Author name: nadiim

تقرير مختصر تفسير البغوي

بعد أسابيع قضيناها نتجول في مسيرة عطرة بين دفتيّ كتاب:

(مختصر تفسير البغوي) الذي صُنف بأنه الأكثر سلامةً من البدع والأحاديث الضعيفة، وحين حطت رحالنا تُوِّج قرّاؤنا الفائزون بجوائزهم، وكلّ من قرأه قد ظفر بكنوز من هدي الآي وثراء السور.

مع أفاضل أناروا درب القُراء في هذه الرحلة الثرية استفتحها د. خالد بن حمد الجابر (استشاري طب الأسرة والعلاج النفسي) في تهيئة رمضانية. وفي ذات الرحلة تم التطرق إلى أثر القرآن على الفكر طرحها (أ.يوب الجهني، أ.راجح الأكلبي، د.عائض الدوسريوبعض من الإشارات البلاغية لـ د.أبي بكر البخيت، والتأثر والتأثير لـ أ. محمد العبادي. ثم تعلمنا كيف يكون الإلحاح في الدعاء، وأجبنا عن سؤال يتبادر إلى ذهن الكثير: كل أمر قد كُتب فما فائدة الدعاء؟

هكذا كانت رحلتنا في ٣٠ يومًا بصحبة ٩٨١ قارئ بينهم ١١٩منجزًا وخمسة ضيوف مع كتاب مختصر تفسير البغوي الذي وصفه علاء الدين الخازن بأنه من أجمل المصنفات في علم التفسير وأعلاها، وأما قراؤنا وصفوه بأنه غزير بالقراءات واللغة عذب الألفاظ لطيف المعاني.

إلى هنا نجد أن لسان الحال يردد ما ذكره د. بهجت سمعان:                                                                               ستعرفُ أنك قرأت كتابًا جيدًا عندما تقلب الصفحة الأخيرة وتحس كأنك فقدت صديقًا“.

لكننا لن نتوقف من عقد الصداقات مع كُتب جديدة مرارًا، ورحلتنا تأنس بكم، انتظرونا في كتابنا القادم

شارك الصفحة
المزيد من الأخبار

تقرير مختصر تفسير البغوي قراءة المزيد »

الإنسان كائن تلقائي

Picture of محسن بن علي الشهري
محسن بن علي الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

مراجعة كتاب الإنسان كائن تلقائي
"أعتقد بإخلاص أنه لو فهم العالم كيف يعمل الدماغ فسوف تحل النزاعات في كل مكان" هنري ماركرام

ميّز الله الإنسان على سائر المخلوقات، بميزة جعلته يتبوأ منزلة رفيعة، وهي ميزة العقل والتفكير، حيث يعد التفكير من أكثر النشاطات المعرفية تقدماً وينجم عنها قدرة الكائن البشري على معالجة الرموز والمفاهيم، واستخدامها بطرق متنوعة لحل المشكلات التي تواجهه، وبذلك يكون التفكير هو النشاط العقلي الذي يميّز الإنسان، وبه يستعيض عن الأشياء والمواقف والأحداث برموزها بدلاً من معالجتها فعلياً واقعياً، فالإنسان كائن مفكر في طبيعته وأصل خلقته التي أُنعم بها بالعقل، إلا أن هذا العقل الذي هو أداة التفكير يكون في مستويات ودرجات، وأن الغالبية العظمى من البشر تلقائيين يعيشون بالمراحل الدنيا من التفكير، وأنهم مقلدين متبعين يقاومون التغيير، هكذا تنتجهم الطبيعة الثقافية، وأن الإنسان متطبع بتلك التلقائية ومحكوم بالأنساق الثقافية عبر العصور الإنسانية، أما أصحاب المستويات العليا من التفكير فهم القلة النادرة والعملة المرفوضة في جميع عصورها التي عاشت بها.

إن التفكير المنطوي على الغالبية العظمى من الأفراد هو التفكير القائم على نمط التفكير العشوائي المعني بالمحاولة والخطأ، والتفكير التقليدي الخاضع للعرف والتقاليد، والتفكير الاعتمادي القائم على التفكير بعقول الآخرين، والتفكير المنطقي المعني بقواعد الفكر وسلامته من الأخطاء المنطقية، لكن هذا ليس كل حين، فالمنطقية التلقائية تختلف بطبيعتها عند المبدعين الذي ينطلق تصورهم من منطلق تفكير فلسفي يقوم على الممارسة الدقيقة للمنطق من بيان الأسباب والعلل التي تكمن وراء الأشياء ومحاولة معرفة نتائج الأعمال، إنه تفكير يهتم بالحصول على أدلة تؤيد أو تثبت وجهة النظر أو تنفيها.

تتعدد أنماط التفكير عند المبدعين وتتفاوت تفاوتا يحقق الغاية المنشودة من الاستثمار الحسن للتفكير، أول تلك الأنماط والتي يتشاركون فيها تشاركا قطعيا هو التفكير القائم على حل المشكلات والحساسية في استشعارها، فالإنسان لا يبدأ بالتفكير إلا إذا صادف موقفاً فيه إشكال، فليس من الفكر ما لا يبدأ بمشكلة وينتهي بحلها، إن التفكير العميق هو النشاط الذهني الواعي لعمليات التفكير التي تأخذ صورا مختلفة لصدق التصور ومن ثم إيجاد الحلول التي تقوم على التفكير العلمي والنقدي الإبداعي المتمثل في مهارات العصف الذهني والطلاقة والمرونة والأصالة والمقارنة والاستنباط والتحليل والتركيب والتقويم واتخاذ القرار.

مراجعة كتاب الإنسان كائن تلقائي

يؤسس المفكر السعودي إبراهيم البليهي لنظرية شاملة عن الإنسان والإنسانية تقوم على تأسيس علم الجهل لتحرير العقل، وأن الحقيقة التي يجب أن نعيها جميعاً، هي أنه لولا الفرديات الاستثنائية الخارقة المبدعة؛ لبقيت الإنسانية عاجزة عن تجاوز الحالة البدائية، الساقطة في مستويات التفكير الدنيا، وأن في قلب الإنسان رواسب ساذجة وسرعة تصديق لا ينضب معينها، كونها محكومة بأنساق ثقافية حتمية تلقائية، وبصورة عميقة وخفية، ومحجوبة عن وعي المحكومين بها، وأن السبب الأقوى والأخطر لهذا التخلف في الفكر والأخلاق – كما جاء في وصف المؤلف – ناتج عن أن العقل يكوّنه ويحتله ويتحكم به الأسبق إليه، بينما أن العلوم قد جاءت متأخرة جداً بعد أن تكونت الكيانات الثقافية التي تتحكم تلقائيا بالعقول في كل الأمم فصار محالاً تغييرها، وعليه فإن التقدم والاكتشافات العلمية لا تتحقق إلا بالانفصال عن التلقائية.

جاءت هذه النظرية في مجلدين مقسمة إلى جزءين، جاء القسم الأول في سبعة فصول، والثاني مثله في سبعة فصول، كلا الكتابين طبعا في عام 2020، من دار الروافد الثقافية – ناشرون، وابن النديم للنشر والتوزيع، بلغ عدد صفحات المجلد الأول 552 صفحة، في حين زاد عنه الثاني بقليل فبلغ 590 صفحة، يحاول المؤلف في كتابيه أن يكشف عن المأزق البشري الأعمق وهو التناسل الثقافي، أي الاستمرارية الحتمية للأنساق الثقافية فالعقل البشري مكبل بالأنساق الثقافية في كل مكان، وأن المسلمات الثقافية التي تتوارثها الأمم؛ قد بقيت حجاباً يمنع تأثير العلوم في العقول لأنها تتطّبع بالأنساق الثقافية منذ الطفولة المبكرة التي تسبق العلم؛ فبقيت العلوم محصورة بالأهداف العلمية والمهنية “فطبيعة العلم غير طبيعية”.

إن من الأهداف المحورية التي ينشدها الكتاب هي استخدام التقنية الفكرية التي تستوجب عدم السماح للتلقائية الساذجة بأن تهيمن عليه، وذلك بأن تمحّص الاستجابة التلقائية على أي مثير قبل أن يقرر القبول أو الرفض، ففي هذه المساحة وحدها بين المثير والاستجابة يمكن للفرد الواعي التدارك والتحقق.

بيولوجيا الدماغ والتلقائية:

لم يأت في الكتابين فصلا صريحا للدماغ إلا الفصل العاشر، وفصلين آخرين جاءت بعناوين مختلفة، عنون الفصل العاشر بـ: “قرن الدماغ وثورة العلوم فيه” جاء فيه أولاً أن كلمة عقل لا تعبر عن شيء بعينه، فهو متداخل تداخلاً عضويا مع الغرائز والعواطف، فهو بمثابة وظيفة أو عملية ليس لها وجود محدد، وأن العقل مصطلح يستخدم لوصف نظام حركة الخلايا العصبية ونقاط الاشتباك العصبي والعمليات الكيميائية التي تحدث للمخ، وبعبارة أخرى نحن عبارة عن مجموعات من الذرات والجسيمات التي يصطدم بعضها ببعض وتتفاعل؛ فنحن مصنوعون من المادة نفسها كبقية الكون، كما أننا أيضا مجموعات من الخلايا البيولوجية التي تمرر الكهرباء والمواد الكيمائية، ونحن أيضا كائنات تفكر وتشعر وتهتم قادرة على التدبر في الأفعال واتخاذ القرارات بشأن كيفية التصرف وهذا ما يميّزنا. ثم بعد ذلك يكشف أن فهم طبيعة الدماغ وإدراك آليات عمله هي التي عن طريقها تُوصل إلى الذكاء الاصطناعي، حيث أسهم صعود التشريح وعلم الجينوم الذي رسم جسد الإنسان على هيئة على صورة الآلة الميكانيكية، المعقدة والمنظمة والمترابطة إنما تدار بالمعلومات التي يحملها الحمض الوراثي، ولذا فإن التعرف على العميق على آليات الدماغ وما يرتبط به من غدد وأجهزة وبقدر ما يكون فهمنا للدماغ بوصفه جهاز العقل، نفهم ذواتنا ونستطيع استثمار القابليات الواسعة المطواعة للدماغ لاكتساب أرفع الكفايات وأنبل الأخلاق وأدق المعارف.

وذكر في طيات الفصل الثالث الذي عنونه بـ: “منظومات هرمونات ودوائر كهربائية تتحكم بالإنسان” أن من مصلحة الإنسان أن يعرف طبيعة دماغه وأن يتعرف على كل النقائص التي تعتري فهمه وإدراكاته، بدل من التوهم التلقائي للمعرفة، في حين أن الدراسات الحديثة كشفت إتاحة المراقبة والتعرف على منظومة العقل وطبيعته، وانفصاله عن الجسد وأنه جهاز شديد التعقيد متعدد الأجزاء متنوع الوظائف، خاضع في نشاطه للنشاط الهرموني والكهربائي، فالدماغ جهاز العقل، والعقل هو محتواه، والمحتوى نتاج ثقافي تلقائي التكوّن، وكل ذلك محكوم بتفاعلات جسدية، فالدوبامين على سبيل المثال هو أحد أهم المواد الكيميائية، فإفراز القليل منه قد يسبب مرض باركنسون، والكثير يصيب بانفصام الشخصية، ولكن عندما تقدر الكمية المناسبة منه فإنه يعطيك إحساس رائع من النشوة والخلاصة أن الحالات النفسية والذهنية والوجدانية والجسدية لكل فرد محكومة بتدفقات هرمونية، وإشارات كهربائية، وبأنماط معرفية؛ كونها الدماغ ذاته بتفاعله مع الواقع بواسطة الحواس.

وعلى ما تقدم فإن الأصل في الإنسان أنه ليس عقلانياً في تفكيره وسلوكه وعلاقاته وأحكامه ومواقفه، إنما هو كائن بيولوجي عاطفي وجداني انفعالي، مما يستوجب أن يتحقق كل فرد من الصواب؛ لأن تلقائيته التي سُبقت إليه مسيطرة عليه، لا يفتك منها إلا بوعيه بها، ومن ذلك بعض الأفكار التي نشعر حيالها بالقلق ما هي إلا إنذارات كاذبة أصبحت جزء من طبيعتنا البشرية كونها مبرمجة مترسخة فينا ورثناها عن ثقافة أسلافنا.

 كما ذكر في الفصل السابع من المجلد الأول تحت عنوان: “ثلاثة نظم للتفكير، نظام التفكير التلقائي يتحكم بعموم البشر” ضرورة معرفة آلية الدماغ، والأجهزة التفصيلية فيه، ومعرفة الفاعليات التلقائية القوية للهرمونات والدوائر الكهربائية ذات الجاهزية الدائمة والاستجابات التلقائية، وما ينتج عن هذه الفاعليات، وأن هذه المعرفة يجب إليها النظر كمعرفة جذرية أساسية ذات أولوية قصوى، وأن تنميتها مرهونة بمعرفة طبيعتها والمثابرة على تحريرها من عوامل الإعاقة الفكرية والوجدانية ومواصلة تنميتها ما أمكن.

أما طريقة عمل الدماغ فبحسب ما يؤكده العالم بول ماكلين بأن الإنسان محكوم بثلاثة أدمغة:

الدماغ الأول: وهو مقر ومنبغ الغرائز الأقدم، وهو يعمل بشكل تلقائي.

الدماغ الثاني: وهو مقر المشاعر وقدرات التعلم، وهو كذلك يعمل بشكل تلقائي.

الدماغ الثالث: وهو قشرة الدماغ وهو مقر القدرات العقلية، وهذا الدماغ لا يعمل تلقائيا بل يتطلب مواصلة التشغيل أما أداة تشغيله في صيرورة العقل فاعلية نقدية فاحصة متسائلة دوما ومتشككة وتدرك لا نهاية الالتباسات؛ فتشغيل الدماغ مشروط بتعلم التفكير النقدي والمران المستمر عليه واعتماده كأسلوب تفكير؛ لئلا يبقى الإنسان في تفكيره وسلوكه منجرفاً تلقائياً مع الدماغين غير المؤهلين للنقد ولا للتمحيص ولا استحضار المسائلة الدائمة.

إن الدماغ بأجزائه الثلاثة هو منشأ العقل والعواطف والغرائز معا، وأنها متداخلة عضويا، وعليه فإن الإبداع ليس له أي علاقة بالعقلانية، إنما هو تفاعلات تلقائية داخل الدماغ وارتباطاته الجسدية، وبمقدار وعي المرء بطبيعته التلقائية قد يستيقظ ويتأمل ويستدرك ويبدع.

الإنسان كائن تلقائي 1

 ثنائية التلقائية والتفكير النقدي:

يُنظر إلى التفكير النقدي أنه تفكير تأملي مركب يدقق ويمحّص ويقوّم كل ما يمر على الحواس أو العقل بهدف الوصول إلى نتائج تتسم بالصدق والموضوعية، ويقوم التفكير النقدي على عدد من المهارات كحل المشكلات والمنطق والكشف عن المغالطات وإقامة الحجج.

ومن هنا فإن المؤلف يصرّح بالمفارقة بين تلك التلقائية والتفكير النقدي، وأن الإنسان كائن مقلّد وليس كائن مبدع، حيث إن الأصل في تفكير الناس وسلوكهم مهما بلغوا من الذكاء هو تلقائية التقليد والمحاكاة والتعوّد والاستمرار في مسارات خطية تحددها أنماط الذهنية والوجدانية القاعدية، والخروج من هذه المسارات لا يحصل إلا بالتفكير الفلسفي النقدي الذي لا يعتقد بأولوية الجهل إنما يعي معضلة توهّم المعرفة، ومن هذه اليقظة يلفت إلى أن التفكير الفلسفي النقدي مغاير لنمط التفكير العام وهو نوع من اليقظة الاستثنائية المفاجئة التي تندلع معها التساؤلات التي تحاكم التصورات السائدة.

وإذا كانت التلقائية في جانب منها مفارقة للتفكير النقدي فإنها في جانب منه مهمة جدا، وهي أن الأنسان كائن مهتم ولذلك يلزم أن يكون منبع الإحساس من الداخل لا من الخارج، فالمعرفة حين تكتسب بالإكراه لا يمكن أن تكون عالقة في الذهن، ولا يكون ذلك إلا بدافع النشاط العصبي المفرط الذي يؤز العقل ويؤرقه نحو التفكير إلى معضلات فكرية عميقة خانقة، يستشعرون من خلالها المشاكل، وهذا النشاط يختلف عن وارد عموم الناس الذي يكون دافع النشاط العصبي هو مخاوف قوية فتلهب نشاطهم ليس في مواجهات فكرية محيرة إنما بسبب مشاكل صحية أو أسرية أو اجتماعية.

إن التفكير النقدي القائم على استشعار المشكلات لا يخلق إلا في ظل الشجاعة الفكرية التي تحرر الفرد من الخوف أيا كان مصدره، وتنتشله عن التيار العام التلقائي، إن هذا التفكير يقود المرء إلى أن يعي المفارقات الفظيعة، إنه إحساس الغربة وسط الجموع التلقائية، وفي هذا السياق ينبغي أن نستثمر أعظم غرائز الإنسان التي قد انحرفت عن مسارها، ألا وهي غريزة الفضول فبسبب الأنماط الذهنية الثابتة في دماغ كل فرد بأنه يعرف (توهم المعرفة) لا يلجأ إلى التحقق والبحث والفحص والتحري.

إن مكمن التفكير النقدي المنشود هو القطيعة مع الحس المشترك والعزلة التي يتخلق فيها الفكر ويتحرر من الجماعة، يقول آينشتاين: “لست آسفا على حرماني من عطف الآخرين، أفقد بعض الأشياء ولكني مقابل ذلك أتحرر من عادات الآخرين وآرائهم ومبستراهم، فأنا لست مستعدا للتضحية بصفاء نفسي في سبيل هذه الترهات”.

التعليم والتلقائية:

بما أن الإنسان كائن تلقائي فإن قابلياته تقاوم الإلزام، فانفتاح العقل لا يكون إلا من داخله وليس من خارجه، فطاقات العقل لا تنفجر من الداخل إلا بشعور الفرد بوجود مشكلة ملحة تتطلب الحل، وهذا يتطلب أن نصنع الأشكلة وإعادتها على الدوام، ولذلك فإن التعليم الجمعي في كل العالم لم يكوّن في الدراسين العقل النقدي، بل عمّق فيهم الامتثال والذوبان في التيار وتطويع الذات مع متطلبات الواقع، ومن المعلوم أن هذا النوع من التعليم لا يغير نظام التفكير بل يكون من أجل العمل أو الوجاهة وهو بذلك يلبي متطلب البقاء الكامن في غريزة الإنسان، فالتعليم الحالي بنهجه العملي والمهني والنفعي معني بتخريج متخصصين عمليين مهنيين في التعليم والطب والمحاسبة والصيدلة والهندسة والطيران وفي المجالات العسكرية وفي مختلف المجالات المهنية والخدمية والوظيفية، وهو بذلك يغرق الجميع بالانشغال بالتخصصات في الدراسة ثم بالعمل المهني، وهذا استهلاك مدمر للفكر وقاض على إمكانياته، يقول آينشتاين: “لا يكفي تعليم الإنسان تخصصا معينا؛ ذلك أنه بهذا التخصص يصير آلة قابلة للاستعمال، إنه بمعارفه المهنية يشبه كلبا عارفا”، والذي يُراد الوصول إليه أن أكثر الناس مهما كان مجالهم العلمي أو التخصص؛ يبقون محكومين بنظام التفكير التلقائي سواء اكتسبوا المهارات المهنية أو العلمية، فذلك التعليم لم ينقلهم من إلى نظام التفكير الفلسفي النقدي، لا سيما أن علم النفس توصل إلى أن الرؤية التي بنيت على شحن أذهان الدارسين بمختلف المعلومات لا تكسبهم القدرات أو المهارات، بل إن هذا الخليط المتمايز والمتنافر ليس أكثر من كم من المعلومات حُشرت في الذاكرة قسرا سرعان ما تنسى، وذلك على خلاف ما يجب أن يُعلم بأن المعرفة الحقيقية ليست سوى مضامين جوهرية من استوعب قليلا منها استطاع من استيضاح العناصر المتطابقة المتعلقة بتلك المضامين في جميع المسائل الأخرى.

إبراهيم البليهي
إبراهيم البليهي

ويوضح البليهي في هذا المسار أن هناك خلطا شديدا بين الاختراقات العبقرية والبحث العلمي، فالمنهجية في البحث العلمي لا تخلق أفكارا وإنما هي وسيلة للتحقق من الأفكار الخارقة بعد بزوغها من عقل عبقري متقد بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق، فلم يستخدم نيوتن وآينشتاين منهجية للوصول إلى الاختراقات النوعية العظيمة، وعلى ذلك يجب أن يبتعد التعليم عن التفكير الخطي الذي يقدم العلوم كمسائل نهائية وخلاصات وقوانين، ويُنظر إلى التعليم أنه يتطور ويتبدل، فالعلم يقوم بعمليات تصحيح مستمرة فهو يعبر عن نفسه كمقاربات وليس كحقائق نهائية.

وفي نهاية هذه المراجعة التي لا تغني عن قراءة الكتاب، أسوق مقولة المفكر إبراهيم البليهي التي سجلها في مقدمة كتابه حيث يقول: “إن هذا الكتاب يمثل الأساس النظري لمشروع شامل عن علم الجهل صدر منه حتى الآن كتاب (الريادة والاستجابة) و (عبقرية الاهتمام التلقائي) و (حصون التخلف) و (بنية التخلف) ومئات المقالات، إن التفكير في المأزق البشري قد استغرق كل حياتي وأخشى أن تبقى الأفكار التي قصدتها دون تفاعل مثمر، إنها معضلة مزمنة”.

شارك الصفحة

الإنسان كائن تلقائي قراءة المزيد »

البلاغة النبوية: دراسة في سمت الكلام الأول

Picture of شعاع بنت حسين القحطاني
شعاع بنت حسين القحطاني

بكالوريوس لغة عربية

مدخل:

خُصّت هذه الأمة بأرفع وأنفع العلوم لأجلّ الغايات والمآرب، منها علوم العربية، وكان علم البلاغة مرتقاها وواسطة عقدها، فإذا كانت اللغة تعنى بالكلام تركيبًا وبالكلمة بنية ومعنى، جاءت البلاغة تعنى بالكلام من حيث معانيه الرفيعة والدقيقة، وما يقدم إليها من تراكيب فصيحة، فإذا كانت اللغة تعبر عن الفكر، فالبلاغة الفكر كله.

والحق الذي لا يقارعه شك أن البيان النبوي قد سما لأرفع درجات الفصاحة والبلاغة، وقد اختص ﷺ بجوامع الكلم، وقد خاطبه ربه تبارك وتعالى باستعمال الكلمة البليغة المؤثرة ﴿وَعِظهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسَهُمْ قَوْلاً بليغاً [النساء: 63].

يقول الجاحظ وهو يصف بلاغته وفصاحته ﷺ: “وأنا ذاكرٌ بعد هذا فنًّا آخر من كلامه ﷺ، وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه، وكثرت معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلُّف، وكان كما قال تبارك وتعالى: قُل يا محمد: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[ص:86]”.

ولما بلغت فصاحته وبلاغته ﷺ المنتهى، كانت المشكلة -في عصرنا- صعوبة فهم الدلالات البلاغية الدقيقة في الحديث النبوي الشريف؛ فانبرى المصنّفون في التأليف، وإعداد الأبحاث؛ تحريًّا للطائفه ودقائق مقاصده، ولعل من أهم ما صنّف حديثًا لهذا الغرض (شرح أحاديث من صحيح مسلم- دراسة في سمت الكلام الأول) للدكتور محمّد أبو موسى، هذا السفرُ المبارك والذي أحسب أنه سيكون لدارسه تأصيل في الدرس البلاغي، ومفتاح اكتساب مهارة التحليل الذوقي بمعزل عن التقعيد الجامد، وللباحث ومضات إلهام، وسبر أغوار، وفك لحمة عيّ -بإذن الله-.

محمد أبو موسى
د. محمد محمد أبو موسى

مؤلّف الكتاب ومنهجيّته:

مؤلف الكتاب هو الشيخ العلامة أستاذ البلاغيين المعاصرين محمد أبوموسى، أستاذ البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية (جامعة الأزهر بالقاهرة)، ممن قيضهم الله للعلم وطلبته، وهيأ بفضله -سبحانه- ثم بفضلهم سبلًا للعلم.

شخصية علمية ذات مناقب ومواهب، وله منهجيته الخاصة في دراسة البلاغة، مضى يصنع معرفته بها ويهبها من بعده، في التحليل والاستنباط.

والنَّاظر في مصنّفاته والمتتبع لدروسه وشروحه، يلحظ ويستقرئ هذه المنهجيّة، فهو يمضي إلى رصد منابع الأفكار من ثم يستخرج الفكرة من الأخرى، فتتناسل وتتكاثر وتتفرّع، وهذه كانت طريقته في بناء العلم وصناعة المعرفة، إذ تُتَلقّى بالعقل من ثم تُدار ويُفاد منها بنتاج جديد لا يقتصر على النقل فقط.

وهو يعضّد ذلك بقوله: “والكتب التي تعلّمك العقل، هي الكتب التي تجعلك شريكًا في استخراج واستكشاف المعرفة التي تتعلمها منها”.

 

داخل الكتاب:

يقع الكتاب في مجلدين، من ١٠٨٨صفحة، شرح فيهما ١٢٢حديثًا من صحيح مسلم، من أبواب عدة، يشرع بتحليلها، من ثم يسقطها على مختلف أطوار الحياة، ويعرض لذلك بقوله: “ولا شك أن تحليل البيان يزيدنا اقترابا منه، ولما اقتربت من كلامه ﷺ وجدته كأنه كان يضع الدواء لأدوائنا… وكأنه كان يخاطب الأمة إلى آخر زمن التكليف”.

وقد ذكر سبب التأليف في مقدمته: “فقد كتبت كتابًا في شرح أحاديث من صحيح البخاري، وكتبت على غلافه (دراسة في سمت الكلام الأول)، وكانت النية معقودة على صناعة كتاب آخر، “شرح أحاديث من صحيح مسلم (دراسة في سمت الكلام الأول)”، وقد كررت هذه الكلمة؛ لأني أريد أن ألفت إليها أهل العلم؛ لأن دراسة سمت كلام كل جيل، وسمت كلام كل ذي بيان من الضروريات التي أهملناها… وكنت ولا زلت كلفًا بدراسة كلام الله، وكلام رسول ﷺ، ودراسة كلام الجيل الذي نزل فيه القرآن؛ لأن دراسة الفروق بين هذه الثلاثة من الدين، ومن العلم الذي يجب أن يكون شائعًا في هذه الأمة”.

وإذا ما رحنا نستجلي دقائقه ومواطن الجدّة فيه، فإننا نلحظ عقد المؤلف لموازنات عديدة بين الحديث النبوي الشريف وآيات القرآن الكريم، لفظًا، أو تركيبًا، أو معنى.

تارة يشير مباشرة لذلك، وتارةً يدعه لعقل القارئ وكأنه يمنحه الدليل، أو يشحذه للبحث وإعمال الفكر واستقراء القرآن للتأكد من أصل العبارة النبوية في كل حديث يعرض.

من مثل: “وكنت أريد أن أضع قوله ﷺ :”لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”-، بإزاء قوله -تعالى-: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، وأوازن بين اقتران وصف الزانية بالمشركة، والزاني بالمشرك، ثم أعود إلى نفي الإيمان عنه؛ لأن هناك مسافة ليست بعيدة بين المشرك، وبين غير المؤمن، وأن جملة الحديث الأولى، بينها وبين جملة سورة النور الأولى رحم، ورجّح ذلك قوله قبل الآية:﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]“.

وهو يدعو الباحثين والمشتغلين في هذا الميدان لأن تجمع الآيات والأحاديث التي في موضوعها وتُدرس بيانيًّا.

وهنا يلفت إلى خاصية من خصائص البيان النبوي، “قلت هذا؛ لأن كل بيانه ﷺ بيان للكتاب… يعني أن بيانه بيان لكل المتفرقات القرآنية…وهذا يجعلنا أمام بيان له خصوصية خاصة؛ لأنه ليس تفسيرًا حرفيًا لآية، وليس تفسيرًا بعيدًا، ولا مباشرًا أو غير مباشر لآية، وإنما هو خلاصة الخلاصة لكثير من الآيات، وغالبا ما تكون هذه الآيات ليست إحداها نصًا للذي نص عليه البيان النبوي”.

وخاصية أخرى وهي تشابه الأبنية: “وفي هذا الحديث ملمح من ملامح فصاحته، وهو تشابه الأبنية وسلاستها،… فالجمل الثلاث الأولى “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن”، أُفرغت إفراغًا واحدًا، وتجاوزت التشابه في سمت البناء وحذوه إلى التوحد، وكأنه ﷺ لما جرت الأولى على لسانه سهلة… أجرى الجملتين التاليتين على حذوها وسمتها وهذا يقرب هذه المعاني في هذا الأسلوب… وهذا من سمت كلام النبوة، ويلاحظ أن معاني الجمل الثلاثة متباعدة فالأولى في الأعراض، والثانية في الأموال، والثالثة في العقول، ولكن شريف النظم ألّف المختلف وجعل المختلف مؤتلفًا، وهذا من السهل الممتنع”.

كَذَا المفارقة بين اللفظ والمعنى: “ولو سألت وقلت لماذا قال ﷺ ولا يشرب الخمر حين يشربها، ولم يقل شاربها… الذي عندي هو أن خطيئة الشرب واقع ضررها على نفسه بخلاف الخطيئتين قبلها؛ لأنها تتعلق بحق الغير، صاحب العرض وصاحب المال، فكان هذا الفرق في المبنى إشارة إلى هذا الفرق في المعنى”.

وإزاء عقد الموازنات بين البيان النبوي والقرآني، يشير إلى الفائدة المتحصلة من النظر في علاقات معاني الأحاديث التي ترد في باب واحد.

هذه من جملة إلماحاته لدراسة الفروق بين مستويات البيان العربي الثلاث، فضلًا عن خصائص ودلالات التراكيب في مواضعها من البيان النبوي.

ملحظ:

هذا الكتاب كنز معرفي لكل مشتغل، وكل طالب يقصد التحصيل في الدرس البلاغي واكتساب مهارة التحليل، بيد أن هناك مأخذ جليّ، فلا يخلو عمل من نقص، فالمؤلف يستأنف شرح وتحليل الأحاديث ويستطرد من ثم يعود لما انقطع عنه، وهذا من شأنه التشتيت، أو في بعضه يحتاج معه لمكابدة وإمعان نظر للفهم والاستنباط.

ومازال هناك خصائص تتطلّب دقة رصد ودراسة عميقة؛ لعل الله يقيّض لها أربابها؛ لإثراء هذا الجانب.

شارك الصفحة

البلاغة النبوية: دراسة في سمت الكلام الأول قراءة المزيد »

حياتنا بين الحقيقة التي نعيشها وبين الخيال الذي نتمناه: قراءة في كتاب فوائت الحياة

Picture of ندى الأشرم
ندى الأشرم

مهتمة بتعزيز عادة القراءة ومؤسس لعدة مبادرات قرائية

كان ناقماً طيلة حياته على والديه الذين تسببا بتعاسته، كان ينظر لفقره وكأنه السد الذي يمنعه من الوصول لجنة الحياة ومتعها، أمضى حياته بأكملها وهو يتأمل ويفكر كيف كان سيحيا لو لم يكن الطفل الخامس لهذه العائلة البائسة، كبر وكبرت معه خيالاته، تخيل نفسه دوماً شاباً ثرياً ينال كل ما يتمنى حتى قبل أن يطلبه، كانت المدرسة بالنسبة له هاجساً مرعباً، والدخول في علاقات صداقة مع أقرانه أمراً مستبعداً. استمر على ما هو عليه حتى قارب الثلاثين من عمره، ولم ينعم مطلقًا بدفء الأصدقاء ولا العائلة، وعند بلوغه الثلاثين تلقى عرضًا مغريًا للعمل خارج وطنه، فتلقفه بلهفة وطار محلقاً يسبق الريح ظناً من أنه قد أدرك مناه أخيراً، حطت رحاله في الدار الغريبة عنه التي لا يعرف فيها أحد غير نفسه. هناك أدرك أنه لم يكن يطارد حلماً ليتحقق، بل كان يلهث خلف سراب! بِيعت أحلامه وتبعثرت أمانيه بعد أن ظهرت له حقيقة تعرضه لعملية

نصب أفقدته حتى ذاك القليل الذي كان يمتلكه. ورغم عودته خائبًا لوطنه لا يزال يُقنع نفسه أنه يحيا الحياة التي لا يستحقها، بل يستحق ما هو أفضل منها.

هذه القصة وإن كانت محض خيال إلا إنها تحكي واقعاً نعيشه ونراه. فكلنا هذا الذي يهرول بين حياة يعيشها وأخرى يتخيلها ويتمناها، قد لا ينال منها شيء أبداً، ولكنها تبقى غصة في قلبه تتجسد أمامه كلما رأى ما تمناه وقد تملكه غيره.

هذا الحديث عن تلك الحياة الافتراضية التي يُنغّص غيابها واقعنا، هو لب ما جاء في كتاب (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها).

”هناك دائمًا الحياة التي سيتبين أنها الحياة التي عشناها، والحياة التي  صاحبتها، الحياة (أو الحيوات) الموازية، التي لم تحدث في الواقع، تلك التي نعيشها في عقولنا، الحياة أو (الحيوات) التي نتمناها: المجازفات التي لم نُقدم عليها، والفرص التي تجنبناها أو التي لم تتح لنا. ونحن نشير إليها بوصفها حياتنا التي لم نعشها، لأننا نعتقد أنها بصورة ما كانت متاحة لنا، لكنها لم تكن ممكنة لسبب ما. وربما نقضي قدرا كبيرًا من حياتنا في محاولة البحث عن هذا السبب والتذرع به“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

فوائت الحياة

يُصور الكاتب والمعالج والمحلل النفسي البريطاني آدم فيلبس صورة بانورامية للحياة في كتابه الذي بين أيدينا (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها) ويفصلها لجزئين اثنين، جزء يعرض الحياة الواقعية وما بها من مصاعب وآلام، وجزء حالم بُني على قناعة أن الحياة التي نعيش على أمل بلوغها هي حقًا ما ننتظره وهي ما نتمناه ونرتضيه وما يجب أن يُسعدنا.

الكتاب عبارة عن مقالات تناولت مبدأ الحياة العام، الذي ينطلق من فكرة واعتقاد قائم على أن هذه الحياة هي للملذات والسعادة فقط، وأنه لا يُفترض بها أن تنحو منحى آخر، ونظراً لأن الحياة بطبيعتها تخلو من هذا الفصل بين الألم واللذة، فإننا ندخل في حالة إحباط في كل مرة نتعرض بها للحياة الطبيعية، ومنبع هذا الإحباط هو الإحساس باليأس الحاصل جراء غياب الحياة المتوقعة بأحوالها المُتخيلة، ويرجّح فيلبس بكتابه العامل المؤثر في مسألة الحياة المتوقعة والمُتمناة، إلى وسائل التأثير الخارجية مثل المسرحيات والروايات والأعمال الأدبية عمومًا، التي كانت على مر عقود من الزمن تغرس في الذهن الصورة المثالية للحياة التي لم يعشها أحد قط!

تلك القصص التي ملئت بها الأعمال السينمائية والأدبية عقول الناس حول لذة الوصول للحب والحلم والغايات وغيرها، أوجدت في النفس ميلاً دائمًا نحو الاقتناع بأحقيتها بالعيش السعيد الخالي من المنغصات. بالإضافة إلى ذلك، يعرض فيلبس بالكتاب الحقيقة المرة التي جعلت من الحياة في منظورها الحداثي مصدراً للمتعة فتضاءلت أمامها معايير الأخلاق، فليس من المفترض أن يعيش المرء صالحاً إذ يكفيه في هذه الحياة أن يعيش سعيداً، وهذا الاعتقاد يجنح إلى رفض الألم والمعاناة، واعتبار الصعاب مشاكل لابد من التخلص منها بأسرع وقت ممكن للوصول للحالة السعيدة المنشودة. وعلى الرغم من رفض الكاتب لهذا التصور إلا أنه أيضًا لا يدعي الترحيب بالألم والمعاناة، بل إنه يؤكد على ازدواجية الحياة، واختلاط الألم باللذة والمتعة بها. ويرى فيلبس أن هذا الفكر الشائع يدفع بالبشر نحو الحنين الدائم والتمجيد الذي لا ينقطع لمراحل الطفولة والمراهقة، كونها أجمل مراحل العمر، وفي المقابل ينظر لمرحلة النضج  والرشاد إلى كونها مرحلة مرهقة وشاقة، في حين أن العكس هو الصحيح من وجهة نظر المؤلف.

إننا لا يمكن أن نتخيل حياتنا بدون ما تحتويه من حيوات لم نعشها. إننا لدينا شعور دائم، وإن كان غامضًا وغريبًا، بأن الحيوات التي نعيشها تدفعها الحيوات التي تفوتنا. وتُعرّف حيواتنا بالفقدان، لكن فقدان ما كان يمكن أن يكون، فقدان أمور لم نجربها قط. وبمجرد أن تصبح الحياة الأخرى، الحياة الأفضل -الحياة الأكمل- هي هذه الحياة التي نحياها، تكون لدينا مهمة كبيرة بين أيدينا. وكأن شخصًا ما يطلب منا لا أن نعيش وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن. بل أن نعيش في رخاء، ليس مجرد حياة طيبة وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن, وهذا نوع مختلف من المطالب. وتصبح قصة حياتنا هي قصة الحيوات التي حرمنا عيشها“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

أقول بأن صفحات الكتاب جاءت لتحدثنا بما نُحدث به ذواتنا، ذاك الهمس الذي نبقيه حبيس مسامعنا، يُحدثنا تارة بالرضا، وتارة بالقنوط واليأس، وبالنهاية تكون لك الحياة كما أرادها الله لك أن تكون، لا تزيد ولا تنقص، ولن ينال المرء منها إلا ما قد قسمه الله وقدره، يقول النبي ﷺ: “أيها الناس اتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم”.

إن واقع حياة المؤمن إن كان صادقًا في إيمانه يقيه شر هذه الوساوس النفسية، كما أن إيماننا بحقيقة قصر أمد هذه الحياة يجعلنا نتطلع دومًا إلى الحياة التي لا فناء بعدها، تلك هي الحياة التي تستحق فعلًا منا كل هذا القلق.

لبيك إن العيش عيش الآخرة.

شارك الصفحة

حياتنا بين الحقيقة التي نعيشها وبين الخيال الذي نتمناه: قراءة في كتاب فوائت الحياة قراءة المزيد »

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن

Picture of د. سوسن العتيبي
د. سوسن العتيبي

دكتوراه أصول الدين ومقارنة الأديان من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن

حظي التلخيص في التراث الإسلامي بمكانة رفيعة، وفوائد جمّة، وحفظ لتالد تالف؛ فبعض الكتب لم تُحفظ جواهرها إلا في قالب تلخيص أو في ثنايا كتاب لاحق. وترافق التلخيص مع الاختصار، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فالتفريق بينهما مهم لمن رام التدقيق. والتلخيص قد يكون اقتصاراً على مهمات الكتاب وإيجاز الكلام وحذف الشواهد والأمثلة فيشابه الاختصار، وقد يكون إبانة إضافة وتيسير للإفهام. والتلخيص إبانة عن المقصود، كقول: لخص لي كلامك، أي بيّنه. والإبانة تخليص للكلام من الغموض المباعد بين المتحدث والمتحدث إليه. فالتلخيص يجمع عدة معان، أهمها: الإبانة.

لم يكن طه عبد الرحمن أول دائرة الملخصات التي دأبتُ عليها لغرض ذاتي أولاً؛ إذ الملخص نوع من إبانة مقصود الكاتب الذي قد يغمض أثناء القراءة دون التفحص الدقيق، فإن كان النظر ينقل لنا المعاني قراءة، فاليد تنقلها لنا تحليلاً؛ وقد يكون تلخيصا للأيام التي تلغي فيها الذاكرة طريقا قطعناه مع الكتاب -ومن لا ينسى؟-، وقد يكون لإيجاز الكلام والبحث عن الهيكل العام، وتتكاثر الدوافع لتكاثر الأغراض. ومفردة “التلخيص” واحدة، غير أنها جملة من المهارات والآليات المطلوبة لإنجاز: الإبانة أو الإيجاز أو الشرح، أو كل المعاني المحتملة بحسب كل مجال وغرض وكتاب، وبما أنها ممارسة فالممارسة تكتسب وتتطور مع الزمن حتى تصير خبرة تعين صاحبها على طيّ ما كان من المفاوز في البدايات.
من واقع التجربة؛ لم يكن تلخيص كتب طه عبد الرحمن كبقية الملخصات، إذ عمدت إلى تلخيصها بدقّة على فترات، فترة التحصيل للفهم (الإبانة)، ثم أعدت تلخيص جملة من كتبه لغرض الإيجاز والتركيز على متطلبات كتابة الأطروحة، ثم الثالثة والأخيرة أعدت تلخيص كل أعماله لغرض التثبت من الفهم والبحث عن البنية الأعمق لكل كتاباته مجتمعة عبر ترتيب زمني واستغرقت متوسط ٩ أشهر بواقع ٦ ساعات يومياً.

طه عبدالرحمن
طه عبدالرحمن

يتميز طه عبد الرحمن بطريقة كتابته الاستدلالية، وفق ترتيب أكسيومي يبدأ بمسلمات ثم يتدرج استدلالاً معها، وكتبه متخمة بدراسات قرأها ثم لخص ما تيسر منها بحسب غرضه، وهذا يتطلب أحيانًا الرجوع لبعض الكتب التي اعتمد عليها للتثبت من أصل مصدره ورؤيته له. فمعرفة النمط العام لكتاباته يسهل علينا مهمة مقاربته بالهيكل الأنفع لتحصيل فوائد كتبه، فأقرب هيكل يمكن أن نرسم عليه كتب طه عبد الرحمن ما يسمّى بـ “عظم السمكة” أو “التشجير” من الأصول حتى أدق التفريعات ثم الخلوص للنتائج؛ إذ كتابته أكاديمية بامتياز، وجل كتبه كتبت بطريقة تقرأ من الأول حتى الأخير لاستخلاص النتيجة.

من أراد الابتداء بتلخيص كتاب من كتبه فليبدأ أولاً بالمقدمة، ويركز عليها كثيراً، ثم ينظر في الهيكل العام للكتاب وتقسيمات الأبواب والفصول، ويحاول في ورقة مستقلة أن يربط بين المقدمة والهيكل العام، ثم يبدأ بقراءة كل فصل مع تلخيصه لاستخلاص المحور وما لحقه من استدلالات، واستخلاص طريقة استدلال طه عبد الرحمن على محاوره بأنواع البراهين والاستدلالات التي استعملها، ثم بعد ذلك وضع الخلاصة، وإكمال تلخيص الكتاب حتى النهاية على هذا النحو، فهذا أول الأمر للفهم، ثم قد يعود القارئ الذي حصّل قدراً جيداً من المعرفة المطلوبة لغرض نقدي؛ حيث ينظر إلى طريقة استدلال طه عبد الرحمن ويوازنها بما صرّح به من طرق استدلالية، أو بتتبع النقلات الاستدلالية، ليرى مدى تلاحم استدلاله أو وجود نقاط لم تكن واضحة أو ثغرات وقع فيها؛ إذ بعض هذه الثغرات قد يتجاوزها طه عبد الرحمن لأنه ذكرها في مؤلفات سابقة؛ فيبقيها على معهود سالف، ليس في ذكره إلا الإطالة.


أما إن كان الغرض قراءة الكتاب فقط؛ فيتطلب التلخيص معرفة نوع الكتاب: منهجي، موضوع بعينه… ولأي فترة من فترات حياة طه عبد الرحمن ينتمي حتى يعرف أين يضع قدمه، أثم كتب تسبق هذا الكتاب أم لا؟ إذ قراءة كتاب مثل “المفاهيم الأخلاقية” قد لا يفيد كثيراً من لم يقرأ الكتب التي قدمها طه عبد الرحمن لتبيين فلسفته الائتمانية. كذا قراءة كتاب مثل “فقه الفلسفة: القول الفلسفي” قد لا يفيد كثيرًا من لم يقرأ ما تقدّم من كتب.

نصائح خلاصة تجربتي مع كتب طه عبد الرحمن لمن أراد قراءة الأعمال الكاملة له:

  • لا بدّ من امتلاك القدرة الآلية والمعرفية التي تمكّنك من قراءة وتلخيص كتبه، ومتابعة الخطط الأنسب لك والمنشورة على الصفحة الخاصة بتقديم أعماله على تويتر.
  • الأنفع أن تقرأ الكتب وتلخصها وفق خط زمني، تبدأ من البحوث الأولى حتى تصل لآخر ما كتب -متّع الله به-، لأن بعض الفجوات في بعض كتبه لا يسدها إلا معرفة ما كتب سابقًا.
  • ضاعف التركيز على مقدمة كل كتاب، خصوصًا الكتب المركزية في بداية كتاباته.
  • ركز على البنية العامة المتكررة في كتبه، وهذه تحتاج منك لقوّة حدس للآليات والمفاهيم المضمرة التي قد تشربها طه عبد الرحمن ولم يجد حاجة للتصريح بها، أو قد لا يعي أنه يستعملها باستمرار.
  • تنبه لتغيرات في بعض المفاهيم، وبعض المسميات، وبعض الآليات، وهذه تفتح لك باب معرفة أسرار تولد المفاهيم الجديدة عنده، كذا الحجاج لمشروعية بعض المساهمات التي قدّمها، والتفريعات التي استخرجها بعد تمكّن بعض المفاهيم والنظرات، وبعض المفاهيم والآليات التي استغنى عنها لوجود ما فاقها إجرائية، كذا دقة النقد الذي تطور معه بشكل ملحوظ.
  • ستجد من الصعب وضع مفهوم عام لقضية ما عند طه عبد الرحمن دون حفظ سياق الكتاب الذي انتقد من خلاله بحسب المجالات، أو الخطابات، أو الواقع، أو الواجب، نحو مفهوم “الأخلاق” أو مفهوم “الإنسان”… إلخ؛ فهذه غالبًا محكومة بالسياقات وإن ظنّ الظان أنها ثابتة في كل مؤلفات طه عبد الرحمن.

في خاتمة المقال: الإلقاء الثاني فرع عن الانتقاء المصاحب للإلقاء، وتجربتي تجربة انتقاء مضمر وإن لم يتضح لي ما ألقيته وأبقيت ما انتقيته، ثم قدّمته، وفق معطيات شخصيتي وتجربتي، قد تختلف لدى شخص آخر فيلقي للسائل بحسب تحيزاته وانتقاءته، وبمجموع التجارب تتكثف الخبرة وتضاء زوايا أكثر.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
غَيْرُ مَخْبُوءٍ عَن ذِهْنِ النَّبيهِ أن فَسادَ تأويل ألقابِ العلوم بابُ اختلالِ النظرِ فيها.
إن بناء الحضارات لا يشيّد إلا بالعلم والمعرفة، وكل كتاب فذ هو بذرة.
كلما اقترب طبعك من طبع العلم الذي تطلبه زادت الوشائج التي تصلك بأسراره.

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن قراءة المزيد »

من أجل فلسفة عربية: مراجعة لكتاب الحق العربي في الاختلاف الفلسفي

Picture of محسن بن علي الشهري
محسن بن علي الشهري

دكتوراه البلاغة والنقد

يعد مجال الفلسفة -فن إبداع المفاهيم- من أخصب المجالات نقلًا عن الآخر والتأثر به، وقد تفاوت التأثر العربي الإسلامي تأثراً متفاوتا على مختلف العصور، فمنذ مراحل الاشتغال الفلسفي الإسلامي وقع الفكر العربي في منزلق الإشكالات الفلسفية وسؤالاتها متأثرا بجميع التحولات الفلسفية التي رصدت عن الثقافة الغربية، وجاءت تلك المراحل بإجمال على النحو الآتي: المرحلة الأولى التي تمحورت حول مبحث الوجود والتي تبحث عن العلل الغائية للموجودات، ومثَل هذه المرحلة سقراط (ت:399ق.م) وأفلاطون (ت:347ق.م) وأرسطوطاليس (ت:322ق.م) الملقب بالمعلم الأول، ثم تلت تلك المرحلة الوسيطة التي مثلتها الفلسفة الإسلامية، ولم تخل الكتابات الفلسفية من تلك الانطباعات التي برزت في المرحلة السابقة لها، ومن أبرز أسماء تلك المرحلة الفارابي (ت:950م) وابن سينا (ت:1037م) والغزالي (ت:1111م) وابن رشد (ت:1198م) ثم نأتي بعد ذلك إلى المرحلة الثانية في القرن السابع عشر وهي ما عرف بعصر النهضة أو الحداثة، وأول من أشعل فتيل هذه المرحلة الفيلسوف ديكارت (ت:1650م) الذي نقل البحث الفلسفي من الوجود إلى الذات، موضحاً أن علل الموجودات تكمن في الذات المفكرة وليس في الوجود نفسه، ولذلك لقب بـ “أبو الفلسفة الحديثة” ثم تلاه بعد ذلك الفيلسوف كانت (ت:1804م) الناقد للعقل المجرد والعملي والذي تبلور على يديه مبحثا المعرفة والأخلاق، وبذلك اكتملت أركان الفلسفة أو السؤالات الكبرى للفلسفة وهي: سؤال الوجود والمعرفة والأخلاق، ثم نصل أخيراً عند المرحلة الثالثة وهي المرحلة الأوسع والتي تكونت فيها العلوم الإنسانية، ألا وهي مرحلة التأويل، ويقصد بها الخروج أو التحرر من الذات المفكرة إلى آفاق أرحب أداتها التأويل، وأبرز أسماء هذه المرحلة ماركس (ت:1883م) ونيتشه (ت:1900م) وفرويد (1939ت:م) وهذه صورة مختزلة لأبرز التحولات الفلسفية التي تؤطر سؤالاتها وطريقة تناولها.

يرصد كتاب الفيلسوف المغربي الدكتور عبد الرحمن -الصادر عام 2014م، الطبعة الثالثة عن المركز الثقافي العربي بالمغرب، وعدد صفحاته 216- اشتباك الفلسفة الغربية مع تحولاتها بالثقافة الإسلامية، والإشكالات العديدة التي نشأت من التعلق بالمنهج الأوربي للفلسفة سؤالًا وتفكيرًا ومنهجًا، وأثر الارتكاز على منطلقات افترقت عنها الثقافة الإسلامية في المجال التداولي.

إن مناقشة هذا الكتاب لقضية الأثر الفلسفي يدعو على نحو راسخ إلى إعادة تثوير الفلسفة وتمحيصها وتقويمها ودفعها إلى مجال عربي إسلامي تداولي، يفصلها عن الفلسفة الأجنبية، كما يمثّل ببعض الممارسات الفلسفية الخاطئة التي تؤدي إلى الجمود في حين أن الاشتغال الحقيقي للفلسفة لا ينبغي أن يكون إلا في ضوء المنجزات اللسانية المرتبطة بالقومية والمجال التداولي.

يتضمن الكتاب مقدمة، وستة فصول، وخاتمة يعرض فيها المؤلف شبهة قد تتولد بعد قراءة الكتاب، وهي الدعوة إلى صناعة فلسفة عربية غير إسلامية، كون القومية والإسلام ضدان لا يجتمعان، وقد سمى المؤلف هذه الشبهة (شبهة الفكر الفلسفي الكبرى) وقد تناول المؤلف ردها بحسب ما جاء في النظم الكريم من استعمال مفهوم القومية.

نقد السؤال الفلسفي:
يكشف طه عبد الرحمن عن حقيقة الأسئلة الفلسفية التي تعد ركيزة أساسية من ركائز الفلسفة بغية تجاوزها والخروج من مآلات الحداثة، فالسؤال الفلسفي القديم اليوناني ارتكز على فحص الدعوى بالأسئلة، بقصد الوقوف على حدود العقل، في حين ارتكز السؤال الفلسفي الأوربي الحديث على النقد متوسلاً بمعايير العقل وحدها، جاعلاً العقل نفسه موضع تساؤل، وهذا التفريق الدقيق من قبل المؤلف يوقفنا على الفرق بين المنطق الصوري القديم الذي عُني بالعمليات العقلية التي تؤدي إلى تحصيل التصورات والتصديقات، والمنطق المادي الذي يقوم على حقائق الواقع، وبذلك فإن سؤال الفحص يعنى بالشكل والصورة، بخلاف سؤال النقد الذي يعنى بمضمون الفكر ومادته، وعلى ذلك التصور يتجاوز المؤلف هذين الشكلين من السؤال إلى شكل أحدث وهو “السؤال المسؤول” وهو سؤال يسأل عن وضعه كسؤال بقدر ما يسأل عن موضوعه، وبذلك يصحح السؤال من السؤالية إلى المسوؤلية والتي بدورها أن تجعل الفلسفة أخلاقاً يقوم الفيلسوف على تطبيقها من منطلق المسؤولية وليس التنظير كما في السؤالية، فالفيلسوف العربي الجديد ليس هو الذي يخوض في أي سؤال اتفق ولا ذاك الذي يخوض في سؤال خاض فيه غيره تقليدا له، إنما هو الذي لا يسأل إلا السؤال الذي يلزمه وضعه ويلزمه الجواب عنه، أي عليه مسؤولية وضعه ومسؤولية الجواب عنه، ولا لزوم للسؤال الفلسفي ولا للجواب عنه في وضعية هذا المتفلسف إلا حيث تتعين الحاجة إلى تحرير القول الفلسفي العربي وفتح آفاق الإبداع فيه.

الفلسفة قومية لا كونية:

بالأدلة والبراهين وبالارتباطات المتعددة الجوانب ينقض المؤلف دعوى كونية الفلسفة، وأولى هذه الارتباطات، ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي الاجتماعي، وهو ارتباط بدهي، فكل فلسفة نتاج السياق التاريخي والاجتماعي المخصوص، وتقديم البدهي على غيره في الحجج ترتيب منطقي وأولى أن يقدم، والارتباط الثاني هو ارتباط الفلسفة بالسياق اللغوي الأدبي واللغة هي الوعاء للفلسفة والمحل لها ولا بد أن يتأثر الحال بالمحل، أما الحجة الثالثة هو الاختلاف الفكري بين الفلاسفة داخل الأمة الواحدة حتى أضحت الفجوة داخل ذلك الاختلاف تصدّر الفلسفة بأسماء الفلاسفة، كما الأرسطية والكانطية و …، فإذا كان هذا داخل أمة واحدة فكيف يكون الحال بين سائر الأمم؟ فلا شك أن ذلك الاختلاف سيكون أكبر من أن يقارب، والحجة الرابعة هو التصنيف القومي للفلسفة، كما في الفلسفة الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، وأن هذا التقسيم هو تقسيم في جوهر هذه الفلسفات نتيجة تأثرها بالأفكار القومية.

طه عبدالرحمن

طاقات اللغة في إبداع المفاهيم الفلسفية:

كثيرا ما يولي طه عبد الرحمن أهمية بالغة في تناول المصطلحات والمفاهيم ويفجر طاقاتها الكامنة فيها، منطلقاً من الجذور اللغوية ثم المعاني المنبثقة من السياق التداولي، يقول المؤلف في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث: “لا يخفى على أحد أن اللغة أداة من أقوى الأدوات التي يستخدمها المتكلم لتبليغ مقاصده إلى المخاطب وللتأثير فيه بحسب هذه المقاصد؛ وبقدر ما تكون هذه الأسباب مألوفة للمخاطب وموصولة بزاده من الممارسة اللغوية فهماً وعملاً يكون التبليغ أقيد والتأثير أشد“. وعلى هذا الأساس نجده يطبق ذلك على مصطلح القومية ويوضح الخواص والميزات له، فيذكر له ثلاث خصائص أساسية هي: القيام والقِوام والقَومة، فالقيام مشتق من القيام التي فيها النهوض والحركة والعمل، وهي ضد القعود وطبيعته السكون، وبذلك يكون القوم بناء على ما سبق، أنه اسم جمع يدل لا على مجرد الجماعة إنما الجماعة التي لا تفتأ أن تتحرك وتعمل، أما القوام فهو ما ينبغي أن يتقوم عليه الأمر وليس أن يكون كيف كان، وعلى ذلك فإن القومية الحية هي جملة من القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع، أما القومة فهي عمل الجهاد والاجتهاد الذي يقوم به القوم، وبذلك يتضح أن القومية الحية هي اجتماع القوم على دوام العمل وفق القيم العليا وأن القومة هي بلوغ العمل القيمي الغاية وشموله لجميع أفراد القوم، ومن خلال هذه الرؤية يحقق المؤلف مبتغاه بمكنة لغوية فكرية، بأن الفلسفة العالمية المفروضة لا تندفع إلا بمثل هذه القومية الحية.

وإذا كان هذا دأب المؤلف في عرضه للمصطلحات فإنه يشدد النظر على المفاهيم المنقولة وأنه يجب التفريق بين ما هو عبارة عقلية تعم الغربيين وما عداهم، فيفيدهم النظر والبناء عليها، وما هو إشارة خيالية تخص الغربيين من دون سواهم، فلا يفيد الاشتغال بها إلا على سبيل الاطلاع ما يختص به غيرهم، مما أدى ذلك إلى الوقوع في التجميد للطاقة الدلالية للمفاهيم.

ويقسم المؤلف المفاهيم الفلسفية إلى قسمين: مفاهيم مأصولة أو أصلية، ومفاهيم منقولة، والمنقولة هي التي تؤول إلى الجمود والتكلس، كونها لا تتأسس على معطيات موضوعية ولأنها حاملة لخصوصية المجال الأجنبي التي ولدت منه، مما يترتب عليه أنها تأتينا مسلوخة من القيم والمعايير، ولا أدل على ذلك من مصطلح الحداثة، فجموده يكمن أن من تسموا بالحداثيين من مثقفي العرب لا ينفكون يرددون بشأنه في سياقه العربي الجديد ما علموا من أوصافه وأطواره في مجاله الأصلي، حتى زعموا أنه ينبغي أن يتحقق في هذا السياق العربي بنفس الأسباب التاريخية التي تحقق بها في أصله الأوربي، لتسليمهم بمبدأ منقول هو الآخر، وهو مبدأ التاريخ الإنساني الكلي، وإدراج هذا المفهوم في فضائنا الفلسفي الخاص كان يستلزم إخضاعه للقيم العملية التي تميز المجال التداولي العربي.

والذي ينبغي الأخذ بالمدلول اللغوي للمفهوم الفلسفي العربي وبناء المدلول الاصطلاحي عليه، وضعاً وظيفياً، فالفيلسوف الحي لا يكتفي بأن يجد وجوها من المناسبة بين المدلولين، حتى يجلب المشروعية لاستعمال اللفظ الذي استعمله لهذا المفهوم، بل يدخل في إنشاء فلسفي حوله من خلال حقله الدلالي، مقارنا ومفرعا وموسعا، والخروج عن هذه الأعراف التداولية يوقع في عقم التعريفات للفلسفة من كون جانبها التقريري قد لا يستند إلى الجانب التمثيلي أو يستند إلى جانت تمثيلي غريب عن المجال التداولي للمتلقي؛ وفي المقابل يأتي إنتاج التعريفات في الفلسفية الحية من كون جانبها التقريري يستند بالضرورة إلى الجانب التمثيلي أو ينتقل عن جانبه التمثيلي الأصلي الذي لا يوافق المجال التداولي للمتلقي إلى تمثيل يوافق هذا المجال.

الإبداع الفلسفي:

على عادة المؤلف نراه يتناول المصطلح من عدة نواحي؛ وفي ذلك تثوير للفكرة وإغنائها وإذكاء معانيها وتزكية حدودها، فعند تناوله لتعريف الإبداع نجده يلامس مرادفاته وما يقابلها، فمرادف الإبداع الابتكار ومقابله الاحتذاء، والاختراع مقابله الاقتباس، والانشاء مقابله الانتحال، وبهذا يكون أدنى درجات الإبداع الابتكار ثم الاختراع ثم الإنشاء، وتعليل هذا الترتيب، أن الابتكار إبداع صورة، والاختراع إبداع مادة، والإنشاء إبداع للصورة أو للمادة مع صنعة، والإبداع بصنعة أقوى من إبداع بلا صنعة، والإبداع كما هو معلوم مرهون بانتفاء الموانع، وأشد تلك الموانع الأساطير ولكل من هذه العوامل مجموعة مخصوصة من الأساطير المتفرغة من الأسطورة الأصلية تكون مانعاً.

فالابتكار يحصل إضفاء شيء جديد على معلوم سابقاً، ومانع الابتكار هو التقديس المنقول من ترجمة القول الفلسفي الأجنبي على صورته الأصلية كما ينقل النص الديني على وجهه، والخروج من هذا التقديس هو التصرف في النص المنقول وفق المجال التداولي العربي، فمدار التفلسف ليس على الرواية إنما على الدراية.

أما الاختراع الذي يحصل من لا شيء أو من غير معطى سابق، وعلى هذا يترتب أن الاختراع هو بمنزلة دعوة إلى خرق حدود طاقة الإنسان وإلى خرق طبائع الأشياء، بالمختصر هو تحقيق ما يشبه المعجزة، وعلى ما تقدم فإن مانع الاختراع هو الإعجاز، ومدخل الإعجاز عند العربي الأول أتى من الافتنان بما نسج حول ظهور الفلسفة من أخبار وأساطير عجيبة منسوبة إلى فعل الآلهة بتوسط الكهنة والمتنبئين، وهذا الطريق في تلقي الفلسفة لم يكن بطريق العقل الخالص كما كان ينبغي، وإنما بطريق متغلغل في الأسطورة، إضافة إلى أنها جاءت في شكل نموذج فكري يختلف عما عهده العرب، إذ تنبني هذه الفلسفة من مقدمات ونتائج في تسلسل منطقي محكم، بينما كانت حكمة العرب عبارة عن أقوال متفرقة لا تقديم ظاهر فيها ولا استنتاج صارم، فهالهم الفرق بين هذين المسلكين، وطريق الخروج من التصور الإعجازي المنسوج حول الفلسفة هو أن ينطلق المتفلسف العربي من معطيات القول الطبيعي، أشكالاً ومضامين، ألفاظاً وتراكيب، ثم يشتغل عليها، استشكالًا واستدلالًا، للارتقاء بها من عالم التجربة المباشرة التي تدور فيه إلى عالم الفكرة غير المباشرة الذي تجد فيه دلالاتها العقلية، وإذا تمكن من ذلك فيكون لدى المتفلسف العربي قولان: عربي وأجنبي، وهو بهذا لا يشعر أن الغير يفضله في قدرته أو في قوله.

أما الإنشاء الذي هو إبداع فيه صنعة والصنعة هنا إخراج القول الفلسفي في أشكال بلاغية لا يستغنى عنها بغيرها، وعند استبدال هذا الشكل يخرج القول إلى غرض آخر، وبذلك يكون المانع الذي ينبغي رفعه لحصول الإنشاء هو بالذات هذا الاستقلال عن الشكل، ويكون ادعاء استقلال المعنى العقلي عن الشكل اللغوي مؤسساً على اعتقاد أسطوري ما انفك عنه عبر توالي طبقات الفلاسفة، وقد برزت هذه الأسطورة عند العرب في مظهرين: أسبقية المعنى على اللفظ، وأسبقية النطق على الرسم، ومقاومة عائق الاستقلال الذي تتولد منه أساطير أسبقية المعنى على اللفظ وأسبقية النطق على الرسم، ولا مقاومة لهذا العائق إلا عن طريق العمل بمبدأ كتابية القول الفلسفي الذي يجعل المتفلسف يحد اللفظ بالمعنى ويحد المعنى باللفظ كما يجعله يعامل الشكل البلاغي في المكتوب معاملته له في المنطوق.

شارك الصفحة

من أجل فلسفة عربية: مراجعة لكتاب الحق العربي في الاختلاف الفلسفي قراءة المزيد »