الثنائية اللغوية في التعليم

الثنائية اللغوية في التعلم

لو رأيت قلمًا ثمينًا أعجبك فاقتنيته على الفور دون استفسار، وعهدُك بالأقلام أنها ما خُلقت إلا للكتابة، فستظل تستعمله في تلك الوظيفة حصرًا. ماذا لو كنت سألت البائع عن سبب غلو ثمنه فأخبرك بعدة وظائف: أنه للكتابة التقليدية، وبه خاصية للقراءة، وبه بطاقة ذاكرة تمكنه من تحرير نصوص تلقائية… إلخ أما كانت تقديرك له سيتضاعف، واستفادتك كذلك؟ أما كانت نظرتك له ستختلف وكذلك استعمالك؟ بلى، فإن معرفة قدر الشيء ووظيفته أول الطريق للاستفادة منه أقصى استفادة، وكذلك اللغة.

أهمية اللغة

يقول سقراط في محاورة كراتيلوس لأفلاطون، إن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتلقين بعضنا بعضا هذه الأشياء فتمييز الأشياء يُقصد به التمثل، أما تلقين أحدنا الآخر هذه الأشياء فهو التواصل.

فاللغة إذن ليست مجرد تواصل بل تتعدى ذلك إلى التمييز الذهني بين الموجودات، أي أن لها صلة وثيقة بالصحة العقلية، كما أن لها وظائف عدة نجهل أكثرها، ونتعامل معها من منطلق وجه واحد نعرفه عنها فلا نستفيد منها إلا بقدر ما نعرف. والنماذج اللغوية لوظائف اللغة عديدة، إلا أن أنسبها لهذا المقام باختصار “نموذج مايكل هاليداي” فلنعتمد عليه إذن.

وطبقًا له فإن وظائف اللغة الأساسية:

  1. الوظيفة الإدراكية: وتعني بناء المعنى وتنظيم الأفكار والمعرفة.
  2. الوظيفة التفاعلية: وهي وظيفة التواصل مع الآخرين وبناء العلاقات الاجتماعية.
  3. الوظيفة النصية: أي بناء النصوص المتماسكة والمترابطة.

الواقع اللغوي للغة العربية

من الظواهر الطبيعية في اللسانيات أن تتصف اللغة بـ (الازدواجية اللغوية)، والتي تعني مستويين مختلفين من الاستخدام للسان نفسه، أي أنه تنافس بين تنوعين للسان واحد (عامية وفصحى)، ووجود وضع مختلف لكل من هذين الشكلين اللغويين إذ يستخدم أحدهما في الحياة اليومية العامة ويستخدم الآخر في الأمور الرسمية والدوائر الحكومية وفي المدارس وغيرها، ويُعد الشكل المعياري والرسمي.

وهذا ليس خاصًّا بالعربية وحدها، بل عام ممتد لكل اللغات. إلا أن الواقع اللغوي العربي يختص بظاهرة أخرى مَرَضية وليست طبيعية؛ وهي استخدام لغة أجنبية في التعليم بدعوى أنها “لغة العلم”، و”متطلبات سوق العمل” رغم أن هذا المبرر واحد فقط من وظائف متنوعة للغة، مما يعني إهمال بقية الوظائف رغم أهميتها.

أغلب الأطفال اليوم يتحدثون عامية بلدهم، ويتعلمون في المدرسة بلغة أجنبية -عادة ما تكون الإنجليزية- ودافع الأهل في اختيار هذه المدارس جودة تعليمها، وإكساب أولادهم اللغة الثانية بسهولة وطلاقة، وإتاحة فرص عمل أفضل. وفي خضم هذه المباحثات عن أفضل مدرسة، تُطمَس لغة الطفل الأم تمامًا، فهو يتكلم في البيت العامية -إن كان الأهل يعتمدون العربية- وفي المدرسة يتواصل ويتعلم بالإنجليزية التي بدأ اكتسابها توًّا. والعامية تؤدي غرض الوظيفة التفاعلية بجدراة لكنها لا تفي بمتطلبات الوظيفتين الأخريين. ثم اللغة الثانية -في الأغلب- يقتصر منها الطفل على إدارة حوارات تواصلية بسيطة، وعلى ما يتلقاه من مادة علمية معروضة بها، لكنه لا يتعمق فيها ويتشربها تشرب اللغة الأم؛ فتأتي سطحية هشّة. وعلى هذا تكون أداة اللغة لدى الطفل متركبة من جناحين مهيضين؛ عامية قاصرة، وأجنبية سطحية، فلا تثبت أيٌّ منهما للتأمل العميق والبحث في المعاني المجردة، ولا تؤهلانه للإنتاج الفكري، اللهم إلا إذا أدرك ذلك هو أو والداه واهتما بتعميق لغة من اللغتين بالقراءة والكتابة وما يتصل بهما من أنشطة ذهنية.

وقد أشار الجاحظ (ت: 255هـ) إلى ذلك في وقت مبكر حيث قال في كتابه الحيوان:

“ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأ ّن كل واحدة من اللّغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها. وكيف يكون تمكُّن اللّسان منهما مجتمعين فيه كتمكّنه إذا انفرد بالواحدة وإنّ له قوة واحدة فإن تكلّم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهم”.

ونتيجة لذلك يظهر ما يمكن أن نسميه (الاكتفاء التواصلي)، أي اقتصار تعليم الناشئة ما يكفي تواصلهم في حالة اللغة الأم، وما يختص بدراستهم أو عملهم في حالة التعليم، فالطفل ينشأ بين لغتين سطحيتين دون أن يتعمق في أيّ منهما.

ويقول الأستاذ أحمد معتوق في عن الازدواجية الناتجة عن تعليم النشء بالعامية بدلًا من الفصحى

“يجعل الناشئ يعيش حالة ازدواجية أو فصاما لغويا ويعاني من لغة تتصارع مع مولود لها معقد التركيب أو (مولود غير شرعي) لا بد أن يوهنها صراعه لأنه يحتل مواقع مهمة في المجتمع وجوانب مختلفة في حياة الفرد”.

وهذا في حالة التعليم بنفس اللغة إلا أنه بمستوى مختلف، فماذا عن التعليم بلغة أخرى مختلفة كليًّا؟

– يعتاد الطفل ما سهل عليه من لغة التواصل الأجنبية فيجد نفورًا من ثقل تعلم لغته الأم التي تكلفه تعلم قواعد وأسس عميقة بالنسبة إلى اكتسابه اللغة الولى بالتواصل فقط.

– كما يؤدي هذا الازدواج إلى ضعف المستوى اللغوي لدى الطفل العربي المكتسب للغة ومن ثمة إلى قتل الإبداع لديه، فإن الإبداع هو الإمساك التام بناصية اللغة ويتطلب إتقانا تاما لها بالسيطرة الكاملة على ألفاظها ومعانيها والتحكم في استختدام صيغها ومفرداتها.

– ويؤدي هذا التذبذب اللغوي بين عربية فصحى، وعربية عامية، ولغة أجنبية إلى تذبذب فكري وثقافي أكيد.

– انقطاع الصلة بين النشء ودينهم الإسلامي؛ فالتراث الإسلامي بلسان عربي مبين، سواء القرآن أو الحديث أو التفسير أو حتى علوم العربية التي تعين على فهم وتذوق الشريعة. وهذه القطيعة إما أن تفضي إلى إلحاد أو فهم خاطئ للدين يضر بصاحبه وكامل مجتمعه

الثنائية اللغوية في التعلم 1

الآثار الناجمة عن التعليم بلغة أجنبية

1- ضعف مستوى التعليم عامة وضعف مستوى اللغة العربية الفصحى بشكل أخص. حيث المنافسة بين اللغة الأم ولغة السوق، وبتكرار ما ذكرناه آنفًا من أهمية ووظائف متنوعة للغة، إلا أن المادية قد طغت على العصر وأصبح ما يجلب المال الاهتمام الأوحد.

2- فوضى لغوية حيث التشتت الذهني والالتباس في المفاهيم نتيجة عدم التحكم في اللغتين تحكمًا كاملًا.

3 – توهين الروابط الاجتماعية، وتصدع المجتمع جراء تناقض المقومات الثقافية بين طوائفه الاجتماعية، وفقدان الثقة المتبادلة.

4 – أثر واضح على تخلف التنمية والنهضة الحضارية. ولا يخفى علينا أن معظم الدول العربية تحتل المرتبة بعد المئة في تصنيف التنمية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وهناك عوامل مشتركة بين هذه الدول المتخلفة -العربية منها وغير العربية:

أ – عدم عدالة النظام التعليمي، وتوفير الجيد منه لطبقة ضيقة.

ب – التعليم بلغة أجنبية، وتؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية أن الطلاب الذين يدرسون العلوم باللغة الأجنبية لا يستوعبون ما يدرسون لأسباب عديدة منها:

– أن الطالب يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: صعوبة فهم اللغة الأجنبية، وصعوبة المادة العلمية، وصعوبة ترجمة ذهنية لما يدرس إلى اللغة العربية، لإضافته إلى منظومته المفهومية المعرفية التي هي أساسا بلغته الوطنية.

– وأن تدريس العلوم بلغة أجنبية لا يساعد على توطين المعرفة العلمية، ويبقيها أجنبية، ويحول دون استيعابها وتمثيلها والإبداع فيها، ويعرقل تنمية اللغة الوطنية، ويحصر المعرفة في نسبة ضئيلة من السكان.

خاتمة

إن تعبير “لغة العلم” من أكبر المغالطات التي سيطرت علينا في العصر الحالي، فمن قال ومتى تقرر أن هناك لغة للأدب ولغة لعلم وأخرى للتواصل؟ الحق أن اللغة واحدة تتنوع مستوياتها باختلاف المجال المستخدمة فيه. وإن قصرت العربية حاليًا عن توصيف العلوم وشرحها فلتقصير أبناءها وانعدام الجهود الموجهة لهذه الغاية. ولا يخفى على أحد النهضة العلمية الإسلامية في عهد الدولة العباسية وقد شملت: الجبر، والطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات، والفلسفة، والأدب واللغة، والعلوم الدينية، والفلك، وغيرها من العلوم التي شملتها العربية دون أن تقصر عن أي منها.

وقد تبين لنا في الدراسة أن التعليم من أهم عوامل نهضة الأمم، وأنه يتأثر بالغًا بلغة تأديته، ومن المعروف أن كل الدول المتقدمة -على اختلاف لغاتها- لا تُعلِّم أبناءها إلا بلغتها الوطنية.

أختتم مقالتي ببعض الأفكار التي أرى أهميتها وصلتها بما سبق ذكره:

  • اللغة تواصل وتفكير ومخيلة وديانة وثقافة وليست تعليم وعمل فقط.
  • وأنه وإن اقتصرت المدارس في تعليمها على التعليم بلغة أجنبية فإنها لم تحكر عليكم تعليم أبناءكم لغتهم بشتى السبل المتاحة.
  • وأن السبل المتاحة لتحقيق ذلك وفيرة، والغاية عظيمة، فلا تستهينوا بها ولا تبخلوا عليها بالجهد والوقت والمال.
  • والتربية في أساسها تكوين ابن مستقيم صالح، ولن يتأتى ذلك إلا بتقويم فكره وتهذيبه، وإرساء ديانته على الفهم الصحيح، بلغة سليمة وقويمة.
شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا أقرأ؟ وهل عليّ حقًا الإجابة عن هذا السؤال؟
من أراد الابتداء بتلخيص كتاب من كتبه فليبدأ أولاً بالمقدمة، ويركز عليها كثيراً.
ما ينفك التلازم المنطقي بين معنى التذوُّق ومعنى الجمال، فالعلاقة بينهما تبادلية.