مراجعات الكتب

على المسرح: مراجعة لكتاب تقديم الذات في الحياة اليومية

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“إذ يعلم الفرد أن جمهوره قادرٌ على تكوين انطباعات سيئة عنه، قد يشعر بالخجل من فعلٍ صادقٍ حسن النية لمجرد أن سياق أدائه يترك انطباعات زائفة سيئة. وعند الشعور بهذا الخجل غير المُبرر، قد يشعر أن من الممكن رؤية مشاعره، وإذ يشعر بأنه مرئي على هذا النحو، قد يشعر أن مظهره يُثبت هذه الاستنتاجات الخاطئة حياله. وقد يضيف بعدئذٍ إلى هشاشة موقعه الانخراط في تلك المناورات الدفاعية التي كان ليستخدمها لو كان مذنباً حقاً. وبهذه الطريقة، من الممكن لنا جميعاً أن نصبح عند أنفسنا، ولوهلة عابرة، أسوأ شخص يمكن أن نتخيل أن الآخرين يمكن أن يتخيلوننا عليه. وبقدر ما يحافظ الفرد على عرضٍ أمام الآخرين لا يؤمن به هو نفسه، فإن بمقدوره أن يختبر عالماً خاصاً من الاغتراب عن الذات ونوعاً خاصاً من حذر الآخرين”

 إرفنغ غوفمان

قد يكون “تقديم الذات في الحياة اليومية” من أفضل الكتب التي ترصد الحياة الاجتماعية للبشر، وتعقيدها أمام الحياة الفردية التي يمكن أن يعيشها المرء مستغرقاً في نفسه، ففي هذا الكتاب، يشرح غوفمان الأداء المسرحي الذي نظهر به أمام بعضنا، والانطباعات التي نريد تعزيزها في نفوس الآخرين عنا، والكيفية التي يستطيع بها كلٌ منا رسم صورته الاجتماعية التي قد تكون متناقضة تماماً مع صورته كفرد عادي.

ولتوضيح الكيفية التي يلعب بها المؤدون أدوارهم في مسرح الحياة، يبدأ الكاتب في الحديث عن الانطباع الذي يريد كلٌّ منا تركه على الآخرين بحكم الدور الذي يؤطر نفسه ودوره في داخله، ورغم أنه قد يبدو متهكماً حيال دوره أو يستغرقه دوره ويستنزفه، فإنه يعتمد في كلتا الحالتين على تعريف لوضعه وإعدادٍ له يشمل البيئة المحيطة، ومظهرٍ مناسب له وأدوات ينقل عبرها الانطباع الذي يريده، وهذا كله يتطلب منه طاقة وجهداً وعناية بالتفاصيل وانتباهاً فريداً، الأمر الذي يشغله عن شخصيته الحقيقية ويخلق بينه وبينها مسافة تظل في ابتعادٍ مستمر:

“كثيراً ما يجد الأفراد أنفسهم أمام معضلة التعبير مقابل الفعل. فأولئك الذين لديهم الوقت والموهبة لأداء مهمة من المهمات على نحوٍ حسن قد لا يكون لديهم، بسبب ذلك، الوقت أو الموهبة لتبيان أنهم يؤدون أداءً حسناً”

وفي أدائه لدوره، فإن المرء لا بد أن يستند إلى “كواليس” أو خلفية وجودية له يمارس فيها دوره الطبيعي أو الأكثر حقيقة، أي الحيز الذي يمكن أن تتمثل فيه شخصيته الحقيقية وسماته وخصائصه، وهو الحيز الذي يشاركه مع غيره من المؤدين ويحتفظون فيه بأسرار الدور وكواليسه وطرق إخراجه والمبادئ الضرورية لإنجاحه وسلامته. وبقدر المثالية التي يضفيها الأفراد على أدوارهم وأدائهم، فإنها تظل هشة أمام الزلات والهفوات والأخطاء، الأمر الذي يتطلب منهم حرصاً دقيقاً لمنعها، لا سيَّما عندما يكون الجمهور مترصداً لهذه الأخطاء، يعظِّمها ويبرزها وينتقد الأفراد فيها، ومن هنا، تكون المكانة الاجتماعية تمثيلًا يؤدى بحرص وليس شيئاً يُمتلك.

وعندما يُعنى المرء بأدائه في الحياة، فإنه يرسم “واجهة شخصية” له تعبر عن وسطه وموقعه، فيعمد إلى التحقيق الدرامي لدوره ومن ثم إضفاء الطابع المثالي على دوره في المجتمع الذي يريد أن يكون جزءاً منه، فيلجأ إلى الحذر الشديد والتحكم التعبيري بنفسه ورصد حركاته وأقواله وانفعالاته ضمن صورته الجديدة التي يريد تثبيتها، غير أنه، ورغم ذلك، قد يقع في زلات وهفوات وإساءة تمثيل درامي تكشف عن بعض زيفه أو تصل منطقة الواجهة الشخصية لديه بمنطقة الخلفية التي يعيش فيها كفرد عادي.

وفي رسم المرء لصورته الاجتماعية وعنايته بدوره المسرحي، فإنه ينضم إلى فريق أو أكثر من فرق الحياة، والذي تسود فيه ملامح التعاضد بين أعضائه والاتفاق المشترك على حفظ أسرار الإخراج والأدوار، والإبقاء على الكواليس بعيدة عن أعين الجمهور، فتنشأ بين أفراده علاقات وطيدة تدعم الدور في النهاية وتعززه. قد يكون فريقاً مهنياً أو طبقياً أو فنياً وخلافه، وعندها سيتوجب عليه اتباع قانون الفريق في الحفاظ على صورته العامة وهيبته وسمعته، وهو في فريقه يتنقل بين المناطق (الواجهة والخلفية) فيتبدل سلوكه تماماً تبعاً للمنطقة ومعاييرها، كما تُبدل مضيفات الطيران سلوكهن أمام الركاب ومن خلفهم، حيث لكل منطقة قوانينها ومعاييرها الواجب اتباعها، ولكن قد يواجه المرء منطقة ثالثة متمثلة في مقابلته جمهوراً جديداً ومختلفاً أثناء مقابلته جمهوراً معيناً ومحدداً، وعندها سيتوجب عليه الفصل بينهما لتمثيل دوره على أكمل وجه أمام كل منهما.

وقد يلعب الأفراد أدواراً مختلفة في حياتهم، تخدم الفريق تارة والجمهور تارة أخرى، وتكون جميعاً مستندة إلى معرفة الفرد بأسرار الدور وطبيعته وإعداده والطريقة التي تضمن مثاليته، ففي حين يترصد فردٌ من الجمهور للأخطاء، يختار آخر إفشاء أسرار الفريق للجمهور، وآخر يستخدم حنكته لإصلاح الأخطاء والتبرير لها، وآخر يكون مختصاً بإعداد الدور وضمان الانطباع السليم عنه، وآخر يشاهد العرض وينخرط فيه واعياً بدوره لإثبات مثالية أداء الفريق، وآخر يلعب دور السمسار في التوفيق بين فريقين، وهناك من يكتفي بدور المشاهد الذي لا يُعتد برأيه ولا يؤخذ بمنظوره.

وبين أعضاء الفريق، يكون هناك اتصال خفي وضروري يضمن نقل المعلومات والإشارات في حضرة الجمهور، منعاً لاطلاع الأخير على ما يجري بعيداً عن أنظاره، كما يحدث في انتقاص الأفراد لقدر الجمهور في غيابه، وتواطؤ الأعضاء في عدم إفشاء أسرار الدور، وإعادة اصطفافهم ضمن فرق عديدة مختلفة عند مقابلتهم مختلف الطبقات والمجموعات الاجتماعية، كما يشمل ذلك حديث الأفراد عن شروط الإخراج ومبادئه.

إلا أن بعض الأخطاء تحدث بالفعل، لا سيَّما عندما يطلع أحد من الجمهور على الكواليس بفعل الصدفة أو بعد الترصد الحريص، ما يتطلب من الفريق ضرورة الإيمان بالولاء الدراماتورجي للدور وتحقيق الانضباط بينهم والاحتراس لمنع تكرار أية أخطاء سابقة، الأمر الذي يُدعى بضرورة إدارة الانطباع. أما الجمهور فيكون واعياً لوقوع هذه الأخطاء، فقد يتسم باللباقة في المسامحة والغفران والتغاضي، وقد يتبع إجراءات وقائية عديدة تمنع إيقاع المؤدين في الحرج في حضرته. ما يفسر الاضطراب الشعوري الذي يلازم الفرد في حياته الاجتماعية، مفكراً في سلامة دوره وانطباعات الآخرين، فيظل في موقف دفاعي مستمر لا يفتأ اللجوء إليه.

غير أن لحظات الاعتراف أو الصراحة تظل حاضرة عندما ينهار هذا البناء الهش، ويتمكن كلا الفريقين من الاطلاع “على عورات” الآخر، وعندئذٍ “تتكشف فجأة وبشدَّة البنية الدراماتورجية للتفاعل الاجتماعي برمَّتها، ويختفي مؤقتاً الخط الفاصل بين الفريقين. وسواءً كانت هذه النظرة القريبة إلى الأشياء تجلب العار أو تثير الضحك، فمن المرجح أن يعود الفريقان بسرعة إلى شخصيتيهما المُحددتين”.

ينطوي التفاعل الاجتماعي في حد ذاته على اضطرابات على مستوى الشخصية والتفاعل والبنية الاجتماعية، أي أن الإحراج وملامح الإذلال التي يشعر بها المرء تكون جزءاً أصيلاً منه. ومن هنا فإن السمة الأخلاقية للدور لا تكون حقيقية بل تُعد جزءاً من الأخير وتمثيلاً له، الأمر الذي يدعوه الكاتب بتجارة الأخلاق: “نحنُ كمؤدِّين تجار أخلاق. ويومنا مكرَّس للتماس الحميم مع البضائع التي نعرضها وعقولنا مفعمة بتفهمها العميق”. لذلك نظل منشغلين بهذه “البضائع” التي نعرضها وبدرجة الإقناع التي يمكننا الوصول إليها مع المشترين لها.

يشير الكاتب في النهاية إلى أن هذه الأدوار والأداءات تكون مؤقتة في الغالب، وضرورية للحفاظ على الأوضاع الاجتماعية للمرء في البنية الاجتماعية التي يعيش ضمنها، ويؤكد على أن هذه خصائص المجتمع المدني الذي يفصل بين المجالين العام والخاص فصلاً حاداً، الأمر المختلف في بقية المجتمعات، لاختلاف حدة هذا الفصل وطبيعته.

يُقدم الكاتب أطروحته مشيراً إلى أهمية المقاربة الدراماتورجية في دراسة المؤسسات الاجتماعية، وإلى أن لعبة الفرد التي يلعبها كل منا في وجوده الحقيقي والخاص تكون في العادة أكثر سهولة وأخلاقية ولباقة وصدقاً من لعبة الأداء المسرحي التي نهتم بموجبها بصورتنا في أعين الآخرين، وانطباعاتهم عنا وعن تفضيلاتنا، والتي تنطوي على تجارة الأخلاق والتصنع المستمر، وفي هذا الصدد، فهو لا يشبه الحياة بالدراما المسرحية كما هو المثل الشعبي، بل يخبرنا ببساطة أن التقنيات التي يستند إلهيا الأداء المسرحي مستمدة في الأصل من الواقع، فنحن جميعاً نلجأ إليها لتثبيت أوضاعنا الاجتماعية في منطقة ما وفريق ما، تماماً كما يعمد الممثل المسرحي إلى تثبيت وضعه أمامنا ضمن القصة التي يظهر لنا ببراعة أنه يعيشها.

شارك الصفحة

على المسرح: مراجعة لكتاب تقديم الذات في الحياة اليومية قراءة المزيد »

لا شيء معي إلا كلمات: مراجعة كتاب الكلمات وتأثيرها على العقل

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مؤسس نادي زاد للقراءة

يُعد كتاب “الكلمات وتأثيرها على العقل” للدكتور أندرو نيوبيرغ ومارك روبرت والدمان مرجعًا متعمقًا يستكشف العلاقة بين اللغة وكيفية تأثير الكلمات على العقل البشري. نقلته إلى العربية الأستاذة رفيف غدار وطُبع في الدار العربية للعلوم ناشرون.

يقدم الكتاب فهماً علمياً وأدبياً حول كيفية استخدام الكلمات ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل كأداة قوية تؤثر على هيكلية الدماغ وعملياته العصبية. ويقدم كذلك رؤية متكاملة بين علم الأعصاب وعلم النفس واللغويات. يعتمد الكاتبان في تفسيراتهما على دراسات علمية وتجارب عملية، مما يضفي مصداقية على ما يقوله الكتاب حول قوة الكلمات في تشكيل إدراكنا وسلوكياتنا.

الأساس العلمي لتأثير الكلمات على العقل

يستند الكتاب إلى فرضية أن الكلمات ليست مجرد رموز لنقل المعلومات، بل هي محفزات عصبية قوية تؤثر على التركيبة الكيميائية للدماغ. يوضح الكاتبان، من خلال تجارب علمية ودراسات تصوير الأعصاب، كيف أن الكلمات التي نستخدمها ونسمعها تؤثر على نشاط مناطق معينة في الدماغ. فعلى سبيل المثال، الكلمات الإيجابية تعزز من إفراز هرمونات السعادة مثل الدوبامين، بينما يمكن للكلمات السلبية أن تثير مناطق الخوف في الدماغ مثل اللوزة الدماغية، مما يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.

تشير الدراسات التي أوردها الكتاب إلى أن استخدام الكلمات الإيجابية يساهم في تحفيز النشاط العصبي في مناطق الدماغ المرتبطة بالرفاهية والتفاؤل. ومن المعروف أن استخدام لغة إيجابية يعزز من مستويات الثقة بالنفس ويزيد من التفاعلات الاجتماعية الإيجابية. يوضح الكتاب كيف أن هذه الكلمات تؤثر مباشرة على المناطق القشرية في الدماغ مثل القشرة الأمامية، التي تُعنى بالتخطيط واتخاذ القرارات، ويعزز هذا التأثير من قدرة الإنسان على التفكير بشكل منطقي واتخاذ قرارات مدروسة.

على الجانب الآخر، تُحدث الكلمات السلبية تأثيرًا مغايرًا تمامًا. حيث يتسبب استخدامها المتكرر في تحفيز المناطق الدماغية المرتبطة بالخوف والتوتر. تستجيب اللوزة الدماغية لهذه الكلمات بطريقة مشابهة لاستجابتها للتهديدات الجسدية الحقيقية، مما يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والإجهاد. ويشير الكاتبان إلى أن التأثير لا يتوقف على اللحظة الحالية فحسب، بل يمكن أن يكون للكلمات السلبية آثار طويلة المدى تؤثر على الصحة العقلية والجسدية للفرد، ويمكن أن تؤدي إلى تطور اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، حيث تضعف الكلمات السلبية الروابط العصبية المسؤولة عن التفاعل الاجتماعي والتعاطف.

استند نيوبيرغ ووالدمان إلى تجارب متعددة باستخدام تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) ودراسات الموجات الدماغية EEG لقياس تأثير الكلمات على مناطق مختلفة من الدماغ. تشير هذه التجارب إلى أن الدماغ يستجيب للكلمات كما لو كانت أحداثًا مادية. على سبيل المثال، إذا سمع الفرد كلمة تحمل معنى سلبيًا، فإن نشاط الدماغ يكون مشابهاً لذلك الذي يظهر عند تعرض الشخص لخطر حقيقي، وقد اكتشفا أن التعرض المتكرر للغة سلبية أو عدائية يؤثر على بنية الدماغ الفعلية، حيث يؤدي إلى تغييرات طويلة الأمد في المناطق المسؤولة عن الذاكرة والعاطفة.

أبعادٌ أخرى للتأثير

واحدة من النقاط المهمة التي تناولها الكتاب هي تأثير الكلمات على الإدراك الاجتماعي. يوضح الكاتبان كيف أن الكلمات التي نستخدمها للتفاعل مع الآخرين تؤثر على طريقة تفكيرنا فيهم وفي أنفسنا، فحين يستخدم الشخص كلمات مشجعة وإيجابية مع الآخرين، فإن هذا لا يؤثر فقط على مشاعرهم بل ينعكس أيضًا على نظرته لنفسه وقدراته. على العكس، فإن استخدام لغة سلبية أو ناقدة يؤدي إلى تفاقم العزلة الاجتماعية وتدمير العلاقات الشخصية.

في سياق أدبي، يعرض الكتاب كيفية تأثير الكلمات على العاطفة والإبداع. يذهب الكاتبان إلى ما هو أبعد من الجانب العلمي لتفسير الأثر الشعري والروائي للكلمات. الكلمة الواحدة قد تحمل معانٍ متعددة حسب السياق، وتخلق عالمًا من الإيحاءات التي تتفاعل مع مشاعر الفرد وخياله. ومن هنا، يمكن أن تلعب الكلمات دورًا في تشكيل التجارب الشخصية والفنية.

يؤكد الكتاب أن استخدام الكلمات الإيجابية والهادئة يمكن أن يكون له تأثير علاجي. في الأدب والشعر، غالبًا ما تُستخدم الكلمات لنقل مشاعر عميقة وتجارب إنسانية معقدة. يشير الكاتبان إلى أن قراءة نصوص أدبية مفعمة بالمعاني الإيجابية يمكن أن تعزز من عملية الشفاء العاطفي وتخفيف التوتر. الأدب يمكن أن يُستعمل كوسيلة لإعادة بناء الذات وتقوية الشعور بالهوية.

الأدب هو أحد أكثر الأشكال تأثيرًا للكلمات، حيث يعكس تفاعل الخيال البشري مع اللغة. يوضح الكاتبان أن الكلمات الأدبية قادرة على استحضار صور وأحاسيس في العقل بطريقة قد تكون أعمق من الكلمات العادية، فالقراءة تعزز من تدفق الدوبامين في الدماغ، مما يسهم في تحسين المزاج والإبداع. كلما تعمق القارئ في نص أدبي مليء بالخيال، كلما أصبح ذهنه أكثر انفتاحًا على أفكار جديدة ووجهات نظر مختلفة.

الذات وكلماتها

يُعنى الكتاب أيضًا بتقديم نصائح عملية حول كيفية استخدام الكلمات بطريقة تعزز الصحة النفسية والعقلية، فيكشف المؤلفان عن عدة أساليب يمكن للأفراد اتباعها لتقليل تأثير الكلمات السلبية وزيادة التأثير الإيجابي.

يشير الكاتبان إلى أهمية الانتباه إلى الكلمات التي يستخدمها الفرد في حديثه مع نفسه. الكلمات التي نوجهها لأنفسنا يمكن أن تكون أقوى من تلك التي نتلقاها من الآخرين. ومن هنا، يأتي مفهوم “إعادة تشكيل اللغة الذاتية”، أي تحويل الحديث الداخلي السلبي إلى حديث إيجابي أو على الأقل محايد. على سبيل المثال، بدلاً من قول “أنا فاشل”، يمكن للشخص أن يقول “لقد تعلمت من هذا الخطأ”. هذا التغيير البسيط يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في الصحة العقلية للفرد.

الكتاب يركز أيضًا على كيفية استخدام الكلمات كأداة تحفيزية. يعتمد الكثير من القادة والمدربين على لغة إيجابية ومشجعة لبناء فرق ناجحة وتحفيز الآخرين على تحقيق أهدافهم. يقدم الكتاب أمثلة حول كيفية استخدام العبارات الملهمة في التأثير على الأداء الشخصي والجماعي. يمكن للغة التحفيزية أن ترفع من الروح المعنوية وتزيد من الإنتاجية، سواء في العمل أو الحياة الشخصية.

من خلال استعراض تأثير الكلمات على المجتمع، يشير الكاتبان إلى أن الكلمات لا تؤثر فقط على الأفراد، بل يمكن أن يكون لها تأثيرات جماعية. في السياسة، الإعلام، والدين، تُستخدم الكلمات كأدوات للتأثير على الجمهور وتشكيل الرأي العام. يستعرض الكتاب أمثلة من التاريخ توضح كيف تمكنت بعض الشخصيات من استخدام اللغة بفعالية للتأثير على ملايين الأشخاص، سواء بشكل إيجابي أو سلبي. يشدد الكتاب على أن الفهم العميق لقوة الكلمات يمكن أن يساعد الأفراد على التفكير النقدي وتجنب التأثيرات السلبية للكلمات الخطابية.

الخلاصة:

يقدم كتاب “الكلمات وتأثيرها على العقل” للدكتور أندرو نيوبيرغ ومارك روبرت والدمان نظرة شاملة ومتكاملة حول تأثير اللغة والكلمات على العقل البشري. يجمع الكتاب بين الأدلة العلمية والتفسيرات الأدبية ليُظهر كيف يمكن للكلمات أن تؤثر بشكل مباشر على دماغنا وعواطفنا وسلوكياتنا. سواء كانت الكلمات إيجابية أو سلبية، فإنها تلعب دورًا محوريًا في تشكيل تجاربنا الحياتية، ليس فقط على المستوى الفردي بل على المستوى الجماعي أيضًا. يعزز الكتاب من أهمية الوعي باللغات التي نستخدمها ويدعونا إلى التفكير في كيفية استخدام الكلمات بشكل إيجابي وبناء لتحسين حياتنا وحياة الآخرين.

شارك الصفحة

لا شيء معي إلا كلمات: مراجعة كتاب الكلمات وتأثيرها على العقل قراءة المزيد »

الفضول

Picture of الكاتب: روز هندريكس
الكاتب: روز هندريكس

ترجمة: يارا عمار

كنت أتصفح أمازون يومًا ما، فاقترح لي الموقع كتابًا بغلاف أسود مع صورة بومة عنوانه “الفضول”. انتابني الفضول بطبيعة الحال: كتاب كامل عن الفضول؟ ماذا عساه أن يُقال؟  وبعد 45 ثانية تقريبًا كنت شرعت في قراءته. كان الكتاب ممتعًا، مليئًا بالقصص واستعراضات الأبحاث والحكايات التاريخية. كما كان زاخرًا بالاقتباسات الثرية، سواء للمؤلف نفسه أو لغيره ممن كتب عن نفس الموضوع على مر القرون، وستقوم المراجعة على هذه النقولات.

تصنيف الفضول

الفضول ليس نوعًا واحدًا، لكنه كما يذكر إيان ليزلي على ثلاثة أنواع، تتميز بناءً على السياقات التي تنشأ فيها، والسلوكيات التي تستحثها.

الفضول المشتت: وهو الانجذاب لكل ما هو جديد. يُظهر البشر هذا النوع من الفضول عند تصفّح إكس مثلًا أو تقليب قنوات التلفاز 30 مرةً في الدقيقة، وهو ليس مجرد فضول سطحي عديم الفائدة، لكنه نقطة الانطلاق التي تدفعنا لخوض تجارب جديدة والتعرف على أناس جدد، وتمهّد الطريق لنوعَي الفضول الأعمق.

الفضول المعرفي: يظهر هذا النوع من الفضول عندما يُصقَل الفضول المشتت ويتحول إلى سعي للمعرفة أو الفهم، وهو “أعمق” وأكثر انضباطًا ويتطلب جهدًا أكثر من النوع الأول حيث يهدف إلى فهم العالم. يستخدم علماء النفس مفهوم “الحاجة إلى الإدراك” مقياسًا للفضول الفكري: ذوو المستوى العالي يزدهرون ويستمتعون بالتحديات الفكرية، بينما ذوو المستوى المنخفض يفضّلون أن تكون حياتهم العقلية بسيطة قدر الإمكان.

الفضول التعاطفي: وهو الدافع لفهم أفكار الآخرين ومشاعرهم، ويمكن تحقيقه بتعلم وضع أنفسنا مكان الآخرين.

تاريخ الفضول

يأخذنا ليزلي في جولة عبر تاريخ الفضول المتقلّب على مر القرون: ففي بعض العصور كان يُنظر إليه بازدراء، ولم تحدث ابتكارات تُذكر في تلك الأوقات. وفي عصور أخرى -كعصر النهضة على سبيل المثال- انتشر الفضول التعاطفي والمعرفي انتشارًا واسعًا، مما أدى إلى طفرة ثقافية.

وما زال الرأي العام حول الفضول متضاربًا حتى الآن: فنحن نحذر ونقول “الفضول يقتل صاحبه”، ونصف الشخص بأنه فضولي عندما يتصرف بغرابة، ونركز في التعليم على المهارات العملية أكثر من أي شيء. وفي الوقت ذاته تجد سوقًا لبيع مثل هذه الكتب التي تشيد بهذه السمة، بل تزعم أن “حياتك تعتمد عليها”.

كيف يؤثر الإنترنت على فضول المجتمع؟ يوفر الإنترنت ثروة من المعلومات في متناول أيدينا حرفيًا، مما يتيح للفضوليين بطبيعتهم البحث والاستكشاف بلا حدود، وهو ما يفعله الكثير. لكن الذين لديهم مستوى أقل من “الحاجة إلى الإدراك” قد يستخدمون الإنترنت بطريقة تكبح فضولهم، وهو ما يفعله الكثير أيضًا. يمكن عادة الإجابة على أي سؤال: مَن/ما/متى/أين، بكتابة عبارة موجزة على جوجل، والنقر على نتيجة البحث الأولى دون قراءتها، والمرور سريعًا على جملة أو اثنتين من صفحة الويب. هذا النوع من البحث عن المعلومات لا يتطلب جهدًا، وبالتالي فلا ينشّط العمليات العميقة المرتبطة بالفضول الحقيقي. يكرر ليزلي هذا الموضوع كثيرًا: على الرغم من الإمكانات العظيمة التي يوفرها الإنترنت لتوسيع آفاقنا وتبادل أفكارنا بسرعة غير مسبوقة، فإنه -إن لم نحذر- قد يقمع فضولنا مما يلحق بالمجتمع ضررًا بالغًا.

تشبيهات الفضول

الأحاجي والألغاز: ينسب ليزلي هذا التمييز إلى غريغوري تريفيرتون الخبير في الأمن والاستخبارات. يقول إن بعض المشكلات كالأحاجي:

“لها إجابات محددة… ومنظمة، لها بداية ونهاية. وبمجرد اكتشاف المعلومات المجهولة، فلا تعد أحجية بعد الآن. يُستبدل الشعور بالرضا بالإحباط الذي أصابك وأنت تبحث عن الإجابة. أما الألغاز فهي أشد غموضًا وأقل ترتيبًا، إذ تطرح أسئلة لا يمكن الإجابة عليها إجابةً قاطعة لأن الإجابات تعتمد غالبًا على مجموعة من العوامل شديدة التعقيد والتداخل، وقد تكون معلومة أو غير معلومة… الأحاجي تسأل غالبًا عن الكم أو المكان، أما الألغاز فتسأل عن السبب أو الكيفية.”

فقراءة رواية بوليسية أحجية أيضًا، لأنه بمجرد الانتهاء منها تعرف مَن فعل ماذا وتحَل المشكلة. أما رواية مثل (غاتسبي العظيم/ The Great Gatsby) فهي لغز لأنها تجعلك تفكر في أسئلة ليس لها إجابات محددة، مثل الطابع الحقيقي للحلم الأمريكي.

يُنسب إلى الشاعر اليوناني أرخيلوخوس فكرة أنّ “الثعلب يعلم أشياء كثيرة، أما القنفذ فيعلم شيئًا واحدًا مهمًا” ومن هنا يشجعنا ليزلي على الجمع بين صفتَي الثعلب والقنفذ، فهذا هو الحل الأوسط لمسألة ما إذا كان الأفضل أن نكون مثقفين بوجه عام، أم خبراء في مجالات محددة.  ينتج عن الجمع بين الأمرين معرفةً يمكن تشبيهها بشكل الحرف T: يمثل الجزء الأعلى منه المعرفة السطحية، والجزء الآخر العمودي والطويل والنحيل يمثل المعرفة المكثفة في مجال واحد على الأقل. بعبارة أخرى “المتعلمون الفضوليون يتعمقون ويتوسعون.”

مرونة الفضول

يؤكد ليزلي أن “فضول الإنسان حالة أكثر من كونه سمة”. ذلك يعني أنه رغم أننا نولد بدرجات مختلفة من “الحاجة إلى الإدراك”، فإن الفضول يتأثر ببيئتنا المحيطة بشدة.

للأسئلة أهمية بالغة لأنها إحدى أدوات اكتساب المعرفة. قد يبدو طرح الأسئلة قدرةً أساسية، إلا أنه في الواقع يتطلب عددًا من المهارات المهمة: يجب أن تعرف أنّ هناك أشياء لا تعرفها، وأن تكون قادرًا على تصور احتمالات مختلفة لما لا تعرفه، وأن تدرك أنّ الآخرين مصدر من مصادر المعلومات. يسأل الطفل بين عمر الثانية والخامسة نحو 40000 سؤال توضيحي. وعندما يتحدث الكبار مع الأطفال ويسألونهم بأنفسهم، يبدأ الأطفال في طرح المزيد من الأسئلة. المغزى من كل ذلك أن طرح الأسئلة على الأطفال يحفزهم على التساؤل أكثر، وهذا إلى جانب اكتساب المعرفة يعلّمهم أن هذا الاستفسار سلوك مثمر.

أهمية الفضول

الفضول يعزز الابتكار. أصبحت أجهزة الحاسوب الآن أذكى من البشر في مهام كثيرة، إلا أنها ليست فضولية، ولهذا السبب يقول ليزلي:

“سيزداد الطلب على الشخص الفضولي بحق. يبحث أصحاب العمل عمن لا يقتصر على مجرد اتباع الإجراءات بكفاءة أو الاستجابة للطلبات، يبحثون عمن لديه رغبة داخلية قوية في التعلم وحل المشكلات وطرح الأسئلة النافذة. قد يصعب إدارة هؤلاء الأشخاص أحيانًا بسبب اهتماماتهم وحماسهم الذي ربما يقودهم إلى مسارات غير متوقعة، وصعوبة توجيه تفكيرهم، إلا أنهم يستحقون الجهد المبذول معهم في الغالب.”

لماذا يتفوق الفضوليون في الابتكار على غيرهم أو على أجهزة الحاسوب؟ لأنهم يتميزون “بقدرتهم الفريدة على إقامة روابط إبداعية بين مختلف المجالات، مما ينتج عنه أفكار جديدة.”

تعرف أنجيلا داكوورث مفهوم grit/ المثابرة بأنه: “القدرة على التعامل مع الإخفاق، والتغلب على العقبات، والتركيز على الأهداف بعيدة المدى”، ثبت أنّ هذا المفهوم مؤشر أساسي من مؤشرات النجاح في جميع مناحي الحياة. سمعت مرةً أستاذين جامعيين يتحدثان عن أنجح طلاب الدراسات العليا، ويقولان إنهم هم الذين يتمتعون بالمثابرة، وقد ظلت محادثتهما تدور في ذهني نحو أسبوع أو أكثر.  إن المثابرة والفضول صفتان متلازمتان: فإن كنت فضوليًا فستستمر في التعلم والاستكشاف حتى بعدما تعرف ما أردت تعلمه في البداية. وإن كنت مثابرًا فستواصل المسير حتى وإن ظهرت العوائق في طريقك وازداد الهدف الذي تسعى له صعوبةً.   

حتى تكون فضوليًا لا بد أن يكون لديك أساس من المعرفة. يرى جورج لوينشتاين أنّ الفضول ينشأ من إدراك وجود فجوة في المعلومات: عندما تعرف بعض الأمور عن موضوع ما، ثم تدرك أنك لا تعرف كل شيء، لكن يمكن تعلم المزيد. وهكذا تنشأ حلقة إيجابية رائعة: كلما تعلمت أكثر، زادت رغبتك في التعلم.

 المصدر

شارك الصفحة

الفضول قراءة المزيد »

اختيار الجنون: مراجعة لكتاب: عشرة أيام في نزل الجنون

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مؤسس نادي زاد للقراءة

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو كتاب من تأليف الصحفية الأمريكية نيللي بلاي (Nellie Bly)، التي تُعد واحدة من أوائل الصحفيين الاستقصائيين في الولايات المتحدة.

ترجمه إلى العربية عواطف الجاروف وطُبع في دار منطاد.

نُشر الكتاب لأول مرة في عام 1887 كمجموعة من المقالات التي كتبَتْها بلاي لتوثيق تجربتها الشخصية داخل مستشفى بلاكويل آيلاند للأمراض العقلية، حيث قامت بالتظاهر بأنها فاقدة للعقل لتتمكن من الدخول إلى المستشفى ومراقبة أحوال المرضى عن قرب. يُعتبر هذا العمل من أهم الأعمال الصحفية الاستقصائية في القرن التاسع عشر، وقد ساعد بشكل مباشر في إحداث تغييرات كبيرة في نظام رعاية الصحة النفسية في أمريكا.

كانت نيللي بلاي صحفية شابة عندما قررت أن تقوم بهذه المهمة الجريئة. كانت قد التحقت بجريدة نيويورك وورلد، ولها طموح كبير في تغطية القصص التي تتجاوز العناوين اليومية البسيطة. في وقت كانت فيه النساء نادرًا ما يتم منحهن فرصًا للقيام بتحقيقات استقصائية، نجحت بلاي في إقناع رؤسائها بإرسالها في مهمة خطيرة ومثيرة تتمثل في التظاهر بأنها فاقدة للعقل لدخول مستشفى للأمراض العقلية في جزيرة بلاكويل، والتي كانت معروفة بسوء معاملتها للمرضى. كان هدفها كشف الظروف البشعة التي يعيشها المرضى وكشف الإهمال الذي يعانونه.

في الداخل:

بدأت بلاي رحلتها بتعلم كيفية التظاهر بأنها فاقدة للعقل. تدرّبت على التعبير عن جنون وهمي، حيث بدأت تتحدث بشكل غير مفهوم وتتصرف بطريقة غير مألوفة. وفعلاً، بعد سلسلة من الاختبارات الطبية السطحية والمقابلات مع أطباء لم يأخذوا الوقت الكافي لتقييم حالتها النفسية بشكل دقيق، تم إدخالها إلى مستشفى بلاكويل. هذه المرحلة تُظهر بوضوح مدى ضعف الفهم الطبي للأمراض العقلية في ذلك الوقت، وكيف كانت عملية تشخيص الأمراض العقلية غير دقيقة وتعتمد على المظاهر الخارجية.

كانت تجربة بلاي داخل المستشفى صادمة. بمجرد دخولها، بدأت تلاحظ أن الظروف التي يعيشها المرضى لا تتماشى مع أدنى معايير الإنسانية. كان المستشفى مكتظًا، والطعام الذي يُقدّم للمرضى سيئًا لدرجة أنه بالكاد يمكن تناوله. كما كانت المياه التي يشربونها غير نظيفة ومليئة بالملوثات. المرضى كانوا يُتركون دون أي رعاية طبية حقيقية، بل كانوا مُجردين من إنسانيتهم ويتعرضون لإهمال قاسٍ.

كان أحد أكثر الجوانب التي هزت بلاي هو معاملة الطاقم الطبي والممرضات للمرضى. بدلاً من تقديم الرعاية أو المساعدة، كان المرضى يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي بشكل يومي. الممرضات كنّ يصرخن في وجه المرضى، ويعاملوهم بقسوة بالغة، ويضربونهم في بعض الأحيان. أما المرضى الذين حاولوا الاعتراض على هذه المعاملة، فكانوا يُعزلون تمامًا ويُتركون في حالة من العزلة المدمرة. كانت البيئة مليئة بالخوف والترهيب، مما زاد من معاناة المرضى وعمّق شعورهم بالعجز.

عزلةٌ وإقصاء:

أحد الجوانب الأكثر تدميرًا في حياة المرضى هو العزلة التامة التي كانوا يعيشون فيها. لم يكن يُسمح للمرضى بالتحدث مع بعضهم البعض، وكانوا يُجبرون على البقاء صامتين طوال اليوم. هذا التجريد من القدرة على التواصل البشري أدى إلى تدهور حالتهم النفسية بشكل أسرع. حتى نيللي، التي كانت تعرف أن إقامتها ستكون مؤقتة، شعرت بالأثر النفسي السلبي لهذه العزلة، حيث بدأت تفقد الإحساس بالوقت والشعور بالواقع.

لاحظت بلاي أن العديد من المرضى الذين يعيشون في المستشفى لم يكونوا يعانون من اضطرابات عقلية حقيقية. البعض كان قد أُدخل إلى المستشفى لاعتبارات غير مبررة مثل كونهم فقراء أو غير مرغوب فيهم من قِبَل عائلاتهم. في بعض الحالات، كانت النساء تُدخَلن إلى المستشفى فقط لأنهن تصرفن بطريقة غير تقليدية أو لأنهن ببساطة لم يكنّ مرغوبات من المجتمع. هذه الاكتشافات أظهرت إلى أي مدى كانت الأمراض العقلية تُستخدم كذريعة لعزل الأشخاص غير المرغوب فيهم عن المجتمع.

في الخارج:

بعد مرور عشرة أيام داخل المستشفى، شعرت نيللي بلاي أنها جمعت أدلة كافية على الظروف المروعة. استدعت محامي الصحيفة الذي تدخل لإنقاذها من هذه التجربة القاسية. كانت قادرة على العودة إلى حياتها الطبيعية، ولكن تأثير هذه التجربة لم يكن مؤقتًا. عند خروجها، قامت بنشر تجربتها في سلسلة من المقالات التي هزت المجتمع الأمريكي وجعلت القراء يشعرون بالصدمة والغضب تجاه المعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها المرضى.

كان لكتاب “عشرة أيام في نزل الجنون” تأثير كبير وفوري. بعد نشر المقالات، شُكّلت لجنة تحقيق حكومية للنظر في الأوضاع داخل مستشفيات الأمراض العقلية. اكتشفت اللجنة العديد من الانتهاكات التي وثقتها نيللي بلاي وأوصت بإجراء إصلاحات عاجلة. تم تحسين ميزانية المستشفيات، وجرى توظيف طاقم طبي أكثر تأهيلاً، كما تم تحسين ظروف الإقامة وتقديم الرعاية الصحية بشكل أفضل.

الرسالة الأساسية التي تحملها تجربة نيللي بلاي هي أن الجنون ليس بالضرورة مرضًا داخليًا يُعاني منه الأفراد بقدر ما هو حالة قد تخلقها البيئة القمعية التي يُحتجز فيها الناس. البيئة القاسية، الإهمال، وسوء المعاملة قد تجعل من أي شخص سليم نفسيًا مريضًا بسبب العزلة والضغوط النفسية التي يُوضع فيها. الكتاب يُظهر أن الجنون قد يكون نتيجة لسوء معاملة المجتمع للأفراد المختلفين أو الضعفاء.

من خلال تجربتها، لم تقم نيللي بلاي فقط بكشف العيوب في نظام الصحة العقلية، بل طرحت تساؤلات أعمق حول كيفية تعامل المجتمع مع الأشخاص الذين يُعتبرون غير ملائمين. هل نعتبرهم مرضى لأنهم مختلفون؟ أم أن المرض الحقيقي يكمن في الطريقة التي يُعزل بها هؤلاء الأشخاص ويُعاملون على أنهم أقل إنسانية؟

إضافة إلى إلقاء الضوء على النظام العقلي، انتقدت بلاي النظام الطبي ككل. خلال تجربتها القصيرة في مستشفى بلاكويل، اكتشفت أن الأطباء كانوا متسرّعين في التشخيص والخروج باستنتاجات دون النظر بعمق في حالة المريض أو إجراء فحوصات دقيقة. هذه المعاينة السطحية لأعراض المرضى تُظهر فشل النظام الطبي في تلك الفترة، حيث كان الأطباء غير مهيئين للتعامل مع المرضى بطريقة إنسانية أو علمية.

الخلاصة:

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو أكثر من مجرد قصة عن التحقيق الصحفي؛ إنه دعوة إلى الإنسانية والإصلاح. من خلال شجاعة نيللي بلاي، نرى كيف يمكن لشخص واحد أن يحدث تغييرًا كبيرًا في المجتمع. الكتاب يسلط الضوء على قضية لا تزال مهمة حتى اليوم: كيفية التعامل مع أولئك الذين يعانون من اضطرابات عقلية، وكيف يجب أن نعيد التفكير في الأنظمة التي تسيء إليهم بدلاً من مساعدتهم.

شارك الصفحة

اختيار الجنون: مراجعة لكتاب: عشرة أيام في نزل الجنون قراءة المزيد »

أبو العيناء: سيرةُ ضريرٍ صلف اللِّسان

قبل سنتين من الآن كنت مكبًّا على قراءة كتابٍ سَنِيٍّ يُعدُّ من أطايب التراث العربي الإسلامي؛ وأعني: “البصائر والذّخائر” لفيلسوف الأدباء أبو حيان التوحيدي. وكان مما لاحظته في هذا الكتاب الفخيم تكرُّرَ اسمٍ في مضمار ذكر التوحيدي لحفنةٍ من الطرائف المسلية والنوادر اللطيفة التي تبثُّ الحبور في النفس، وتُلطّفها، وتبعث في الصّدر عزيمةً وإرادةً كبيرتين على مواصلة الغور في هذا الكِتاب الدسم. وهذا الاسم كان هو أبو العيناء.

بحثت في الشبكة العنكبية فوجدتُ تعريفًا يختزلُ سيرته، وبعض المقالات المتناثرة التي عرفتُ من خلالها أنّه يوجد ديوانٌ يتيم جمع أشعاره المرصّعة بالأساليب البلاغية والمشبّعة بالحِكم التي تنمُّ عن خبرةٍ عاليّةٍ ببلاوى الدّهر وتصاريف الأحوال، وتشي أيضًا بمعرفة واسعة بطباع الناس سواءً أكانت محمودة ومستحبة، أو مذمومة يتكرّه منها كلّ من ملك النّزر اليسير من التعقُّل، ويُنبئ هذا الديوان بأنّ صاحبه ناثرٌ سجّاع وشاعرٌ جدلٌ، بيِّنُ الإشارة ودقيق العبارة، يُجيدُ التلاعب باللفظين: الجزل والشائن، وتلك مزيّةٌ لا نجدها عند غالبية الكُتَّاب في التراث.

انصرمت الشهور ولم أجد هذا الديوان إلى أن ساقتني الأقدار فعثرتُ عليه صدفةً في إحدى المكتبات الجامعية العربية، فكان ذلك اليوم بمثابة عيدٍ عندي، وصار لساني يلهجُ بالقول الذي قرضهُ الشّاعر: “هذا هو العيد فلتصف النفوس به وبذلك الخير فيه خير ما صنعا”. وحدها الكتب النادرة والمكتظّة بالنُّضرة والألق من تستحقُّ أن يُنشد عنها هذا البيت الشِّعري.

عكفتُ عكوف الزاهد على قراءة هذا الديوان الصغير الذي يمتد على مساحة 144 صفحة من القطع الكبير، وقد أسدى المحقق الجليل أنطوان القوّال خدمةً جليلة للتراث العربي الإسلامي حينما اعتنى بتحقيقه والتعليق عليه. وجدتهُ ديوانًا كيّسًا، مرتَّبًا، ومليئًا بالأشعار الحكيمة المتأرجحة بين اللغة الفتّانة، وحينة أخرى يبدو صاحبه وكأنّه مهتجسٌ بالحكمة والقضية أكثر من الاهتمام باللغة؛ فتصيرُ هذه الأخيرة متنابذة مع التي سبكَ بها أشعارًا أخرى؛ بيد أنَّه بالرغم من ذلك لا يقع في مصيدة الإملاق الجمالي. أفرد المحقق قسمًا كاملًا لكتاباته الشّعرية التي تنبئ بأنّ صاحبها كان حصيفًا على بينةٍ من الأمور، مرتَّبَ الأفكار، ذليق اللسان لا يُهادن من تجرَّأ عليه، وصريحًا متبرِّمًا من الختل والمخادعة، لا يستحبُّ إلّا الصدق والإيثاق، وإن أحبَّ شخصًا تودّد إليه، وإن كره آخر غمرهُ بالقول البذيء ولفَّه بالعبارات المنحطة المنتقاة بعناية فائقة من قاموس الكلام المقذع. وأمثال أبو العيناء هم في انقراضٍ متواصل؛ إذ عمَّ زمننا الضّنين هذا وبشُ القوم البارعين في المداهنة والمماذقة والتزلف، لا يفترون عن إظهار المحاسن قصد بلوغ مآرب ذاتية وبعدها يتلونون مظهرين كومةً من المقابح التي لا تماري في أنْ يستبشعها كلُّ عاقلٍ سويٍّ.

انطوى هذا الديوان على ثلاثة أقسام: الأول كان في غاية التكثيف والاختزال؛ إذ روى فيه المحقِّقُ سيرة أبو العيناء وتنقله من الأهواز التي تعرَّف فيها على الوجود، ثم انتقاله إلى البصرة التي عاش فيها ردحًا من العمر قبل أن يُداهمه فيها المنتصرُ على الإنسان دائمًا: الموت. تتلمذَ على يد أساتذة أجلاء وشعراء لامعين من قبيل: الأصمعي، وكان ضريرًا يُعاني وَبيْلَ الاحولال، يرتحلُ في درب الحياة متكئا على حكمتهِ وفصاحته وملاحة عبارته، ومستندًا أيضًا على رجاحة عقله وأحوذيّته البائنة وسلاطة لسانه التي كان يخشاها ناسٌ كثرٌ ومن بينهم علية القوم.

فالخليفة العباسي العاشر المتوكّل كان من بين الذين احتووا أبا العيناء واهتمّ به وأغدق عليه بجوده وجعله زاهيًا في قصره، غير أنّه كان دائمَ التوجس من قوة لسانه؛ فالقوة هنا ليست كناية على الفصاحة والبلاغة وحسن القول، بل توجسه كان من البذاءة وصفاقة القول. نقرأ في هذا المضمار ما ورد في ديوان أبو العيناء:

“لمَّا أُدخلتُ على المتوكل عابثني جلساؤه فلما برزت عليهم قال المتوكل: ادفعوا إليه عشرة آلاف درهم اتقاءً للسانه. فقلت: قد قتلتني والله يا أمير المؤمنين. قال لي: ويحك، وكيف ذلك؟ قلتُ: لأنَّ من خِفتهُ لا يعيش. فقال: ليس خوف فَرَقٍ، ولكن خوف صيانة”.

ولعل الباعث على الانذهال في سيرة أبو العيناء هو أن أساطين النثر العربي المائزين الذين نُصِّبوا في مصاف ألمع من طوَّع اللغة العربية وتلهوا بها هم أيضًا وجدوا أنفسهم خانعين أمام صريمة لسان أبو العيناء، وأضرب هنا من باب التمثيل حكايته مع الجاحظ؛ حيث قزَّم منزلة هذا الأخير أمام الناس وجعلهُ عاجزًا عن مجاراته بعدما طنزَ صاحب كتاب “البُخلاء” من العاهة التي يُعاني منها أبو العيناء:

“قال الجاحظ مقابلًا بين اسمي الرجلين وكنيتهما ولقبيهما: علمتُ أنّ أبا القاسم أحسن من عمرو بن بحر، وأنّ أبا عبد الله أحسن من أبي عثمان. ولكن الجاحظ أحسن من أبي العيناء. فقال هذا الأخير: هيهات. جئت إلى ما يخفى من أمورنا ففضّلتني عليك فيه، وإلى ما يُعرف، ففضّلت نفسكَ فيه. إنّ أبا العيناء يدل على كنيةٍ، والجاحظ يدلُّ على عاهةٍ. والكنية، وإن سمجت، أصلحُ من العاهة، وإن ملحت”.

هذه الصلافة التي طبَعت لسان أبي العيناء جعلته يظفر بنعت “الوقح”؛ إذ لم يسلم منه أحد، وكان لسانه يقطرُ بالعبارات الجامعة للألفاظ المُسكتة والنّاسفة لمنزلة للآخر، وقد ردّ على من نعتوه بذلك قائلًا:

“أمَا علمتم أنّ للحياء شرائط ليست معي واحدة منهن؟ أولهنّ العين، ولستُ أبصرُ، والثانية اجتناب الكذب، وأنا من رهط مسيلمة الكذاب، والثالثة أنّ النبي محمد قال: الحياء من الإيمان، فأيُّ إيمانٍ ترون معي؟”.

والقسمين الثاني والثالث خُصِّصا لشعره الذي كان في مجملهِ ردًّا على أناسٍ زاحموا أبا العيناء وكلَّفهم ذلك سماع قوله القميء والمستهجن، ثم لأخباره الطريفة ونوادره المستظرفة مع الخليفة المتوكل والقضاة وكتّاب الدواوين وأفناء البشر أيضًا.

اجتمع في نوادر أبي العيناء ما تفرق في غيرها؛ إذ زاوج بين البصيرة الثاقبة في النظر إلى أمور الحياة وبين الحكمة في التصرف، وجمع بين رقّة البيان وفخامة المعنى وطراوة اللفظ والقدرة الهائلة على التفكُّه والتندر وبين الجلافة وجهامة اللسان، وامتلك أيضًا مقاليد الحكي والتناظر؛ إذ كان يروي مروياته وأخبار الآخرين باستحكامٍ كبير يبيّن براعته في التنقل الرشيق من واقعة لأخرى، وكان يرمي من ذلك تلطيف الجو وجعل القلوب مغتبطة، لذلك نالَ باقتدار صفة: فاكهة مجالس ندمائه وخلّانه.

فضلًا عن أنه كان يردُّ بأجوبةٍ مسكتة في غاية العجل لا تخفى على كلّ من حاول التصغير منه أو التطاول عليه أو المسّ بتوقيره، فكلّ من ارتأى أذيّته فقد حكم على نفسه بسماع ما قد لا يستحسنهُ، ولربما يصل الأمر بأبي العيناء إلى لسع الآخر بقوارص الكلم وقول عبارة جارحة تقصمُ ظهره وتنغرسُ في صدره آبيةً أن تبرحه بعدما تعجزُ السّنون على انصرامها على تذويبها. وهذا تأكيدٌ وتشاكلٌ مع ما ورد في كتاب البصائر والذخائر: “جرحُ اللسان أعمقُ من جرحِ اليد”. يُقرُّ ياقوت الحموي في مصنّفه الرّحيب بذلاقة وعذوبة قول أبو العيناء وسطوة لسانه. قال عنه: “وكان فصيحًا من ظرفاء العالم، آيةً في الذّكاء واللسن وسرعة الجواب”.

هل القوّة التي توفّرت في لسان هذا الأديب الظريف هي تعويضٌ على الفقد الذي حلّ بعينيه؟ ألم يذكر الماوردي في كتابه أدب الدّنيا والدّين “أنّ “العينان أنمُّ من اللسان”؟ هل للسان مقدرةٌ تفوق العين؟ الجواب على الأرجح يقتضي الكثير من الحذر لأنّ التسليم بحكمٍ قطعي هو مُجازفةٌ حقيقيّة. يظهر من خلال تجربة أبي العيناء الذي عاقره الضرُّ في عينيه أنّه لم يستسلم لهذا الداء الوبيل بل جابه تقلُّبات الحياة وعرف كيف يُعوّض هذا الفقد الذي لحقه، وانكبَّ على الأدب شعرًا ونثرًا، حفظًا وقرضًا، ونهل من تراث القدامى، وعرف طرائفهم وأخذ يرويها بسخاء، وحينة أخرى يستدعي قدراته التخييلية ليبتدعَ قصصًا لم يقرأها في أيّ مصنفٍ من ذي قبل، وهذا ما منحه التميز والتفرد، وجعل كثيرين من الساسة والمسؤولين على الرعية أن يغمروه بالعطف والحدب، ويجعلوه متطامنًا في أحضانهم، ليستغلّ الفرصة وينشر الفرح في الندماء وكلّ من حظيَّ بمُجالسته.

والأمتع أنّ أبا العيناء صار هو والطّرائف مترادفين؛ إذ لا يكاد يمرُّ يومٌ ولا يُصادفُ شخصًا فيُساجله ويفحمه بعباراته الوجيعة-المضحكة-المسكتة التي تُظهر سرعة البديهية عنده وأنّه غير فدمٍ يُعاني ثقل الفهم وعسر الاستيعاب؛ فيرتقي الحادث إلى مرتبة طرفة تروى عنه. لنأخذ من باب التمثيل بعض الطّرائف عنه: “قالتْ قينةٌ لأبي العيناء: هبْ لي خاتمك وأذكرك به. فقال لها: اُذكري أنكِ طلبته منّي ومنعتُكِ”، ونجد في موقعٍ آخر من الدّيوان: “مرَّ أبو العيناء يومًا بباب عبد الله بن منصور، وكان يكرهه. وكان عبد الله مريضًا، وقد صحَّ. فسأل غلامهُ: كيف خبره؟ فقال: كما تُحبّ. فقال أبو العيناء: ما لي لا أسمع الصراخ عليه”! وذات مرّة تبجّحَ أبو العيناء على قينةٍ بفطنته المتّقدة وصفاء لغته وفشو اسمه في صفوف القاصي والداني، فلمّا رأته استقبحت منظره، وتحاشته، فكان ذلك أن هيّج بداخله الغضب إزاء تصرفها ذاك وقرضَ في وجهها البيتين الآتيين:

“وشاطرةٍ لما رأتني تنكَّرتْ   وقالت: قبيحٌ أحْوَلُ ما له جسمٌ

فإنْ تُنْكِري منّي احولالًا فإنني   أديبٌ أريبٌ لا عييٌّ ولا فَدْمٌ”.

لمّا سمعت القينة هذين البيتين شرعت في إحباط عُنجهيته تلك بقولٍ لم يتوقعهُ على الإطلاق: “إنّي لم أردكَ أن أوليّك على ديوان العراق”.

لقد كان أبو العيناء يُواربُ الحياة العصيبة بالسخرية والتندر وكأنّه اتخذهما دواءين لداءين عاصفين هما: العَمى، والحمد لله أنّه عانَى العمى العُضويّ، ولم يكن عَمِهَ البصيرة مثل كثيرين في هذا الزمن، والفرق بينهما بائنٌ لا يخفى على أحدٍ. والداء الثاني هو أنّ شظف العيش كان ينهشهُ ولم يعرف سبيلًا إلى الرفه ورغد الحياة إلّا حينما عانقته الشُّهرة وصار يُشار إليه بالبَنان؛ فأخذه بعض الوزراء والقضاة للعيش تحت كنفهم، وقبل ذلك عاش في قصر المتوكل ليتنعم ببحبوحة العيش، ولكي يُجابه كلّ هذا البؤس الذي عمَّر في حياته نزع إلى السخريةوالتي تظهر بشكلٍ أوضح في الرسالة الآتية التي بعثها إلى صديقٍ له تقلّد مهمةً جسيمة، والحقُّ أنّها رسالةٌ كانت عامرةً بالتلميح العابر والسّريع والملغوم وفعل أبو العيناء ذلك مُحتميًا بأحابيل اللغة التي منحته فسحةً شاسعة للنّط على الترميز والإيماء المُحتاجين للتروّي والتبصُّر لاستكناه مرامي أبا العيناء:

أمّا بعد فإنّي أعظكَ بموعظة الله تعالى، لأنّك غنيٌّ عنها، ولا أخوِّفك إيّاه لأنك لا تخافهُ… واعلم أنّ الخيانة فطنةٌ والأمانة خرقةٌ، والجمعُ كيسٌ والمنع صرامةٌ، فاذكر أيام العُطلة في حال الولاية، ولا تحقرن شيئًا صغيرًا فالذود إلى لذود إبل، والولاية رقدة، فتنبّه قبل أن تنبَّه… وما هذه الوصية كما أوصى به الحكماء، ولكنّي رأيتُ الحزم في أخذ العاجل وترك الآجل”.

كيف كان سيعيشُ أبو العيناء لو لم يكن لوذعيًا قويمَ اللسان، طريّ اللفظ، بديع العبارة، سيئ اللسان، ألمعيًا في السّرد والنثر والشِّعر، دؤوبَ السعي إلى إطراب ندمائه بالنوادر والطرائف المُبيدة للهمّ والغمّ، ميالًا إلى السخرية والتفكه، مقبلًا بشكلٍ ظاهرٍ على الحياة غير متبرمٍ منها رغم أنّه فاقدٌ لنعمة البصر وكأنّه كان بهذا الإقبال يُطبِّقُ وصيَّةَ الكِندي في رسالته الشهيرة “في الحيلة لدفع الأحزان” التي قال فيها: الحزن والسرور ضدان لا يثبتان في النفس معا… فينبغي إذن أن لا نحزن على الفائتات ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضيةً بكل حالٍ، لنكون مسرورين أبدًا“؟. على الأرجح إنّه كان سيظلّ ضريرًا حاردًا على وضعه، ومعانقًا الفاقة وضيق الحال والتكفف، وسيصطبر مضطرًا على تكالب الدهارس عليه، ولن يحظى بالمساناة التي من شأنها أن تشمله بالبهجة، ولن يظفر بأكلٍ باذخ على سفرةٍ تسلبُ العقل واللب، أو ينال بدنه سمتًا حسنًا، أو يحتويه مكانٌ يكون مرتعًا للوسن حينما يستحليه ويقيه نكزات الشمس والصَّرَدِ. لا غرو إذا قلت إن هذه الحظوة التي سَعِد بها أبو العيناء جرّت عليه طائفةً من الحسدة الذين تمنوا لو كانوا مكانه، وخامرتهم مأربة أن يبعدوه عن قصر الخليفة المتوكل، وهذا ديدن الحُسَّاد؛ إذ كلّما حسدوا امرأ روّجوا عنه الافتراءات، وحاكوا له المكائد والدسائس، ومضوا في تشويه سمعته وجعلِه سافرًا في صفوف الناس، وقد يتعدّون ذلك إلى الإيذاء البدني، وهذه بعضٌ من مثالب الحسّاد الذين وصفهم التوحيدي بأنّهم “مناشيرٌ لأنفسهم”، ولعل أَجَلَّ مثال على هذا الحسد هو ما هو ما قرضهُ الشّاعر أبو علي البصير عن أبي العيناء حيث قال:

“قد كنتُ خِفتُ يد الزمان   عليك إذا ذهب البصر

ولم أدرِ أنَّك بالعَمى   تغنى ويفتقرُ البشر”.

شارك الصفحة

أبو العيناء: سيرةُ ضريرٍ صلف اللِّسان قراءة المزيد »

الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا

Picture of الكاتب: بو سيو
الكاتب: بو سيو

ترجمة: يارا عمار

“بو سيو بطلٌ في المناظرات نال البطولة العالمية مرتين، وكان مدربًا سابقًا لفريق المناظرات الوطني الأسترالي واتحاد مناظرات كلية هارفارد. يقدم سيو في هذه المقالة خمس أفكار رئيسية من كتابه الحديث “الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا”.

١. المناظرات فرصة للتعبير عن النفس:

لم أكن أتحدث الإنجليزية عندما انتقلت من كوريا الجنوبية إلى أستراليا وأنا في الثامنة من عمري. سرعان ما أدركت أن أصعب جزء في التغلب على الحواجز اللغوية هو التكيف مع المحادثات اليومية، وأنّ أصعب المحادثات في التكيف معها هي الخلافات. هنا حيث تشتد الانفعالات وتنهار أنماط الحديث العادية ويقاطع المتحدثون بعضهم بعضًا.

شعرت أن اختلافاتي عن أقراني -إذا ما انكشفت- ستجعلني شخصًا دخيلًا بينهم، وستقوّض أي شعور بالانتماء حققته في هذا المكان الجديد. ولذلك عزمت على أن أكون متوافقًا للغاية، وأن أبتسم وأومئ برأسي، وأن أحتفظ بمعظم أفكاري لنفسي. ثم أصدر معلّمي في الصف الخامس قرارًا بأن على الجميع التزام الصمت عندما يتحدث أحد الطرفين في المناظرات، وكان هذا ما أخرجني من حالة العزوف عن خوض النزاعات. بدا الأمر نوعًا من الخلاص بالنسبة لشخص اعتاد على مقاطعة كلامه واستبعاده من المحادثات.

لقد وجدت في فريق المناظرة هيكلًا ومجتمعًا وثروة من المعرفة، مما مكّنني كل ذلك من رفع صوتي والتعبير عن نفسي بوضوح وثقة.

٢. كل حجة لا بد أن تثبت صحة ادعائها وأهميته:

الحجة ليست مجرد مجموعة عشوائية من الأفكار أو الصيحات، وليست تكرارًا لكل ما يراود ذهنك فيما يخص موضوعًا معينًا، بل هي أداةٌ لتغيير الآراء، ولا بد أن تثبت أمرين أساسيين: صحة ادعائها الأساسي، وأهميته.

تخيل أنك تدّعي أن علينا الامتناع عن أكل اللحوم لأنّ النباتية تفيد البيئة. حتى تستقيم هذه الحجة، عليك أولًا أن تثبت أنّ كون الشخص نباتيًا -في الواقع- مفيد للبيئة، وإلا فقولك إن إصلاح البيئة يتطلب الامتناع عن أكل اللحوم ادّعاءٌ لا أساس له. ثانيًا، السؤال الأساسي الذي يجب طرحه في هذه الحجة هو: لماذا يجب أن نعطي الأولوية لسلامة البيئة على متعتنا الشخصية؟

غالبًا ما يتجاهل الناس الجزء الثاني. لا يكفي أن تعرض وجهة نظرك، بل لا بد أن تجعلها ذات قيمة عند الطرف الآخر. هذا يستلزم السؤال عن سبب تغير رأيك وسلوكك بناءً على صحة هذه الحجة.

٣. اختر معاركك، وانتصر فيها:

عندما تبدأ في تعلم استراتيجيات المناظرة الفعالة وأسرارها، ستبدو لك كل عبارة مرفوضة يقولها الناس فرصةً للجدال وإثبات وجهة نظرك “فإن كنت لا تملك من الأدوات سوى المطرقة، فسترى كل شيء أمامك وكأنه مسمار”. لكن من المعلوم أن المحادثات والعلاقات الفعالة بها مواضع اتفاق إلى جانب مواضع الاختلاف. إن كانت القدرة على حُسن الجدال وإثبات وجهة النظر مقياسًا للذكاء، فإنّ الحكمة تكمن في معرفة متى تخوض الجدال ومتى تُحجم. عالجت هذه المشكلة بوضع قائمة مرجعية أطلقت عليها اختصارًا: RISA.

RISA : هل الخلاف حقيقي (Real) ومهم (Important) ومحدد (Specific) ومتوافق (Alignedعلى سبيل المثال، قبل أن تدخل في أي خلاف اسأل نفسك هل هذا الخلاف خلاف حقيقي أم أنه إساءة متوهمَة أو شيء من هذا القبيل؟ ثانيًا: هل الخلاف مهمكفاية حتى يبرّر الجدال؟ ثالثًا: هل الخلاف محدد بحيث تستطيع أن تحرز تقدمًا في الوقت المحدد؟ رابعًا: هل الطرفان متوافقان في أهدافهم من الخلاف؟ أم أن الطرف الآخر -على سبيل المثال- يسعى إلى إزعاجك فحسب؟

يجدر ملاحظة أن الالتزام بهذه القائمة المرجعية لا يعني الوصول إلى نتيجة إيجابية بالضرورة، لكنه يشير إلى تحقق الشروط التي تساهم في ذلك. تأنَّ ولا تتسرع بالخوض في الخلافات من منطلق الكبرياء أو الدفاع عن النفس، وحينها ستركز على الخلافات المثمرة في الغالب.

٤. الأفعال تولّد التعاطف.

عندما كنت صغيرًا كنت أكره أن يُطلب مني أن أتعاطف مع زملائي في الفصل لأني لم أكن أعرف معنى “التعاطف”. البعض يصف التعاطف بأنه حالة ذهنية سحرية تعتريك تلقائيًا عندما تنظر في أعين الشخص الآخر. ويصفه آخرون بأنه فضيلة يملكها خير الناس، ويأمل الباقون في بلوغها. لكن المناظرات علّمتني أن أرى التعاطف بطريقة مختلفة: وهو أنه سلسلة من الأفعال، وليس مجرد شعور.

إنّ قدرًا كبيرًا من المناظرة يدور حول إثبات صحة الحجة. فأنت تؤمن إيمانًا راسخًا بوجهة نظرك، وتأتي بأفضل الحجج الممكنة التي تدعم موقفك، وتجمع أكثر الأدلة إقناعًا التي تبرهن حجتك. لكن أقوى المناظرين يفعلون شيئًا عجيبًا في الدقائق الخمس التي تسبق بدء الجولة: يحضرون ورقة جديدة ويكتبون أفضل أربع حجج للطرف الآخر، أو يراجعون كلامهم من وجهة نظر الخصم ويحاولون أن يجدوا أكبر عدد ممكن من أوجه القصور فيه.

يعرف هذا الأسلوب بتبادل الأدوار. ونظرًا لأنه لا شيء يضاهي الاستماع من الطرف الآخر، فلن يساعدك هذا الأسلوب على التعاطف معه، لكنه ينشئ مساحة للتأمل والتفكير، فتشعر أنه قد توجد طريقة أخرى لرؤية هذه القضية الخلافية. وعندما تحتدم خلافاتنا ونشعر أنها كحرب الخنادق، كل طرف غير قادر على فهم الآخر، حينها أرى أنّ هذه المساحة للتأمل تفيد في كسر هذا الجمود وتمهيد الطريق لتحقيق التعاطف.

٥. الخلاف الهدّام لا يقابله الاتفاق.

الخلاف الهدام يقابله الخلاف البنّاء. مُنعت مجموعات كاملة من الناس على مر التاريخ من التحدث بحكم مركزهم الاجتماعي، فلم تتوفر لهم أي منصة أو فرصة للتحدث والتعبير عن آرائهم. ما نفعله نحن اليوم -تقبل مختلف الآراء في مجتمعاتنا، ومنح الناس فرصة للتعبير عن أنفسهم في الساحة العامة، ومحاولة إدارة خلافاتنا- كلها أشياء غير مسبوقة. لذلك أرى أن بناء الحجج السليمة خطوة نحو مستقبل مثالي، وإن لم نرَ الصورة الكاملة له في الوقت الحالي.

علينا أن نستعيد الثقة والإيمان في قوة الحجج السليمة، مع إدراك أن الخلاف قد يمثل أساسًا لإجراء محادثات أثرى، وإقامة علاقات وثيقة، وطرح استفسارات أعمق، أكثر مما نأمل في تحقيقه من الاتفاق. إنّ بناء الحجج ليس أمرًا وليد الصدفة، بل مهارةً وشكلًا من أشكال الفن واجتهادًا. يعد عالَم المناظرات رمزًا لما يمكن أن يحققه المجتمع بتقبّل الخلاف -لا تجنبه- كما أنه ثري بالمعارف التي يمكن أن نطبقها في حياتنا اليومية حتى نحقق هذا المستقبل.. مستقبل لا يقوم على الاتفاق، بل على الخلاف البناء الذي يقدّر ثراء اختلافاتنا ويشجعنا على التعبير عنها.

المصدر

 

شارك الصفحة

الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا قراءة المزيد »

متع وآلام: مراجعة لكتاب أمة الدوبامين

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مؤسس نادي زاد للقراءة

“أمة الدوبامين” هو كتاب من تأليف الدكتورة “آنا ليمبكي” (Anna Lembke)، أستاذة الطب النفسي ومديرة برنامج طب الإدمان في جامعة ستانفورد. صدر الكتاب في عام 2021، وترجمته الى العربية علياء العمري وهو من اصدارت دار مدارك ويقع الكتاب في قرابة 300 صفحة. يهدف إلى تسليط الضوء على التأثيرات النفسية والاجتماعية للكميات الهائلة من التحفيز التي نعيشها في العصر الحديث، وكيف أن هذه التحفيزات تحركها آليات بيولوجية مثل الدوبامين، وهو ناقل عصبي يرتبط بشكل مباشر بمشاعر المتعة والمكافأة.

المقدمة: عصر الإفراط والإدمان

تبدأ ليمبكي بتقديم فكرة أن العصر الحالي هو عصر الإفراط، حيث يتوفر الكثير من المحفزات والمتع بسهولة غير مسبوقة. في هذا السياق، أصبح الإدمان بأنواعه المختلفة (سواء كان إدمان المخدرات، الطعام، الإنترنت، أو غيرها) مشكلة شائعة في المجتمع. تشير إلى أن هذا الإدمان ليس نتيجة للضعف الشخصي، بل هو نتيجة مباشرة للكيفية التي يعمل بها الدماغ، خصوصًا فيما يتعلق بنظام الدوبامين.

مفهوم الدوبامين وأثره في حياتنا

الدوبامين هو المادة الكيميائية التي تجعلنا نشعر بالمتعة والمكافأة. في الماضي، كانت هذه المادة ترتفع عندما نحقق شيئًا نحتاجه للبقاء، مثل العثور على طعام أو تجنب خطر ما. ولكن في العصر الحديث، نحن غارقون في كميات غير محدودة من المحفزات، مما يجعل نظام الدوبامين في دماغنا غير متوازن. تتحدث ليمبكي عن كيفية تحول هذا النظام إلى مصدر للمشاكل النفسية والإدمانات الحديثة.

فهم نظام الدوبامين

في الفصول الأولى، شرحت الكاتبة الآلية التي يعمل بها نظام الدوبامين في الدماغ. توضح أن الدوبامين هو المسؤول عن تهيئة الدماغ للسعي وراء المكافأة، وعندما نحصل على ما نريد، نختبر لحظة من المتعة أو السعادة. ولكن المشكلة تكمن في أن كل مرة نحصل فيها على هذه المكافأة، يصبح من الصعب على الدماغ أن يستجيب بنفس الطريقة في المرة القادمة، مما يدفعنا إلى البحث عن مستويات أعلى من التحفيز لتحقيق نفس الإحساس.

يُبرز الكتاب أن نظام الدوبامين في الدماغ يعمل وفق قاعدة التوازن بين المتعة والألم، حيث يشير إلى أن كل لحظة من المتعة المفرطة تؤدي إلى لحظة من الألم في المقابل. فعندما نفرط في الاستمتاع بشيء ما، يقوم الدماغ بالاستجابة عن طريق تقليل حساسيته لهذا الشيء، مما يتركنا في حالة من عدم الرضا أو الفراغ.

الانتقال من المتعة إلى الألم

تتناول ليمبكي بشكل مفصل كيف أن الإفراط في التعرض لمصادر المتعة (مثل الطعام اللذيذ، الألعاب الإلكترونية، وسائل التواصل الاجتماعي، المخدرات، أو غيرها) يمكن أن يؤدي إلى تحول تدريجي من المتعة إلى الألم. هذا التحول ناتج عن محاولة الدماغ للحفاظ على التوازن بين المتعة والألم. فكلما تعرضنا لمصادر المتعة بشكل مستمر، يقل استمتاعنا بها، ويبدأ الدماغ في البحث عن مستويات أعلى من التحفيز ليشعر بالمتعة مرة أخرى. يؤدي هذا في النهاية إلى حالة من الإدمان، حيث يصبح الفرد عالقًا في دائرة البحث عن المتعة دون الوصول إلى إشباع حقيقي.

تستعرض ايضا العلاقة المتشابكة بين المتعة والألم، حيث توضح أن زيادة المتعة دون حدود يؤدي إلى تعزيز مستويات الألم عندما تقل مصادر المتعة. هذه الدائرة المفرغة بين المتعة والألم تجعلنا نغرق في البحث المستمر عن التحفيز اللحظي، سواء من خلال استخدام الهواتف الذكية أو الإدمان على المخدرات أو غيرها من السلوكيات القهرية.

وتوضح الكاتبة من خلال أمثلة سريرية كيف يتحول الأفراد من استخدام شيء ما لتحقيق المتعة إلى استخدامه فقط لتجنب الألم الذي ينتج عن غيابه. هذا ما يحدث بشكل خاص في حالات الإدمان على المواد المخدرة، حيث يبدأ الشخص في تعاطي المخدر ليس للشعور بالنشوة، ولكن لتجنب أعراض الانسحاب المؤلمة.

الإدمان الحديث: التكنولوجيا والأطعمة والترفيه

تناقش ليمبكي في فصول لاحقة أشكال الإدمان الحديثة التي أصبحت أكثر انتشارًا في العصر الرقمي. تشير إلى أن التكنولوجيا الحديثة، وخاصة الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت واحدة من أكبر مصادر التحفيز المتواصل لنظام الدوبامين. في كل مرة ننظر فيها إلى الهاتف أو نحصل على إعجاب أو تعليق على منشور ما، يتم إفراز دفعة من الدوبامين في الدماغ، مما يجعلنا نرغب في المزيد. مع الوقت، يصبح هذا التحفيز المستمر مشكلة، حيث يفقد الدماغ القدرة على الاستمتاع بالأشياء البسيطة ويصبح معتمدًا على التحفيز المتزايد.

الأطعمة الغنية بالسكر والدهون هي أيضًا من بين مصادر الإدمان الحديثة التي تستغل نظام الدوبامين. تشير ليمبكي إلى أن الأطعمة السريعة المصنعة تم تصميمها لتحفيز إفراز الدوبامين بشكل قوي، مما يجعل الأفراد يتناولون كميات أكبر من اللازم بحثًا عن المتعة.

العواقب النفسية والاجتماعية

تتحدث ليمبكي عن العواقب النفسية والاجتماعية للإفراط في التعرض لمصادر التحفيز. واحدة من أبرز هذه العواقب هي حالة “عدم الرضا المزمن” أو “اللامبالاة”، حيث يشعر الأفراد أنهم غير قادرين على الاستمتاع بالأشياء التي كانت تجلب لهم السعادة في الماضي. تشرح ليمبكي أن السبب في ذلك هو أن الدماغ أصبح معتادًا على مستويات عالية من التحفيز، مما يجعله غير قادر على الاستجابة للمتعة البسيطة أو الطبيعية.

كما تشير إلى أن الإدمان لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل يمتد ليؤثر على المجتمع ككل. فقد أصبحت مجتمعاتنا أكثر توترًا وأقل قدرة على التعامل مع الملل أو الصعوبات الحياتية البسيطة، حيث أصبح الجميع معتادين على الحصول على المتعة الفورية من التكنولوجيا أو الأطعمة أو غيرها من المحفزات.

العلاج واستعادة التوازن

في الجزء الأخير من الكتاب، تركز ليمبكي على كيفية استعادة التوازن في حياتنا. تقدم توصيات عملية للتعامل مع الإفراط في التحفيز والإدمان. إحدى التوصيات الرئيسية هي “الصيام عن المتعة”، أي الامتناع عن المحفزات التي تسبب الإدمان لفترات زمنية محددة لإعادة ضبط نظام الدوبامين في الدماغ. تقترح أن أخذ استراحة من التكنولوجيا، الأطعمة المصنعة، أو المواد التي تسبب الإدمان يمكن أن يساعد في إعادة الدماغ إلى حالة من التوازن، مما يسمح للأفراد بالشعور بالمتعة من الأشياء البسيطة مرة أخرى.

تتحدث أيضًا عن أهمية إيجاد التوازن بين المتعة والألم. تشير إلى أن التعامل مع بعض الألم أو الإحباط في الحياة اليومية يمكن أن يساعد في تعزيز قدرتنا على الشعور بالمتعة بشكل أكثر طبيعية. بدلاً من البحث عن الإشباع الفوري، تشجع ليمبكي على تبني ممارسات مثل التأمل، الرياضة، والعلاقات الاجتماعية الصحية كطرق لإعادة تدريب الدماغ على الشعور بالرضا من دون الحاجة إلى التحفيز المستمر.

الخاتمة: نحو حياة متوازنة

في ختام الكتاب، تؤكد ليمبكي أن التحدي الأكبر في عصرنا هو إيجاد توازن بين المتعة والألم، فبينما نحن محاطون بفرص التحفيز المستمر والمتعة الفورية، علينا أن نتعلم كيف نقاوم هذه الإغراءات من أجل تحقيق حياة أكثر توازنًا. تقدم ليمبكي رؤية متفائلة بأن البشر قادرون على استعادة السيطرة على نظام الدوبامين الخاص بهم من خلال الوعي، الصبر، والممارسات التي تعزز الصحة النفسية والبدنية.

تؤكد أيضًا أن تحقيق هذا التوازن ليس مهمة سهلة، ولكنه ضروري لضمان رفاهيتنا النفسية والاجتماعية. فالاستمتاع بالحياة لا يأتي من الإغراق في المتعة، بل من القدرة على الاستمتاع بالأشياء البسيطة والحقيقية.

الخلاصة

“أمة الدوبامين” هو كتاب يدعو إلى التوقف والتفكير في كيفية تأثير الثقافة الحديثة للإفراط في المتعة على أدمغتنا وصحتنا النفسية. من خلال دمج قصص شخصية مع أبحاث علمية، وتقدم نظرة شاملة حول كيف أن نظام الدوبامين في الدماغ، الذي تم تصميمه لتحفيز البقاء، قد أصبح ضحية للإفراط في التحفيز الذي يوفره العالم الحديث. الكتاب دعوة للاستيقاظ نحو حياة أكثر توازنًا ووعيًا في مواجهة الإغراءات التي تواجهنا يوميًا.

شارك الصفحة

متع وآلام: مراجعة لكتاب أمة الدوبامين قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب: المجتمع المفتوح وأعداؤه

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

لفيلسوف العلم كارل بوبر كتاب مُهم بعنوان “المجتمع المفتوح وأعداؤه”، ويُقرأ بتأنٍ للوقوف على المواضيع التي ينقدها أو يدعمها لدى العديد من الفلاسفة، أبرزهم أفلاطون وماركس وهيجل وأرسطو، ففي الجزء الأول منه يبدأ الكاتب بنقد النظرة التاريخانية التي تقرأ التاريخ وتستكنه منه قواعده وقوانينه في محاولة لإخضاعه لعملية علمية يمكن التنبؤ بها، الأمر الذي حمله أفلاطون إلى أبعاد عديدة وخرج منه برؤى ومفاهيم ومشاريع سياسية غاية في الأهمية وجديرة بالنقد.

اعتمد أفلاطون منهج الجوهراتية لدراسة سوسيولوجيا المجتمعات، فكان السؤال السياسي الأهم في فكره: ما جوهر الدولة؟ ما هو السياسة؟ وما جوهر التغير السياسي؟ وتبعاً لنظريته في الأصول والمُثل والقوالب التي انبثق منها الوجود بأحيائه ومفاهيمه، فسَّر أفلاطون التغيرات السياسية و”الهندسة” الاجتماعية المتدرجة على أنها فساد يصيب الأصل المثالي ويعمد إلى الحط من قدره وشأنه، من المدينة الفاضلة أولاً، إلى التيموقراطية ثانياً (حكومة الثروات والمجد) إلى الأوليجاركية ثم الديموقراطية ثم الحكم الاستبدادي، إلا أن ملامح هذا الحكم الاستبدادي كانت أكثر وضوحاً في مدينته الفاضلة، والتي تكرس النظام الطبقي وترفض علائم التغيير السياسي.

ولما عرفنا أن الأخلاق تُعزى تارة إلى الوقائع الطبيعية، وتارة إلى القوانين الوضعية، وتارة إلى التعاليم الروحية والنفسية، أدركنا أن نوع النظام الأخلاقي الذي ابتغاه أفلاطون لمدينته منبثق من عالم المُثل والفضائل في ذهنه، والذي يحمل الخير الأسمى للفرد والمجتمع ككُل، على أن الحاكم وحده هو من يقرر ملامح هذا الخير ويفرضه بدوره على مملكته أو مدينته، وفي هذا الصدد، يرفض أفلاطون الوجود البشري المنفرد في مدينته ولا يرى أهمية للفرد دون جماعته ودولته، خاصة بعد تكريسه النظام الطبقي الذي يبقي على العبيد في طبقتهم، منتهياً إلى ثنائية فلسفية بين الكُل الخير والمتعدد الفاسد والمتحلل.

كما يُقر أفلاطون السيادة العامة في مدينته الفاضلة دون إيلاء الاهتمام للرقابة المؤسساتية على الحاكم أو خلق التوازن المؤسساتي بين السلطات الحاكمة، عازياً رفاهية الدولة إلى ثقافة الأفراد لا الدور الحكومي المنوط بالدولة، أما سقراط فعرضه أفلاطون – دون وجه حق – ممثلاً عن النزعة السيادية والشمولية الأفلاطونية، كما آمن أفلاطون بوجوب رقابة المدينة (أو الدولة) على التعليم الذي يهدف إلى استبقاء (تصفية) جند الدولة الأقوياء وإقصاء البقية بالعوامل البيولوجية أو بممارسة التمييز ضدهم فيختفوا من الوجود السياسي أو الفاعل في المدينة.

أما الحاكم الفيلسوف لمدينته الفاضلة، فكان بمعنى المتغطرس المالك للفلسفة دون ممارستها، فقد شرع له أفلاطون الوسائل جميعاً، حتى غير الشريفة منها، لتحقيق غاياته، ما يعني أن أفلاطون تقدم بمشروع سياسي شمولي رأى في نفسه الحق في ترأسه يوماً ما، الأمر الذي يتنافى تماماً مع رؤى سقراط وفلسفته في النقد الذاتي المستمر والابتعاد عن القوة المؤذية للمتفلسف:

“ولسوف تؤدي بنا النزعة الجمالية والنزعة الراديكالية إلى أن ننبُذ العقل، وأن نُحل محله أملاً يائساً في معجزات سياسية. وهذا الاتجاه اللاعقلاني الذي ينبثق من الافتتان بأحلام عالم جميل هو ما أسميه النزعة الرومانتيكية. فهي قد تبحث عن مدينتها السماوية في الماضي أو في المستقبل، وهي قد تبشر بـ”العودة إلى الطبيعة” أو بـ”التقدم نحو عالم من الحُب والجمال”؛ بيد أن جاذبيتها تكون موجهة دائماً إلى عواطفنا أكثر من عقلنا. بل إن أفضل النوايا لإقامة الجنة على الأرض إنما تنجح فقط في جعلها جحيماً – ذلك الجحيم الذي يجهزه الإنسان فقط لأخيه الإنسان”.

وكانت طريقة أفلاطون في خلق المدينة الفاضلة معتمدة على الجنوح إليها بكافة الوسائل الممكنة، الأمر الذي يتنافى وطبيعة التغيرات الاجتماعية المطلوبة، كما أن الاتجاه إلى المدينة الفاضلة لم يورث من قبل سوى خلق الجحيم تلو الجحيم على الأرض بغية خلق الجنان، بينما أثبتت الهندسة الاجتماعية المتدرجة قدرتها على تحسين الأوضاع الإنسانية باستمرار، ومع ذلك، كانت الطريقة التي يراها أفلاطون أكثر جدارة للوصول إلى مدينته الفاضلة هي “الاقتلاع” والبدء من جديد.

وفي نظر الكاتب، فقد أعاد أفلاطون تأويل فلسفة سقراط وخان تعاليمه وعمد إلى ليِّها لتتوافق ورؤاه وفلسفته الشمولية، ولكنَّ القارئ الدقيق في فلسفتيهما يدرك الفرق الكبير بين تعاليم سقراط ورؤى أفلاطون، خاصة بعد أن أفنى سقراط حياته (حرفياً) لنقد الديموقراطية بغية تحقيق الصورة الأجدر بها في المجتمع الأثيني، أما أفلاطون فتاق دائماً إلى إعادة صورة النظام القبلي ولكن ضمن شروطه ورؤاه الخاصة، وفي هذا، ينتقد كارل بوبر شمولية أفلاطون، وماركس في بعض الفقرات، ويرفض المجتمع المغلق الذي تمثله، ويتجه إلى المجتمع المفتوح الذي يجد فيه الفرد حريته واستقلاليته ونظام حكم ديموقراطي يحترمه ولا يمارس الوصاية عليه.

وفي الجزء الثاني من الكتاب، يناقش الكاتب التلاقح الفكري الذي جمع بين أفلاطون وأرسطو وهيجل وماركس، وذلك في الإيمان بجوهر الشيء و”حقيقته” الثابتة، و”جوهر” التاريخ الذي يتجه إليه دائماً ويحتكم إليه، فقد آمن هيجل وفيشتر وشيلينج بالحكم الشمولي والمجتمع المغلق، وبالدولة “واضعة الأخلاق” التي تتقدم تاريخياً وتبرز بصرف النظر عن المكاسب الأخلاقية العائدة عليها أو على أمتها، الأمر الذي سخر منه شوبنهاور ورفضه تماماً، وانتقده الكاتب إلى جانب كانط.

أما ماركس فآمن بحتمية التاريخ وقوانينه المادية ونادى بضرورة تغييره، وقال بأن المجتمع يخلق الفرد ووعيه ومنطلقاته، وبضرورة اعتماد السوسيولوجيا على المحيط والبيئة لا أن يتغلغل فيها التفسير السيكولوجي تماماً، كما آمن ماركس بالنزعة الاقتصادية في نفس المرء مقابل النزعة السيكولوجية لدى ستيوارت مِل والنزعة الروحية لدى هيجل، وبحتمية الصراع الطبقي الذي يخلق الدول والمجتمعات في كل مرة، الأمر الذي عدَّه الكاتب مجرد وصف لبعض مظاهر التاريخ ولا يرقى لأن يكون قانوناً تاريخياً، بل إن الكاتب يشك في وجود أي قانون تاريخية حتمي لاتساع منظوره في صيرورة التاريخ، والعوامل التي تغيره وتبدله في كل مرة، وفي رأيه فإن السؤال الذي انشغل به الفلاسفة الحتميون (المناصرين للمجتمع المغلق) كان “من ينبغي أن يكون الحاكم؟”، في حين أن السؤال الأهم الواجب طرحه “كيف يُروض الحاكم؟”.

رأى ماركس أن تحليل منهج الإنتاج الرأسمالي من شأنه أن يخلق ثورة عمالية تفضي إلى إلغاء الطبقية، الأمر الذي يجده الكاتب ضعيف المنطق والأدلة ومجرد نبوءة كان ليتحقق جزء منها تبعاً لظروف تاريخية خاصة ويفشل جزء آخر للسبب ذاته، وهذا ما حصل، لذلك، يعارض الكاتب اتجاه الفلاسفة إلى وضع النبوءات بدلاً من الانشغال في الهندسة التدريجية للمجتمعات ومؤسساتها الحكومية لتتجه نحو الإصلاح، خاصة وأن الحتميون – كماركس – رفضوا إمكانية الإصلاح في وجود الرأسمالية، واتجهوا دائماً إلى أن الحل الأمثل فرض وجهة نظر جوهرية شمولية واحدة يترأسها حاكم واحد يوجه بوصلة البلاد “إلى ما فيه خيرها”.

ثم يناقش الكاتب سوسيولوجيا المعرفة وتأثر الفكر العلمي بالتحيزات المسبقة لدى العلماء، الأمر الذي غالى فيه هيجل وكانط ورآه الكاتب ممكن تجاوزه، خاصة بعد أن ثبت المنهج العلمي ذلك، ثم يتحدث عن عقلانية سقراط النقدية والحقيقية التي تتضمن نقد الذات أولاً والإصغاء للغير واحتواء وجهات نظرهم ضمن رؤية متكاملة، مقابل العقلانية غير النقدية والزائفة لدى الجوهريون كأفلاطون وهيجل، ويرى بأن العقلانية النقدية مطابقة للإنسانية ومبادئها وتتجه بالمرء دائماً إلى ما فيه صلاحه، بينما لم تكرس النظريات الحتمية والشمولية سوى تبرير الإجرام والمآسي لتحقيق “الخير الأسمى للشعوب”.

وفي النهاية، يؤكد الكاتب أن انتقاده للنظريات لا يعني إقصاءها من الفكر العالمي أو تهميشها أو إلغاءها، بل يُصر على وجودها فيه ودورها الهام في تفسير بعض الجوانب، إلا أن ما يعارضه ادعاء أي نظرية امتلاكها الصورة الكاملة والشاملة للتاريخ الإنسانية وللوجهة التي ينبغي على الشعوب والأمم الاتجاه إليها، ويقول بأن على منظورنا الفكري احتواء النظريات جميعاً والاستفادة منها لتفسير الحال وحل مشاكله، خاصة عندما يكون التاريخ الوحيد الذي نعرفه، وللأسف، هو تاريخ السلطة السياسية، وبافتقاره الشديد إلى المعنى، وجب علينا خلق غايته ومعناه بأنفسنا، بما يضمن لنا صورة متحيزة لخيرنا قبل أي شيء آخر:

فبدلاً من التنكر في زي الأنبياء، لا بد أن نكون صنَّاع مصيرنا، لا بد أن نتعلم عمل الأشياء، وأن بمقدورنا عملها، وأن نكون مسؤولين عن أخطائنا، ثم حين نسقط فكرة أن تاريخ السلطة سيكون هو قاضينا، وحين نتخلى عن القلق بشأن ما إذا كان التاريخ سيقدِّم لنا تبريراً أم لا، فعندئذٍ قد ننجح ذات يوم في السيطرة على السلطة وضبطها. وبهذه الطريقة نُبرر التاريخ، فهو في حاجة ماسة إلى التبرير”

الكتاب دسمٌ ومُهم ومليء بوجهات النظر اللافتة، وأراه ضرورياً لتعليم القارئ أولاً آداب النقد الفلسفي والأدبي، وشروط خلق المعرفة ثانياً، وثالثاً، وهو الأهم، معرفة الوجهة الحقيقية لبوصلتنا الإنسانية.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب: المجتمع المفتوح وأعداؤه قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب موت الخبرة

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مؤسس نادي زاد للقراءة

نُشر الكتاب للمؤلف الأمريكي توم نيكولز لأول مرة في عام 2017 باللغة الإنجليزية بعنوان The Death of Expertise، ترجمه إلى العربية الاستاذ عمر فايد ونشر في منشورات نادي الكتاب، ويقع الكتاب في قرابة 380 صفحة.

يناقش فيه ظاهرة متنامية في المجتمع الحديث تتعلق برفض الناس المتزايد للخبراء والمختصين. يُظهر نيكولز كيف أصبحت المجتمعات، ولا سيما في الولايات المتحدة، تميل إلى استبعاد المعرفة القائمة على العلم والخبرة، واستبدالها بآراء شخصية، بحث سريع على الإنترنت، أو معتقدات ذاتية غير مستندة إلى أسس علمية.

ويسلط الكتاب الضوء على مشكلة معاصرة تتمثل في تزايد تجاهل الخبرة المتخصصة في العصر الحديث. في هذا الكتاب، يطرح نيكولز أسئلة مهمة حول كيف أصبحت المعرفة المتخصصة موضع تشكيك، ولماذا باتت الآراء التي لا تستند إلى خبرة تُعامل كأنها مساوية للآراء العلمية والمبنية على حقائق.

المقدمة: رفض الخبرة

في المقدمة، يقدم نيكولز النقطة الرئيسية لكتابه وهي أن المجتمعات الحديثة تعاني من أزمة تتعلق برفض الخبرة. لم يعد الناس يعتمدون على آراء الخبراء في اتخاذ القرارات، سواء كانت هذه القرارات شخصية أو سياسية أو اجتماعية. يشير نيكولز إلى أن هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة بسيطة تتعلق بعدم الثقة بالخبراء، بل هي نتيجة لمجموعة من العوامل التي تجعل الجمهور يتجاهل أو حتى يحتقر آراء المتخصصين.

كما يشدد على أن هذا الاتجاه يشكل تهديدًا كبيرًا للديمقراطية، لأن اتخاذ قرارات سياسية واجتماعية فعالة يتطلب استنادها إلى الحقائق العلمية والمعرفة المستندة إلى الخبرة.

الفصل الأول: الخبرة والشخص العادي

في هذا الفصل، يناقش نيكولز العلاقة بين الخبراء والجمهور العام. يؤكد أن الخبراء هم أشخاص يمتلكون معرفة متخصصة في مجالات معينة من خلال التعليم، التدريب، والممارسة. بينما يحتاج الأشخاص العاديون إلى الاعتماد على هذه الخبرة للحصول على فهم شامل للقضايا المعقدة.

ومع ذلك، يشير إلى أن هذا الاعتماد على الخبراء بدأ ينهار في العقود الأخيرة، حيث يشعر الكثيرون أنهم يمتلكون المعرفة الكافية لاتخاذ قرارات مستنيرة دون الحاجة إلى الاستعانة بالخبراء. هذا الاتجاه تعزز بشكل كبير بفعل توفر المعلومات عبر الإنترنت، حيث يمكن لأي شخص الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات، مما يمنحه شعورًا وهميًا بالمعرفة.

الفصل الثاني: الإنترنت وسوء الفهم الجماعي

يستعرض في هذا الفصل كيف ساهم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم ظاهرة رفض الخبرة. الإنترنت، بحسب نيكولز، يتيح للجميع إمكانية الوصول إلى المعلومات، لكنه لا يوفر سياقًا أو قدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة. يميل الناس إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الشخصية بدلاً من الاستماع إلى آراء الخبراء.

أدى ذلك إلى انتشار “التفكير الجماعي” أو “التضليل الجماعي”، حيث يتشارك الأفراد معلومات خاطئة مع بعضهم البعض، مما يؤدي إلى تعزيز الأفكار غير المستنيرة بدلاً من تصحيحها. يشير نيكولز إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت بيئة خصبة لنشر الأكاذيب ونظريات المؤامرة، وهذا يعزز مناخ رفض الخبرة والاعتماد على المعلومات الشخصية غير الدقيقة.

الفصل الثالث: التعليم العالي والطلاب

يناقش نيكولز في هذا الفصل دور التعليم العالي في ظاهرة “موت الخبرة”. يرى أن الجامعات، التي كانت في السابق معاقل للمعرفة والنقاش العلمي، أصبحت في كثير من الأحيان تساهم في هذه المشكلة. يشير إلى أن التعليم في كثير من الأحيان أصبح مُركزًا على “إرضاء” الطلاب بدلاً من تحديهم فكريًا وتعليمهم كيفية التفكير النقدي.

يتحدث نيكولز عن مشكلة “الطلاب الزبائن”، حيث يتعامل الطلاب مع التعليم كسلعة يشترونها، ويتوقعون الحصول على درجات جيدة بناءً على دفعهم للرسوم الدراسية وليس بناءً على الجهد أو الفهم الحقيقي للموضوعات. هذه الثقافة تعزز الفكرة القائلة بأن كل شخص لديه حق متساوٍ في آرائه، حتى إذا كانت تلك الآراء غير مدروسة أو تستند إلى معرفة سطحية.

الفصل الرابع: وسائل الإعلام ودورها في موت الخبرة

وسائل الإعلام تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز رفض الخبرة. في هذا الفصل، يناقش نيكولز كيف أن وسائل الإعلام الحديثة، وخاصة الإعلام الرقمي، تركز على تسطيح المعلومات وتقديم الأخبار بأسلوب بسيط وسريع يتناسب مع “الزبائن”. يعتمد الإعلام بشكل كبير على العناوين المثيرة والمحتوى الذي يجذب القراء أكثر من الاعتماد على التقارير المستندة إلى تحقيقات دقيقة وتحليل مستند إلى خبرة.

يشير نيكولز أيضًا إلى أن الإعلام التقليدي فقد الكثير من مصداقيته أمام وسائل الإعلام البديلة مثل المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي. هذه الوسائل، التي لا تلتزم بمعايير الإعلام المهني، أصبحت بديلًا للكثيرين ممن يرون أن وسائل الإعلام التقليدية تتآمر مع “النخبة” لتوجيه الجمهور.

الفصل الخامس: دور السياسة في تجاهل الخبرة

ينتقل نيكولز في هذا الفصل إلى السياسة، حيث يشير إلى أن تراجع ثقة الجمهور بالخبراء ينعكس بشكل مباشر على السياسة وصناعة القرار. السياسيون غالبًا ما يستغلون هذه الظاهرة، حيث يتجنبون الاعتماد على آراء الخبراء لتقديم سياسات شعبوية تتناسب مع رغبات الجمهور، حتى لو كانت هذه السياسات غير مستدامة أو مستندة إلى معلومات خاطئة.

السياسة، كما يوضح نيكولز، أصبحت مجالًا يعتمد بشكل كبير على العواطف والشعارات الجذابة بدلاً من الحقائق والأدلة العلمية. السياسيون الذين يعارضون أو يتجاهلون آراء الخبراء يمكنهم استغلال مشاعر الإحباط والارتياب لدى الجمهور لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل، ولكن هذا يأتي على حساب جودة القرارات السياسية وصحة المؤسسات الديمقراطية.

الفصل السادس: الجمهور ضد الخبراء

في هذا الفصل، يتحدث نيكولز عن الدوافع النفسية والاجتماعية وراء رفض الناس للخبراء. يشير إلى أن الناس يميلون بشكل طبيعي إلى تفضيل آرائهم الشخصية على آراء الآخرين، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي يشعرون أنها تؤثر بشكل مباشر على حياتهم. هذا الميل الطبيعي تعزز بفعل التكنولوجيا الحديثة التي تمنح الناس إحساسًا زائفًا بالمعرفة.

يشير نيكولز أيضًا إلى أن الخبراء غالبًا ما يُعتبرون “نخبة” أو “متعالين” من قبل الناس العاديين، مما يخلق فجوة كبيرة بين الجمهور والخبراء. هذه الفجوة تتسع بفعل اللغة التقنية التي يستخدمها الخبراء، والتي قد تكون صعبة الفهم على الأشخاص العاديين، مما يعزز الشعور بأن الخبراء “منفصلون” عن الواقع اليومي للناس.

الفصل السابع: التحديات التي تواجه الخبرة في المستقبل

يختتم نيكولز كتابه بتحليل العواقب طويلة الأمد لموت الخبرة. يرى أن استمرار هذا الاتجاه يشكل تهديدًا كبيرًا للمجتمعات الديمقراطية، لأن الديمقراطية تتطلب من الناس أن يكونوا مستنيرين وقادرين على اتخاذ قرارات مستندة إلى الحقائق والمعرفة. إذا استمرت المجتمعات في تجاهل الخبرة، فقد يؤدي ذلك إلى تفكك الحوار الديمقراطي وظهور سياسات شعبوية غير مستدامة.

يشير نيكولز إلى أن الحل يكمن في تعزيز الثقة بين الجمهور والخبراء، وهو ما يتطلب جهودًا من الطرفين. على الخبراء أن يكونوا أكثر وضوحًا وتواصلًا مع الجمهور، وأن يتجنبوا التعالي أو الانعزال في أبراجهم الأكاديمية. في المقابل، يجب على الجمهور أن يدرك أهمية الخبرة في صنع القرارات المعقدة التي تؤثر على حياتهم ومستقبلهم.

الخاتمة: إعادة إحياء احترام الخبرة

في الخاتمة، يدعو نيكولز إلى إحياء احترام الخبرة في المجتمع. يشدد على أن الخبرة ليست أمرًا يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه في عصر المعرفة. رغم أن التكنولوجيا جعلت المعلومات أكثر توافرًا، فإن الخبرة تظل ضرورية لفهم تلك المعلومات وتفسيرها بشكل صحيح. يدعو إلى تبني نهج تعليمي وإعلامي جديد يعيد الاعتبار لأهمية المعرفة العميقة والتفكير النقدي في مواجهة التدفق الهائل للمعلومات السطحية والمضللة.

الخلاصة

توم نيكولز يقدم في هذا الكتاب نقدًا ذكيًا ومؤثرًا للتوجه المتزايد نحو التشكيك في الخبرة والعلم، وهو موضوع ذو صلة كبيرة في عصرنا الحالي، حيث تنتشر المعلومات بشكل فوضوي عبر الإنترنت. يتيح الكتاب للقراء فرصة للتفكير بعمق حول كيفية تعاملهم مع المعرفة والآراء، ومدى اعتمادهم على مصادر غير موثوقة بدلًا من البحث عن المعلومات من الخبراء.

“موت الخبرة” هو كتاب قوي يدق ناقوس الخطر بشأن التحولات التي يشهدها المجتمع الحديث في علاقته بالمعرفة والخبرة. يرى توم نيكولز أن تراجع الثقة بالخبراء يشكل تهديدًا كبيرًا للديمقراطية والنقاش العام، ويقدم تحليلًا دقيقًا للأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، بدءًا من تأثير الإنترنت والتعليم العالي وصولًا إلى السياسة ووسائل الإعلام.

ويخلص إلى أن استعادة الثقة في الخبرة تتطلب جهدًا جماعيًا من الخبراء والجمهور على حد سواء، مع التركيز على أهمية المعرفة المستنيرة في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب موت الخبرة قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب إنقاذ الروح الحديثة 

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعد كتاب إنقاذ الروح الحريثة لإيفا إلوز وترجمة بثينة الإبراهيم من الكتب الناقدة والمُهمة اليوم، والتي يجب أن يُفكر بها الإنسان الحديث ملياً، لا سيما العربي الذي يواجه مدَّ الأفكار الجديدة والحديثة على حياته ومؤسسات دولته، وذلك للإطار البحثي الذي انطلقت منه الكاتبة لنقد ما تريد نقده على صورة تساؤلات تشير إلى المشكلة، من دون أن تقدم حلولاً، ولعلَّ ذلك أفضل بكثير، لأن مهمة النقد في استكناه الخطب.

تتحدث الكاتبة في البداية عن الحقائق البارزة التي أفاد منها علم النفس الحديث في أمريكا، والتي استمدَّها من فرويد ونظرياته التي لاقت ترحيباً في المجتمع الأمريكي، لجمعها بين الجانب الأسطوري والطبِّي في تحليل الذات، ولتقديمها إطاراً نظرياً علمياً لفهم الذات الأمريكية وضبط العلاقة بين الجنسين والعلاقة بين الفرد ومؤسسات الدولة. لقد تحدث فرويد ومُفسروه اللاحقون عن الكيفية التي تؤثر بها أحداث الحياة اليومية على شخصية المرء وميوله ونمط عاطفته اللاحق، فكان فرويد، مثلما تصفه الكاتبة، “الصنو الثقافي المثالي لماركس”، ففي حين تناول ماركس قيمة الفرد في عالم العمل، تناولها فرويد في عالم العائلة والحياة اليومية، وبيَّن الحدود الهشة بين مفاهيم المرض النفسي والسواء، ذلك أن العديد من السمات والنزعات يمكن أن تكون دلالة على أعراض مَرَضية خفية، تحتاج العلاج النفسي لإخراجها إلى حيز العلن والحديث عنها، ما جعل من الحياة مشروعاً تأويلياً في التحليل النفسي.

وإثر هذه النظرة المرنة للشخصية الإنسانية التي تتعدد فيها احتمالات المرض النفسي وتختلف أشكاله، تم الربط بين بحث الإنسان عن ذاته الضائعة وبحثه عن النجاح الاجتماعي، فصارت الصحة العاطفية رديفة النجاح مجتمعياً، وانعدام النضج العاطفي رديف الفشل في تحقيق مكانة اجتماعية معتبرة أو التقدم في المجال المهني، ما بدأ سلسلة من النظريات والأدبيات النفسية-الاجتماعية، والتي ربطت بين التقدم في الصحة العاطفية وما يُترجم إليه من التقدم الاجتماعي والمهني، فظهرت ثقافة العلاج النفسي في العديد من وسائل الإعلام، تزعم فهم الذات وعلاقتها بالآخر وتقدم “النصيحة” للأفراد حول الطرق المثلى للتعامل مع أنفسهم والآخرين.

وهكذا، تداخلت مفاهيم علم النفس مع مفاهيم علم الاقتصاد وصار للعقلانية والكفاءة في العمل أبعاد نفسية عاطفية وشخصية، فصار اعتماد رأس المال على الفهم النفسي-العاطفي للذات أمرًا شائعًا فيما صار يُدعى بـ “الرأسمالية العاطفية”. ولأن النظام الرأسمالي غايته الربح والإنتاج فقد دعم الخصائص النفسية المفضية إليهما، أهمها الضبط العاطفي وامتلاك مهارات التواصل الفعال، أو ما يدعى بالمهارات في مجال العلاقات العامة، فظهرت أخلاقيات العمل الجديدة المتداخلة مع أخلاقيات الحياة الخاصة لدى المرء، وصار مُهماً أن يتجاوز الفرد اختبارات الشخصية النفسية قبل قبوله في العمل، والتي تهتم بقدرته على ضبط نفسه وفهم الآخر وفصل نفسه شعورياً عما يحدث حوله والاهتمام بمصلحته الخاصة بصرف النظر عن العوامل الخارجية التي تحاول ثنيه عن ذلك:

“تتضمن القوة النفسية ’الحقيقية‘ قدرة المرء على ضمان مصالحه دون الدفاع عن نفسه عبر رد الفعل أو الهجوم المضاد. بهذه الصورة، ينشأ ضمان المصلحة الذاتية والقوة في التفاعل عبر إظهار الثقة بالذات التي تتساوى بالافتقار إلى الدفاعية أو العدائية الصارخة، فتنفصل القوة هكذا عن الإظهار الخارجي للعدائية وعن دفاع المرء عن شرفه، وهي استجابات كانت جوهرية في تعريف الذكورة التقليدي”

ما يعني أن العقلانية المؤسساتية صارت تُفهم من حيث تحكم المرء بعاطفته والتركيز عليها في آن، أي استكناه مهارات التواصل والعمل بها ولكن من دون أن ينخرط بكامل نفسه فيها، وأن يحافظ دائماً على هدوئه ولغته التواصلية المتقنة التي تحفظ مصلحته ولا تثير انزعاج الآخرين ولا تستثير حفائظهم، وتشير الكاتبة إلى أن ذلك خلق جواً من اللامبالاة النفسية، والناتج عن تحييد المرء لنفسه عن المشكلة وأن يحافظ على مكانته في النظام التواصلي من دون أن يتأثر بالآخرين، أي أن “يلعب اللعبة دون التأثر بها”، أو كما تقول الكاتبة، إن “الشرط المسبق ’للتواصل‘ أو ’التعاون‘ هو، على سبيل المفارقة، تعطيل المرء إدخال انفعالاته في علاقة اجتماعية”، ما يجعلنا أمام سؤال مُهم: إلى أي مدى يمكن للسلوك العلاجي النفسي أن يبدِّل في الإنسان وينزع منه المسؤولي والتعاطف ليجعله منخرطاً في المجتمع والمهنة من دون أن يبالي بهما في الآن ذاته؟

ثم تتحدث الكاتبة عن التآلف بين النسوية والتحليل النفسي من حيث تركيزهما على القضايا ذاتها، وذلك إثر التحولات الاجتماعية التي جعلت مواضيعهما متشابهة، مثل العلاقة بين الجنسين وقضايا الأسرة والمرأة والمعاناة، فبعد موجة العلوم النفسية والتحليل النفسي صارت معايير إنجاح الزواج مختلفة عما سبق، وصار الفشل أو النجاح في العلاقة مسؤولية الفرد وحده ومسؤولية نمط شخصيته التي هو عليها، لذلك تناولت الأبحاث النفسية أنماط الشخصية وطبيعة التواصل القائم بين طرفي العلاقة، وصار عبء إنجاح الزواج أو العلاقات عموماً قائماً على براعة التواصل اللغوي والتعبير العاطفي لدى الفردين، واتفقت النسوية والتحليل النفسي على أن للحميمية دور مُهم في العلاقات الزوجية، وأنها يجب أن تكون الغاية النهائية الواجب تحقيقها بقدرٍ من البراعة والمعرفة وطلب المساعدة، ويقصد بها عادة القدرة الرفيعة على التواصل العاطفي والجسدي في آن، وتحقيق فهمٍ متبادل بين الطرفين يضمن نجاح العلاقة مهما كانت المشاكل التي تواجههما.

بمعنى آخر، لقد عقلنت النظريات الاجتماعية الحديثة المشاعر لدى كلا الجنسين،وطالبت الإنسان الحديث بالتحكم بعواطفه وامتلاك القدرة الرفيعة في التعبير عنها في آن، كون ذلك السبب الحقيقي والأصيل لحل مشاكله مع نفسه والآخر، فصارت مهارات التحكم بالنفس والعاطفة هي المطلوبة والعنصر الثمين الذي يبحث عنه الإنسان الحديث للتخلص مما يُتعبه.

وهكذا، صار للعلاج النفسي سرديته العامة والشهيرة على مستوى الأفراد والمؤسسات، وبالتخلص من الربط الذي أقامه فرويد بين إرادة التغيير على المستوى العاطفي وبين مكانة المرء في طبقات المجتمع، شاعت مفاهيم التحليل النفسي في الأدبيات وسط أجواء من التفاؤل وإمكانية التغيير وتحقيق العديد من الإنجازات عبر ربط التحرر النفسي بالتحرر المادي والنضج العاطفي بتحقيق الإنجازات المادية، وظهرت اتجاهات نفسية تكرِّس سردية الضحية والمرض والصدمة النفسية، ليصير فضاء العلاج النفسي فضاءً تجارياً يستفيد منه قطاع الأطباء النفسيين وشركات الأدوية التي تبيع أدوية نفسية، غير أن المشكلة لا تكمن فقط في تسليع الحالة الذاتية غير المفهومة بعد، بل كذلك في ترسيخ سردية تعرِّف الذات من حيث المرض الذي يصيبها ورحلة العلاج الذي تسير عليه.

ما يعني أنَّ البنية الرمزية السردية صارت متوافقة مع الصناعة الثقافية لتبدُّل مبررات السرد وصوره وتأويلاته بصورٍ استهلاكية تخدم الجهات المستفيدة، وصارت السردية النفسية العلاجية هي القصة التي يحكيها الإنسان الحديث عن نفسه اليوم، فقد عنى السرد الذاتي للمعاناة تحرُّر المرء من هذه الذاكرة عبر مشاركتها مع الآخرين، ولأن الثقافة تحتاج إلى ممارسة اجتماعية كي تنتشر وتترسخ، فقد تمثلت ثقافة العلاج النفسي بمجموعات الدعم المختلفة، والتي تطورت لتصبح استثمارات رأسمالية ضخمة، في عالمٍ بات يحتفي بالضحايا والناجين، ويسبغ عليهم مكانة أخلاقية مُميزة.

لقد تحدث فرويد في نظرياته عن أنَّ الحالة العاطفية للمرء تتبع طبقته الاجتماعية (أي الطريقة التي نشأ فيها والإمكانات المتاحة له)، ولكنه تحدث كذلك عن أن الحالة العاطفية تُنتج هذه الطبقة وتخلق هذه الإمكانات، فالاختيارات الشخصية اللاحقة هي التي تموضع المرء في العالم المهمش أو العالم الرفيع، وفي ذلك كان يشير إلى مهارة ندعوها اليوم بالذكاء العاطفي، أي قدرة المرء على إدارة عواطفه ومشاعره لكي ينال مراده من الحياة أو الآخرين، أي عقلنة العواطف والقدرة على التعبير عنها بالطريقة الملائمة. وللأهمية التي نُسبت للذكاء العاطفي اليوم فقد صار من المُهم امتلاك كلا الجنسين مهارات ذكورية تخص تأكيد الذات ومهارات أنثوية تخص التعبير عن العواطف ليجدا لنفسيهما مكان مُعتبر في سوق العمل، وكانت هذه غاية فرويد في المقام الأول: “كانت أبرز إسهامات فرويد في الثقافة الأمريكية صياغة لغة وتقديم أطر للمعنى تضع الحياة اليومية، والصحة النفسية والسواء في مركز هوية الرجال والنساء الحديثين”، ولكن دمقرطة الحياة العملية والخاصة خلقت فوضى وتناقضات للذات الحديثة، وجعل مسؤوليتها وحدها إيجاد حل لمشكلات اجتماعية في الأصل، وجعل إطار فهم النفس خاص بالنفس فقط من دون المحيط والعوامل الثقافية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية العاملة فيها. غير أن اعتراضات الكاتبة الرئيسية على ثقافة العلاج الذاتي اليوم تمحورت حول نقطتين رئيسيتين:

  • لا يُمكنك التعبير لغوياً عن كلِّ ما تريد وتفعل وتشعر به، فما يُدعى اليوم بأيديولوجيا اللغة يفترض بأن معرفة النفس ممكنة عبر الاستبطان الداخلي الذي يساعدنا على تقبل محيطنا، ويمكِّننا من التعبير العاطفي عما نريده، غير أن الكاتبة ترى بأن نتيجة ذلك يكمن في “التعمية اللفظية” التي “يعمى” الإنسان عن جوانبه النفسية الخفية عبر اللغة التي يعتقد بأنه يعبِّر بها عنها، فتكون اللغة خافية للجانب لا مُظهرة له، وذلك نتيجة لأن النفس تنطوي على جوانب لا يمكن الحديث عنها باللغة، كالحدس أو البصيرة أو الجوانب الخفية التي تكمن خلف قراراتنا ورغباتنا وأفعالنا من دون الحاجة إلى لغة للتعبير عنها، وهذا يدعم توجهاً اجتماعياً لفهم النفس والذات لا تبعاً للماضي والطفولة فحسب، بل كذلك تبعاً لتشكلها مع الآخرين وعبر الآخرين، حيث “تتشكل أفعال الناس وردود أفعالهم وفق ضغط الموقف، لا وفق خصائص داخلية ثابتة للذات (التي تحتاج إلى كشفها)”، نجد ذلك في الأطروحة النفسية-الاجتماعية-الفلسفية التي تقدمت بها الفيلسوفة جوديث بتلر في كتابها “الذات تصف نفسها”.
  • لا يقتصر تعريف الذات على معاناتها، فالتوجه الحديث للحديث عن المعاناة واستنباطها من الماضي ومشاركتها يرسِّخ وجودها كجزء فاعل بل ومُهيمن على الذات وسلوكها وفكرها وتصوراتها، وترى الكاتبة أن استرجاع المعاناة تجديدٌ لدورها في حياة المرء وتعظيمٌ له، إلى درجة تصير هي السردية التي تحكي قصة المرء بعيداً عن بقية الجوانب الأخرى التي نتشكل بها وعبرها، لذلك يعمِّق العلاج النفسي من المعاناة ولا يُحرر المرء منها، بل يقولبه في قالب الضحية أو الناجي ويحتفي به إثر ذلك ويجعله يعرِّف نفسه بذلك الحدث الأليم الذي حدث له، وذلك بأن ينزع سبب المعاناة من الإطار السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي ويلقيها فقط في الإطار النفسي، فتصير “المعاناة أثراً للعواطف غير المنضبطة أو النفس المضطربة أو مرحلة يتعذر تجنبها من التطور العاطفي للمرء”. وفي ذلك إلقاء للمشاكل الاجتماعية على كاهل الفرد ليتحمل مسؤولة انزعاجه منها وتعاسته على إثرها، الأمر الذي تحدث عنها مطولاً زيجمونت باومان في كتابه “الأضرار الجانبية”.

ومن هنا، أجد الكتاب ثرياً بالأسئلة التي يطرحها والاعتراضات التي يقف عندها، لقد جعلت الكاتبة من كتابها مقدمة تحليلية وجيزة حول ما تريد الاعتراض عنه في النهاية، والقارئ يشعر بأنها تتحدث عن جوانب نفسية مُهمة نشعر بها اليوم وندرك افتقار التوجه النفسي الجديد إليها، لذلك من المُهم الاطلاع على هذا النوع من الكتب الناقدة لنتمكن من الحفاظ على ما يجعلنا دائماً ذواتاً واعية تُسائل الفكر وتحسِّنه قبل أن تقبل به.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب إنقاذ الروح الحديثة  قراءة المزيد »