مراجعة لكتاب استهلاك الحياة
“إن أعضاء مجتمع المستهلكين أنفسهم سلع استهلاكية، وإن كونهم سلعاً استهلاكية هو ما يجعل منهم أعضاء حقيقيين في ذلك المجتمع، أن يصبح الإنسان سلعة قابلة للبيع وأن يبقى كذلك هو أقوى دافع لمخاوف المستهلكين، رغم أنه عادة ما يكون هذا الأمر كامناً، ومن النادر أن يكون واعياً، ناهيك عن التصريح به علناً .. فأن ’يجعل المرء من نفسه سلعة قابلة للبيع‘ هو فعل ينجزه المرء بنفسه، وواجب فردي. دعونا نقدم الملاحظة التالية: إن صنع المرء لذاته، وليس مجرد أن يصبح ذاتاً، هو التحدي والمهمة. إن الفكرة القائلة بأن لا أحد يولد إنساناً بالكامل، وإن هناك الكثير مما يجب القيام به ليصبح إنساناً بشكل كامل وحقيقي، ليست من اختراع مجتمع المستهلكين، ولا حتى من اختراع العصر الحديث”
زيجمونت باومان
كتاب استهلاك الحياة لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان كتابٌ جدير بالاهتمام والقراءة المتأنية، يقف على أكثر مشاكل العصر أهمية وثقلاً، وهي تحويل الحياة إلى مجموعة من اللحظات التي يستهلك فيها الإنسان كل سلعة ممكنة، طلباً لسعادة مفترضة، وقد تناول باومان هذه القضية مناقشاً ثلاثة عناصر فيها: النزعة الاستهلاكية، مجتمع المستهلكين وثقافة النزعة الاستهلاكية.
أما النزعة الاستهلاكية فابتعد بها الكاتب عن معناها الحقيقي الضروري للوجود الإنساني، وناقش صنمية السلعة والذات الإنسانية، أي نزع الطابع الإنساني والاجتماعي منهما، وتحول السوق للمرء من مجرد فاعل في نفسه ومجتمعه إلى مفعول به بيد النظام السلعي وآليته، بما في ذلك من تسليع لذاته، فيغدو متعطشاً للاهتمام بصرف النظر عن مكنون هويته وما يمكن أن يقدمه.
وأما مجتمع المستهلكين فناقش باومان تقديسه العابرية في السلع والعلاقات والهويات، وتهميشه الديمومة والاستمرارية والبعد العميق في النفس الإنسانية، بما في ذلك سيولة الحب والعلاقات التي بات التخلي فيها عن الآخر ضرورة تواكب العصر، مع تهميش لدور المسؤولية الأخلاقية لدى الفرد تجاه شريكه.
كما تحدث الكاتب عن رسم النزعة الاستهلاكية للترتيبات في المجتمع والطبقات والفروق التي تعزز الفردية والتفرد والتميز على حساب الكينونة الحقيقية للنفس البشرية، ما يفضي إلى انعدام استقرار الرغبات ونهم الحاجات لدى المجتمع، فتكون الرغبة والإرادة منفصلتان عن المرء ومندمجتان في قوى السوق التي تسيِّرها.
وتناول باومان الزمن التنقيطي الذي ظهر ليناسب حياة السرعة والاستبدال، فغدا الزمن في ذهن الإنسان الحديث لحظات متتابعة متجددة باستمرار، لا تحمل للماضي قيمة ولا تتنبأ بالمستقبل ولا تحضِّر له، كما غدا التبذير وضخامة النفايات السلعية من مزايا العصر وتصور الزمان الحديث، خاصة بظهور النزعة السوداوية المتمثلة في الشره للأشياء دون إدراك جوهرها.
وفي التقييم الأخلاقي لمجتمع المستهلكين، انتقد باومان قياس السعادة في مجتمعاتنا بمقارنتها بغيرها من المجتمعات التي تعيش ظروفاً مختلفة، وناقش أن السرعة في تلبية الرغبات وتقصير الزمن بين الحاجة وتلبيتها لم يساهم في زيادة مستويات الرضى والسعادة بين الناس، بل تحدث عن الاقتصاد الموجه الذي بات يُنتج الخوف الذي وعد بتبديدهن وغدا مصدراً للتعاسة المتجددة، خاصة باعتماده على عدم إشباع الرغبة إلا بعد خلق بديلٍ عنها يحل محلها، ليظل إنسان العصر لاهثاً مسرعاً خلف رغباته المتجددة التي لا تنضب، والتي يحرص نظام السوق على ألا تنضب، أما المعارضة، فهناك نظام يعمد إلى امتصاصها وتسخيرها من جديد لصالح النظام.
وفي تعارض كبير بينه وبين مجتمع المستهلكين، فإن مجتمع المنتجين رفع من قيمة العمل واعتنى بالإنسان الجسد ليزج به في أرض المعركة أو بين صفوف عمال المصانع، بينما عُني مجتمع المستهلكين إلى رفع قيمة الاستهلاك والعناية بروح المرء وتسخيرها لمنفعة السوق واستهلاك منتجاته، ولأن المستهلك يرى نفسه سلعة تحتاج التسويق فإنه يشعر بالخزي من ذاته، ويسعى إلى نفي جسده وهويته في كل مرة و”الولادة من جديد” مستعيناً بتبديل هويته وآرائه ومواقفه وحتى جلده وملامحه وجسده، ليواكب قوانين العصر ومعاييره.
يرى مجتمع المستهلكين أن “من واجب المرء” أن يختار هويته وجسده في كل مرحلة من مراحل حياته، وأن عليه الانضمام إلى أسراب مختلفة، بدلاً من المجموعات، تتأكد فيها هويته المتفردة والمختارة بعناية، ويغدو فرداً في سربٍ يتماهى فيه ومعه، والذي عادة ما يكون سرباً يخص الرياضات أو الأعمال الترفيهية.
ويفترض مجتمع المستهلكين أن مسؤولية خلق المرء لنفسه تقع على عاتقه، فيتحمل، لوحده، تبعات نجاحه في الحياة أو فشله، ومن هنا تنتابه المخاوف والقلق والمشاعر السلبية لانعدام المنطق فيما فرضه عليه المجتمع: “إن الليالي التي تلي أيام الاختيارات الإلزامية مليئة بأحلام التحرر من المسؤولية”، ومن هنا فإن المرء مسؤول عن خلص تصوره الخاص عن العالم ونظامه الأخلاقي الخاص به، فيما يُدعى “بمسؤولية الفرد أمام ذاته”، لا أمام الآخر الذي نفاه وهمِّشه ولا أمام مجتمعه الذي انسلخ عنه.
يعيش مجتمع المستهلكين في حالة دائمة من الطوارئ، تسحب المرء في كل لحظاتها فلا يتبقى له الوقت للتفكير واتخاذ القرارات العقلانية، فنراه يُحدد هويته سريعاً في كل مرة بشكل مختلف، حسبما يُمليه عليه عرقه أو دينه أو ميوله أو ثقافته، ولا يحتاج الآخر في هذا الصدد إلا لغرض المصادقة على هويته الجديدة، دون اعتبار استقلالية الآخر برأيه ورؤيته.
ويختتم باومان كتابه بفصل “الأضرار الجانبية للنزعة الاستهلاكية”، مناقشاً مفهوم الضرر الجانبي اليوم كتضليل لغوي وفكري للبشاعة التي يحملها النظام والضحايا التي تُدهس تحت عجلته، فلا يتم الحديث عنها سوى على أنها مجرد أضرار جانبية “لا بد منها” أو “لم يُحسب حسابها”، ونحن هنا لا نتحدث عن فئات بسيطة، بل عن الطبقة الدنيا التي تشمل الفقراء والمرفوضين ومعارضي النظام، وكل فئة أخرجت نفسها من معادلة الاستهلاك ودعم نظام السوق، وظلت ترى القيمة في المبادئ والمواقف الأخلاقية والثبات على القيم التي رفضت تجزئتها، أي الفئة التي يدعوها نظام السوق “بالمستهلكين الفاشلين”، الأمر الذي بدأ دوامة من العنف والممارسات العنصرية والطبقية ضد “النفايات البشرية” التي يرفضها المجتمع لغرابتها عنه، إلا أنه يدفع ثمن جهله كل يوم بشتى الطرق، أهمها، انخفاض فهمه للسياسات التي تحكمه، وتضاؤل مشاركته في مواقع صنع القرار ورسم المستقبل، لتظل في أيدي المتحكمين بنظام السوق والمنتفعين من جهل العامة.
إنه كتاب ثري بالفعل، ويستحق القراءة مراراً.
مراجعة لكتاب استهلاك الحياة قراءة المزيد »