تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن

Picture of د. سوسن العتيبي
د. سوسن العتيبي

دكتوراه أصول الدين ومقارنة الأديان من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن

حظي التلخيص في التراث الإسلامي بمكانة رفيعة، وفوائد جمّة، وحفظ لتالد تالف؛ فبعض الكتب لم تُحفظ جواهرها إلا في قالب تلخيص أو في ثنايا كتاب لاحق. وترافق التلخيص مع الاختصار، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فالتفريق بينهما مهم لمن رام التدقيق. والتلخيص قد يكون اقتصاراً على مهمات الكتاب وإيجاز الكلام وحذف الشواهد والأمثلة فيشابه الاختصار، وقد يكون إبانة إضافة وتيسير للإفهام. والتلخيص إبانة عن المقصود، كقول: لخص لي كلامك، أي بيّنه. والإبانة تخليص للكلام من الغموض المباعد بين المتحدث والمتحدث إليه. فالتلخيص يجمع عدة معان، أهمها: الإبانة.

لم يكن طه عبد الرحمن أول دائرة الملخصات التي دأبتُ عليها لغرض ذاتي أولاً؛ إذ الملخص نوع من إبانة مقصود الكاتب الذي قد يغمض أثناء القراءة دون التفحص الدقيق، فإن كان النظر ينقل لنا المعاني قراءة، فاليد تنقلها لنا تحليلاً؛ وقد يكون تلخيصا للأيام التي تلغي فيها الذاكرة طريقا قطعناه مع الكتاب -ومن لا ينسى؟-، وقد يكون لإيجاز الكلام والبحث عن الهيكل العام، وتتكاثر الدوافع لتكاثر الأغراض. ومفردة “التلخيص” واحدة، غير أنها جملة من المهارات والآليات المطلوبة لإنجاز: الإبانة أو الإيجاز أو الشرح، أو كل المعاني المحتملة بحسب كل مجال وغرض وكتاب، وبما أنها ممارسة فالممارسة تكتسب وتتطور مع الزمن حتى تصير خبرة تعين صاحبها على طيّ ما كان من المفاوز في البدايات.
من واقع التجربة؛ لم يكن تلخيص كتب طه عبد الرحمن كبقية الملخصات، إذ عمدت إلى تلخيصها بدقّة على فترات، فترة التحصيل للفهم (الإبانة)، ثم أعدت تلخيص جملة من كتبه لغرض الإيجاز والتركيز على متطلبات كتابة الأطروحة، ثم الثالثة والأخيرة أعدت تلخيص كل أعماله لغرض التثبت من الفهم والبحث عن البنية الأعمق لكل كتاباته مجتمعة عبر ترتيب زمني واستغرقت متوسط ٩ أشهر بواقع ٦ ساعات يومياً.

طه عبدالرحمن
طه عبدالرحمن

يتميز طه عبد الرحمن بطريقة كتابته الاستدلالية، وفق ترتيب أكسيومي يبدأ بمسلمات ثم يتدرج استدلالاً معها، وكتبه متخمة بدراسات قرأها ثم لخص ما تيسر منها بحسب غرضه، وهذا يتطلب أحيانًا الرجوع لبعض الكتب التي اعتمد عليها للتثبت من أصل مصدره ورؤيته له. فمعرفة النمط العام لكتاباته يسهل علينا مهمة مقاربته بالهيكل الأنفع لتحصيل فوائد كتبه، فأقرب هيكل يمكن أن نرسم عليه كتب طه عبد الرحمن ما يسمّى بـ “عظم السمكة” أو “التشجير” من الأصول حتى أدق التفريعات ثم الخلوص للنتائج؛ إذ كتابته أكاديمية بامتياز، وجل كتبه كتبت بطريقة تقرأ من الأول حتى الأخير لاستخلاص النتيجة.

من أراد الابتداء بتلخيص كتاب من كتبه فليبدأ أولاً بالمقدمة، ويركز عليها كثيراً، ثم ينظر في الهيكل العام للكتاب وتقسيمات الأبواب والفصول، ويحاول في ورقة مستقلة أن يربط بين المقدمة والهيكل العام، ثم يبدأ بقراءة كل فصل مع تلخيصه لاستخلاص المحور وما لحقه من استدلالات، واستخلاص طريقة استدلال طه عبد الرحمن على محاوره بأنواع البراهين والاستدلالات التي استعملها، ثم بعد ذلك وضع الخلاصة، وإكمال تلخيص الكتاب حتى النهاية على هذا النحو، فهذا أول الأمر للفهم، ثم قد يعود القارئ الذي حصّل قدراً جيداً من المعرفة المطلوبة لغرض نقدي؛ حيث ينظر إلى طريقة استدلال طه عبد الرحمن ويوازنها بما صرّح به من طرق استدلالية، أو بتتبع النقلات الاستدلالية، ليرى مدى تلاحم استدلاله أو وجود نقاط لم تكن واضحة أو ثغرات وقع فيها؛ إذ بعض هذه الثغرات قد يتجاوزها طه عبد الرحمن لأنه ذكرها في مؤلفات سابقة؛ فيبقيها على معهود سالف، ليس في ذكره إلا الإطالة.


أما إن كان الغرض قراءة الكتاب فقط؛ فيتطلب التلخيص معرفة نوع الكتاب: منهجي، موضوع بعينه… ولأي فترة من فترات حياة طه عبد الرحمن ينتمي حتى يعرف أين يضع قدمه، أثم كتب تسبق هذا الكتاب أم لا؟ إذ قراءة كتاب مثل “المفاهيم الأخلاقية” قد لا يفيد كثيراً من لم يقرأ الكتب التي قدمها طه عبد الرحمن لتبيين فلسفته الائتمانية. كذا قراءة كتاب مثل “فقه الفلسفة: القول الفلسفي” قد لا يفيد كثيرًا من لم يقرأ ما تقدّم من كتب.

نصائح خلاصة تجربتي مع كتب طه عبد الرحمن لمن أراد قراءة الأعمال الكاملة له:

  • لا بدّ من امتلاك القدرة الآلية والمعرفية التي تمكّنك من قراءة وتلخيص كتبه، ومتابعة الخطط الأنسب لك والمنشورة على الصفحة الخاصة بتقديم أعماله على تويتر.
  • الأنفع أن تقرأ الكتب وتلخصها وفق خط زمني، تبدأ من البحوث الأولى حتى تصل لآخر ما كتب -متّع الله به-، لأن بعض الفجوات في بعض كتبه لا يسدها إلا معرفة ما كتب سابقًا.
  • ضاعف التركيز على مقدمة كل كتاب، خصوصًا الكتب المركزية في بداية كتاباته.
  • ركز على البنية العامة المتكررة في كتبه، وهذه تحتاج منك لقوّة حدس للآليات والمفاهيم المضمرة التي قد تشربها طه عبد الرحمن ولم يجد حاجة للتصريح بها، أو قد لا يعي أنه يستعملها باستمرار.
  • تنبه لتغيرات في بعض المفاهيم، وبعض المسميات، وبعض الآليات، وهذه تفتح لك باب معرفة أسرار تولد المفاهيم الجديدة عنده، كذا الحجاج لمشروعية بعض المساهمات التي قدّمها، والتفريعات التي استخرجها بعد تمكّن بعض المفاهيم والنظرات، وبعض المفاهيم والآليات التي استغنى عنها لوجود ما فاقها إجرائية، كذا دقة النقد الذي تطور معه بشكل ملحوظ.
  • ستجد من الصعب وضع مفهوم عام لقضية ما عند طه عبد الرحمن دون حفظ سياق الكتاب الذي انتقد من خلاله بحسب المجالات، أو الخطابات، أو الواقع، أو الواجب، نحو مفهوم “الأخلاق” أو مفهوم “الإنسان”… إلخ؛ فهذه غالبًا محكومة بالسياقات وإن ظنّ الظان أنها ثابتة في كل مؤلفات طه عبد الرحمن.

في خاتمة المقال: الإلقاء الثاني فرع عن الانتقاء المصاحب للإلقاء، وتجربتي تجربة انتقاء مضمر وإن لم يتضح لي ما ألقيته وأبقيت ما انتقيته، ثم قدّمته، وفق معطيات شخصيتي وتجربتي، قد تختلف لدى شخص آخر فيلقي للسائل بحسب تحيزاته وانتقاءته، وبمجموع التجارب تتكثف الخبرة وتضاء زوايا أكثر.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.