سيولة الحب التي لا تُحتمل: مراجعة لكتاب الحب السائل

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“وربما يتطلب حب الجار قفزة إيمانية، لكن النتيجة هي ميلاد البشرية، وهو أيضاً الانتقال المقدر من غريزة البقاء إلى الأخلاق، إنه انتقال يجعل الأخلاق جزءاً من البقاء، وربما شرطاً لا غنى عنه من أجل البقاء، فيصبح بقاء إنسان ما بهذا المكون (الفطرة) بقاء الإنسانية الكامنة في الإنسان”.

زيجمونت باومان

يشرح عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في كتابه “الحب السائل” حال الهشاشة النفسية الحديثة وضعف العلاقات البشرية وسيولتها، بفعل الأثر الإمبريالي الحديث والفلسفة السائلة التي تقتلع الإنسان من جذوره وانتماءاته ومعتقداته الراسخة وتجعله ريشه في مهب الريح، تتقاذفه الأفكار السطحية باستمرار دون أن يقر له قرار.

تحدث باومان عن سهولة الوقوع في الحب اليوم وسهولة الخروج منه لانتفاء معناه الحقيقي، ولتوهم أصحابه أنهم بالفعل يعيشون قصة حب بعد جعلها مؤقتة ولحظية، وسلب الجوهر الحقيقي منه، وتمطيطه ليشمل علاقات قد لا تستمر أكثر من بضعة أشهر أو حتى بضعة أسابيع، لاختلاطه بمفهوم الرغبة السريعة التي تتجه بالنفس إلى داخلها فتهدمها وتلصق بها الندم السريع واللايقين وانعدام الاستقرار وانعدام الأمان، والمختلفة تماماً عن الحب الذي يتجه بالنفس إلى خارجها فيبني العلاقات ويعتمد على طول الزمان والاستقرار وتوفر الأمان عوامل مهمة لبقائه واستمراريته وتطوره، فكان من نتائج هذه النظرة المشوهة للحب انتشار ثقافة العناية بالجسد والعمد إلى ديمومة الشباب واستهلاك أكبر قدر من المنتجات التي تعد بطول فترة الشباب ودوام مظاهره.

وتناول الكاتب الفصل الحديث بين ممارسة العلاقات وبين التكاثر والإنجاب والارتباط والاستقرار، حيث أصبح مفهوم العلاقة العابرة، أو العلاقات الصافية، منتشر للغاية عند من يظنون أنه يشبع لديهم الرغبات السريعة في استبدال الشريك دائماً بالأكثر وسامة أو ذكاء أو جمالاً، إلا أن كوارث هذا الفصل خلقت القلق وانعدام الأمان في نفس الإنسان لعدم اتضاح حدود العلاقات واقتلاع الرغبة في الاستقرار من نفس الإنسان، فأصبح إنسان اليوم الجنسي قلقاً خائفاً غير واثق بمن حوله، يعمد إلى تلبية حاجاته الحقيقية برغبات سريعة هدامة تزيد من وضعه سوءاً.

وتحدث عن سيولة الهوية الجنسية للمرء والجدل الكبير الذي يثار حولها، فقد تملكت السيولة حياة المرء لدرجة أنه لم يعد يعرف من هو/هي، ولا يعرف ميوله ولا موقعه من الإعراب وسط مجتمع متغير باستمرار، ودون مبادئ ثابتة يعمد إليها إلا مبادئ السوق وقوانينه. وتناول أثر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي خلقت مفهوم “علاقات الجيب”، التي يمكن أن تبدأ بضغطة زر وتنتهي بالطريقة ذاتها، مخلفة الأثر العميق في نفوس أصحابها الذين يوهمون أنفسهم بأن هذا الشكل من العلاقات أفضل لتحقيق “خيارات” مستمرة أفضل وأكثر جدة، فكان أثر وسائل التواصل قاطعاً لأصل التواصل البشري ومانعاً له، بدلاً من تعميق مفهومه وترسيخه، فانتهى بأن يخلق نماذج بشرية تعيش الوحدة على الشاشات وتوهم نفسها بالخيارات العديدة المتاحة لها، دون أن ترسو على خيار واحد منها، خاصة أن مفاهيم القرب أو البعد الافتراضي حلت محل القرب الواقعي، فأصبحت العلاقات معلبة في علب التعامل السوقي النقدي، حيث يمكن استبدالها بسهولة دون تحمل أي مسؤولية.

وتناول المؤلف مفهوم الاقتصاد الأخلاقي القائم على الجماعات التراحمية، التي تتخذ من حفظ الكرامة الإنسانية شعاراً لها، على عكس اقتصاد السوق الذي سلَّع كل قيمة ونفى عنها أهميتها وجعل من كل مبدأ ومعتقد بضاعة يمكن شراؤها بثمن “يناسبها”، حتى أصبحت الحروب تقاس بثمن الحياة البشرية المهدرة دون أن يتحمل الإنسان الحديث أي مسؤولية عن الكوارث التي يتسبب بها.

ومن هنا، عاد باومان إلى مفاهيم حب الجار المرسخة في الديانات والثقافات التراحمية، والتي تحملنا على تجاوز رغباتنا في مجرد البقاء والتخلق بأخلاق التراحم والتعاطف الضرورية لحفظ كرامتنا الإنسانية وجعلها شعار المرحلة في كل مرة، ومن هنا كان التأكيد على ضرورة العودة إلى العلاقات البشرية الحقيقية التي ترفع من الإنسان وتساويه بأخيه وتمنحه القدرة على التسامي بنفسه في كل علاقة وكل حوار إنساني مثمر.

كما أثرت الثقافة السائلة على قدرة المرء على التعبير عن حياته، فشابتها بشوائب القلق من الآخرين والخوف منهم وعدم الثقة فيهم، فخلقت مدناً من التناقضات تعج بالمخلفات البشرية لهذه السيولة، تعمد إلى معالجة مشاكل العولمة بموارد ووسائل جعلتها العولمة نفسها سطحية وغير ملائمة، ومن هنا كانت نماذج المدن الحديثة مثالاً بارزاً على نتاج الثقافة السائلة، في تجميعها قدر كبير من الأغراب القلقين والملقين اللوم على الأعراق المختلفة أو الأجناس المختلفة أو المهاجرين أو اللاجئين، رغبة منهم في إقصاء الآخر والتقوقع على أنفسهم، رغم أن كل ما يقلقهم كان نتاج هذه الثقافة بالذات.

وقد انتبه الفيلسوف الأخلاقي كانط منذ زمن لخطر وجود مثل هذه المجتمعات ودعا إلى الوحدة الإنسانية التي يجمعها الواجب الأخلاقي، وضرورة عدم تسليع القضايا الأخلاقية والقيم والمبادئ والمعتقدات، لأنها تمثل الحبال القوية التي تربطنا بإنسانيتنا وتجعلنا على قدر سامٍ من الوجود الإنساني الجدير، إلا أن حالة التفكك التي أصابت الثقافة اليوم منحت السلطة السائدة الحق في تقويض إنسانية بعض المجتمعات ومنع الحقوق عن بعض الفئات وامتهان كرامة بعض الشعوب، فكان مثال اللاجئين بارزاً لكيفية تعاملها مع نتاج ما اقترفته، فحصرتهم في غيتوهات تسلبهم استقرارهم وهويتهم ومكانهم وزمانهم ووجودهم الإنساني وتجعلهم أشباحاً وظلالاً تعيش على هامش المجتمعات “الأقوى” ومجرد عوامل مزعجة لا ترغب في حل مسألتها.

وفي النهاية أكد الكاتب على أن الحلول لمثل هذه الملامح البشعة للوجود الإنساني الحديث لا يمكن أن تكون حلولاً محلية، بل تصيب الفلسفة الإنسانية الجديدة في جذورها وتعيد للكرامة الإنسانية قيمتها الحقيقية وتجعلها الغاية الأسمى لكل عامل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، ولا يتأتى ذلك إلا بانفتاح الحوار الإنساني العالمي على كل هذه المشاكل وتناول المسببات في عملية حوارية متواصلة ومتجددة تخلق في كل مرة حالة بشرية معيشية على قدر أرقى وأفضل وأكثر احتراماً للوجود الإنساني دون أي عوامل تفرقة.

إنه كتاب جديرٌ ومُهم، يُقرأ مراراً.

شارك الصفحة