جامعاتنا تصنع من حديدها الجيد مسامير!

pexels-cottonbro-7492589

نُسج هذا العنوان من خيوط الحكمة الصينية، فهي تقول لنا بأن الحديد الجيد لا يستخدم لصناعة المسامير، بل لصناعة الأشياء الثمينة التي تستلزم: متانة وصلابة ونقاوة، ولقد تنكبت جامعات عربية كثيرة لهذه الحكمة المنطقية.

لعل من أنصع الصور في ذلك تكليف الأساتذة المميزين تفكيراً وبحثاً وتأليفاً ونقداً بالأعمال الروتينية والمناصب الإدارية، واستنفاد طاقاتهم الخلاقة في هذه الأعمال والمناصب لفترات زمنية طويلة، والقضاء على ما يتبقى من أوقاتهم بعدد متكاثر من اللجان البيروقراطية، فضلاً عن تعبئة النماذج المطولة المملة التي لا يكاد يطلع عليها أحد فضلاً عن أن يفيد منها، لكونها متطلباً لاعتماد أو لأعمال جودة شكلانية، ونحو ذلك.

وبهذا المسلك تخسر جامعاتنا خيرة عقولها البحثية والفكرية، فلا تتوفر على ما يكفي من الأبحاث العلمية الرصينة، ولا الكتب الفكرية العميقة التي من شأنها تشخيص المشكل التنموي وبلورة حلول وآليات ناجعة له، كما تفتقد للقدرة على دفع هذه العقول للوصول إلى براءات اختراع يمكن تحويلها إلى منتجات ذات قيمة مضافة. وتتحول هذه العقول مع الوقت إلى مجرد “مسامير أكاديمية”، فمسمار يُطرق في قسم كذا، ومسمار يُغرس في كلية كذا، وأخرى في عمادة أو مركز أو لجنة وما شابه ذلك؛ فيضعف نتاجهم البحثي والفكري والإبداعي، وربما استحال إلى نتاج شكلاني ذي صبغة برغماتية لنيل ترقية علمية أو مكافأة مالية، وفي هذا خسارة فادحة، إذ لا تقوم الجامعة بدورها الحقيقي في المسارات التنموية والحضارية المنشودة.

ولذلك يشعر كثير من الأكاديميين المميزين بأن نتاجهم يكون أفضل وأقوى وأكثر استقلالية حينما يكون بعيداً عن الجامعات وبيروقراطيتها وتعقيداتها وحسد عشائرها الأكاديمية، فيقدمون على التقاعد المبكر أو حتى الاستقالة، وأما إذا كانت الجامعة مورداً رئيساً للعيش، فقد يكتفي البعض بالانسحاب والتخفف من الأعمال واللجان الروتينية ورفض المناصب التي لا يهشون بها ولا ينشون، مع أنه لا يسلم غالباً من تكليفات وتنغيصات ومضيعات للأوقات ومشتتات للأفكار، مما يحسسه بأنه قد بات “نصف مسمار”،  وحينها قد يعجز عن تدبر ما تبقى من “حديده الجيد”، إذ ربما يكون نثاراً هنا ونثاراً هناك!    

والعجيب أن الجامعات لا تفطن لمبدعيها ولا تحتفي بهم كما ينبغي إلا إذا نالوا جائزة مرموقة، أو كلفوا بمناصب رفيعة خارجها، إذ يغدو هذا الأمر آنذاك مؤشراً يزيد من نقاطها في الاعتماد أو الجودة الشكلانية ضمن ما يسمى بـ معامل التأثير Impact، فتنشط لتقييد ذلك وإدراجه ضمن نماذجها وملفاتها، وقد تخصص محاضرة أو ندوة للاحتفاء بالمبدع والإشادة بنتاجه أو منصبه، فضلاً عن الأبعاد البرغماتية من الإفادة من المنصب الرفيع.  

وكل ما سبق، يؤكد أن الجامعات العربية بحاجة إلى غربلةٍ قوية وإعادة هيكلة لبِنيتها الأكاديمية ونفضٍ لسياساتها وتقاليدها، يُصار من خلالها إلى إيجاد تصنيف دقيق لطاقمها الأكاديمي، بناء على محكَّات علمية دقيقة، ومن ذلك تصنيف الطاقم إلى:

  • باحثين ومبدعين، وهؤلاء لا يكلفون بأي أعمال أو لجان بيروقراطية، وتمنح لهم ساعات تدريسية قليلة، ويطالبون بنتاج مخصوص في أوقات مخصوصة، حتى لا ينسل إلى هذه الفئة من يكون كسولاً.
  • معلمين وباحثين، ويمتاز هؤلاء بأنهم مجيدون لفن التدريس ونقل المعلومات لعقول طلابهم وإنتاج كفاءات مؤهلة، مع قدرات بحثية جيدة، ولهذا فإنهم يتحملون قدراً أكبر من النصاب التعليمي وقدراً من العبء الروتيني، فيدرسون ويقدمون أبحاثاً جيدة أو متوسطة، وهذا مقبول ونافع.
  • قياديين وإداريين، ويتسم هؤلاء بقدرات قيادية جيدة، مع قدرات فائقة على الانغمار في الأعمال الإدارية الروتينية وتحقيق المؤشرات المطلوبة، وقد يقومون بالحد الأدنى من التدريس والبحث، مع أنني أرى إعفاءهم من البحث العلمي، حتى لا يضطروا للقيام بأعمال بحثية رديئة، وقد لا تسلم من السرقة أو القص واللصق، وفي كل هذا جناية على العلم وإرباك لحركة نموه.

عموماً، هذه مجرد خطاطة تصنيفية عابرة وليست مقصودة بذاتها، وثمة أبحاث علمية رصينة رسمت تصنيفات دقيقة مبنية على شواهد ميدانية وأطر منهجية ملائمة، والذي يهمني في هذا النص المختصر إنما هو الفكرة العامة، ولعل في هذا تنبيهاً للجامعات للتصحيح، وللحديد الأكاديمي الجيد نفسه بأن لا ينسلك في “المسار المسماري”، وهو قليل على كل حال لعوامل عديدة، وربما من أهمها عدم نجاعة آلية اختيار المعيدين، حيث يكون الانحياز للأسف إلى المعدل الأكاديمي دون أن تُربط بسمة “الشغف المعرفي” (على افتراض عدم وجود المحسوبيات)، وهو ما يُنبت لنا “عشيرة الأكاديميين العوام”، الذين تتوقف قراءاتهم بعد نيل الدرجة أو الترقية، ولا يُرى من أكثرهم  غير  التمظهر والانتفاخ والإدعاء المعرفي، وقد يسوقون أنفسهم بوصفهم “خبراء” في مجالات معرفية ومهنية تتجاوز تخصصاتهم واهتماماتهم وخبراتهم الحقيقية.

وفي تقديري أن هذا السلوك من أكبر الأسباب في تشويه “صورة الأكاديمي” على المستويات الرسمية والشعبية، فيقال مثلاً: “هذا كلام الأكاديميين، فلا تكترث له، ولا تعره اهتمامك”، والحقيقة أنني لا أستطيع أن ألوم أحداً على استبطان هذه الصورة السلبية، وبخاصة مع كثرة “المسامير الأكاديمية” التي تندُّ عن مكانها! ومن دواعي مثل هذا الضعف الأكاديمي تسريع وتائر التوسل بتطبيقات الذكاء الاصطناعي مع قلة التكاليف وسرعة النتاج، حيث يرى البعض أن ما ينتجه الذكاء الاصطناعي أفضل مما يقدمه الأكاديمي الضعيف، مع أنه هو نفسه قد يستخدم الذكاء الاصطناعي مع شيء من الحذلقة المكشوفة، وفي هذا انعكاس خطير على مسار التفكير الإنساني والمعرفة الإنسانية، ولا يتسع المجال للتوسع في هذه المسألة المعقدة المركبة. ويبقى سؤالي: ماذا ستفعل جامعاتنا بحديدها الجيد؟!  وماذا سيفعل الحديد الأكاديمي الجيد بنفسه؟!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ماذا ستفعل جامعاتنا بحديدها الجيد؟!
ابني لا يقرأ، على الأقل كما كنت أقرأ أنا.
ما نوع بنية الدماغ التي يمتلكها مَن يتقن مهارة القراءة؟