Author name: آلاء الخطيب

صراع اللغة والهوية والوجود: مُراجعة لكتاب “اللغة العربية في ساحات الوغى”.

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“إن الرمز في حالات الصراع، في مخاطبته للقلب والوجدان، أشد فتكاً وتأثيراً من الأداة في توجهها نحو المنفعة”.

ياسر سليمان المعالي

كتاب مُهم وجدير، يقف على مكانة اللغة العربية اليوم في أذهان أهلها وأعدائهم، منطلقاً في تحليلها من الدراسات المتعلقة بالأيديولوجيا اللغوية والقلق اللغوي وتعلق اللغة بالإرهاب.

يناقش المعالي أولاً الوظيفة الرمزية والأداتية للغة العربية، فالأخيرة تكتفي بوظيفة اللغة ومنفعتها للتواصل، والأولى متعلقة بهوية المرء والمجتمع والطابع الأيديولوجي الذي يُطلب من اللغة التعبير عنه والحديث بلسانه، وفي حديثه عن اللغة التي تحمل الهم الوجودي لأهلها والناطقين بها، تناول محاولات الجبرتي في التصدي للحملة الفرنسية على مصر في تعزيزه اللغة العربية الفصيحة، وتناول إحياء الحركة الصهيونية للغة العبرية في فلسطين، التي أقصت العربية وطغت على الإنجليزية (زمن الانتداب البريطاني)، لإثبات الوجود اليهودي الجديد على الأرض الفلسطينية.

ثم ينتقل للحديث عن الأيديولوجيا اللغوية من حيث كونها نظاماً ترميزياً موجهاً إلى غايات معينة، مستنداً إلى رمزية اللغة وحتمية انتقاء المرء من واقعه الأحداث والأفكار والتأويلات لتمثيل الواقع في ذهنه، ومعتمداً على المراوغة الدلالية للمعاجم والتبسيط المعرفي وتصورات الأفراد غير الدقيقة حول مفاهيم العلوم الاجتماعية:

“تبقى المعتقدات والأفكار السائدة في المجتمع، حول اللغة، لغويات شعبية بحتة، ولا تنتقل إلى الفضاء الأيديولوجي الفاعل إلا في الحالات التي يجري فيها توظيف هذه اللغويات في محاولات التأثير في السياسات العامة في المجتمع”.

لذلك، تكون غايات الخطاب الأيديولوجي اللغوي التنفيس عن غضب الجماعة ورفع معنوياتها وتحقيق التضامن بين أفرادها والترويج لهويتها، ويكون الخطاب متماسكاً وقائماً على قناعة بالتفوق والسمو لدى لغة بعينها على بقية اللغات، وهجران أهلها لها وخطر الازدواجية اللغوية في مجتمع أهلها، في فترة ازدادت فيها الأيديولوجيا اللغوية العربية حِدة وشدة في مواجهة الاستعمار الأجنبي.

وتستند الأيديولوجيا اللغوية العربية إلى رمزية اللغة وارتباطها بقومية العرب وهويتهم ودينهم الإسلامي، من أجل التأثير على السياسات اللغوية المتبعة لدى الحكومة، وهذا ما يدعى بالتوظيف الذرائعي للغة العربية، أي توظيف عناصر اللغة الهوياتية والرمزية والوطنية والدينية لأغراض سياسية تؤثر على بعض القضايا المهمة، الأمر الذي نجده في خطابات المحامي إلياس كوسا إلى السلطات البريطانية أثناء احتلالها فلسطين:

“.. إن إقصاء هذه اللغة أداتياً من ساحة المعاملات الرسمية هو أيضاً إقصاء مجازي مزدوج للوطن الفلسطيني ومواطنيه العرب، يُراكم الإقصاء الحقيقي الذي يتعرضون له في إسرائيل، في استلاب أراضيهم وفي مواطنتهم المنقوصة. وإذا كان الإقصاء الثاني هو إقصاء الجيد والمادة، فإن الإقصاء الأول هو إقصاء الروح والقلب”.

ونجد هذا التوظيف كذلك في الخطاب الأمريكي للمهاجرين، والداعم للتحدث بالإنجليزية فقط تناغماً مع الفضاء العام ومتطلبات الهوية الأمريكية الجديدة.

وفي حديثه عن القلق اللغوي، يتحدث المعالي عن الخطاب الذي ينعى العربية ويركز على هجران أهلها لها وضعف مكانتها، الأمر الذي يُدلِّل على تفسخ هوية أصحابها، فالتهديد الذي يطال متن اللغة يطال كذلك هوية صاحبها ومكانة مجتمعه، ويرتبط القلق بالإبهام في فهم الأحداث المحيطة، واجترار الماضي الذهبي، والتخبط الهوياتي، وانعدام القدرة على الرؤية الموضوعية لواقع اللغات ونشوئها وتطورها والتغيرات الطبيعية التي تدخل عليها. ورغم ذلك، يتناول الكاتب منافع القلق اللغوي في الحفاظ على الأمن اللغوي والتشبث بالهوية الأصل، بيَّن ذلك في تحليله الموجز لكتاب المسدي “انتحار اللغة العربية”.

غير أن الكاتب يرى المبالغة في الخطاب الأيديولوجي حول اللغة العربية اليوم، فاللغة لا تزال حاضرة ومتداولة، والتهديدات التي تطالها تطال بقية اللغات بالدرجة ذاتها، ويحلل المعالي هذه المبالغة في سرده لمجموعة من الشخصيات والعناوين المستندة إلى معجمٍ من المصطلحات المتعلقة بالقلق اللغوي، تعيد تكرارها باستمرار. ومن هنا فإنه يشيد بموقف أمين معلوف في ضرورة الحفاظ على اللغة والهوية مع الانفتاح في الآن ذاته على اللغات المختلفة.

ويتناول المعالي السمة العالمية لظاهرة القلق اللغوي، والتي أصابت اللغات المختلفة ولا تزال، كالفرنسية والإنجليزية، ذاك أن تطور اللغات وامتدادها أو تقلصها أمر منوط بعوامل عديدة ليس أقلُّها إنتاج أهلها المعرفي والخطابي والعلمي والإنساني. وبمعنى آخر، فإن القلق اللغوي يُعيد إنتاج نفسه بالضرورة:

“إن المبالغة الشديدة في قراءة “فنجان” هذا القلق قراءة كارثية، في الحالة العربية، قد تُسارع في تحقيق نبوءاتها بتكريس منطق الهزيمة وتعميق حالة الضعف والتبعية، والتي ينشد حُماة اللغة الانعتاق من أغلالها”.

وفي تناوله لارتباط اللغة العربية بالإرهاب، تحدث الكاتب عن الشعور الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام 2001، والذي عززته وسائل الإعلام والصور المضللة، ليربط بين ثلاثة مفاهيم ويطابقها سوية: العرب والإسلام والإرهاب (الجهاد). فاقترنت الحرب الكلامية بالحرب على الإرهاب، وما زاد الأولى ضراوة قدرتها الرمزية التي تشمل عناصر الصراع وقت الأزمات.

وفي هذا الصدد، يتناول عدداً من الحالات والأحداث المُعبرة عن قلق الأمريكيين من العربية وارتباطها في أذهانهم بالعداوة والميول الإرهابية، ويتناول الكاتب تجاوز التنميط الرمزي للعربية الفضاء السياسي إلى الفضاء العام، كما في حادثة خالد جرار والموقف من أكاديمية جبران خليل جبران الدولية في نيويورك. الأمر الذي أنتج خطاباً مضاداً ساخراً من هذا التطرف الفكري والتعميم الخاطئ، والذي تقوده الأيديولوجيا اللغوية الإنجليزية، كما نرى في الصورة أدناه لحقيبة تسخر ممَّن يخشون رؤية العربية حولهم:

ويتابع الكاتب حديثه عن الموقف الأمريكي تجاه اللغة العربية والرامي إلى التوجه إليها وتعلمها لأغراض أمنية سياسية ضرورية، الأمر الذي يعود من جديد ليصب في القالب الأيديولوجي المُضلل ذاته، فمهما كانت النوايا الأمريكية صادقة في إقامة العلاقات مع الشعوب العربية، فإن الصورة النمطية في مخيلة الأمريكيين ستكون عائقاً أمام هذه الجهود، لارتباط اللغة في أذهانهم بالتطرف والكراهية والإرهاب، ذاك أن “الانشغال باللغة استناداً إلى الهاجس الأمني قد يفشل في تحقيق الأمن المُرتجى، حتى لو جرى الإعلان عن أهمية اللغة في إطار علاقة تقوم على الاحترام والتقدير مع الآخر”.

الكتاب مُتماسك في طرحه، سلس وواضح وغير معقد، والأهم من ذلك كله، أنه جدير بالقراءة والمراجعة والنظر.

شارك الصفحة

صراع اللغة والهوية والوجود: مُراجعة لكتاب “اللغة العربية في ساحات الوغى”. قراءة المزيد »

قصة الورق: ماهو أهم من المطبعة والبارود والبوصلة

Picture of حسّان بن إبراهيم الغامدي
حسّان بن إبراهيم الغامدي

باحث في الثقافة الإسلامية

يرصد المؤرخون تحولات البشر من خلال أحداث كبرى، تصبح الحياة بعدها مختلفة عما قبلها، سواء كانت هذه الأحداث سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو غير ذلك. في القرن السابع عشر للميلاد، كان فرنسيس بيكون (ت: 1626م)، الفيلسوف الإنجليزي المعروف، قد حدد ثلاثة ابتكارات غيرت حياة البشرية، وهي الطباعة والبارود والبوصلة، إذ يقول بأنهاغيرت كل الأشياء في كل أنحاء العالم، ولعلك قد وقفت على مثل هذه الاقتباسات التي تعظّم من أثر المطبعة في حياة أوروبا تحديدًا، وأثر غيابها في تأخر العرب والمسلمين، لكن الباحث الأمريكي جوناثان بلوم، قد جادل في كتابهالورق قبل الطباعة: تاريخ الورق وتأثيره في العالم الإسلاميبأن الورق كان الاختراع الأكبر في تاريخ البشرية، موافقًا في ذلك المستشرق النمساوي ألفريد فون كريمر حين قال بأن ازدهار النشاط الفكري الذي أتاحه الورق قدافتتح عهدًا جديدًا للحضارة الإنسانية“.

صدر كتاب بلوم مترجمًا إلى العربية في هذا العام 2021م عن دار أدب للنشر والتوزيع بالشراكة مع مركز إثراء التابع لأرامكو، وقد ترجمه أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور أحمد العدوي، ونشر بعنوانقصة الورق: تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعةفي أكثر من 400 صفحة. يرصد الكتاب رحلة الورقة من لحظة اختراعها في الصين، حتى وصولها إلى أوروبا، بعد أن تقضي حقبًا طويلةً في العالم الإسلامي الذي عمل على تطوير تقنيات تصنيعها، وتعميم استخدامها، مؤثرةً في واقع المعرفة داخل الحضارة الإسلامية.

يتوزع محتوى الكتاب على سبعة فصول، وفصل أخير يعرض فيه المؤلف قائمة الكتب التي يُحيل إليها في متن الكتاب، إذ خلت هوامشه الإحالات والملاحظات، وهي تضحية مؤثرة وغريبة، لصالح تعليقات عرضية في جوانب الصفحات، تضمنت التوضيحات الفنية الإثرائية التي قد تعرقل استرسال القارئ، ومثّل هذا الأمر تحديًا لمترجم الكتاب، الذي واجه عشرات الاقتباسات والإحالات من غير هوامش تحدد الكتب والصفحات، باذلًا جهدًا كبيرًا لنقل الاقتباسات كما هي في أصلها العربي، فضلًا عن ترجمته الرائعة للكتاب.

رهبانٌ وبيروقراطيون

عرف البشر حوامل مختلفة للكتابة، مثل الرق، والبردي المصري، وأشرطة الخيزران، والأقمشة الحريرية، وغيرها، ولكن التحديات التي واجهت الكتابة عليها لم تسمح لها بالتطور، والتأثير في حياة البشر، فقد كان التزوير على بعض هذه الحوامل سهلًا للغاية، والبعض الآخر كان يتعرض للتلف سريعًا، غير الكلفة العالية التي كان يتطلبها تجهيز المادة الخام للكتابة، فعلى سبيل المثال، كانت النسخة الواحدة من الكتاب المقدس تتطلب ذبح بضع مئات من الماشية!

اُخترع الورق بالصين في القرن الثاني قبل الميلاد، وكان يستعمل في البداية للتغليف، إذ كان سطح الورق أول الأمر خشنًا للغاية ولا يسمح بالكتابة عليه، ثم تطورت صناعة الورق شيئًا فشيئًا حتى أمست الورقة الصينية ملائمة للكتابة عليها بعد قرن تقريبًا، ليتوسع استعمالها في الكتابة والرسم والطباعة بالقوالب الخشبية، بل واستعملت مناديل للمراحيض، فينقل المؤلف عن رحّالة عربي في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي قوله عن الصينين الذين زارهم في رحلته المسمّاةعجائب الدنيا وقياس البلدان:

وليس لهم [يعني أهل الصين] نظافةٌ، ولا يستنجون بالماء إذا أحدثوا، بل يمسحون ذلك بالقراطيس الصينية“.

لعبت الصين دورًا أساسيًا في نشر الديانة البوذية، وساهم المبشرون البوذيون بدورهم في نقل صناعة الورق إلى مختلف أرجاء آسيا، وقد تعرف المسلمون أول الأمر على الورق في أنحاء آسيا الوسطى، وهي المنقطة التي وصل إليها الورق بعد خمسة قرون من اكتشافه في الصين، بينما نقل المسلمون الورق إلى شواطئ الأندلس بعد نحو قرنين، وهو ما يلفت الانتباه إلى الاستجابة السريعة التي تعاملت بها الحضارة الإسلامية مع هذا الاكتشاف المهم، خاصةً إذا قارنّا ذلك بحال الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، وعدم معرفتهما بالورق قبل الإسلام، على الرغم من مجاورتهما لطريق الحرير الذي كان الرهبان البوذيون يرتحلون عبره، مبشرين بالبوذية والورق في آن معًا.

جوناثان بلوم

يفند بلوم الرواية التاريخية التي تقول بأن المسلمين تعرفوا على الورق من خلال مجموعة من الأسرى الصينيين في معركة طلاس، ويؤكد على النشأة البيروقراطية لاستعمال الورق في البلاط العباسي، حين أسس هارون الرشيد أول مصنع للورق في بغداد عام 178هـ/795م، لتوفير حاجة دواوين الدولة من الورق، الذي حلّ محلّ أوراق البردي والرقّ، أما عن لحظة الاستبدال هذه، فينقل جوناثان بلوم اقتباسًا مهمًا من مقدمة ابن خلدون حين يقول:

“[فأشار الفضل بن يحيى] بصناعة الكاغد وصُنعه، وكتبَ فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناسمن بعدهصُحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت“.

من هو الفضل بن يحيى؟ كان الفضل بن يحيى البرمكي وزيرًا لهارون الرشيد وأخًا له من الرضاعة، وهو ينحدر من سلالة عملت في البلاط العبّاسي، حين أسلم رئيسها خالد بن برمك، والتحق بالخليفة أبي العباس السفاح، متوليًا النظر في ديوان الجيش والخراج، ومؤسسًا لواحدةٍ من أهم الأسر التي ساندت العباسيين قبل نكبتهم الشهيرة. أما برمك، الذي تُنسب له العائلة، فكان كبير كهنة معبدٍ بوذيّ في مدينة بلخ، شمال أفغانستان اليوم، وهو ما يعني أن الفضل بن يحيى البرمكي قد عرف فضل الورق على سائر حوامل الكتابة من خلال خبرة أسلافه، وساهمت المسؤوليات الإدارية والسياسية التي أُنيطت بكاهل الأسرة في تقديرهم للورق، الذي كان أقل ثمنًا وأكثر مرونةً من ورق البردي والرق، فضلًا عن صعوبة محو ما يُكتب عليه دون ترك أثر يسهل اكتشافه، وهو ما قلل عمليات التزوير.

يرصد الكتاب الرحلة المثيرة التي انتقلت فيها صناعة الورق بين حواضر العالم الإسلامي، ابتداءً من فارس وآسيا الوسطى، وحتى المغرب والأندلس، مرورًا بالعراق والشام ومصر، وما أدخلته كل واحدة من هذه الحواضر من التقنيات والتطويرات على صناعة الورق، سواء في المواد الخام، أو حجم الورقة، أو شكل الأسطح وملمسها، واضعًا على جنبات الصفحات نماذج لمخطوطات مبكرة ومتأخرة لكل إقليم، في صور بالغة الجودة والجمال.

الورقة والخط والمداد

واصل صُنّاع الورق تطويراتهم على سطح الورق، حتى أنتجوا آخر الأمر الورقة البيضاء الأكثر نعومةً والأعلى جودةً على الإطلاق، وهي التي سمحت للخطّاطين إظهار قدراتهم الفنية بكتابة مصاحف في خطوط دقيقة ورقيقة، وكان ذلك بالتزامن مع تطوير الكتابة باللغة العربية، وابتكار أحبار تتناسب مع الورق الجديد.

يكشف بلوم عن الأزمة الأساسية التي كانت وراء تطوير الخط العربي، فالإملاء العربي سابقًا يعاني من مشكلات كثيرة، كانت الحروف غير منقطة، ولم يتفق الكتبة على طريقة محددة في رسم الحروف في أماكنها المختلفة بالكلمة، فضلًا عن علامات الترقيم التي لم تدخل إلى اللغة العربية إلا في العصر الحديث. ولذا كان الحفظ هو الأساس في قراءة الكتب، فعندما يقرأ شخص كتابًا في خط غير واضح المعالم، فهو يستند إلى حفظه الذي يساعده في قراءة الكلمات. فعلى سبيل المثال أعلنت جامعة برمنجهام عن شذرات من مصحف تزعم أنه كُتب في حياة النبي أو بعد وفاته تقريبًا، ولو حاولت قراءة المخطوط من غير استناد إلى حفظك ففي غالب الظن لن تقدر على ذلك.

الكتاب في نسخته الأصلية

يتتبع الكتاب حكاية الخط العربي، من كتّاب المصاحف في المدينة النبوية زمن الأمويين، إلى ياقوت المستعصمي وتلاميذه، مرورًا بخط الورّاقين، وأعمال ابن مقلة عليه، وتلميذ تلاميذه ابن البوّاب، ولعل أهم الخطوط التي يتتبعها هو خط الوراقين، الذي ساد زمنًا طويلًا في دكاكين الوراقة، ومثّل الذروة التي وصل إليها النسّاخون القلقون من معاناة قراء الكتب، فبخلاف المصحف، لا يستطيع القارئ أن يعتمد على حفظه لقراءة كتاب في الفقه على سبيل المثال. سيتطور هذا الخط لاحقًا ليصبح هو خط النسخ الذي نعتمد عليه اليوم، والذي تقرأ هذا المقال من خلاله، ولسهولة الكتابة والقراءة بهذا الخط، استخدمه النصارى في كتابة الأناجيل.

استخدم الكُتّاب أول الأمر مادةً للكتابة على ورق البردي عُرفت باسمالمداد، وكان المداد هذا غير مناسب للكتابة على الرق، فاستعملوا للكتابة عليه مادة أُخرى عُرفت باسمالحبر، لكن هذه المادة كانت غير مناسبة للكتابة على الورق، الذي كان يتآكل بسببها، ولذا أصبح المداد الكربوني هو المعتمد في النهاية للكتابة على الورق.

قاد هذا التطور الثلاثي في الورق والخطوط والأحبار ثورةً مخطوطيةً هائلةً في الحضارة الإسلامية، إذ أمدّها بإمكانيات فريدة استثمرتها في إنتاج معارف وفنون متوعة، وسيكشف الكتاب أن هذا التطور الثلاثي يُمثل البنية التحتية التي قام عليها التطور في الرياضيات وابتكار الأرقام، وكذلك في الجغرافيا ورسم الخرائط، وعلم الأنساب ومشجراته، بل وفي التخطيط العسكري والعمراني، وفي الأخير بالذات يحكي الكتاب قصة الانفصال بين المصمم والبنّاء، والذي حدث لأول مرة داخل الحضارة الإسلامية، تحت تأثير الاختراع العظيم: الورق.

ولأن جوناثان بلوم مؤرخ في الفن بالذات، فقد خصص فصلًا لأثر الورق في الفنون الإسلامية، يُبيّن فيه كيف أتاح الورق مساحة واسع للفنانين المسلمين، الذين وضعوا بصماتهم داخل الكتب الأدبية، واستغلوا إمكانات الورق لتزيين المساجد والقصور والأضرحة والعملات والمنسوجات والأواني الخزفية وغيرها بالرسومات والعبارات المكتوبة بخطوط بالغة الجمال. أتاحت الخلفية العلمية لبلوم رصد هذه التطورات التي وفّرها الورق، ولكنه تكلم بشكل طفيف عن أثر الورق في العلوم الشرعية وتطورها، ولم يتتبع مخطوطاتها والظواهر الفنية بها، وهي ثغرة كبيرة في الكتاب، حتى أنني قرأت مراجعةً للكتاب في النيويورك تايمز لكبير النقّاد الفنيين بها، يستنتج من الكتاب أن الدور الأبرز للورق كان علمانيًا! وهذا يخالف واقع المخطوطات التي كان غالبها يدور في فلك العلوم الشرعية، والعلوم التي تخدمها.

الورق في المطبعة

اضمحلت صناعة الورق في العالم الإسلامي تحت ضربات تيمورلنك، الذي قضى عليها تمامًا في العراق والشام، وأخذ معه نخب الحرفيين إلى عاصمته سمرقند. بينما عصفت الأزمات الاقتصادية في مصر تحت حكم المماليك بصناعة الورق، وجعلت العرب والمسلمين مجرد مستوردين ومستهلكين للورق الأوروبي، وواجهوا معه مشكلات شرعية، فقد كان التجار الأوروبيون يضعون علامة مائية على الورق تُمثّل علامة جودة، وكانت هذه العلامات في أكثر الأحيان على شكل صليب.

تعرف الأوروبيون على صناعة الورق من خلال المسلمين في الشام والأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة، الحادي عشر والثاني عشر للميلاد، وهو ما مهّد الطريق لاختراع المطبعة ذات الحروف المتحركة بعد خمسة قرون من استعمال الأوروبيين للورق، وما كان للمطبعة أهمية كبيرة من غيره، فقد كانت طباعة نسخة واحدة من كاتب على الرق، ستساوي قيمة نسخ كتاب واحد على الورق، فضلًا عن كُلفة إعداد الرق من جلود الماشية، ولذا يُصرّ بلوم أن المطبعة بوصفها واحدة من أهم محركات التغير الاجتماعي والسياسي بأوروبا، ما كانت لتكون لها أهمية تُذكر لولا الرحلة التي عبرتها الورقة من غرب الصين إلى الأندلس، والتي كان أبطالها المسلمون.

وتتكرر تفسيرات بعض الباحثين حول سبب رفض العالم الإسلامي للمطبعة، ويعيدونها في الأساس إلى فتوى شيخ الإسلام العثماني المحرّمة لها، ثم يبنون على ذلك نظريات حول موقف الإسلام من العلم والمعرفة والابتكارات. يُقلل جوناثان بلوم من أثر غياب المطبعة على انتشار المعرفة في العالم الإسلامي، الذي عوض غيابها من خلال آلية الإملاء والاستملاء، وكفلت هذه الطريقة بإصدار عشرات بل مئات النسخ للكتاب الواحد، ثم يحدد المؤلف السياق الاجتماعي الذي ظهرت فيه المطبعة بأوروبا التي كانت تعيش نزعةً تقنية، بينما لم تظهر في العالم الإسلامي مثل هذه النزعة، وكان يعيش في حواضره آلاف النسّاخ الذين اعتاشوا من نسخ الكتب والمصاحف، وكان اختراع المطبعة يهدد حياتهم بصورة كبيرة، فضلًا عن المخاوف العلمية من تحريف الكتب، وهي ذات أثر بالغ ومتفهم من رفض المطبعة.

سُرعان ما تلمس الأوروبيون المنفعة من طباعة الكتب العربية، وهنا يكشف لنا الكتاب عن قصة دخول الحروف العربية إلى المطبعة في أوروبا، وابتكار خطوط مناسبة لها، ثم طباعة الأناجيل والمصاحف والكتب، قبل أن يعود العالم الإسلامي لتصحيح موقفه من المطبعة، بعد أن خفّت الاعتراضات على طباعة الكتب باللغة العربية  إبّان ابتكار الطباعة الحجرية.

شارك الصفحة

قصة الورق: ماهو أهم من المطبعة والبارود والبوصلة قراءة المزيد »

الطبري .. حياته وآثاره

Picture of عمرو شرقاوي
عمرو شرقاوي

باحث في التفسير

«الطبري .. حياته وآثاره»، من تأليف: فرانز روزنثال، نقله إلى العربية، د. أحمد العدوي.

نُشِرَ الكتاب عن مركز تراث للبحوث والدراسات بمصر، وصدرت طبعته الأولى في ذي القعدة 1442 هـ/يونيو/حزيران 2021م، ويقع في (287 صفحة).

والكتاب عبارة عن مقدِّمة للترجمة الإنجيليزية لـ«تاريخ الطبري»، كتبها (فرانز روزنثال)، وضمَّنها سيرة مفصَّلة لحياة أبي جعفر الطبري (ت: 310)، وتضمنت سردًا لمصنفاته، ما وصلنا منها، وما لم يصلنا.

و(فرانز رونثال) أحد روَّاد الاستشراق الأمريكي، وينتمي إلى عائلة يهودية الأصل في (برلين)، وتتلمذ على نفرٍ من كبار المستشرقين الألمان، وهو مستشرق غزير الإنتاج، ومن أهمِّ أعماله ترجمته لـ «مقدمة ابن خلدون»، وتحقيقه لكتاب السخاوي (ت: 902) «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ»، وكتابه: «علم التأريخ عند المسلمين»، وغيرها، وتوفي (روزنثال) عام (2003م).

فرانز رزنثال

قسَّم (رونثال) مقدِّمته أو كتابه الذي ترجمه د. أحمد العدوي إلى خمسة أقسام:

القسم الأول: ملاحظات عامة على المصادر.

وتعرض فيه للمصادر التي ترجمت للطبري (ت: 310)، وذكر فيه بعض الكتب المفقودة في الترجمة لأبي جعفر (ت: 310)، ونبَّه على بعض الملاحظات النقديَّة المتعلقة بالمصادر، وقد اعتمد في ترجمته على مصادر أصلية، وهي:

1- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (ت: 463).

2- تاريخ دمشق، لابن عساكر (ت: 571).

3- معجم الأدباء، لياقوت الحموي (ت: 626).

4- سير أعلام النبلاء، للذهبي (ت: 748).

واعتمد على كثير من المصادر الأخرى غير الرئيسة جمع منها عدة أخبار من أخبار أبي جعفر (ت: 310)، وألَّف بينها.

القسم الثاني: الطبري؛ صباه وشبابه.

استعرض فيه حياة الطبري (ت: 310)، المولود في (آمل) بإقليم (طبرستان)، والتي ظل الطبري على صلات حسنة بأهلها حتى بعد استقراره في بغداد، كما تعرض لنشأته، وحاول أن يستنبط شيئًا عن عائلة الطبري، وبخاصة والده، الذي كان ينفق على ولده محمد بن جرير طيلة حياته، وذكر البلاد التي رحل إليها طلبًا للعلم، وأبرز أصحابه في رحلته، وشيوخه، ومن لقيه من علماء الأمصار التي رحل إليها، وأشهر ما تعرض له من محن، كما عرض لقضية اتهامه بالتشيع.

ومن الملاحظات الجيدة التي قدَّمها (روزنثال) أهمية الانتباه إلى «الجوانب الشخصيَّة في حياة العلماء»، وأنَّ كثيرًا من المصادر تميلعادةإلى تجاهل ذلك.

القسم الثالث: نصف قرن من النشاط العلمي في بغداد.

وقسَّمه إلى قسمين:

الأول: الطبري الإنسان.

وتعرض فيه إلى جوانب من حياة أبي جعفر (ت: 310)، وطريقته في يومه، وملبسه، ومأكله، وتعامله مع أصحابه، والناس خاصَّة كانوا أو عامَّة، وذكر فيه أشياء طريفة أكثرها مأخوذ من أوسع ترجمة عربية للإمام الطبري (ت: 310)، وهي التي أودعها ياقوت الحموي (ت: 626) كتابه «معجم الأدباء».

وقد أظهر المؤلف في هذا القسم جانبًا مهمًّا من حياة أبي جعفر (ت: 310)، وبيان ما كان عليه من توازن، وحسن عشرة لأصحابه، وجلسائه، وتلامذته، والناس.

وقد أثار المؤلف قضية زواج الإمام الطبري (ت: 310)، وتكلم فيها بكلام طريف، يمكن للمتأمِّل أن يقف عنده، وتعرض لموقف الإمام من الوظائف الرسمية، والبعد عنها، مما يعرف القارئ ما كان يمتلكه الطبري من نفس شريفة.

ومن الأمور الطريفة التي أظهرها (روزنثال) ما كان عليه الطبري من مظهر حسن، واهتمام بصحته، وتجنبه لبعض المأكولات، وإقباله على البعض الآخر، وطرافة ذلك التي كانت تظهر منه رحمه الله.

الثاني: الطبري العالم.

كان الطبري (ت: 310) ذا همة عالية في سائر العلوم، وكان من أهل التبحر فيها، وقد ظهر ذلك في العلوم التي كتب فيها، ويكفي: تفسيره، وتاريخه، وما كتبه في الفقه والحديث.

وتعرض (روزنثال) لخصومته مع الظاهرية، ومحنته مع الحنابلة، وما كان عليه الطبري (ت: 310) من توسط واعتدال في هذه المواقف، وذكر شواهد ذلك من خلال مناظراته لبعض العلماء، وتحدث عن انتشار مذهبه (الجريري)، حتى انتهى إلى وفاته رحمه الله ورضي عنه.

وأظهر (روزنثال) جانبًا مهمًّا من الجوانب التي برع فيها الطبري (ت: 310)، وهو الجانب الطبي، وقد كان كتاب (فردوس الحكمة) لعلي بن ربن الطبري (ت: 236) من مصادر الطبري (ت: 310) الطبية، ولا يزال الكتاب من أهم المصادر الطبية القديمة!

القسم الرابع: مصنفات الطبري (ت: 310).

توسع (روزنتال) في هذا القسم فذكر المطبوع والمفقود من تراث أبي جعفر (ت: 310)، وحاول ترتيبها، وأجاد في هذا القسم بما يفتح مجالًا للبحث ممن جاء بعده.

وقد أشار في ثنايا ما ذكره عدة عبارات للإمام الطبري (ت: 310) من كتبه النفيسة التي لم يُعثَر عليها بعدُ، ومن ذلك قوله:

إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوُّه الموكل به عن دعائه إلى سبيله، والقعود له رصدًا بطرق ربِّه المستقيمة، صادًّا له عنها، كما قال لربه، عز ذكره، إذ جعله من المنظرين: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(١٧) [الأعراف: 16-17] طمعًا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال لربه: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) [الإسراء: 62]، فحقٌ على كل ذي حجى أن يُجهد نفسه في تكذيب ظنِّه، وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه، ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه، وعصيانه أمره، ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه، واتباعه أمره” [نقله الذهبي (ت: 748) في سير أعلام النبلاء: (14/ 278)].

القسم الخامس: تاريخ الطبري.

تكلم فيه عن نشأة مشروع ترجمة تاريخ الطبري، وما قابله من صعوبات إلى غير ذلك.

وذيل (رزنتال) مقدمته بملحقين:

الأول: جزء من تفسير الطبري (ت: 310) لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(٧٩) [الإسراء: 79]، وهي الآية التي تسببت بنشوب الخلاف بينه وبين الحنابلة، وجزء من تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، وكانت أحد أسباب اتهامه بالتشيع!

الثاني: تضمن تصنيف الإنتاج الأدبي للطبري، وترتيبه زمنيًّا.

وقد أدَّى مترجم الكتاب د. أحمد العدوي خدمة عظيمة للكتاب تمثلت في أمور:

الأول: ردُّ النصوص إلى أصولها العربية من نفس المصادر التي اعتمدها (روزنثال).

الثاني: التعليق على النص توضيحًا، واستدراكًا.

وبالجملة: فإن الكتاب قد جُمع فيه ما تفرق في غيره، ويمكن أن يكون قاعدة انطلاق لكثير من المناقشات حول حياة الإمام أبي جعفر الطبري (ت: 310)، وتراثه.

وفي الكتاب من التحليلات ما يمكن أن يناقش فيه المؤلف، وقد أحسن مترجم الكتاب في مواضع كثيرة من تعليقه على أوهام (روزنثال).

ويمكن أن نشير في خاتمة هذا العرض إلى بعض المصادر المهمة التي يمكن الرجوع إليها لمعرفة أبي جعفر وحياته، ومنها:

1- معجم الأدباء، لياقوت (ت: 626): (6/ 2441).

2- أصول الدين عند الإمام الطبري، د. طه محمد رمضان، ط. دار الكيان.

3- الاستدلال في التفسير، دراسة في منهج ابن جرير الطبري، د. نايف الزهراني، ط. مركز تفسير.

وأختم تعريف الكتاب بقول الإمام ابن العربي المالكي الأندلسي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(٥) [المزمل: 5]، ستة أقوال، والسادس منها قوله:

ثقله: أنَّه لا يبوء بعبئه إلا من أُيِّد بقوة سماوية، وكذلك هو، ما أعلم من حصَّله بعد الصحابة والتابعين إلَّا محمد بن جرير الطبري، [سراج المريدين: (2/ 431)].

شارك الصفحة

الطبري .. حياته وآثاره قراءة المزيد »

كيف أسسنا #مكتبة_بكل_مكان؟

كيف-أسسنا-مكتبة-في-كل-مكان

يتقاطع المقهى مع القراءة بشكلٍ غريب، إذ يجتمع فيهما الاختلاء مع الذات أو الصديق، وشعور الصفاء والترويح عن النفس، والانزواء عن العالم، ليصبح الفرد فيهداخل المكتبة/المقهى، خارج العالم!”، كما هو عنوان كتاب المترجم الأستاذ راضي النماصي.

بداياتٌ متعثّرة

ذات يومٍ، وأثناء لقائي مع الصديقمحمد عبدالجبّاربأحد المقاهي، اتفقنا على تأسيس مبادرة تطوعية لنشر المكتبات المصغرة في المقاهي، بتكاليف تقترب من الرقم صفر!  وذلك عن طريق التواصل مع المؤلفين، وعرض الفكرة عليهم، ليتبرعوا للمشروع بنسخ من كتبهم، ثم ننسق لاحقًا مع المقاهي لتخصيص مساحة بسيطة من المقهى لعرض الكتب بها.

وجرى التنسيق على أن تعمل كافة الفرق التطوعية التابعة لفريق رفد في كافة مناطق المملكة لتحقيق نفس الهدف  تواصلتُ أولًا مع الأصدقاء في نادي القراءة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وبدأنا المشروع على نطاقٍ ضيّق، كنّا نزور المقاهي القريبة من منازلنا، نحصل على مواعيد مع أصحاب المقاهي، غالبًا ما رُفضت فكرتنا، ونادرًا ما تلقاها مُلّاك المقاهي بالقبول، كانوا يرفضون أحيانًا لصغر حجم المقهى، أو عدم وجود مساحة مخصصة للكتب، بالرغم من توفر مساحاتٍ كبيرة في أحايين كثيرة. كان بعض العاملين يُصارحوننا بصعوبة أخذ الموافقة من الإدارة، وأذكرُ أني في أحد المرّات انتظرتُ ساعتين حتى أتمكن من لقاء صاحب المقهى، والذي وافق مباشرةً بمجرد شرح الفكرة!

واجهتنا مشكلةٌ أخرى مع المؤلفين، إذ كان عدد منهم لا يرى أهميةً لوجود الكتب في المقاهي، والبعض الآخر كان يشترط أولًا انتشار الفكرة ونجاحها، بينما اعتذر آخرون لعدم وجود مظلة رسمية لمبادرتنا في ذلك الوقت. وبالمقابل فقد أخجلنا كرم عدد من المؤلفين، إذ سرعان ما راسلونا بالنسخ مشجعين ومثنين على المبادرة وفريقها، وهو ما دفعنا للمضي قدمًا رغم كل شيء.

التحليق عاليًا

نسقنا مع المجموعات التطوعية التابعة لمؤسسةرفد، وفرقها منتشرة في كافة مناطق المملكة، حملوا على أكتافهم المبادرة لأفكار لم نحلم بها، فقد توالت الأيام، وكبُرت الفكرة، وازداد عدد الفرق التطوعية في مختلف نواحي المملكة، جدّة، الرياض، المدينة المنورة، خميس مشيط .. كان الفريق ينمو شيئاً فشيئاً، وأصبح الكتّاب يتواصلون معنا للتبرع بكتبهم، والمقاهي تراسل الفريق على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لتدعوه إلى افتتاح مكتبات في فروعها، ولم أصدق نفسي وأنا أرى واحدًا من كبرى مقاهي الرياض يدعونا لافتتاح مكتبة في أكبر فروعه!

استمرّ البرنامج قرابة عام ونصف، افتتح الفريق في كافة أنحاء المملكة ما يزيد على 350 مكتبة في المقاهي، أصبح زوّار المقاهي يتصفحون عناوين الكتب في الوقت الذي ينتقون مشروبهم المفضل من قائمة الطلبات. هل نشعر بالفخر؟ بلا شك. هل كان العمل مرهقاً؟ والساعات التي شملت التخطيط والمتابعة وتفعيل حلقة الوصل بين المتبرعين بالكتب والمقاهي مرهقةً أيضًا؟ كانت بلا شك تحدياً حقيقياً، لشباب في بداية حياتهم المهنيّة وأعباء الوظيفة والأسرة تناوشهم. لكن الأمر حدث والحمد الله! بدأت الصحف تتواصل معنا لنشر أخبار وتغطيات لنا، واستضافت قناة فضائية شهيرة مؤسس الفريق ، كما دعمنا عدد من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي.

التطوّع النبيل

لا ينكشف لنا غير وجه واحد للنجاح في كثير من الأحيان، لكني عرفتُ معرفدأن له أكثر من شكلٍ ومظهر، فكلّ مرةٍ أزور أحد المقاهيصدفةًوأرى مشروعنا قد وصل إليه، وأتأمل المكتبة في جانب من جوانبه، ينتابني شعورٌ غامرٌ بالرضا، وتتعاظمُ السعادة عندما أرى شخصاً يقرأ أمامي ما كان نتاجاً لجهدنا التطوعي.

في التطوع قصصٌ لا تنتهي، وجوهرهُ نبيلٌ لا تقف عليه في غيره من المجالات، وكانت واحدةً من أهم التحديات التي توقعتها هي البحثُ عن متطوعين في كافة المدن، فما الذي يدفعُ إنساناً لبذل وقته، وجهده، وماله كي ينشر لتوزيع كتب في المقاهي المنتشرة بمدينته؟ وما الذي يجبره أن ينتظر ساعاتٍ للقاء مدير أو مالك المقهى؟ ثمّ لماذا يتقبل رسائل الرفض أو التجاهل من ملّاكها أو مدراءها بأسلوبٍ فجّ غير مقبول؟ أو من مؤلفي الكتب في بعض الأحيان؟ والحقيقة أن قلةً قليلةً قد صبرت معنا وكافحت لحين تحقيق هذا الهدف النبيل، وواجهت التحديات لحين الوصول إلى مستوىً مقبول من الإنجاز، ولا أزال أذكر شاباً كان يفتقرُ للمواصلات، وكان جلّ ما يستطيع فعله هو نشر الصور والتصاميم على وسائل التواصل الاجتماعي، نبيل!

الدروس والنهايات

وبالنسبة للمردود على الصعيد الشخصي، فقد تعرفت على شبابٍ متفانين بحق، باذلين لكلّ ما في وسعهم لإنجاز المطلوب دون كسلٍ أو ملل، وأقلّ ما أكسبتني إياه هذه التجربة الفريدة هي الخبرة، في التعامل مع مختلف فئات المجتمع سواءً لملاك المقاهي أو المتطوعين وإدارتهم، ومن أصعب ما واجهت هو التحفيز غير المادي، الأمر الذي يتطلب درايةً كبيرة في الذكاء العاطفي والاجتماعي، وما يتطلبه أعضاء الفريق لإتمام المهام، وأيضاً الجمعُ بين الوظيفة ومهام التطوع وباقي المهامّ الموكلة إليّ في الأسرة أو الحياة الشخصية، فقد باتت مهارة إدارة الوقت، وإدارة ضغوط الحياة من أهم المهارات في هذا العصر.

كانت النهاية لحظة أن قرر الفريق التوقف عن المشروع، وذلك لأن الغاية قد تحققت بالوصول إلى نسبة ممتازة من تغطية المقاهي في المدن الرئيسية للمملكة، الأمرُ الذي جعل الفريق يقرر إنهاء المبادرة والتركيز على مشاريع أخرى متنوعة، كإقامة المحاضرات الثقافية، واستضافة ضيوفٍ مؤثرين في مختلف مجالات المعرفة، خصوصاً مع تزامن أزمة كورونا مع تحول أغلب الأنشطة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، أو الاجتماعات الافتراضية عن بُعد، كما صار  التركيز على جانب تلخيص الكتب صوتياً، أو مجالالبودكاست، وأطلق الفريقبودكاست مكاتيب، والذي شرفتُ فيما بعد بتقديم برنامجٍ من عشر حلقات بعنوانرواحل“.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.

كيف أسسنا #مكتبة_بكل_مكان؟ قراءة المزيد »

سبحات الذوق: قراءة تذوقية على ضوء كتاب تذوّق الشعر لـ أ.د. كمال لاشين.

لمَّا كان مطلع استحسان الحسن في هزَّة الطرب التي تسري في نفس المستقبِل عفوًا دون تكلُّفٍ واستنطاق؛ كان التذوُّق مفتاح باب الجمالفي النفس والكونومهمازُ حسن استيعابه واستثماره من بعد سريان الحياة فيهِ عبر وسيط اللغة. ولمَّا كانت القراءة لغةً هي الضمَّ والجمع وفك الرموز بخلق الوشائج فيما بينها حتَّى تُبين عن أسرارها؛ كان قدر الإبانة عن مقصود الكاتب بقدر اتساع الجمع بين رموزه ومعانيه؛ جمعًا يؤدِّيه لاستقرار المعاني في نفسه استقرارًا ينفذ منه إلى تصوراته وانفعالاته اللغوية والسلوكية والحسِّية، وإنما تحصل القدرة على الجمع بين المتشابهات على قدر تذوُّقها، ويكون تأثيرها على وسع فقهها؛ ولا يكون ذلك إلا بتكرار التعرُّض حتَّى تلين الأسباب وتتفتَّق الأفهام ويكون التذوّق مرتبة شمَّاء من مراتب الحسِّ والبصيرة والحذق = يدخل بها صاحبها إلى مسارب المعاني مما كان ظاهره الاستتار. يقول الدكتور الأستاذ محمد أبو موسى في كتابه خصائص التراكيب: “قدرتك على التذوُّق هي بداية الطريق في البلاغة، فإذا لم توجد هذه القدرة فليس هناك طريق ولا بلاغةويزيد: “حين ينظر ليتعرَّف على أسباب الحسن أو الاستهجان يكون قد بدأ العمل البلاغي، ويكون قد وضع قدمه على طريق علماء هذا العلم، وشغله حينئذ هو تفقُّد اللغة، والأحوال والصيغ والخصوصيات، والصور والرموز، وكل ما يتَّصل ببنية الشعر واللغة والأدب، ثم إنه لا يقع على هذا الذي وجب به الفضل إلا بمعونة الذوق، وهذا يعني أن هناك مرحلة سابقة للنظر البلاغيِّ يكون الدارس فيها قد هيأ نفسه وأشربها من بيان اللغة وجيِّد الكلام“.

ومثل هذا لا يختص بباب اللغة والأدب فحسب، بل يخلع معناه على ميادين المعارف والسلوكيات الإنسانية؛ فعلمك بالشيء يكون أبلغ متى أحسنت تقصِّي مظان حسنه، وهذا التقصي المستملح إنما يكون جبلَّة في أصل خلقة الإنسان الذي صوَّره خالقه في أحسن تقويم ابتداءً، وأودع فيه قصدَ الإحسان والاستحسان، وبثَّ فيه القدرة على نوال مراده، وهو على هذا قد أتاح له فسحة الاختيار فيما دون ذلك، فالمرء يسمو بحسن اختياره إن شاء حتَّى يبلغ عنان السماء، أو يهوي برداءة ذوقه سبعين خريفًا في مهاوي الفساد والازدراء، وقد عهدنا هذا المعنى الذائع في لغة العرب حين قالت: ”اختيار المرء وافد عقلهومثله: ”قيمة كل امرئٍ ما يحسنه، فحسن الانتخاب في أصله منقبة تُبين عن قدر صاحبها وعقله ووجدانه؛ ولعل الجاحظ ممَّن أوثق عُرى الاتصال بمحاسن المعاني ومُلح المباني، فكان إمام عصره في هذا الباب حتى قال فيه ابن العميد: ”كُتب الجاحظ تُعلِّم العقل أولًا، والأدب ثانيًا؛ وما أحوج الإنسان في رحلة عمره لمن تكون خلطته محراثًا لتهذيب حسّه، وجلاء فهمه، وحسن ذوقه، فبمثلهم يعلو ويأتلق في كلِّ حال.

التذوق تحت سماء المعجم اللغوي

أمَّا التذوُّق لغة: فمن ذاق الشيء، يذوقه ذوقًا، وذَوَاقًا، ومذاقًا: إذا اختبر طعمَه، والتمسَ معرفة مذاقه في الفم. والتذوُّقبناء على وزنالتفعُّلمن: ذاق يذوق ذوقًا؛ فهو يفيد معنى المبالغة من حيث أفاد تكرار الفعل المرة تلو المرة،وبالنظر إلى أصل اللفظ فإن الذوق أصله: ما أُدرك بوجهٍ من وجوه الحسِّ كما علمت، ودَلالة الحسِّ هي الأصل، وهي الأقوىكما يقول الدكتور كمال لاشين في كتابه تذوق الشعر. وقيل أن الذوق ليس حاسة مستقلة، فجعلوه من جملة حاسة اللمس، ثمَّ إنهم نقلوا الذوق والتذوق من باب المحسوسات إلى باب المعنويات على ما جرت عليه ألفاظ اللغة العربية نحو: ذاق السيف، وذاق الفرس: إذا اختبرهما، وقد ورد في شعر العرب مصداق ذلك؛ كشعر كعب بن سعد الغَنَوي لما أنشد: “وما ذاق طعم النوم غيرُ قليل، كما وردت ألفاظ الذوق والتذوق في محكم كتابه فجاءت في معنى العذاب: ﴿ليذوقوا العذاب﴾ [النساء: 56]، وجاءت في معنى الرحمة ﴿وليذيقكم من رحمته﴾ [الروم:46].

ولعلنا لو فصَّلنا القول في هذا الباب فأصل الذوقولا يخفى على شريف علمكمتعلِّقٌ بالطَّعوم، وعلى هذا فلا يبلغ سرَّ النكهة المنزوية إلا خبير، قد سبر مكنُون المكوِّنات بروحه، وجاوز حصر مجرَّد البلع إلى رحابة التلذًّذ بانسجام الأضداد وائتلاف المتباينات، ومثل هذه المنزلة إنما تكون مَلكة جبلِّية وفتح ربَّاني يناله وافر الحسِّ موفور المعاني في نفسهِ؛ فيستخرج ضياء المعنى العميق من أسداف ظاهرها، ويصطاد الفكرة الغرَّاء من خِباءها المبهم إلا عمَّن درك شعابها على قدر ارتياده لمظانها، وبذا يمايز بين جيِّدها ورديئها، وينتخب الدرَّ من بين الحلي انتخاب المدرك المتمرّس الحصيف لا الجاهل الغِر

ثلاثية الإحسان والإنسان والتذوّق

أمَا وقد بيَّنا معنى التذوُّق فيلزم ذلك أن نعرّج على أصل المفهوم في التكوين الإنساني لينطلق الإنسانُ من جوهره لأفلاك المعنى في حياته ومعارف دنياه، فيسلك سبيلًا إلى أسرار المعاني بحسن تذوُّقه، وهل يكون ذلك إلا باستحسان الحسن طبيعةً؟ فالمرء بفطرته مجبولٌ على حب المحاسن والأطايب؛ تدفعه نفسه دفعًا للطيِّب من القول والعمل، ومن هذا حسن التعبُّد، وحسن التفاعل الإنساني، وحسن الخلق، وحسن العلم، وحسن البيان. ويكفي الإنسان أن يطالع تاريخه حتَّى يتفطَّن لمبتدأ المحاسن في لغته وإرثه المعرفي، فالعرب إنما تجلَّت لغتهم وآثارهم وآدابهم عن طريق الاستدلال أيبدلالة الخبر الشاهد على الغائب من الأخبار، وهذا الاستدلال يقوم أوَّل ما يقوم على حسن التذوّقكما يشير الأستاذ الدكتور كمال عبد الباقي لاشين، ويزيد في موضعٍ آخر مُبينًا عن حسن تذوق العرب في جاهليتهم وحين حسن إسلامهم نظير مخالطتهم لفحول الشعراء والخطباء،ومن طريق ما كانوا يحسنونه من تذوُّق طبقات البيان عُرِض عليهم القرآن، ودُعُوا إلى الإيمان؛ لأن دعوتهم إلى الإسلام كانت تقتضي أن يوقنوا أن القرآن الذي يُتلى عليهموهو مُعجزة النبي إليهممباينٌ لجنس كلامهم، فائت له، وإن كان بلغتهم نزل.” وبتذوُّق بيان القرآن استيقنوا الإسلام على ما عهدوا من تذوُّق بيان فصحاء العرب وبلغائهم. أمَّا حسن التذوُّق بالمجمل فآية القلب السليم من أوضار الدنيا وآفات الزمان، وبرهان النفس العلية الشريفة، ودلالة على العقل القويم المستنير؛ فالإنسان النبيل إذن صنو الذوق الرفيع، يلازمه في كل حال، في سكناته وحركاته وفلتاته، تعرفهُ عبرها وتستدل بها عليه أينما حلَّت رحاله. يقول شيخ العربية محمود شاكر في فضل التذوق على حضارة الأمم: “كل حضارة بالغة تفقد دقة التذَّوُّق، تفقد معها أسباب بقائها، والتذّوُّق ليس قوامًا للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضًا قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله وتباين أنواعه وضروبه“. فالتذّوُّق إذن ملازم لنهضة الأمم، وهي ضرورة مُلحة لرفعتها باستعذاب كل حسن، وتطلب كل مليح على وسع طاقة أربابها. يزيد الناقد الفذ والأديب الجهبذ فيقول: “فحسن التذوق يعني سلامة العقل، والنفس والقلب من الآفات، فهو لب الحضارة وقوامها، لأنه أيضا قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارةوهذا يتعاضد مع ما قدَّمنا في هذا المعنى، وهو مؤكَّد على جدوى تهذيب الأذواق في أبواب الدنيا إذ بها تدبُّ الحياة في جسد الأمة؛ولن تتمكن الأمة من إعادة بناء نفسها، وبعث حضارتها الوليدة، والبناء عليها، إلَّا بالعودة إلى حسن التذوُّق. فلن يحصل آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها“. فليس بوسع المرء منَّا أن يتذوّق معرفة وبيان على الوجه المحمود التام في معزلٍ عن علومها وفكرها وحضارتها وسياقها الاجتماعي والثقافي ونحو ذلك.

محمود شاكر رحمه الله

الجمال بوصفه فرع التذوق

ما ينفك التلازم المنطقي بين معنى التذوُّق ومعنى الجمال، فالعلاقة بينهما تبادلية، يتذوّق المرء الجمال ليشعر به ويستشعر ذاته وكينونته، ويتموضع الجمال حتَّى يلقى متذوقًا بصيرًا يستنطق مكامن حسنه. وللجمال موقع محجوز في فضاءات الفلسفة، فكانط ممَّن عَدَّ الجمال من أسباب المتعة وهو لا يتجزأ عنده من العملية المعرفية؛ حيث أن الخيال والفهم يتشاركان على حدٍّ سواء في إنتاج المعرفة. وفي حالة الجمال تصبح الكليات المعرفية للخيال والفهم في حالة من اللعب الحر، وفي نوعٍ من التفاعل المتناغم. وقد أوجز شيخ البلاغيين محمد أبو موسى لما قال مقولته الذائعةأُعيذك بالله من أن تقرأ ما يُدهش ولا تندهشفحركة الأفكار في النفس والعقل إنما هي جوهر المعرفة وينبوع الفائدة مذ كانت العناصر المرئية والمقروءة والمكتوبة فاعلة في بعضها البعض، تتناغم وتنسجم بحسب قدرة الناظر والوارد في خلق الصلات فيما بينها، وعلى وسع طاقته في ردِّ ما حقَّه الرد منها وتنظيم ما شذَّ منها، وتفريع ما لزم، وهذه سمات المتذوِّق حقًا. وللدكتور أبو موسى إشارة بديعة هَهُنا يقول فيها: “العقل الذي يستحسن الحسن، ليس أقل مقدارًا من العقل الذي صنع الحسنوهذه مقاربة جليلة تفيد بعلو كعب الذائقة الحسنة التي حسن معها الاصطفاء كما حسن من الصانع صنعته فيما شاء. وقد ورد عن سهل بن هارون على لسان الجاحظ في البيان والتبيُّن قوله الخلَّاب: “العقلُ رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلموكلُّ عنصر كما تلحظ إنما هو عاملٌ فيما ينعقد به، وقد علَّق الدكتور كمال لاشين على هذا فقال: “البيان الإنساني حامل لكل ما يدل على الروح والعقل والعلم. ومعنى هذا أننا في تذوقنا للبيان في أي صورة كان، إنما نبحث في بيان الرجل عن مبلغ علمه، ونبحث في علمه عن مبلغ عقله، ونبحث في عقله عن روحهوهل التذوّق بعد هذا إلا قراءة في صفحات الدنيا سعيًا للبحث عن روح الإنسان التي هي جِماع مناقصه وفضائله؟ 

أداة التحصيل المعرفي والذوقي

لا يخفى على سليمِ ذوقٍ فضل البيان على سائر المزايا اللغوية والفكرية، فالمعنى المعتاد الباهت يغدو نضرًا إن حسن بيانه وكمل بنيانه بجودة الديباجة، وكم من معارف خارج الأطر الأدبية استمالت العقول والألباب بما ازدانت به من صنعة بيانية. يقول الدكتور أبو موسى: “عظمة البيان العالي أن يجعل ما لا قيمة له لا قيمة فوقه، وقد نقل محمد كرد علي عن بلونشلي الألماني ما تعريبه: “للآداب في أفكار الأفراد تأثير أعظم من تأثير العلم، إذ أن لجمال الشكل والصورة وقعًا كبيرًا في النفس أكثر من العلوم التي هي في الغالب قضايا غثّة باردة، وإن كتب شكسبير معروفة أكثر من كتب نيوتنوهذا واقعٌ ومشاهد في مختلف الثقافات والسياقات المعرفية، وإنما يدل على الطبيعة الفطرية التي تهفو للجمال تذوقًا وحسًا. والمرء منَّا يقوِّمُ ذوقه بكثرة مخالطة البيان العالي وأهله، ويهذِّب عقله بقدر ملازمته للنبهاء النوابغ في فنونهم وعقولهم، وقياسًا فمنادمة الكتاب الذي يعلو بحسِّك لا يقل أهميَّة عن الكتاب الذي يسمو بعقلك، بل ولعله يزيد عنه بدرجة لأن الحس اليقظ دليل حياة، والمرء إنما يحتاج لحياة حسِّه خارج دفتيِّ الكتب لتستقيم دنياه وأهلها، فإن وافق حسن البيان دقَّة الفهم وجلاء العقل فقد حيَّزت النعم وظفر النديم.

تذوق النصوص موسوم بفن المتذوق ومجال اهتمامه

لعل ممَّا يُحمد في المختص انسدال ظلال صنعته ومناط مهارته على سائر علومه وسلوكياته، وهذا مشاهد في أحوال متباينة، لكنها في الشعر أظهر، فتجد علماء اللغة والرواة ينتخبون من الشعر ما يلازم صنعتهم وما هو ممتد من جذع علومهم، يقول الدكتور لاشين: “النحويون اختاروا من الشعر ما فيه صنعة إعراب، وأهل الغريب والمعاني اختاروا منه ما فيه صنعة غريبٍ محوجٍ إلى تفسير، أو معنى خفي محتاجٌ إلى استخراج، وأهل الأخبار والأنساب اختاروا ما فيه الخبر والنسب والمثل والشاهدفلا ينفك متذوّق من مثل هذا بل وبه يحصل التفاضل، وكما قال ابن جني مرَّة في سياقٍ موافق: “من أتقن علمًا فقد أتقن علومًاوعلى نسقه: فمن تذوَّق معنى فقد ذاق معانٍ؛ تنكشف له بالزمان، إذ من سمت الجمال ألا ينكشف دفعة واحدة، ولا يلقاك بحسنه من أول مقابلة، إنما يبوح لك بأسراره على قدر ورودك وتكرار مطالعتك، فإن انكشف منه نزر فقد أذن لما بعده بالظهور. يقول الدكتور محمد أبو موسى في هذا المعنى: “ومن عمد إلى جليل فنظر فيه نظرًا قريبًا سطحيًا فقد صغّر ما حقِّه أن لا يصغّروعليه فالمعاني الشريفة إنما بلغت شأوها هذا على ما يلقاه الطالب من جهدٍ حتى يبلغها، وينال منها ثمرة صبره و عاقبة جهده؛ فتلذُّ عنده، ويمتد أثرها في نفسه وعقله وبيانه وسلوكه.

محمد أبو موسى

في ميادين حسن الانتخاب وحسن الاستشهاد

تقول العرباختيار المرء قطعة من عقلهويقول الجاحظ “… وبعد، فكم من بيت شعر سارَ، وأجود منه مقيم في بطون الدفاتر، لا تزيده الأيام إلا خمولًا، كما لا تزيد الذي دونه إلا شهرة ورفعةوالأمر أوسع من بيت شعر، ففي بطون الكتب من المعاني ما لم يحصه القرَّاء ويقيِّده النبهاء، وبالمقابل فلعل سطرًا من متن يكون قبلة ساعٍ نحو سفرٍ جليل، ولعل معنًى خالط عقل قارئ فطن دلَّ على منظومته الفكرية، وإنما الناس يتفاضلون بأذواقهم وحسن انتخاب معانيهم، واجتباء أوعية معارفهم، ومثل هذا يظهر بحسن إيراد الاستشهاد في جملة الكلام، فتعرف به القارئ النابه من المتلصِّص على المعارف تلصُّصًا يحمِّله أسفارًا تثقل كاهله فتتبدّى على ظاهر مبناه المتهالك وضامر عقله.

ما يحتاجه المتذوِّق

أما وقد اتضحت منزلة التذوُّق؛ فيحسن بالقارئ أن يستصحب معه في رحلته الجمالية فضل الاستعداد الفطري في التذوُّق؛ إذ أن الطبع أصل الاستحسان ومنطلقه، فإن لم توفَّق بذرة المعنى لأرضٍ خصبة تُحسن وفادتها وتعرف قدرها، فلن تثمر ثمرة يانعة تسرُّ الناظر وتبهج النائل؛ يقول ابن المقفع: ” وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم. والعقول سجيَّاتٌ وغرائز تقبَل الأدب، وبوسع القارئ أن يتلمَّس آثار الطبع على لغة الكاتب بآثاره البينة الجليَّة. ولعل من المفيد في هذا الموضع أن يعي المرء حقيقة أنَّ الطبع وإن كان سجيّة فلا يعارض أهمية الدُّربة والعناية بتجويد الأصل ومرانه، بل هذا ممَّا يسمو بالذائقة ويُربيها، فإنَّك متى جمدتَ هزلتْ قواها فيك وانفصمتْ عُراها.

وكما أن الاستعداد الفطري لازم، فإدراك أن المرء إنما يتقلَّب بين إقبال وإدبار لا يقل أهمية، وكذا التذوُّق الذي هو استجابة نفسية مردُّها للنفس اللجوج التي لا تسلِّم عقالها طوعًا على الدوام، بل شأنها التقليب، وإنما يكون ارتياضها على قدر مرانها وتفهم تباين الأذواق وفق تباين السياقات الوجدانية والفكرية. يقول المرزوقي في شرح ديوان الحماسة: “… ومعلومٌ أن طبع كل امرئإذا ملك زمام الاختياريجذبه إلى ما يستلذه ويهواه، ويصرفه عما ينفر منه ولا يرضاهبل نعتقد كثيرًا أن ما يستجيده زيدٌ، يجوز ألا يطابقه عليه عمروإذ كان ذلك موقوفًا على استحلاء المُستحلي، واجتواء المجتوِي.”

وممَّا لا يمكن إغفاله ، أن المتذوِّق الحق يعرف طبقة المتكلم ومنازل الكلام، فيفرِّق ما بين الطبقات والمنازل على قدرها، ويحسن الفصل بين الأنماط على منازل أهلها، فإن لم يقدر على ذلك ففي تذوقه نظر. وللباقلاني إشارة في هذا المعنى ذكرها في إعجاز القران؛ فيقول مبيِّنًا: “وبحسن التذوق يَعرف المتذوِّق درجة القائل من البيان، وطبقته بين المبينين من ذوق كلامه“.

ولعل الإنصافبعد كل هذايعدُّ من أجلِّ مقاصد التذوُّق، فلعلك تقرأ النص فتحسُّ منه بنغمةٍ تطربك لا تعرفُ لها تفسيرًا غير أنها وافقت ذوقك الجمالي، وقد يكون مناط التأثير لا يخرج عن إلفٍ واعتياد وهذا وجه من أوجه آفة العصبية التي قال عنها الجرجاني: “وما ملكت العصبية قلبًا، فتركت فيه للتثبُّت موضعًا، أو أبقت فيه للإنصاف نصيبًا، وما زُين عقل وقلب وبيان بزينة أعزُّ وأبهى من زينة الإنصاف والتثبُّت قبل تصدير الأحكام وترسيخ التصورات.

فصاحة البيان وعُجمة السلوك

وما دمنا في ذكر حلية الإنصاف، فكماله إنما يكون في موافقة القول للعمل، والنفس للَّفظ، فبهذا يتمايز الكلام وأهله، وبهذا يُفصل بين القارئ الألمعي وحامل لواء الاستعراض البارد الذي لا يفضي لبث الروح في المعاني والإنسان. يقول إبراهيم بن أدهم: “أعربنا في كلامنا فما نلحن حرفًا، ولحنّا في أعمالنا فما نُعرب حرفًاونعوذ بالله من أن نكون ممَّن يحسن التذوُّق ولا يحسن الإبانة عن تلك الهزَّة الطروب في سائر انفعالاته اللغوية، والسلوكية، وما يكون فوق اللغة الملفوظة والمحكية. زيَّنا الله وإياكم بحياة الحسِّ والوجدان، ورفعة العقل وحسن البيان.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.

سبحات الذوق: قراءة تذوقية على ضوء كتاب تذوّق الشعر لـ أ.د. كمال لاشين. قراءة المزيد »

حكاية جمعية قرطبة

Picture of إعداد نورة الجوهر
إعداد نورة الجوهر

ساهم في التغطية: نورة المغيرة

الفكرة أن نعمل على برنامج بنائي للفتيات، بحيث تخرج الفتاة بنهاية البرنامج وعندها مشروع لمجتمعها، سواء موجه لنفس فئتها أو لا“.بهذه الكلمات بدأت السيدة نوال الضويانعضو مجلس إدارة الجمعية الأهلية لتنمية الفتاة قرطبةحكاية الأيام الأولى لتأسيس جمعية قرطبة، وقد التقينا بها مع عدد من أعضاء الفريق التنفيذي للجمعية، للاطلاع على نشاط الجمعية عن قرب.

بدايات

بينما كان الصباح يستيقظ متثائبًا في مدينة الدمام، كانت مجموعة من السيدات قد اجتمعن للتفكير في مشروع لتأهيل الفتيات وتطويرهن، ويبدو أن الأفكار الأولى كانت فضفاضة للغاية، حيث تضمنت تأهيل الفتيات في جوانب علمية ومهارية وحرفية، لكن خرج قرار المجلس في نهاية الأمر على التركيز في مجال القراءة، وهو ما يعني البناء الثقافي للفتيات، وتأهيلهن من خلال القراءة ومهاراتها.

وقبل أن تُطلق الجمعية أول برامجها، مكثت خمس سنوات في التأسيس، وتشكيل الفريق، وتصميم المقر وتجهيزه، وهي فترة طويلة نسبيًا، لكن الفريق يُبرر ذلك بالمتطلبات الرسمية اللازمة للتأسيس، وأعباء تشكيل طاقم عمل متجانس ومتخصص.

الفريق القارئ

بدأ عمل الجمعية بجهود تطوعية، فكان الفريق يعمل على تأسيس الجمعية في هامش أعمالهم الرسمية التي يقومون بها، من استخراج التصاريح، وفرز السير الذاتية ومقابلة الموظفات المحتملات، وتصميم المقر وتنفيذه، إذ كان تصمصم المقر تطوعًا من المهندسة هند الدهلوس، وتؤكد الأستاذة هند المبيضالمديرة التنفيذية للجمعيةأن نسبة الأعمال التي يقوم بها المتطوعون داخل الجمعية تبلغ 70% حتى الآن!

المقر قبل التصميم

ويبدو أن الجمعية محظوظة بفريقها، إذ صادف أن كل من يعمل بالجمعية لديه شغف بالقراءة، ورغم أن ذلك لم يُشترط في التوظيف، لكن الموظفات تقدمن للعمل في الجمعية إيمانًا منهن بفكرتها، وموافقةً لأهدافها، فتقول فاطمة بوديمسؤولة إدارة العلاقات العامة والإعلام

من مميزات العمل في جمعية قرطبة أني وجدت نفسي أحقق أهدافًا أحلم بها منذ وقت طويل، داخل بيئة رحبة، تشاركني اهتماماتي في عوالم القراءة والثقافة“.

وأما الأستاذة نوال الضويان فقد تقاعدت من العمل في التعليم بعد سنوات طويلة، وسرعان ما انخرطت في أعمال الجمعية، وهو ما جعل بناتها يتساءلن عن حقيقة تقاعدها لتقول لهنّ:

أحببت التعليم، وأحببت الإرشاد .. كنت معلمةً ومرشدةً لفترة من الوقت، تقاسمت سنوات خبرتي بين التعليم والإرشاد، وأحببت المجالين، ولكن هنا، في جمعية قرطبة، بين أحضان الكتب، وجدتُ نفسي لأول مرة!”.

برامج نوعية

تنقسم برامج الجمعية إلى قسمين كبيرين، القسم الأول متخصص في برامج التمكين، وهو يستهدف تخريج فتيات فاعلات في مجال القراءة والثقافة، عبر برامج متعددة الأدوات والمداخل. وأما القسم الثاني فيُعنى بالتثقيف العام، وتستهدف فئات أوسع، عبر برامج أقل تعقيدًا، وأكثر انتشارًا.

في أواخر عام 2020م أطلقت الجمعية أولى برامجها، دار أندلسية، وهو برنامج من برامج التمكين، متعدد الأدوات، وبه دورات تدريبية، وورش عمل، ولقاءات تطويرية، يضم مسارات لقراءة الكتب ومناقشتها، امتدّ لثمانية أشهر.

تقدم للبرنامج 85 فتاة، واختير منهن 25 فتاة فقط، بعد مقابلات شخصية مع كل متقدمة، وكان الهدف التأكد من استعداد المشاركة لبرنامج بهذا القدر من المتطلبات، ولديها فرصة للخروج بمشروع اجتماعي في مجال القراءة.

توّج البرنامج مسيرته بإطلاق ثلاث برامج متنوعة، خططن لها المشاركات داخل دار أندلسية، الأول هو مكتبة حكايا، وهي مكتبة تجارية متخصصة في كتب الأطفال، والثاني برنامج إكسير الذي يهدف لتعزيز مهارات القراءة والتفكير، من خلال منهجية متخصصة لبناء الشخصية ورفع الوعي والإدراك، عن طريق الاجتماعية والجلسات النقاشية والحوارية، كما تخرج في دار أندلسية ناد للقراءة، وهو نادي قمارش، وفيه يناقش أعضاء النادي كتبًا من مجالات متنوعة، من الأدب إلى التاريخ، ومن الرواية إلى الشريعة والفكر.

أطلقت الجمعية النسخة الثانية من دار أندلسية هذه الأيام، بالإضافة إلى برامج أخرى، ساهمت في ضم كفاءات نوعية إلى فريق جمعية قرطبة، وأخرجت قارئات فاعلات، يملكن المهارات اللازمة لإثراء مجتمعاتهن.

مكتبة قرطبة

يجد الزائر للجمعية في طرفها مكتبة بيضاء اللون، بخلفية خشبية، تُضيئها إنارةٌ مخفيةٌ بأناقة، وتُضفي أشعة الشمس المتسللة عبر نوافذها ألقًا ساحرًا على مشهد الكتب المتراصة في الرفوف.

عملت المهندسة هيا الفرج والمهندسة لينة القحطاني على تصميم مكتبة قرطبة وتنفيذها تطوعًا، ثم بدأت المكتبة في استقبال عدد كبير من الكتب المهداة، ولذا تشكل فريق تطوعي لاستقبال الكتب وتقييمها، ثم فرزها حسب مناسبتها للمكتبة، ثم قام فريق آخر بشراء كتب أساسية في مختلف المجالات، بعد استشارة المتخصصين، وقد ضمت المكتبة أكثر من 1200 كتاب، تُمثل صفوة الكتب في 28 تصنيفًا.

أثناء تصميم المكتبة

تبرعت المكتبة العامة بمدينة الدمام للمكتبة الوليدة ببرنامج متخصص في قواعد البيانات، ثم دربت المتطوعات على إدخال بيانات الكتب وتصنيفها، بعد إدخال تعديلات طفيفة على تصنيف ديوي الأكثر انتشارًا، ليناسب مختلف الفئات من زوّار المكتبة.

تُقدّم المكتبة لزوّارها خدمات متنوعة، مثل خدمة الإعارة، والإرشاد القرائي، وخدمة بلّغني التي تتيح للزائر طلب كتاب غير متوفر، لتسعى المكتبة إلى ضمه بما لا يتعارض مع سياسات جمعية قرطبة. كما تُقدم المكتبة برامج إثرائية متنوعة، فهي تستضيف نادي قمارش لمناقشة الكتب، ويتميز بمشاركة متنوعة من الجنسين، ومن مختلف مناطق المملكة. بالإضافة إلى تقديم برنامج بوصلة الذي يهدف إلى توجيه المشارك في دروب القراءة المختلفة، وتعميق أثرها من خلال أدوات متعددة. وتُقدم مكتبة قرطبة برنامج قبس، الذي تستضيف به متخصصين، ليتحدثوا عن حياة شخصيات رائدة في مجالات معرفية مختلفة، وتُعرض سيرهم من منظور إنساني، يُقرّب هذه الشخصيات أكثر من حياة قارئيها.

تحديات وآفاق

تعتمد الجمعية كسائر القطاع الثالث على تمويل المانحين، وهو ما يجعل تمويل جمعية متخصصة في قطاع الثقافة يحتل مرتبةً منخفضةً في سلم أولويات متقلّب.

وعلى الرغم من إقبال الفتيات الكبير على أنشطة الجمعية وبرامجها، إلا أن تعامل الفئات المستهدفة مع هذه الأنشطة تنقصه الجدية في بعض الأحيان، فلا زال محور القراءة في حاجة إلى تعزيز داخل حياة قطاع واسع من الأجيال الجديدة، وهو ما يمثّل تحديًا يخوضه طاقم جمعية قرطبة بعزم مثابر، من ابتكار برامج أكثر متعةً وأعمق تأثيرًا، إلى تصاميم مدهشة وجاذبة، وتمثل علامة جودة لبرامج الجمعية.

شارك الصفحة
المزيد من التغطيات
بمثل هذه الصروح تشيّد الأمم، وتبنى الأمجاد، وترفع الرؤوس بالمعالي شامخة.
نستعرض أحد التجارب المجتمعية الفريدة في الاستفادة من فن الرواية.
وضع نصب عينه شعارًا فريدًا هو: نقل المعرفة من السطور إلى الآذان.

حكاية جمعية قرطبة قراءة المزيد »

حول ترجمة الدراسات الإسلامية

Picture of حسان بن إبراهيم الغامدي
حسان بن إبراهيم الغامدي

ساهم في الحوار: هند البصري

نقتني في كثير من الأحيان كتبًا لم يقترحها أحد علينا قبل ذلك، وربما في غير مجال اهتمامنا، ولكننا نضمها لرفوف مكتباتنا ثقةً بمترجمين عوّدونا على اختيار كتب من طراز رفيع، ونقلها في أسلوب لغويٍّ أخاذ. وفي السنوات الأخيرة برز اسم الدكتور أحمد العدوي في عالم ترجمة الكتب، ناقلًا إلى العربية أجود الدراسات الإسلامية ذات النزعة التاريخية المنشورة في الدوائر الأكاديمية بالغرب، ليصير اسمه علامة على الكتب الثمينة والمهمة. أحاوره في هذا اللقاء عن دخوله لمجال الترجمة، وأبرز التحديات التي تواجهه.

من المعلوم للقراء أنك أستاذ لعلم التاريخ، ونشرت دراسات تاريخية، لماذا توجهت للترجمة؟

لهذا التوجه قصة، وقد لعبت الصدفة دورًا كبيرًا في هذا الأمر.  في عام 2016م  تقريبًا اتصل بي الأستاذ إسلام مصطفى،مدير مركز تراث للبحوث والدراسات، وهو صديقي وتلميذي، و دار بيننا حوار طويل ثم سألني هل معك هاتف الأستاذة فلانة؟ فقلت له: لا، ليس عندي، ماذا تريد منها؟ قال: لدي كتاب في دائرة اهتمامها، وحقل اختصاصها، وأريدها أن تترجمه إلى العربية. قلت له: أي كتاب؟  قال: كتاب يوسف رابوبرت، الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى. دفعني الفضول لطلب الاطلاع على الكتاب فأرسله لي، وبعد ثلاثة أيام عُدت لإسلام طالبًا ترجمة الكتاب! وبعدها تتابعت أعمال الترجمة والحمدلله.

الترجمة تذكرني بشيء أحبه وأهواه، وهو التحقيق. ولا أرى بين الترجمة والتحقيق فروقًا جوهرية وكبيرة. المجالان مختلفان بلا شك، وربما كان عمل المحقق أشد صعوبة، فعليه أن يعيد بناء النص إلى أقرب صورة عند مؤلفه، ولكن عمل المترجم من هذه الزاوية يشبه أيضاً عمل المحقق. أنا أحب كثيراً عمل التحقيق، وأكثر عمل استمتعت به (وقد لاحظ ذلك كثير من القراء) هو: يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري ، وهذا لأنه جمع بين الفنيّن، الترجمة والتحقيق.

تترجم عادةً أعمالًا لمستشرقين معاصرين، وكثير منهم على قيد الحياة، هل يستند اختيارك هذا إلى مبررات تتعلق بنظرة خاصة لك تجاه حقل الاستشراق؟

هذا صحيح، أحب أن أترجم لمؤلفين على قيد الحياة، وعدد منهم راجعوا ترجماتي قبل نشرها، إذ كانوا على معرفة بالعربية. وأنا اهتم بالجزئيات، بالتفاصيل، أكثر حتى من اهتمامي بالكليات، فإذا أشكلت علي عبارة، سُرعان ما أعود إلى المؤلف وأتواصل معه، لمعرفة المعنى الذي يُريد إيصاله من هذه العبارة، حتى أستطيع نقل ما يقصده بصورة أكثر دقة إلى اللغة العربية. وهذا لا يعني إلغاء مؤلفات الراحلين من قائمة الكتب التي أنوي ترجمتها، فقد ترجمت بالفعل لبعضهم، وعلى رأسهم جورج مقدسي، ولا شك أن الترجمة في هذه الحالة ستكون أشد صعوبة، وفي حالة مقدسي كنت أرجع إلى تلميذه جوزيف لوري لأناقشه في بعض الجزئيات، حرصًا على نقل النص في صورة أكثر دقة.

من ناحية أخرى، حقل الاستشراق اليوم، أو حقل الدراسات الإسلامية في الأكاديميات الغربية، وهي التسمية التي يفضلها الباحثون اليوم، هذا الحقل الآن هو نتاج كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، الذي فضح ممارسات الاستشراق قبله، والمقولات الأساسية التي كان يرددها العاملين به. الدراسات الاستشراقية اليوم تلافت كثيرًا من مشكلات الاستشراق القديم، وتراعي الاختلافات الزمانية والمكانية، وتحاول أن تكون أكثر تحديدًا في النطاقات الزمانية والجغرافية لأبحاثها، ويلاحظ قارئها التزامًا منهجيًا عاليًا عند أصحابها، ومع ذلك فقد كان الإعداد العلمي للمستشرقين القدامى أكثر قوة ومتانة.

أحب أن أطرح على نفسي عددًا من الأسئلة قبل اختيار دراسة لترجمتها، فأبدأ عادةً بسؤال: ماذا يُضيف هذا الكتاب إلى المكتبة العربية؟ هل تفتقر مكتبتنا إلى هذا النوع من المعالجة؟  ثم أنتقل بعد ذلك إلى السؤال عن المؤلف، ما هي مكانته داخل الدوائر الأكاديمية؟ هو هو مؤلف مُعترف به وذا سُمعة مرموقة في مجاله؟ ثم أسأل عن أثر الكتاب في الحقل البحثي المتعلق به؟ وكيف كان التعاطي معه داخل المجتمع الأكاديمي؟ وهذا يُمكن الوقوف عليه من خلال قسم مراجعات الكتب في الدوريات العلمية الأجنبية. أخيرًا أنظر في حجم الاستشهاد بالكتاب في الدراسات والكتب اللاحقة.

كل هذه العوامل جنبا الى جنب تسهم في اختيار الدراسة، سواء من قائمتي التي أعددتها منذ كنت طالبًا في مرحلة الماجستير، أو مما يُعرض علي من الكتب والدراسات، ولا أعزم على الترجمة قبل أن يستوفي الكتاب أكثر هذه المعايير، والمهم دائمًا كما أؤكد في مقدماتي، أن يُسهم هذا العمل في سد ثغرة بالمكتبة العربية، وأن يُثير النقاش الجاد في النقاط التي يتناولها، فعلى سبيل المثال كتاب نشأة الإنسانيات لجورج مقدسي يكاد أن يكون فريد عصره، إذ لم تنل نشأة العلوم الإنسانية في الحضارة الإسلامية حظها من البحث، فضلًا عن دراستها من منظور مقارن مع الحالة الغربية. هذه هي نوعية الكتب التي تهمني ترجمتها.

بمناسبة مقدماتك، والتي تتميز بالطرافة والثراء، ألا ترى أنك تبالغ في طولها أحيانًا؟ في الوقت الذي يتحسس فيه بعض المترجمين من كتابة مقدمات حتى لو كانت مقتضبة.

مقدمة الكتاب عبارة عن دستور للعلاقة بين القارئ وبين مؤلف الكتاب، وأنا كغيري من القراء، لا أستطيع الاطلاع على كتاب دون قراءة مقدمته.  في هذه المقدمة هناك محاور أساسية، فعلى سبيل المثال: من حق القارئ أن يعرف قصة هذا الكتاب، ما سياقه العلمي، ما موضوعه الأساسي، ماذا يعالج بالضبط، متى صدرت طبعته الأولى، من هو مؤلفه، فليس جميع المؤلفين في شهرة شاخت وجولدتسيهر! وكثيرة هي الدراسات الغربية التي لا تتضمن مقدماتها توضيحًا لهذه المحاور، لأسباب مختلفة ومتفهّمة. وفوق ذلك بوصفي مترجمًا، يجب علي أن أكشف عن طريقتي في كتابة التعليقات والتوضيحات والهوامش، واختياراتي في الترجمة والتعريب، وهو ما يؤكد مسيس الحاجة إلى مقدمة المترجم.

أحيانا أفتح بعض الكتب العربية المترجمة، وأجدها عارية تماما من مقدمات المترجمين، وينتهي الكتاب وليس للمترجم تعليق واحد، وكأن كل ما ورد في هذا الكتاب بالمصطلحات والأعلام والإحالات الثقافية يعلمه القارئ بالضرورة، والقراء يختلفون، هناك المتخصصون الذين قد لا يحتاجون إلى هذه المعلومات الإضافية، لكن هناك القارئ العام أيضًا، وهو يمثل الفئة الأوسع من القراء. ولا شك أن كل هذا من خدمة الكتاب، وبالقياس مع الفارق، فهو بمثابة النافلة من الفرض، وهو في حالتنا نقل الكتاب إلى اللغة العربية بفهم دقيق وبيان واضح.

أعترف بأنني أنسى نفسي أحيانًا في كتابة المقدمات وأتعجّب آخر الأمر من طولها، وأعرض على الناشرين مقدماتي زاعمًا أنها نسخ أوليّة وسأختصرها لاحقًا، لكن سرعان ما يعود إلي الناشر طالبًا مني عدم اختصارها، ويشجعني القرّاء على عادتي هذه، إذ يجدون مقدماتي معينة على الانتفاع من الكتاب.

جورج مقدسي

ما حدث معي في مقدمتي لكتاب نشأة الإنسانيات استثناء إلى حد ما، فقبل أن يبدأ القارئ مع جورج مقدسي، عليه أن يقرأ مئة صفحة سودتها توطئةً للكتاب!  وما كانت نيتي أن أكتب هذا العدد من الصفحات، لكني خمّنت أن قارئ هذا الكتاب الدسم في حاجة للتعرف على مؤلفه بصورة أعمق من نقاط مكررة حول سيرة مقدسي، فأحببت أن يعرف كيف ألّف جورج مقدسي هذا الكتاب الفريد، وجرني هذا إلى الحديث عن تراثه العلمي سواء في المقالات أو الكتب، وكيف تعرف العرب على مؤلفاته، ومن ترجم تراثه، وأثر مقدسي على الثقافة العربية في التحقيق والتأليف، بالإضافة إلى أثر كتاب نشأة الإنسانيات في الدراسات الغربية.

والشيء بالشيء يُذكر، فمايكل كوك المستشرق المعروف بنصوصه المقتضبة والمركزة، عندما وصل إلى خاتمة مقدمته على كتابه الضخم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي اعتذر عن ذلك قائلًا: “أنا لا أنوي تأليف كتاب بهذا الطول مجددًا، وأنا بدوري أقول بأني لا أنوي كتابة مقدمات بهذا الطول مجددًا!

ماذا عن تحديات الترجمة في حقل الدراسات الإسلامية؟

أعمل تسعة أشهر من السنة في جامعة خارج العالم العربي، وهو ما يعني افتقاري إلى المصادر العربية التي تتكرر الإحالات إليها في ثنايا الدراسات التي أترجمها، ولذلك فإنّ أصعب ما أواجه في الترجمة هو إعادة النصوص المقتبسة إلى صورتها في أصولها العربية، ولا يعلم القائمون على المكتبة الشاملة مقدار استفادتي من مشروعهم، جزاهم الله عني وعن المغتربين من الباحثين خير الجزاء. كلما كان الكتاب أكثر ندرة، والطبعة التي اعتمدها المؤلف غير شائعة، اشتد هذا التحدي، لكن يقدر الله الأصدقاء في مصر، وفي السعودية والخليج العربي، فيصورون لي ما أطلبه من الصفحات في المراجع والمصادر المختلفة.

وهناك مشكلة الاصطلاحات، والتي تخف مشكلتها كلما كان المترجم مركزًا في حقل علمي محدد، ولا يشتت نفسه بين الحقول، فهذا التركيز يجعله أكثر إدراكًا للمصطلحات المستعملة، سواء في اللغة العربية، أو في اللغة المترجم عنها، فقد يعبر الباحثون في الدراسات الإسلامية باللغات الأخرى عن مصطلحات معلومة ومستعملة في السياق العربي، ودور المترجم أن يعيدها إلى أصلها العربي. وقد يجد المترجم نفسه أمام مشكلة نحت اصطلاحات جديدة، وهو ما يتطلب بناءً علميًا متينًا في علوم العربية، ومعرفة بالمعاجم وصحبةً لها.

وفهم الكتاب أهم خطوات الترجمة طبعًا، وهذا يشترط معرفةً علميةً بالتخصص ومشكلاته، فأنا أحيانًا أقف على بعض الكتب المترجمة، وأجد في بعض عبارات الكتاب غموضًا، فيغلب على ظني أن المترجم لم يفهم العبارة، فألبسها ثوبًا من الغموض والالتفاف. على المترجم أن يبذل وسعه أولًا في فهم الكتاب، وأن يعود إلى المؤلف عند الفقرات التي لم يفهمها، فإذا كان المؤلف متوفيًا أو غير متجاوب، فليعد إلى المتخصصين والمعتنين بالكتاب، وفي أسوأ الأحوال فليضع في الهامش أنه لم يفهم الفقرة على وجه دقيق، أو أن المؤلف أغرب هنا، ويكتب اجتهاده في فهمها مرفقًا أصلها باللغة الأجنبية، وهذا لا يعيبك صديقي المترجم ولا يشينك.

ودائمًا ما أقول أننا لا نترجم في الفراغ، لا تخترع العجلة، هناك دراسات تُرجمت فتستفد منها ولتراكم اجتهادك على اجتهاد من سبقك، فعندما أترجم كتابًا  يقتبس من دراسات سبق ترجمتها، فإني أضع ترجمتها السابقة دون أن أعيد ترجمة الاقتباس من جديد، وإذا كان عندي ملاحظة على الترجمة، أو تغييرات معينة، فأضعها في الهامش احترامًا لهذه الجهود، كما فعلت مثلًا مع اقتباس من كتاب الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز ورد في دراسة أترجمها، فوضعت ترجمة محمد عبدالهادي أبو ريدة لهذا الاقتباس دون تغيير.

وأسوأ الممارسات في الترجمة العربية، هي ترجمة الاقتباسات من نصوص عربية تراثية، أو معاصرة، كمن يعيد ترجمة اقتباس من كتاب الموافقات للشاطبي، والكتاب بين يديه فلينقل النص بالعربية كما هو، وقد وقفتُ مرة على من يُترجم أثرا للسيدة عائشة رضي الله عنها، بل حدثني من ترجم آية للقرآن الكريم! فهذه ممارسات مضحكة ومخجلة، وكان أستاذي الدكتور أيمن فؤاد سيد متعه الله بالصحة والعافية ينبهنا على ذلك كثيرًا، ويقول إذا ورد نص عربية في كتاب أعجمي وترجمته إلى العربية، فترجمتك هذه صارت كأنها لغة ثالثة صينية أو إيطالية.

وكما قلت لك سابقًا، الترجمة مثل التحقيق، أحاول أن أكون دقيقًا جدًا في نقل نص المؤلف، ولذا فإني أُثبت أحيانًا أرقام صفحات النص الإنجليزي في الهوامش الجانبية، وأقول في مقدماتي هذه أرقام الأصل لمن أراد التثبت من ترجماتي ودقة النقل.

والأهم من كل ذلك أن يكون الإنسان ذا صدر رحب، منشرح الخاطر، يستقبل النقد بفرح، فهذه الملاحظات توقفك على فواتك، وتجعلك لا تكرر أخطاءك. وما أحوجنا في العالم العربي إلى الممارسات التقويمية، يُنشر الكتاب عندنا ولا يهتم أحد بعرضه ولا نقده، بينما في العالم الغربي تنشط المواقع والدوريات المتخصصة في مراجعات الكتب، وقد قرأت عند بعض المؤرخين الفرنسيين أن المجلة النقدية الفرنسية أسست لرد غير المتخصصين من النشر في حقل الدراسات الاجتماعية والتاريخية، وكشف ضعفهم المعرفي من خلال مراجعات الكتب، خاصة في الوقت الذي كان الناس يقولون فيه إن التاريخ مهنة من لا مهنة له. فما أحوجنا في العالم العربي إلى إحياء هذه السنة، وليت القائمين على الدوريات يهتمون بهذا الباب لعظيم تأثيره.

فلنختم حوارنا  بالجانب اللغوي، أجد في ترجماتك فصاحة وعذوبة، كيف كونت أسلوبك اللغوي في الترجمة؟ كما لاحظت وأنا أقرأ كتاب قصة الورق الذي ترجمته مؤخرًا، أنك تحاول إضفاء لمسة تراثية على النصوص الفارسية والأوروبية المقتبسة من العصور القديمة، أي أنك تحاول التفريق بين أسلوبها وبين أسلوب النص المترجم الحديث، حدثنا عن اختياراتك اللغوية في الترجمة.

أُحب التراث، وأقرأ فيه دومًا، ولا شك أن من يستغرق في قراءة التراث سيجد في قلمه ميلًا للأصالة في الأسلوب، وهذه الأصالة لا تعني التقعر في اللغة، وقديمًا قالوا الإغراب هو العيّ الأكبر، فلا أحب أن يتعثر القارئ وهو يُطالع ترجماتي، بل أحب أن يجد فيها رشاقة وأناقة، دون التهاون في دقة العبارة ومدلولها.

المهم هو الإخلاص للنص، والغاية عندي أن أقدم للقارئ نصًا لا تعوزه الدقة في قالب لغوي فصيح، وحسب عند قراءته أنه مؤلف بالعربية، فإذا علم أنه مترجم راجع الأصل فوجد ترجمتي دقيقة، هذا هو المثل الأعلى عندي، وهو أمر عسر وصعب، فهناك حوائل لغوية وثقافية، واللغة بحر واسع، والثقافة تحدياتها كثيرة.

أسعدتني ملاحظتك للفروق اللغوية بين الاقتباس ومتن الكتاب، نعم هذا أمر أحرص عليه، فأنا كما قلت سابقًا أحب التركيز في دقائق الأمور، وأجدني متقمصًا لشخصية الكتاب، وتاريخه، وسياق الحياة الثقافية التي كان يؤلف بها، فيدفعني الذوق اللغوي إلى استبعاد أن ترد عبارة أو مفردة ما على لسان رجل من القرن الرابع عشر للميلاد، فأحاول أن أتخيله عربيًا في ذلك الوقت، كيف كان سيُعبّر عن فكرته، وأي أسلوب ساد في ذلك الزمان، فيدفعني ذلك إلى التفريق أثناء عملي بين ترجمة النص المعاصر، وترجمة الاقتباسات القديمة بداخله.

شارك الصفحة
المزيد من الحوارات
حوار مع أ. أحمد وسام شاكر

حول ترجمة الدراسات الإسلامية قراءة المزيد »

عمرو البساطي وتسجيل الكتب

يشهد مجال الكتب الصوتية في العالم العربي نموًا مستمرًا منذ بضع سنوات، ففي عام 2016م أسس رائد أعمال سويدي أول تطبيق صوتي احترافي للكتب العربية، وهو تطبيق“كتاب صوتي”، وبعد استثمارات متتالية استحوذت عليه شركة storytel العالمية وهي شركة يتجاوز حجمها السوقي مليار دولار، لتدخل بذلك السوق العربي كأكبر تطبيق للكتب العربي.

وتأسست تطبيقات أخرى بأياد عربية، مثل تطبيق ضاد للكتب الصوتية و تطبيق وجيز لملخصات الكتب، ولكن شابًا مصريًا، أسس وحده مبادرةً فريدةً للكتب الصوتية المتخصصة في المجال الشرعي، واضعًا نصب عينه شعارًا فريدًا هو: نقل المعرفة من السطور إلى الآذان.

بدايات

وُلد عمرو السيد إبراهيم البساطي سنة 1982م، وتخرج في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة الأزهر، ليعمل بعد ذلك معلمًا للقرآن الكريم والعلوم الشرعية.

تأسست في عام 2018 مبادرة مفتاح التفسير و هي مبادرة تُعنى بقراءة كتب الدراسات القرآنية ومناقشتها، تحت إشراف مركز تفسير، وكان الكتاب الذي سيُقرأ في ذلك الحين هو كتاب التفسير والمفسرون للشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله، فاقترح بعض المشاركين تسجيل الورد اليومي لقراءة الكتاب، فبادر الأستاذ عمرو البساطي لتسجيل الكتاب صوتيًا عن طريق هاتفه، وقد لاقى هذا التسجيل ترحيبًا وتفاعلًا من المشاركين، ودعمًا من المشرف على مركز تفسير الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري.

واصل البساطي بعد ذلك تسجيل الكتب، وطور أدوات التسجيل ومهاراته في التحرير الصوتي، إلى أن جهز مع بعض المتطوعين استديو متكاملًا لتسجيل الكتب، ليكون المنتج النهائي نقيًا وسلسًا.

عمرو البساطي

أكثر من مجرد أرقام

ينشر الأستاذ عمرو كتبه الصوتية على منصتين أساسيتين، هما اليوتيوب و التليجرام ويتجاوز عدد المشتركين بهما 24 ألف مشترك، وتربو الاستماعات عن نصف مليون استماع، لكن هذه الإحصائيات لا تعكس الأرقام الحقيقية لنتائج المبادرة، فالملفات الصوتية التي يسجلها عمرو البساطي متاحة بالمجان، وهي منتشرة على عشرات المواقع المتخصصة في الصوتيات، وفي قنوات اليوتيوب والتليجرام والساوند كلاود وموقع أرشيف، ويؤكد البساطي أنها ستستمر في صورتها المجانية خدمةً لطلاب العلم، والعرب والمسلمين في كل مكان.

سجّل الأستاذ عمرو البساطي حتى الآن أكثر من 80 كتابًا، يبلغ حجم أصغرها مجلدًا واحدًا، بينما وصل حجم أكبر تسجيلاته وهو تفسير التحرير والتنوير إلى 30 مجلدًا، لكن قبل مبادرته، كانت المكتبة الصوتية الشرعية فقيرةً جدًا، وهو الأمر الذي حفزه على مواصلة التسجيل وتطوير أدواته، وكانت أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم تشد من عزمه على الاستمرار، وتزيد من إصراره على المواصلة، مثل قول النبي : ((لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم))، وحديث النبي : ((رُبّ مبلَّغٍ أوعى من سامع)).

أعاجم ومكفوفون

يحدثنا الأستاذ عمرو البساطي أنه في بداية التسجيلات أراد خدمة من حوله من الأصدقاء والزملاء، وما كان يتوقع هذا الإقبال الواسع الذي حظي به إنتاجه الصوتي، لكن أكثر فئتين تفاجأ بهما هم المستمعين من غير العرب، والمكفوفين.

تبلغ نسبة المستمعين من غير العرب في قناته 38%، وقد تواصل معه مثلًا أحد طلاب العلم من الأكراد، كاشفًا له عن أثر هذه التسجيلات في إقباله على طلب العلم، وفهم الكتب، خاصة أنه يعاني من قراءتها بسبب ضعف إتقانه للإعراب. ويجعل البساطي تنفيذ طلبات المكفوفين أولويةً له، فهم الفئة الأكثر احتياجًا للكتب الصوتية، وتمثل لهم هذه التسجيلات ضرورة للتحصيل العلمي، والتزود بالمعرفة.

قبل التسجيل

يحرص الأستاذ عمرو قبل تسجيل أي كتاب على تحري الطبعة المتقنة والمعتمدة، وهو يبحث عنها ورقيًا، إذ لا يجد نفسه متقبلًا للكتاب الإلكتروني، وهو ما قد يؤخر مشاريعه في بعض الأحيان عندما لا يكون الكتاب متوفرًا في بلدته. ويلفت البساطي انتباهنا إلى ضرورة استئذان الناشرين والمؤلفين قبل تسجيل الكتاب ونشره، وقد وجدهم متجاوبين مع طلباته ومتفاعلين، خاصة أنه يقدم هذه المواد مجانًا.

بالإضافة إلى ما سبق، ينصح عمرو البساطي من يرغب في تسجيل الكتب بالأمانة في قراءة النصوص، والالتزام بقراءتها كما هي، دون إضافة أو نقصان. ويشبه الأمر بتحقيق الكتب، فوظيفة المحقق إخراج النص التراثي كما أراده المؤلف، ووظيفة مسجل الكتب نقل النص إلى الآذان كما هو في طبعته المعتمدة، وهو ما يتطلب حدًا أدنى من إتقان اللغة العربية، وضبط الأداء الصوتي.

يُشير البساطي أيضًا إلى أهمية الإخراج النهائي المتقن للكتاب الصوتي، فبحسب تعبيرهالكتب الشرعية ليست أقل مكانة من الروايات والكتب الأخرى دون الانتقاص منها، فإخراج الملف الصوتي النقي هو خدمة للتراث والعلوم الشرعية، وهو ما يضاعف من مسؤولية الباذل لهما لزيادة جهده في إتقان وإحسان، مؤكدًا أنه في خدمة من يقصده من الراغبين في تسجيل الكتب الشرعية.

لكن أول النقاط التي أكد عليها الأستاذ عمرو هي إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، فهذا العمل يرتقي بالنية إلى مرتبة العبادة، وهو من خير العمل، إذ به يُخدم طلاب العلم في شتى أنحاء العالم، مؤكدًا على خطورةطلب الشهرةعلى قصد الإنسان، وأن يحرص على طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى.

قبل الاستماع

يرى عمرو البساطي أن أهم آثار الكتاب الصوتي، هو كسر الحواجز أمام المتهيب من الكتاب الورقي، فكتاب مثل التحرير والتنوير يقع في 30 مجلدًا للطاهر بن عاشور رحمه الله، صدر مسجلاً في 350 ساعة وفي 492 مجلسًا، لكن المفاجأة أن عددًا كبيرًا من المستمعين تواصلوا مع الأستاذ عمرو مؤكدين استماعهم لكامل كتاب التحرير والتنوير، وبلغ عدد المستمعين للجزء الأخير من الكتاب على قناة اليوتيوب فقط أكثر من ألف مستمع.

ينصح البساطي من يستمع إلى الكتب أن يخلص النية لله، فهذا الاستماع من طلب العلم، وهو يتفهم قلق البعض من عدم الاستفادة من الكتب المسموعة، لكنه يؤكد على أنها من أفضل ما تُستغل به الأوقات الضائعة، فاستيعاب 70% من الكتاب المسموع خير من ضياع الوقت في السرحان والقيل والقال. ينصح الأستاذ عمرو بتقسيم الكتاب إلى جلسات كما هو موجود على قنواته، وليسمع كل يوم مجلسًا واحدًا فقط، والأفضل أن يكون الكتاب بين يديه، لتتضافر حواس الإدراك في تحصيل المادة العلمية.

آفاق جديدة

يذكر الأستاذ عمرو البساطي بكثير من الامتنان داعميه الأوائل، مثل الدكتور خالد الدريس، والدكتور سلطان العميري، والشيخ عبدالله العجيري، والشيخ عبيد الظاهري، فهم أول من نشر له، وأشاروا إلى تسجيلاته، ويضع البساطي نصب عينيه محطات جديدة قادمة في رحلته مع تسجيل المواد الصوتية، إذ ينوي إكمال مشروع تسجيل كتب ابن القيم وكتب ابن تيمية، وتسجيل مدونات الحديث النبوي، كما يطمح إلى تسجيل مصاحف متعددة للقراءات العشر برواياتها، وتسجيل مصاحف حدر وتحقيق لمساعدة حفظة القرآن الكريم على ضبط حفظهم وإتقانه.

شارك الصفحة
المزيد من التغطيات
بمثل هذه الصروح تشيّد الأمم، وتبنى الأمجاد، وترفع الرؤوس بالمعالي شامخة.
نستعرض أحد التجارب المجتمعية الفريدة في الاستفادة من فن الرواية.
تخرج الفتاة بنهاية البرنامج وعندها مشروع لمجتمعها.

عمرو البساطي وتسجيل الكتب قراءة المزيد »

Hacklinkbetsat
betsat
betsat
holiganbet
holiganbet
holiganbet
Jojobet giriş
Jojobet giriş
Jojobet giriş
casibom giriş
casibom giriş
casibom giriş
xbet
xbet
xbet
grandpashabet
grandpashabet
grandpashabet
tuzla evden eve nakliyat
İzmir psikoloji
creative news
Digital marketing
radio kalasin
radinongkhai
gebze escort
grandpashabet
grandpashabet
casibom giriş
casibom
casibom güncel
jojobet
sultanbeyli çekici
extrabet resmi hesap
beylikdüzü escort
setrabet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu siteleri
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu veren siteler
instagram followers buy
Jojobet970
casinolevant
stonebahis giriş
casibom güncel giriş
casibom güncel giriş adresimiz
casibom giriş
casibom
casibom