على المسرح: مراجعة لكتاب تقديم الذات في الحياة اليومية
“إذ يعلم الفرد أن جمهوره قادرٌ على تكوين انطباعات سيئة عنه، قد يشعر بالخجل من فعلٍ صادقٍ حسن النية لمجرد أن سياق أدائه يترك انطباعات زائفة سيئة. وعند الشعور بهذا الخجل غير المُبرر، قد يشعر أن من الممكن رؤية مشاعره، وإذ يشعر بأنه مرئي على هذا النحو، قد يشعر أن مظهره يُثبت هذه الاستنتاجات الخاطئة حياله. وقد يضيف بعدئذٍ إلى هشاشة موقعه الانخراط في تلك المناورات الدفاعية التي كان ليستخدمها لو كان مذنباً حقاً. وبهذه الطريقة، من الممكن لنا جميعاً أن نصبح عند أنفسنا، ولوهلة عابرة، أسوأ شخص يمكن أن نتخيل أن الآخرين يمكن أن يتخيلوننا عليه. وبقدر ما يحافظ الفرد على عرضٍ أمام الآخرين لا يؤمن به هو نفسه، فإن بمقدوره أن يختبر عالماً خاصاً من الاغتراب عن الذات ونوعاً خاصاً من حذر الآخرين”
إرفنغ غوفمان
قد يكون “تقديم الذات في الحياة اليومية” من أفضل الكتب التي ترصد الحياة الاجتماعية للبشر، وتعقيدها أمام الحياة الفردية التي يمكن أن يعيشها المرء مستغرقاً في نفسه، ففي هذا الكتاب، يشرح غوفمان الأداء المسرحي الذي نظهر به أمام بعضنا، والانطباعات التي نريد تعزيزها في نفوس الآخرين عنا، والكيفية التي يستطيع بها كلٌ منا رسم صورته الاجتماعية التي قد تكون متناقضة تماماً مع صورته كفرد عادي.
ولتوضيح الكيفية التي يلعب بها المؤدون أدوارهم في مسرح الحياة، يبدأ الكاتب في الحديث عن الانطباع الذي يريد كلٌّ منا تركه على الآخرين بحكم الدور الذي يؤطر نفسه ودوره في داخله، ورغم أنه قد يبدو متهكماً حيال دوره أو يستغرقه دوره ويستنزفه، فإنه يعتمد في كلتا الحالتين على تعريف لوضعه وإعدادٍ له يشمل البيئة المحيطة، ومظهرٍ مناسب له وأدوات ينقل عبرها الانطباع الذي يريده، وهذا كله يتطلب منه طاقة وجهداً وعناية بالتفاصيل وانتباهاً فريداً، الأمر الذي يشغله عن شخصيته الحقيقية ويخلق بينه وبينها مسافة تظل في ابتعادٍ مستمر:
“كثيراً ما يجد الأفراد أنفسهم أمام معضلة التعبير مقابل الفعل. فأولئك الذين لديهم الوقت والموهبة لأداء مهمة من المهمات على نحوٍ حسن قد لا يكون لديهم، بسبب ذلك، الوقت أو الموهبة لتبيان أنهم يؤدون أداءً حسناً”
وفي أدائه لدوره، فإن المرء لا بد أن يستند إلى “كواليس” أو خلفية وجودية له يمارس فيها دوره الطبيعي أو الأكثر حقيقة، أي الحيز الذي يمكن أن تتمثل فيه شخصيته الحقيقية وسماته وخصائصه، وهو الحيز الذي يشاركه مع غيره من المؤدين ويحتفظون فيه بأسرار الدور وكواليسه وطرق إخراجه والمبادئ الضرورية لإنجاحه وسلامته. وبقدر المثالية التي يضفيها الأفراد على أدوارهم وأدائهم، فإنها تظل هشة أمام الزلات والهفوات والأخطاء، الأمر الذي يتطلب منهم حرصاً دقيقاً لمنعها، لا سيَّما عندما يكون الجمهور مترصداً لهذه الأخطاء، يعظِّمها ويبرزها وينتقد الأفراد فيها، ومن هنا، تكون المكانة الاجتماعية تمثيلًا يؤدى بحرص وليس شيئاً يُمتلك.
وعندما يُعنى المرء بأدائه في الحياة، فإنه يرسم “واجهة شخصية” له تعبر عن وسطه وموقعه، فيعمد إلى التحقيق الدرامي لدوره ومن ثم إضفاء الطابع المثالي على دوره في المجتمع الذي يريد أن يكون جزءاً منه، فيلجأ إلى الحذر الشديد والتحكم التعبيري بنفسه ورصد حركاته وأقواله وانفعالاته ضمن صورته الجديدة التي يريد تثبيتها، غير أنه، ورغم ذلك، قد يقع في زلات وهفوات وإساءة تمثيل درامي تكشف عن بعض زيفه أو تصل منطقة الواجهة الشخصية لديه بمنطقة الخلفية التي يعيش فيها كفرد عادي.
وفي رسم المرء لصورته الاجتماعية وعنايته بدوره المسرحي، فإنه ينضم إلى فريق أو أكثر من فرق الحياة، والذي تسود فيه ملامح التعاضد بين أعضائه والاتفاق المشترك على حفظ أسرار الإخراج والأدوار، والإبقاء على الكواليس بعيدة عن أعين الجمهور، فتنشأ بين أفراده علاقات وطيدة تدعم الدور في النهاية وتعززه. قد يكون فريقاً مهنياً أو طبقياً أو فنياً وخلافه، وعندها سيتوجب عليه اتباع قانون الفريق في الحفاظ على صورته العامة وهيبته وسمعته، وهو في فريقه يتنقل بين المناطق (الواجهة والخلفية) فيتبدل سلوكه تماماً تبعاً للمنطقة ومعاييرها، كما تُبدل مضيفات الطيران سلوكهن أمام الركاب ومن خلفهم، حيث لكل منطقة قوانينها ومعاييرها الواجب اتباعها، ولكن قد يواجه المرء منطقة ثالثة متمثلة في مقابلته جمهوراً جديداً ومختلفاً أثناء مقابلته جمهوراً معيناً ومحدداً، وعندها سيتوجب عليه الفصل بينهما لتمثيل دوره على أكمل وجه أمام كل منهما.
وقد يلعب الأفراد أدواراً مختلفة في حياتهم، تخدم الفريق تارة والجمهور تارة أخرى، وتكون جميعاً مستندة إلى معرفة الفرد بأسرار الدور وطبيعته وإعداده والطريقة التي تضمن مثاليته، ففي حين يترصد فردٌ من الجمهور للأخطاء، يختار آخر إفشاء أسرار الفريق للجمهور، وآخر يستخدم حنكته لإصلاح الأخطاء والتبرير لها، وآخر يكون مختصاً بإعداد الدور وضمان الانطباع السليم عنه، وآخر يشاهد العرض وينخرط فيه واعياً بدوره لإثبات مثالية أداء الفريق، وآخر يلعب دور السمسار في التوفيق بين فريقين، وهناك من يكتفي بدور المشاهد الذي لا يُعتد برأيه ولا يؤخذ بمنظوره.
وبين أعضاء الفريق، يكون هناك اتصال خفي وضروري يضمن نقل المعلومات والإشارات في حضرة الجمهور، منعاً لاطلاع الأخير على ما يجري بعيداً عن أنظاره، كما يحدث في انتقاص الأفراد لقدر الجمهور في غيابه، وتواطؤ الأعضاء في عدم إفشاء أسرار الدور، وإعادة اصطفافهم ضمن فرق عديدة مختلفة عند مقابلتهم مختلف الطبقات والمجموعات الاجتماعية، كما يشمل ذلك حديث الأفراد عن شروط الإخراج ومبادئه.
إلا أن بعض الأخطاء تحدث بالفعل، لا سيَّما عندما يطلع أحد من الجمهور على الكواليس بفعل الصدفة أو بعد الترصد الحريص، ما يتطلب من الفريق ضرورة الإيمان بالولاء الدراماتورجي للدور وتحقيق الانضباط بينهم والاحتراس لمنع تكرار أية أخطاء سابقة، الأمر الذي يُدعى بضرورة إدارة الانطباع. أما الجمهور فيكون واعياً لوقوع هذه الأخطاء، فقد يتسم باللباقة في المسامحة والغفران والتغاضي، وقد يتبع إجراءات وقائية عديدة تمنع إيقاع المؤدين في الحرج في حضرته. ما يفسر الاضطراب الشعوري الذي يلازم الفرد في حياته الاجتماعية، مفكراً في سلامة دوره وانطباعات الآخرين، فيظل في موقف دفاعي مستمر لا يفتأ اللجوء إليه.
غير أن لحظات الاعتراف أو الصراحة تظل حاضرة عندما ينهار هذا البناء الهش، ويتمكن كلا الفريقين من الاطلاع “على عورات” الآخر، وعندئذٍ “تتكشف فجأة وبشدَّة البنية الدراماتورجية للتفاعل الاجتماعي برمَّتها، ويختفي مؤقتاً الخط الفاصل بين الفريقين. وسواءً كانت هذه النظرة القريبة إلى الأشياء تجلب العار أو تثير الضحك، فمن المرجح أن يعود الفريقان بسرعة إلى شخصيتيهما المُحددتين”.
ينطوي التفاعل الاجتماعي في حد ذاته على اضطرابات على مستوى الشخصية والتفاعل والبنية الاجتماعية، أي أن الإحراج وملامح الإذلال التي يشعر بها المرء تكون جزءاً أصيلاً منه. ومن هنا فإن السمة الأخلاقية للدور لا تكون حقيقية بل تُعد جزءاً من الأخير وتمثيلاً له، الأمر الذي يدعوه الكاتب بتجارة الأخلاق: “نحنُ كمؤدِّين تجار أخلاق. ويومنا مكرَّس للتماس الحميم مع البضائع التي نعرضها وعقولنا مفعمة بتفهمها العميق”. لذلك نظل منشغلين بهذه “البضائع” التي نعرضها وبدرجة الإقناع التي يمكننا الوصول إليها مع المشترين لها.
يشير الكاتب في النهاية إلى أن هذه الأدوار والأداءات تكون مؤقتة في الغالب، وضرورية للحفاظ على الأوضاع الاجتماعية للمرء في البنية الاجتماعية التي يعيش ضمنها، ويؤكد على أن هذه خصائص المجتمع المدني الذي يفصل بين المجالين العام والخاص فصلاً حاداً، الأمر المختلف في بقية المجتمعات، لاختلاف حدة هذا الفصل وطبيعته.
يُقدم الكاتب أطروحته مشيراً إلى أهمية المقاربة الدراماتورجية في دراسة المؤسسات الاجتماعية، وإلى أن لعبة الفرد التي يلعبها كل منا في وجوده الحقيقي والخاص تكون في العادة أكثر سهولة وأخلاقية ولباقة وصدقاً من لعبة الأداء المسرحي التي نهتم بموجبها بصورتنا في أعين الآخرين، وانطباعاتهم عنا وعن تفضيلاتنا، والتي تنطوي على تجارة الأخلاق والتصنع المستمر، وفي هذا الصدد، فهو لا يشبه الحياة بالدراما المسرحية كما هو المثل الشعبي، بل يخبرنا ببساطة أن التقنيات التي يستند إلهيا الأداء المسرحي مستمدة في الأصل من الواقع، فنحن جميعاً نلجأ إليها لتثبيت أوضاعنا الاجتماعية في منطقة ما وفريق ما، تماماً كما يعمد الممثل المسرحي إلى تثبيت وضعه أمامنا ضمن القصة التي يظهر لنا ببراعة أنه يعيشها.
على المسرح: مراجعة لكتاب تقديم الذات في الحياة اليومية قراءة المزيد »