“بو سيو بطلٌ في المناظرات نال البطولة العالمية مرتين، وكان مدربًا سابقًا لفريق المناظرات الوطني الأسترالي واتحاد مناظرات كلية هارفارد. يقدم سيو في هذه المقالة خمس أفكار رئيسية من كتابه الحديث “الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا”.
١. المناظرات فرصة للتعبير عن النفس:
لم أكن أتحدث الإنجليزية عندما انتقلت من كوريا الجنوبية إلى أستراليا وأنا في الثامنة من عمري. سرعان ما أدركت أن أصعب جزء في التغلب على الحواجز اللغوية هو التكيف مع المحادثات اليومية، وأنّ أصعب المحادثات في التكيف معها هي الخلافات. هنا حيث تشتد الانفعالات وتنهار أنماط الحديث العادية ويقاطع المتحدثون بعضهم بعضًا.
شعرت أن اختلافاتي عن أقراني -إذا ما انكشفت- ستجعلني شخصًا دخيلًا بينهم، وستقوّض أي شعور بالانتماء حققته في هذا المكان الجديد. ولذلك عزمت على أن أكون متوافقًا للغاية، وأن أبتسم وأومئ برأسي، وأن أحتفظ بمعظم أفكاري لنفسي. ثم أصدر معلّمي في الصف الخامس قرارًا بأن على الجميع التزام الصمت عندما يتحدث أحد الطرفين في المناظرات، وكان هذا ما أخرجني من حالة العزوف عن خوض النزاعات. بدا الأمر نوعًا من الخلاص بالنسبة لشخص اعتاد على مقاطعة كلامه واستبعاده من المحادثات.
لقد وجدت في فريق المناظرة هيكلًا ومجتمعًا وثروة من المعرفة، مما مكّنني كل ذلك من رفع صوتي والتعبير عن نفسي بوضوح وثقة.
٢. كل حجة لا بد أن تثبت صحة ادعائها وأهميته:
الحجة ليست مجرد مجموعة عشوائية من الأفكار أو الصيحات، وليست تكرارًا لكل ما يراود ذهنك فيما يخص موضوعًا معينًا، بل هي أداةٌ لتغيير الآراء، ولا بد أن تثبت أمرين أساسيين: صحة ادعائها الأساسي، وأهميته.
تخيل أنك تدّعي أن علينا الامتناع عن أكل اللحوم لأنّ النباتية تفيد البيئة. حتى تستقيم هذه الحجة، عليك أولًا أن تثبت أنّ كون الشخص نباتيًا -في الواقع- مفيد للبيئة، وإلا فقولك إن إصلاح البيئة يتطلب الامتناع عن أكل اللحوم ادّعاءٌ لا أساس له. ثانيًا، السؤال الأساسي الذي يجب طرحه في هذه الحجة هو: لماذا يجب أن نعطي الأولوية لسلامة البيئة على متعتنا الشخصية؟
غالبًا ما يتجاهل الناس الجزء الثاني. لا يكفي أن تعرض وجهة نظرك، بل لا بد أن تجعلها ذات قيمة عند الطرف الآخر. هذا يستلزم السؤال عن سبب تغير رأيك وسلوكك بناءً على صحة هذه الحجة.
٣. اختر معاركك، وانتصر فيها:
عندما تبدأ في تعلم استراتيجيات المناظرة الفعالة وأسرارها، ستبدو لك كل عبارة مرفوضة يقولها الناس فرصةً للجدال وإثبات وجهة نظرك “فإن كنت لا تملك من الأدوات سوى المطرقة، فسترى كل شيء أمامك وكأنه مسمار”. لكن من المعلوم أن المحادثات والعلاقات الفعالة بها مواضع اتفاق إلى جانب مواضع الاختلاف. إن كانت القدرة على حُسن الجدال وإثبات وجهة النظر مقياسًا للذكاء، فإنّ الحكمة تكمن في معرفة متى تخوض الجدال ومتى تُحجم. عالجت هذه المشكلة بوضع قائمة مرجعية أطلقت عليها اختصارًا: RISA.
RISA : هل الخلاف حقيقي (Real) ومهم (Important) ومحدد (Specific) ومتوافق (Aligned)؟ على سبيل المثال، قبل أن تدخل في أي خلاف اسأل نفسك هل هذا الخلاف خلاف حقيقي أم أنه إساءة متوهمَة أو شيء من هذا القبيل؟ ثانيًا: هل الخلاف مهمكفاية حتى يبرّر الجدال؟ ثالثًا: هل الخلاف محدد بحيث تستطيع أن تحرز تقدمًا في الوقت المحدد؟ رابعًا: هل الطرفان متوافقان في أهدافهم من الخلاف؟ أم أن الطرف الآخر -على سبيل المثال- يسعى إلى إزعاجك فحسب؟
يجدر ملاحظة أن الالتزام بهذه القائمة المرجعية لا يعني الوصول إلى نتيجة إيجابية بالضرورة، لكنه يشير إلى تحقق الشروط التي تساهم في ذلك. تأنَّ ولا تتسرع بالخوض في الخلافات من منطلق الكبرياء أو الدفاع عن النفس، وحينها ستركز على الخلافات المثمرة في الغالب.
٤. الأفعال تولّد التعاطف.
عندما كنت صغيرًا كنت أكره أن يُطلب مني أن أتعاطف مع زملائي في الفصل لأني لم أكن أعرف معنى “التعاطف”. البعض يصف التعاطف بأنه حالة ذهنية سحرية تعتريك تلقائيًا عندما تنظر في أعين الشخص الآخر. ويصفه آخرون بأنه فضيلة يملكها خير الناس، ويأمل الباقون في بلوغها. لكن المناظرات علّمتني أن أرى التعاطف بطريقة مختلفة: وهو أنه سلسلة من الأفعال، وليس مجرد شعور.
إنّ قدرًا كبيرًا من المناظرة يدور حول إثبات صحة الحجة. فأنت تؤمن إيمانًا راسخًا بوجهة نظرك، وتأتي بأفضل الحجج الممكنة التي تدعم موقفك، وتجمع أكثر الأدلة إقناعًا التي تبرهن حجتك. لكن أقوى المناظرين يفعلون شيئًا عجيبًا في الدقائق الخمس التي تسبق بدء الجولة: يحضرون ورقة جديدة ويكتبون أفضل أربع حجج للطرف الآخر، أو يراجعون كلامهم من وجهة نظر الخصم ويحاولون أن يجدوا أكبر عدد ممكن من أوجه القصور فيه.
يعرف هذا الأسلوب بتبادل الأدوار. ونظرًا لأنه لا شيء يضاهي الاستماع من الطرف الآخر، فلن يساعدك هذا الأسلوب على التعاطف معه، لكنه ينشئ مساحة للتأمل والتفكير، فتشعر أنه قد توجد طريقة أخرى لرؤية هذه القضية الخلافية. وعندما تحتدم خلافاتنا ونشعر أنها كحرب الخنادق، كل طرف غير قادر على فهم الآخر، حينها أرى أنّ هذه المساحة للتأمل تفيد في كسر هذا الجمود وتمهيد الطريق لتحقيق التعاطف.
٥. الخلاف الهدّام لا يقابله الاتفاق.
الخلاف الهدام يقابله الخلاف البنّاء. مُنعت مجموعات كاملة من الناس على مر التاريخ من التحدث بحكم مركزهم الاجتماعي، فلم تتوفر لهم أي منصة أو فرصة للتحدث والتعبير عن آرائهم. ما نفعله نحن اليوم -تقبل مختلف الآراء في مجتمعاتنا، ومنح الناس فرصة للتعبير عن أنفسهم في الساحة العامة، ومحاولة إدارة خلافاتنا- كلها أشياء غير مسبوقة. لذلك أرى أن بناء الحجج السليمة خطوة نحو مستقبل مثالي، وإن لم نرَ الصورة الكاملة له في الوقت الحالي.
علينا أن نستعيد الثقة والإيمان في قوة الحجج السليمة، مع إدراك أن الخلاف قد يمثل أساسًا لإجراء محادثات أثرى، وإقامة علاقات وثيقة، وطرح استفسارات أعمق، أكثر مما نأمل في تحقيقه من الاتفاق. إنّ بناء الحجج ليس أمرًا وليد الصدفة، بل مهارةً وشكلًا من أشكال الفن واجتهادًا. يعد عالَم المناظرات رمزًا لما يمكن أن يحققه المجتمع بتقبّل الخلاف -لا تجنبه- كما أنه ثري بالمعارف التي يمكن أن نطبقها في حياتنا اليومية حتى نحقق هذا المستقبل.. مستقبل لا يقوم على الاتفاق، بل على الخلاف البناء الذي يقدّر ثراء اختلافاتنا ويشجعنا على التعبير عنها.