“ما الكتاب الذي تحلم يوماً بكتابته؟”
يطرح هذا السؤال في أحد المجالس مع ثلة من القراء المخضرمين الذين لطالما حلمت أن تجالسهم، خاصةً لو ضمّ المجلس واحد أو اثنان من الأشخاص “الموسوعة” إياهم الذين قرأوا في كل شيء وأي شيء مع ما يملكون من ملكة التحليل والاستنباط والربط، أولئك الذين يعتبر الاستماع لهم متعة في حد ذاتها، والحديث معهم قلق مخجل – من طرفك- لأنه يكشف لك جهلك المركب.
تؤثر الصمت لكنك تُسأل عن إجابتك، تحاول أن تستحضر ردّاً يليق بالقامات التي تحيط بك، وتقلب في ذهنك أنواع العلوم ودقائقها. لكنك تستسلم أخيراً وتحسم أمرك بتنهيدة قائلاً إنك لو أتيحت لك الفرصة، لكتبت رواية خالدة.
يتنامى شعور بالخزي من النظرات التي أحاطت بك لحظتها، ولم يخلو المجلس من تعليق حول ضياع الأعمار، أن يكون أثرك من الدنيا “حدوتة” مراهقين!
يحاول رفيقك – الذي شعر بأنك تسخر منه- أن يغير الموضوع، لكنك تقرر استغلال فرصة صمت المجلس بأن تحكي لهم عن أحد التجارب المجتمعية الفريدة في توظيف هذا الفن العريق:
لا يختلف اثنان على أهمية الأسلوب القصصي في التاريخ الإنساني، إن أغلب الموروث الثقافي لدى الأمم هو القصص والأساطير، كما أن القرآن الكريم قد اتخذ من القصص أسلوباً أساسياً في الدعوة إلى الله وتثبيت النبي والمسلمين وبيان دروس لم تكن لتؤتي أثرها نفسه إلا بنقل التجربة الإنسانية كما هي، بمشاعرها ومواقفها وخلجاتها.
لكن نشأة الخلاف تكمن في القصص الخيالية المطوّلة، ما يسمى اليوم بأدب الرواية، فبينما يعتبرها البعض متنفساً وفنًا يؤثر في مختلف مجالات حياة المجتمعات، يراها البعض الآخر مضيعة للوقت والورق، بل يصل إلى مرحلة عدم تسمية من يقرأ الروايات بـ”القارئ”.
وقد أنصف بهاء طاهر الرواية ضمن مقدمة كتابه “في مديح الرواية” قائلاً: “الرواية فن له مكانته وخطره في المجتمعات المتحضرة.. هي بطبيعة الحال ليست منشورات سياسية، ولا وصفة لعلاج الأخلاق أو النفس، وهي لا تقدم إجابات عن الأسئلة التي يضني الفلاسفة أنفسهم في بحثها، ولكنها تشمل شيئاً من ذلك كله وتتجاوزه، وتأثيرها أبقى لأنه أبطأ وأكثر نفاذاً للنفس.”[1]
مجتمع القراء
يجدر بنا في هذه الحالة استعراض أحد التجارب المجتمعية الفريدة في الاستفادة من فن الرواية، وهي تجربة برنامج “مجتمع القراء” والذي أقامته شركة سمو المجتمع في مدينة الخبر
تحكي أ. بينة القحطاني صاحبة البرنامج عن الانطلاقة قائلة: ” كانت رغبة منا أن يكون هناك مجتمع تجتمع فيه القارئات ويحققون شغفهم في مناقشة الكتب، فغالباً الإنسان عندما يعجبه كتاب يحب ويتحمس أن يناقشه من يماثله ويسمع وجهة نظر أخرى، كما تتناول قطعة حلوى وتود أن تشارك حلاوتها كل من تحبه، كذلك الكتاب الجيد يجعلك تتمنى لو ذاق حلاوته العالم بأسره. ففي مجتمع القراء حرصنا أن نوفر هذه البيئة، أن يكون هناك بيئة من القارئات اللاتي يناقشن الكتب ويحللنها من مختلف زواياها.”
لا يهدف مجتمع القراء لمناقشة الكتب فحسب، بل لبث الحياة في ممارسة القراءة.
فعمل البرنامج على تنمية مهارات التحرير ومهارات الفكر النقدي والإبداعي لدى الأعضاء، ونشر المعرفة ورفع مستوى وعي الشباب بأساليب متجددة، والأهم أن يكون دليلاً مسانداً لأندية القراءة الأخرى.
[1] في مديح الرواية، بهاء طاهر ص 6
لماذا الرواية؟
تخصص مجتمع القراء في مناقشة الروايات والسير الذاتية تحديداً!
وعن هذا تقول أ. بينة القحطاني “لما أحببنا أن نتوجه إلى مجال الروايات بالذات، فهذا لأني أنا وجدت فائدتها صراحةً، وأرى أن الرواية لها شأن عظيم في تغيير فكر الناس وإلا لما اختار الله عز وجل أسلوب سرد القصص أسلوباً أساسياً في القرآن، قال تعالى:” نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [1]” كما أن أغلب الموروث العالمي هو القصص والحكايات.
فوجدنا أن الشيء الذي من الممكن أن تتشارك فيه شريحة كبيرة من المجتمع هو الرواية وحب القصص.”
تعتمد فكرة برنامج مجتمع القراء على ترشيح مجموعة من الفتيات من 18-30 لمناقشة وتحليل مجموعة من الروايات المنتقاة بعناية بين ورش عمل ولقاءات إثرائية وأنشطة إلكترونية ليكون منهجاً للأسس السليمة التي تبني فكر الفرد والمجتمع من خلال ما يقرأ.
ورغم المفهوم السائد بين جماعة من القراء في الانتقاص من الرواية تجيب أ. بينة: “من الأسباب التي دعتنا للتخصص في الروايات هو تصحيح هذا المفهوم، طبعاً جودة اختيارك للرواية مهمة، لأنه بالفعل هنالك روايات كثيرة تعد مضيعة للوقت وتعتبر من الكتب التي لا يمكن أن تثريك إن لم تكن تضرك.
لكن ما كنا نحرص على اختياره هو ما احتوى على قيمة وهدف وأن نبيّن أنه ليست جميع الروايات ذات قيمة سالبة وإنما هناك روايات هادفة بل لها معنىً عميق.”
هل تؤثر الرواية فعلاً؟
إن السلوك الإنساني يتأثر بالقدوة، سواء كانت حقيقية أو خيالية، يعرف جليسك “الموسوعة” حالات الانتحار المتكررة التي عقبت انتشار رواية ” آلام فيرتر” للمؤلف الألماني غوته، والضجة التي أحدثتها رواية جورج أورويل الشهيرة “مزرعة الحيوان” في المسؤولين قبل العامة، تحكي لنا أ. بينة القحطاني كذلك كيف أن إيمانها بفن الرواية كان بسبب أثر الروايات على حياتها هي، لأنها كما تؤمن أنه لا ينبغي أن تكون جل قراءات الإنسان في الروايات إلا أن قراءة الرواية الجيدة بين الحين والآخر تساهم في فهم النفس البشرية مما يساعد في توقع فهم نفسك وفهم الآخر وردود فعله.
كما يشير الأستاذ: عبدالله عن الأسباب التي تجعل الرواية من أساليب التوجيه والتغيير:” للعمل الروائي خصائص تجعل منه طريقاً مناسباً لتمرير الأفكار والتصورات والمناهج بأسلوب خفي لا يستثير القارئ، على قاعدة (بطيء، ولكن أكيد المفعول) … فالرواية لا تقدم الأفكار إلى العقل في قالب (صدّق واعتقد) وإنما تصبها في قالب قصصي يعتمد الزخرفة والتمويه. وقد لا يشعر القارئ أن ثمّة فكرة يراد إيصالها إليه من هذا الحدث أو ذاك. وربما تشرب عقله هذه القيم وتلكم التصورات دون إحساس منه أو شعور. ذلك أنه أثناء قراءته للرواية في شغل بمتابعة الأحداث، والربط بين الفصول، والتعرف على الشخصيات، والتفكير فيما سيحصل وبماذا ستختم الرواية. فتكون إمكانية تسرب الأفكار دون شعور أكبر، إذ إن استعداد القارئ النفسي والعقلي للمعارضة والتنقيح والتأمل أضعف في هذه الحالة مما لو طالع كتاباً يطرح الفكرة بطريقة مباشرة.”
إذن الرواية تؤثر، سلباً أو إيجاباً، وهنا تتجلى قيمة البرامج المجتمعية مثل برنامج مجتمع القراء، فمع انتشار الرواية وشيوعها، ينبغي على القارئ الفطن تنمية ملكة التفكير الناقد وتحصيل الأثر الجيد من هذا الفن في التأثير.
[1] سورة يوسف
الغوص في الخريطة
في موسمه الأول كانت فلسفة البرنامج تدور حول “الغوص في الخريطة”.
تم انتقاء روايات من بلدان مختلفة وحقب زمنية متنوعة، كل رواية تناقش مشكلة معينة أو شريحة معينة.
وفي كل لقاء يتم استعراض نبذة عن البلد نفسه، ثم عن المؤلف، وبعدها تناقش الرواية، وتختم باستضافة شخصية متخصصة لتحكي عن المعنى الضمني والرسالة العامة في كل رواية.
ففي بلد النمسا، كان اللقاء عن رواية “ملك في منفى العمر” حيث يوثق المؤلف قصة والده مع مرض الزهايمر، وكانت من ضيفات اللقاء رئيسة القسم النسائي لدار المسنين في الدمام، والتي تحدثت عن تجربتها في العمل مع كبار السن، وكيف من الممكن أن نعتني بهم في هذه المرحلة الصعبة من حياة الإنسان.
وفي كوريا، نوقشت رواية “الدجاجة التي حلمت بالطيران“، عنوان طفولي؟ هذا ما رأته أ. بينة عند ترشيح الكتاب لها من دكتورة جامعية، لكن عند قراءتك الرواية تشعر أنك أمام “مزرعة الحيوان” أخرى من ناحية القوة والعمق المتواري خلف دجاجة تحلم بالطيران! وأدت مناقشة تلك الرواية إلى تفرع كبير من ناحية حرية التفكير وأن على الإنسان ألا يضيق أفقه في حواجز في عقله ومحيطه بل أن يتخطاها كما فعلت تلك الدجاجة التي رأت ما وراء الحواجز!
كشف الخبايا
في الموسم الثاني اتخذ الطابع “خبايا الكتاب”
وعند سؤال أ. بينة القحطاني عن ذلك قالت “نحن نعرف أن النفس البشرية تحب كشف الخبايا، وتحب أن تعرف الجانب الآخر لأي أمر فعندما تقرأ رواية وتستمتع فيها ليس كما تأخذها وتفككها وتكتشف خباياها، ولهذا في رواية صلاة تشرنوبل لم نقرأها فقط وإنما أقمنا محكمة، وانقسمت القارئات إلى قسمين، قسم مع المسؤولين والقسم الآخر كانوا الضحايا الذين تضرروا وحاولنا أن نعرف من المسؤول الفعلي في تلك المأساة التي حدثت.”
واستكمالاً لدور المجتمع القارئ، لهذا أضيفت جلسات مثاقفة إثرائية عامّة تصب في نفس مجال مجتمع القراء، مثل:” دور الرواية في تجسيد الأحداث”، و”الأدب وثقافة الأمة”.
النزول من البرج
لم يكن مجتمع القراء لينتهي عند عتبات المكتبة، وإنما كان من شروط المجتمع أن تخرج المستفيدات بمبادرات تسهم في خدمة المجتمع في فلك القراءة.
هذا كان من إيمان أ. بينة القحطاني بأن:” الفكرة من مجتمع القراء أن يخرج القارئ من كونه إنساناً منعزلاً في برجه العاجي إلى إنسان فاعل وهذا في نظرنا أن الثقافة الحقّة هي الثقافة التي تقودك إلى التغيير، لأنك عندما تصنع وعياً أنت تصنع فرداً منتجاً، فكانت الفكرة أنك إنسان قرأت وفهمت فالآن لابد أن تعمل، لذلك سلمناهم الراية وساعدناهم بحيث ينقسمن إلى مجموعات يخرجن بمبادرة في فلك نشر ثقافة القراءة.”
وقد دشّنت مبادرات مميزة مثل: “يمامة لتحليق الكتب” و ” مخبز الحرف” و”بنان الحكايا“
لقد تميز برنامج مجتمع القراء لا لتوظيفه للرواية بحسب، وإنما بتوظيفه القراءة نفسها، كأداة لتطوير الذات وبناء فكر الإنسان السليم.
مجتمع القراء واستدامة الأثر
لم يقتصر البرنامج على عضوات المجتمع، بل كان من أهداف البرنامج استدامة الأثر، فأطلقت شركة سمو المجتمع موقع مجتمع القراء الذي يحتوي على مواد ثرية ونافعة، من مقالات وملخصات إلى مادة مناقشة كل رواية. كما أعلن عن بودكاست مجتمع القراء المتفرد بنقل ملخصات الروايات بأسلوب جاذب ومؤثرات تنقلك لعالم الرواية.
بعد أن أنهيت سردك لتفاصيل هذه التجربة، وأنت تتنقل بين النظرات المهتمة والأخرى المتشككة المستهينة، ختمتها بمقولة العقاد:” الجسم يغذيه ما يشتهيه.. فاقرأ ما تحب تستفد” وإن كانت العبارة ليست على إطلاقها، إلا أنها صحيحة إلى حد كبير، فاقرأ ما تحب تستفد، والمس حاجة الناس بالأسلوب المناسب، تصنع أثراً.