مراجعات الكتب

مراجعة لكتاب استهلاك الحياة

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“إن أعضاء مجتمع المستهلكين أنفسهم سلع استهلاكية، وإن كونهم سلعاً استهلاكية هو ما يجعل منهم أعضاء حقيقيين في ذلك المجتمع، أن يصبح الإنسان سلعة قابلة للبيع وأن يبقى كذلك هو أقوى دافع لمخاوف المستهلكين، رغم أنه عادة ما يكون هذا الأمر كامناً، ومن النادر أن يكون واعياً، ناهيك عن التصريح به علناً .. فأن ’يجعل المرء من نفسه سلعة قابلة للبيع‘ هو فعل ينجزه المرء بنفسه، وواجب فردي. دعونا نقدم الملاحظة التالية: إن صنع المرء لذاته، وليس مجرد أن يصبح ذاتاً، هو التحدي والمهمة. إن الفكرة القائلة بأن لا أحد يولد إنساناً بالكامل، وإن هناك الكثير مما يجب القيام به ليصبح إنساناً بشكل كامل وحقيقي، ليست من اختراع مجتمع المستهلكين، ولا حتى من اختراع العصر الحديث”

زيجمونت باومان

كتاب استهلاك الحياة لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان كتابٌ جدير بالاهتمام والقراءة المتأنية، يقف على أكثر مشاكل العصر أهمية وثقلاً، وهي تحويل الحياة إلى مجموعة من اللحظات التي يستهلك فيها الإنسان كل سلعة ممكنة، طلباً لسعادة مفترضة، وقد تناول باومان هذه القضية مناقشاً ثلاثة عناصر فيها: النزعة الاستهلاكية، مجتمع المستهلكين وثقافة النزعة الاستهلاكية.

أما النزعة الاستهلاكية فابتعد بها الكاتب عن معناها الحقيقي الضروري للوجود الإنساني، وناقش صنمية السلعة والذات الإنسانية، أي نزع الطابع الإنساني والاجتماعي منهما، وتحول السوق للمرء من مجرد فاعل في نفسه ومجتمعه إلى مفعول به بيد النظام السلعي وآليته، بما في ذلك من تسليع لذاته، فيغدو متعطشاً للاهتمام بصرف النظر عن مكنون هويته وما يمكن أن يقدمه.

وأما مجتمع المستهلكين فناقش باومان تقديسه العابرية في السلع والعلاقات والهويات، وتهميشه الديمومة والاستمرارية والبعد العميق في النفس الإنسانية، بما في ذلك سيولة الحب والعلاقات التي بات التخلي فيها عن الآخر ضرورة تواكب العصر، مع تهميش لدور المسؤولية الأخلاقية لدى الفرد تجاه شريكه.

كما تحدث الكاتب عن رسم النزعة الاستهلاكية للترتيبات في المجتمع والطبقات والفروق التي تعزز الفردية والتفرد والتميز على حساب الكينونة الحقيقية للنفس البشرية، ما يفضي إلى انعدام استقرار الرغبات ونهم الحاجات لدى المجتمع، فتكون الرغبة والإرادة منفصلتان عن المرء ومندمجتان في قوى السوق التي تسيِّرها.

وتناول باومان الزمن التنقيطي الذي ظهر ليناسب حياة السرعة والاستبدال، فغدا الزمن في ذهن الإنسان الحديث لحظات متتابعة متجددة باستمرار، لا تحمل للماضي قيمة ولا تتنبأ بالمستقبل ولا تحضِّر له، كما غدا التبذير وضخامة النفايات السلعية من مزايا العصر وتصور الزمان الحديث، خاصة بظهور النزعة السوداوية المتمثلة في الشره للأشياء دون إدراك جوهرها.

وفي التقييم الأخلاقي لمجتمع المستهلكين، انتقد باومان قياس السعادة في مجتمعاتنا بمقارنتها بغيرها من المجتمعات التي تعيش ظروفاً مختلفة، وناقش أن السرعة في تلبية الرغبات وتقصير الزمن بين الحاجة وتلبيتها لم يساهم في زيادة مستويات الرضى والسعادة بين الناس، بل تحدث عن الاقتصاد الموجه الذي بات يُنتج الخوف الذي وعد بتبديدهن وغدا مصدراً للتعاسة المتجددة، خاصة باعتماده على عدم إشباع الرغبة إلا بعد خلق بديلٍ عنها يحل محلها، ليظل إنسان العصر لاهثاً مسرعاً خلف رغباته المتجددة التي لا تنضب، والتي يحرص نظام السوق على ألا تنضب، أما المعارضة، فهناك نظام يعمد إلى امتصاصها وتسخيرها من جديد لصالح النظام.

وفي تعارض كبير بينه وبين مجتمع المستهلكين، فإن مجتمع المنتجين رفع من قيمة العمل واعتنى بالإنسان الجسد ليزج به في أرض المعركة أو بين صفوف عمال المصانع، بينما عُني مجتمع المستهلكين إلى رفع قيمة الاستهلاك والعناية بروح المرء وتسخيرها لمنفعة السوق واستهلاك منتجاته، ولأن المستهلك يرى نفسه سلعة تحتاج التسويق فإنه يشعر بالخزي من ذاته، ويسعى إلى نفي جسده وهويته في كل مرة و”الولادة من جديد” مستعيناً بتبديل هويته وآرائه ومواقفه وحتى جلده وملامحه وجسده، ليواكب قوانين العصر ومعاييره.

يرى مجتمع المستهلكين أن “من واجب المرء” أن يختار هويته وجسده في كل مرحلة من مراحل حياته، وأن عليه الانضمام إلى أسراب مختلفة، بدلاً من المجموعات، تتأكد فيها هويته المتفردة والمختارة بعناية، ويغدو فرداً في سربٍ يتماهى فيه ومعه، والذي عادة ما يكون سرباً يخص الرياضات أو الأعمال الترفيهية.

ويفترض مجتمع المستهلكين أن مسؤولية خلق المرء لنفسه تقع على عاتقه، فيتحمل، لوحده، تبعات نجاحه في الحياة أو فشله، ومن هنا تنتابه المخاوف والقلق والمشاعر السلبية لانعدام المنطق فيما فرضه عليه المجتمع: “إن الليالي التي تلي أيام الاختيارات الإلزامية مليئة بأحلام التحرر من المسؤولية”، ومن هنا فإن المرء مسؤول عن خلص تصوره الخاص عن العالم ونظامه الأخلاقي الخاص به، فيما يُدعى “بمسؤولية الفرد أمام ذاته”، لا أمام الآخر الذي نفاه وهمِّشه ولا أمام مجتمعه الذي انسلخ عنه.

يعيش مجتمع المستهلكين في حالة دائمة من الطوارئ، تسحب المرء في كل لحظاتها فلا يتبقى له الوقت للتفكير واتخاذ القرارات العقلانية، فنراه يُحدد هويته سريعاً في كل مرة بشكل مختلف، حسبما يُمليه عليه عرقه أو دينه أو ميوله أو ثقافته، ولا يحتاج الآخر في هذا الصدد إلا لغرض المصادقة على هويته الجديدة، دون اعتبار استقلالية الآخر برأيه ورؤيته.

ويختتم باومان كتابه بفصل “الأضرار الجانبية للنزعة الاستهلاكية”، مناقشاً مفهوم الضرر الجانبي اليوم كتضليل لغوي وفكري للبشاعة التي يحملها النظام والضحايا التي تُدهس تحت عجلته، فلا يتم الحديث عنها سوى على أنها مجرد أضرار جانبية “لا بد منها” أو “لم يُحسب حسابها”، ونحن هنا لا نتحدث عن فئات بسيطة، بل عن الطبقة الدنيا التي تشمل الفقراء والمرفوضين ومعارضي النظام، وكل فئة أخرجت نفسها من معادلة الاستهلاك ودعم نظام السوق، وظلت ترى القيمة في المبادئ والمواقف الأخلاقية والثبات على القيم التي رفضت تجزئتها، أي الفئة التي يدعوها نظام السوق “بالمستهلكين الفاشلين”، الأمر الذي بدأ دوامة من العنف والممارسات العنصرية والطبقية ضد “النفايات البشرية” التي يرفضها المجتمع لغرابتها عنه، إلا أنه يدفع ثمن جهله كل يوم بشتى الطرق، أهمها، انخفاض فهمه للسياسات التي تحكمه، وتضاؤل مشاركته في مواقع صنع القرار ورسم المستقبل، لتظل في أيدي المتحكمين بنظام السوق والمنتفعين من جهل العامة.

إنه كتاب ثري بالفعل، ويستحق القراءة مراراً.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب استهلاك الحياة قراءة المزيد »

الجيل القلق

Picture of الكاتب: نيكولاس جوك
الكاتب: نيكولاس جوك

ترجمة: يارا عمار

“كما أنه لا بد أن يتعرض جهاز المناعة للجراثيم، وأن تتعرض الأشجار للرياح؛ كذلك الأطفال لا بد أن يتعرضوا للعقبات والإخفاقات والصدمات والعثرات، حتى يشتد عودهم ويعتمدوا على أنفسهم.”

جوناثان هايدت.

بعد ظهر أحد أيام أكتوبر عام 2006، وُجدت (ميجان ماير) ذات الثلاثة عشر عامًا وقد شنقت نفسها بحزام في خزانة الملابس. لماذا؟ لأنها قضت وقتًا طويلًا على موقع MySpace، وكانت تتعرض للتنمر الإلكتروني من حساب مزيف لوالدة إحدى زميلاتها.

ليت قصة ميجان ماير كانت حادثة مأساوية فردية، لكنها -بكل أسف- مجرد حالة من بين الآلاف، فقد ارتفع معدل انتحار المراهقين الأمريكيين (10-14 عامًا) بمعدل 121% في المتوسط بين عامَي 2010 و2020. يثير هذا الأمر سؤالًا ملحًا: لماذا؟ ما الذي يدفع هؤلاء اليافعين -أو الأطفال- لإنهاء حياتهم؟

يقدم عالم النفس الاجتماعي الشهير (جوناثان هايدت) في كتابه الجديد “الجيل القلِق” تفسيرات وحلول لما وصفه بـ “وباء الأمراض العقلية”.

ما هي نظريته؟ يرى هايدت أننا “نفرط في حماية الأطفال في العالم الحقيقي، ونقصّر في حمايتهم على الإنترنت”، ويؤكد على أن الأطفال بحاجة إلى “طفولة قائمة على اللعب في العالم الحقيقي” حتى يزدهروا وينموا. ما العاملان الأساسيان اللذان يحرمان الأطفال من هذا النوع من الطفولة؟ الهواتف الذكية “والتربية القائمة على الخوف”.

فيما يلي ثلاثة دروس توضح سبب تراجع الصحة النفسية في شتى أنحاء العالم، وما الذي يمكن فعله لتحسينها:

  1. أربعة أضرار أساسية تهدد الصحة النفسية لأطفالنا

لنفترض أن طفلك سجل نفسه ليكون من أول البشر الذين يعيشون على المريخ. وفي أثناء تعرّفك على شركة الفضاء، أدركت أنهم لا يريدون سوى أفراد للاختبار والتجربة، ولا يهتمون بالسلامة على الإطلاق، فهل ستسمح لهم بأخذ طفلك؟ بالطبع لا!

يقترح هايدت أنّ شركات التكنولوجيا تفعل الشيء ذاته تقريبًا منذ عام 2010: استغلال انتباه أطفالنا وصحتهم النفسية من أجل تحقيق الربح. يقول “إنّ الطفولة مدة تدريبية لتعلم المهارات اللازمة للنجاح في ثقافة المرء”. أمّا الآن فيعجز ملايين الأطفال عن تعلم تلك المهارات، لأنهم يعيشون في هواتفهم، لا في الواقع.

روابطنا في العالم الحقيقي لها أربع خصائص مميزة:

  • تعتمد على لغة الجسد.
  • تحدث بشكل متزامن مع الآخرين.
  • يتم التواصل بشكل متسلسل ومع عدد قليل جدًا من الأفراد.
  • تنشأ في مجتمعات ذات حواجز عالية لا يسهُل دخولها.

لا شيء من هذا ينطبق على أنشطتنا على الإنترنت، ولهذا السبب فهي غالبًا تضر بالازدهار البشري. وبناءً على ذلك، يرى هايدت أن الطفولة القائمة على الهاتف تفضي إلى أربعة “أضرار أساسية”:

  • الحرمان الاجتماعي: انخفض الوقت الذي يقضيه المراهقون في اللقاءات المباشرة مع أصدقائهم بنسبة 50% منذ عام 2012، وساهم الوباء في تفاقم هذه المشكلة.
  • اضطراب النوم: تؤدي قلة النوم إلى “الاكتئاب والقلق وسرعة الانفعال والعجز المعرفي وضعف التعلم وانخفاض الدرجات”. وقد أثبتت الدراسات طويلة المدى أن الهواتف الذكية تضر بجودة نومنا.
  • تشتت الانتباه: نظرًا لأن هواتفنا تقاطعنا باستمرار، فإن قدرتنا على التركيز تضعف بشدة.
  • الإدمان: يستخدم العديد من الأطفال هواتفهم كآلات لإنتاج الدوبامين، فهم في بحث دائم عن الجرعة التالية، وقد صممت شركات التكنولوجيا الكبرى تطبيقاتها بحيث تشجع هذا السلوك.

كيف نعالج هذه الأضرار وننشئ حياةً أصح وأكثر ارتباطًا بالواقع؟ يقترح هايدت لذلك أفكارًا أيضًا.

  1. إن نحن طبّقنا أربع إصلاحات أساسية، فستتحسّن الصحة النفسية لشبابنا إلى حد كبير.

يناقش هايدت في النصف الثاني من الكتاب ما يمكن أن تفعله الحكومات والمدارس والآباء لتهيئة طفولة صحيّة، فيدعو إلى أربعة “إصلاحات أساسية” لمكافحة الأضرار الأساسية الأربعة:

  • لا هواتف ذكية قبل المرحلة الثانوية، يجب ألا نعطي أطفالنا سوى هواتف بسيطة للمكالمات والرسائل النصية حتى يبلغوا الرابعة عشرة.
  • لا وسائل تواصل اجتماعي قبل السادسة عشرة، عندما يتعرض الصغار الذين لم يصلوا بعد إلى سن المراهقة لمحتوى غير محدود مختارًا عن طريق الخوارزميات، ومقارنات مع المؤثرين/ الإنفلونسرز، فقد يضر ذلك بقيمتهم الذاتية بشكل دائم.
  • حظر الهواتف في المدارس، لا يكفي مجرد عدم السماح باستخدام الهواتف أثناء الحصة، بل يجب أن تجبر المدارس الأطفال على إبعاد هواتفهم تمامًا، “هذه هي الطريقة الوحيدة لتحرير انتباههم لبعضهم بعضًا ولمعلميهم” كما يقول هايدت.
  • الإكثار من اللعب دون رقابة وزيادة الاستقلالية في الطفولة، يوصي هايدت الآباء بأن يتركوا مساحة لأطفالهم حتى يتعلموا “تنمية المهارات الاجتماعية، والتغلب على القلق، ويصبحوا شبابًا مستقلين” بشكل طبيعي. امنحهم الفرصة للتجربة والفشل والتعلم منه.

لا بد أن تتغير القوانين واللوائح التعليمية، وهذه الأمور بطيئة التطور، لكن من حسن الحظ أنّ ثلاثةً من هذه الإصلاحات الأربعة تقع تحت سيطرتنا. أزِل الهواتف والإنترنت، وأعِد الأطفال للانطلاق واللعب الحر.

يقول هايدت “كما أنه لا بد أن يتعرض جهاز المناعة للجراثيم، وأن تتعرض الأشجار للرياح؛ كذلك الأطفال لا بد أن يتعرضوا للعقبات والإخفاقات والصدمات والعثرات، حتى يشتدّ عودهم ويعتمدوا على أنفسهم”. لنحرص على مرورهم بهذه التجارب مع وجود ملاذ آمن للرجوع إليه، وسيصبح صغارنا بالغين ناضجين.

  1. استعن بهذه الممارسات الست لاستعادة صحتك وصحة أطفالك النفسية، وتقويتها.

يقدم هايدت أيضًا 6 ممارسات -تصلح للأطفال والبالغين- لانتشال أنفسنا من مستنقع الهواتف الذكية، يقول “يشعر الناس بالسمو الروحي عندما يشهدون الأفعال المستحسنة أخلاقيًا”.

فيما يلي الممارسات الست التي تشجع على مثل هذه “الأفعال المستحسنة”:

  • التجارب المشتركة: الانضمام لمجموعة “منظمة لغرض أخلاقي أو خيري أو روحي”.
  • التجسيد: والذي قد يكون بأي طقس أو نشاط جسدي، بدءًا من تناول الطعام إلى ممارسة الرياضة أو الصلاة معًا.
  • السكون والصمت والتركيز: بالقيام بالممارسات التأملية، أو الهدوء من أي نوع كان.
  • التفاني من أجل هدف سامٍ: يتعلق بالتضحية في سبيل قضية أسمى تتجاوز عالمك الخاص، بدءًا من التبرع وحتى العمل التطوعي.
  • العفو بدلًا من الحكم على الآخرين: تعلّم أن تكون “بطيء الغضب سريع الفيء”.
  • استشعار روعة الطبيعة: اقضِ وقتًا في الهواء الطلق، سواء للاستجمام في الغابات أو استنشاق هواء البحر المالح، فالطبيعة تجعلنا نشعر بالاتصال بالعالم من حولنا بطريقة فريدة.
شارك الصفحة

الجيل القلق قراءة المزيد »

أهمية اللاقراءة: مراجعة لكتاب كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعدّ كتاب “كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟” لبيير بايارد أحد الكتب التي تغيِّر في نفس المرء، وتعلِّمه كيف يمضي في حياته بين المعارف والكتب ومصادر الثقافة المختلفة، من دون أن يتسبَّب له ذلك بالتشوش، أو القلق، أو الادعاء، أو الخوف، أو البُعد عن ذاته، وذلك عبر تناول مسائل ومفاهيم عديدة تخصُّ رحلة المعرفة التي ننطلق بها إثر قراءاتنا.

بدايةً، يناقش الكاتب ضرورة أن يكون للمرء نظرة شمولية لمصادر المعرفة، أي الكتب، ونظرية العلائق التي تجمع بينها، والمستويات التي تترتب عليها، ليُدرك موقع كل كاتبٍ وكتابٍ في هذا الترتيب، ما يعني ضرورة أن يتجاوز المرء فردية الكتاب ليحكم عليه من حيث موقعه بالنسبة لبقية الكتب في مجاله، والعلاقة التي تربطه بها، ومن هنا يمكن أن يناقش المرء كتباً لم يقرأها لمعرفته بموقعها من حيث المستويات والعلاقات، كأن يستمع إلى نقاش يدور حولها أو يقرأ مراجعة عنها أو يتصفح الكتاب متوقفاً عند خطوطه العريضة.

ويرى فاليري بأن ملامسة المرء للفكرة أهم من الغوص فيها، وكذلك فإن ملامسة الكتاب أهم من قراءته والانغماس فيه والاندماج معه، ففعل الملامسة يحافظ على المسافة بين القارئ والكتاب والتي يتمكن عبرها المرء من تحديد موقع الكتاب وأهميته، وربما تحديد وظيفته في حياته فيما بعد، وهكذا تكون الممارسة النقدية عند فاليري متجهة للتعبير عن الذات لدرجة تستغني عن النص ذاته.

إن قراءة الكتب تغيِّر فينا وتبدِّلنا وتمتزج بعاطفتنا ونظريات المعرفة لدينا، ولكننا مع ذلك ننسى محتواها مع الوقت ولا نعود نذكر الجزء الأعظم منها، ولا مفرَّ من النسيان المرافق للقراءة، لذلك من الأفضل أن يركن المرء دائماً إلى الاقتراب من الفكرة ومجاورة الكتب والربط المعرفي بين مواضيعها، ومحاولة تطويع ذلك كله للاستفادة به في حياته، بدلاً من التوقف في كل مرة عند كتابٍ بعينه للغوص فيه وفي تفاصيله التي ستنسى مع الوقت.

ويشير الكاتب إلى مفهوم المكتبة الداخلية المتشكلة في كلٍّ منها، والتي تكون مجموع القراءات والأفكار والتصورات والعواطف التي يمر بها المرء، فتشكل هويته الثقافية، ويعتمد عليها المرء عادة في التعليق على الكتب التي لم يقرأها، ولكن التي يعرف موقعها من حيث موضوعها ومحتواها. لذلك يصحُّ القول بأن كل قارئ يقرأ نفسه في الكتاب، وكل كاتبٍ يفشل في إيصال معانيه الخاصة إلى القرِّاء، ما قد يضع الكاتب في ألمٍ لا بد منه عند حديث القراء إليه عن كتبه، لا سيما إن أحبُّوها بشدَّة.

وتضم المكتبة الجماعية مجموع الكتب التي قرأها المرء والتي لم يقرأها، أي التي يمكنه الحديث عنها بصورة عامة وتناولها من حيث أهميتها والوظيفة التي تلبيها، ولأن الكتب عادة ما تنتمي إلى المجال الافتراضي الذي نتحقق فيه، فإنها، كاللغة، طريقة مشوهة للتعبير عن نفوسنا، ذاك أننا لا نستطيع التعبير عما نريد عادة، لذلك يجب أن نقنع بالوجود الحتمي للغموض في عباراتنا والفضاء الذي نخلقه مع الآخرين.

من هنا يرى الكاتب بأن ما يُفهم من النصوص أهم بكثير ممَّا كُتب فيها، فأن يُشكل المرء عباراته بوساطة الكتب أهم بكثير من أن يفهم ما أريد حقاً بالكتاب ومعانيه:

“الحقيقة الموجهة للآخرين أقل أهمية من حقيقة الأنا التي لا يصل إليها إلَّا مَن تحرَّر مِن نير الضرورة التي تُكرهنا على أن نظهر أمام الناس بمظهر الثقافة، والتي تعذبنا في أعماقنا وتمنعنا من أن نبقى على طبيعتنا، ونكون ما نحن عليه حقاً”.

وبما أن لكل كتاب سياق الحديث الخاص به، والمنطوي على كاتبه وناشره وموضوعه، فإن له سياقاً داخلياً فينا كذلك يُحدد قيمته وموقعه ومدى قدرتنا على توظيفه لإفادتنا،وبالطبع فإن هذا السياق يتبدل ويتغير بمرور الزمن ونضوج الفرد وتغير مكانة الكتاب الخارجية.

واللافت في الأمر إثبات الكاتب بأن فعل قراءة الكتب ما هو إلا قراءة لأنفسنا، أي أننا ننتهي من قراءة كتبٍ نحن وضعناها وألَّفناها، ونفهم منها معانٍ متوهمة نحاول تصديرها من جديد، لتتموضع في فضاء متوهم كذلك ومختلف، وتقع على مسامع الآخر الذي سيفهمها تبعاً لمعجمه الخاص و”كتابه الداخلي”، أي أن فعل مناقشة مواضيع الكتب عملية تعبيرية تقوم على الوهم المشترك والمتحقق، ولا علاقة لها عادة بحقيقة الكتاب الذي تتم مناقشته.

ويمضي الكاتب متحدثاً عن تحويل القراء للكتب في أذهانهم وتغييرهم فيها بمرور الزمن، وذلك ضمن صيرورة إبداعية يكون فيها الإبداع أهم من الفهم، والاحتمال أقوى من الواقع، والعبارة النسبية أثقل من القاطعة:

“ما يهم في الكتاب هو خارجٌ عنه، لأن المهم هو لحظة النقاش التي لا يُمثل الكتاب إلا ذريعتها أو وسيلتها”.

بل إنه يرى الدقة والوضوح في التعبير عن محتوى الكتاب تنطوي على اعتداء على حق الآخر في الفهم كما يحلو له، أو كما يملي عليه كتابه الداخلي، يجب أن نترك لأنفسنا والآخرين حرية اللاقراءة وإمكانية الحُلم، أي يجب أن تكون القراءة فرصة للإبداع أكثر من الفهم، ولا تتحقق هذه العملية إلا عندما يدرك القارئ بأن جوهر الأدب لا يكمن في الرواية التي يقرأها، وجوهر المعرفة لن يجده في الكتاب الذي يقرأه، بل في العلائق التي يرسمها بنفسه بين التعبيرات المختلفة عن الموضوع، أي المحاولات الإنسانية العديدة لقول الشيء ذاته، ربما، ولكن بطرق إنسانية وإبداعية مختلفة ومبتكرة، عندئذٍ تصير قراءة العمل عائقاً لفهمه في مقابل عدم قراءته.

يُذكرنا ذلك بما تحدث عنه عبد السلام بنعبد العالي في كتابه “انتعاشة اللغة”، وذلك في مناقشته فعل الترجمة والأصل على أنها محاولات إنسانية على مستوى واحد، تحاول قول الشيء ذاته بطرق إبداعية مختلفة، وتنطوي كلٌ منها على القيمة ذاتها من حيث كونها التعبير الإبداعي والمبتكر عما يدور في خلد المرء حول الموضوع ذاته. وهذا ما يختتم به الكاتب كتابه، أي أن الغاية النهائية هي وصول المرء إلى القدرة الإبداعية لديه بوساطة الكتب، لا عبر قراءتها، بل عبر تعلم عدم قراءتها والوقوف على موقعها بدلاً من ذلك، هناك ضرورة يراها الكاتب في عدم الانغماس في العمل الفني وضرورة الانفصال عنه وتجاوزه ليتمكن من التعبير عنا:

“ليس الكذب بشأن النص هو الذي يجب أن نخشاه بل الكذب بشأن أنفسنا”.

أي أن غاية القراءة الاقتراب من الذات والحديث عنها وتطوير ملكة تعبيرية تمكِّننا من الكتابة بدورنا، ولو بمعنى مجازي.

 

شارك الصفحة

أهمية اللاقراءة: مراجعة لكتاب كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟ قراءة المزيد »

السر وراء بناء العادات: مراجعة لكتاب العادات الذريّة

Picture of إيمان علي حسين
إيمان علي حسين

مدققة لغوية

يُعد كتاب “العادات الذّريّة”، للكاتب الأمريكي جيمس كلير من أفضل ما كُتب عن بناء العادات الجيدة والتخلص من العادات السيئة، ويستند الكتاب إلى الدراسات العلمية في قضية العادات وبنائها، معتمدًا على علم النفس والفلسفة تارة وعلم الأعصاب تارة أخرى، وفي الوقت نفسه يحوي ما يساعدك من طرائق على التطبيق العملي، ويذكر أمثلة من واقع الحياة.

يرغب كل فرد منا في تغيير حياته إلى الأفضل، واكتساب العادات الحسنة التي تساهم في تحسين جودة حياته من الجوانب الحياتية المختلفة، ولكن رغم الكثير من المحاولات في سبيل تحقيق هذا الهدف؛ فإن المحاولات تنتهي بالفشل، محاولة تلو الأخرى؛ ومن ثمّ يبدو الأمر عصيًّا على التطبيق، بل إنه يبدو لبعض الناس مستحيلًا! ولكن في المقابل، يتغير بعض الناس إلى الأفضل ويحسنون من أنفسهم ويبنون عادات إيجابية؛ إذن ما السر؟

يُقال إنّ الكتاب الجيد هو الكتاب الذي ترغب في قراءته أكثر من مرّة؛ أي إنه يستحق الإعادة، وقد قرأت هذا الكتاب مرتين حتى الآن، وسأرحب بالقراءة الثالثة متى ما استطعت! لقد ساعدني الكتاب على بناء عادات حقيقية؛ بعضها ساعدني على رفع إنتاجيتي؛ مثل عادة القراءة، وبعضها كان سببًا في تحسن صحتي؛ كعادة شرب الماء بكميات صحية، وعادة الالتزام بتناول الفيتامينات.

يتحدث الكاتب في بداية الكتاب عن تجربة حياتية مر بها، وتعلم بفضلها أن التغير الذي قد يُرى بسيطًا وبلا أهميّة، سيتراكم مع التغييرات الأخرى مشكلًا نتائج استثنائية لو واصلت الالتزام به مدة كافية، وقد عرف أثر تكوين العادات في حياة الإنسان بسبب تجربته، ثم بدأ كتابة المقالات التي تحولت بعدها إلى هذا الكتاب الشهير.

ويتناول جيمس كلير أربعة قوانين تساعد على بناء العادة الجيدة، وعندما تعكسها تستطيع التخلص من العادة السيئة، وهذه القوانين -أو الخطوات- مبنية بدورها على المكونات الأربع لنموذج العادات: الإشارة، والتوق، والاستجابة، والمكافأة.

وفي القانون الأول يتحدث الكاتب عن جعل العادة واضحة في بيئتك، ومرئية أمامك بحيث تبرز ويسهل تنفيذها، ثم تحدث الكاتب في القانون الثاني عن كيفية جعل العادة جذابة ولا تقاوم، ويمكنك أن تنفذ ما هو ممتع قبلها حتى تحفز نفسك، أو أن تفعلها إلى جانب عادة سابقة (تكديس العادات)، أو عن طريق تجميع المغريات؛ فقد نصّت إحدى النظريات النفسية التي تعرف باسم “مبدأ بريماك” على أنّ: “السلوك الأكثر ترجيحًا سيعزز السلوك الأقل ترجيحًا”، ويتمثل تطبيق هذه الإستراتيجية في جمعك العادة التي ينبغي لك تنفيذها مع العادة التي ترغب في تنفيذها.

ووضح في القانون الثالث أهمية إبقاء العادة سهلة التنفيذ، وذلك بقلة الخطوات اللازمة لتنفيذها، وتجهيز البيئة المحيطة، واستخدام قاعدة الدقيقتين؛ بجعل تنفيذ العادة لا يزيد عنها! وفي القانون الأخير -والأهم- ناقش فكرة جعل العادة مشبعة؛ أي إنها تمدّك بشعور بالإنجاز من الفور، ولو كان ذلك بصورة بسيطة؛ كيف يحدث ذلك؟ كافئ نفسك بعد تنفيذ العادة، واستخدم متتبع العادات؛ فإن الضغط على علامة التنفيذ (تم) تعطي شعورًا بالإنجاز والإيجابية، وبالإضافة إلى ذلك يعطيك المتتبع أدلة مرئية على تقدمك.

وقد ذكر الكتاب أهمية البيئة في تشكيل العادة؛ فهي اليد الخفية في تشكيل السلوكيات الإنسانية، وقد كتب كيرت لوين (عالم نفسي) معادلة بسيطة تقول بأن السلوك يتكون من دالة للشخص والبيئة التي يوجد فيها: س = د(ش،ب)، وقد بين الواقع صحتها في كثير من الجوانب، مثل: شراء الناس للمنتجات المعروضة على مستوى العين أكثر من المنتجات الأقل ظهورًا؛ إذ إن الإشارات المرئية تعد المحفز الأكبر للسلوك.

وعندما نعكس هذه القوانين تظهر لدينا الطرائق التي نتخلص بها من العادات السيئة: اجعل العادة خفية؛ بإزالة إشاراتها من بيئتك، وغير جذابة؛ بإبراز المضار المترتبة على هذه العادة، وصعبة التنفيذ؛ بزيادة العقبات التي تحُول بينك وبين تنفيذها، وغير مشبعة، ومن سبل تحقيق ذلك: 1. شريك في المسؤولية، 2. عقد العادة، بكتابة مراحل الالتزام بالعادة والعقاب الذي سيترتب على خرق العقد، وكلا الطريقتين تعتمد على رغبة كل فرد منّا في إظهار الصورة الأفضل منه.

أما في الخاتمة فقد كشف المؤلف لنا سرًّا يساعد على الحصول على النتائج الدائمة، هل سمعت عن “متناقضة سوريتيس” من قبل؟ هذه المتناقضة جاءت من مثل يوناني قديم، وهو يتحدث عن الأثر الذي يتسبب به فعل واحد بسيط إذا تكرر لعدد كافٍ من المرات، والمقصد النهائي من ذلك هو أنّ التحسينات الكثيرة المتراكمة تؤدي إلى إحداث الفارق، إذن ما السر؟ إنه عدم التوقف عن إجراء التحسينات.

ماذا تبقى؟ كي تلتزم في شيء ما، وتعرف جدواه ووسائل تحسينه، عليك بالتتبع والمراجعة؛ من أجل معرفة ما يلزم من تعديلات؛ لأنه على الرغم من كون الحفاظ على الجهد أهم شيء في تحقيق الهدف؛ فإن سر النجاح يكمن في تعلم الطريقة الصحيحة لتنفيذ الأشياء وتكرار ذلك، والمراجعة تعطيك تصورًا عن تقدمك وتجعلك واعيًا بالأخطاء كي لا تكررها مرة أخرى.

العادة كالذَّرَّة، شديدةُ الصِّغر، هائلةٌ نتائجُها! القليل الدائم نتائجه عظيمة، والتحسن المستمر يجعل منك إنسانًا أفضل كلّ يوم! لذلك اختر عادة بسيطة نابعة منك أنت لا لمحاكاة الآخرين فحسب! فكون العادة مرتبطة بهُويتك والصورة التي ترغب في أن تكون عليها له أثر كبير في الالتزام بها.

مثال تطبيقي: عادة القراءة؛ اجعل العادة واضحة (أبقِ الكتاب قريبًا منك)، وجذابة (اصنع تحفيزًا بعمل أجواء للقراءة مثل تجهيز مكان مريح ومشروبك المفضل، وانضم إلى نادي للقراءة)، وابدأ بشيء بسيط وسهل (5-10) صفحات، واجعلها مشبعة (تتبع قراءتك للكتاب في تطبيق Goodreads)، ويمكنك استخدام التقنيات المذكورة في الكتاب لتحافظ عليها.

شارك الصفحة

السر وراء بناء العادات: مراجعة لكتاب العادات الذريّة قراءة المزيد »

صراع اللغة والهوية والوجود: مُراجعة لكتاب “اللغة العربية في ساحات الوغى”.

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“إن الرمز في حالات الصراع، في مخاطبته للقلب والوجدان، أشد فتكاً وتأثيراً من الأداة في توجهها نحو المنفعة”.

ياسر سليمان المعالي

كتاب مُهم وجدير، يقف على مكانة اللغة العربية اليوم في أذهان أهلها وأعدائهم، منطلقاً في تحليلها من الدراسات المتعلقة بالأيديولوجيا اللغوية والقلق اللغوي وتعلق اللغة بالإرهاب.

يناقش المعالي أولاً الوظيفة الرمزية والأداتية للغة العربية، فالأخيرة تكتفي بوظيفة اللغة ومنفعتها للتواصل، والأولى متعلقة بهوية المرء والمجتمع والطابع الأيديولوجي الذي يُطلب من اللغة التعبير عنه والحديث بلسانه، وفي حديثه عن اللغة التي تحمل الهم الوجودي لأهلها والناطقين بها، تناول محاولات الجبرتي في التصدي للحملة الفرنسية على مصر في تعزيزه اللغة العربية الفصيحة، وتناول إحياء الحركة الصهيونية للغة العبرية في فلسطين، التي أقصت العربية وطغت على الإنجليزية (زمن الانتداب البريطاني)، لإثبات الوجود اليهودي الجديد على الأرض الفلسطينية.

ثم ينتقل للحديث عن الأيديولوجيا اللغوية من حيث كونها نظاماً ترميزياً موجهاً إلى غايات معينة، مستنداً إلى رمزية اللغة وحتمية انتقاء المرء من واقعه الأحداث والأفكار والتأويلات لتمثيل الواقع في ذهنه، ومعتمداً على المراوغة الدلالية للمعاجم والتبسيط المعرفي وتصورات الأفراد غير الدقيقة حول مفاهيم العلوم الاجتماعية:

“تبقى المعتقدات والأفكار السائدة في المجتمع، حول اللغة، لغويات شعبية بحتة، ولا تنتقل إلى الفضاء الأيديولوجي الفاعل إلا في الحالات التي يجري فيها توظيف هذه اللغويات في محاولات التأثير في السياسات العامة في المجتمع”.

لذلك، تكون غايات الخطاب الأيديولوجي اللغوي التنفيس عن غضب الجماعة ورفع معنوياتها وتحقيق التضامن بين أفرادها والترويج لهويتها، ويكون الخطاب متماسكاً وقائماً على قناعة بالتفوق والسمو لدى لغة بعينها على بقية اللغات، وهجران أهلها لها وخطر الازدواجية اللغوية في مجتمع أهلها، في فترة ازدادت فيها الأيديولوجيا اللغوية العربية حِدة وشدة في مواجهة الاستعمار الأجنبي.

وتستند الأيديولوجيا اللغوية العربية إلى رمزية اللغة وارتباطها بقومية العرب وهويتهم ودينهم الإسلامي، من أجل التأثير على السياسات اللغوية المتبعة لدى الحكومة، وهذا ما يدعى بالتوظيف الذرائعي للغة العربية، أي توظيف عناصر اللغة الهوياتية والرمزية والوطنية والدينية لأغراض سياسية تؤثر على بعض القضايا المهمة، الأمر الذي نجده في خطابات المحامي إلياس كوسا إلى السلطات البريطانية أثناء احتلالها فلسطين:

“.. إن إقصاء هذه اللغة أداتياً من ساحة المعاملات الرسمية هو أيضاً إقصاء مجازي مزدوج للوطن الفلسطيني ومواطنيه العرب، يُراكم الإقصاء الحقيقي الذي يتعرضون له في إسرائيل، في استلاب أراضيهم وفي مواطنتهم المنقوصة. وإذا كان الإقصاء الثاني هو إقصاء الجيد والمادة، فإن الإقصاء الأول هو إقصاء الروح والقلب”.

ونجد هذا التوظيف كذلك في الخطاب الأمريكي للمهاجرين، والداعم للتحدث بالإنجليزية فقط تناغماً مع الفضاء العام ومتطلبات الهوية الأمريكية الجديدة.

وفي حديثه عن القلق اللغوي، يتحدث المعالي عن الخطاب الذي ينعى العربية ويركز على هجران أهلها لها وضعف مكانتها، الأمر الذي يُدلِّل على تفسخ هوية أصحابها، فالتهديد الذي يطال متن اللغة يطال كذلك هوية صاحبها ومكانة مجتمعه، ويرتبط القلق بالإبهام في فهم الأحداث المحيطة، واجترار الماضي الذهبي، والتخبط الهوياتي، وانعدام القدرة على الرؤية الموضوعية لواقع اللغات ونشوئها وتطورها والتغيرات الطبيعية التي تدخل عليها. ورغم ذلك، يتناول الكاتب منافع القلق اللغوي في الحفاظ على الأمن اللغوي والتشبث بالهوية الأصل، بيَّن ذلك في تحليله الموجز لكتاب المسدي “انتحار اللغة العربية”.

غير أن الكاتب يرى المبالغة في الخطاب الأيديولوجي حول اللغة العربية اليوم، فاللغة لا تزال حاضرة ومتداولة، والتهديدات التي تطالها تطال بقية اللغات بالدرجة ذاتها، ويحلل المعالي هذه المبالغة في سرده لمجموعة من الشخصيات والعناوين المستندة إلى معجمٍ من المصطلحات المتعلقة بالقلق اللغوي، تعيد تكرارها باستمرار. ومن هنا فإنه يشيد بموقف أمين معلوف في ضرورة الحفاظ على اللغة والهوية مع الانفتاح في الآن ذاته على اللغات المختلفة.

ويتناول المعالي السمة العالمية لظاهرة القلق اللغوي، والتي أصابت اللغات المختلفة ولا تزال، كالفرنسية والإنجليزية، ذاك أن تطور اللغات وامتدادها أو تقلصها أمر منوط بعوامل عديدة ليس أقلُّها إنتاج أهلها المعرفي والخطابي والعلمي والإنساني. وبمعنى آخر، فإن القلق اللغوي يُعيد إنتاج نفسه بالضرورة:

“إن المبالغة الشديدة في قراءة “فنجان” هذا القلق قراءة كارثية، في الحالة العربية، قد تُسارع في تحقيق نبوءاتها بتكريس منطق الهزيمة وتعميق حالة الضعف والتبعية، والتي ينشد حُماة اللغة الانعتاق من أغلالها”.

وفي تناوله لارتباط اللغة العربية بالإرهاب، تحدث الكاتب عن الشعور الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام 2001، والذي عززته وسائل الإعلام والصور المضللة، ليربط بين ثلاثة مفاهيم ويطابقها سوية: العرب والإسلام والإرهاب (الجهاد). فاقترنت الحرب الكلامية بالحرب على الإرهاب، وما زاد الأولى ضراوة قدرتها الرمزية التي تشمل عناصر الصراع وقت الأزمات.

وفي هذا الصدد، يتناول عدداً من الحالات والأحداث المُعبرة عن قلق الأمريكيين من العربية وارتباطها في أذهانهم بالعداوة والميول الإرهابية، ويتناول الكاتب تجاوز التنميط الرمزي للعربية الفضاء السياسي إلى الفضاء العام، كما في حادثة خالد جرار والموقف من أكاديمية جبران خليل جبران الدولية في نيويورك. الأمر الذي أنتج خطاباً مضاداً ساخراً من هذا التطرف الفكري والتعميم الخاطئ، والذي تقوده الأيديولوجيا اللغوية الإنجليزية، كما نرى في الصورة أدناه لحقيبة تسخر ممَّن يخشون رؤية العربية حولهم:

ويتابع الكاتب حديثه عن الموقف الأمريكي تجاه اللغة العربية والرامي إلى التوجه إليها وتعلمها لأغراض أمنية سياسية ضرورية، الأمر الذي يعود من جديد ليصب في القالب الأيديولوجي المُضلل ذاته، فمهما كانت النوايا الأمريكية صادقة في إقامة العلاقات مع الشعوب العربية، فإن الصورة النمطية في مخيلة الأمريكيين ستكون عائقاً أمام هذه الجهود، لارتباط اللغة في أذهانهم بالتطرف والكراهية والإرهاب، ذاك أن “الانشغال باللغة استناداً إلى الهاجس الأمني قد يفشل في تحقيق الأمن المُرتجى، حتى لو جرى الإعلان عن أهمية اللغة في إطار علاقة تقوم على الاحترام والتقدير مع الآخر”.

الكتاب مُتماسك في طرحه، سلس وواضح وغير معقد، والأهم من ذلك كله، أنه جدير بالقراءة والمراجعة والنظر.

شارك الصفحة

صراع اللغة والهوية والوجود: مُراجعة لكتاب “اللغة العربية في ساحات الوغى”. قراءة المزيد »

المكسب الأخير من الثروة: مراجعة لكتاب سيكولوجية رأس المال

المال عصبُ الحياة..

هذه حقيقةٌ تشرق على الأيام مع كل إشراقةِ شمسٍ جديدة، تتجدد في كل يومٍ ويكثُر أنصارها وطُلّاب الحياة السعيدة. وهي أوضح من شمس النهار عند ذوي الأبصار، وأصدق من المتحدّث الرسمي في نشرة الأخبار. لا يجادل فيها إلا جاهل بمقاييس هذا الزمان، ولا يزهد فيها إلا عاجز وغريب وليس بإنسان. هذا ملخّص حالنا نحن أبناء هذا العصر الرأسمالي بامتياز، لا حديث لنا أشهى من حديث المال، ولا شغل لنا إلا الحديث عن فلانٍ كم ملَك وفلانٍ كم حاز.

المال منذ الأزل كان ولا يزال فتنة، فكما جاء في سورة الكهف: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ولو تساءل أحدنا لماذا أتت هذه الآية في سورة الكهف تحديدًا، لكان في مقصد السورة العام إجابةً فيها العظِة والعبرة. لأن مقصد السورة في بيان منهج التعامل مع الفتن، والمال لابد أن يكون حاضِرًا عند الحديث عن الفِتن.

وقد منّ الله علي وقرأت هذا الكتاب الذي عُنون له بـ سيكولوجيّة المال، فكان نفعهُ عظيم وتأثيره جسيم. ولشدّة إعجابي بما جاء فيه، اصطحبته إلى حيث أعمل وتركته على مكتبي يزيّن المكان ويذكّرني بقواعدهِ الحِسان. وقد استهوى زملائي عنوان الكتاب وودّ أكثرهم لو قرأه واستفاد منه طريقةً تثريه أو خطّةً تعمل في حسابه البنكيّ عمل الفانوس السحريّ. وليست هذه فكرة الكتاب من الأساس، وهذا ما اجتهدت لتوضيحه فكانت الردود متشابهة؛ خذ أنت السيكولوجيّة وأعطنا المال.

والكاتب أجهد عقله ليُفلسِف فكرة الثراء بعيدًا عن حيازة الكثير من المال. وقد يستغرب القارئ بدايةً هذا النهج، لأن الثراء ارتبط منذ ارتجّت الأرض بـهدير الترسانة الرأسمالية بالكثرة والتكثّر، والمزيد والتزوّد. فجاءت فصول الكتاب العشرون تباعًا تحاول رسم تصّور جديد أو حقيقيّ عن طبيعة المال، وما أقصى ما يمكن المال تقديمه للإنسان، وكيف يؤثر كلّ من الماضي والبيئة والحظ على تعاطي الإنسان مع المال حال تدفّقه.

المقارنة الاجتماعية:

كم منّا كان ضحيّة “هبّة” أو ترند كما يحب الناس تسمية هذا الأمر؟ هل اشتريت مضربًا ولعبت البادل يا صديقي؟ هل اشتريت خيطًا مائيًا؟ فرنا هوائيًا؟ عطرًا جديدًا؟ أم زرت مطعمًا يابانيّا؟ أو حضرت فيلمًا لأنه ترند على سبيل المثال؟

الضغط الاجتماعي الذي تفرضه منصات التواصل كبير جدًا، وهو يشبه الريح التي تجبر القبطان على مسايرتها لا الوقوف في طريقها. والترند أصبح حاضرًا بقوّة، وليس ثمة ترند لا يتطلب إنفاق المزيد من المال. ولأن من أهداف الكتاب أن ينبّهك على طرق التعامل مع المال، كان يجب أن يلفت الانتباه إلى الضغط الاجتماعي الذي يُمارس على الأفراد حتى ينفقوا المزيد من المال، ليس للحاجة، بل لمجرد الشعور بالانتماء أو المقدرة. فكثير من الناس تضطره المقارنات الاجتماعية إلى شراء أشياء وزيارة أماكن لا تعني له كثيرًا، ولكنه يريد بذلك إفادة الآخر أنه يشبهه وأنه يستطيع هذا الأمر. لديه مالٍ كافٍ للاقتناء والتجربة والسفر.

والكاتب لا يحرّض الافراد على الإمساك عن الانفاق على الكماليات والترفيه، ولكنه ينبّه على الأساليب التي يمكن من خلالها استنزاف محفظتك حتى تضع لها حدًا يناسب دخلك.

قيمة الأشياء:

من الحيل التي تنطلي على كثيرٍ من الناس، هي اعتقادهم بأن الأشياء التي ينفقون عليها أموالهم تعطيهم قيمةً أعلى في المجتمع وبين أوساط الناس. فمثلا الذي يشتري منتجًا معيّنًا ثم ينشر صورته على مواقع التواصل، أو يتباهى به على مرأى ومسمع زملائه وأصدقائه، ويتلقى إعجابهم بهذا المنتج ويفرح به، يغيب عن عقله أن الإعجاب كان بالمنتج لا به هو. فإن كانت السيارة التي تركب مميزة وباهظة الثمن، فكل من في الشارع قد أبدوا اعجابهم بالسيارة إما بالتحديق، أو الابتسامة، أو التصوير، ليست بك أنت. وكذلك الأمر مع المنتجات الالكترونية والملابس الفاخرة وما شابه. فالإنسان ربّما أنفق مالًا طائلًا ليرفع من قيمته بين أوساط المجتمع إلا أنه لا شيء من ذلك يحدث. الغالب أن قيمة الإنسان مرتبطة بما يفعل وما يقدم وما يعرف، لا بما يملك، حتى وإن أبدى الآخرون تقديرًا كبيرًا لأولئك الذين يملكون أشياء ثمينة، يظل هذا التقدير مؤقتا سرعان ما يزول.

الحظ:

راقتني فكرة الحظ والتي نسمّيها نحن المسلمون “الرزق“. بمعنى أن رزق الإنسان مكفول وهو آتيه بلا نقص وأنه لو جرى من رزقه هربًا كما يفعل مع الموت، لأصابه رزقه كاملًا كما يصيبهُ الموت. وتشبه فكرة الحظ هذه اليد التي تربّت على كتف المسلم حين يعلم أن رزقه مكفول، فهي تربّت على أكتاف هؤلاء الرأسماليين، وأن ما يفعله أحدهم ويُعد نجاحًا باهرًا، قد يفعله الآخر ويُعد فشلًا ذريعًا لمجرد أن الحظ حالف فلان، ولم يقف بصفّ الآخر.

الادخار:

أما الادخار فهو برأيه عين الثراء وأصله وأساسه. فمن يستطيع اقتطاع مبلغٍ من دخله الشهري وتركه بعيدًا عن مطامع نفسه وشهواتها ويستمر على هذه العادة عُمُرًا، فهو الثريّ حقًا. لأن نصيبًا كبيرًا من الثراء يكون في ألا تنفق كلّ ما تملك. فما بال أُناس يتدفق المال في أيديهم لزمن، ما أن ينضب مصدر هذا المال حتى يعودوا معدمين أو شبه معدمين كما كانوا قبل هذا الأمر. المال له طبيعة لا تتبدل، ومن طبيعته أنه يذهب سريعًا إذا أطلقت يدك فيه، ويتكاثر إذا هيّأت له أسباب التكاثر. وقد ضرب مثلًا أجده نافعًا جدًا في هذا الباب حين قارن بين استهلاك الولايات المتحدة الأمريكية للنفط في عام 1960 وفي العصر الحاضر. فكانت كمية الاستهلاك تقريبا مشابهه، مع العلم أن عدد السيارات والطائرات والسفن وما شابه أكثر بكثير منها قبل ستين عامًا. الفارق أن مُستهلكات الطاقة في عصرنا هذا صُممت على أن تستهلك وقودًا أقل، فلم يحتج لزيادة كمية الاستهلاك. تماما مثلك أنت، حين تقتصد في مصروفاتك، فسيكون دخلك زائدًا عن مصروفاتك وتشعر بالوفرة التي ستتحول مع الوقت إلى مدّخرات.

الاستثمار:

ومن أسباب تكاثر المال وأنفعها، الاستثمار طويل الأمد. لا تعجل على الاستثمار حتى يعطيك زُبدته ويريك العجب في قدرته. ذكر المؤلف أسماء أشخاص كثيرون أصبحوا من أثرى أثرياء العالم لفترات من الزمن، ثم طويت تلك الصفحة وأزيلت أسماءهم من سلّم الأثرياء انتهى بهم الأمر مسجونين. بينما هنالك اثنان أو ثلاثة منذ أكثر من عقد من الزمان ولا تزال أسماءهم على رأس قائمة أثرياء العالم. على سبيل المثال ذائع الصيت “وارن بوفيت“. مصادقًا على مقولة أنه ليست الصعوبة في الوصول، بل في الاستمرار في القمة.

من لم يتعلم الصبر في الادخار، لن يصبر على الاستثمار طويل الأمد وكثير النفع. فالادخار البوابة الصحيحة للاستثمار.

والفكرة الأخيرة التي أود الإشارة إليها لأنها دعتني للتفكير بجديّة تجاه المال ككُل، هي في ماذا يمكن أن يُقدّم المال لصاحبه؟ أو ما هو الشيء الذي لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان بغير المال. هذا لو افترضنا أن الإنسان من متوسطي الدخل الذين يملكون سكنًا ووسيلة نقل ويتلقون تعليمًا وخدماتٍ صحيّة ويعيشون في دول مستقرة. لنفترض أنك هذا الرجل أو تلك المرأة، تملك أسباب الحياة، فما الاضافة الكبيرة التي يمكن أن يضيفها الكثير من المال إليك بعيدًا عن توفير سبل الحياة، لو افترضنا في هذه الحالةِ أنها متوفرة.

“The ability to do what you want, when you want, with who you want, for as long as you want, is priceless”

لعل هذه الجملة هي فحوى الكتاب ومداره الذي عليه يدور، وهي كما أفهمها وأترجمها تقول:

“القدرة على فعل ما تريد، وقت ما تريد، مع الشخص الذي تريد، للمدة التي تريد، يعد أمرًا لا ثمن له”، أو بمعنى آخر؛ الإضافة الأهم التي يقدمها الكثير من المال للإنسان. أي بمعنى أوضح وأدق: يمنحك الحريّة. حرية تداول الوقت. فلست ملزمًا بالالتزام بعمل معيّن لساعاتٍ معينة بشكل معيّن في مكان معيّن ومع أشخاص معيّنون خلال حياتك. بل أنت من تحدد هذه الأمور وترسم ملامح يومك كما تريد أو كما يحلو لك. حياة الإنسان عبارة عن ساعات وأيام، إذا انقضى بعضها انقضى بعضه، وهي تشبه ساعة الرمل بالعلاقة مع الإنسان، فكلما مر الوقت، أُخذ من عمر الإنسان بقدر هذا الوقت. وهذا الذي يجعل حرية تداول الوقت أثمن شيء يقدّمه الكثير من المال للإنسان. أن يمتلك حياته إن صح التعبير. فليس مدينًا لأحد من العالمين بوقته الذي هو عمره والذي في نهاية المطاف هو مادة حياته.

ومن الأجدر بالإنسان الذي يسعى لمضاعفة أمواله أن يفكّر في هذه المسألة قبل أن يسلُك الطريق. لو وُهبت حرية الوقت وأصبحت تملك ساعات يومك كلها، ماذا يا ترى ستصنع بها؟ وكيف ستقضيها؟ ومع من؟ وأين؟

أم أنك ستهرب من كل هذه الساعات التي تملك بمزاولة عملٍ ما. أن تنشأ عملك الخاص وتعود لتعيش حياة الفقراء، أو متوسطي الدخل الذين ليست لديهم الحرية في تداول أوقاتهم كما يريدون.

فكّر فيما إذا كنت جاهزًا للكثير من الوقت قبل التفكير في الكثير من المال.

شارك الصفحة

المكسب الأخير من الثروة: مراجعة لكتاب سيكولوجية رأس المال قراءة المزيد »

أن تُفرغ الحياة من المعنى: مراجعة لكتاب مجتمع الاحتراق النفسي

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“تضع ذات – الإنجاز نفسها تحت قهر ذاتها من أجل مضاعفة الأداء. وبهذه الطريقة تستغل نفسها بنفسها، ويصبح الاستغلال التلقائي أكثر فعالية من الاستغلال الغيريِّ، لأنَّ هناك شعوراً زائفاً بالحرية يُصاحبه. يغدو المُستغِل هو المُستغَل في وقت واحد. إن استغلال اليوم يحدث الآن دون هيمنة خارجية، وهذا ما يجعله فعَّالاً للغاية. حيث يتحوَّل النظام الرأسمالي من الاستغلال الغيري إلى الاستغلال التلقائي من أجل الإسراع والمضاعفة داخل عملية الإنتاج. وانطلاقاً من الحُرية المتناقضة التي تتمتع بها، فإنَّ ذوات الإنجاز هي في الوقت ذاته الجاني والضحية، السيد والعبد. وبالمثل تغدو الحرية الوجه الآخر للعنف. إن ذات – الإنجاز التي تُدرك نفسها كما لو كانت مالكة لأمرها، تتحول إلى ذات مُذنبة. فسيادة مجتمع الإنجاز تخلق، في الوقت ذاته، الشخص المُستباح دمه الخاص بها. وعبر هذا المنطق المفارق، لا تزال فكرتا السيادة والمستباح دمه يولِّد بعضهما البعض داخل مُجتمع الإنجاز”

بيونغ شول هان

 مُجتمع الاحتراق النفسي – بيونغ شول هان \ ترجمة بدر الدين مصطفى

 

يتكون كتاب “مجتمع الاحتراق النفسي” لبيونغ شول هان من مقالات قصيرة، وهو كتاب صادر عن دار معنى وبترجمة بدر الدين مصطفى، يدور حول الاحتراق النفسي الذي يتعرَّض إليه المرء في مجتمع اليوم، مُجتمع الإنجاز، مُحلِّلاً بعض جوانب هذا المفهوم، واقفاً على بعض ملامحه ومُسبباته وأعراضه، ومُقارناً إياه بالمجتمع التأديبي (أو المناعيِّ) السابق له.

يتحدث الكاتب في البداية عن طبيعة المُجتمع المناعي الذي يُعد فيه الآخر دخيلاً على الذات، فتُهاجمه الأنا كما يهاجم النظام المناعي الجراثيم الدخيلة بعدِّها آخراً غريباً عن الجسم، ويشير الكاتب إلى أنَّ الإنسان في المجتمع المناعي اتخذ موقف السلب من الآخر، مدركاً حدود نفسه، عالماً بغيرية الآخر واختلافه عنه، فيكون هجومه عليه عنيفاً أو طيِّباً (بمعنى الإقبال عليه للتعلم منه)، غير أنَّ المُجتمع بعد العولمة جعل الآخر جزءاً من تضخم ذات المرء، وفي حين أكَّدت الذات نفسها في المجتمع المناعي عبر نفي الآخر وإدراك اختلافه، فإن الذات في المجتمع ما بعد الحداثي تعيش إيجابية فاعلة ومُتضخمة تتمثل في رؤية النفس دائماً في ملامح الآخر.

ومن هنا، وبعد أن تمثل العنف التاريخي في النفي المتواصل للآخر بعدِّه غريباً، فإن العنف اليوم فيروسيٌّ لأنه كامن في النفس ويؤذيها بتضخمها وابتلاعها المجتمع والآخر، وإدراك العالم من حولها على أنه عناصر من تكوينها، يمكن دائماً التغلب عليه. وبتحوُّل المجتمع اليوم إلى تقديس الإنجاز وعدِّه معياراً لتأكيد الذات ووجودها، تحوَّلت معاناة الإنسان من استحالة الفعل في السابق إلى الإمكانية المفتوحة في الحاضر، وهي غير مفتوحة فحسب، بل تضمُّ خيارات عديدة تُرهق المرء وتُتعبه وتلقي بالملامة عليه عند فشله، فلا يلتفت إلى الصورة الكاملة التي تضم عناصر مُهمة أخرى كالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكانتفاء وجود الآخر إلى جانبه، فيرتدُّ المرء إلى نفسه خائباً سواءً فشل في إنجاز ما يريد، أو نجح في ذلك وراح يبحث عن إرادة أخرى لتلبيتها.

غير أنَّ الميل الكبير إلى تأكيد الذات عبر الإنجاز ينتهي بسأم المرء من نفسه والوقوع في الاكتئاب، فالإنسان يربط الحُرية عندئذٍ بالنشاط الإيجابي للفعل، أي بكثرة الأفعال والإنجازات والأعمال، ويغدو مفهومه عن الراحة والتأمل والتفكير والتمهل مشوَّهاً بعدسة الحاضر، والتي لا تقدِّر أية عناصر إنسانية لا تُفضي إلى ربح المؤسسات المُهيمنة.

لقد فرض علينا نظام اليوم صفات غير إنسانية، كالمهام المتعددة التي تنحدر بالإنسان إلى مستوى الحيوانية البرية، وتُعيده قلقاً على وجوده وأمانه، ومُضطراً لتعدد المهام لضمان بقائه على قيد الحياة. غير أنَّ الإنسان ارتقى عن الحيوانات بالتأمل والتفكر والتفلسف والخلق والإبداع، وهذه العناصر تحتاج التمهل والبطء والإنجاز المحدود والفعل الذي يسبقه التروي. إنَّ استبعاد المكوِّن التأملي من المرء في مجتمعه يندر به ويسلبه القدرة على الفهم والنقد والتفلسف ورؤية الجمال وإدراك حقائق الأمور، فيسهل خداعه وإدهاشه وجذبه وتطويعه وتحويله إلى دُمية طيِّعة.

تُفرغ الحياة من معناها في مجتمع الإنجاز رغم هرولة الجميع من أجل عيشها، غير أن مفهوم عيشها على أكمل وجه يتطلب إدراك الحاجة النفسية إلى عناصر إنسانية تلائم النفس ولا تقهرها، وهذه لا يلقي لها النظام أية أهمية، فهي غير مُربحة له وتناقض النموذج البشري الذي يريد خلقه، أي الإنسان الفاعل والإيجابي والعامل والسريع ومتعدد المهام والذي لا يرى قيمة لنفسه إلا بتضخم إنجازاته المادية والملموسة، والتي لا يكون راضياً عنها أبداً.

إثر ذلك، يكون الغضب هو رد الفعل الطبيعي تجاه محاولات النظام انتزاع العنصر الإنساني من البشر، غير أن حِيل النظام تظهر في امتصاص هذا الغضب وتحويله إلى إجراءٍ وتطبيق البيروقراطية أو المبادئ التسليعية عليه، فتجعله سلعة مُربحة وتنزع منه أثره وتطوِّعه للعجلة المالية.

كلُّ ذلك يخلق مُجتمع التعب المستمر من الوجود، والذي قارنه بيتر هاندكه بتعب الإنسان السلبي الأصيل، والذي يكون نتاج فكر تأمل وإنجازٍ في محله، فالتعب إثر استنزاف النفس لا يشبه التعب إثر عملية فكرية خلَّاقة يحفظ فيها المرء لنفسه قيمة فكرية وأدبية وفلسفية عظيمة، لا يمكن أن تمسَّها أيدي النظام أو تؤثر فيها، إنه تعب مُلهم للنفس على عكس التعب الوجودي اليوم، الذي يلوم النفس باستمرار على عدم تلبيتها الكثير من الصور غير الملائمة لها في الأصل.

يُفضي ذلك كله إلى استغراق الذات في نفسها وجعلها نرجسية لا تدرك بِم تُلبى حاجاتها الأكثر أهمية، فلا ترى أهمية للمجتمع في الذات ولا تدرك أثر الآخر عليها ولا حاجتها إلى النظام الأخلاقي الذي يساعدها على التطور والتحسن لتحقيق تجربة وجودية أكثر ثراءً وقوة، فتُصاب النفس بالاحتراق النفسي والاكتئاب: “إنَّ ذات – الإنجاز المُكتئبة والمُنهكة، تطحن نفسها، إن جاز التعبير. إنها مُتعبة، مكدودة في نفسها، وفي حالة حربٍ مع نفسها”، وتكون الأنا في العالم الرقمي مُستغرقة في النرجسية وتستهلك نفسها في العرض، كما ينتفي شعورها بالآخر وإحساسها بضرورته على أرض الواقع.

وإثر تحول المجتمع التأديبي إلى مجتمع الإنجاز، تختفي الأنا العليا التي كانت تقهر النفس وتمنع عنها وتمارس عليها الحظر والتقييد، وتحل محلها الأنا المثالية التي تُغري النفس بتلبية الحاجات، فتتوهم فيها الذات الحُرية منزوعة القيود، غير أنها تربط الحرية معها بالفعل المستمر والإنجاز الذي لا ينتهي، فتترافق الحرية مع العنف إذ تستغل الذات نفسها ظانَّة أنها مُتحررة، ومن هنا يقارنها الكاتب بالفرد المستباح دمه والمهدور في مجتمعه، والعاجز عن ضمان شيء لنفسه يقيه أثر ضغوط الحياة عليه، وهكذا يظل المرء راكضاً في سباق الفئران، لا يهدأ ولا يتوقف، من أجل “عيش حياته” التي لا يفهم شروطها، متناسياً الحاجة النفسية للتمهل والتفكير، فيصير كالميِّت الحَي، على قيد الحياة إلى درجة الموت، وميِّت لأقصى درجة من أجل الحياة.

شارك الصفحة

أن تُفرغ الحياة من المعنى: مراجعة لكتاب مجتمع الاحتراق النفسي قراءة المزيد »

التأمل في كلِّ أمر: مراجعة لكتاب مرآة الأفكار لميشيل تورنييه

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

مرآة الأفكار لميشيل تورنييه، كتابٌ من التأملات الفلسفية الجميلة، أبرز فيه الكاتب معنى أن يكون للمرء نظرة فلسفية لوجوده وصيرورته عبر الزمكان، وقدرة على استكناه طبائع الأمور وحقائقها عبر اللغة والمجاز، كان لبعض التشبيهات والمستويات المجازية غرابةٌ لذيذة استوقفتني عدة مرات، إنه من الكتب المُرهقة للعقل، لتنقله بين شتى المواضيع والأفكار، لذلك فإنه يُقرأ على مهل، هناك قيمة عظيمة ينطوي عليها، لا تكمن فقط في مادته، بل في أثره اللاحق على قارئه.

من الأفكار التي ناقشها الكاتب، دور الضحك في الحفاظ على المجتمع طرياً، غير متصلِّب تجاه معتقداته، إذ يمنع عنه التحوُّل الآلي، بينما يكون البكاء اعترافاً بالاستسلام أمام العناصر الحتمية في العالم، كما ناقش التغيرات التي تصيب المرء إثر انتقاله من براءة الطفولة إلى عنفوان المراهقة وتمرُّدها، مشيراً إلى أنها تغيرات محفوفة بالمخاطر دائماً، تورث في النفس كآبة وضيقاً يحتاج الوقت للتبدُّد، جديرٌ بالذكر أن رواية “الحارس في حقل الشوفان” كانت من أبرز الأعمال التي جسدت هذا العنفوان والضيق والتمرُّد الذي يكتسبه المرء في مراهقته.

وتحدث تورنييه عن الصداقة المعتمدة على التقدير المتبادل، مقابل الحُب الذي يمكن أن يظهر من طرفٍ واحد، فيُعمي صاحبه عن عيوب غيره وعمَّا يضرُّ نفسه، ويُعبِّر عن ذلك بقوله أنَّ الحب مشاعر متطرفة تقتات على النفس وتورثها الألم لأنه نتاج شعورٍ بانعدام المساواة في الأصل، في حين تنشأ الصداقة بين طرفين متساويين:

“الصداقة يقتلها الاحتقار. بينما حُمَّى الحبِّ قد تجعل العاشق لا مبالياً تجاه الحماقة، والجُبن، والدَّناءة التي يُبديها المعشوق. لا مبالياً؟ لا .. بل إنه أحياناً يتغذَّى، كالشره والجائع، على أشنع ما في المعشوق من عيوب. لأنَّ الحُبَّ يُمكن أن يكون قمَّاماً”.

والحيوانات القمّامة التي يقصدها هي تلك التي تقتات على الجيف وما يخلفه غيرها من الحيوانات. ويستعمل المؤلف لفظ coprophage التي تُشير إلى أكَلَة البراز.

كما ناقش مواضيع عديدة مُسقطاً الأفكار والتصورات الإنسانية على مجموعة من العلاقات التي تربط بين مفاهيم وموجودات ومخلوقات عديدة، كمناقشته العلاقة والاختلاف بين الكلاب والقطط، بين الثيران والبقر، بين الاستحمام تحت الدوش والاستحمام في الحوض، وما ينطوي عليه ذلك من دلالات فلسفية ونفسية وسياسية، كأن يشير الدوش إلى الرغبة التطهيرية واليسار السياسي المؤمن بالتغيير والتطور والتقدم والنقد، والاستحمام في الحوض إلى الرغبة في الإبقاء على الأمور كما هي عليه، كما في اليمين السياسي المتحفظ، والمؤمن بالحاضر وحماية المصالح وتحقيق الاستقرار.

وطالت تأملاته مرض الطبيعة الذي ينخر فيها باستمرار: أي الإنسان، والإسقاطات الفلسفية لطبائع المدن الحديثة المُصممة للتنقل السريع لا للتأمل والاستقرار والتمتع بمكان الإنسان في الطبيعة، كما أحببتُ مقابلته بين الماء والنار، في أن الأخيرة رمز الروح الإنسانية المشتعلة والمتطلعة، والأولى رمز ظروف الحياة القاهرة والباردة والبليدة: “الحياة تأتي من الماء، لكنَّ النار هي الحياة نفسها، بحرارتها ونورها وأيضاً بهشاشتها .. ’في الحرب بين النار والماء، دائماً ما تخسر النار‘. متشائم، نعم، لأنَّ النار تشير هنا إلى الحماسة، والروح الشابة، والجرأة، بينما يشير الماء إلى القهر الذي تمارسه علينا الحياة الواقعية”.

كما استطاع الكاتب التكهن بمنظور المؤرخ والجغرافيِّ للزمان، في أنَّ الزمان عند الأول تتالٍ لأحداث كارثية أليمة، محورها الحروب والشر المطلق، بينما عند الثاني يكون الزمان مجزأ تبعاً للفصول، حاضراً على الدوام، يمتزج بتفاؤلٍ إنسانيٍّ يؤمن بالتغيير. وتناول الكاتب الراحة الفكرية في الاعتقاد والإيمان، والتي يعدُّها المؤمن مكافأة على حسن تفكيره، في مقابل القلق الفلسفي المتمثل في الشك والأسئلة الدائرة والمحنة التي تصيب المرء إذ يُبتلى بها، وتفلسَفَ حول الفرح، ذلك الشعور الإنساني الذي يرافق فعل الإنسان الخلَّاق والإبداعيَّ، والذي يحمله على الشروع والبدء والفعل، في مقابل المتعة التي تهدم وتستهلك وتنقضي سريعاً وتكون خالية من العنصر الإنساني الأصيل، مشيراً إلى أن العلاقات الحميمية بين الجنسين تحمل بعضاً من الفرح والمتعة في آن، ذاك أنها تنطوي على العنصر الخلَّاق في إنشاء علاقة وثيقة مع الآخر، نتجه عبرها إليه ونستثمر فيه ونؤمن به.

أعجبني كذلك ما ورد حول الكتابة مقابل الكلام، فتورنييه يشير إلى أن الكتابة هي فعل الصمت الاختياري، يمارسه المرء في وحدته ويعبر أثره الزمان والمكان، في حين أنَّ الكلام ينطوي على انفعال شعوري وجداني في إفهام الآخر والتواجد حوله والعناية به، ينتهي ذكره في وقت قريب، من هنا كانت الكتابة المرحلة التالية لتعلم الإنسان الكلام، بما ينطوي عليه من أبعاد اجتماعية.

أحببتُ كذلك ما تفلسف به الكاتب حول اللون الرمادي، في كونه لون العالم الأصل قبل اعتداء الألوان على الأشياء وحجب براءة العالم عنا، وأعجِبت بحديثه عن “الكيف” في مقابل “الكم”، وطريقة الطبيعة الكيفية في مقاومة طريقة الإنساني الكمية، وتمكُّنها من الحفاظ على عنصر مبهم لها تنطوي عليه، به تتميز وتوجد وتبتعد عن الإنسان ووعيه، كما كان لحديثه حول واقعية الطبيعة التي تروِّض الإنسان الأهوج ومثاليته أهمية كبيرة في تبيان الحقيقة التبدُّلية التي تقوم عليها الحياة، أي التنسيب -إضفاء الطابع النسبي على الأشياء- في الطبيعة مقابل المُطلق الذي يبحث عنه الإنسان ليتشبَّه به ويتمثَّل فيه. وكان لحديثه حول الإنسان الذي يتملكه هاجس الموت والعدم أثر كبير في تبيان معنى الغثيان لدى سارتر، أي بكونه عالمٌ مُستقل يحيط بالإنسان فيوجد فيه ويصبغه بصبغته، ليدرك الوجود بصورة باهتة وفاترة، تستدعي الإنسان الفاعل لإحداث الفرق فيها، وتختبر صبره على نفسه أثناء ذلك.

ومن برغسون الذي آمن بأن الإنسان هو الذاكرة، إلى الحديث عن الثقافة والحضارة في كونهما متضادتين، ترفض إحداهما الأخرى وتنفيها، إذ تنطوي الأولى على النقد والعنصر الإنساني الفاعل، والثانية على تقدم خالٍ من رؤية واضحة وناجعة، ومن جمالية الرمز في مقابل الصورة، وقدرة اللغة على خلق جماليات تخصها وحدها للتعبير عن المعنى، في ارتباطها الشديد بالإنسان الفاعل ذي المعنى الأصل والتصور الفريد، إلى مفهوم الفاعلية الإنسانية المُقتبسة من الرب والمتجسدة في الانفعال المصاحب للفعل، والذي رأى فيه سبينوزا عنصراً إلهياً يُنبئ عن علاقة وطيدة بين الإنسان والرب، تمكَّن الكاتب من تبيان العديد من آرائه ووجهات نظره، والوقوف على بعض المعاني المُهمة التي تجعل عالم القارئ من بعده أكثر ثراءً وعمقاً، وتجربته الوجودية أكثر حقيقة وقرباً من جوهره.

إنَّه كتابٌ بديع في الحقيقة.

شارك الصفحة

التأمل في كلِّ أمر: مراجعة لكتاب مرآة الأفكار لميشيل تورنييه قراءة المزيد »

فلسفة الجنون

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

من الكتب التي ترجمتُها مؤخراً، كتابٌ بعنوان “”فلسفة الجنون: تجربة التفكير الذهاني”. يقع في أكثر من ثمانمئة صفحة، وصدرت ترجمته عام 2022 عن دار ملهمون في الإمارات. مؤلِّفه هو ووتر كوستر، كاتب ومؤلف هولندي، خاض نوبات ذهانية عديدة كان أشدها عندما شُخص بالذهان عام 1987 وعام 2007، وهو في الأصل عالم لغويات وفيلسوف.

في كتابه فلسفة الجنون، يوضح الكاتب طبيعة التجربة الذهانية التي يخوضها المرء، ويقف على العناصر الكثيرة المشتركة بينها وبين التفلسف والتصوف، لذلك فإنه يقتبس من الذهانيين ومن المتصوفين والفلاسفة، ويتحدث عن تجاربهم المتشابهة والملامح التي يختبرونها فيها. غير أنه يريد الإثبات أن التجربة الذهانية تعني القدرة على الوصول إلى ما يسعى الفيلسوف والمتصوف للوصول إليه، أي سر الوجود، المبدأ الأصل، جوهر الحياة، أو أياً كانت تسميته، الفارق الوحيد هو أن الذهاني يعيش ما يسعى إليه المتصوف والفيلسوف، ويقصد بذلك التجربة الذهانية التي تُمكن المرء من إدراك ذلك المبدأ الأصل، وليست التي تهبط به في أمراض جنون العظمة، والهلوسات، والتيه الوجودي والارتياب. وبعبارة أخرى، فإن الكاتب يريد إرشاد هذه الفئات الثلاث في المسارات التي يتبعونها من أجل الوقوف على المبدأ الأول والأصل للوجود.

جديرٌ بالقول أن قراءتي للكتاب ومراجعتي له وحديثي عنه مرهون بنظرتي إليه، فكل قراءة للنص مختلفة من حيث الفقرات التي يتم التركيز عليها والطريقة التي يُفهم عبرها، لذلك أقدم هنا قراءتي حسب منظوري الخاص للكتاب، والذي جذبني في المقام الأول وأمتعني في ترجمته وقراءته.

يُقارب الكاتب بين الفلسفة والجنون بصورة تدمج بينهما وتبحث في العديد من أوجه التشابه، وذلك عبر أربعة أجزاء طويلة جعلها تُمثل العناصر الأربعة التي اعتُقد قديماً أن العالم مُتشكل بوساطتها (التراب والمياه والهواء والنيران). تتخلل هذه الفصول فقرات طويلة ومتوزعة على طول الكتاب، معنونة بالملاحق والفواصل، تحدث فيها الكاتب عن تجربته الذهانية، ما اختبر فيها وما شعره وأحسَّ به، وكيف تمَّ التعامل معه في المصحات، وعن رؤيته المختلفة ومنظوره لفهم العالم ضمن سيناريو مُحكم ودقيق، ويمكن للقارئ الذي يجد صعوبة في فهم موضوع الكتاب قراءة هذه الملاحق والفواصل، وقراءة العديد من تجارب الذهانيين والفلاسفة والمتصوفة والمتوزعة في صفحات الكتاب، لاستكناه الطبيعة اللافتة للتجارب التي حاول الكتاب الربط بينها والإشارة إلى مواضع التشابه العديدة.

في الجزء الأول، والمعنون “التمعن“، يتحدث الكاتب عن الكيفية التي يختبر بها البشر العالم من حولهم عبر حواسهم وإدراكهم الحسي، وعن ابتعادهم عنه عن الفلسفة أو العلم أو الفن أو الجنون، حيث تعني واقعية الشيء وجوده المُستقل عنا، وكلما انخفضت واقعية التجربة التي عشناها فإننا نختبر زيادة في تصوراتنا الذاتية، غير أن المجنون لا يرى العالم باعتبار واقعيته بشكل طبيعي، بل يراه تارة بواقعية مُفرطة وتارة أخرى بواقعية معدومة، وهو يتنقل بين هذين المنظورين بصورة مُستمرة، فالواقعية المُفرطة أن يرى الذهاني عالمه مجموعة من المسلمات والبديهيات والأحداث الحتمية التي ترتبط ببعضها البعض ضمن علاقة سببية تشير إلى وجود خطة عامة لهذا العالم، أو مؤامرة متقنة تجمع العناصر سوية، ويكون البشر عندئذٍ مؤدين لأدوارهم الحتمية وكأنهم دمى في عالم كُتب السيناريو له مسبقاً، بينما تكون الواقعية المعدومة منطوية على شكوكٍ عديدة متعلقة برؤية المجنون إلى محيطه وعالمه، حيث لا يكون على يقينٍ من أي شيء وتراوده الأسئلة حول حقيقة ما يعيشه وواقعية تجاربه والأحداث من حوله، ولا يكون أكيداً حول أية قوانين طبيعية أو حتمية تحكم عالمه، أما اللغة فلا تعني فيها الكلمات ما تعنيه إلا مصادفة، بل إن العالم واللغة يبحثان عن بعضهما البعض من دون أن يلتقيا.

كما تختلط رؤية الذهاني إلى عالمه فتارة يفيض خارجه على داخله وتارة يفيض داخله إلى خارجه، فنجده معتقداً بأن العالم نتاج تصوره عنه، وأن كل ما يحيط به نتاج فكره وتصوراته وأفكاره، أو نجد كل ما يحيطه يتمحور حوله بطريقة أو أخرى، حيث يكون العالم الخارجي متوجهاً إليه ومختلطاً بذهنه وتصوراته، كأن تكون ابتسامة المذيعة في إحدى نشرات الأخبار رسالة مشفرة تحاول فيها أن تنبِّهه إلى أمر ما، ويمكن أن يعيش في عالمٍ يعتقد فيه أن كل أفكاره ألهِمت إليه من مصدر خارجي ما ينتظر أن يكشف عنه.

ويضطرب مفهوم الذهاني للزمان من حوله، يبدأ الكاتب حديثه عن ذلك بمقولة لأوغسطين: “ما الزمان إذن؟ إنني أعرفه طالما أن أحداً لم يسألني، ولكن عندما أهمُّ بالشرح عنه لمن يسأل، أجد نفسي عاجزاً عن ذلك”. ورغم أن هذه مشكلة نظرية للفيلسوف، فإنها تُمثل مشكلة حقيقية في حياة المجنون، وتتسبب له بإرباك شديد. يملك البشر العاديون زماناً داخلياً أو إيقاعاً في أذهانهم لمضي الأيام والأشهر والسنوات، ويختبرون الزمان الخارجي عنهم على أنه مجموعة من الأرقام والفترات المختلفة، ويعيشون بتصورٍ زماني يجمع بين إيقاعهم الداخلي ونظيره الخارجي، غير أن الذهاني يفتقر إلى هذا التزامن أو التوافق بين الإيقاعين، فهو لا يرى الزمان خطياً مثلاً وبمفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل بل يختبره كحاضر أبدي لا ينتهي، يجمع عناصر الماضي وتصورات المستقبل والتجربة المعيشة سوية في إطار لا ينتهي ويظل مستمراً وأبدياً. لذلك تكون متعته بالوجود مكثفة للغاية، ولكن كذلك حزنه عندما يصيبه يكون مكثفاً وشديداً ويمكنه اختباره في أي وقت، ما يجعله في حالة مزاجية شديدة التقلب.

أما المكان فيختبره العاديون ضمن صورتين، الخلفية والمقدمة، فعندما ندخل مكاناً أو ننظر لما حولنا فإننا نكون منتبهين بالضرورة إلى شيء بعينه بينما تظل بقية عناصر المكان حاضرة أمامنا وضمن منظورنا، ولكننا لا ننظر إليها بصورة مباشرة إلا إن اختبرنا فيها تغيراً، فتظل في الخلفية، ولكن الذهاني لا خلفية لديه بل يتمثل المكان بعناصره جميعاً في نظره، فينشغل بكل عناصره وتفاصيله وكل ما يتبدى له، ولا يتمكن من إلقاء أي شيء إلى خلفية ما تفترض بديهية وجود هذا الشيء، كما أنه يرى العالم من حوله مجزأ بصورة كبيرة، حيث يملك كل عنصر وشيء تميزه في ذاته من دون الحاجة إلى سياقه، فلا ترتبط الموجودات في عينه، بل يمكن أن ينظر إلى العصفور وزقزقته وكأنهما شيئين منفصلين. وقد يختبر الصور التي تعد ثنائية الأبعاد على أنها ثلاثية الأبعاد، ويختبر عالمنا ثلاثي الأبعاد على أنه ثنائي الأبعاد، بما ينطوي عليه ذلك من تعميق أو تسطيح للرؤية. وعندما يشاهد التلفاز فإنه لا يضع اعتباراً للمسافات المكانية ويشعر بأن عالم التلفاز حاضر هنا والآن في مكانه، ولإدراكه الشديد بتميز المكان فإن تنقله بين مكانين مختلفين، كأن يخرج من منزله إلى المقهى، يعني انتقاله بين عالمين لكل منهما قوانينه وعناصره المميزة وإمكاناته المختلفة، وفيما نرى نحن العالم بالضوء الطبيعي أي الشمس، فإن المتصوف يراه بالضوء الأبيض الذي يُعلي الوحدة بين العناصر على مميزاتها، والذهاني يراه بالضوء الأسود الذي تتميز فيه العناصر كلُّ بما يفرقها عن غيرها.

وفي الجزء الثاني، المعنون: “التصوف الذهاني“، يبحث الكاتب في العديد من التجارب الصوفية التي يشترك بها المتصوف مع المجنون أو الذهاني في الاعتماد على المجاز للشرح والتفسير والتحدث، ويتحدث عن اختلاف التجربة الصوفية عن الذهانية للمنظور الذي يمكن للمرء النظر عبره إليهما، فإن كان المرء متديناً سيعدها تجربة صوفية للعناصر الدينية فيها، وإن لم يكن كذلك فسيعدها تجربة ذهانية تشير إليه بوجود مختلف عنه. ويتحدث الكاتب عن أربعة طرق يمكن للمرء عبرها فهم هذه التجربة المشتركة بينهما:

  1. الانفصال عن الواقع: أي أن يفصل المرء نفسه عن كل ما يتعلق بالواقع المحيط به من قوانين وقواعد وبديهيات ومسلمات، وتخلصه من المخاوف الدنيوية والتوقعات والعلاقات التي تربطه بعالمه، فاستقباله الحقيقة الخفية يحتاج روحاً خفيفة غير مثقلة بما يتعلق بالعالم الدنيوي، مثل تجارب النسبية الشديدة.
  2. التحرر الخيالي: أي أن يتحرر الذهاني أو المتصوف من الهلوسات والتصورات والرؤى المتعلقة بعالمه، وهو الشعور بالواحد والاقتراب منه بعيداً عن أية هلوسات تخص العالم المادي، فالواحد غير موصوف ولا يتجسد ولا يرى، وعلى الذهاني أن يقاوم هذه الهلوسات وأن يدعها تمر عبره ولا تؤثر عليه.
  3. التحرر اللغوي: أي انفصال الذهاني عن اللغة كذلك والقوانين التي تحكمها والسياقية التي تسمها، وأن يفصل بينها وبين دلالتها، ولأن اللغة وجدت للتعبير عن الواقع فإن الذهاني والمتصوف يعجزان عن التعبير عن تجاربهما عبرها إلا باعتبار المجاز الذي يقترب من وصف ما مرا به ولكنه لا يصفه بالتمام، فتكون لغتهما عفوية وتلقائية وتعكس اللحظة الحاضرة وخالية من المعاني المحتمة عليها، حيث يشعر السامع أنه وسط عاصفة لغوية وانفجار في الكلمات والمعاني، فتتوسع دلالات الكلمات وتعود اللغة إلى نقطة الصفر حيث لا تحتكم لأية قواعد زمانية ولا مكانية ولا سياقية، بل تحتكم إلى المصدر الخالي من الزمان والمشير أبداً إلى الأبدية.
  4. التحرر الفكري: أي التحرر من التفكير المفاهيمي أو الاستطرادي أو المنطقي، وأن يندمج المرء مع الفكرة التي يفكر بها ويصبحان جوهراً واحداً بدلاً من الفصل بينهما، وأن يحقق المرء وجوداً له خارج منظومة المعارف والمفاهيم المتعارف عليها، وأن يرتفع عن عالمه الفكري ليصل إلى وحدة وجودية مع المحيط يجعل العالم من حوله يبدو متجدداً في كل مرة.

وفي الجزء الثالث بعنوان “ضباب خفيف“، يتحدث الكاتب عن أربع حالات مشتركة بين التصوف والجنون:

  1. التوهم بالواحد: الذي تحدث فيه عن الجنون الصوفي في توهم أفلوطين حول الواحد، والذي عدَّه جوهر كل شيء والأصل الذي انبثق منه وجود الأشياء جميعاً، ويتحدث عن الواحد في انفصاله عن الزمان والمكان وعن وجوده الخالد والتجريدي الذي لا يمكن وصفه.
  2. التوهم بالكينونة: حيث يرى المتصوف والمجنون العالم بموجوداته التي تحتفظ بما يميزها، فيبدو العالم مجموعة من الأشياء التي يُشع وجودها من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى علاقات تربطها بغيرها، ويعيش الذهاني عندئذٍ كينونة مكثفة تظهر فيها تجاربه وخبراته متعاظمة الأهمية، وتكون لغته جامعة لتفاصيل عديدة دون التركيز على موضوع واحد، وقد نختبر ذلك نحن على أنه انعدام التركيز على موضوع بعينه في حين أنه تركيز مكثف على كل شيء.
  3. التوهم باللانهاية: حيث يختبر المتصوف والمجنون اللانهاية كتجربة معيشة في الزمان والمكان والوجود والفكر، فتمتد في نظرهما العناصر جميعاً ويصبح الحاضر زماناً غير منتهٍ، فتندمج الأضداد ويختبرون اللانهاية في أدق المشاعر كالخوف والمتعة والحب.
  4. التوهم باللاوجود: أي أن يختبر الذهاني اللاوجود أصلاً بدلاً من الوجود، فلا يعود أكيداً من حقيقة وجوده أو وجود العالم من حوله، بل يكتنف الغموض كل ما يحيط به، ويشير الكاتب إلى فلسفة هيدجر في ضرورة الالتفات إلى اللاوجود بين الحين والآخر لزعزعة مسلماتنا حول الوجود وحتميته المفترضة.

وفي الجزء الرابع “حمى بلورية“، يتحدث الكاتب عن التجربة الجنونية في التناقض والقداسة والخطة التي يتبعها العالم، ففي نقاط الالتقاء بين الفلسفة والجنون، تحدث عن المفارقات التي يراها شيلينج بين التفكير والوجود، وتجربة إلياد الصوفية واقترابه من الفلسفة الهندية في اليوغا، ومذكرات الفيلسوف دانيال شريبر في المصحة العقلية، والتي بينت امتزاج فلسفته بالجنون وتجاربه الذهانية، ومحاولته حل التناقض العالمي بين الأضداد المختلفة، كالوجود واللاوجود.

 تحدث الكاتب عن مفهوم المقدس لدى البشر، والذي يجعلهم يخلعون المعاني والقيم على الأشياء، ووافق تشارلز تايلور في أن الإنسان الحديث نزع هذه القداسة عن العالم وأضفاها على نفسه بحيث أصبح هو المعيار الأصل، واتسمت أفكاره بالأهمية ومكانته بالقدسية، غير أن الإنسان إذ نزع عن عالمه القداسة وأرساها على نفسه فقد ارتكب خطأ جعله يقع في حيرة تجاه هذا العالم، كيف يفهمه ويدركه ويتصوره ويقيِّمه،  لذلك نجد تايلور ينادي بإعادة دور المقدس في العلاج النفسي لتمكين المريض من فهم العالم بالصورة التي هو عليه، وينتقد الكاتب الصورة الحديثة للجنون في أنه مرض يتطلب علاجاً بدلاً من حالة وجودية فريدة تحتاج الإرشاد للوصول إلى المبدأ الأصل في الوجود.

ويتحدث الكاتب عن مفهوم الخطة الجنونية التي يملكها الذهاني في نفسه، فيرى العالم أشبه بالفيلم السينمائي أو المؤامرة، كل شيء فيه حتمي ومخطط له وظهر لسببٍ ما، وهناك سردية تحكم كل تفصيلة يعيشها، يكون الزمان أفقياً والمكان ذا عوالم متعددة لا تعني فيه المسافات شيئاً، ويبدو العالم في نظره خطة محكمة لخداعه وإخفاء حقيقة مُهمة ما، فالأحداث تلعب دوراً في الحبكة الرئيسية والشخصيات مجرد دمى ناطقة ذات وجود حتمي في القصة، كأفلام “Truman Show” و”Shutter Island” و”Inland Impire” و”The Matrix”. لهذا يشعر الذهاني أن أفعاله وكلماته تؤثر على محيطه بصورة مباشرة ومتعاظمة.

وفي النهاية، يستعين الكاتب بمجاز العناصر الأربعة التي تُشكل الكون، حيث يرتفع المرء عن الأرض ويخوض في دوامة هوائية تسمو به عالياً ودوامة مائية تجعله يغوص في أعماق البحار نحو وجود جديد، لينتهي إلى النيران التي تسوي كل شيء وتجعله متشابهاً ومكرراً، وتبقي على التكرار الوحيد المتمثل على شكل دورانٍ يخلق التناقض المفضي إلى الوحدة التي تستهلكه ثم ينفيه في آن ويخلقه من جديد. هو موقد الحياة المتجدد باستمرار.

يُعد الكتاب مرناً وسهلاً رغم مادته الطويلة والجادة، ويظل طرحه في الإطار الفينومينولوجي للوصف والتحقق، ورغم ذلك فإنَّ قراءة واحدة قد لا تكفيه، فهناك العديد من المفاهيم والتصورات التي حاول الكاتب تقديمها بصورة جيدة، غير أن على ذهن القارئ أن يكون مستعداً لاستقبالها، ولعلَّ ذلك يتحقق في قراءة بعض الكتب الخاصة بالذهان والتجارب الصوفية، والوقوف على حياة وفلسفة أهم الفلاسفة الذين شخصوا بالذهان فيما بعد.

شارك الصفحة

فلسفة الجنون قراءة المزيد »

العيش فلسفيًا: مراجعةٌ لكتاب الفلسفة طريقة حياة

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“نحن نولد مرة واحدة، ولن نولد بعد ذلك إلى الأبد، وبرغم ذلك فما تزال أنت، يا من لا حكم لك على الغد، تسوِّف بهجتك؟ غير أن الحياة تُهدر سدى في هذه التسويفات، ويموت الواحد منا ولم يعرف قط طعم السلام”

الفلسفة طريقة حياة – بيير هادو، ترجمة عادل مصطفى

كتابٌ بسيط ونافع للمُبتدئين في قراءة الفلسفة، يقف على بعض المواضيع والمُقدمات الفلسفية التي تناولت الجانب المعيشي من الفلسفة، ويقدِّم لبعض الشخصيات البارزة في هذا الجانب.

تحدث المؤلف عن الهمِّ الفلسفي الفردي، وضرورته في انتشال المرء من واقعه المرير إلى آفاق المعاني المتنوعة والنظريات البهيجة، لا سيَّما أن الظروف التي تصنع الفيلسوف عادة ما تكون بشعة وأليمة، ومن هنا، فإن الفلسفات الأولى كانت طرقاً للحياة اعتمدها البعض هرباً من تعقيد حياتهم وزيادة الجنون فيها، فظهر ما يسمى بالتدريبات الروحية التي ظهرت على شكل وصايا نفسية، يُلزم بها الإنسان نفسه لينأى بها عن الألم والخسارة، وعن التصور المَرَضي للموت الذي ينغص على الفرد حياته.

وتناول الكتاب امتزاج التدريبات الروحية بالتعاليم المسيحية، قبل أن يتناول، كمثالٍ على الحياة الفلسفية الجديرة، التهكم السقراطي الناجم عن توترٍ يُصيب العلاقة بين الجهل بالمفهوم اللغوي لدى الشخص، وبين الخبرة المباشرة التي تضعه في قلب هذا المفهوم فيعيشه واقعاً. وتحدث عن صورة سقراط في الفلسفة القديمة، فهو المتشكك المتسائل الذي لا يعرف شيئاً ولا يصبو إلى تثبيت رأي أو موقف، بل إلى طرح الأسئلة، متهكماً أثناء ذلك باللغة وحدودها المتواضعة أمام الفكر البشري، فكان موته بذلك انتصاراً للفلسفة ولتعاليمها. لذلك كانت غاية المحاورات السقراطية الوصول إلى نوعٍ من الوجود لا يمكن الوصول إليه من دون الآخر.

ثم تحدث بيير عن ضجر ماركوس أوريولوس من الحياة والملل الذي كان يعتريه للتكرار الذي بدت في نظره، فظل يؤكد مراراً على رتابة الوجود الإنساني ومسرحية الحياة التي ما تفتأ تُعيد نفسها، فيضع فلسفة جديرة للخروج من هذه الألاعيب عبر اليقظة والانتباه والتيقن من أن الموت لن يحرمنا شيئاً جوهرياً إذ يسلب منا الحياة الرتيبة، ويلفت نظر قارئه إلى التمسك باللحظة الحاضرة ونفي الحكم القيمي عن الأشياء، لرؤية العالم على ما هو عليه دون أحكام مسبقة.

كما تناول هادو في كتابه القيمة العلاجية للكتابة وكونها لا تكتفي بالتعبير عن الكاتب، بل إنها تُشكِّله من جديد في نظر غيره حتى أثناء عملية الكتابة، فهي تُلقي بصاحبها إلى الكُل المجتمعي ليُحقق من خلاله وجوداً خارجياً ضرورياً لأداء واجباته الإنسانية، ومن هنا فإنه يعدُّ الكتابة تدريباً روحياً، وفعل تطوري يحمل نفس الكاتب عبر المراحل ويسمو بها عالياً، فنفس الكاتب تتشكل بالكتابة وتتطور لتخدم الروح المجتمعية:

“فالكتابة، شأنها شأن غيرها من التدريبات الروحي، تغيِّر مستوى النفس، وتُضفي عليها الكلية. ومعجزة هذا التدريب، الذي يمارس في الوحدة، هي أنه يُتيح لممارسه أن ينفذ إلى كُلية العقل داخل حدود المكان والزمان”

ثم يركز المؤلف حديثه حول لذة الوجود لدى الرواقية وغيرها من الفلسفات، ورؤيتها للحظة الحاضرة على أنها منطوية على اللذة الوجودية العظمى التي لا يمكن للمرء أن يدركها في ماضيه أو حاضره، بل إنه يتمتع بها في اللحظة الآنية التي تُعبر عنه وتنطوي على أفعاله وأفكاره وأحاسيسه ومشاعره. لذلك فإن “فنَّ العيش” كامنٌ في قدرة المرء على التقاط اللحظة الحاضرة الحُبلى بالمعاني وتذوق لذتها في نفسه: “دَع الروح السعيدة بالحاضر تتعلم أن تبغض الانشغال بما يكمُن في البَعد”.

ثم ينتقل بيير إلى الحديث عن الاتجاه الذي نحته جميع الفلسفات في الارتفاع بالفرد عالياً عن محيطه وموقعه ومكانته، للتخلص من النظرة الجزئية له عن العالم واستبدال النظرة الكُلية بها، أي أن يملك الفرد ملاذاً لنفسه يلجأ إليه ليسمو ويعلو ويراقب من منظوره سير الحياة، وفي هذا الصدد فإنه يتناول آراء بعض الفلاسفة في أن الوجود ليس سوى فقاقيع مائية لا تلبث أن توجد حتى تنفجر فلا يعود لها أثر:

“ليس أبهج من أن يكون لديك ملاذات وطيدة آمنة، شيدتها تعاليم الحكماء، بوسعك أن تلقي منها نظرة من عِلٍ على الآخرين وتشهدهم جميعاً تائهين هائمين على وجوههم يلتمسون سبل الحياة”.

ويتناول كذلك “أنسنة” الأفراد للطبيعة من حولهم، ليرونها مُلبية لحاجاتهم ورغباتهم التي لا تنضب، الأمر الذي يحول بينهم وبين فهمهم لها ولقوانينها الذاتية وجودها المُستقل عنهم واللغة التي تُحدثهم بها، ويجعلهم أكثر اندفاعاً في حياتهم وتعاركاً وأكثر ميلاً إلى تقديس الطقوس الاجتماعية والنظم الموضوعية على الحقائق الواقعية التي تقدمها لهم الطبيعة. ومن هنا فإنه ينتقد الرؤى الفردية للعالم الخالية من “الدهشة الفلسفية” أو “اللمسة الفنية” التي ترى العالم كما هو مُستقل بجماله وكينونته.

وينتقد أخيراً الدراسات الفلسفية الحديثة التي حولت الفلسفة إلى دراسة تاريخية جامدة، أو مساقات أكاديمية جافة تخضع للقوانين والأنظمة واللوائح أكثر ما تخضع للإبداع الفردي والابتكار اللفظي، الأمر الذي كان نتيجة طبيعية لسيطرة رأس المال على مؤسسات علمية وأكاديمية، يُطلب منها في المقام الأول توفير البيئة الملائمة لبناء الإنسان الحديث، لقد كانت الفلسفة القديمة مُعبرة بالدرجة الأولى عن فنٍّ للعيش، بل كانت نتيجة هذا الفن، غير أن الفلسفة الحديثة تحولت إلى “رطانة تكتيكية مقصورة على المتخصصين”. أما الحكمة الفلسفية فيُثبت الكاتب وجودها في قدرة المرء على تحرير نفسه من رغباته وأهوائه وتحقيق وجودٍ جدير له في الحياة مع الآخرين، يحفظ له خصوصيته الفكرية ويجعله منخرطاً في الوقت نفسه في واجبات الحياة العامة.

وبهذا تكون الفلسفة تهذيب للنفس وتأديبها وعلوٌ بها إلى المراتب العليا من الوعي والفكر والعقلانية المجردة، وهي طريقة في العيش تنأى بالفرد عن سفاسف الأمور والأحكام العاطفية التي تعميه عن إدراك الجمال الكوني، بعيداً عن التلقين الجامعي لها الذي يهدف إلى حشو أدمغة الطلبة بمذاهبها وطرقها: “صعبة هي ممارسة الفلسفة ولكن الأشياء الممتازة هي دائماً صعبة بقدر ما هي نادرة”.

إنه كتاب جميلٌ ونافع بلا شك، ولعله يُقرأ مراراً.

شارك الصفحة

العيش فلسفيًا: مراجعةٌ لكتاب الفلسفة طريقة حياة قراءة المزيد »