الخلاص التقني: مراجعة لكتاب الاستزادة من كل شيئ أبدا

Picture of كتابة: جينيفر سالاي
كتابة: جينيفر سالاي

ترجمة: يارا عمار

يتوقع إيلون ماسك أنّ مليون إنسان من سكان الأرض سينتقلون إلى العيش على المريخ في غضون 20 عامًا، ليس من باب خوض المغامرة فحسب، ولكنها مسألة بقاء: “علينا أن نبقي جذوة الوعي متقدة بالتحول إلى حضارة فضائية ونشر الحياة في كواكب أخرى”.

لكن ليس بهذه السرعة كما يقول الصحفي العلمي آدم بيكر، فهو يوضح في كتابه الجديد الثاقب وسهل القراءة (الاستزادة من كل شيء أبدًا) أنّ “الحياة على المريخ حتمًا ستكون أسوأ من الحياة على كوكبنا مهما بلغ حجم الخراب البيئي الذي ألحقناه به”.

يبيّن بيكر -وهو حاصل على الدكتوراه في الفيزياء الفلكية ومؤلف كتاب سابق عن نظرية الكم (سهل القراءة أيضًا)- كثيرًا من المشكلات التي تعترض طريق الوصول إلى الكوكب الأحمر والعيش عليه، منها أمور لا يُستهان بها وهي الكميات الهائلة من الإشعاع السطحي. وكذلك الغبار السام، فالتعرض لهواء المريخ سيبخّر اللعاب من لسانك وستختنق.

وإن تمكّن روّاد الفضاء من بناء شبكة أنفاق مضغوطة للعيش تحت الأرض -وهو أمر مستبعد لصعوبة نقل رواد الفضاء، فضلًا عن معدات البناء- فسيكون عدد مَن يعيش في هذه الملاجئ ضئيلًا جدًا، وسيحتاجون إلى شحنات منتظمة من الطعام والمياه من الأرض، يُفترض أن يتم ذلك عبر شركة ماسك SpaceX. يقول بيكر: “حتى الهواء الذي يتنفسه سكّان المريخ سيكلف مالًا”. تبدو طريقة عيش بائسة. “سيجعل المريخ القارة القطبية الجنوبية وكأنها جزيرة تاهيتي”.

خطة استعمار المريخ ليست سوى واحد من السيناريوهات الخيالية التي تحدث عنها بيكر في كتابه “الاستزادة من كل شيء أبدًا” والذي يتتبع الخطط المختلفة التي قدمها المليارديرات من رجال الأعمال في مجال التكنولوجيا ضمن مساعيهم الكبرى لـ “إنقاذ البشرية”. والدافع الأساسي وراء هذه المشروعات، بدءً من الذكاء الاصطناعي إلى استعمار الفضاء الخارجي، هو ما يسميه بيكر بـ “أيديولوجية الخلاص التكنولوجي”. يقول إن الأفكار التي تروّج لها هذه الأيديولوجية لها ثلاث سمات أساسية. أولًا: اختزالية، ثانيًا: مُربحة، وهو ما يتوافق تمامًا مع دافع شركات التكنولوجيا للنمو المستمر، ثالثًا والأهم: تطرح فكرة تجاوز الواقع – الوعد بغاية وهمية يسوّغ تجاوز أي حدود قائمة بما في ذلك الأخلاق المتعارف عليها.

تتميز الرؤى المستقبلية التي تنبع من هذه الأيديولوجية بأنها ثنائية: إما الفردوس وإما الهلاك. يرسم بيكر صورة ثاقبة للجدالات الدائرة حول الذكاء الاصطناعي، موضحًا أن أنصار الذكاء الاصطناعي، والمتشائمون بشأنه، وجهان لعملة واحدة. فمن جهة يتنبأ المتفائلون بالتكنولوجيا، مثل راي كورزويل، بيوم تقضي فيه آلات فائقة القدرة على الفقر والمرض، مما يمكّننا من “العيش بقدر ما نشاء”. ومن الجهة الأخرى، يخشى المتشائمون من “محاذاة الذكاء الاصطناعي” أو احتمال أن تستحوذ هذه الآلات على وظائفنا يومًا أو حتى تقتلنا جميعًا. إحدى التجارب الفكرية المؤثرة لهؤلاء المتشائمين تتصور “ذكاءً خارقًا” هدفه الوحيد تصنيع أكبر قدر ممكن من مشابك الورق، سينتهي الأمر بتحويل هذا الكائن كل شيء إلى مشابك ورق.

وروّاد الأعمال في مجال التكنولوجيا يتأرجحون بين التحذيرات السوداوية ووعود النجاة. يستشهد بيكر بسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI الذي اقترح أن تستحوذ شركته على الثروة التي يولّدها الذكاء الاصطناعي للتخفيف من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية بإعادة توزيع جزء من هذه الثروة على عامة الناس. كتب ألتمان مرة “التغيرات الآتية لا يمكن منعها، إلا أن المستقبل قد يكون رائعًا بدرجة تفوق الخيال”.

يرى بيكر أن اهتمامات وادي السيليكون قد شكّلت نوعًا مشوّهًا من الأخلاقيات الخاصة بهم. يقول:

“إن الثقة الذي يعطيها مليارديرات التكنولوجيا لهذه المستقبلات الخيالية العلمية تضفي الشرعية على سعيهم للاستزادة -لتصوير نمو أعمالهم على أنه واجب أخلاقي، واختزال المشكلات العالمية المعقدة إلى مسائل تكنولوجية بسيطة، وتبرير تقريبًا أي فعل قد يرغبون في ارتكابه- كل هذا باسم إنقاذ البشرية من تهديد لا وجود له، والتطلع إلى يوتوبيا لن تتحقق أبدًا”.

في حين أن أقطاب التكنولوجيا يشيرون عرضًا إلى الوفرة غير المحدودة التي سيحققها الذكاء الاصطناعي، فإن أكثر المشكلات تعقيدًا وإلحاحًا في الواقع الراهن لا تلقى اهتمامًا في وادي السليكون مقارنة بالتجارب الفكرية المذهلة حول “الخطر الوجودي” وإن كانت بعيدة المنال. فإن كنت مليارديرًا نلت مكافآت سخية على مشروعاتك الطموحة الخارجة عن المألوف، فلم تضيّع وقتك في تحليل المشكلات العادية المستعصية، كالفقر أو عدم المساواة، فيما قد تحلم باستعمار المجرة وإحباط عمل آلات مشابك الورق الجامحة؟

وعليه، فقد قدّم وادي السليكون أموالًا طائلة لمجتمع الإيثار الفعال الذي أضفى الشرعية العلمية على الأفكار المفضلة لمليارديرات التكنولوجيا. يشجع الإيثاريون الفعالون على استخدام المنطق والبيانات في اتخاذ القرارات الخيرية، لكن بيكر يشير إلى أن عددًا من أبرز المفكرين قد وضعوا حسابات “طويلة الأمد” غريبة حقًا عن طريق ضرب احتمالات ضئيلة لتفادي كارثة افتراضية بتقديرات هائلة لعدد البشر الذين سيُنقَذوا في المستقبل.

خلُصت إحدى الأوراق البارزة إلى أن إنفاق 100 دولار على سلامة الذكاء الاصطناعي كفيل بحفظ حياة ترليون نفس في المستقبل، مما يجعلها “أكثر قيمة من الفوائد قريبة المدى المتحققة من توزيع ناموسيات واقية من الملاريا.” يقول بيكر: “يرى أنصار فكرة الأمد البعيد أن الاستثمار في شركات سلامة الذكاء الاصطناعي بوادي السليكون هو مسعى إنساني أكثر جدوى من إنقاذ الأرواح في المناطق الاستوائية”.

قد تبدو المشروعات المفضلة لمليارديرات التكنولوجيا مستقبلية بجنون، لكنها تخفي وراءها هاجسًا قديمًا جدًا، إنه الخوف الفطري من الموت، لكنه مغطى بسفينة فضائية برّاقة. يورد بيكر أقوال كتّاب آخرين لاحظوا كيف حوّل وادي السليكون -بشهيته النهمة- القلق الوجودي إلى مُدخل آخر. تقول الباحثة كيت كروفورد في كتابها “أطلس الذكاء الاصطناعي”: “غدا الفضاء هو الطموح الإمبراطوري النهائي، مما يرمز إلى الهروب من حدود الأرض والأجساد والتنظيم”. وفي كتاب “الله والإنسان والحيوان والآلة”، تتحدث ميغان أوجيبلين عن سيطرة التكنولوجيا على مجالَي الدين والفلسفة: “باتت جميع الأسئلة الأبدية مشكلات هندسية”.

وبالتالي، يمكن أيضًا فهم “أيديولوجية الخلاص التكنولوجي” التي يتحدث عنها بيكر على أنها محاولة مستميتة لمواجهة اليأس. وفي سياق انتقاداته الحادة للشخصيات التكنولوجية يوجّه دعوة حازمة للتعاطف، حيث يحثنا على ألا ننشغل بمجرات بعيدة، وأن نركز اهتمامنا على كوكبنا الهش والبشر الضعفاء المحيطين بنا.

يقول: “نحن الآن في عالم ملئ بأكثر حاجاتنا المعقولة. بيدنا أن نستمتع بذلك ونرضى ونستمد المعنى من جعل هذا العالم أفضل للجميع ولكل ما فيه، بغض النظر عن المصير النهائي للكون”.

المصدر

 

شارك الصفحة