حياتنا بين الحقيقة التي نعيشها وبين الخيال الذي نتمناه: قراءة في كتاب فوائت الحياة

Picture of ندى الأشرم
ندى الأشرم

مهتمة بتعزيز عادة القراءة ومؤسس لعدة مبادرات قرائية

كان ناقماً طيلة حياته على والديه الذين تسببا بتعاسته، كان ينظر لفقره وكأنه السد الذي يمنعه من الوصول لجنة الحياة ومتعها، أمضى حياته بأكملها وهو يتأمل ويفكر كيف كان سيحيا لو لم يكن الطفل الخامس لهذه العائلة البائسة، كبر وكبرت معه خيالاته، تخيل نفسه دوماً شاباً ثرياً ينال كل ما يتمنى حتى قبل أن يطلبه، كانت المدرسة بالنسبة له هاجساً مرعباً، والدخول في علاقات صداقة مع أقرانه أمراً مستبعداً. استمر على ما هو عليه حتى قارب الثلاثين من عمره، ولم ينعم مطلقًا بدفء الأصدقاء ولا العائلة، وعند بلوغه الثلاثين تلقى عرضًا مغريًا للعمل خارج وطنه، فتلقفه بلهفة وطار محلقاً يسبق الريح ظناً من أنه قد أدرك مناه أخيراً، حطت رحاله في الدار الغريبة عنه التي لا يعرف فيها أحد غير نفسه. هناك أدرك أنه لم يكن يطارد حلماً ليتحقق، بل كان يلهث خلف سراب! بِيعت أحلامه وتبعثرت أمانيه بعد أن ظهرت له حقيقة تعرضه لعملية

نصب أفقدته حتى ذاك القليل الذي كان يمتلكه. ورغم عودته خائبًا لوطنه لا يزال يُقنع نفسه أنه يحيا الحياة التي لا يستحقها، بل يستحق ما هو أفضل منها.

هذه القصة وإن كانت محض خيال إلا إنها تحكي واقعاً نعيشه ونراه. فكلنا هذا الذي يهرول بين حياة يعيشها وأخرى يتخيلها ويتمناها، قد لا ينال منها شيء أبداً، ولكنها تبقى غصة في قلبه تتجسد أمامه كلما رأى ما تمناه وقد تملكه غيره.

هذا الحديث عن تلك الحياة الافتراضية التي يُنغّص غيابها واقعنا، هو لب ما جاء في كتاب (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها).

”هناك دائمًا الحياة التي سيتبين أنها الحياة التي عشناها، والحياة التي  صاحبتها، الحياة (أو الحيوات) الموازية، التي لم تحدث في الواقع، تلك التي نعيشها في عقولنا، الحياة أو (الحيوات) التي نتمناها: المجازفات التي لم نُقدم عليها، والفرص التي تجنبناها أو التي لم تتح لنا. ونحن نشير إليها بوصفها حياتنا التي لم نعشها، لأننا نعتقد أنها بصورة ما كانت متاحة لنا، لكنها لم تكن ممكنة لسبب ما. وربما نقضي قدرا كبيرًا من حياتنا في محاولة البحث عن هذا السبب والتذرع به“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

فوائت الحياة

يُصور الكاتب والمعالج والمحلل النفسي البريطاني آدم فيلبس صورة بانورامية للحياة في كتابه الذي بين أيدينا (فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها) ويفصلها لجزئين اثنين، جزء يعرض الحياة الواقعية وما بها من مصاعب وآلام، وجزء حالم بُني على قناعة أن الحياة التي نعيش على أمل بلوغها هي حقًا ما ننتظره وهي ما نتمناه ونرتضيه وما يجب أن يُسعدنا.

الكتاب عبارة عن مقالات تناولت مبدأ الحياة العام، الذي ينطلق من فكرة واعتقاد قائم على أن هذه الحياة هي للملذات والسعادة فقط، وأنه لا يُفترض بها أن تنحو منحى آخر، ونظراً لأن الحياة بطبيعتها تخلو من هذا الفصل بين الألم واللذة، فإننا ندخل في حالة إحباط في كل مرة نتعرض بها للحياة الطبيعية، ومنبع هذا الإحباط هو الإحساس باليأس الحاصل جراء غياب الحياة المتوقعة بأحوالها المُتخيلة، ويرجّح فيلبس بكتابه العامل المؤثر في مسألة الحياة المتوقعة والمُتمناة، إلى وسائل التأثير الخارجية مثل المسرحيات والروايات والأعمال الأدبية عمومًا، التي كانت على مر عقود من الزمن تغرس في الذهن الصورة المثالية للحياة التي لم يعشها أحد قط!

تلك القصص التي ملئت بها الأعمال السينمائية والأدبية عقول الناس حول لذة الوصول للحب والحلم والغايات وغيرها، أوجدت في النفس ميلاً دائمًا نحو الاقتناع بأحقيتها بالعيش السعيد الخالي من المنغصات. بالإضافة إلى ذلك، يعرض فيلبس بالكتاب الحقيقة المرة التي جعلت من الحياة في منظورها الحداثي مصدراً للمتعة فتضاءلت أمامها معايير الأخلاق، فليس من المفترض أن يعيش المرء صالحاً إذ يكفيه في هذه الحياة أن يعيش سعيداً، وهذا الاعتقاد يجنح إلى رفض الألم والمعاناة، واعتبار الصعاب مشاكل لابد من التخلص منها بأسرع وقت ممكن للوصول للحالة السعيدة المنشودة. وعلى الرغم من رفض الكاتب لهذا التصور إلا أنه أيضًا لا يدعي الترحيب بالألم والمعاناة، بل إنه يؤكد على ازدواجية الحياة، واختلاط الألم باللذة والمتعة بها. ويرى فيلبس أن هذا الفكر الشائع يدفع بالبشر نحو الحنين الدائم والتمجيد الذي لا ينقطع لمراحل الطفولة والمراهقة، كونها أجمل مراحل العمر، وفي المقابل ينظر لمرحلة النضج  والرشاد إلى كونها مرحلة مرهقة وشاقة، في حين أن العكس هو الصحيح من وجهة نظر المؤلف.

إننا لا يمكن أن نتخيل حياتنا بدون ما تحتويه من حيوات لم نعشها. إننا لدينا شعور دائم، وإن كان غامضًا وغريبًا، بأن الحيوات التي نعيشها تدفعها الحيوات التي تفوتنا. وتُعرّف حيواتنا بالفقدان، لكن فقدان ما كان يمكن أن يكون، فقدان أمور لم نجربها قط. وبمجرد أن تصبح الحياة الأخرى، الحياة الأفضل -الحياة الأكمل- هي هذه الحياة التي نحياها، تكون لدينا مهمة كبيرة بين أيدينا. وكأن شخصًا ما يطلب منا لا أن نعيش وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن. بل أن نعيش في رخاء، ليس مجرد حياة طيبة وحسب؛ بل على أفضل نحو ممكن, وهذا نوع مختلف من المطالب. وتصبح قصة حياتنا هي قصة الحيوات التي حرمنا عيشها“.

-آدم فيلبس، فوائت الحياة.

أقول بأن صفحات الكتاب جاءت لتحدثنا بما نُحدث به ذواتنا، ذاك الهمس الذي نبقيه حبيس مسامعنا، يُحدثنا تارة بالرضا، وتارة بالقنوط واليأس، وبالنهاية تكون لك الحياة كما أرادها الله لك أن تكون، لا تزيد ولا تنقص، ولن ينال المرء منها إلا ما قد قسمه الله وقدره، يقول النبي ﷺ: “أيها الناس اتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم”.

إن واقع حياة المؤمن إن كان صادقًا في إيمانه يقيه شر هذه الوساوس النفسية، كما أن إيماننا بحقيقة قصر أمد هذه الحياة يجعلنا نتطلع دومًا إلى الحياة التي لا فناء بعدها، تلك هي الحياة التي تستحق فعلًا منا كل هذا القلق.

لبيك إن العيش عيش الآخرة.

شارك الصفحة