التعليقات المستمرة، وبمعنى آخر، فإنهم يفضلون إدراك مقصد الشريك بدلاً من أخذ كلماته الظاهرة فقط على محمل الجد، لذلك فإن من الصعب أن يخوض المرء معهم جدالاً حاداً لأنهم ماهرون في فهم الآخر واحتياجاته، فيعمدون إلى توضيح مواقفهم وإدراك موقف الآخر ضمن ما يسمى “بالتواصل الفعال”، وقد تحدث الكتاب عن هذا التواصل مسهباً، ليوضح أنه الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الناجحة، حتى بين مختلف أنواع التعلق.

لا ينشغل ذوو التعلق الآمن بشركائهم طوال الوقت، ولا يتجاهلون حاجاتهم العاطفية والنفسية، بل يعاملونهم كجزء هام من حياتهم، ويحترمون أفكارهم ويشاركونهم مخططاتهم القادمة، ولا يمارسون الألاعيب والحيل النفسية لاستفزاز الآخر، بل يعودون دائماً إلى المقاصد الأولى والحاجات النفسية التي تدفع المرء أحياناً إلى سوء التواصل، وعندما يضطرون إلى خوض جدال معين نجدهم يركزون فقط على المشكلة دون إصدار أي تعميمات أو استنتاجات سريعة أو اتهام للآخر، ذاك أنهم يشعرون بالمسؤولية عن راحة شركائهم ومسرتهم، ولأهمية هذا النوع من التعلق فإن الكاتب يوجه الكثير من الإرشادات العملية والنصائح للقارئ ليحقق هذا النمط من التعلق ويتمرن عليه.

وبعد مناقشة الكتاب للأنواع الثلاثة، يعمد إلى الحديث عن طبيعة العلاقات التي تربط بين أنواع التعلق، كالعلاقة بين ذوي التعلق التجنبي والقلق، وبين التعلق التجنبي والآمن، والتعلق القلق والآمن، مشيراً إلى أن أفضل خيار لدى المرء أن يكون مع ذوي التعلق الآمن، وليس ذلك فقط لأنهم سيحترمونه ويحتوونه، ولكن لأنهم سيغيرون فيه مع الوقت ويعلمونه الكثير عن أساليب الحياة الأكثر صحية، ويساعدونه على الخروج من قلقه أو سوء فهمه لحاجاته.

ويقدم الكتاب نصائح كثيرة لمختلف أنواع التعلق، سواء منهم من كان في علاقة أم لا، ويضع اختبارات للقارئ ليتعرف فيها إلى نمط تعلقه، ونمط تعلق شريكه، وليقيم أنماط التعلق لدى مختلف من اختاروا مشاركة قصصهم ومواقفهم، لذلك فإن الكتاب عمليٌّ للغاية وذكي ومرن، ومن لا يحب الجانب النظري الطويل فيه فهناك جانب عملي طويل كذلك وماتع.

يُقرأ الكتاب مراراً لتحقيق الاستفادة الكبرى منه، وذلك على فترات متباعدة، أحببته كثيراً وأنصح به.

شارك الصفحة

أنماط التعلق: مراجعة لكتاب التعلق بالآخر قراءة المزيد »

أن تكون انطوائيًا في هذا العصر: مراجعة لكتاب الهدوء

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعد كتاب “الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام”، للكاتبة الأمريكية سوزان كين من أفضل ما قرأت من الكتب التي تخاطب النفس البشرية وتصل إلى تحليل مكنونها، بطريقة غاية في السلاسة والسهولة، وفي الوقت نفسه غاية في الحميمية والصدق.

يشعر الكثير منا بالغرابة weirdness في الأجواء الاجتماعية أو برفقة الشخصيات الأكثر انفتاحاً منهم على التجارب المختلفة والتعارف المستمر، ورغم نجاح جهودهم الحثيثة في تزييف سعادتهم وسرورهم بوجودهم برفقة الآخرين، إلا أن ذلك يتطلب منهم وقتاً طويلاً “لإعادة شحن” بطاريتهم الاجتماعية، ما يستلزم منهم أياماً طويلة يقضونها بعيدين عن الضجيج وأحاديث الآخرين، ليتمكنوا من خلق التوازن في حياتهم.

ولكن ليست هذه بالمهمة السهلة، على عكس ما تبدو، وبخاصة وإن عاش المرء منا مقتنعاً بأن ثمة خطب ما فيه، وبأنه أقرب للكآبة والرفض المجتمعي بسبب شخصيته التي ترفض الاجتماع مع الآخرين لأكثر من يوم واحد في الأسبوع مثلاً، وإن نشأ المرء في بيئة تعزز النموذج الانبساطي وتراه المثال الأكثر قرباً للنجاح وتحقيق الذات، فستضاف إلى معاناة المرء مشاعر الذنب والقلق الكبير في أنه لن يحقق ما يصبو إليه إلا إن تمكن من قهر طبيعته وكسرها، ما يزيد من رهابه الاجتماعي وشعوره بالفشل والوقوع في العديد من الفخاخ النفسية التي ستستنزف قواه تماماً ليتمكن من فهمها، قبل الخروج منها.

هذا الكتاب مُطمئن بدرجة كبيرة للانطوائيين، فهو يبين العديد من جوانب هذه الشخصية الطبيعية للغاية، ويناقش تجاربها الثمينة، ويستنطق العلوم المتعلقة بها، ويتضمن جانباً حميمياً للغاية فيه، ذاك أن الكاتبة شخصية انطوائية كتبت هذا الكتاب هدية لنا، الأمر الذي سيجده العديد من القراء عظيماً للغاية.

ورغم أنني وجدتُّه من الكتب التي يمكن أن أحط من شأنها إن كتبت مراجعة عنها، وأخشى أن تفسد لغتي الجامدة حميميته وصدقه، فإنني سأختصر القول في بعض مواضيعه، خدمة لمن يريدون الإطار العام للكتاب قبل تقرير اقتناءه.

تتحدث الكاتبة عن النموذج الانطوائي “المظلوم” مجتمعياً وأكاديمياً بصورته السلبية الأقرب للكآبة والتقوقع بعيداً عن الآخرين والمجتمع، مصححة الصورة في أذهان العديدين في أن الشخصية الانطوائية تقدر التفاعل الاجتماعي، ولكن البنّاء والعميق والذي يحمل القيمة الجدية لها، ولا تثمن الأحاديث السريعة الأفقية التي يمكن أن يجريها الغرباء مع بعضهم.

وتتناول الكاتبة ربط النجاح العملي بالشخصية الانبساطية في بلادها، أمريكا الشمالية، واختراع سوق العمل “للمثل الأعلى الانبساطي” الذي بوسعه تحقيق النجاحات المتتالية تبعاً للشبكة الاجتماعية التي ينسجها، الأمر الذي تخلل الاتجاه الكنسي حتى، وذلك بربط الإيمان بالتفاعل الاجتماعي الانبساطي، حتى بات الانطوائيون يشعرون بأنهم بمجرد وجودهم لا يخدمون الرب بصدق وأمانة.

وفي بيئة العمل، تحدثت الكاتبة عن الفرق التي تحد من النشاط الإبداعي للأعضاء، والتي عادة ما تشوش فكر الانطوائيين وتقيد قدراتهم وتضاعف جهودهم ضمن المجموعة، مقارنة بما يمكن أن ينجزوه بأنفسهم، مقدمة العديد من الأمثلة على الشخصيات الناجحة في مجال الأعمال، والتي تفضل العمل وحدها معظم الوقت، تبعاً لميولها الانطوائية في ذلك، ذاك أن الانخراط في العمل الجماعي يشتت الأفكار ويضيع الغاية والهدف، بينما تساعد العزلة المرء على التركيز على أهدافه وقضاء وقت أطول في التفكير في مختلف الحلول والجوانب الممكنة، ومن هنا، فإن التعاون الجماعي قد يقتل روح الإبداع لدى الشخصيات الانطوائية.

ثم تحدثت الكاتبة عما يُنشئ الشخصية الانطوائية، كالعوامل الوراثية والبيئة التي ينشأ فيها المرء، وعن الميول المختلفة لكلا الشخصيتين التي تجعل الانطوائي يميل إلى الحذر والهدوء والاستمتاع بالتدفق الذي يدفعه إلى العمل لمجرد العمل والاستمتاع به، على خلاف الانبساطي الذي يستمتع بالجلبة والعلاقات والتفكير العالي، وعادة ما يدفع إلى العمل لتوقعه الحصول على مكافأة جديرة.

وكان من الماتع للغاية حديثها عن المجتمعات الآسيوية والمجتمع الأمريكي، والفروقات الكبيرة بينها، والظاهرة خاصة عند تفاعلهما سوية، فالمجتمعات الشرقية تقدر الجماعة والهدوء والإنصات ومراعاة الآخرين، بينما يثمن المجتمع الأمريكي الفردية والتعبير والإفصاح، مشيرة إلى الفروق الكبيرة بين الثقافات التي تشابه الفروق بين الشخصيات.

ثم تتبعت طرق الانطوائيين في تزييف انبساطيتهم، الأمر الذي يفعلونه عادة في محاولة لتقليل الحرج والتأقلم مع بيئة خلقت للانبساطيين أصلاً، متناولة طريقة الرصد الذاتي التي يعمد فيها الانطوائي إلى خلق نسخة انبساطية منه ليتمكن من تحقيق بعض غاياته، مع ضرورة أن يمتلك “أماكن الإنعاش” لإعادة شحن نفسه وتذكيرها بأنه لا يزال على ما هو عليه بطبيعته، رغم التمثيلية التي يضطر إليها.

أما الفصل العاشر فكان أفضل الفصول وأكثرها حميمية، فقد تناولت فيه طبيعة الزواج الذي يضم الشخصية الانبساطية ونظيرتها الانطوائية، وسير الأمور عادة فيه، وطبيعة ما يشعر به كلا الطرفين المتضادين والراغبين، في الوقت نفسه، في الحفاظ على علاقتهما، مستعينة ببعض التجارب الواقعية الذي خاضها بعض الأزواج، وفي الفصل الأخير أوجزت بعض النصائح والإرشادات للتعامل مع الأطفال الانطوائيين، تضمنت احترام اختياراتهم والبعد عن محاولة فرض أي واقعٍ يرفضونه ويزيد من قلقهم ورهابهم تجاه المجتمع، ومساعدتهم على تثمين قدراتهم في عالمٍ يعج بالانبساطيين “إحصائياً” ومُصمم خصيصاً لهم.

إنه أحد كتبي المفضلة، وأنا ممتنة للغاية للكاتبة، أرشحه للجميع، وللانطوائيين خاصة.

شارك الصفحة

أن تكون انطوائيًا في هذا العصر: مراجعة لكتاب الهدوء قراءة المزيد »

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٣م

كان عام 2023م حافلًا بالبرامج والمبادرات الجديدة التي أطلقتها شركة نديم، وهي التي يقف خلفها فريق يؤمن بضرورة البناء المعرفي للأفراد مهما تنوعت مجالات اهتماماتهم.

وقد أحببنا أن يشارككم الفريق بمفضلاته السنوية من الكتب، حيث اختار كل واحد كتاباً مما قرأه خلال العام الماضي، ليرشحه للمهتمين، فنتج من ذلك باقة متنوعة من الكتب سواء في تخصصاتها أو أنماطها أو لغاتها.

بين يديكم مفضلات فريق نديم، آملين أن تجدوا بها ما يوافق اهتماماتكم، وما قد يكون رفيقًا حلوَا لأيامكم القادمة، لاسيما وأنه لا ينقصها لا الفائدة ولا المتعة.

قراءة التراث الأدبي: صوى ومعالم، لعبد الله بن سليم الرشيد.

كتاب جميل نابع من خبرة طويلة في التعامل مع التراث الأدبي نثراً وشعراً، تناول إطلالة على مصادره الأساسية والفرعية، وآليات لقراءة النثر وقراءة الشعر.

عبيد الظاهري، المشرف على شركة نديم.

شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين رحمه الله.

عزمت على قراءته مع صديقتي بمعدل نصف ساعة كل يوم، وقد تفاجأت أنها كانت رحلة ممتعة، جعلتني أنتظر هذه النصف ساعة من يومي بفارغ الصبر.

إيمان الفيفي، متطوعة في برامج نديم.

علم النفس دينًا: مذهب عبادة الذات، لبول سي. فيتز.

يحتاج المرء بين فينة وأخرى إلى الكتابات النقدية التي تناقش الأفكار السائدة في حقل ما، هذا الكتاب من هذا النوع، يناقش كيف أصبحت مقولة “تحقيق الذات” المقولة المؤسسة لكثير من النظريات في هذا الحقل، وكيف انعكست هذه المقولة وتسربت إلى طرائق تفكيرنا وأنماط حياتنا ونظرتنا إلى أنفسنا والوجود من حولنا

عبد الرحمن دباس، أخصائي مشاريع.

محركات الأفكار: تنقيب في الجذور ورصد للمنابع، لعبد الرحمن الريس.

قسّم المصنّف الكتاب إلى أربعة موضوعات رئيسية: المحرّكات النفسية، والعقلية، والخارجية، ومحركات الأفكار والخطابات الحداثية، تندرج تحتها مجموعة من المُحركات، وختم الكلام عن اعتبار المُحركات في القراءة الفكريّة.

الكتاب ذكي ومميّز وماتع، ميّزته النقولات الأصيلة من التراث الإسلامي لكبار الفقهاء كـابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، والغزالي، وابن الجوزي، والمعلّمي، وغيرهم

سمية سعود، متطوعة في مبادرة التراث التيمي.

اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية رحمه الله.

أحببت فيه الدعوة القوية لاعتزاز المسلم بشخصيته وهويته ودينه. تحدث عن دقائق في فقه أحكام التشبه ما قرأتها من قبل عند أحد، كما أدهشني في الاستنباط من الأدلة التي يستشهد بها. مبهر وباعث للتأمل.

شيماء، منسقة مشاريع.

كيف تغير العالم: رياديو الأعمال الاجتماعية وفعالية الأفكار الجدية، لديفيد بورنستاين.

ملهم، ومليء بالقصص والأفكار التي تخدم رواد الأعمال الاجتماعية. الكتاب ينطلق من أفكار للتغيير الاجتماعي على مستوى العالم.

حسين العبدلي، متطوع في مبادرة منصت.

النبأ العظيم، لمحمد دراز رحمه الله.

كتاب صغير الحجم عظيم النفع، يثبت أن القرآن كلام الله بطرق شتى مقنعة، ويبحث في أوجه الإعجاز اللغوي للقرآن. دفعني الكتاب للتأمل في أسلوب القرآن الذي يجمع بين إيجاز اللفظ والوفاء بالمعنى، والبيان والإجمال، وإقناع العقل وإمتاع العاطفة.

يارا عمار، مترجمة.

الثمين من أخبار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، لتركي الميمان.

عرضٌ شامل لجوانب سيرته وحياته العامرة بالخير، يدرك معها القارئ سرّ محبة الناس له، وانتشاره، وثقتهم فيه حتى يومنا هذا، باقيًا ذكره الطيب محفوظًا على ألسنة الطيبين. يذكرني هذا بقول عمر رضي الله عنه: “يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته “.

لبنى المفرج، متطوعة في مبادرة منصت.

فرصة أخرى، لروبرت هاين.

كان العنوان مثيراً للدهشة، وحسب المرء أن يرى الأمل في محطات الآخرين فينعكس ذلك على حياته. وقد اخترتها لأنها تجمع بين السيرة الذاتية وقصة لم يُعتد أن تحدث وتوثق، فحظ المرء من تلك الحكايات أن يعرف دهاليزها ودواخلها ممن عاين وجرب.

آلاء الخطيب، أخصائية مشاريع.

الداء والدواء، لابن القيم رحمه الله.

من أجمل الكتب التي تدفع القارئ لإعادة ترتيب أولويات حياته، ومراجعة خارطة سيره فيها، وهو كتاب غني عن التعريف.

أمنية محمود أبو الفتح، متطوعة في برامج نديم.

الدماغ الخلاق: علم أعصاب العبقرية، لنانسي أندرياسن.

رحلة تبحث في أسرار الإبداع والعبقرية، رائدتها محاضرة في الأدب الإنجليزي غيرت مسارها المهني إلى دراسة الطب، وتخصصت في علم الأعصاب، لتصبح أخيرًا معالجةً نفسية. مزيج تخصصات ظهر أثره في السرد المشوّق لمباحث الكتاب وجوانبه العلمية.

خلود بن صدّيق، مصممة.

تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، للبيروني رحمه الله.

من أكثر الحضارات إسهاماً في علوم الحكمة والطبيعيات والمنطقيات حضارة الهند. وعنهم تُرجمت كثير من الكتب التي استمد منها الإسلاميون في الأصول والمنطق والكلام والفلسفة والطب والمواد وغيرها. وأبو الريحان البيروني (ت:٤٤٠هـ) من أخص الناس بمعرفة أحوال أهل الهند، وهذا الكتاب وافٍ بكثير من أحوالهم في الاعتقاد والمعاش والعوائد والطبائع والأجناس، على درجة معتبرة من التحقيق. وعنه يصدر كثير ممن بعده.

عثمان العمودي، محرر.

هبة الألم: لماذا نُعذّب وما موقفنا من ذلك، لبول براند وفيليب يانسي.

أن ترى الألم بين حافّتي العذاب والنعيم، بين اللاشعور وأن تحس بوخزة إبرة. أن يلتصق ظهرا الألم واللذة كتوأم مختلف! الكتاب يعطي نظرة مختلفة للقارئ عن قيمة الشعور بالألم، قيمة ما نسعى لكبح جماحه كل ما بدا طرفه، وبين طياته تتلمس معنى وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.

منيرة التركي، متطوعة في مبادرة قراء الجرد.

شرح شمائل النبي للإمام الترمذي رحمه الله، لعبدالمحسن البدر.

بعد قراءة هذا الكتاب لم أعد أستطيع الاستمتاع بأي كتاب آخر. تقربت إلى الرسول ﷺ أكثر من خلاله، أحببت الرسول ﷺ أكثر. تعلمت كيف كان يتعامل الرسول ﷺ مع المواقف المختلفة، كيف كان شكله، كيف كان يبتسم ويضحك، وكيف كان يتحدث. كلما أصبح يومي ثقيلاً قرأت جزءاً من الكتاب، أخفف به ثقل الحياة.

فهيمة حسين، متطوعة في برامج نديم.

لغز الماء في الأندلس، لشريف عبدالرحمن جاه.

كتاب نادر في موضوعه، تعرفت من خلاله على أسرار ومعجزات عمارة الماء في الأندلس، ومحاكم المياه، وتعرفت على أنظمة الري والفلاحة المتبعة آنذاك، والتي لا زال بعضها يُعمل بها للآن، وفي الكتاب أسماء لكتب ودراسات أخرى عاد إليها المؤلف، كتاب ثري ونادر، ما استطعت الحصول عليه إلا في معارض الكتب.

أثير العمري، متطوعة في مبادرة قراء الجرد.

دلائل الإعجاز، للجرجاني رحمه الله.

لما فيه من جلالة الموضوع، وذكاء الأفكار، وحسن العرض، ورقّة اللفظ، وجزالة السّبك. فكأنّما هو كتبٌ جُمعت في كتاب؛ يجد فيه المتعلّم بغيته، والمتأدّب طلبته، والباحث مراده. ولا يخرج قارئه بعده كما دخل، ولكن بقلبٍ غير القلب، وعقل غير العقل، وروح ترى في القرآن قوتًا وطبًّا.

عبدالعزيز التركي، مطور أعمال.

نشأة الإنسانيات، لجورج مقدسي.

ملحمةٌ في الدراسات الحضارية المقارنة، ودرسٌ في التنقيب داخل كتب التراجم والطبقات، ودورةٌ تدريبيةٌ في الاستقراء والتحليل والاستنتاج.

حسان الغامدي، محرر.

مداواة النفوس، لابن حزم رحمه الله.

من رام صلاح نفسه وتزكيتها كما أمر بذلك ربنا جلا وعلا، فدونه هذا الكتاب النفيس والقيم بفوائده، وخصوصاً أن المؤلف قد أبان عيوباً في نفسه، وجاهد في إصلاحها، وبين السبيل لذلك، وقد أجاد رحمه الله.

سهام الحربي، متطوعة في مبادرة منصت.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الترك تسلمنا إلى منهج حياة واعية وفلسفة عميقة تخلق فينا شعورًا صافيًا نقيا.
إن النص الملهم هو الذي يشهد ميلاد قارئ أفضل!
فضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول.

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٣م قراءة المزيد »