مع نهاية كل عام.. يعود المرء إلى ظلال ذكرياته، ويسترجع أيام عامه المنصرم، ونحن هنا نسترجع معًا بعضًا من سيرة علي الطنطاوي رحمه الله بقراءة صفحاتٍ من ذكرياته، في رحلة تنقلنا بين الأدب والتاريخ والثقافة والمعرفة؛ لننهل من بحر تجاربه وخبراته.
هذه الذكريات هي بادِرةٌ من الشيخ الأديب لجمع ذكرياته، من شتاتِ سبعينَ عامًا عامرة، قضاها بين انتقال، وطلب علم، وسعي، ومحاماة، وأدب، وثقافة، ومعرفة.
في ثنايا الجزء الأول.. بدأ بسرد سنواته الأولى في هذه الحياة، لكنه استطرد ولم يلتزم بسير السنوات؛ إذ كانت رحلاته وخبراته أوسع من عمره، فهو الفقيه الأديب والأديب الفقيه الذي مثّل لنا أنموذجًا رائعًا في نهم القراءة وحبها والشغف بها.
نقرأ الآن عن أيامه في (مكتب عنبر) -مدرسته الثانوية- وعن شيوخه وأساتذته، ورحلته اليسيرة مع التجارة، وارتحاله من الشام ثم عودته إليها. سيحكي لنا عن أول سطوره التي رأت النور، ونُشرت في طيات الصحف ليقرأها الجمهور، وكيف كانت رحلته مع الصحافة وبداية إصداراته (رسائل الإصلاح). سنسافر معه إلى إندونيسيا، وسيأخذنا في حديث ماتع عن سُرّ من رأى وعن بغدادَ ورمضانها، وإيوان كسرى، ومحكمة دمشق، وسرده للحرب العالمية الثانية… وغيره الكثير الكثير.
وهكذا جاءت ذكرياته على نمط عجيب لا يأتي به إلا من عاش تجاربًا عميقة كما قال لنا واصفًا لها:”ما سرت فيها على الطريق المعروف، ولا اتبعت فيها الأسلوب المألوف، فلم تجئ مرتّبة مع السنين، ولا مقسمة تقسيم الأحداث والوقائع، وما كانت تستقيم دائمًا على الجادة، بل تذهب يمينًا وتذهب شمالًا؛ أبدأ الحديث فلا أتمّه، وأشرع في آخر فلا أستكمله، وما أدري كيف احتمل القراء هذا كله مني“
وكما قال معبرًا عن كتابته لذكرياته:
“الجندي حين يمشي في مهمة عسكرية يمضي إلى غايته قدمًا لا يعرج على شيء ولا يلتفت إليه، ولكن السائح يسير متمهلاً؛ ينظر يمنة ويسرة، فإن رأى منظراً عجيبًا وقف عليه، وإن أبصر شيئًا غريبًا صوّره، وإن مرّ بأثر قديم سأل عن تاريخه؛ فيكون له من سيره متعة، ويكون له منه منفعة. وأنا لا أحب -في هذه الذكريات- أن أمشي مشية الجندي، بل أسير مسيرة السائح”.
قراءتنا لهذه الذكريات.. هي سياحةٌ في فكر الشيخ وعلمه وآثاره. فهل ستكون أيها القارئ جزءًا من هذه الرحلة وتدرك ركبنا؟