مراجعات الكتب

خدعة الشغف: مراجعة لكتاب الوظيفة المُرضية

Picture of كتابة: سيكار رايتس
كتابة: سيكار رايتس

ترجمة: يارا عمار

“الوظيفة المُرضية: استرداد حياةٍ سلبها العمل”، كتابٌ يسلط الضوء على أسطورة أنّ قيمتنا مرتبطة بحياتنا المهنية. رغم تركيز الكتاب على ثقافة العمل في الولايات المتحدة، فإني موقنة بأن هذه الظاهرة شائعة في جميع أنحاء العالم، وأنّ رسالة الكتاب عالمية. يروي سيمون ستولزوف في كل فصل قصصًا من قطاعات مختلفة، مما يجعل الكتاب مناسبًا للقراء من مختلف الخلفيات، ويشجع على التأمل في علاقة الفرد بالعمل. يوصي المؤلف باستخدام الكتاب كأداة للتأمل، حتى تدرك أن هويتك تتجاوز عملك الذي تكسب به قوت يومك.

أرى أن الكتاب سيلقى قبولًا لدى أولئك الذين ينعمون بالامتياز والأمن المالي الذي يسمح لهم باختيار وظائفهم وتحديد معنى الرضا بالنسبة لهم، أما من يعيش على الكفاف فقد يصعب عليهم تطبيق أفكار الكتاب. يتناول ستولزوف هذه القضايا النظامية ويختتم ببعض التوصيات: على الحكومات أن تفصل بين البقاء والعمل، وعلى الشركات أن تهتم بأمر موظفيها بصدق، وعلى الأفراد أن يحددوا معنى الرضا بأنفسهم.

الملخص

كل إنسان مشغول في ظل هذا العالم المعولم. جميعنا محاصرون في نظام رأسمالي يتجاوز الاقتصاد، بل هو اعتقاد اجتماعي أيضًا. هذا الاعتقاد يخبرنا أنّ قيمتنا مرتبطة بقدر ما ننتج، فصارت الإنتاجية تُرى فضيلة أخلاقية، وليست مجرد مقياس.

لماذا نعمل كثيرًا؟

  • العوامل الاقتصادية: الأجور الراكدة تجبر كثيرًا من الناس على العمل ساعات أطول من أجل توفير الاحتياجات الأساسية فحسب.
  • العوامل النظامية: يفتقر الكثير إلى قوة المساومة الاجتماعية للمطالبة بتحسين ظروف العمل.
  • العوامل الأيديولوجية: كانت الرأسمالية متأصلة بعمق في ثقافتنا، إلا أننا شهدنا تحولًا ثقافيًا كبيرًا في العقود الأخيرة، حتى صار يُتوقع الآن أنّ العمل وسيلة لتحقيق الذات والشعور بالمعنى. وبهذا الاعتقاد الجديد أصبح العمل انعكاسًا لشغفنا وهويتنا.

توقع أن العمل سيكون مُرضيًا دائمًا قد يفضي إلى المعاناة

أثبتت الدراسات أن “الشغف المفرط” بالعمل يؤدي غالبًا إلى ارتفاع معدلات الإرهاق والضغوط المرتبطة بالعمل. أضف إلى ذلك أن أنماط الحياة المتمركزة حول العمل في دول مثل اليابان تساهم بشكل كبير في انخفاض معدلات الخصوبة. كما أن التوقعات المبالغ فيها عن النجاح المهني مرتبطة بارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق. ومما ينذر بالخطر أن العدد السنوي للوفيات الناتجة عن المشكلات المرتبطة بالعمل الزائد أكبر من عدد الوفيات الناتجة عن الملاريا.

“سيظل العمل هو نفسه العمل. بعض الناس يعملون فيما يحبونه، وبعضهم يعمل ليتسنّى لهم ممارسة ما يحبونه في أوقات فراغهم، وكلا الغرضين شريف.”

أنيس مججاني

وبعيدًا عن الأبحاث: نحن نعلم بديهيًا أن التوقعات العالية للغاية تؤدي غالبًا إلى خيبة الأمل. عندما نتوقع أن العمل هو سبيل تحقيق الذات، فسنرى كل ما هو دون ذلك فشلًا. وظائفنا ليست بيدنا دائمًا، وربط قيمتنا الذاتية بحياتنا المهنية نهج محفوف بالمخاطر.

ربط الحياة المهنية بالهوية

تشير الأبحاث النفسية إلى أننا نُحسن التعامل مع الصدمات عندما نطور جوانب مختلفة من أنفسنا. إن تركنا جانبًا واحدًا من هويتنا يهيمن على شعورنا بالذات، فستقل قدرتنا على التأقلم مع التغيير. على سبيل المثال، الأشخاص ذوو الاهتمامات المتنوعة أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب أو الأمراض الجسدية بعد المرور بحدث مرهق.

عندما ترتبط هويتك بشيء واحد، مثل وظيفتك أو ثروتك أو نجاحك كأب، فإن أي مشكلة في هذا الجانب يمكن أن تضر باحترامك لذاتك بشدة. فقدان هويتك المهنية قد يكون صدمةً كبرى، خاصة إن لم تبذل وقتًا لتطوير جوانب أخرى ذات معنى في حياتك.

نحن أكثر من مجرد وظائفنا، نحن أشقّاء وأصدقاء وهواة وجيران. وتحتاج هوياتنا، مثل النباتات، إلى وقت ورعاية حتى تنمو، وإن لم نرعَها قد تذبل. غالبًا ما يكون أصحاب الهوايات والاهتمامات المتنوعة خارج العمل أكثر إنتاجيةً في وظائفهم.

إعادة النظر في وظائف الأحلام

  • نحن نعزز مفهوم وظيفة الأحلام ونجعله الهدف النهائي في الحياة منذ اللحظة التي نسأل فيها الطفل: ماذا تريد أن “تكون” عندما تكبر؟
  • النصيحة الشائعة بأن تتبع شغفك قد تكون مضلّلة أو مؤذية حتى. بالنسبة لأولئك الذين يحبون عملهم: توقع أن هذه الوظيفة ستظل وظيفة الأحلام دائمًا يجعلهم عرضة لخيبة.
  • الوظيفة علاقة اقتصادية في المقام الأول.

عملك لا يساوي قيمتك

تقول عالمة النفس جانا كورتز إنه ينبغي أن نستكشف هُويات مختلفة ونستثمر بجد في أنشطة خارج العمل حتى نبني شعورًا أقوى بالذات. بعبارة أبسط: حتى نفهم مَن نحن خارج إطار وظائفنا، ينبغي أن نقوم بأنشطة غير مرتبطة بالعمل.

الهوايات التي تركز على هدف، مثل التدريب لسباق الماراثون أو تحديد هدف قرائي للعام، قد تحفزنا للقيام بأنشطة خارج العمل، لكنها ما زالت تنطوي على شعور بالإنجاز، وهو ما يجعلها تبدو شبيهة بالعمل. هذا لا يعني أنّ هذه الهوايات ضارة، لكنها قد تُنسينا متعة اللعب التي عرفناها في الصغر.

يعد اللعب علاجًا طبيعيًا للهوس بالعمل، فهو يركز على الفضول والدهشة بدلًا من المنفعة أو التحسن، ويساعدنا على عيش اللحظة، ويذكّرنا بأننا أكثر من مجرد موظفين.

المكانة لا تعادل النجاح

عندما نقول إن شخصًا ما ناجح فنحن نقصد غالبًا أنه يكسب مالًا كثيرًا، لا أنه سعيد ومُعافى. نحن نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي الآن منابرَ لإظهار إنجازاتنا. قد تلهمنا الجوائز والتقديرات لتحقيق أهدافنا، إلا أننا نفقد استقلاليتنا باعتماد تعريفات غيرنا للنجاح. فبدلًا من أن ننشئ فكرتنا الخاصة للنجاح، نقبل فكرة موضوعة مسبقًا.

إن اختيار مهنة بناءً على الرغبات الشخصية فحسب، دون النظر إلى متطلبات السوق، يُحتمل أن يؤدي إلى نفقات تعليمية باهظة ثم قد لا تحظى بفرصة عمل جيدة. الفنانون -على سبيل المثال- قد يجدون صعوبة في التركيز على فنهم بسبب القلق المستمر إزاء دفع الإيجار. ومن الجهة الأخرى، اختيار مهنة بناءً على متطلبات السوق فحسب، دون النظر إلى الشغف الشخصي، قد يؤدي إلى سلوك طريق لم يرغب فيه المرء أبدًا. حتى وإن كنت تحب ما تفعله، فإن الضغط من أجل التقدم في حياتك المهنية قد يطغى على المتعة التي جذبتك إليها في المقام الأول.

الحل هو أن تضع تعريفًا شخصيًا للنجاح يوازن بين قيمك ومتطلبات السوق. كما قال عالم اللاهوت فريدريك بوخنر: ابحث عن “النقطة التي تتلاقى فيها متعتك العميقة وأشد احتياجات العالم”.

مشكلة العمل الزائد لا تخضع لسيطرتنا وحدنا

العمل الزائد مشكلة نظامية تتأثر بالعوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية، مما يصعّب معالجتها فرديًا.

كما أن الحلول النظامية لها حدودها. على سبيل المثال، سياسات العطلات السخية والمزايا الصحية للموظفين لا تحدث فرقًا كبيرًا إن استمر المديرون في فرض أعباء عمل ثقيلة على الموظفين.

وعلى المستوى السياسي، الحماية الحكومية لا تؤثر إلا عندما تطبَّق بصرامة.

تغيير ثقافة العمل يتطلب أكثر من مجرد إعلان الشركات عن أيام للصحة النفسية أو ممارسة الموظفين هواياتهم. كثير منا يحتاج إلى إعادة التفكير بشكل جذري في دور العمل في حياتنا. على المؤسسات أن تغيّر عملياتها، وعلى الموظفين أن يتخلصوا من فكرة أن قيمتهم مرتبطة بإنتاجيتهم فحسب.

المصدر

شارك الصفحة

خدعة الشغف: مراجعة لكتاب الوظيفة المُرضية قراءة المزيد »

سؤالات الإبداع: مراجعة لكتاب الدماغ الخلّاق

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يتحدث كتاب “الدماغ الخلّاق” لعالمة الأعصاب نانسي أندرياسن (Nancy Andreasen) الذي نُشر في عام 2005 عن موضوع الإبداع من زاوية علمية تتجاوز التفسيرات التقليدية التي تحصر الإبداع الفني أو الابتكار العلمي في مجرد “موهبة فطرية” أو “إلهام مبهم.”

الكتاب يقع في 254 صفحة، ترجمه إلى العربية حميد يونس ونشرته جامعة الكوفة في قسم الدراسات الفكرية عام 2019م

ينطلق العمل من تعريف الإبداع بوصفه عملية عقلية معقّدة تنتج أفكاراً جديدة وأصيلة ذات قيمة، سواء في المجالات الفنية أو العلمية أو الثقافية عموماً. ما يميز هذا الطرح هو أنه لا يكتفي بالمظاهر الخارجية للابتكار، بل يسعى إلى فهم الأسس العصبية الكامنة وراء القدرة على تجاوز المألوف وإعادة صياغة المعارف والأدوات بطرق مبتكرة.

يتمحور الإطار النظري لأندرياسن حول فرضية أن الدماغ البشري يمتلك بنية ووظائف مرنة تمكّنه من إيجاد روابط غير متوقعة بين أفكار ومعلومات متباعدة، وتوليد حلول جديدة لمعضلات معقّدة. وترى المؤلفة أنّ القدرة الإبداعية ليست حكراً على الأفراد “العباقرة” وحسب، بل إنها كامنة في معظم العقول، وإنْ بدرجات متفاوتة، ويمكن تعزيزها بالمحفزات الصحيحة.

ما يثير الاهتمام في هذا الكتاب هو طموحه لتوحيد نتائج أبحاث متفرقة: دراسات تصوير الدماغ الوظيفي، وتحاليل المقارنة بين سِيَر مبدعين مرموقين، وأبحاث في علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب الوجداني. هذه المقاربة التكاملية تمهّد السبيل لفهم أكثر علمية لما يحدث حين “تتوهّج” الفكرة الخلّاقة في الذهن، وحين تنبثق لحظة “الإلهام” التي طالما حيرت الباحثين. يتيح هذا المدخل النظري للقارئ رؤية جديدة للإبداع، بوصفه نتاجاً لعلاقة بنيوية بين نشاط القشرة المخية، والظروف البيئة، والعوامل النفسية، ما يجعل العملية الإبداعية ظاهرة يمكن وضعها تحت مجهر علم الأعصاب بشكل منهجي.

الأسس العصبية وبيولوجيا التفكير المبتكر

يركّز الكتاب على رسم خريطة عصبية للإبداع، في محاولة للكشف عن المسارات الدماغية التي تؤدي إلى إنتاج الأفكار المبتكرة. توصّلت أندرياسن، عبر استعراضها للدراسات التي استخدمت تقنيات التصوير العصبي، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET)، إلى أن الإبداع ليس وظيفة منطقة واحدة منعزلة، بل نشاط متداخل لشبكات عصبية متعددة الاختصاصات. تتضمن هذه الشبكات مناطق مسؤولة عن التركيز والانتباه، وأخرى معنيّة بعملية استدعاء الذاكرة بعيدة المدى، بالإضافة إلى مناطق تهتم بالتمثيل البصري والتخيل الرمزي.

يظهر من هذه الدراسات أن المخ البشري يوظّف بمرونة عدّة أنماط من التفكير: النمط التقاربي الذي يسعى لإيجاد الحل “الصحيح” لمسألة ما، والنمط التباعدي الذي يجمع بين عناصر متباعدة لا يجمعها رابط واضح. هذا النمط الثاني هو ما يميز التفكير المبتكر، إذ يتيح للدماغ اختبار فرضيات جديدة، والتجرؤ على السير في مسارات ذهنية غير مألوفة. وتلفت المؤلفة الانتباه إلى أنّ المناطق المسؤولة عن معالجة الدلالات المجازية، وإقامة تشبيهات غير اعتيادية، تلعب دوراً أساسياً في تعزيز القدرة على الابتكار.

من جهة أخرى، يؤكد الكتاب على مفهوم “المرونة العصبية” (Neuroplasticity)، أي قابلية الدماغ لإعادة تشكيل الروابط بين الخلايا العصبية استجابة للخبرات الجديدة. هذه الخاصية تمنح الدماغ الحرية لإعادة تنظيم معارفه، واختبار علاقات سببية وموضوعية مختلفة، ما يسمح بتوليد حلول غير مسبوقة. بناء عليه، يمكن فهم الإبداع بوصفه ديناميكية عصبية مستمرة، تهدف إلى تطوير نماذج عقلية جديدة بدل الاقتصار على الأنماط المستهلكة.

الذكاء، الخيال والظروف النفسية المساعدة

لا يتجاهل الكتاب أهمية الذكاء في عملية الإبداع، لكنه يفصل بين الذكاء بوصفه قدرة تحليلية وحلّالية، وبين الخيال الذي يمكّن العقل من تجاوز الواقع المباشر. تُظهر الدراسات التي تستعرضها أندرياسن أن مستوى الذكاء فوق المتوسط قد يكون شرطاً ضرورياً، لكنه ليس كافياً وحده لإنتاج الأفكار الخلّاقة. فالذكاء التحليلي يساعد على تنظيم المعلومات، غير أن الإبداع يتطلّب إطلاق العنان للتخيل، والانفتاح على احتمالات جديدة.

تشدّد المؤلفة أيضاً على أهمية الظروف النفسية والعاطفية في دعم التفكير المبتكر. فالإبداع يحتاج إلى قدر من الحرية الداخلية، وإلى بيئة ذهنية تخلو من القيود الصارمة أو الخوف المفرط من الفشل. يعمل الانفتاح الوجداني، وحب الاستطلاع، والشغف المعرفي على تغذية الرغبة في الاستكشاف العقلي، وتحويل التحديات إلى فرص لاختبار خيارات جديدة. هكذا يتضح أن العملية الخلّاقة تنبثق عند توازن دقيق بين التحليل المنضبط والخيال الحر.

ترتبط القدرة على التفكير الابتكاري كذلك بسمات شخصية معيّنة، مثل المرونة أمام التغيير، وتقبّل الغموض، والاستعداد للتعلم المستمر. هذه السمات توفر بيئة داخلية خصبة للتجريب، وتمكّن الفرد من تحدي القوالب النمطية والخروج من شرنقة المألوف. بذلك، يجتمع الذكاء والخيال والحالة النفسية الداعمة لتشكيل أساس صلب ينطلق منه الدماغ نحو عوالم جديدة من الأفكار.

البيئة والتنشئة ودورهما في دعم التفكير الخلّاق

يؤكد الكتاب على أن الإبداع ليس نتاجاً لمعطى بيولوجي ثابت فحسب، بل إن السياق الاجتماعي والثقافي يلعب دوراً محورياً في تنمية القدرات الذهنية الخلّاقة. فقد يبرز الدماغ المبتكر عند الأفراد الذين يحظون ببيئة تحفّز التساؤل، وتسمح بتجاوز الحدود المعرفية السائدة. تُظهر أندرياسن كيف أنّ التنشئة التي تشجع الأطفال على طرح الأسئلة، واستكشاف الأفكار المختلفة، وتنمية مواهبهم وتقدير محاولاتهم، تسهم في تأسيس قاعدة متينة للإبداع المستقبلي.

تظهر أهمية التدريب والممارسة في هذا السياق. فحين يتعرض الفرد لتجارب متنوّعة، ويلتقي بأشخاص من خلفيات معرفية مختلفة، ويطّلع على أعمال فنية وعلمية مبتكرة، يصبح الدماغ أكثر استعداداً لإقامة روابط ذهنية جديدة. علاوة على ذلك، تلعب المؤسسات التعليمية والمنظومات الاجتماعية دوراً في توفير “مساحة ذهنية آمنة” للتجريب. مجتمعات تقدّر الاختلاف وتكافئ التفكير النقدي تعزّز بروز العبقريات.

من جهة أخرى، يشير الكتاب إلى أهمية الفترات الزمنية والظروف التاريخية. فالثورات العلمية والفنية الكبرى غالباً ما بزغت في لحظات ازدهار فكري ساهمت فيها جامعات، ومراكز علمية، وحركات ثقافية نشطة. هذا البعد الحضاري يؤكد أن الإبداع ظاهرة جماعية بقدر ما هو موهبة فردية، وأن البيئة الملائمة قد تحفّز عقولاً عديدة للوصول إلى ابتكارات فذّة.

الموهبة، العبقرية والاضطرابات العقلية المحتملة

يتطرّق الكتاب إلى مسألة طالما أثارت الجدل: العلاقة بين العبقرية والاضطرابات النفسية. يعرض المؤلفون في الدراسات التي تستعين بها أندرياسن أدلة على أن نسبة ملحوظة من الشخصيات المبدعة عبر التاريخ عانت من حالات مثل الاكتئاب أو الاضطراب ثنائي القطب. يفسّر البعض هذه العلاقة بأن الحساسية العالية لدى المبدعين، ونزوعهم لاستكشاف أعماق المشاعر، قد تجعلهم أكثر عرضة للمعاناة النفسية.

مع ذلك، تحرص المؤلفة على عدم اختزال العبقرية في الإضطراب العقلي. الإبداع ليس نتيجة اختلال وظيفي فقط، بل قد يكون للألم النفسي دور في حفز عملية البحث عن حلول جديدة ومبتكرة. لا توجد علاقة خطية تحتم ارتباط الموهبة بالمرض، إلا أنّ بعض العقول المبدعة تعمل في ظروف وجدانية مضطربة تعيد تشكيل النظرة للعالم.

تعالج أندرياسن هذه النقطة بحذر، مشيرة إلى ضرورة فهم هذه العلاقة في سياقها، وعدم اتخاذها كقاعدة عامة. فقد يبدع المرء دون أن يعاني من أي اضطراب، والعكس صحيح. الأهم هنا هو إدراك أن النفس البشرية، بما فيها من تعقيد وانفعالات مختلطة، قد تهيّئ أحياناً مساحات جديدة للخيال، وتدفع نحو إعادة تشكيل الواقع، وفي ذلك مؤشر على درجة من التداخل بين الجانب الانفعالي والعصبي في إنتاج الأفكار الخلّاقة.

الإبداع في الفنون والعلوم: توافقات واختلافات

يستعرض الكتاب أمثلة تاريخية لفهم كيفية تجلي الإبداع في مجالات مختلفة. ففي الفنون، يميل المبدع إلى تحرير الخيال من قيود المنطق المباشر، والسماح للأفكار والمشاعر بالتعبير في صور غير مألوفة. أما في العلوم، فيتجلى الإبداع في صياغة نظريات جديدة، واختبار فرضيات غير مطروقة، وإعادة تفسير المعطيات بطرق مبتكرة. لكن المفارقة تكمن في أن التفكير العلمي المبدع أيضاً يحتاج إلى جانب تخيّلي، يتيح له تجاوز المعطيات الخام وتكوين نماذج تصورية تساعد على فهم الظواهر.

هكذا يتضح أن الإبداع ليس حكراً على حقل معرفي دون آخر، بل هو خاصية عامة للعقل البشري. والاختلاف قد يكمن في طبيعة المقاييس التي يقيّم بها كل مجال مدى أصالة الإنتاج. ففي الفن، قد يكفي التعبير الجديد والإحساس الجمالي غير المسبوق. أما في العلم، فيحتاج الإبداع إلى برهنة تجريبية ومنطقية لتأكيد صلاحية الفكرة.

من خلال هذه المقارنة، يوضح الكتاب أن الإبداع عملية تعددية الأدوات والوسائل. سواء أكان المرء عالماً فيزيائياً أم روائياً أم موسيقياً، فهو يوظف آليات عصبية متشابكة تتيح له تشكيل رؤية جديدة للعالم. هذا التنوع هو ما يجعل الإبداع متجذراً في طبيعة العقل البشري، وقابلاً للظهور في ساحات فكرية وجمالية متعددة.

دور الذاكرة واللغة والتصوير الدماغي في كشف أسرار الإبداع

تمنحنا دراسة الذاكرة واللغة رؤية أعمق لآلية تشكّل الأفكار المبتكرة. فالذاكرة ليست مخزناً سلبياً للمعلومات، بل منظومة ديناميكية لإعادة تشكيل المعارف وإعادة دمجها في سياقات جديدة. الإبداع يتطلّب استدعاء معلومات مختلفة، وقدرة الدماغ على “تفقيس” روابط مفاجئة بين عناصر غير مترابطة ظاهرياً. هنا يتجلى دور الذاكرة بعيدة المدى في تقديم مخزون ثري من الأفكار، ودور “ذاكرة العمل” في دمجها لحظياً لإنتاج تصوّرات طازجة.

اللغة أيضاً تسهم في تشخيص الإبداع، إذ تسمح ببناء رموز تمثيلية للأفكار، وصياغة استعارات ومقارنات تفتح آفاقاً غير مسبوقة في فهم المفاهيم. فالقدرة على اللعب بالكلمات والصور الذهنية تيسّر تكوين تركيبات عقلية جديدة. يتجلّى هذا بوضوح عند الشعراء أو المفكرين الذين يستخدمون لغة مجازية لإعادة صياغة الواقع، وعند العلماء الذين يصيغون نظرياتهم في نماذج لغوية تساعد على استيعاب ظواهر معقّدة.

أما التصوير الدماغي فقد ساهم في تقديم أدلّة تجريبية ملموسة على وجود أنماط نشاط مميزة ترافق اللحظات الإبداعية. عندما يشعر المرء بما يُعرف بـ”ومضة البصيرة” (Insight)، يرصد الباحثون تبدّلات في نشاط مناطق معيّنة من الفصوص الصدغية والجبهية. تلك المعطيات التجريبية تدعم التفسيرات النظرية، وتتيح لنا رؤية “حيّة” لعمل الدماغ وهو يعيد ترتيب الأفكار ويرسم مسارات جديدة في شبكة معقّدة من الخلايا العصبية.

نحو فهم أعمق للإبداع وتطبيقات مستقبلية

يصل الكتاب في ختامه إلى نتيجة محورية: الإبداع ظاهرة متعددة الأوجه، تتداخل فيها العوامل البيولوجية والمعرفية والوجدانية والثقافية، وتتجلّى في مجالات متنوعة. هذا الفهم المعمّق يفتح الباب أمام تطبيقات عملية عديدة. فمن خلال فهم آليات الإبداع، يمكن للتربية أن تعمل على تنمية القدرة على التفكير النقدي والتصوري لدى الأطفال. ويمكن للمؤسسات التعليمية والبحثية توفير بيئة تحفّز الجرأة الفكرية، وتحتضن الأفكار غير النمطية، وتشجع على تبادل الخبرات المتنوعة.

كما قد يساعد هذا الفهم مؤسسات الابتكار التكنولوجي والصناعي على صياغة بيئات عمل مرنة، وفرق متعددة التخصصات، تشجع العاملين على استثمار تنوّع أفكارهم. في السياق نفسه، يمكن استخدام نتائج الأبحاث العصبية للتعامل مع المشكلات النفسية التي قد تواجه المبدعين، من خلال فهم أفضل للعوامل التي تؤثر على تذبذب المزاج والحالة العاطفية، وتقديم دعم يساعد على تحويل التوتر والقلق إلى طاقة ابتكارية إيجابية.

يخلص القارئ، بعد الاطلاع على هذا الاستعراض، إلى أنّ “الدماغ الخلّاق” لا يقدّم إجابات نهائية لكل الأسئلة، لكنه يضع أساساً علمياً متيناً لفهم أعمق للإبداع. إنّ إدراكنا بأن الأفكار الجديدة ليست مجرد خواطر عابرة، بل نتاج عمليات عصبية منظمة ومرنة، يجعلنا أكثر قدرة على توجيه قدراتنا نحو تطوير معارفنا وحل مشكلاتنا. بهذا، لا يظل الإبداع لغزاً مغلقاً، بل يتحول إلى حقل معرفي قابـل للدراسة والتحليل، وأداة أساسية لدفع عجلة الحضارة إلى الأمام.

شارك الصفحة

سؤالات الإبداع: مراجعة لكتاب الدماغ الخلّاق قراءة المزيد »

في مسرح الحياة: مراجعة لكتاب فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

كتاب فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها من الكتب التي تجرأتْ على التحليل النفسي للعوالم التي نعيشها بالتوازي مع حياتنا الواقعية، وبيَّنت ذلك في فصول عديدة يحمل كلٌّ منها مستوى مختلفاً من التحليل ويربطه مع سمة نفسية أو خصيصة أو أسلوب فنِّي أو أدبي، ما جعل الكتاب دراسة موجزة ومُهمة للعلاقة الوطيدة بين الفن والروح الإنسانية التي تصيبها الواقعية بالعقم.

يعيش كلٌّ منا في عالمه وواقعه راغباً في أشياء كثيرة، وشاعراً بحاجات عديدة، فإن لم تتحقق هذه في حياته وشعر بأن الأوان قد فات على المحاولة من جديد، شعر بالإحباط، لا سيما إن كان يتذرَّع به من أجل مواجهة مواقف تتطلب منه تغيير ذاته أو فكره لتحقيق ما يريد، عندئذٍ يكون الإحباط والغوص فيه ذريعة لذيذة يقبلها، بل يختارها، ليظل في موقع الضحية. ولكن هذا الموقف النفسي الرافض للتغيير والتأقلم يُنتج رغبة في الانتقام من العالم الذي لم يكن سهلاً، ولم يمنحنا ما نريد بدون مطالبته إيانا بتغيير بعض جوانب تفكيرنا، ويتمثل هذا الانتقام في كراهية الذات والآخر، ومطالبة الآخرين بالمستحيل، وفرض الرغبات عليهم من دون اعتبارٍ لما يريدونه وما يفضِّلونه، ويطرح الكاتب مثالاً على ذلك مسرحية الملك لير، حينما طالب لير ابنته الصغرى بأن تعلن له عن حبها، فرفضت الأخيرة لأنها رأت في ذلك نفاقاً لا يُشبهها، فكانت المسرحية تعبيراً عن محاولاته الانتقام منها.

نفهم من ذلك أن الإحباط ليس موقفاً سلبياً، بل مُنتجاً للعديد من الاضطرابات والمشاكل النفسية، كالوهم والخداع، بمعنى أن الشاعر بالإحباط نادراً ما يدري سبب إحباطه، فالإحباط ينتاب المرء مع غشاوة توضع على عينيه، فلا يعود يفهم سبب تعاسته وتصرفاته القهرية المؤذية، وعندما لا يعرف الإنسان نفسه جيداً، أي يجهل مصادر إحباطه وحقيقة حاجاته ورغباته وموقفه من الحياة، فإنه يُرضي نفسه بإشباعات تعويضية ووسائل تُخدِّر ألمه: الإحباط غير المُدرك، أو غير المُمثل، لا يُمكن إشباعه أو حتى الاعتراف به.

عندما لا يُدرك المرء في علاقة الحب سبب استنزاف مشاعره وقواه النفسية وشغفه ولهفته على ما يُحب من أنشطة ومهام، ويغفل عن مصدر ذلك في شريكه المنتقد له باستمرار، والذي يجعله في موقف دفاعي دائم عن نفسه كي لا يبدو غبياً أو أحمق أو سخيفاً لانهمامه بمهام يُحبها، فإنه يدمن محاولات إرضاء شريكه ويخلق الخوف في نفسه مما يُحب من أعمال، ويلزمه سلوك قهري بالتشكيك فيما يُحب ويفعل وفي مستوى قدراته وحقيقة مشاعره، فيظهر ذلك في سلوكات تعويضية يحاول عبرها التخفيف من ألمه، كالإدمان على العمل حتى الإرهاق، أو الرعاية المفرطة لشريكه، أو لوم الحياة على خياراتها المنقوصة دائماً، أو التقلب بين الخيارات النفسية الفقيرة لديه، فتارة يمتنع وتارة يحاول من جديد وتارة يتجاهل وتارة يكتئب وينكمش على نفسه. 

يجب أن يعترف المرء لنفسه بسبب إحباطه لكي يتمكن من إشباع رغباته بالطريقة الملائمة. فتجاهل الإحباط ومصدره والإدمان على الوسائل التعويضية التي لا تُجدي نفعاً لا يُمكن أن يطول، بل هو قصير المدى ومنتجٌ لاضطرابات نفسية ستحل محله فيزداد البؤس تعقيداً. إن الصورة المشوهة لدينا عن الإحباط الذي ينتابنا تترافق مع الصورة المشوهة عن الإشباع الذي نريده، فإن لم ندرك سبب الإحباط ومصدره، كيف سندرك العلاج الأمثل له، أي الإشباع؟

يطرح الكاتب مثال علاقات الحب لتبيان أن الحبَّ نتعرف إليه على شكل مُحتاجٍ ومانح، بدءاً من العلاقة بين الأم والطفل، والاعتراف بأن طبيعة الحب منطوية بالضرورة على انعدام مساواة بين الطرفين يوفِّر عليهما الكثير من التشوه في الصور، إن الإنسان مُحتاج إلى الآخر بالضرورة، وكلٌّ منا أدنى أو أعلى من الآخر في جوانب عديدة، ولكن تجربة الإحباط المشوهة تجعل المرء خائفاً من مواجهة خيارات الحياة الواقعية، والتي لا تكون مثالية، فيهرب إلى عالم الخيال والأمثلة الذهنية التي يتصور فيها إشباعه على هيئة إنسان يفهمه ويلبي ما يحتاجه، ربما من دون أن يطلب منه ذلك، ولكن هذا الإشباع لا يكون حقيقياً، بل مفرطاً في المثالية إلى درجة يكون فيها مجرد مراضاة نفسية مؤقتة، في مقابل الإشباع الواقعي ذي الاحتمالات العديدة. وإن المرء إذ يجد حبيباً في حياته الواقعية فإنه يكتشف عبره إحباطه الذي لازمه وظل خفياً عنه، وذلك إثر الإشباع الذي يمنحه إياه الحبيب، وهنا تكون تجربة اختيار الإشباع الواقعي رديفة الشعور المكثف بالإحباط لدى المرء، إثر اكتشافه إياه، وكأن المرء يتعرف إلى ما ينقصه عبر الآخر وبوساطته: مهما كنت تريد وترغب وتتمنى مقابلة الشخص الذي تحلم به، لن تبدأ الشعور بافتقاده إلا عندما تقابله“.

جدير بالذكر أن الكاتب يعود للتأكيد على أن الحلول الوهمية التي منَّينا بها أنفسنا من قبل ردَّاً على إحباطاتنا قد تظل ترافقنا طيلة حياتنا، ونلجأ إليها مراراً حتى لو كنا مدركين لطبيعتها وطبيعة حاجاتنا وضرورة الإشباع الواقعي لها، فالمعرفة لا تنفي الشعور في هذه الحالة، وعادة ما نهرب إلى الخيال من المشاعر التي تنتابنا تجاه الآخرين، عندئذٍ، قد يتحول هذا الإحباط إلى انتقامٍ، ويرتبط مصير المرء بما سيسفر عنه إحباطه.

إن تجربة الرغبة التي يخوضها المرء مُلزمة لنا بأن نكتشف الواقع من حولنا وإمكاناته وما يُمكن أن يقدمه لنا على هيئة إشباع مقبول، وعندما ندرك أن الإشباع الواقعي مهما كان مُرضياً لا يرقى إلى الإشباع الذهني والخيالي لدينا، فإننا نقع فيما يُدعى الإخفاق المتوقع للإشباع، ما قد يُسفر عن محاولة الإنسان تغيير ظروفه وشروط حياته لتحقيق إشباع أفضل، وهذا فعل إيجابي على النقيض من الانتقام من العالم. قد يبدو أن المرء ينتقل من إحباط عدم تلبية حاجته إلى إحباط تلبية حاجته بطريقة غير مثالية ومختلفة عما تصورها، ما يُبرر شعورنا بالغضب والتعاسة والحيرة، ولكن لا حلَّ لهذه المعضلة إلا عبرها، أي عبر إدراك حقيقتها وألا مفر منها، وليس في مقدورنا سوى تخفيف ألمها إلى الدرجة الأدنى.

إن المعرفة الزائفة التي يدَّعيها المرء عما يريد وعن حاجاته ورغباته تعميه عن معرفة ماهية إحباطه وكيفية إشباعه، بل ستعوقه دائماً في محاولات تصحيح ما يراه خاطئاً في نفسه والعالم، لذلك قد يرتدُّ إلى الانتقام والاستمتاع بالإحباط، وهذا مفهوم لأننا مجبولون على كره مواطن الضعف فينا والاعتراف بحاجاتنا، لذلك نلجأ إلى المداراة والتعويضات المؤقتة، غير أن علينا المحافظة على الرابط بيننا وبين الواقع عبر قبول ما يُتيحه لنا، ومحاولة تحسينه إن كان في مقدورنا ذلك. علينا أن نفهم بأن حاجاتنا غير واقعية، ولكن السبيل الوحيد إلى إشباعها يتمُّ بطريقة واقعية.

ولأننا نرفض ألم المعرفة بذواتنا وحقيقتنا فإننا نكره التحليل النفسي الذي يعرِّينا، غير أن معرفة الذات شرط مُهم لتحقيق الاتزان النفسي، سيتعين علينا الاختيار بين متعة المعرفة ومتعة السذاجة، أو ألم المعرفة وألم الإحباط، وبالطبع فإن عدم إدراك المرء نفسه متوازٍ مع فقر تواصله العاطفي مع نفسه والآخرين، إن الجاهل بنفسه لا يمكنه أن يتحدث بسهولة عن عواطفه، ولكن علينا الانتباه إلى أن ادعاء الإدراك عبر خلع المعاني التي نريد على الفعل أو السلوك رديفُ الجهل وعدم الإدراك، يجب أن يدرك الإنسان نفسه من حيث غموضه لا من حيث بساطة معرفته، لا يجب أن تكون رحلة اكتشاف الذات سهلة وإلا كانت مزيفة.

ولكن في حياة عدم الإدراك قد يكون الخيار مقصوداً لما وصفه لاكان شغفنا بالجهل أو فتغنشتاين بأننا مفتونونبإدراك الأمور، فلأننا نعرف أن في مقدورنا أن ندرك أو لا ندرك، وقد جربنا واختبرنا كلا الأمرين وكلا الحياتين، فإننا نختار حياة عدم الإدراك للآفاق الواسعة المنطوية عليها، وللعنف اللذيذ الذي تفرضه علينا، ومن هنا يكون التحليل النفسي مُحرراً لنا من حاجة أن نُدرِك وأن نُدرَك، أي يُخلص المرء من محاولة الإدراك وإقناعه بحياة الجهل لا لأنه يصعب عليه فهم الشيء بل لأن ليس هناك أي شيء لأن يفهمه، فالتحليل يُذكرنا بمحدودية إمكاناتنا وقدراتنا، أجل، يجب أن نفهم أنفسنا وندرك حاجاتنا كي لا ندع الإحباط يدمرنا، ولكن يجب أن ندرك في الآن ذاته أن هذه العملية طويلة وشاقة وغير مضمونة، وأننا محدودون بإمكاناتنا في اكتشاف ذواتنا، إننا كائنات معقدة لا يمكن لها أن تفهم ما يجري فيها، يقول الكاتب: أفضل قراءة لعمل فرويد هي بوصفه مرثاة طويلة لقابلية حياتنا للفهم. إننا نفهم حياتنا حتى تكون لدينا حُرية ألا نضطر لفهمها“.

وفي ذلك إشارة إلى ضرورة أن نقبل وجود الآخر من دون أن نحاول تأويله وفهمه وخلع معانينا عليه، إن امتلاك الآخر رديف الجهل بطبيعة الإنسانية ويجعلنا أكثر بعداً عن توقع السلوكيات الحتمية، كالتمرد والخيانة، علينا التصالح مع حقيقة حاجتنا إلى الآخرين والقبول بهم كمشروعات إنسانية مُستقلة عن محاولتنا تأويلهم، ومن هذا التصالح نفهم أن معرفة الآخر غير مهمة بقدر قبوله والإقرار بوجوده وحُريته في الخيار: إن معرفة الآخرين، في مصطلح التحليل النفسي، يُمكن أن يكون دفاعاً، أو الدفاع، ضد إقرار وجودهم الفعلي، وما نريد وجودهم من أجله“. ومع ذلك يجب أن يكون لدينا الحد الأدنى من هذه المعرفة، أو أن نقبل “بوهم المعرفة” شرط أن ندرك دائماً بأنها معرفة عرضية وزائفة ومتقلبة، فهذه المعرفة الجزئية تُمكننا من الإقرار بوجود الآخرين، وهي تدحض الرغبة أو تنفيها أو تُمنطقها، غير أنها لا تكون عملية إن تعلقت بالآخر أو الذات، ولا بأس في ذلك، فهذا جزء من ألم الواقع الذي يجدر بنا احتماله.

يقول الكاتب بأن إفلاتنا بالحياة المتخيلة التي نحملها في أذهاننا وتمسكنا بها لا يعني تمردنا على سلطة الواقع والاتجاه نحو الحرية بقدر ما يعني استبدال سُلطة بأخرى، إن المرء لا يحلُم إلا تحت شروط مُعينة، قد يرفض شروط الواقع ولكن هذا لا يعني أنه حُر، بل إنه حتماً خالقٌ لشروط أخرى يرتضيها بنفسه ويحتكم إليها، لذلك لا تكون الحياة الذهنية الموازية للواقعية حياة حُرة، بل حياة بقيود أخرى، والنجاح بهذا المعنى يعني إفلاتنا بهذه الحياة بلا عواقب.

ولكن الفرار من الحياة الواقعية إلى المتخيلة ينطوي على إقرار منا بمعرفة ما كانت لتؤول إليه الأمور لو عشنا فقط الحياة الواقعية، وادعاء بأننا نعرف المستقبل، ولكن معرفتنا بأن هذا الموقف المعرفي مُزيف تماماً لا يعني الرضى بالحياة التي نرفضها في الواقع، بل التفكير في بدائل أخرى ترضينا ويشملها الواقع، لا سيما أننا نرفض أموراً ندعي أننا نعرفها أكثر مما نعرف ما عشناه في الحقيقة، ومعرفة ما ترفضه لا يعني معرفتك بما تريد. إن ما ينتابنا حول المستقبل هو مجرد إحساس نثق به لشدة ما نعانيه في الواقع، ولكن لا يجب أن نترك الألم يدفعنا إلى التمسك بالوهم، بل يجب أن نسخِّره للتخفيف منه. إن الرغبة فيما نريد واليقين بذلك وادعاء معرفة ما نريد تشوه إدراكنا للتجربة التي نعيشها وتلك التي نريد عيشها على حد سواء:

 فلماذا يبدو أننا نعرف عن التجارب التي لم نعشها أكثر مما نعرف عن التجارب التي نعيشها؟ لأن هذا وحده هو ما يجعل الهروب ممكناً، ولأن الحرمان هو ما يجعلنا نتخيل الموقف. وما يُطلق عليه فرويدتجريب الفعل في الذهنهو عبارة عنماذا لوالتي تولد من الرغبة في الإشباع. إن ما يغوينا هو المنطق الذي يولِّده الخوف. والعلم بكل شيء ذريعة وعذر. ففي هذا السيناريو، نهرب قبل أن نعرف ما الذي نهرب منه. ويمكن أن نقول إن الهدف هو عدم معرفة ما يهرب المرء منه، فشرط الخروج يسبق التجربة“.

قد يكون لعدم إدراكنا التجارب التي نعيشها أثرٌ في إفساح المجال للتأويل الي نُحبه، أي ممارسة الفن واستخدامه كوسيلة للهروب، إننا نهرب من الحياة عبر الفن وشجاعة التأويل والتأليف، وإن لم نرضَ بوهم المعرفة لنحقق الهروب ظللنا أسرى الماضي ومحاولة تغييره، في مقابل المستقبل الذي يمكننا خلقه من جديد: أولئك الذين لا يمكنهم التظاهر بمعرفة كل شيء عن الماضي محكوم عليهم بتكراره“. 

إن المعاناة الناجمة عن الفرق بين إشباعاتنا الذهنية المثالية ونظيرتها الواقعية المنقوصة ملازمة لنا لا محالة، وتتمثل في الصراع بين الأنا والأنا المتعالية، لذلك يكون البطل التراجيدي هو المُتخلي عن رغبته فيما يريد لرغبته في معرفة ذاته وإمكانات واقعه، ومن هنا يُطرح السؤال: هل تكون غاية التحليل النفسي انتقامنا من أنفسنا عبر المعرفة؟

إننا عبر الحياة المزدوجة التي نعيشها نشترك مع المجانين في تجربتهم، ولكننا أقرب إلى مُمثلي المسرح الذين يقدمون أدواراً لا تشبه حقيقتهم، ونحن كذلك نعيش في الحياة وكأنها مسرح عظيم، نقدم فيها أدواراً واقعية لا تتشابه وحقيقتها التي نفضل أن نعيشها، وكأن رغبتنا في عيش حياة أخرى هي رغبة مسرحية، ولكن في أي دورٍ نكون أكثر حقيقة؟ لا يُمكن لأحدٍ أن يُجيب. إننا في المسرح نحتفي بتمثيل الجنون كما نحتفي في الواقع بتمثيل الأدوار، وهذا ما خصَّص له غوفمان كتاباً سماه تمثيل الذات في الحياة اليومية“.

إن مراحل نضوج المرء هي مراحل من الخيبات المتتالية، ويجب عليه أن يقبل هذه الحقيقة، فالبديل لذلك تشوه في تصور الحياة والنفس، وهذا نقيض يقابل نقيض المثالية الذهنية، أما الواقع فهو في المنتصف، ينطوي على ألمٍ محتمل ولذة منقوصة، بالطبع قد يحتوي على إشباع مثالي، ولكن يجب ألا نتوقع منه ذلك. تكمن الشجاعة في الاعتراف بأننا لن يوماً إلى فهم أنفسنا ولا رغباتنا، وبأن المثالية المتخيلة عارضٌ يُنبهنا إلى ضرورة تغيير الواقع لا ضرورة ملاحقتها.

شارك الصفحة

في مسرح الحياة: مراجعة لكتاب فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها قراءة المزيد »

تلاشي القراءة العميقة: مراجعة لكتاب أيها القارئ عُد إلى وطنك

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يأخذنا كتاب “أيها القارئ: عُد إلى وطنك” في رحلة استقصائية استثنائية، تجمع بين التحليل العلمي الدقيق والتأمل الإنساني العميق. الكتاب يقع في 391 صفحة وترجمه إلى العربية شوق العنزي وهو من إصدارت دار أدب للنشر والتوزيع عام 2021م.

صدر هذا العمل عن عالمة الأعصاب الإدراكية والباحثة في مجال القراءة واللغة ماريان وولف، التي عُرفت بأبحاثها حول كيفية تشكّل الدوائر العصبية للقراءة في الدماغ الإنساني، فضلاً عن كتاباتها السابقة مثلبروست والحبار” (Proust and the Squid) التي استكشفت فيها أصول القراءة وتطورها.

في هذا الكتاب، تضع وولف بين أيدينا خلاصة تجربتها الأكاديمية والبحثية، مستندة إلى سنوات طويلة من دراسة التأثيرات المعرفية والثقافية لتكنولوجيا المعلومات على النشاط الذهني الإنساني.

منذ الرسالة الأولى، يكشف الكتاب عن رسالته الجوهرية: الحث على التفكير النقدي في أثر التحول الرقمي على قدراتنا الذهنية والقرائية. تُقرّ المؤلفة بأن القراءة ليست مجرد مهارة تقنية لفك الرموز اللغوية، بل هي عملية معقدة ومتعددة الأبعاد تتشكل فيها علاقات عصبية تتجاوز مجرد التعرف على الكلمات والجمل، لتصل إلى فهم المعاني المعقدة، والتحليل النقدي، والتأمل الأخلاقي، وبناء القدرة على التعاطف الإنساني. في عالم تطغى فيه الشاشات والرسائل النصية والإشعارات القصيرة على الوعي الجمعي، تطرح وولف تساؤلاً مصيرياً: هل ما زالت عقولنا قادرة على الحفاظ على نمط “القراءة العميقة” الذي شكّل لقرون أسس المعرفة والابتكار والفهم الثقافي؟

هذا الانشغال بشؤون القراءة لا ينبع من حنين رومانسي إلى عالم ما قبل الرقمنة، بل من وعي علمي بأن أشكال التعلم والتفكير والتفاعل الاجتماعي تتغيّر بتحوّل وسائط الاتصال. فالكتاب يتجاوز مجرد مرافعة لصالح الكتاب الورقي التقليدي، ليقدم رؤية علمية لحقيقة التغيّرات الهيكلية التي تحدث في الدماغ عندما نتعرض لزخم معلوماتي لا يتيح لنا التنفس القرائي العميق. وتستند وولف في ذلك إلى عدد كبير من الدراسات التجريبية والنفسية والعصبية، لتبيان كيف يعاد تشكيل الوصلات الدماغية تحت وطأة الاستخدام المكثف للتكنولوجيا. ليس الغرض من الطرح تحريض القارئ على نبذ التكنولوجيا، بل التأكيد على ضرورة الموازنة بين الأدوات الرقمية والعودة إلى “وطن” القراءة العميقة، ذلك الوطن الذي يتيح لنا استكشاف المعاني وتجسيد الأفكار والتأمل في التجارب الإنسانية.

يعطي الكتاب بعده الإنساني وزناً كبيراً لدور القراءة في تشكل الهوية الثقافية والفكرية. فتاريخياً، لم تكن القراءة مجرّد وسيلة لنقل المعرفة، بل كانت فضاءً للتأمل في النصوص الأدبية والفلسفية، وميداناً لاحتضان أفكار جديدة، وتطوير حس نقدي مستقل. تذكّرنا وولف بأن القراءة غرست عبر القرون جذوراً عميقة في بنية المجتمع، وأسهمت في صقل الذاكرة الجماعية، وتحرير الفرد من قيود العاجل والمبتذل. وفي عالم من الإلهاءات البصرية والتدفق الفوري للمعلومات، يخشى الكتاب فقدان هذه الجذور. من هنا تأتي أهمية هذا العمل الذي يمزج بين العلم والسلوك الاجتماعي، في محاولة لصياغة رؤية متكاملة حول مستقبل القراءة.

الأبعاد العصبية والمعرفية للقراءة:

تستهلّ وولف كتابها في الرسائل الاولى بتمهيد علمي حول البنية العصبية للدماغ الإنساني عند القراءة. هنا تكمن إحدى أهم أطروحاتها: لم يُولد الدماغ البشري “مهيأً بيولوجياً” للقراءة، إذ لم تظهر الكتابة على مسرح الحضارة الإنسانية إلا منذ بضعة آلاف من السنين، وهي فترة قصيرة جداً مقارنة بعمر التطور البشري. على عكس مهارات كالنطق وفهم اللغة الشفهية، التي ترتكز على دوائر عصبية عريقة، تتكون القدرة على القراءة عبر إعادة توظيف دوائر عصبية مُعدّة أصلاً للتعرف البصري، والربط بين الرموز والصوت والمعنى. من هذا المنطلق، تؤكد المؤلفة أن القراءة ليست عملية غريزية، بل مهارة مكتسبة تتشكل عبر التعلم التدريجي، وتكتسب عمقها من خلال التمرين والممارسة والتفاعل مع نصوص متنوعة.

إن عملية “القراءة العميقة” التي تُشير إليها وولف ليست مجرد التعرف على الكلمات وفهم معناها السطحي، بل هي نمط تفكير يتضمن التحليل، والاستنتاج، والتركيب، والتأمل. عندما نقرأ نصاً أدبياً معقداً أو مقالة فلسفية، فإن الدماغ ينشط سلاسل عصبية متعددة، تربط بين الذاكرة العاملة، والمعرفة السابقة، والخيال، والوجدان. إن هذه العملية المعقدة تتيح لنا إعادة تشكيل الأفكار، واستخلاص دلالات جديدة، وتحدي القناعات المسبقة. بعبارة أخرى، القراءة العميقة ليست استهلاكاً سلبياً للمعلومات، بل فعالية ذهنية خلاقة تتجاوز الورق والحبر لتصبح جزءاً من هوية القارئ الفكرية.

وعند الانتقال إلى مناقشة التطورات التكنولوجية، تبرز خطورة الانزلاق نحو القراءة السطحية. في ظل الشاشات المتعددة، والروابط التشعبية، والتدفق المتواصل للمحتوى الرقمي، تتكيف عقولنا تدريجياً مع نمط جديد من القراءة يقوم على التنقل السريع بين معلومات مشتتة، وهضم كميات كبيرة من المعطيات دون تمحيص. هذا النمط الجديد يُغيّر تكوين وصلات الدماغ، ويضعف القدرة على التركيز الطويل، ويقلل من استيعاب المعاني المركّبة. تشير وولف إلى أن هذه الظاهرة ليست نظرية فحسب، بل أصبحت ملموسة في الأجيال الصاعدة التي تجد صعوبة في الانغماس الكامل في نص طويل أو معقد.

تستخدم المؤلفة مجموعة من الأدلة العلمية والاختبارات المعرفية التي أُجريت على طلاب الجامعات والمتعلمين الرقميين. تكشف هذه الاختبارات عن تراجع القدرة على فهم النصوص المعقدة، وصعوبة في ربط المعاني المجردة، واضمحلال في الحس النقدي لدى القارئ المُنهك من “التقليب” الرقمي. من خلال هذه المعطيات، تتبلور حجة وولف في أن القراءة ليست مهارة ثابتة، بل هي خاضعة لتأثير الوسيط التقني وللسياق الثقافي. وهذه الفكرة تمهّد الطريق نحو مناقشة أعمق حول معنى “القراءة المعاصرة” وعلاقتها بالهوية البشرية.

تحديات الرقمنة وتأثيرها على القدرة القرائية:

ينتقل الكتاب في مرحلة لاحقة إلى تحليل التأثيرات السلبية الناجمة عن الاعتماد المتزايد على الوسائط الرقمية، مع التحوّل من صفحات الكتب إلى شاشات الحواسيب والهواتف الذكية والأجهزة اللوحية. تنطلق وولف من مفهوم “اقتصاد الانتباه”، لتوضيح كيفية تسليع الانتباه الإنساني وتحويله إلى مورد نادر يتصارع عليه المسوّقون ومصممو التطبيقات، ممن يهدفون إلى إبقاء المستخدم في حالة يقظة سطحية مستمرة، دون منحه فرصة للغوص في العمق. هذا النظام الاقتصادي-التكنولوجي يخلق بيئة معلوماتية مبنية على التقلب السريع للمحتوى، وانتقال مُربِك بين النصوص والصور ومقاطع الفيديو، مما يقوّض ركائز التركيز والتمعّن.

تشير الدراسات التي توردها وولف إلى أن الإدمان على الشاشات الإلكترونية يخلق أنماطاً جديدة من العادات المعرفية. فبدلاً من التمهل أمام فقرة معقدة، أو إعادة قراءة جملة لفهم معناها، بات القارئ الرقمي يميل إلى التقدّم بسرعة، مستسلماً لإغراء الانتقال إلى صفحة أخرى أو نافذة أخرى أو رسالة جديدة. هذا السلوك يحد من قدرة الدماغ على بناء الوصلات المعرفية المتينة التي تميّز القارئ العميق. وبالتالي، تتراجع قدرة الإنسان على تقييم المعلومات نقدياً، وعلى تمييز الحقيقة من الزيف، وعلى بناء تصوّر شمولي للمواضيع.

ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذا التحول لا يؤثر على مجرد عادات القراءة، بل يمتد إلى بنية الدماغ نفسها. الدماغ، بحسب ما توضحه وولف، مرن جداً، إذ يُعيد تشكيل دوائره العصبية باستمرار تبعاً لأنماط السلوك. ومع الزمن، يحلّ نمط القراءة السطحية محل البنى العصبية التي دعمها التدريب على القراءة المتأنية. بذلك، نصبح أقل قدرة على فهم النصوص الأدبية العميقة، وأقل ميلاً لقراءة الأعمال الفكرية المعقدة التي تتطلب تركيزاً عالياً. يفقد القارئ المتأثر بالرقمنة بعض مهارات التحليل والاستدلال، كما قد يتضاءل حسّه الأخلاقي والجمالي المنبثق من فهم السياقات الثقافية والتاريخية التي تغذي النص.

إن هذا الواقع يحمل تبعات اجتماعية وتعليمية وثقافية. في عالم عربي يعاني أصلاً من تحديات متعلقة بانتشار القراءة العميقة وضعف مستوى الإقبال على الدراسات النقدية، قد يؤدي تفاقم مشكلة القراءة السطحية إلى المزيد من الابتعاد عن التراث الفكري والإنساني. فالتكنولوجيا، رغم أنها تفتح آفاقاً رحبة للوصول إلى المعلومات، قد تُفاقم مشكلة سطحية الفهم إذا لم نكن حذرين. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن الحلول التي يمكن اتخاذها للحفاظ على المهارات القرائية العميقة، وعن الدور الذي يجب أن يلعبه الأهل والمعلمون وصنّاع السياسات الثقافية في هذا الصدد.

استراتيجيات استعادة القراءة العميقة:

يأتي الجزء الأهم من الكتاب عندما تتوجه وولف نحو طرح الاستراتيجيات العملية والنفسية والمعرفية لاستعادة مهارات القراءة العميقة، لا سيما في ظلّ البيئة الرقمية. تدعو المؤلفة إلى مفهوم الازدواجية القرائية” (the biliterate reading brain)، أي القدرة على التنقل بمرونة بين نمط القراءة الرقمي السريع ونمط القراءة العميقة المتمهلة، بحيث يستطيع القارئ الاستفادة من المنصات الرقمية في الوصول السريع إلى المعلومات، وفي الوقت نفسه، تخصيص مساحات زمنية ونفسية للقراءة التأملية.

تقترح وولف بناء “ملاجئ قرائية” صغيرة في الحياة اليومية، مثل تخصيص وقت للقراءة الورقية بعيداً عن الأجهزة الإلكترونية، واختيار نصوص أدبية أو فكرية معقدة تحفّز الذهن على التحليل والتأمل. كما تؤكد أن العودة إلى الكتب الورقية ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل ضرورة لإعادة تدريب الدماغ على التركيز على النص دون إلهاء، واستعادة لذة التفاعل البطيء مع المعاني. وتنبثق من هذه الفكرة منهجيات تعليمية جديدة يمكن أن يتبناها المربّون، مثل تشجيع الطلاب على القراءة التحليلية للنصوص الأدبية، وتعويدهم على إعادة القراءة وتلخيص الأفكار في دفاتر خاصة، بدلاً من الاعتماد فقط على الشاشات.

علاوة على ذلك، تحثّنا على توظيف التكنولوجيا نفسها لخدمة القراءة العميقة. ففي عصر يمكن فيه تخصيص تطبيقات ومنصات رقمية تتسم بالهدوء والتركيز، يمكن للمستخدم بناء مكتبات رقمية عالية الجودة، تختار النصوص وتعرضها بخط واضح ودون إعلانات تشوّش الانتباه. كما يمكن للتقنيات الرقمية أن تساعد على توفير معاجم وتفاسير فورية تُعين القارئ على فهم المعنى من دون الحاجة لمغادرة النص. المسألة تكمن في كيفية تسخير التكنولوجيا لتعميق عملية الفهم، بدل استغلالها في تعزيز ظاهرة “التقلّب السطحي”.

كما يشير الكتاب إلى أهمية تجديد العقد الاجتماعي للقراءة، بحيث يصبح المجتمع، بمؤسساته الثقافية والتعليمية والإعلامية، شريكاً في إعادة الاعتبار للقراءة العميقة. وهنا يأتي دور صناع القرار، من المسؤولين التربويين إلى الناشرين، في توفير بيئة تشجع على اقتناء الكتب الجادة، وإطلاق مبادرات وأنشطة تثقيفية، وتحفيز التعلّم النقدي في المدارس. إن هذه الجهود المشتركة تمثل نوعاً من “التحصين الثقافي” ضد الهيمنة المطلقة للنصوص الخفيفة والمشتتة. يشير هذا المنظور إلى أن استعادة العمق القرائي ليس مهمة فردية فحسب، بل ضرورة حضارية تقتضي تظافر الجهود على المستوى الجماعي.

البعد الإنساني والثقافي للقراءة:

لا تكتفي وولف بتحليل الآليات العصبية والمعرفية، بل تتجاوزها إلى تأملات أوسع حول البعد الإنساني للقراءة. إن القراءة، في نظرها، ليست نشاطاً ذهنياً منعزلاً، بل تجربة تواصلية عميقة مع عقول الآخرين، سواء كانوا مؤلفين يعيشون في حيز جغرافي وزماني آخر، أو شخصيات روائية تخيّلية تعبّر عن مشاعر إنسانية جامعة. هذه الخاصية الفريدة للقراءة، المتمثلة في قدرتها على نقلنا عبر الزمان والمكان والثقافات، تُكسبها قيمة حضارية عميقة.

تربط المؤلفة بين مهارات القراءة العميقة وبين تنمية قدرات التعاطف الإنساني. عندما نقرأ رواية تصور معاناة شخصيات مختلفة الخلفيات والثقافات، فإننا نتعلم كيف نفهم مشاعر الآخرين، ونضع أنفسنا مكانهم، ونستوعب التعقيد الإنساني. هذا “التقمّص الوجداني”، الذي تحفّزه القراءة المتأنية، قد يتلاشى في بيئة قرائية سطحية، حيث يفقد النص الأدبي عمقه وتتحول الشخصيات إلى مجرد هياكل لغوية بلا روح. إن تراجع هذا المستوى من التفاعل الإنساني مع النصوص قد يُضعف قدرتنا على بناء مجتمعات متعاطفة ومتسامحة.

كما ترى وولف أيضاً أن القراءة العميقة تلعب دوراً جوهرياً في تكوين الهوية الثقافية، إذ إن أدب أي أمة ليس مجرد ركام من الحروف والكلمات، بل هو ذاكرة جمعية تنصهر فيها الخبرات التاريخية والفلسفية والأخلاقية. إذا ما حُرِم مجتمع من الانكباب على قراءة نصوصه التأسيسية وفهمها وتأملها، فإن الروابط الثقافية قد تتفكك، وتصبح الهوية ضبابية. ومن هنا، لا يقتصر أثر القراءة السطحية على الأفراد وحدهم، بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي برمته.

إن هذا الجانب الإنساني يبرز أهمية القراءة في ظل التحديات العالمية المعاصرة، كالاختلافات الثقافية، وتصاعد نزعات التعصّب، وتفشي الأخبار المضلّلة. حين يجري تدريب القارئ على التمهّل في قراءة النصوص، والغوص في معانيها، وبحث جذورها الثقافية، تُمنح له الفرصة ليكون مواطناً عالمياً مستنيراً. وبهذا يتحول الكتاب من مجرد وسيلة لنقل المعرفة إلى وسيلة لإعادة تشكيل الوعي الإنساني، وتعزيز القيم الأخلاقية التي تصون الإنسانية من الانزلاق في صراعات وسطحية فكرية.

الخلاصة وأهمية الكتاب للقارئ العربي:

في الختام، يمثل كتاب “أيها القارئ، عُد إلى وطنك” دعوة حقيقية لإعادة النظر في علاقتنا بالقراءة في العصر الرقمي. إنه عمل يجمع بين الدقة العلمية والعمق الفكري، ويقدم تحليلاً شاملاً للتغيّرات العصبية والاجتماعية والثقافية التي تُصاحب انغماسنا المتزايد في العوالم الرقمية. لا يكتفي الكتاب برصد المشكلة، بل يضعنا أمام مقترحات عملية لاستعادة التوازن بين القراءة السطحية والقراءة العميقة، ويدفعنا للتأمل في جوهر القراءة باعتبارها عملية إنسانية فريدة، تشكّل بصمتنا الثقافية وتصقل وعينا النقدي.

بالنسبة للقارئ العربي، يحظى هذا الكتاب بأهمية إضافية. ففي ظل تحديات تواجه الثقافة العربية، من ضعف انتشار القراءة في بعض البلدان العربية، إلى الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي، وقلة الاهتمام بنصوص أدبية كلاسيكية وفلسفية عميقة، قد يكون هذا العمل مرجعاً لتحفيز القارئ على استعادة علاقته الجادة بالكتاب. كما أنه يشجع المربين والمعلمين وصنّاع القرار الثقافي على ابتكار أساليب تعليمية جديدة تحثّ الطلاب والناشئة على الغوص في النصوص، وإعادة اكتشاف لذة التفكير النقدي والبحث المعرفي.

وفي عصر تتنازع فيه القيم والمعلومات، ويصعب فيه أحياناً التمييز بين الغثّ والسمين، تأتي أطروحات وولف بمثابة منارة فكرية تذكّرنا بأن قدرتنا على التفكير النقدي ليست مضمونة، وأنها قد تتلاشى إن لم نحافظ عليها. إن الخطر الأكبر لا يكمن في انتشار التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في عدم توظيفها بشكل مستنير. وحدها القراءة العميقة تتيح لنا فهم المعاني المركبة، واستيعاب السياقات المتشابكة، والتأمل في قضايا الوجود والهوية والعدالة.

ختاماً، يشكّل “أيها القارئ، عُد إلى وطنك” أكثر من مجرد كتاب نظري، بل هو نداء عالمي لإحياء القيم القرائية التي دعمت الحضارات الإنسانية عبر القرون. في وقت تتصاعد فيه حمى الاستهلاك السريع للمعلومات، ويسود فيه الإيجاز المخلّ، يقترح الكتاب مساراً بديلاً: طريق العودة إلى “وطن القراءة”، ذلك الفضاء الذهني الذي يمنحنا الحرية في اختيار الأفكار، والتأمل في الوجود، وبناء ثقافة إنسانية أكثر رحابة وانفتاحاً. إنّه عمل يحتفي بقدرة الكلمة على صياغة الهوية والفكر، ويحمّلنا مسؤولية إعادة هندسة علاقتنا بالنصوص لصون إرثنا المعرفي. بذلك، يستحق هذا الكتاب قراءة متأنية وعميقة، لا سيما في عالم يزداد فيه الضجيج وتتلاشى فيه لحظات السكون الفكري.

شارك الصفحة

تلاشي القراءة العميقة: مراجعة لكتاب أيها القارئ عُد إلى وطنك قراءة المزيد »

في مديح البطء: متى كانت آخر مرة رأيت فيها شخصًا يحدّق عبر النافذة في قطار؟

يلاحظ الكاتب الكندي كارل أونوريه في كتابه في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة وجود خلل كبير في أسلوب الحياة الحديث، حين يجد أن الجميع مستغرق في توفير كل لحظة ممكنة من الزمان، وفي ملاحقة الوقت الذي لا يمكن إدراكه في أكثر الحالات، ولئن كان للسرعة منافع واستخدامات مفيدة جدًا لا يمكن التنكّر لها، إلا أنها تحوّلت مع الوقت إلى هوس وإدمان يكتسح كل المجالات، حتى المجالات التي تتطلب بطبيعتها البطء والاسترخاء، مثل القراءة على سبيل المثال، فكم امتلأت المكتبات بالكتب التي كُتبت من أجل تعليم الناس مهارات القراءة السريعة والقفز فوق السطور والكلمات، تعلم لغة جديدة في أسبوعين، أو تعلم البرمجة في خمسة أيام وهلمّ جرا، فيقرر هو بدوره كتابة كتاب يتحدّى فيه عالم يمجّد السرعة، يُعدد المجالات التي تقوّض فيها السرعة جمال اللحظة، وتقلّص الرغبة الملّحة في الإسراع بهجة تجارب الحياة.

صدر الكتاب في نسخته الأصلية عام 2004، بينما نشر مشروع كلمة ترجمته العربية عام 2017م بترجمة ماهر الجنيدي في أكثر من 300 صفحة.

يوضّح أونوريه أنه لا يرغب من خلال كتابه أن يستبدل بعبادة البطء عبادة السرعة، فلسفة البطء كما يتبنّاها لا تعني أسلوب حياة أشبه بالسلحفاة، وإنما يتلخّص في مفهوم التوازن: أسرع عندما يكون من المنطقي أن تسرع، وأبطئ عندما يكون هناك داع للبطء، ولكل شخص له إيقاعه الخاصّ في الإسراع والتباطؤ.

أن تعيش على عجل، يعني أن تكون الحياة أكثر سطحية، أن تقيم اتصالات ضعيفة مع العالم والآخرين، السرعة لا تمنحك الوقت الكافي لتقدير ما يجب تقديره، والتفكير فيما يجب التفكير فيه. وأن تعيش بتوازن بين العجلة والبطء، يعني أن تستغرق في اللحظة عوضًا عن تخطّيها وتجاوزها بمشاعر سريعة مؤقتة، يعني ألا تكون في سباق ضدّ الوقت.

يصوّر الكاتب الشخص السريع بأنه شخص مشغول دائمًا، مندفع متعجّل، ضجر وسطحي، يفضّل الكم على الكيف. وأهم عرض سبّبته عادة السرعة لأشخاصها هو الغضب، الغضب في الطريق، العضب عند التسوّق، الغضب عند الانتظار في أي مكان، فهو شخص متعجل وغاضب. ومن جهة أخرى يصوّر الشخص البطيء بأنه الشخص المتأنِ، الصبور، الهادئ والمنفتح، يرجّح الكيف على الكم، ويفضّل في العادة ممارسات تعزّز من فكرة البطء، مثل القراءة والتأمّل، الرسم والحياكة، البستنة والمشي، اليوغا، ويكونون أكثر هدوءً وراحة، لأنه من خلال تلك النشاطات التي يمارسونها، يتم تبطيء الزمن والانفلات من قبضة السرعة.

للعقل مقدرات عجيبة حين يسرع ويكون في حالة نشاط قصوى، ولكنه يمكنه أن يفعل أكثر في حالة الإبطاء من وقت لآخر، فلتخفيض نشاط الذهن عدّة مزايا منها صحة أفضل، هدوء داخلي، وتركيز معزز، وتفكير أكثر إبداعًا، فبعض الأفكار التي غيّرت العالم جاءت في وقت كان الذهن في حالة من التأمّل والتفكير. يشدد كارل أن أذكى الأشخاص وأبدعهم، يعرفون كيف يتركون لعقولهم من وقت لآخر مساحة للتأمّل والخمول والسرحان، ويعرفون متى يجب عليهم التركيز أكثر، أي متى يفكرون بسرعة ومتى يفكرون ببطء.

في الكتاب يقدّم كارل أونوريه أمثلة وشواهد متنوعة على مزايا تبنّي النهج البطيء، وتأثيره الإيجابي والمباشر على الصحة النفسية:

  • التغذية: ينصح أونوريه بتغيير عاداتنا السريعة في تناول الطعام والاستمتاع بتجربة الطعام بشكل أكثر وعيًا. يشجع على تناول الطعام ببطء، والتذوق والتمتع بالنكهات والروائح. قد يكون الطبخ وسيلة مفيدة للاسترخاء والهدوء العقلي، والبطء في تناول الطعام ضروري لخفض الوزن، لأنه يعطي المعدة الوقت اللازم لتشرح للدماغ بأنها ممتلئة، فإذا تناولنا الطعام أسرع مما يجب، ستصل الإشارة بعد تناول كميات أكبر من حاجتنا.
  • العمل: يشدد أونوريه على ضرورة إدخال البطء في بيئة العمل، يرى أن العمل السريع المستمر يؤدي إلى الإرهاق وتراجع الإنتاجية. بدلاً من ذلك، يشجع على تحقيق التوازن بين العمل والراحة وتخصيص الوقت للاسترخاء والتفكير الإبداعي.
  • التعليم: النهج السريع في التعليم يجعلنا نفقد التركيز والتمعن في المعرفة. يدعو الكاتب إلى التباطؤ والتأمل في عملية التعلم، وذلك بتخصيص وقت كافٍ للانغماس في المواضيع وفهمها بعمق، لأنه كلما تعددت المهام في وقت واحد، كان التركيز في الأمرين أقل.
  • التكنولوجيا: يدعو أونوريه إلى استخدام التكنولوجيا بشكل متوازن وواعٍ. يشجع على قطع الاتصال المستمر بالأجهزة الإلكترونية وتخصيص وقت للابتعاد عنها، وذلك لتحقيق التوازن والتركيز على الحياة الحقيقية والتفاعل الاجتماعي، تساعدنا التكنلوجيا في كسب مزيد من الوقت، ولكنها في الوقت نفسه تزوّدنا بمجموعة جديدة من الواجبات والرغبات والاحتياجات غير الضرورية.

إجمالًا يهدف كتاب “مديح البطء” إلى تعزيز الوعي بأهمية البطء والتوازن في جميع جوانب حياتنا، وكيف يمكن لهذه التوجه أن يساعدنا على أن نكون أكثر حضورًا في حياتنا، وأكثر وعيًا بالتجارب التي نمر بها.

وأنا أيضًا، قررت قراءة الكتاب ببطء، والاستمتاع بأفكاره، محاولة أن أطرح جانبًا نزعة السرعة لدي، لأن “الحياة أقصر من أن نضيّعها بالإسراع”.

شارك الصفحة

في مديح البطء: متى كانت آخر مرة رأيت فيها شخصًا يحدّق عبر النافذة في قطار؟ قراءة المزيد »

لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة

Picture of كتابة: جينيفر بريهيني.
كتابة: جينيفر بريهيني.

ترجمة: يارا عمار

جينيفر بريهيني والاس صحفية حائزة على جوائز في الصحافة المطبوعة والمرئية، ومساهمة منتظمة في صحيفتَي وول ستريت جورنال وواشنطن بوست. بدأت حياتها المهنية ببرنامج “60 Minutes” على قناة CBS، وكانت ضمن فريق نال جائزة روبرت ف. كينيدي للتميز في الصحافة. كما أنها عضو في مجلس إدارة منظمة الائتلاف من أجل المشردين في مدينة نيويورك.

تستعرض جينيفر في هذه المقالة خمس أفكار رئيسية من كتابها الجديد “لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة – وماذا يسعنا فعله حيال ذلك”.

  1. عدم شعور المرء بأهميته أصلٌ لكثير من المعاناة

تتصدر الصحة النفسية للأطفال قائمة مخاوف الآباء. إن القلق والوحدة والاكتئاب وباء مدمر ينتشر بين الشباب في وقتنا الحالي، لدرجة أنه دفع طبيب الجراحة العامة (فيفيك مورثي) إلى إصدار تحذير صحي عام بخصوص هذا الموضوع. لاحظ مورثي أن صحة الشباب النفسية تتأثر بعوامل كثيرة، بدءً من التركيب الجيني إلى القوى الاجتماعية الأكبر، مثل الرسائل الثقافية التي تُضعف الشعور بالقيمة الذاتية- بغرس شعور لدى الشباب بأن شكلهم ليس حسنًا بما فيه الكفاية، أو أنهم ليسوا مشهورين بما فيه الكافية، أو ليسوا أذكياء بما فيه الكفاية، أو ليسوا أغنياء بما فيه الكفاية.

وفي صميم هذا الشعور “بعدم الكفاية” يأتي ما يسميه علماء النفس بالحاجة إلى الشعور بالأهمية، أي الاعتقاد الشخصي بأن قيمتنا تكمن في جوهرنا، بعيدًا عن أي إنجازات خارجية. أظهرت الأبحاث المتزايدة منذ ثمانينيات القرن الماضي أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عال من الشعور بالأهمية -يشعرون بقيمتهم وأن الآخرين يعتمدون عليهم لإضفاء قيمة على حياتهم- هم الأكثر عرضة للازدهار في مرحلتَي المراهقة والبلوغ. لكننا اليوم نواجه عجزًا في الشعور بالأهمية داخل الأسر المعيشية والمدارس وأماكن العمل والمجتمعات بأكملها. إلا أنّ الجانب الإيجابي هو أن الشعور بالأهمية يعد أساسًا قويًا لحماية صحة الشباب النفسية.

إن مفهوم الأهمية بسيط بقدر ما هو عميق، فهو يطرح أسئلة تشغل الجميع: هل الناس يشعرون بقيمتي ويقدّرونني ويحترمونني، أم أنني غير مرئي؟ هل أنتمي إلى هذا العالم، أم أنني وحيد فيه؟ هل حياتي مؤثرة في حياة الآخرين، أم أنّها عديمة الأهمية؟

يعبر مفهوم الأهمية عن الحاجة العميقة والعالمية لأن نشعر بأن مَن حولنا يروننا ويهتمون بنا ويقدروننا. إنّ الشعور بأهميتك الذاتية قوةٌ أساسية ودرع تحميك من الضغوطات الخارجية.

  1. علينا أن نساعد الأطفال على الفصل بين قيمتهم الذاتية وإنجازاتهم لكي يشعروا بأهميتهم

سعيت في البحث عن الأشخاص المجتهدين والصحيين لمعرفة القاسم المشترك بينهم: ما الذي ركز عليه آباؤهم في المنزل؟ كيف كانت طريقة تفكيرهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم؟ اتضح أنهم جميعًا كانوا يشعرون بأهميتهم داخل أُسرهم ومدارسهم ومجتمعاتهم الأوسع. إننا في عالم يجعلنا نشعر بالنقص دائمًا، والشعور بالأهمية يطمئننا بأن قيمتنا تكمن في ذواتنا، بغض النظر عما نفعله.

وللتوضيح: الأهمية لا تتعارض مع الأداء، بل تعد وقودًا له. فعندما نشعر بأهميتنا نميل إلى المشاركة بشكل إيجابي وصحي في أُسرنا ومدارسنا ومجتمعاتنا. لا يكفي أن نحب أطفالنا حبًا غير مشروط، بل يجب أن يشعروا بذلك. يجب أن يعلموا أنّ أهميتهم وقيمتهم ليست موضع نقاش أبدًا.

أخبرني أحد الآباء الحكماء بطريقة لتوضيح فكرة الحب غير المشروط والأهمية: أخرج ورقة نقدية من محفظتك واسأل طفلك إن كان يريدها. ثم جعّدها وارمها على الأرض، ثم اغمرها في كوب من الماء، ثم أمسك هذه الورقة المجعدة والمبللة واسأل طفلك “هل ما زلت تريدها؟”. بعد ذلك قل له بوضوح: إنّ قيمتك لا تتغير مثل هذه الورقة النقدية، سواء استُبعدتَ من الفريق أو حصلت على درجة سيئة أو شعرت أنّ صديقًا لا يقبلك. قيمتك هي قيمتك، ثابتة لا تتغير أبدًا.

  1. مساعدة الطفل تبدأ بمساعدة مَن يعتني به

في الماضي، ركز علماء النفس المهتمون بمساعدة الأطفال المتعثرين على تدخلات معينة: مثل وضع قيود صارمة لكن معقولة، أو الحنوّ على الطفل دون تدخل، أو تقديم ملاحظات صادقة دون انتقاد. لكن تبيّن أنّ التأثير الأكبر على الطفل لا يأتي من قائمة الأوامر والنواهي، بل أهم شيء أن يكون البالغون في حياة الطفل أسوياء نفسيًا، ولديهم مصادر دعم قوية وموثوقة. يقول علماء النفس إن هذا التوجيه قلب تطور الطفل رأسًا على عقب، فصارت مساعدة الطفل تبدأ بمساعدة مَن يعتني به.

إن الآباء هم “المستجيبون الأوائل” للصعوبات التي يواجهها أطفالهم، والاهتمام المستمر بمشاعرهم المتقلبة والضغوطات الاجتماعية والأكاديمية يمكن أن يحدث أثرًا سلبيًا. كل الطرق التي تعرّضنا لضغوط مفرطة -المواعيد النهائية للعمل، الأعباء المالية، تلبية كل احتياجات أطفالنا- يمكن أن تُضعف قدرتنا على أن نكون آباء حساسين ومتجاوبين، وتجعلنا أقل تفهمًا للإشارات العاطفية لأبنائنا. الخطر هنا هو أن أطفالنا يمكن أن يسيئوا تفسير الإجهاد الذي نشعر به وعدم صبرنا، فيعتقدون أن المشكلة تكمن فيهم. لاحظ الباحثون أنّ عدم شعور الفرد بأهميته ينبع غالبًا من الأفعال الصغيرة التي تتراكم يوميًا.

لا يحتاج الأطفال آباءً يبالغون في التضحية الذاتية، بل يحتاجون آباء لديهم رؤية متوازنة لثقافة الإنجاز المشحونة المحيطة بهم. إنهم بحاجة إلى آباء يتمتعون بالحكمة والطاقة والسعة النفسية لتحدي القيم غير الصحية لثقافة الإنجاز. قد يبدو الأمر غير منطقي، لكن الحقيقة أننا يجب أن نعتني بأنفسنا أولًا حتى نعتني بأطفالنا، لأن مرونة الطفل تعتمد على مرونة من يقوم على أمره.

  1. المرونة تعتمد على العلاقات

ليس مفتاح المرونة هو “الوقت الشخصي” الذي يروّجه مجال العناية بالنفس بمليارات الدولارات للآباء المتعبين. بل وجدت الأبحاث أن المرونة تعتمد على قوة علاقاتنا: هل لدينا علاقات ثرية تجعلنا نشعر بالحب والاهتمام والرعاية، كما نحاول مع أطفالنا؟

كما أنّ مرونة الطفل تعتمد على مرونة أبويه، كذلك مرونة الأبوين تعتمد على عُمق علاقاتهم والدعم الذي يحصلون عليه منها. إن الصداقات العميقة بمثابة ممتصات للصدمات، حيث تساعد في تخفيف الضغوطات اليومية، وتقليل القلق، وتنظيم المشاعر. لكن في عصرنا الحديث المزدحم لا يجد الآباء غالبًا الوقت أو القدرة العاطفية لتعميق روابط الصداقة وحميميتها. يكاد يكون محالًا أن تلتقي بصديق لتناول القهوة سويًا أو للحديث عن مخاوفك بسبب المتطلبات الكثيرة للأبوّة- كمساعدة الأطفال في أداء الواجبات المنزلية أو طهي الطعام أو مراقبة وقت الشاشة.

وجد الباحثون أنّ الناس لا يحتاجون إلى قضاء ساعاتٍ سويًا لبناء صداقات أصيلة، بل يحتاجون إلى وقت مخصص ورغبة في الانفتاح. انظر إلى مدى دقة التخطيط في جدول أسرتك، سواء في ترتيب وقت للعب أو موعد لطبيب أسنان طفلك. ماذا لو أعطيت نفس هذا القدر من الاهتمام للصداقات التي تدعمك؟ غالبًا ما يفترض الناس أن الصداقات تحدث تلقائيًا، وهذ الاعتقاد الخاطئ يُثنينا عن السعي لإقامة علاقات عميقة ورعايتها.

  1. نحن جميعًا نبحث عن دليل اجتماعي يثبت أهميتنا

يميل الآباء إلى التركيز على يُقال إنه الهدف النهائي: تنشئة أطفال مستقلين ومعتمدين على أنفسهم. تعزيز الاستقلالية أمر مهم بلا شك، لكن هناك درس أهم يجب أن نعلمه أطفالنا إن كنا نرغب في حماية صحتهم النفسية: وهو الاعتمادية المتبادلة، أي كيفية الاعتماد على الآخرين واعتماد الآخرين عليهم بطرق صحية. يدرك الآباء الذين يعلّمون أطفالهم مهارات الاعتمادية المتبادلة قدرَ الشجاعة اللازمة لطلب الدعم وقبوله. إنهم يدربون أطفالهم على دورة الكرم: كما أن مساعدة الآخرين مهمة، كذلك علينا أن نكون مستعدين لمرور بأوقات ضعف وقبول هذا الدعم. الاعتمادية المتبادلة توفر للأطفال فرصًا لإشباع الشعور بأهميتهموتقدير أهمية الآخرين.   

كثير من الناس ليس لديهم إحساس قوي بأهميتهم، فيشككون فيها وفي وقيمتهم، وهذا ينعكس على سلوكهم ويظهر في صور عدة، كالمنافسة الشديدة والتصرفات غير اللائقة والغضب. لا يمكن أن نشعر بأهميتنا إلا من خلال علاقاتنا مع الآخرين. من السهل للغاية أن نغفل عن أهميتنا، ولذلك نحتاج إلى مَن يخبرنا ويذكّرنا ويؤكد لنا قيمتنا الجوهرية، ويحتاج الآخرون أيضًا إلينا لتذكيرهم بأهميتهم. تخيل كيف سيكون العالم إن أدرك الناس أنهم ذوي أهمية حقيقية وعميقة ومؤكدة لأسرهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم؟ الأمر في متناول أيدينا، لا نحتاج سوى الشجاعة للاعتراف بأهميتنا وتأكيد أهمية الآخرين في حياتنا.

المصدر

 

شارك الصفحة

لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب: التاريخ العجيب للقلب

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يأتي كتاب “التاريخ العجيب للقلب” للطبيب والباحث فنسنت إم. فيغيريدو (Vincent M. Figueredo) ليسدّ فجوة مهمة في دراسة تاريخ الطب من منظور يجمع بين الدقة العلمية والعمق الثقافي.

الكتاب يقع في 393 صفحة وترجمه إلى العربية الدكتور مدى شريقي وطُبع في دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع عام 2023.

يتميّز المؤلف فنسنت إم. فيغيريدو بخلفيّته الطبية المتخصّصة في أمراض القلب، إلى جانب اهتمامه بتاريخ العلوم، مما مكّنه من بناء نص شامل يستعرض التحولات الجوهرية في فهم البشرية لهذا العضو المركزي، بدءاً من تصوّرات الحضارات القديمة ووصولاً إلى أحدث المنجزات الطبية والجراحية. لا ينحصر الكتاب في مسار سردي تقليدي، بل يقدّم رؤية بانورامية تتداخل فيها المعاني الرمزية والثقافية بالقوانين الفسيولوجية، في محاولة لتفكيك التصوّر الثنائي التقليدي للقلب: فهو ليس فقط مضخّة للدم، بل أيضاً مركزاً رمزياً للمشاعر والهوية الروحية. بهذا، يحقق المؤلف توازناً نادراً بين المنهج التاريخي الدقيق والتحليل العلمي الرصين والرؤية الإنسانية الشاملة.

منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنّ هدف فيغيريدو لا يقتصر على توثيق الحقائق الطبية، بل يسعى إلى تقديم مقاربة متعددة الأبعاد لفهم القلب. يراعي المؤلف المنهج العلمي عبر الاستناد إلى مصادر موثوقة، سواء كانت نصوصاً طبية قديمة، أو سجلات تشريح، أو أبحاثاً حديثة في مجال علم القلب، ليضعها جنباً إلى جنب مع أعمال أدبية وفنية ودينية تناولت القلب بوصفه مستودعاً للمشاعر وأيقونة للحب أو موطناً للضمير الأخلاقي. هذه الازدواجية في التعاطي مع الموضوع تمثل نقطة قوة الكتاب: فهو يقود القارئ في رحلة زمنية طويلة، تبدأ من الرؤى الأسطورية التي ارتبطت بالقلب كجوهر للحياة، وتمرّ بالتطبيقات العلمية الأولى التي سعت لفهم تركيبه ووظيفته، وتنتهي بالعصر الحديث الذي يشهد تطوّراً هائلاً في التقنيات التشخيصية والجراحات المعقدة وزراعة القلب والأعضاء الصناعية. بهذه الصورة الشاملة، يرسم الكتاب خريطة معرفية تربط بين منجزات العقل البشري وتصوراته الروحية، لتقديم قراءة متكاملة للتاريخ العجيب للقلب.

 

الجذور التاريخية والتمثلات البدائية للقلب في الحضارات القديمة

ينطلق المؤلف من أقدم النصوص المكتوبة وأقدم الشواهد الأثرية للكشف عن مكانة القلب في وعي الإنسان البدائي. قبل اكتشاف مبادئ التشريح التجريبي، اعتمدت الحضارات القديمة على الملاحظة المباشرة وربطت نبض القلب وسرعة خفقانه بعناصر الحياة والموت. ففي حضارة وادي النيل، حمل القلب بُعداً دينياً وأخلاقياً محورياً، إذ اعتُبر موضعاً للضمير ومركزاً لتقييم أعمال الإنسان بعد مماته. في هذه النصوص، نرى أنّ المصريين القدماء تعاملوا مع القلب باعتباره جوهر الهوية البشرية، يتلقى الحساب في العالم الآخر، ويزن أمام ريشة الإلهة ماعت. وفي حضارة وادي الرافدين، اقترنت نبضات القلب بالقوى الخفية التي تحرك الكون، فيما انعكست في المنظومات الفلسفية القديمة في الهند والصين رؤى مختلفة تربط القلب بمنظومة الطاقة الداخلية (Qi) أو البرانا، مع اعتبار القلب نقطة التقاء المسارات الحيوية، مما أكسبه بعداً كوزمولوجياً وصحياً يتجاوز مجرد كونه عضواً تشريحياً.

أما في الحضارة الإغريقية، فقد كانت المعرفة الطبية لا تزال تتشكل تحت تأثير الفلسفة، فاعتمد أرسطو على التأمل المنطقي في وصف القلب كمركز الفكر والإدراك. وهنا يبيّن المؤلف كيف ساد الاعتقاد بأن القلب منشأ المشاعر والأحاسيس، وأن الدم يحمل “النفس” التي تمنح الحياة للأعضاء الأخرى. رغم بدائية هذه الأفكار من منظورنا المعاصر، فإنها وضعت اللبنة الأولى لإدراك أهمية القلب ودوره الحيوي. وعندما ننتقل إلى الحضارات القديمة في الأمريكيتين، كحضارة الأزتك والمايا، نكتشف حضوراً طقسياً للقلب في الاحتفالات الدينية والتضحيات البشرية، إذ اعتُبر القلب ذبيحة مقدّمة للآلهة، في سياق تصورات كونية معقدة رأت في الدم قوةً لاستمرار دورة الحياة. كل هذه الشهادات التاريخية المبكرة، التي يجمعها الكتاب، تكشف عن تفاعل الإنسان مع القلب بوصفه لغزاً يتخطى المحدوديات المعرفية، وتشكّل إرثاً فكرياً وثقافياً يمهد للمنهجية التشريحية والتجريبية التي ستأتي لاحقاً.

 

من التنظير الفلسفي إلى التجريب التشريحي – التحولات المعرفية بين العصور الوسطى والنهضة

مع دخول البشرية حقبة جديدة تتسم بظهور الحضارات الإسلامية وازدهار الترجمة والعلم في بلاد العرب، بدأ الأطباء والمفكّرون في مراجعة الأفكار الإغريقية والرومانية القديمة ونقدها. هنا يبرز دور العلماء المسلمين الذين استفادوا من إرث جالينوس وأرسطو، ولكنهم لم يكتفوا بمجرّد النقل، بل أضافوا تصويبات مهمة. يأتي اسم الطبيب والفقيه ابن النفيس في مقدمة هؤلاء، إذ اكتشف الدورة الدموية الصغرى (الرئوية) في القرن الثالث عشر، كاشفاً عن مسار الدم بين القلب والرئتين، وممهّداً الطريق لفهم أفضل لطبيعة القلب بوصفه مضخّة فعّالة تعمل وفق نظام دقيق. لم تكن هذه الرؤية نتيجة حدس مجرّد، بل استندت إلى تشريح منهجي ودراسات مقارنة سمحت بتشكيل تصوّر أكثر واقعية لدور القلب في ضخّ الدم.

ومع انتقالنا إلى أوروبا في عصر النهضة، تتبلور معالم ثورة طبية وفلسفية: اتسعت آفاق المعرفة بفضل إعادة اكتشاف النصوص الكلاسيكية وتطوير أدوات جديدة للتشريح. وهنا يسطع نجم ويليام هارفي (القرن السابع عشر)، الذي قدّم للعالم اكتشاف الدورة الدموية الكبرى، وأثبت عملياً أنّ القلب ليس مخزناً للحرارة أو للعواطف، بل مضخة قوية تضخّ الدم باستمرار في الشرايين والأوردة في حلقة متكاملة. بهذا الاكتشاف، اهتزّت قناعات طبية عمرها قرون، وفتح الباب أمام المنهج التجريبي ليحلّ مكان التنظير الفلسفي. يشير المؤلف إلى مدى صعوبة هذه القفزة المعرفية، إذ اصطدمت في بدايتها بعوائق اجتماعية ودينية، لكن بفضل الإصرار على الدليل التجريبي، وإقامة جلسات التشريح العلني، واختراع المجاهر، بدأت تتضح الملامح التفصيلية لأجزاء القلب الداخلية، من صمامات وبطينات وأذينات. احتاجت البشرية قروناً لتتجاوز التصورات الأسطورية، لكن الدقة العلمية التي أرسيت في هذه الفترة مكّنت من صياغة فهم حديث لوظيفة القلب، وأسهمت في بناء أساس متين للطب الحديث. وعبر هذه المسيرة، يتجلّى للقارئ كيف أنّ تراكم المعرفة الطبية حول القلب كان نتاج توتر دائم بين المعارف السابقة والمنهج التجريبي الجديد، وبين التقاليد الراسخة والابتكار العلمي الجريء.

 

أبعاد رمزية وثقافية – القلب بين الدين والفن والفلسفة

لا يكتفي المؤلف بسرد حقائق علمية، بل يفتح الباب أمام القرّاء لاستكشاف المعاني الرمزية التي التصقت بالقلب عبر القرون. ففي الأديان الكبرى، اكتسب القلب مكانة مقدسة، كما في المسيحية التي حظي فيها “القلب المقدّس” بأهمية روحية وأيقونية، وفي التصوف الإسلامي حيث رُفع القلب إلى مصاف المركز الروحي الذي يشرق بنور الإيمان ويمتاز بالقرب من الله. هذا البعد الروحي الديني يبرز دور القلب في نظام القيم الأخلاقية، حيث تُنسب إليه القدرة على التمييز بين الخير والشر، وأصبح الحَكم الخفيّ على أفعال الإنسان ونواياه.

من جهة أخرى، كان للأدب والفن نصيب وافر في صياغة صورة القلب. فالشعراء والمسرحيون والروائيون استخدموا القلب كاستعارة للتعبير عن الحب والحنين والرغبات الجامحة، وصوّروه في مختلف الحالات الشعورية، من الشوق إلى الفقدان. كذلك خَلَق الفنانون التشكيليون، عبر القرون، أعمالاً فنيّة صوّرت القلب بأشكال رمزية، بدءاً من الرسوم الدينية في القرون الوسطى، ووصولاً إلى فناني عصر النهضة الذين اهتموا بالتشريح الدقيق في لوحاتهم، ثم الحركات الفنية الحديثة التي استلهمت شكل القلب المجرّد من حقيقته التشريحية لتصنع رموزاً عالمية للحب والرومانسية. ويشير المؤلف إلى انتشار الرمز الشكلي للقلب، ذلك الشكل الذي يأخذ هيئة منحنيات علوية وقمة مدببة سفلية، والذي بات أيقونة عالمية تتخطى الثقافات، على الرغم من كونه بعيداً عن الشكل التشريحي الحقيقي للقلب. هذا التحوّل الرمزي يعكس قدرة الإنسان على تحويل الحقائق التشريحية إلى أيقونات فنية وفكرية، ويؤكد أنّ تاريخ القلب ليس فقط تاريخ تقدّم علمي، بل أيضاً مسار اجتماعي وثقافي غني بالتفاعلات والتأويلات.

وفي الفلسفة، يستعرض الكتاب جدلية توزيع الوظائف بين العقل والقلب. فعلى مرّ التاريخ، تنازعت الأفكار حول إن كان القلب مصدراً للمشاعر فحسب، أم أنه موضع الإدراك والحكمة. ومن خلال تتبّع آراء الفلاسفة، من أرسطو الذي اعتبر القلب مركز الفكر إلى ديكارت الذي وضع العقل في الدماغ، يظهر الكتاب كيف تأثر فهم القلب بالمناخ الفلسفي والروحي، وكيف تباينت الآراء باختلاف الأنماط الثقافية والحقب الزمنية. بهذا يرسم المؤلف لوحة شاملة تُظهر أنّ القلب لم يكن مجرد عضلة، بل مرآة تنعكس عليها تصورات الإنسان عن ذاته وعن الكون من حوله.

إنجازات الطب الحديث وآفاق المستقبل

بعد استعراض التطورات التاريخية والثقافية، يتجه الكتاب إلى تناول مرحلة التحولات الجذرية في فهم القلب منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. يستعرض المؤلف كيفية إسهام اختراع السماعة الطبية (الستيتوسكوب) وأجهزة تخطيط القلب الكهربائي (ECG) وتقنيات التصوير الحديثة (مثل الأشعة السينية، والأشعة المقطعية، والتصوير بالرنين المغناطيسي، وتصوير الأوعية) في تمكين الأطباء من فهم أدق لوظائف القلب وحالاته المرضية. كما يسلّط الضوء على التجارب السريرية التي ساعدت في تطوير عقاقير جديدة وتحسين معايير التشخيص والعلاج.

يخصّص الكتاب مساحة لمناقشة التطوّر الهائل في جراحات القلب، بدءاً من العمليات الجراحية الطفيفة وصولاً إلى جراحات القلب المفتوح، وزرع القلب، والاستعانة بأجهزة مساعدة الدورة الدموية. كما يتوقف عند تطور علم الجينات القلبية والبحوث التي تستكشف الخلفية الوراثية لاعتلالات العضلة القلبية، ما يفتح المجال أمام طب شخصي يضع المريض في بؤرة الاهتمام. لا يغفل المؤلف ذكر التحديات الحاضرة والمستقبلية، مثل ازدياد معدلات أمراض القلب الناتجة عن أنماط الحياة غير الصحية، وانتشار عوامل الخطر كالسمنة والتدخين وداء السكري. كما يناقش الآفاق المستقبلية، مثل تطوير قلوب صناعية أكثر كفاءة، والاستفادة من الخلايا الجذعية في إصلاح أنسجة القلب التالفة، واستخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين التشخيص المبكر وتحديد مخاطر المرض.

إنّ عرض هذه الإنجازات الطبية الحديثة في سياق تاريخي يبرز القيمة المعرفية للكتاب، إذ يبيّن للقارئ أنّ الانجازات التكنولوجية والطبية الحالية لم تنبثق من فراغ، بل كانت ثمرة قرون من الجهد، والاستقصاء، والنقد، والتجريب. هذا الربط المتين بين الماضي والحاضر يجعل الكتاب دليلاً مفيداً لفهم طبيعة التقدم العلمي، وأن التطوّر في فهم القلب لا ينفصل عن التطوّر الإنساني برمّته. بهذا، يضيف المؤلف بُعداً مستقبلياً للقلب، حيث يقدّم تصوراً عن إمكانات العلم في رسم معالم فهم أكثر عمقاً لهذه المضخّة الحيوية، ويشجّع القرّاء على التفكير في الخطوات القادمة نحو مزيد من الاكتشافات والإنجازات.

 

الخلاصة والتقييم النقدي للكتاب

يمثّل “التاريخ العجيب للقلب” عملاً يجمع بين الغزارة المعرفية والاتساع التاريخي، ويقدّم طرحاً متكاملاً لمسيرة فهم القلب عبر مختلف الأزمنة والفضاءات الثقافية. يمتاز الكتاب بأسلوب علمي صارم في توثيق الحقائق والمعلومات، مدعوماً بشبكة من المراجع الموثوقة، مما يمنحه طابعاً أكاديمياً متيناً. في الوقت نفسه، لا يتخلّى المؤلف عن النزعة السردية التي تجعل النص ممتعاً وشيقاً، إذ يروي الأحداث والمكتشفات بلغة مفهومة، ويعرض شخصية العلماء والأطباء بصورة حية. هذه الثنائية في الأسلوب، بين الدقة البحثية والجاذبية الأدبية، تزيد من قيمة الكتاب بوصفه جسراً بين المختصين والقرّاء المهتمين بالشؤون العلمية والثقافية.

من الناحية النقدية، قد يشعر بعض القرّاء بأن المؤلف منح بعض الحقب التاريخية اهتماماً أكبر من غيرها، أو أنّه مرّ سريعاً على بعض التفاصيل التشريحية المعقدة. لكن يمكن تفهّم هذه الانتقائية في ضوء اتساع الموضوع وتشعّبه. كما قد يثير التساؤل مدى اعتماد المؤلف على مصادر ثانوية أحياناً، إلا أنّ هذا أمر معتاد في الدراسات التاريخية واسعة النطاق. إذا كان ثمة ملاحظة، فقد تتعلّق بعدم التعمّق في بعض الجوانب الفلسفية أو عدم إبراز الاختلافات في الرأي بين المؤرخين والأطباء حول قضايا معيّنة، ولكنّ هذه تبقى ملاحظات طفيفة في مقابل الجهد المبذول.

يحسن بالقارئ الذي يبحث عن فهم شامل للعلاقة بين الطب والثقافة والتاريخ أن يقتني هذا الكتاب. فهو لا يكتفي بعرض المسار العلمي لفهم القلب، بل يُظهر أهمية النظر إلى العلم في سياق حضاري أوسع. ويُقدّم دروساً حول كيفية نمو المعرفة الإنسانية في بيئات متقاطعة، سواء كانت دينية أو فلسفية أو فنية. إنّ “التاريخ العجيب للقلب” يذكّرنا بأن العلم لا ينمو في فراغ، بل يتفاعل مع المناخ الفكري والاجتماعي والقيمي، وأنّ معرفتنا بالجسد مرتبطة بفهمنا للإنسانية ككل. باختصار، هو عمل موسوعي يعيد للقارئ الاعتبار في النظر إلى الطب كتجربة إنسانية معقّدة، يصعب اختزالها في مختبرات التعقيم والأدوات الجراحية وحدها. إن هذا الكتاب إضافة مهمة للمكتبة العربية والعالمية، إذ يُثري النقاش حول القلب بوصفه موضوعاً طبياً عريقاً، ورمزاً إنسانياً متعدد الأبعاد، وجدير بأن يُقرأ بعين فاحصة وعقل منفتح.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب: التاريخ العجيب للقلب قراءة المزيد »

السلطة ومعرفتها: مراجعة لكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد 

مقدمة: رحلة بين الشرق والغرب

حين تصطدم الأنظار بالشرق، يصبح من الصعب على الغرب أن يراه كما هو. فدائمًا يراه كما يريد أن يراه. هذا هو جوهر كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق”، الذي يُعدّ بمثابة دعوة جريئة لتفكيك الصور المشوهة التي رسمها الغرب للشرق على مر العصور. في هذا الكتاب، لا يقتصر سعيد على مجرد تحليل الأكاديميا الاستشراقية، بل يتوغل في عمق العلاقة بين المعرفة والسلطة، كاشفًا كيف أن الاستشراق كان أداة للهيمنة. لقد أصبح الشرق، في نظر الغرب، كائنًا معلقًا في فلكه، تابعًا له في كل شيء: في تمثيلاته، وتقييماته، وصوره الذهنية. هو كتابٌ يُغني العقل ويثير الأسئلة العميقة التي تفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين الشرق والغرب.

الاستشراق: أكثر من مجرد دراسة

قد يُظن للوهلة الأولى أن الاستشراق هو مجرد دراسة أكاديمية عن الشرق، لكن إدوارد سعيد يبين أن الاستشراق كان -ولا يزال- أداة ثقافية قوية تم استخدامها لتمرير سياسات الهيمنة الغربية. فليس الاستشراق مجرد محاولات لفهم الشرق، بل هو نظام معرفي يصوّر الشرق على أنه كائن متخلف، جامد، وغريب. وهذه الصور لم تكن افتراضات فكرية بحتة، بل كانت تبريرًا لاستعمار الأرض والتاريخ، وأداة لفرض الهيمنة السياسية.

لقد كان الاستشراق بالنسبة للغرب وسيلة للتأكيد على تفوقه الثقافي والاقتصادي، فُرسمت صورة عن الشرق باعتباره “الآخر” الذي يحتاج إلى التنوير من قبل الحضارة الغربية. هذا التصور جعل من الهيمنة الاستعمارية مسألة مشروعة، مُعززة بقوة “الاختلاف” الثقافي والديني بين الشرق والغرب.

 الاستشراق كأداة سلطوية

في قلب هذا الكتاب، يكشف سعيد عن العلاقة العميقة بين المعرفة والسلطة. فبينما تتعالى الأبواق الغربية مدّعية أنها توصلت إلى معرفة “صحيحة” عن الشرق، فإن الحقيقة هي أن هذه المعرفة كانت، وما تزال، وسيلة لترسيخ الهيمنة. فالاستشراق لم يكن مجرد علم محايد، بل كان أداة ثقافية مسيطرة، تستند إلى أن الشرق يحتاج إلى “توجيه” الغرب، وأنه يعاني من عجز فكري وحضاري.

لقد توافقت هذه “المعرفة” مع أهداف الاستعمار، مما جعل من المشروع الغربي في الشرق ليس فقط ذا طابع اقتصادي، بل ثقافي أيضًا. فالاستشراق كان يشكل أحد أسس فرض الهيمنة على شعوب الشرق، ويقدمها باعتبارها شعوبًا بلا تاريخ أو هوية حقيقية، في الوقت الذي كانت فيه هذه الشعوب تُمارس سياسات الاحتلال والاستغلال.

تمثيلات الشرق في الأدب والفن

كان الأدب والفن الغربيان من أبرز وسائل نشر التصورات الاستشراقية. فالأدب الغربي -سواء في أعمال فلوبير أو هوغو أو في الروايات الكلاسيكية- كان يقدم الشرق كعالم غارق في الخرافات، مليء بالأسرار التي يحتاج الغرب إلى حلها. ولذا، كان الشرق في هذه الروايات عبارة عن كائن غريب يشكل تهديدًا لمفهوم الحضارة الغربية.

وتُظهر هذه الأعمال الأدبية كيف كان الغرب يُصور الشرق في قالب من الانحلال والوحشية، مما يعزز الصورة النمطية المرسومة عنه كعالم لا يمكنه إدارة نفسه. هذه الصورة، التي تكرست في الأدب الغربي، أسهمت في تكريس الاستعمار وفي نشر فكرة أن الشرق بحاجة إلى التوجيه الغربي المستمر.

الاستشراق والسياسة: هيمنة الفكر والممارسات

لا يقتصر تأثير الاستشراق على الأدب فحسب، بل يتعداه إلى السياسة. كيف يمكن تفسير الانخراط الاستعماري الغربي في الشرق، إن لم يكن من خلال نظرة الاستشراق التي أضفت مشروعية على التسلط الغربي؟ يوضح سعيد أن الاستشراق لم يكن مجرد تصورات ثقافية، بل كان أداة سياسية بامتياز. في الوقت الذي كانت فيه القوى الغربية تستغل ثروات الشرق وتفرض هيمنتها العسكرية، كانت الأكاديميا الغربية تكرس هذه الهيمنة من خلال معارف تدّعي الحياد والموضوعية، بينما هي في الواقع مصممة لترسيخ التفوق الغربي.

وإذا كانت المعرفة الغربية قد قدمت الشرق ككائن متخلف، فقد كانت النتيجة الطبيعية لهذه الصورة أن يتم الاستعمار وفرض السيطرة السياسية والاقتصادية عليه. وفي هذا السياق، يقدم سعيد صورة واضحة عن كيف كان الاستشراق ليس مجرد علم، بل أداة ثقافية مسيطرة تُسهم في توجيه السياسات الاستعمارية.

إعادة بناء الهوية الشرقية

في محاولة لإعادة رسم صورة الشرق، يطرح سعيد فكرة إعادة بناء الهوية الشرقية بعيدًا عن التأثيرات الغربية. فالشرق الذي صوره الاستشراق ليس هو الشرق الحقيقي، بل هو مجرد انعكاس لتصورات الغرب المشوهة. لذا، من المهم أن يعيد الشرق بناء نفسه بعيدًا عن أنماط الفهم الغربية، وأن يستعيد ثقافته وهويته بما يتناسب مع خصوصيته.

ويؤكد سعيد أن الشرق ليس مجرد “آخر”، بل هو كائن حي ذو تاريخ طويل وثقافة غنية. وهكذا يدعو سعيد الشرق إلى العودة إلى ذاته، بعيدًا عن التصورات الغربية. وتكمن أهمية هذا النداء في ضرورة أن يعيد الشرق تعريف نفسه بعيدًا عن الصورة التي رسمها له الغرب، والابتعاد عن محاولة إثبات تفوقه الثقافي.

الاستشراق في العصر الحديث: تكرار للصور النمطية

على الرغم من أن الاستعمار العسكري قد انتهى في معظم أنحاء العالم، إلا أن الاستشراق لم يُمحَ. بل على العكس، استمر في التأثير على العلاقات بين الشرق والغرب في العصر الحديث. ففي الأزمات السياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، لا يزال الشرق يُصوّر باعتباره تهديدًا أو مشكلة يحتاج الغرب إلى التدخل فيها. ولا تزال الأفكار الاستشراقية حية في الإعلام والسياسة الغربية، مما يؤكد أن الاستشراق لا يزال أداة لتوجيه الرؤى الغربية عن الشرق بما يتناسب مع مصالحها.

الختام: دعوة لتفكيك الصور النمطية

يُعد كتاب الاستشراق أكثر من مجرد دراسة أكاديمية. إنه بمثابة صرخة لفضح العلاقة المعقدة بين السلطة والمعرفة، ودعوة للكشف عن الطبقات العميقة التي تراكمت عبر القرون لتشكل صورة مشوهة عن الشرق. ورغم الانتقادات التي قد تُوجه له، فإن هذا الكتاب يظل حجر الزاوية في نقد العلاقة بين الشرق والغرب. إنه دعوة للشرق ليتعرف على ذاته بعيدًا عن التصورات الغربية، وللغرب ليتوقف عن تصوير “الآخر” وفقًا لصورته النمطية.

يبقى كتاب الاستشراق مرجعًا رئيسيًا لكل من يسعى إلى فهم الديناميكيات الثقافية والسياسية التي تشكل الوعي العام في عالمنا المعاصر. وهو نص يستحق أن يُقرأ بتمعن، لأنه لا يقدم مجرد دراسة أكاديمية، بل يقدم رؤية جديدة لعلاقة الشرق بالغرب، قائمة على التفكيك والمراجعة العميقة لكل الصور التي تم رسمها عبر قرون من الهيمنة المعرفية والسياسية.

شارك الصفحة

السلطة ومعرفتها: مراجعة لكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد  قراءة المزيد »

أعماق السطحية: مراجعة لكتاب “نظام التفاهة” لآلان دونو

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يُعدّ كتاب “نظام التفاهة” للكاتب والمفكر الكندي آلان دونو من الأعمال الفريدة التي تتناول ظاهرة اجتماعية معقدة، تتعلق بكيفية تحول المجتمعات الحديثة إلى نظم تهيمن عليها ثقافة التفاهة. في هذا الكتاب، يوضح دونو أن التفاهة لم تعد مجرد صفة سلبية لأشخاص أو أفعال معينة، بل أصبحت نظامًا متكاملًا يتحكم في مختلف مجالات الحياة، من التعليم والسياسة إلى الاقتصاد والثقافة. إذ تسيطر قيم الامتثال والخضوع على حساب الإبداع والتميز، ويتم تهميش الأفراد الذين يسعون لتغيير هذا الواقع أو التميز فيه.

اعتنى بالكتاب ونقله إلى العربية الدكتورة مشاعل الهاجري مع إثرائها بتعليقات وشرح وافي زاد من فائدة الكتاب المعرفية، وطُبع الكتاب في دار سؤال للنشر وعدد صفحاته 366 صفحة.

يتناول الكاتب تحولات المجتمع بتفصيل دقيق وعميق، ليقدم نقدًا شاملاً للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحديثة، ويبين كيف أن هذه النظم قد أصبحت تدعم التفاهة وتستبعد أي محاولة للخروج عن الخطوط المرسومة لها. يعتمد دونو على منهج علمي وأدبي في آنٍ واحد لتحليل هذه الظاهرة، وهو ما يجعل الكتاب قراءة ضرورية لكل من يسعى لفهم التحولات العميقة التي يشهدها العالم المعاصر.

 

الفكرة المحورية: نظام التفاهة

يرى دونو أن التفاهة قد أصبحت نظامًا، ولم تعد مجرد ظاهرة سلوكية فردية. وفقًا له، النظام المعاصر -وخاصةً في الدول الصناعية المتقدمة- أصبح يعتمد على “تسطيح” كل ما يتعلق بالقيم والمعايير المجتمعية. يتم تمكين الأفراد الذين يتماشون مع التيار السائد ولا يتحدون القواعد، بينما يتم تهميش وإقصاء الأفراد الذين يملكون مواهب أو قدرات استثنائية ويرغبون في تحدي هذا النظام.

هذا النظام قائم على تجنب المخاطر وتفضيل الحلول المريحة والسهلة التي لا تتطلب إبداعًا أو اجتهادًا. ويؤدي ذلك إلى إحلال التفاهة في جميع جوانب الحياة: من السياسية إلى الاقتصادية والتعليمية، وحتى في الحياة اليومية للأفراد. ويعزز النظام الرأسمالي هذه الظاهرة من خلال سعيه الدائم لزيادة الاستهلاك، مما يدفع المجتمعات إلى تفضيل الحلول الجاهزة والقوالب الجاهزة على التفكير النقدي أو الإبداع.

التفاهة في التعليم: إنتاج العمال وليس المفكرين

يشير دونو إلى أن النظام التعليمي الحديث أصبح من أهم المؤسسات التي تخدم نظام التفاهة. التعليم، كما يراه، لم يعد يهدف إلى تحفيز التفكير النقدي أو تطوير الإبداع لدى الأفراد، بل أصبح موجهًا نحو إنتاج عمال أكثر من كونه موجهًا نحو إنتاج مفكرين. الطلاب يتم تدريبهم على قبول ما يُملى عليهم دون التفكير بعمق أو مساءلة الأمور من حولهم.

الهدف الأساسي من التعليم اليوم، وفقًا لدونو، هو إعداد الأفراد للاندماج في سوق العمل والامتثال للقواعد الاقتصادية والسياسية السائدة. يتم تعليم الطلاب المهارات الضرورية للبقاء في النظام وليس المهارات التي تمكنهم من تغييره أو تطويره. وبهذا، يتحول التعليم إلى وسيلة للحفاظ على الوضع الراهن بدلًا من أن يكون أداة لتطوير المجتمع.

كما أن النظام التعليمي يشجع على الامتثال أكثر من تشجيعه على التفكير النقدي. الطلاب يُحَثّون على اتباع المسارات التقليدية وعدم محاولة الخروج عن المألوف أو تقديم أفكار جديدة. وبالتالي، يتم تقويض دور التعليم كأداة لتطوير المجتمع والإبداع الفكري.

 

التفاهة في السياسة: قادة بلا رؤية

يركز دونو بشكل خاص على المجال السياسي، حيث يرى أن التفاهة قد تمكنت من الاستيلاء على السياسة بشكل كبير. القادة السياسيون اليوم، وفقًا لدونو، ليسوا بالضرورة الأكثر ذكاءً أو خبرةً، بل هم الأكثر قدرةً على التماشي مع النظام القائم. هؤلاء القادة لا يسعون إلى تقديم رؤى جديدة أو إحداث تغيير جذري، بل يهتمون بالمحافظة على مواقعهم في السلطة والبقاء في قلب النظام.

السياسيون في هذا النظام يفضلون استخدام لغة مبسطة وسطحية وسهلة الفهم، حتى لو كانت هذه اللغة تفتقر إلى العمق أو الحقيقة. يتم تقديم الأفكار السياسية كمنتجات استهلاكية يمكن تسويقها بسهولة للجماهير، ويتم تفضيل الشعارات البسيطة التي تلقى قبولًا واسعًا دون الحاجة إلى التفكير أو النقاش.

بالتالي، تحولت السياسة إلى مجال يخدم التفاهة، حيث لا يتم اختيار القادة بناءً على الكفاءة أو الإبداع، بل بناءً على قدرتهم على البقاء ضمن الإطار المحدد لهم. السياسيون الذين يجرؤون على تقديم رؤى جديدة أو تحدي النظام القائم يتم تهميشهم أو حتى استبعادهم.

 

التفاهة في الإعلام: تسطيح الوعي

وسائل الإعلام لم تسلم من تأثير نظام التفاهة، بل أصبحت أحد أدواته الرئيسية. الإعلام اليوم، كما يصفه دونو، يعتمد على تسطيح الوعي وتقديم محتوى سطحي وسهل الهضم للجماهير. يتم التركيز على الأخبار السريعة والمعلومات الترفيهية التي تجذب الانتباه لفترات قصيرة دون أن تتطلب تفكيرًا عميقًا أو تحليلًا نقديًا.

يُعَد الإعلام أحد العوامل التي تساهم في ترويج ثقافة الاستهلاك السريع للمعلومات دون التحليل أو التعمق. يتم توجيه الجمهور نحو استهلاك الأخبار بشكل متكرر وسريع، مع التركيز على الإثارة والترفيه بدلاً من تقديم معلومات دقيقة أو متعمقة. وبهذا، يتحول الإعلام إلى أداة لترويج التفاهة بدلًا من أن يكون وسيلة لتنوير المجتمع أو تعزيز الوعي العام.

يتم تسليط الضوء على القصص المثيرة أو الغريبة التي تجذب الانتباه بسهولة، في حين يتم تهميش الأخبار الجادة أو المعقدة التي تتطلب تحليلًا أو تفكيرًا نقديًا. وبالتالي، يتحول الإعلام إلى أداة لتغذية ثقافة التفاهة بدلاً من أن يكون وسيلة لتنوير المجتمعات أو تعزيز النقاش العام حول القضايا الهامة.

 

التفاهة في الاقتصاد: الشركات وقيم الامتثال

الاقتصاد أيضًا ليس بمعزل عن تأثير نظام التفاهة. وفقًا لدونو، الشركات والمؤسسات الاقتصادية اليوم أصبحت تفضل الأفراد الذين يمكن التنبؤ بسلوكهم والذين يتبعون القواعد المحددة دون محاولة تجاوزها أو تحسينها. يتم تشجيع الامتثال والطاعة على حساب الإبداع والتفكير الخلّاق.

في النظام الاقتصادي الحديث، يتم تفضيل الموظفين الذين ينفذون الأوامر دون طرح تساؤلات أو اقتراحات لتحسين النظام. الابتكار والتغيير يتم تهميشهما لأنهما يمثلان تهديدًا للنظام القائم. بل إن النجاح في هذا النظام يعتمد بشكل أساسي على مدى قدرة الفرد على التماشي مع القواعد المعمول بها دون السعي لتحديها أو تحسينها.

يرى دونو أن هذا النوع من الاقتصاد يعزز نظام التفاهة بشكل كبير لأنه يحد من الإبداع والتميز. الموظفون الذين يحاولون تقديم أفكار جديدة أو الذين يرغبون في تغيير طرق العمل التقليدية يواجهون غالبًا بالرفض أو التهميش. وبهذا، يتم تكريس نظام يفضل الاستقرار والجمود على الابتكار والتطور.

 

التفاهة في الثقافة: الترفيه السطحي بدلاً من الفن

الثقافة بدورها لم تسلم من تأثير نظام التفاهة. يشير دونو إلى أن الإنتاج الثقافي في المجتمعات الحديثة أصبح موجهًا نحو الترفيه السريع والسطحي بدلاً من تقديم أعمال فنية ذات قيمة فكرية أو جمالية. الأفلام والمسلسلات والأغاني أصبحت تعتمد بشكل كبير على جذب الجمهور بأبسط الطرق الممكنة، دون إيلاء أهمية للجودة أو المضمون.

الثقافة أصبحت تركز بشكل أساسي على تسويق المنتجات الثقافية كمجرد سلع استهلاكية سريعة الزوال. يتم تقديم الأفلام والمسلسلات الموسيقية والمسرحيات وغيرها من المنتجات الثقافية بطريقة تجعلها سهلة الاستهلاك، دون أن تتطلب تفكيرًا عميقًا أو نقدًا فنيًا. وبهذا، يتحول الفن إلى مجرد وسيلة لجذب الجمهور بدلاً من أن يكون وسيلة لتحفيز التفكير أو التعبير عن الأفكار المعقدة.

كما أن دور المثقفين في المجتمع قد تقلص إلى حد كبير. المثقفون، الذين كان يُفترض أن يكونوا قادة الرأي وصناع الثقافة، تم تهميشهم أو تحييدهم لصالح فنانين أو مشاهير يمكن استهلاك منتجاتهم بسهولة. وبهذا، تتحول الثقافة إلى منتج سطحي، يمكن استهلاكه بسرعة دون أن يترك أثرًا دائمًا.

 

نقد المجتمع: تجديد الروح النقدية

في نهاية الكتاب، يدعو دونو إلى إحياء الروح النقدية في المجتمعات. يعتقد أن الحلول لا تكمن في المؤسسات القائمة، بل يجب أن تبدأ من الأفراد الذين يتحلون بالشجاعة للتفكير خارج الأطر المحددة لهم. النظام الحالي يعتمد على الامتثال، ومن ثم فإن أي محاولة لتحديه يجب أن تبدأ بالتحرر من هذه القيود.

يرى دونو أن الأفراد يجب أن يتحدوا النظام الذي يعزز التفاهة عن طريق تطوير قدراتهم النقدية والإبداعية. يمكن للإنسان أن يرفض الاستسلام لهذا النظام إذا اختار التفكير النقدي والبحث عن حلول جديدة للمشاكل التي تواجهه.

شارك الصفحة

أعماق السطحية: مراجعة لكتاب “نظام التفاهة” لآلان دونو قراءة المزيد »

عودٌ على بدء: مراجعة لكتاب أشياء سبق الحديث عنها

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

فحينما يغدو الاختلاف، ليس مجرد بوْن وتباين، وإنما اختلافاً أنطولوجياً يضع مسافة بين الذات وبين نفسها، فإنه يفسح المجال للابتعاد والانفصال، ويفتح هامش التشكك وإعادة النظر، بل والسخرية من الذات… هذا التخطيء للذات قبل تخطيء الآخر، وهذا الإحساس بأن “علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا” كما يقول كارل بوبر، هو الذي يُمكننا من أن نخالف أنفسنا، ونكون على استعداد كي نَقبل في أنفسنا آخر، فنُقبل من ثمة على الآخرين.

  عبد السلام بنعبد العالي

يضمُّ كتاب “أشياء سبق الحديث عنها” للكاتب والمترجم المغربي عبد السلام بنعبد العالي مقالات جديرة بالاهتمام، تعكس أفكاراً موجزة ومختصرة أراد الكاتب إثباتها من جديد، وعرض مادتها في كتابٍ منفصل انتقى له عنواناً مناسباً. لدى هذا الفيلسوف وجهة نظر مُهمة ليُقدمها، بادية في معظم مقالاته، ويقع عليها القارئ كما يقع على سؤالٍ جوهري شعر به منذ مدة، ولكن عجز عن منحه لغة تليق به.

يتحدث بنعبد العالي عن التكرار في الهوية، وعن النسخ التي تولِّد النصوص من جديد، وعن الكذب السياسي الذي يقول الحقيقة كاذباً حين ينزعها من سياقها ويُلقي بها بين مجموعة من الأخبار والأحداث المنفصلة والمستقلة، فيُجزِّئها ويُميعها ويفككها وينزع منها توجهها إلى طرح سؤال مُهم أو عرض قضية جديرة، ومن هنا فإنه يشير إلى ضرورة فهم إتلاف المعنى في سرد الحقيقة، أو ما يُدعى “بالكذب السياسي” الذي يغيِّب الواقع ويجعل تطور الأحداث حاضراً راهناً ومستمراً في شكله المُجزأ.

أحببتُ حديث الكاتب عن الوظيفة الرمزية للأبواب في الحفاظ على خصوصية الحميمية في حياتنا، والتي تحولت اليوم إلى وظيفة شكلية “تهرب منها الحميمية” وتفقد باستمرار معناها الخاص، وأعجبتُ بمنظور الكاتب حول رؤيتنا أنفسنا في الآخرين ومن خلالهم، أي المحاولة المستمرة للفرد في التماهي مع الجماعة، كما تحاول الجماعة التماهي مع الصورة الإعلانية لتراثها وهويتها، والتي رغم أنها تصوِّره وحدة متماسكة غير أنها تُنتج منه هويات مختلفة ومتعددة تُشكل النسيج المجتمعي بتعدديتها، ومن هنا يشير الكاتب إلى قوة السيمولاكر في إنتاج المعنى والهويات ضمن عود أبدي يحتفي بعالم منطوٍ على الفعالية بدلاً من النماذج.

انتقد الكاتب كذلك الجوانب الصناعية حتى للمفاهيم، كصناعة العطلة التي سلبت من المرء حقه في الاختلاء بنفسه، وفي امتلاك وقت فراغٍ لا يفعل فيه أي شيء، أو لا يستهلك فيه أية منتجات، وتحدث عن مجتمع الفرجة الذي يظل فيه المرء “في سينما” مُستمرة وموضوعاً للتعليق وتحقيق الرغبات والإنجازات السريعة، وانتقد ردود الفعل على العولمة التي ظلت كردود فعلٍ دون أن تُنتج خطاباً يُعزز اختلافها ويقيم ثقافتها التي تزعم ضياعها، مشيراً إلى الفئة التي تستغل “دوخة” العالم اليوم والقيمة المتزعزعة للأخلاق والقيم لتبرير بشاعة موقفها، ومن هنا فإنه ينتقد دور المثقف الذي “يصفق” لهذه الدوخة، ويرى من الحقيق رؤيته من زاوية تُثبت دوره في خلقها.

وفي حديثٍ جميلٍ ويحمل فلسفة مُهمة، يفرِّق الكاتب بين مفهوم السخرية والتهكم، فيقول بأن التهكم مستند إلى فصل المرء ذاته عن الآخرين والحفاظ عليها بعيداً عن الاختلاط بالآخر، والإيمان ببعض المسلمات التي تحفظ وجوده ومشاعره من المساس، في حين أن السخرية تعني سخرية المرء من ذاته قبل الآخرين، وإيمانه بصورة يشترك فيها مع غيره في الوجود الإنساني، وينفي فيها الصفة اليقينية عن النظريات والأفكار، ومن هنا فإن الساخر هو الذي يرى العالم هويات متعددة ينبغي لها التقارب وإيجاد أرض مشتركة لتحقيق مصالحها التي يمكن دائماً مناقشتها وتحقيق جزءٍ منها، على عكس المتهكم الذي يتمسك بمعتقداته ويظل في ابتعاد مستمر عن الوفاق مع الجهات الأخرى.

وفي حديثه عن الاختلاف، تناول الكاتب تجاوزه الاتصال الزماني والهوية المطابقة إلى التعددية الزمانية، وتحدث عن المنظور الأفلاطوني في اعتبار الوجود متستراً بالرموز المُضللة والعلامات التي تُحيل إلى المخفي، غير أن المنظور النيتشوي والحديث يرى بأن الدلالات لا تُحيل إلَّا إلى ذاتها، لذلك فــ”ليس العمق والحالة هذه إلا نتيجة للوهم الذي يبعثه فينا السطح الذي يمنعنا من أن ننظر إليه كسطح. ولكنه ليس السطح الهش الشفاف، وإنما هو سطح سميك ثري”.

كما أشار بنعبد العالي إلى تحول مهمة الفلسفة من نقد الأيديولوجيا قديماً إلى الإشارة إلى الشرور التي تعرِّي نفسها اليوم، والتي قد تتمثل في وثوقيات تُعنِّف النفس وتغلق عليها الأبواب وتحصرها في نموذج ثابت لا يتأثر بوجود الآخر، وذلك في إشارة منه إلى أن المواقف أحادية البعد والفكر ناجمة عن نزعات نفسية في الأصل لا معرفية، نرى انعكاس ذلك في اعتقادنا بأن الحياة الحديثة قد دفعت المرء إلى كشف ستره وسرِّه وإظهاره على العلن، غير أنه لا يكشف سوى ما يعدُّه هو سراً، لذلك فإن الغموض في ذاته يظل موجوداً لمن يملك الفطنة في التعرف إليه: “وإنسان العصر الحديث من الغموض بحيث لا يستطيع أن ينكشف دوماً لنفسه، وبالأحرى أن يكشف نفسه للآخرين”، وفي هذا الصدد فإنه يشير إلى “فلاسفة التوجس” الذين آمنوا بامتلاك المرء ذي الأيديولوجيا “غرفة مُظلمة” في رأسه يعيش فيها صور الواقع والمفاهيم ولكن بصورة مقلوبة رأساً على عقب.

كما يفصل بنعبد العالي بين “التباين الساذج” والاختلاف من حيث أن الأول يُشير إلى تعددية خارجية يُميز فيها الأفراد أنفسهم عن بعضهم البعض ويعدونها ذريعة للتباعد والاختلاف بذواتهم، والثاني يشير إلى تعقيد الذات التي تحمل الآخر في باطنها وتحاوره وتحاول الابتعاد عن نفسها وإثبات تميزها عبر الخروج بأفكار ومفاهيم ولغة تشترك فيها وجودياً مع من حولها، وفي ذلك فإنه يستند غلى موقف ساخر من النفس والوجود الإنساني، ويجعل من امتلاك مفاهيم الحق والخير والجمال مهمة لا يمكن النجاح فيها إلا عبر الآخر وبوساطته: “إن الاختلاف ينخر الكائن ذاته ليضع الآخر في صميمه”.

لقد عاد الكاتب في أكثر من موضع للحديث عن مفهومه للسخرية كموقف من الحياة، ينطوي على غوص في المفارقات العديدة وإثبات للظاهر بما هو عليه دون العودة إلى باطن مفترض له، ويرفض عنف البديهيات والمنظور الأحادي للذات والهوية، الأمر الذي يذكرنا بتعريف التهكم لدى ريتشارد رورتي في كتابه “المُتهكم الليبرالي”.

ومن اللافت موقفه من “عقدة الناجي” التي تصيب الناجين من الكوارث، فهو يُثبتها على الناجين اليوم من أثر البلاهة على النفس، ويقول بأن المرء اليوم، وعبر الفنون والفكر الحُر، ينجو بنفسه من أن يكون ضحية البلاهة التي تقصد وجوده وفكره، ويعبر عن ذلك في “خجل الإنسان أن يكون إنساناً” أمام هؤلاء الضحايا: “صحيحٌ أننا لسنا مسؤولين عن الضحايا، إلا أننا مسؤولون أمام الضحايا، وهم ليسوا بالضرورة ضحايا مخيمات التعذيب، وإنما ضحايا بلاهات الحياة المُعاصرة”.

وينتقل للحديث عن مفهوم الصفح الذي يتمثل في عملية مستمرة تخوضها الشعوب التي تعرضت للاستعمار، لتتمكن من تجاوز الماضي والتطلع لمستقبلها، في مقال “تدبير النسيان”، الذي تعتمده الدول المستعمِرة في محاولة منها لتحويل إجرامها إلى أسطورة أو ذكرى تبتعد بالتدريج عن الواقع، دون أن تعرض نفسها للمساءلة أو المحاكمة. كما تناول مواضيع عديدة أخرى، كخجل الكاتب من الكتابة في واقع مريرٍ يجد فيه الصمت متجاوزاً للأخلاق والأحكام والأهوال الجارية جميعاً، والتعليم الذي تحول من ممارسة نفسية وتهذيبية وتحصيلية إلى موضوع خارجي يمكن “الولوج” إليه عند الحاجة وتوظيفه، ويتناول مفهوم “الصداقة” التي تجمع بين المواطنين، والمتمثلة في حوار دائم يجمع تعدديتهم ويشكِّل منها فعالية وحدوية مستمرة تحاول التماهي مع الأهداف العامة.

لا شكَّ أن الكتاب ثريٌّ بالكثير من وجهات النظر والآراء والمقولات المُهمة، لذلك فإنه يُقرأ على مهلٍ لاستيعاب منظوره الفريد.

شارك الصفحة

عودٌ على بدء: مراجعة لكتاب أشياء سبق الحديث عنها قراءة المزيد »