كتاب “فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها“ من الكتب التي تجرأتْ على التحليل النفسي للعوالم التي نعيشها بالتوازي مع حياتنا الواقعية، وبيَّنت ذلك في فصول عديدة يحمل كلٌّ منها مستوى مختلفاً من التحليل ويربطه مع سمة نفسية أو خصيصة أو أسلوب فنِّي أو أدبي، ما جعل الكتاب دراسة موجزة ومُهمة للعلاقة الوطيدة بين الفن والروح الإنسانية التي تصيبها الواقعية بالعقم.
يعيش كلٌّ منا في عالمه وواقعه راغباً في أشياء كثيرة، وشاعراً بحاجات عديدة، فإن لم تتحقق هذه في حياته وشعر بأن الأوان قد فات على المحاولة من جديد، شعر بالإحباط، لا سيما إن كان يتذرَّع به من أجل مواجهة مواقف تتطلب منه تغيير ذاته أو فكره لتحقيق ما يريد، عندئذٍ يكون الإحباط والغوص فيه ذريعة لذيذة يقبلها، بل يختارها، ليظل في موقع الضحية. ولكن هذا الموقف النفسي الرافض للتغيير والتأقلم يُنتج رغبة في الانتقام من العالم الذي لم يكن سهلاً، ولم يمنحنا ما نريد بدون مطالبته إيانا بتغيير بعض جوانب تفكيرنا، ويتمثل هذا الانتقام في كراهية الذات والآخر، ومطالبة الآخرين بالمستحيل، وفرض الرغبات عليهم من دون اعتبارٍ لما يريدونه وما يفضِّلونه، ويطرح الكاتب مثالاً على ذلك مسرحية “الملك لير“، حينما طالب لير ابنته الصغرى بأن تعلن له عن حبها، فرفضت الأخيرة لأنها رأت في ذلك نفاقاً لا يُشبهها، فكانت المسرحية تعبيراً عن محاولاته الانتقام منها.
نفهم من ذلك أن الإحباط ليس موقفاً سلبياً، بل مُنتجاً للعديد من الاضطرابات والمشاكل النفسية، كالوهم والخداع، بمعنى أن الشاعر بالإحباط نادراً ما يدري سبب إحباطه، فالإحباط ينتاب المرء مع غشاوة توضع على عينيه، فلا يعود يفهم سبب تعاسته وتصرفاته القهرية المؤذية، وعندما لا يعرف الإنسان نفسه جيداً، أي يجهل مصادر إحباطه وحقيقة حاجاته ورغباته وموقفه من الحياة، فإنه يُرضي نفسه بإشباعات تعويضية ووسائل تُخدِّر ألمه: “الإحباط غير المُدرك، أو غير المُمثل، لا يُمكن إشباعه أو حتى الاعتراف به“.
عندما لا يُدرك المرء في علاقة الحب سبب استنزاف مشاعره وقواه النفسية وشغفه ولهفته على ما يُحب من أنشطة ومهام، ويغفل عن مصدر ذلك في شريكه المنتقد له باستمرار، والذي يجعله في موقف دفاعي دائم عن نفسه كي لا يبدو غبياً أو أحمق أو سخيفاً لانهمامه بمهام يُحبها، فإنه يدمن محاولات إرضاء شريكه ويخلق الخوف في نفسه مما يُحب من أعمال، ويلزمه سلوك قهري بالتشكيك فيما يُحب ويفعل وفي مستوى قدراته وحقيقة مشاعره، فيظهر ذلك في سلوكات تعويضية يحاول عبرها التخفيف من ألمه، كالإدمان على العمل حتى الإرهاق، أو الرعاية المفرطة لشريكه، أو لوم الحياة على خياراتها المنقوصة دائماً، أو التقلب بين الخيارات النفسية الفقيرة لديه، فتارة يمتنع وتارة يحاول من جديد وتارة يتجاهل وتارة يكتئب وينكمش على نفسه.
يجب أن يعترف المرء لنفسه بسبب إحباطه لكي يتمكن من إشباع رغباته بالطريقة الملائمة. فتجاهل الإحباط ومصدره والإدمان على الوسائل التعويضية التي لا تُجدي نفعاً لا يُمكن أن يطول، بل هو قصير المدى ومنتجٌ لاضطرابات نفسية ستحل محله فيزداد البؤس تعقيداً. إن الصورة المشوهة لدينا عن الإحباط الذي ينتابنا تترافق مع الصورة المشوهة عن الإشباع الذي نريده، فإن لم ندرك سبب الإحباط ومصدره، كيف سندرك العلاج الأمثل له، أي الإشباع؟
يطرح الكاتب مثال علاقات الحب لتبيان أن الحبَّ نتعرف إليه على شكل مُحتاجٍ ومانح، بدءاً من العلاقة بين الأم والطفل، والاعتراف بأن طبيعة الحب منطوية بالضرورة على انعدام مساواة بين الطرفين يوفِّر عليهما الكثير من التشوه في الصور، إن الإنسان مُحتاج إلى الآخر بالضرورة، وكلٌّ منا أدنى أو أعلى من الآخر في جوانب عديدة، ولكن تجربة الإحباط المشوهة تجعل المرء خائفاً من مواجهة خيارات الحياة الواقعية، والتي لا تكون مثالية، فيهرب إلى عالم الخيال والأمثلة الذهنية التي يتصور فيها إشباعه على هيئة إنسان يفهمه ويلبي ما يحتاجه، ربما من دون أن يطلب منه ذلك، ولكن هذا الإشباع لا يكون حقيقياً، بل مفرطاً في المثالية إلى درجة يكون فيها مجرد مراضاة نفسية مؤقتة، في مقابل الإشباع الواقعي ذي الاحتمالات العديدة. وإن المرء إذ يجد حبيباً في حياته الواقعية فإنه يكتشف عبره إحباطه الذي لازمه وظل خفياً عنه، وذلك إثر الإشباع الذي يمنحه إياه الحبيب، وهنا تكون تجربة اختيار الإشباع الواقعي رديفة الشعور المكثف بالإحباط لدى المرء، إثر اكتشافه إياه، وكأن المرء يتعرف إلى ما ينقصه عبر الآخر وبوساطته: “مهما كنت تريد وترغب وتتمنى مقابلة الشخص الذي تحلم به، لن تبدأ الشعور بافتقاده إلا عندما تقابله“.
جدير بالذكر أن الكاتب يعود للتأكيد على أن الحلول الوهمية التي منَّينا بها أنفسنا من قبل ردَّاً على إحباطاتنا قد تظل ترافقنا طيلة حياتنا، ونلجأ إليها مراراً حتى لو كنا مدركين لطبيعتها وطبيعة حاجاتنا وضرورة الإشباع الواقعي لها، فالمعرفة لا تنفي الشعور في هذه الحالة، وعادة ما نهرب إلى الخيال من المشاعر التي تنتابنا تجاه الآخرين، عندئذٍ، قد يتحول هذا الإحباط إلى انتقامٍ، ويرتبط مصير المرء بما سيسفر عنه إحباطه.
إن تجربة الرغبة التي يخوضها المرء مُلزمة لنا بأن نكتشف الواقع من حولنا وإمكاناته وما يُمكن أن يقدمه لنا على هيئة إشباع مقبول، وعندما ندرك أن الإشباع الواقعي مهما كان مُرضياً لا يرقى إلى الإشباع الذهني والخيالي لدينا، فإننا نقع فيما يُدعى الإخفاق المتوقع للإشباع، ما قد يُسفر عن محاولة الإنسان تغيير ظروفه وشروط حياته لتحقيق إشباع أفضل، وهذا فعل إيجابي على النقيض من الانتقام من العالم. قد يبدو أن المرء ينتقل من إحباط عدم تلبية حاجته إلى إحباط تلبية حاجته بطريقة غير مثالية ومختلفة عما تصورها، ما يُبرر شعورنا بالغضب والتعاسة والحيرة، ولكن لا حلَّ لهذه المعضلة إلا عبرها، أي عبر إدراك حقيقتها وألا مفر منها، وليس في مقدورنا سوى تخفيف ألمها إلى الدرجة الأدنى.
إن المعرفة الزائفة التي يدَّعيها المرء عما يريد وعن حاجاته ورغباته تعميه عن معرفة ماهية إحباطه وكيفية إشباعه، بل ستعوقه دائماً في محاولات تصحيح ما يراه خاطئاً في نفسه والعالم، لذلك قد يرتدُّ إلى الانتقام والاستمتاع بالإحباط، وهذا مفهوم لأننا مجبولون على كره مواطن الضعف فينا والاعتراف بحاجاتنا، لذلك نلجأ إلى المداراة والتعويضات المؤقتة، غير أن علينا المحافظة على الرابط بيننا وبين الواقع عبر قبول ما يُتيحه لنا، ومحاولة تحسينه إن كان في مقدورنا ذلك. علينا أن نفهم بأن حاجاتنا غير واقعية، ولكن السبيل الوحيد إلى إشباعها يتمُّ بطريقة واقعية.
ولأننا نرفض ألم المعرفة بذواتنا وحقيقتنا فإننا نكره التحليل النفسي الذي يعرِّينا، غير أن معرفة الذات شرط مُهم لتحقيق الاتزان النفسي، سيتعين علينا الاختيار بين متعة المعرفة ومتعة السذاجة، أو ألم المعرفة وألم الإحباط، وبالطبع فإن عدم إدراك المرء نفسه متوازٍ مع فقر تواصله العاطفي مع نفسه والآخرين، إن الجاهل بنفسه لا يمكنه أن يتحدث بسهولة عن عواطفه، ولكن علينا الانتباه إلى أن ادعاء الإدراك عبر خلع المعاني التي نريد على الفعل أو السلوك رديفُ الجهل وعدم الإدراك، يجب أن يدرك الإنسان نفسه من حيث غموضه لا من حيث بساطة معرفته، لا يجب أن تكون رحلة اكتشاف الذات سهلة وإلا كانت مزيفة.
ولكن في حياة عدم الإدراك قد يكون الخيار مقصوداً لما وصفه لاكان “شغفنا بالجهل“ أو فتغنشتاين بأننا “مفتونون” بإدراك الأمور، فلأننا نعرف أن في مقدورنا أن ندرك أو لا ندرك، وقد جربنا واختبرنا كلا الأمرين وكلا الحياتين، فإننا نختار حياة عدم الإدراك للآفاق الواسعة المنطوية عليها، وللعنف اللذيذ الذي تفرضه علينا، ومن هنا يكون التحليل النفسي مُحرراً لنا من حاجة أن نُدرِك وأن نُدرَك، أي يُخلص المرء من محاولة الإدراك وإقناعه بحياة الجهل لا لأنه يصعب عليه فهم الشيء بل لأن ليس هناك أي شيء لأن يفهمه، فالتحليل يُذكرنا بمحدودية إمكاناتنا وقدراتنا، أجل، يجب أن نفهم أنفسنا وندرك حاجاتنا كي لا ندع الإحباط يدمرنا، ولكن يجب أن ندرك في الآن ذاته أن هذه العملية طويلة وشاقة وغير مضمونة، وأننا محدودون بإمكاناتنا في اكتشاف ذواتنا، إننا كائنات معقدة لا يمكن لها أن تفهم ما يجري فيها، يقول الكاتب: “أفضل قراءة لعمل فرويد هي بوصفه مرثاة طويلة لقابلية حياتنا للفهم. إننا نفهم حياتنا حتى تكون لدينا حُرية ألا نضطر لفهمها“.
وفي ذلك إشارة إلى ضرورة أن نقبل وجود الآخر من دون أن نحاول تأويله وفهمه وخلع معانينا عليه، إن امتلاك الآخر رديف الجهل بطبيعة الإنسانية ويجعلنا أكثر بعداً عن توقع السلوكيات الحتمية، كالتمرد والخيانة، علينا التصالح مع حقيقة حاجتنا إلى الآخرين والقبول بهم كمشروعات إنسانية مُستقلة عن محاولتنا تأويلهم، ومن هذا التصالح نفهم أن معرفة الآخر غير مهمة بقدر قبوله والإقرار بوجوده وحُريته في الخيار: “إن معرفة الآخرين، في مصطلح التحليل النفسي، يُمكن أن يكون دفاعاً، أو الدفاع، ضد إقرار وجودهم الفعلي، وما نريد وجودهم من أجله“. ومع ذلك يجب أن يكون لدينا الحد الأدنى من هذه المعرفة، أو أن نقبل “بوهم المعرفة” شرط أن ندرك دائماً بأنها معرفة عرضية وزائفة ومتقلبة، فهذه المعرفة الجزئية تُمكننا من الإقرار بوجود الآخرين، وهي تدحض الرغبة أو تنفيها أو تُمنطقها، غير أنها لا تكون عملية إن تعلقت بالآخر أو الذات، ولا بأس في ذلك، فهذا جزء من ألم الواقع الذي يجدر بنا احتماله.
يقول الكاتب بأن إفلاتنا بالحياة المتخيلة التي نحملها في أذهاننا وتمسكنا بها لا يعني تمردنا على سلطة الواقع والاتجاه نحو الحرية بقدر ما يعني استبدال سُلطة بأخرى، إن المرء لا يحلُم إلا تحت شروط مُعينة، قد يرفض شروط الواقع ولكن هذا لا يعني أنه حُر، بل إنه حتماً خالقٌ لشروط أخرى يرتضيها بنفسه ويحتكم إليها، لذلك لا تكون الحياة الذهنية الموازية للواقعية حياة حُرة، بل حياة بقيود أخرى، والنجاح بهذا المعنى يعني إفلاتنا بهذه الحياة بلا عواقب.
ولكن الفرار من الحياة الواقعية إلى المتخيلة ينطوي على إقرار منا بمعرفة ما كانت لتؤول إليه الأمور لو عشنا فقط الحياة الواقعية، وادعاء بأننا نعرف المستقبل، ولكن معرفتنا بأن هذا الموقف المعرفي مُزيف تماماً لا يعني الرضى بالحياة التي نرفضها في الواقع، بل التفكير في بدائل أخرى ترضينا ويشملها الواقع، لا سيما أننا نرفض أموراً ندعي أننا نعرفها أكثر مما نعرف ما عشناه في الحقيقة، ومعرفة ما ترفضه لا يعني معرفتك بما تريد. إن ما ينتابنا حول المستقبل هو مجرد إحساس نثق به لشدة ما نعانيه في الواقع، ولكن لا يجب أن نترك الألم يدفعنا إلى التمسك بالوهم، بل يجب أن نسخِّره للتخفيف منه. إن الرغبة فيما نريد واليقين بذلك وادعاء معرفة ما نريد تشوه إدراكنا للتجربة التي نعيشها وتلك التي نريد عيشها على حد سواء:
“فلماذا يبدو أننا نعرف عن التجارب التي لم نعشها أكثر مما نعرف عن التجارب التي نعيشها؟ لأن هذا وحده هو ما يجعل الهروب ممكناً، ولأن الحرمان هو ما يجعلنا نتخيل الموقف. وما يُطلق عليه فرويد ’تجريب الفعل في الذهن‘ هو عبارة عن ’ماذا لو‘ التي تولد من الرغبة في الإشباع. إن ما يغوينا هو المنطق الذي يولِّده الخوف. والعلم بكل شيء ذريعة وعذر. ففي هذا السيناريو، نهرب قبل أن نعرف ما الذي نهرب منه. ويمكن أن نقول إن الهدف هو عدم معرفة ما يهرب المرء منه، فشرط الخروج يسبق التجربة“.
قد يكون لعدم إدراكنا التجارب التي نعيشها أثرٌ في إفساح المجال للتأويل الي نُحبه، أي ممارسة الفن واستخدامه كوسيلة للهروب، إننا نهرب من الحياة عبر الفن وشجاعة التأويل والتأليف، وإن لم نرضَ بوهم المعرفة لنحقق الهروب ظللنا أسرى الماضي ومحاولة تغييره، في مقابل المستقبل الذي يمكننا خلقه من جديد: “أولئك الذين لا يمكنهم التظاهر بمعرفة كل شيء عن الماضي محكوم عليهم بتكراره“.
إن المعاناة الناجمة عن الفرق بين إشباعاتنا الذهنية المثالية ونظيرتها الواقعية المنقوصة ملازمة لنا لا محالة، وتتمثل في الصراع بين الأنا والأنا المتعالية، لذلك يكون البطل التراجيدي هو المُتخلي عن رغبته فيما يريد لرغبته في معرفة ذاته وإمكانات واقعه، ومن هنا يُطرح السؤال: هل تكون غاية التحليل النفسي انتقامنا من أنفسنا عبر المعرفة؟
إننا عبر الحياة المزدوجة التي نعيشها نشترك مع المجانين في تجربتهم، ولكننا أقرب إلى مُمثلي المسرح الذين يقدمون أدواراً لا تشبه حقيقتهم، ونحن كذلك نعيش في الحياة وكأنها مسرح عظيم، نقدم فيها أدواراً واقعية لا تتشابه وحقيقتها التي نفضل أن نعيشها، وكأن رغبتنا في عيش حياة أخرى هي رغبة مسرحية، ولكن في أي دورٍ نكون أكثر حقيقة؟ لا يُمكن لأحدٍ أن يُجيب. إننا في المسرح نحتفي بتمثيل الجنون كما نحتفي في الواقع بتمثيل الأدوار، وهذا ما خصَّص له غوفمان كتاباً سماه “تمثيل الذات في الحياة اليومية“.
إن مراحل نضوج المرء هي مراحل من الخيبات المتتالية، ويجب عليه أن يقبل هذه الحقيقة، فالبديل لذلك تشوه في تصور الحياة والنفس، وهذا نقيض يقابل نقيض المثالية الذهنية، أما الواقع فهو في المنتصف، ينطوي على ألمٍ محتمل ولذة منقوصة، بالطبع قد يحتوي على إشباع مثالي، ولكن يجب ألا نتوقع منه ذلك. تكمن الشجاعة في الاعتراف بأننا لن يوماً إلى فهم أنفسنا ولا رغباتنا، وبأن المثالية المتخيلة عارضٌ يُنبهنا إلى ضرورة تغيير الواقع لا ضرورة ملاحقتها.