استحضِر عالمًا مشهورًا من الماضي. ما الاسم الذي تبادر إلى ذهنك؟ من المرجح أن يكون من أوروبا أو الولايات المتحدة، وهذا ليس بمستغرب لأن العلوم تدرَّس في المناهج الغربية كما لو كانت مسعى أوروبي أمريكي خالص.
يعتقد جيمس بوسكيت، مؤرخ العلوم بجامعة وارويك في إنجلترا، أن هذه الأسطورة ليست مضلّلة فحسب، بل خطيرة أيضًا، ويسعى إلى تصحيحها في كتابه الحديث “آفاق: تاريخ عالمي للعلوم“. وُصف الكتاب بأنه “إعادة سرد رئيسية لتاريخ العلوم” فهو يؤطر مسيرة العلوم على مدى القرون الخمسة الأخيرة بصفتها مشروعًا عالميًا حقيقيًا.
وضّح بوسكيت في محادثة أجريناها معه مؤخرًا عبر زوم سببَ ضرورة إعادة السرد هذه، وقد حُرّر نص المقابلة للاختصار والإيضاح.
س: تشير إلى أنّ تاريخ العلوم -كما يدرَّس عادة- يركز على شخصيات مثل غاليليو ونيوتن وداروين وأينشتاين. أظن أننا نتفق على أن هؤلاء الأعلام لهم إسهامات حيوية، لكن ما الذي يفوتنا عندما نركز عليهم دون ما سواهم؟
جيمس بوسكيت: نعم من المهم التأكيد على أن تلك الشخصيات حققت إسهامات كبرى، فكتابي لا يرمي إلى التقليل من شأن نيوتن وداروين وأينشتاين. وكما تفضلت، هؤلاء الأعلام حاضرون في الكتاب، فكل منهم شخصية بارزة في حد ذاته، لكن بالتركيز عليهم حصرًا نغفل عن روايتين عالميتين.
الأولى هي أن هذه الشخصيات المشهورة التي نعرفها قد اعتمدت على شبكة اتصالاتها العالمية لإنجاز قدر كبير من الأعمال التي خلّدت ذكراها. ومن خير الأمثلة على ذلك نيوتن، فقد كان يعتمد على المعلومات التي يجمعها من مختلف أنحاء العالم، وكثيرًا ما كانت تأتيه من ضباط شركة الهند الشرقية في آسيا، أو فلكيين على متن سفن تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي. وبهذا نغفل عن البُعد العالمي لهؤلاء العلماء المشهورين، وليس من ناحية جمع المعلومات فحسب، بل من حيث اعتمادهم الفعلي على ثقافات شعوب أخرى ومعارفهم أيضًا.
أما الجزء الثاني فيتعلق بمَن هم خارج أوروبا وقدموا إسهامات جوهرية بحد ذاتها. فقد برز من الصين واليابان والهند وإفريقيا علماء فلك وعلماء رياضيات ولاحقًا مفكرون تطوريون وعلماء وراثة وعلماء كيمياء كل منهم قدم إسهامات أصيلة ومؤثرة في مسيرة تطور العلم الحديث. وبالتالي فالتركيز الحصري على الرواد الأوربيين البيض يحرف الرواية برمّتها.
س: من النقاط الجديرة بالانتباه التي طرحتها أيضًا أن الكتب الدراسية أو السرديات الشائعة لتاريخ العلوم عندما تذكر إسهامات العلوم الإسلامية أو الصينية مثلًا فإنها تقدمها على أنها حدث تاريخي، مما يعطي القارئ انطباعًا بأن هذا شيء انتهى في الماضي. ذكرت في كتابك أن هذه الفكرة، إلى جانب كونها مضللة، لها عواقب وخيمة. كيف ذلك؟
ج: نحن على دراية تامة بأن حضارات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والحضارات الهندوسية والحضارة الصينية قد ساهمت بطريقة ما في العلوم. لكن هذا يُذكر دائمًا كجزء من سردية عصر ذهبي قديم أو العصور الوسطى، وأنا دائمًا أنصح طلابي بأن يكونوا متوجسين للغاية متى ما سمعوا مصطلح “العصر الذهبي” لأنه مشحون بدلالات عميقة: فهو يوحي بوجود إنجاز عظيم أو قيام حضارة مزدهرة في الماضي. غير أن التأكيد هنا على “في الماضي” لأن “العصر الذهبي” يتضمن بالضرورة سقوطًا لاحقًا أو حلول عصر ظلام بعده.
هذا الطرح يبدو سليمًا في ظاهره -فكما تعلم حقق علماء الرياضيات والكيمياء والفلك المسلمون إسهامات مهمة في القرن العاشر- لكنه في الواقع يحصر هذه الإنجازات في الماضي. وهذا له تأثير بلاغي مفاده أن العلوم الإسلامية ليست حديثة أو أن العلوم الصينية او الهندية أو علوم أمريكا الوسطى ليست جزءً من الحداثة، بل تبدو وكأنها مناهضة للحداثة.
بالطبع قدم العالم الإسلامي مساهمات مهمة في العصور الوسطى. لكنها لم تتوقف فجأة، بل استمرت طوال القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين والحادي والعشرين. وتلك هي رسالة الكتاب.
س: وصفت العلاقة الحالية بين الولايات المتحدة والصين بأنها حرب باردة جديدة. ما موضع العلم في هذه “الحرب” الجديدة؟
ج: يندرج العلم في هذه الحرب من جوانب معينة، كما كان الحال في الحرب الباردة الأصلية، حيث إن له وظيفة عملية. هذا ما تدركه بوضوح دول كالصين والولايات المتحدة والهند، حيث تعده جزءً من استراتيجيتهم الاقتصادية. فالاستثمار في علوم مثل الذكاء الاصطناعي يساهم في تحوّل الاقتصاد وزيادة الإنتاجية، وهو أمر في غاية الأهمية لسعادة المواطنين، ومن ثم تحقيق النفوذ الاقتصادي الذي يمكّن من الهيمنة على العالم اقتصاديًا وسياسيًا ومن خلال القوة الناعمة.
س: يتضح على مدار الكتاب أنك ترفض فكرة تأطير تاريخ العلوم على أنه مسعى أوروبي أو أنجلو أمريكي. لماذا ترى أن إعادة صياغة هذا التأطير أو تحديثه أمر مهم للغاية؟
ج: لعدة أسباب متداخلة. أحدها أساسي ويتعلق بالتمثيل والتنوع في العلوم، أي الإنصاف.العلوم ليست منصفة في أوروبا وبريطانيا وبالتأكيد أمريكا -الولايات المتحدة وأمريكا الشمالية بوجه عام- خاصة فيما يتعلق بتنوع الأقليات العرقية، وكذلك الطبقة الاجتماعية والنوع والإعاقة وما إلى ذلك.
أرى أن من أسباب -وليس السبب الوحيد- قصر المهن العلمية على فئة من أمثالي (رجال بيض درسوا في جامعة كامبريدج) أننا نقدم للعامة وأطفال المدارس وطلاب الجامعات صورة للعلم تعكس شخصيات مشابهة لي، مثل نيوتين وأينشتاين وداروين، هؤلاء هم الرجال البيض. لكن مرة أخرى، لا أعني أنهم ليسوا جزءً من القصة، لأنهم كذلك قطعا. فكرتي هي أن هناك غيرهم من جميع أنحاء العالم ومن مختلف الخلفيات الثقافية هم أيضًا جزء من القصة.
نحن على مفترق طرق في التاريخ وفي مجال العلوم كذلك. والسرديات التي تلقاها العلماء في الغرب ورووها فيما بينهم قد نشأت في الأصل لأجل الحرب الباردة. لكن الحرب الباردة انتهت -الأصلية- ومع ذلك ما زلنا نردد تلك السرديات عن العلم الغربي وكون العلم محايدًا. أعتقد أن انعدام ثقة العامة في العلم نابع من ذلك، فنحن بحاجة إلى أن نقدم للعامة رواية واقعية وسياسية ومتنوعة لكيفية وصول العلم إلى ما هو عليه الآن -كيف وصلنا إلى هنا- حتى نحظى بتأييد الجمهور الشامل ومشاركته في العلوم.
وفي رأيي هذا النوع من تاريخ العلوم لا ينبغي أن يُرى تهديدًا للعلماء. فمقصدي ليس القضاء على العلم، أو الترويج لأفكار مثل مناهضة اللقاحات. بل غرضي على العكس من ذلك: فإنك إن أردت وقف موجة إنكار اللقاحات والتغير المناخي والنزعة القومية المعادية للأجانب، فأنت بحاجة إلى تاريخ للعلوم يتناول هذه التواريخ المعقدة بجدية.