ساهم في الحوار: هند البصري
- تاريخ النشر |
نقتني في كثير من الأحيان كتبًا لم يقترحها أحد علينا قبل ذلك، وربما في غير مجال اهتمامنا، ولكننا نضمها لرفوف مكتباتنا ثقةً بمترجمين عوّدونا على اختيار كتب من طراز رفيع، ونقلها في أسلوب لغويٍّ أخاذ. وفي السنوات الأخيرة برز اسم الدكتور أحمد العدوي في عالم ترجمة الكتب، ناقلًا إلى العربية أجود الدراسات الإسلامية ذات النزعة التاريخية المنشورة في الدوائر الأكاديمية بالغرب، ليصير اسمه علامة على الكتب الثمينة والمهمة. أحاوره في هذا اللقاء عن دخوله لمجال الترجمة، وأبرز التحديات التي تواجهه.
من المعلوم للقراء أنك أستاذ لعلم التاريخ، ونشرت دراسات تاريخية، لماذا توجهت للترجمة؟
لهذا التوجه قصة، وقد لعبت الصدفة دورًا كبيرًا في هذا الأمر. في عام 2016م تقريبًا اتصل بي الأستاذ إسلام مصطفى،مدير مركز تراث للبحوث والدراسات، وهو صديقي وتلميذي، و دار بيننا حوار طويل ثم سألني هل معك هاتف الأستاذة فلانة؟ فقلت له: لا، ليس عندي، ماذا تريد منها؟ قال: لدي كتاب في دائرة اهتمامها، وحقل اختصاصها، وأريدها أن تترجمه إلى العربية. قلت له: أي كتاب؟ قال: كتاب يوسف رابوبرت، الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى. دفعني الفضول لطلب الاطلاع على الكتاب فأرسله لي، وبعد ثلاثة أيام عُدت لإسلام طالبًا ترجمة الكتاب! وبعدها تتابعت أعمال الترجمة والحمدلله.
الترجمة تذكرني بشيء أحبه وأهواه، وهو التحقيق. ولا أرى بين الترجمة والتحقيق فروقًا جوهرية وكبيرة. المجالان مختلفان بلا شك، وربما كان عمل المحقق أشد صعوبة، فعليه أن يعيد بناء النص إلى أقرب صورة عند مؤلفه، ولكن عمل المترجم من هذه الزاوية يشبه أيضاً عمل المحقق. أنا أحب كثيراً عمل التحقيق، وأكثر عمل استمتعت به (وقد لاحظ ذلك كثير من القراء) هو: يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري ، وهذا لأنه جمع بين الفنيّن، الترجمة والتحقيق.
تترجم عادةً أعمالًا لمستشرقين معاصرين، وكثير منهم على قيد الحياة، هل يستند اختيارك هذا إلى مبررات تتعلق بنظرة خاصة لك تجاه حقل الاستشراق؟
هذا صحيح، أحب أن أترجم لمؤلفين على قيد الحياة، وعدد منهم راجعوا ترجماتي قبل نشرها، إذ كانوا على معرفة بالعربية. وأنا اهتم بالجزئيات، بالتفاصيل، أكثر حتى من اهتمامي بالكليات، فإذا أشكلت علي عبارة، سُرعان ما أعود إلى المؤلف وأتواصل معه، لمعرفة المعنى الذي يُريد إيصاله من هذه العبارة، حتى أستطيع نقل ما يقصده بصورة أكثر دقة إلى اللغة العربية. وهذا لا يعني إلغاء مؤلفات الراحلين من قائمة الكتب التي أنوي ترجمتها، فقد ترجمت بالفعل لبعضهم، وعلى رأسهم جورج مقدسي، ولا شك أن الترجمة في هذه الحالة ستكون أشد صعوبة، وفي حالة مقدسي كنت أرجع إلى تلميذه جوزيف لوري لأناقشه في بعض الجزئيات، حرصًا على نقل النص في صورة أكثر دقة.
من ناحية أخرى، حقل الاستشراق اليوم، أو حقل الدراسات الإسلامية في الأكاديميات الغربية، وهي التسمية التي يفضلها الباحثون اليوم، هذا الحقل الآن هو نتاج كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، الذي فضح ممارسات الاستشراق قبله، والمقولات الأساسية التي كان يرددها العاملين به. الدراسات الاستشراقية اليوم تلافت كثيرًا من مشكلات الاستشراق القديم، وتراعي الاختلافات الزمانية والمكانية، وتحاول أن تكون أكثر تحديدًا في النطاقات الزمانية والجغرافية لأبحاثها، ويلاحظ قارئها التزامًا منهجيًا عاليًا عند أصحابها، ومع ذلك فقد كان الإعداد العلمي للمستشرقين القدامى أكثر قوة ومتانة.
أحب أن أطرح على نفسي عددًا من الأسئلة قبل اختيار دراسة لترجمتها، فأبدأ عادةً بسؤال: ماذا يُضيف هذا الكتاب إلى المكتبة العربية؟ هل تفتقر مكتبتنا إلى هذا النوع من المعالجة؟ ثم أنتقل بعد ذلك إلى السؤال عن المؤلف، ما هي مكانته داخل الدوائر الأكاديمية؟ هو هو مؤلف مُعترف به وذا سُمعة مرموقة في مجاله؟ ثم أسأل عن أثر الكتاب في الحقل البحثي المتعلق به؟ وكيف كان التعاطي معه داخل المجتمع الأكاديمي؟ وهذا يُمكن الوقوف عليه من خلال قسم مراجعات الكتب في الدوريات العلمية الأجنبية. أخيرًا أنظر في حجم الاستشهاد بالكتاب في الدراسات والكتب اللاحقة.
كل هذه العوامل جنبا الى جنب تسهم في اختيار الدراسة، سواء من قائمتي التي أعددتها منذ كنت طالبًا في مرحلة الماجستير، أو مما يُعرض علي من الكتب والدراسات، ولا أعزم على الترجمة قبل أن يستوفي الكتاب أكثر هذه المعايير، والمهم دائمًا كما أؤكد في مقدماتي، أن يُسهم هذا العمل في سد ثغرة بالمكتبة العربية، وأن يُثير النقاش الجاد في النقاط التي يتناولها، فعلى سبيل المثال كتاب نشأة الإنسانيات لجورج مقدسي يكاد أن يكون فريد عصره، إذ لم تنل نشأة العلوم الإنسانية في الحضارة الإسلامية حظها من البحث، فضلًا عن دراستها من منظور مقارن مع الحالة الغربية. هذه هي نوعية الكتب التي تهمني ترجمتها.
بمناسبة مقدماتك، والتي تتميز بالطرافة والثراء، ألا ترى أنك تبالغ في طولها أحيانًا؟ في الوقت الذي يتحسس فيه بعض المترجمين من كتابة مقدمات حتى لو كانت مقتضبة.
مقدمة الكتاب عبارة عن دستور للعلاقة بين القارئ وبين مؤلف الكتاب، وأنا كغيري من القراء، لا أستطيع الاطلاع على كتاب دون قراءة مقدمته. في هذه المقدمة هناك محاور أساسية، فعلى سبيل المثال: من حق القارئ أن يعرف قصة هذا الكتاب، ما سياقه العلمي، ما موضوعه الأساسي، ماذا يعالج بالضبط، متى صدرت طبعته الأولى، من هو مؤلفه، فليس جميع المؤلفين في شهرة شاخت وجولدتسيهر! وكثيرة هي الدراسات الغربية التي لا تتضمن مقدماتها توضيحًا لهذه المحاور، لأسباب مختلفة ومتفهّمة. وفوق ذلك بوصفي مترجمًا، يجب علي أن أكشف عن طريقتي في كتابة التعليقات والتوضيحات والهوامش، واختياراتي في الترجمة والتعريب، وهو ما يؤكد مسيس الحاجة إلى مقدمة المترجم.
أحيانا أفتح بعض الكتب العربية المترجمة، وأجدها عارية تماما من مقدمات المترجمين، وينتهي الكتاب وليس للمترجم تعليق واحد، وكأن كل ما ورد في هذا الكتاب بالمصطلحات والأعلام والإحالات الثقافية يعلمه القارئ بالضرورة، والقراء يختلفون، هناك المتخصصون الذين قد لا يحتاجون إلى هذه المعلومات الإضافية، لكن هناك القارئ العام أيضًا، وهو يمثل الفئة الأوسع من القراء. ولا شك أن كل هذا من خدمة الكتاب، وبالقياس مع الفارق، فهو بمثابة النافلة من الفرض، وهو في حالتنا نقل الكتاب إلى اللغة العربية بفهم دقيق وبيان واضح.
أعترف بأنني أنسى نفسي أحيانًا في كتابة المقدمات وأتعجّب آخر الأمر من طولها، وأعرض على الناشرين مقدماتي زاعمًا أنها نسخ أوليّة وسأختصرها لاحقًا، لكن سرعان ما يعود إلي الناشر طالبًا مني عدم اختصارها، ويشجعني القرّاء على عادتي هذه، إذ يجدون مقدماتي معينة على الانتفاع من الكتاب.
ما حدث معي في مقدمتي لكتاب نشأة الإنسانيات استثناء إلى حد ما، فقبل أن يبدأ القارئ مع جورج مقدسي، عليه أن يقرأ مئة صفحة سودتها توطئةً للكتاب! وما كانت نيتي أن أكتب هذا العدد من الصفحات، لكني خمّنت أن قارئ هذا الكتاب الدسم في حاجة للتعرف على مؤلفه بصورة أعمق من نقاط مكررة حول سيرة مقدسي، فأحببت أن يعرف كيف ألّف جورج مقدسي هذا الكتاب الفريد، وجرني هذا إلى الحديث عن تراثه العلمي سواء في المقالات أو الكتب، وكيف تعرف العرب على مؤلفاته، ومن ترجم تراثه، وأثر مقدسي على الثقافة العربية في التحقيق والتأليف، بالإضافة إلى أثر كتاب نشأة الإنسانيات في الدراسات الغربية.
والشيء بالشيء يُذكر، فمايكل كوك المستشرق المعروف بنصوصه المقتضبة والمركزة، عندما وصل إلى خاتمة مقدمته على كتابه الضخم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي اعتذر عن ذلك قائلًا: “أنا لا أنوي تأليف كتاب بهذا الطول مجددًا“، وأنا بدوري أقول بأني لا أنوي كتابة مقدمات بهذا الطول مجددًا!
ماذا عن تحديات الترجمة في حقل الدراسات الإسلامية؟
أعمل تسعة أشهر من السنة في جامعة خارج العالم العربي، وهو ما يعني افتقاري إلى المصادر العربية التي تتكرر الإحالات إليها في ثنايا الدراسات التي أترجمها، ولذلك فإنّ أصعب ما أواجه في الترجمة هو إعادة النصوص المقتبسة إلى صورتها في أصولها العربية، ولا يعلم القائمون على المكتبة الشاملة مقدار استفادتي من مشروعهم، جزاهم الله عني وعن المغتربين من الباحثين خير الجزاء. كلما كان الكتاب أكثر ندرة، والطبعة التي اعتمدها المؤلف غير شائعة، اشتد هذا التحدي، لكن يقدر الله الأصدقاء في مصر، وفي السعودية والخليج العربي، فيصورون لي ما أطلبه من الصفحات في المراجع والمصادر المختلفة.
وهناك مشكلة الاصطلاحات، والتي تخف مشكلتها كلما كان المترجم مركزًا في حقل علمي محدد، ولا يشتت نفسه بين الحقول، فهذا التركيز يجعله أكثر إدراكًا للمصطلحات المستعملة، سواء في اللغة العربية، أو في اللغة المترجم عنها، فقد يعبر الباحثون في الدراسات الإسلامية باللغات الأخرى عن مصطلحات معلومة ومستعملة في السياق العربي، ودور المترجم أن يعيدها إلى أصلها العربي. وقد يجد المترجم نفسه أمام مشكلة نحت اصطلاحات جديدة، وهو ما يتطلب بناءً علميًا متينًا في علوم العربية، ومعرفة بالمعاجم وصحبةً لها.
وفهم الكتاب أهم خطوات الترجمة طبعًا، وهذا يشترط معرفةً علميةً بالتخصص ومشكلاته، فأنا أحيانًا أقف على بعض الكتب المترجمة، وأجد في بعض عبارات الكتاب غموضًا، فيغلب على ظني أن المترجم لم يفهم العبارة، فألبسها ثوبًا من الغموض والالتفاف. على المترجم أن يبذل وسعه أولًا في فهم الكتاب، وأن يعود إلى المؤلف عند الفقرات التي لم يفهمها، فإذا كان المؤلف متوفيًا أو غير متجاوب، فليعد إلى المتخصصين والمعتنين بالكتاب، وفي أسوأ الأحوال فليضع في الهامش أنه لم يفهم الفقرة على وجه دقيق، أو أن المؤلف أغرب هنا، ويكتب اجتهاده في فهمها مرفقًا أصلها باللغة الأجنبية، وهذا لا يعيبك صديقي المترجم ولا يشينك.
ودائمًا ما أقول أننا لا نترجم في الفراغ، لا تخترع العجلة، هناك دراسات تُرجمت فتستفد منها ولتراكم اجتهادك على اجتهاد من سبقك، فعندما أترجم كتابًا يقتبس من دراسات سبق ترجمتها، فإني أضع ترجمتها السابقة دون أن أعيد ترجمة الاقتباس من جديد، وإذا كان عندي ملاحظة على الترجمة، أو تغييرات معينة، فأضعها في الهامش احترامًا لهذه الجهود، كما فعلت مثلًا مع اقتباس من كتاب الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز ورد في دراسة أترجمها، فوضعت ترجمة محمد عبدالهادي أبو ريدة لهذا الاقتباس دون تغيير.
وأسوأ الممارسات في الترجمة العربية، هي ترجمة الاقتباسات من نصوص عربية تراثية، أو معاصرة، كمن يعيد ترجمة اقتباس من كتاب الموافقات للشاطبي، والكتاب بين يديه فلينقل النص بالعربية كما هو، وقد وقفتُ مرة على من يُترجم أثرا للسيدة عائشة رضي الله عنها، بل حدثني من ترجم آية للقرآن الكريم! فهذه ممارسات مضحكة ومخجلة، وكان أستاذي الدكتور أيمن فؤاد سيد متعه الله بالصحة والعافية ينبهنا على ذلك كثيرًا، ويقول إذا ورد نص عربية في كتاب أعجمي وترجمته إلى العربية، فترجمتك هذه صارت كأنها لغة ثالثة صينية أو إيطالية.
وكما قلت لك سابقًا، الترجمة مثل التحقيق، أحاول أن أكون دقيقًا جدًا في نقل نص المؤلف، ولذا فإني أُثبت أحيانًا أرقام صفحات النص الإنجليزي في الهوامش الجانبية، وأقول في مقدماتي هذه أرقام الأصل لمن أراد التثبت من ترجماتي ودقة النقل.
والأهم من كل ذلك أن يكون الإنسان ذا صدر رحب، منشرح الخاطر، يستقبل النقد بفرح، فهذه الملاحظات توقفك على فواتك، وتجعلك لا تكرر أخطاءك. وما أحوجنا في العالم العربي إلى الممارسات التقويمية، يُنشر الكتاب عندنا ولا يهتم أحد بعرضه ولا نقده، بينما في العالم الغربي تنشط المواقع والدوريات المتخصصة في مراجعات الكتب، وقد قرأت عند بعض المؤرخين الفرنسيين أن المجلة النقدية الفرنسية أسست لرد غير المتخصصين من النشر في حقل الدراسات الاجتماعية والتاريخية، وكشف ضعفهم المعرفي من خلال مراجعات الكتب، خاصة في الوقت الذي كان الناس يقولون فيه إن التاريخ مهنة من لا مهنة له. فما أحوجنا في العالم العربي إلى إحياء هذه السنة، وليت القائمين على الدوريات يهتمون بهذا الباب لعظيم تأثيره.
فلنختم حوارنا بالجانب اللغوي، أجد في ترجماتك فصاحة وعذوبة، كيف كونت أسلوبك اللغوي في الترجمة؟ كما لاحظت وأنا أقرأ كتاب قصة الورق الذي ترجمته مؤخرًا، أنك تحاول إضفاء لمسة تراثية على النصوص الفارسية والأوروبية المقتبسة من العصور القديمة، أي أنك تحاول التفريق بين أسلوبها وبين أسلوب النص المترجم الحديث، حدثنا عن اختياراتك اللغوية في الترجمة.
أُحب التراث، وأقرأ فيه دومًا، ولا شك أن من يستغرق في قراءة التراث سيجد في قلمه ميلًا للأصالة في الأسلوب، وهذه الأصالة لا تعني التقعر في اللغة، وقديمًا قالوا الإغراب هو العيّ الأكبر، فلا أحب أن يتعثر القارئ وهو يُطالع ترجماتي، بل أحب أن يجد فيها رشاقة وأناقة، دون التهاون في دقة العبارة ومدلولها.
المهم هو الإخلاص للنص، والغاية عندي أن أقدم للقارئ نصًا لا تعوزه الدقة في قالب لغوي فصيح، وحسب عند قراءته أنه مؤلف بالعربية، فإذا علم أنه مترجم راجع الأصل فوجد ترجمتي دقيقة، هذا هو المثل الأعلى عندي، وهو أمر عسر وصعب، فهناك حوائل لغوية وثقافية، واللغة بحر واسع، والثقافة تحدياتها كثيرة.
أسعدتني ملاحظتك للفروق اللغوية بين الاقتباس ومتن الكتاب، نعم هذا أمر أحرص عليه، فأنا كما قلت سابقًا أحب التركيز في دقائق الأمور، وأجدني متقمصًا لشخصية الكتاب، وتاريخه، وسياق الحياة الثقافية التي كان يؤلف بها، فيدفعني الذوق اللغوي إلى استبعاد أن ترد عبارة أو مفردة ما على لسان رجل من القرن الرابع عشر للميلاد، فأحاول أن أتخيله عربيًا في ذلك الوقت، كيف كان سيُعبّر عن فكرته، وأي أسلوب ساد في ذلك الزمان، فيدفعني ذلك إلى التفريق أثناء عملي بين ترجمة النص المعاصر، وترجمة الاقتباسات القديمة بداخله.