المقالات

يا أيها الشعراء الشباب، أرجوكم اقرؤوا كل شيء | آدم زاغايفسكي

يا أيها الشباب
 

أشعر بخطر واحد على الأقل هنا [في هذه المقالة]. إذ قد أضع بمحض الصدفة – عبر مناقشة سبل القراءة، أو رسم بورتريه لـ”قارئ جيد” – تصورًا بأني شخصيًا قارئ مثالي، ولا يوجد ما هو أبعد عن الحقيقة من ذلك، فأنا قارئ فوضوي، والفجوات في تعليمي تسلب الأنفاس أكثر من جبال الألب السويسرية. وهكذا فملاحظاتي يجب أن ترى على أنها تنتمي إلى الأحلام، وضربًا من يوتوبيا شخصية، بدلًا عن كونها توصيفًا لإحدى فضائلي القليلة: القراءة بشكل فوضوي!

أفرغت قبل فترة أحد الحقائب التي رافقتي ذات عطلة صيفية. فلننظر إلى الكتب التي أخذتها معي إلى سويسرا بالقرب من بحيرة جنيف. لا بد أني جلبت [كتب] جان جاك روسو، و[لورد] بايرون، ومدام دو ستايل، ويوليوش سوفاكي، وآدم ميكيفيتش، و[إدوارد] غيبون، و[فلاديمير] نابوكوف، بما أنهم جميعًا على صلة بهذه البحيرة الشهيرة بطريقة أو أخرى، لكن – في الواقع – لم يأت أحد منهم إلى هذه الرحلة معي، إذ أرى على طاولة مكتبي بدلًا عن هؤلاء كتاب جيكوب بوركهارت “الإغريق والحضارة الإغريقية” (نعم، بالترجمة الإنجليزية، حيث اقتنيته من مكتبة تبيع بنصف السعر في هيوستن [بالولايات المتحدة])، ومختارات من مقالات [رالف والدو] إمرسن، وقصائد شارل بودلير باللغة الفرنسية، وقصائد ستيفان جورج بترجمة إلى البولندية، وكتاب هانز يوناس الكلاسيكي عن الغنوصية (باللغة الألمانية)، ومجموعة قصائد للشاعر زبينغيف هربرت، ومجلد أعمال هوغو فون هوفمنستال الكاملة الضخم المشتمل على مقالاته العظيمة. بعض هذه الكتب من عدة مكتبات في باريس، وبالتالي يطرح المجرود قبل قليل احتمالًا بأني قارئ عصابي يؤثر كتب المكتبة العامة على مسؤولية المالك، وكأن قراءة الكتب التي لا أملكها تعطيني حرية إضافية قليلة (إنها المكتبات – المكان الوحيد الذي نجح مشروع الاشتراكية فيه).

لكن لماذا أقرأ؟ وهل عليّ حقًا الإجابة عن هذا السؤال؟ يبدو لي أن الشعراء يقرؤون لشتى الأسباب، بما فيها تلك المباشرة والتي لا تختلف عن دوافع أي إنسان. لكن قراءتنا تندرج في أغلبها تحت لوحتين: لوحة الذاكرة ولوحة النشوة. فنحن نقرأ بدافع الذاكرة (أي للمعرفة والتعلم) لكوننا نشعر بالفضول إزاء ما أنتجه أسلافنا الكثر قبل أن تتفتح عقولنا، وهذا ما ندعوه بالتقليد – أو التاريخ.

لكننا نقرأ أيضًا للنشوة. لماذا؟ دون سبب. لأن الكتب لا تحتوي فقط على الحكمة والمعلومات المنظمة بل أيضًا على الطاقة التي تشبه ما يعتري الشامان حين يرقص ويثمل، وهذا يصدق بالفعل على (جزء من) الشعر، لأننا شخصيًا نشهد تلك اللحظات الغريبة حين تقودنا قوة ما تتطلب الطاعة المطلقة، وفي أحيان تخلّف وراءها بقع سوداء على الورق مثلما تخلّف النار الرماد (يطلق الفرنسيون على فعل الكتابة “تسويد الورق”)، وما إن تقع أسير نوبة كتابة تحت النشوة حتى تتصرف مثل مدمن مخدرات يريد المزيد على الدوام، إذ ستفعل أي شيء من أجلها، ولا تبدو القراءة [في سبيل ذلك] تضحية لا لزوم لها.

تقع الكتب التي أقرؤها – إن كان اعتراف مثل هذا مطلوبًا أو مرغوبًا – ضمن هاتين الفئتين، كتب الذاكرة وكتب النشوة. لا يمكنك قراءة كتاب من كتب النشوة في آخر الليل، إذ يعقب ذلك الأرق. بل عليك بقراءة التاريخ قبل النوم، وترك رامبو لحين الظهيرة؛ فالعلاقة بين الذاكرة والنشوة غنية ومفارقة وجذابة، إذ يمكن أن تنمو النشوة من الذاكرة أحيانًا فتنتشر مثل نار في هشيم – ويمكن لسونيتة قديمة التقطتها عين طمّاعة أن تشعل شرارة قصيدة جديدة. لكن الذاكرة والنشوة لا يتداخلان طوال الوقت، إذ قد يفرق بينهما بحر من اللامبالاة.

يوجد أساتذة من ذوي الذاكرة الحادة لكنهم لا ينتجون إلا قليلًا. قد ترى في أحايين عجوزًا يرتدي ربطة عنق بأسلوب الفراشة وظهره منحن بفعل السنوات فتقول: ذلك الشخص عالم بكل شيء. والحق أن بعض أولئك القراء العجزة على قدر كبير من المعرفة (ليس بالضرورة أن يكون ذلك العجوز الضئيل الذي رأيته ذلك اليوم)، لكن ذلك مختلف بشدة عن الإبداع، وعلى الطرف الآخر من المعادلة نرى المراهقين المنتشرين بفعل [موسيقى] الهيب هوب، لكننا لا نأمل بحصاد فنّي غني من هكذا شغف بالتحديد.

الواضح أن الذاكرة والنشوة محتاجان لبعضهما بشدة؛ إذ تتطلب النشوة قليلًا من المعرفة، ولا تفقد الذاكرة شيئًا حين تلونها المشاعر الجياشة. وما يشكل بشأن القراءة مهم للغاية بالنسبة لنا – وضمير الجميع يقصد الشعراء، ومن يميلون إلى التفكير والتأمل – لأن تعليمنا قد ابتعد بقدر كبير عن المثالية. فلم تول المدارس الليبرالية التي دخلتموها (أو الشيوعية التي درست فيها) اهتمامًا بالكتب الكلاسيكية إلا قليلًا، بل أن اهتمامها بعمالقة الحداثة أقل؛ إذ أنها فخورة أكثر بإنتاج خط من المنتمين لجماعة “الحيوان الأكبر”، المكون من المستهلكين شديدي الاعتداد بأنفسهم. صحيح أننا لم نتعذب مثل مراهقي إنجلترا في القرن التاسع عشر (أو فرنسا أو ألمانيا أو حتى بولندا في ذلك الصدد): إذ لم نُلزَم بحفظ نصوص فرجيل وأوفيد كاملةً، لكن علينا أن نكون ذاتيي التعليم. فالفرق بهذا الخصوص بين شخص مثل جوزيف برودسكي، الذي ترك المدرسة في سن الخامسة عشر ومضى ليقرأ كل ما وقعت عليه يداه، وبين شخص مضى في سلم التعليم الأمريكي الحديث بأكمله، بما في ذلك الدكتوراة، بينما لا يخرج في قراءته عن مناطق قراءات الجامعات الرفيعة إلا قليلًا، لا يحتاج إلى تعليقٍ كثير. فنحن نقرأ بشكل رئيسي خارج الدائرة الأكاديمية وفي حياة ما بعد الجامعة. ومن أعرفهم من الشعراء الأمريكي قراء نهمون ومع ذلك أرى بوضوح أنهم بنوا معرفتهم خلال فترة ما بين التخرج ودخول منتصف العمر. وأغلب الطلاب الأمريكيين لمرحلة ما بعد البكالوريوس ذوي معرفة شحيحة، أقل من نظرائهم الأوروبيين، لكن العديد منهم سيعوض هذا الفارق في السنين القادمة.

الجهل محفز معرفي

لدي انطباع أيضًا أن العديد من الشعراء الأمريكيين الشباب يقرؤون اليوم في أفق ضيق للغاية؛ إذ أن غالب قراءاتهم في الشعر، وليس سواه إلا قليل من النقد الأدبي. من المؤكد أنه لا خطب في قراءة الشعر منذ هوميروس إلى زبينغيف هربرت وآن كارسون، لكن هذا الضرب من القراءة يبدو لي غارقًا في التخصص. إذ يبدو كما لو أن تسمع طالبًا في تخصص الأحياء يقول لك: “إني أقرأ كتب علم الأحياء فقط”، أو رائد فضاء لا يقرأ إلا كتب علم الفضاء، أو رياضيًا يقرأ فقط ملحق الرياضة من جريدة “نيويورك تايمز”. لا يوجد خطأ شنيع في قراءة الشعر “فقط”، لكن يحوم ظل من الاحتراف المهني سابق أوانه على هذا الفعل، علاوة على ضرب من السطحية.

تطرح قراءة الشعر “فقط” فرضية أن هناك شيئًا صلبًا ومعزولًا بشأن تأليف الشعر في الوقت المعاصر، وكأن الشعر بات معزولًا من أسئلة الفلسفة المركزية، ومن قلق المؤرخ، ومن حيرة الرسام، ومن شقاء السياسي النزيه، أي من منبع الثقافة العميق الشائع. فالطريقة التي ينظم بها الشاعر الشاب قراءته – في الواقع – شديدة الحسم بشأن مكانة الشعر بين الفنون الأخرى، إذ تحدد – ليس فقط لفرد واحد – إذا ما كان الشعر مجالًا مركزيًا (حتى لو قرأه فقط قلة سعيدة من الناس) يستجيب للأحداث الرئيسية ذات لحظة تاريخية معينة، أو أنه شكل مثير للاهتمام إلى حد معين من الكدح الذي ما زال يستمر في جذب عدد قليل من المعجبين التعساء لسبب ما.

لعل الأمر على النقيض من ذلك تمامًا، إذ تعكس أنماط قراءاتنا ما نخلص إليه في أعماقنا – ولو لم تكن عن وعي بشكل كامل – إزاء مكانة الشعر. فهل نحن راضون بنهج المتخصص الضيق، وبالعلاقة الحصرية مع الأدب النمطي لأولئك الكتاب الذي ارتكنوا إلى الحكايات الصغيرة عن القلوب المكسورة؟ أم سنطمح – بدلًا عن ذلك – إلى لحظة الشاعر النبيلة، إذ يعاني من أجل تفكيره وغنائه ومخاطرته، وتقبله بمروءةٍ وجرأةٍ واقعَ إنسانية زماننا الآخذة بالتضاؤل (دون نسيان القلوب الكسيرة)؟ لذا، أرجوكم أيها القراء الشباب، اقرؤوا كل شيء. اقرؤوا لأفلاطون وأورتيغا إي غاسيت، وهوراس وهولدرلين، ورونسار وباسكال، ودوستويفسكي وتولستوي، وأوسكار ميووش وتشيسواف ميووش، وكيتس وفيتغنشتاين، وإمرسن وإملي دكنسن، وتي. إس. إليوت وأمبرتو سابا، وثيوسيدس وكوليت، وأبولينيير وفرجينيا وولف، وآنا أخماتوفا ودانتي، وباسترناك وماتشادو، ومونتيني والقديس أوغسطين، وبروست وهوفمانستال، وسافو وشمبورسكا، وتوماس مان وأسخيليوس. اقرؤوا السير والرسائل الفلسفية، والمقالات الأدبية والتحاليل السياسية. اقرؤوا حبًا بالمتعة، ولأجل إلهامكم، والفوضى الحلوة في رؤوسكم الجميلة. لكن اقرؤوا أيضًا ما لا يمثلكم، اقرؤوا حبًا بالحيرة والعجز، وحبًا باليأس وسعة الاطلاع. اقرؤوا الملاحظات الجافة والتهكمية للفلاسفة الساخرين مثل إميل سيوران أو حتى كارل شميت، واقرؤوا الصحف، ولمن يحتقرون الشعر أو ينبذونه أو يتجاهلونه ببساطة، وحاولوا تفهُّم سبب فعلهم ذلك. اقرؤوا ما كتب أعدائكم وأصدقائكم، ومن يعززون إحساسكم بما يتطور في الشعر، واقرؤوا حتى لمن لا يمكنكم فهم ظلامهم أو حقدهم أو جنونهم أو عظمتهم، لأنكم بهذه الطريقة فقط ستكبرون وتعيشون أكثر من أعماركم، وتصيرون إلى ما تصبون نحوه.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول.

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".

يا أيها الشعراء الشباب، أرجوكم اقرؤوا كل شيء | آدم زاغايفسكي قراءة المزيد »

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن

Picture of د. سوسن العتيبي
د. سوسن العتيبي

دكتوراه أصول الدين ومقارنة الأديان من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن

حظي التلخيص في التراث الإسلامي بمكانة رفيعة، وفوائد جمّة، وحفظ لتالد تالف؛ فبعض الكتب لم تُحفظ جواهرها إلا في قالب تلخيص أو في ثنايا كتاب لاحق. وترافق التلخيص مع الاختصار، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فالتفريق بينهما مهم لمن رام التدقيق. والتلخيص قد يكون اقتصاراً على مهمات الكتاب وإيجاز الكلام وحذف الشواهد والأمثلة فيشابه الاختصار، وقد يكون إبانة إضافة وتيسير للإفهام. والتلخيص إبانة عن المقصود، كقول: لخص لي كلامك، أي بيّنه. والإبانة تخليص للكلام من الغموض المباعد بين المتحدث والمتحدث إليه. فالتلخيص يجمع عدة معان، أهمها: الإبانة.

لم يكن طه عبد الرحمن أول دائرة الملخصات التي دأبتُ عليها لغرض ذاتي أولاً؛ إذ الملخص نوع من إبانة مقصود الكاتب الذي قد يغمض أثناء القراءة دون التفحص الدقيق، فإن كان النظر ينقل لنا المعاني قراءة، فاليد تنقلها لنا تحليلاً؛ وقد يكون تلخيصا للأيام التي تلغي فيها الذاكرة طريقا قطعناه مع الكتاب -ومن لا ينسى؟-، وقد يكون لإيجاز الكلام والبحث عن الهيكل العام، وتتكاثر الدوافع لتكاثر الأغراض. ومفردة “التلخيص” واحدة، غير أنها جملة من المهارات والآليات المطلوبة لإنجاز: الإبانة أو الإيجاز أو الشرح، أو كل المعاني المحتملة بحسب كل مجال وغرض وكتاب، وبما أنها ممارسة فالممارسة تكتسب وتتطور مع الزمن حتى تصير خبرة تعين صاحبها على طيّ ما كان من المفاوز في البدايات.
من واقع التجربة؛ لم يكن تلخيص كتب طه عبد الرحمن كبقية الملخصات، إذ عمدت إلى تلخيصها بدقّة على فترات، فترة التحصيل للفهم (الإبانة)، ثم أعدت تلخيص جملة من كتبه لغرض الإيجاز والتركيز على متطلبات كتابة الأطروحة، ثم الثالثة والأخيرة أعدت تلخيص كل أعماله لغرض التثبت من الفهم والبحث عن البنية الأعمق لكل كتاباته مجتمعة عبر ترتيب زمني واستغرقت متوسط ٩ أشهر بواقع ٦ ساعات يومياً.

طه عبدالرحمن
طه عبدالرحمن

يتميز طه عبد الرحمن بطريقة كتابته الاستدلالية، وفق ترتيب أكسيومي يبدأ بمسلمات ثم يتدرج استدلالاً معها، وكتبه متخمة بدراسات قرأها ثم لخص ما تيسر منها بحسب غرضه، وهذا يتطلب أحيانًا الرجوع لبعض الكتب التي اعتمد عليها للتثبت من أصل مصدره ورؤيته له. فمعرفة النمط العام لكتاباته يسهل علينا مهمة مقاربته بالهيكل الأنفع لتحصيل فوائد كتبه، فأقرب هيكل يمكن أن نرسم عليه كتب طه عبد الرحمن ما يسمّى بـ “عظم السمكة” أو “التشجير” من الأصول حتى أدق التفريعات ثم الخلوص للنتائج؛ إذ كتابته أكاديمية بامتياز، وجل كتبه كتبت بطريقة تقرأ من الأول حتى الأخير لاستخلاص النتيجة.

من أراد الابتداء بتلخيص كتاب من كتبه فليبدأ أولاً بالمقدمة، ويركز عليها كثيراً، ثم ينظر في الهيكل العام للكتاب وتقسيمات الأبواب والفصول، ويحاول في ورقة مستقلة أن يربط بين المقدمة والهيكل العام، ثم يبدأ بقراءة كل فصل مع تلخيصه لاستخلاص المحور وما لحقه من استدلالات، واستخلاص طريقة استدلال طه عبد الرحمن على محاوره بأنواع البراهين والاستدلالات التي استعملها، ثم بعد ذلك وضع الخلاصة، وإكمال تلخيص الكتاب حتى النهاية على هذا النحو، فهذا أول الأمر للفهم، ثم قد يعود القارئ الذي حصّل قدراً جيداً من المعرفة المطلوبة لغرض نقدي؛ حيث ينظر إلى طريقة استدلال طه عبد الرحمن ويوازنها بما صرّح به من طرق استدلالية، أو بتتبع النقلات الاستدلالية، ليرى مدى تلاحم استدلاله أو وجود نقاط لم تكن واضحة أو ثغرات وقع فيها؛ إذ بعض هذه الثغرات قد يتجاوزها طه عبد الرحمن لأنه ذكرها في مؤلفات سابقة؛ فيبقيها على معهود سالف، ليس في ذكره إلا الإطالة.


أما إن كان الغرض قراءة الكتاب فقط؛ فيتطلب التلخيص معرفة نوع الكتاب: منهجي، موضوع بعينه… ولأي فترة من فترات حياة طه عبد الرحمن ينتمي حتى يعرف أين يضع قدمه، أثم كتب تسبق هذا الكتاب أم لا؟ إذ قراءة كتاب مثل “المفاهيم الأخلاقية” قد لا يفيد كثيراً من لم يقرأ الكتب التي قدمها طه عبد الرحمن لتبيين فلسفته الائتمانية. كذا قراءة كتاب مثل “فقه الفلسفة: القول الفلسفي” قد لا يفيد كثيرًا من لم يقرأ ما تقدّم من كتب.

نصائح خلاصة تجربتي مع كتب طه عبد الرحمن لمن أراد قراءة الأعمال الكاملة له:

  • لا بدّ من امتلاك القدرة الآلية والمعرفية التي تمكّنك من قراءة وتلخيص كتبه، ومتابعة الخطط الأنسب لك والمنشورة على الصفحة الخاصة بتقديم أعماله على تويتر.
  • الأنفع أن تقرأ الكتب وتلخصها وفق خط زمني، تبدأ من البحوث الأولى حتى تصل لآخر ما كتب -متّع الله به-، لأن بعض الفجوات في بعض كتبه لا يسدها إلا معرفة ما كتب سابقًا.
  • ضاعف التركيز على مقدمة كل كتاب، خصوصًا الكتب المركزية في بداية كتاباته.
  • ركز على البنية العامة المتكررة في كتبه، وهذه تحتاج منك لقوّة حدس للآليات والمفاهيم المضمرة التي قد تشربها طه عبد الرحمن ولم يجد حاجة للتصريح بها، أو قد لا يعي أنه يستعملها باستمرار.
  • تنبه لتغيرات في بعض المفاهيم، وبعض المسميات، وبعض الآليات، وهذه تفتح لك باب معرفة أسرار تولد المفاهيم الجديدة عنده، كذا الحجاج لمشروعية بعض المساهمات التي قدّمها، والتفريعات التي استخرجها بعد تمكّن بعض المفاهيم والنظرات، وبعض المفاهيم والآليات التي استغنى عنها لوجود ما فاقها إجرائية، كذا دقة النقد الذي تطور معه بشكل ملحوظ.
  • ستجد من الصعب وضع مفهوم عام لقضية ما عند طه عبد الرحمن دون حفظ سياق الكتاب الذي انتقد من خلاله بحسب المجالات، أو الخطابات، أو الواقع، أو الواجب، نحو مفهوم “الأخلاق” أو مفهوم “الإنسان”… إلخ؛ فهذه غالبًا محكومة بالسياقات وإن ظنّ الظان أنها ثابتة في كل مؤلفات طه عبد الرحمن.

في خاتمة المقال: الإلقاء الثاني فرع عن الانتقاء المصاحب للإلقاء، وتجربتي تجربة انتقاء مضمر وإن لم يتضح لي ما ألقيته وأبقيت ما انتقيته، ثم قدّمته، وفق معطيات شخصيتي وتجربتي، قد تختلف لدى شخص آخر فيلقي للسائل بحسب تحيزاته وانتقاءته، وبمجموع التجارب تتكثف الخبرة وتضاء زوايا أكثر.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول.

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".

تجربتي في تلخيص كتب طه عبدالرحمن قراءة المزيد »

كيف أسسنا #مكتبة_بكل_مكان؟

كيف-أسسنا-مكتبة-في-كل-مكان

يتقاطع المقهى مع القراءة بشكلٍ غريب، إذ يجتمع فيهما الاختلاء مع الذات أو الصديق، وشعور الصفاء والترويح عن النفس، والانزواء عن العالم، ليصبح الفرد فيهداخل المكتبة/المقهى، خارج العالم!”، كما هو عنوان كتاب المترجم الأستاذ راضي النماصي.

بداياتٌ متعثّرة

ذات يومٍ، وأثناء لقائي مع الصديقمحمد عبدالجبّاربأحد المقاهي، اتفقنا على تأسيس مبادرة تطوعية لنشر المكتبات المصغرة في المقاهي، بتكاليف تقترب من الرقم صفر!  وذلك عن طريق التواصل مع المؤلفين، وعرض الفكرة عليهم، ليتبرعوا للمشروع بنسخ من كتبهم، ثم ننسق لاحقًا مع المقاهي لتخصيص مساحة بسيطة من المقهى لعرض الكتب بها.

وجرى التنسيق على أن تعمل كافة الفرق التطوعية التابعة لفريق رفد في كافة مناطق المملكة لتحقيق نفس الهدف  تواصلتُ أولًا مع الأصدقاء في نادي القراءة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وبدأنا المشروع على نطاقٍ ضيّق، كنّا نزور المقاهي القريبة من منازلنا، نحصل على مواعيد مع أصحاب المقاهي، غالبًا ما رُفضت فكرتنا، ونادرًا ما تلقاها مُلّاك المقاهي بالقبول، كانوا يرفضون أحيانًا لصغر حجم المقهى، أو عدم وجود مساحة مخصصة للكتب، بالرغم من توفر مساحاتٍ كبيرة في أحايين كثيرة. كان بعض العاملين يُصارحوننا بصعوبة أخذ الموافقة من الإدارة، وأذكرُ أني في أحد المرّات انتظرتُ ساعتين حتى أتمكن من لقاء صاحب المقهى، والذي وافق مباشرةً بمجرد شرح الفكرة!

واجهتنا مشكلةٌ أخرى مع المؤلفين، إذ كان عدد منهم لا يرى أهميةً لوجود الكتب في المقاهي، والبعض الآخر كان يشترط أولًا انتشار الفكرة ونجاحها، بينما اعتذر آخرون لعدم وجود مظلة رسمية لمبادرتنا في ذلك الوقت. وبالمقابل فقد أخجلنا كرم عدد من المؤلفين، إذ سرعان ما راسلونا بالنسخ مشجعين ومثنين على المبادرة وفريقها، وهو ما دفعنا للمضي قدمًا رغم كل شيء.

التحليق عاليًا

نسقنا مع المجموعات التطوعية التابعة لمؤسسةرفد، وفرقها منتشرة في كافة مناطق المملكة، حملوا على أكتافهم المبادرة لأفكار لم نحلم بها، فقد توالت الأيام، وكبُرت الفكرة، وازداد عدد الفرق التطوعية في مختلف نواحي المملكة، جدّة، الرياض، المدينة المنورة، خميس مشيط .. كان الفريق ينمو شيئاً فشيئاً، وأصبح الكتّاب يتواصلون معنا للتبرع بكتبهم، والمقاهي تراسل الفريق على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لتدعوه إلى افتتاح مكتبات في فروعها، ولم أصدق نفسي وأنا أرى واحدًا من كبرى مقاهي الرياض يدعونا لافتتاح مكتبة في أكبر فروعه!

استمرّ البرنامج قرابة عام ونصف، افتتح الفريق في كافة أنحاء المملكة ما يزيد على 350 مكتبة في المقاهي، أصبح زوّار المقاهي يتصفحون عناوين الكتب في الوقت الذي ينتقون مشروبهم المفضل من قائمة الطلبات. هل نشعر بالفخر؟ بلا شك. هل كان العمل مرهقاً؟ والساعات التي شملت التخطيط والمتابعة وتفعيل حلقة الوصل بين المتبرعين بالكتب والمقاهي مرهقةً أيضًا؟ كانت بلا شك تحدياً حقيقياً، لشباب في بداية حياتهم المهنيّة وأعباء الوظيفة والأسرة تناوشهم. لكن الأمر حدث والحمد الله! بدأت الصحف تتواصل معنا لنشر أخبار وتغطيات لنا، واستضافت قناة فضائية شهيرة مؤسس الفريق ، كما دعمنا عدد من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي.

التطوّع النبيل

لا ينكشف لنا غير وجه واحد للنجاح في كثير من الأحيان، لكني عرفتُ معرفدأن له أكثر من شكلٍ ومظهر، فكلّ مرةٍ أزور أحد المقاهيصدفةًوأرى مشروعنا قد وصل إليه، وأتأمل المكتبة في جانب من جوانبه، ينتابني شعورٌ غامرٌ بالرضا، وتتعاظمُ السعادة عندما أرى شخصاً يقرأ أمامي ما كان نتاجاً لجهدنا التطوعي.

في التطوع قصصٌ لا تنتهي، وجوهرهُ نبيلٌ لا تقف عليه في غيره من المجالات، وكانت واحدةً من أهم التحديات التي توقعتها هي البحثُ عن متطوعين في كافة المدن، فما الذي يدفعُ إنساناً لبذل وقته، وجهده، وماله كي ينشر لتوزيع كتب في المقاهي المنتشرة بمدينته؟ وما الذي يجبره أن ينتظر ساعاتٍ للقاء مدير أو مالك المقهى؟ ثمّ لماذا يتقبل رسائل الرفض أو التجاهل من ملّاكها أو مدراءها بأسلوبٍ فجّ غير مقبول؟ أو من مؤلفي الكتب في بعض الأحيان؟ والحقيقة أن قلةً قليلةً قد صبرت معنا وكافحت لحين تحقيق هذا الهدف النبيل، وواجهت التحديات لحين الوصول إلى مستوىً مقبول من الإنجاز، ولا أزال أذكر شاباً كان يفتقرُ للمواصلات، وكان جلّ ما يستطيع فعله هو نشر الصور والتصاميم على وسائل التواصل الاجتماعي، نبيل!

الدروس والنهايات

وبالنسبة للمردود على الصعيد الشخصي، فقد تعرفت على شبابٍ متفانين بحق، باذلين لكلّ ما في وسعهم لإنجاز المطلوب دون كسلٍ أو ملل، وأقلّ ما أكسبتني إياه هذه التجربة الفريدة هي الخبرة، في التعامل مع مختلف فئات المجتمع سواءً لملاك المقاهي أو المتطوعين وإدارتهم، ومن أصعب ما واجهت هو التحفيز غير المادي، الأمر الذي يتطلب درايةً كبيرة في الذكاء العاطفي والاجتماعي، وما يتطلبه أعضاء الفريق لإتمام المهام، وأيضاً الجمعُ بين الوظيفة ومهام التطوع وباقي المهامّ الموكلة إليّ في الأسرة أو الحياة الشخصية، فقد باتت مهارة إدارة الوقت، وإدارة ضغوط الحياة من أهم المهارات في هذا العصر.

كانت النهاية لحظة أن قرر الفريق التوقف عن المشروع، وذلك لأن الغاية قد تحققت بالوصول إلى نسبة ممتازة من تغطية المقاهي في المدن الرئيسية للمملكة، الأمرُ الذي جعل الفريق يقرر إنهاء المبادرة والتركيز على مشاريع أخرى متنوعة، كإقامة المحاضرات الثقافية، واستضافة ضيوفٍ مؤثرين في مختلف مجالات المعرفة، خصوصاً مع تزامن أزمة كورونا مع تحول أغلب الأنشطة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، أو الاجتماعات الافتراضية عن بُعد، كما صار  التركيز على جانب تلخيص الكتب صوتياً، أو مجالالبودكاست، وأطلق الفريقبودكاست مكاتيب، والذي شرفتُ فيما بعد بتقديم برنامجٍ من عشر حلقات بعنوانرواحل“.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول.

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".

كيف أسسنا #مكتبة_بكل_مكان؟ قراءة المزيد »

سبحات الذوق: قراءة تذوقية على ضوء كتاب تذوّق الشعر لـ أ.د. كمال لاشين.

لمَّا كان مطلع استحسان الحسن في هزَّة الطرب التي تسري في نفس المستقبِل عفوًا دون تكلُّفٍ واستنطاق؛ كان التذوُّق مفتاح باب الجمالفي النفس والكونومهمازُ حسن استيعابه واستثماره من بعد سريان الحياة فيهِ عبر وسيط اللغة. ولمَّا كانت القراءة لغةً هي الضمَّ والجمع وفك الرموز بخلق الوشائج فيما بينها حتَّى تُبين عن أسرارها؛ كان قدر الإبانة عن مقصود الكاتب بقدر اتساع الجمع بين رموزه ومعانيه؛ جمعًا يؤدِّيه لاستقرار المعاني في نفسه استقرارًا ينفذ منه إلى تصوراته وانفعالاته اللغوية والسلوكية والحسِّية، وإنما تحصل القدرة على الجمع بين المتشابهات على قدر تذوُّقها، ويكون تأثيرها على وسع فقهها؛ ولا يكون ذلك إلا بتكرار التعرُّض حتَّى تلين الأسباب وتتفتَّق الأفهام ويكون التذوّق مرتبة شمَّاء من مراتب الحسِّ والبصيرة والحذق = يدخل بها صاحبها إلى مسارب المعاني مما كان ظاهره الاستتار. يقول الدكتور الأستاذ محمد أبو موسى في كتابه خصائص التراكيب: “قدرتك على التذوُّق هي بداية الطريق في البلاغة، فإذا لم توجد هذه القدرة فليس هناك طريق ولا بلاغةويزيد: “حين ينظر ليتعرَّف على أسباب الحسن أو الاستهجان يكون قد بدأ العمل البلاغي، ويكون قد وضع قدمه على طريق علماء هذا العلم، وشغله حينئذ هو تفقُّد اللغة، والأحوال والصيغ والخصوصيات، والصور والرموز، وكل ما يتَّصل ببنية الشعر واللغة والأدب، ثم إنه لا يقع على هذا الذي وجب به الفضل إلا بمعونة الذوق، وهذا يعني أن هناك مرحلة سابقة للنظر البلاغيِّ يكون الدارس فيها قد هيأ نفسه وأشربها من بيان اللغة وجيِّد الكلام“.

ومثل هذا لا يختص بباب اللغة والأدب فحسب، بل يخلع معناه على ميادين المعارف والسلوكيات الإنسانية؛ فعلمك بالشيء يكون أبلغ متى أحسنت تقصِّي مظان حسنه، وهذا التقصي المستملح إنما يكون جبلَّة في أصل خلقة الإنسان الذي صوَّره خالقه في أحسن تقويم ابتداءً، وأودع فيه قصدَ الإحسان والاستحسان، وبثَّ فيه القدرة على نوال مراده، وهو على هذا قد أتاح له فسحة الاختيار فيما دون ذلك، فالمرء يسمو بحسن اختياره إن شاء حتَّى يبلغ عنان السماء، أو يهوي برداءة ذوقه سبعين خريفًا في مهاوي الفساد والازدراء، وقد عهدنا هذا المعنى الذائع في لغة العرب حين قالت: ”اختيار المرء وافد عقلهومثله: ”قيمة كل امرئٍ ما يحسنه، فحسن الانتخاب في أصله منقبة تُبين عن قدر صاحبها وعقله ووجدانه؛ ولعل الجاحظ ممَّن أوثق عُرى الاتصال بمحاسن المعاني ومُلح المباني، فكان إمام عصره في هذا الباب حتى قال فيه ابن العميد: ”كُتب الجاحظ تُعلِّم العقل أولًا، والأدب ثانيًا؛ وما أحوج الإنسان في رحلة عمره لمن تكون خلطته محراثًا لتهذيب حسّه، وجلاء فهمه، وحسن ذوقه، فبمثلهم يعلو ويأتلق في كلِّ حال.

التذوق تحت سماء المعجم اللغوي

أمَّا التذوُّق لغة: فمن ذاق الشيء، يذوقه ذوقًا، وذَوَاقًا، ومذاقًا: إذا اختبر طعمَه، والتمسَ معرفة مذاقه في الفم. والتذوُّقبناء على وزنالتفعُّلمن: ذاق يذوق ذوقًا؛ فهو يفيد معنى المبالغة من حيث أفاد تكرار الفعل المرة تلو المرة،وبالنظر إلى أصل اللفظ فإن الذوق أصله: ما أُدرك بوجهٍ من وجوه الحسِّ كما علمت، ودَلالة الحسِّ هي الأصل، وهي الأقوىكما يقول الدكتور كمال لاشين في كتابه تذوق الشعر. وقيل أن الذوق ليس حاسة مستقلة، فجعلوه من جملة حاسة اللمس، ثمَّ إنهم نقلوا الذوق والتذوق من باب المحسوسات إلى باب المعنويات على ما جرت عليه ألفاظ اللغة العربية نحو: ذاق السيف، وذاق الفرس: إذا اختبرهما، وقد ورد في شعر العرب مصداق ذلك؛ كشعر كعب بن سعد الغَنَوي لما أنشد: “وما ذاق طعم النوم غيرُ قليل، كما وردت ألفاظ الذوق والتذوق في محكم كتابه فجاءت في معنى العذاب: ﴿ليذوقوا العذاب﴾ [النساء: 56]، وجاءت في معنى الرحمة ﴿وليذيقكم من رحمته﴾ [الروم:46].

ولعلنا لو فصَّلنا القول في هذا الباب فأصل الذوقولا يخفى على شريف علمكمتعلِّقٌ بالطَّعوم، وعلى هذا فلا يبلغ سرَّ النكهة المنزوية إلا خبير، قد سبر مكنُون المكوِّنات بروحه، وجاوز حصر مجرَّد البلع إلى رحابة التلذًّذ بانسجام الأضداد وائتلاف المتباينات، ومثل هذه المنزلة إنما تكون مَلكة جبلِّية وفتح ربَّاني يناله وافر الحسِّ موفور المعاني في نفسهِ؛ فيستخرج ضياء المعنى العميق من أسداف ظاهرها، ويصطاد الفكرة الغرَّاء من خِباءها المبهم إلا عمَّن درك شعابها على قدر ارتياده لمظانها، وبذا يمايز بين جيِّدها ورديئها، وينتخب الدرَّ من بين الحلي انتخاب المدرك المتمرّس الحصيف لا الجاهل الغِر

ثلاثية الإحسان والإنسان والتذوّق

أمَا وقد بيَّنا معنى التذوُّق فيلزم ذلك أن نعرّج على أصل المفهوم في التكوين الإنساني لينطلق الإنسانُ من جوهره لأفلاك المعنى في حياته ومعارف دنياه، فيسلك سبيلًا إلى أسرار المعاني بحسن تذوُّقه، وهل يكون ذلك إلا باستحسان الحسن طبيعةً؟ فالمرء بفطرته مجبولٌ على حب المحاسن والأطايب؛ تدفعه نفسه دفعًا للطيِّب من القول والعمل، ومن هذا حسن التعبُّد، وحسن التفاعل الإنساني، وحسن الخلق، وحسن العلم، وحسن البيان. ويكفي الإنسان أن يطالع تاريخه حتَّى يتفطَّن لمبتدأ المحاسن في لغته وإرثه المعرفي، فالعرب إنما تجلَّت لغتهم وآثارهم وآدابهم عن طريق الاستدلال أيبدلالة الخبر الشاهد على الغائب من الأخبار، وهذا الاستدلال يقوم أوَّل ما يقوم على حسن التذوّقكما يشير الأستاذ الدكتور كمال عبد الباقي لاشين، ويزيد في موضعٍ آخر مُبينًا عن حسن تذوق العرب في جاهليتهم وحين حسن إسلامهم نظير مخالطتهم لفحول الشعراء والخطباء،ومن طريق ما كانوا يحسنونه من تذوُّق طبقات البيان عُرِض عليهم القرآن، ودُعُوا إلى الإيمان؛ لأن دعوتهم إلى الإسلام كانت تقتضي أن يوقنوا أن القرآن الذي يُتلى عليهموهو مُعجزة النبي إليهممباينٌ لجنس كلامهم، فائت له، وإن كان بلغتهم نزل.” وبتذوُّق بيان القرآن استيقنوا الإسلام على ما عهدوا من تذوُّق بيان فصحاء العرب وبلغائهم. أمَّا حسن التذوُّق بالمجمل فآية القلب السليم من أوضار الدنيا وآفات الزمان، وبرهان النفس العلية الشريفة، ودلالة على العقل القويم المستنير؛ فالإنسان النبيل إذن صنو الذوق الرفيع، يلازمه في كل حال، في سكناته وحركاته وفلتاته، تعرفهُ عبرها وتستدل بها عليه أينما حلَّت رحاله. يقول شيخ العربية محمود شاكر في فضل التذوق على حضارة الأمم: “كل حضارة بالغة تفقد دقة التذَّوُّق، تفقد معها أسباب بقائها، والتذّوُّق ليس قوامًا للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضًا قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله وتباين أنواعه وضروبه“. فالتذّوُّق إذن ملازم لنهضة الأمم، وهي ضرورة مُلحة لرفعتها باستعذاب كل حسن، وتطلب كل مليح على وسع طاقة أربابها. يزيد الناقد الفذ والأديب الجهبذ فيقول: “فحسن التذوق يعني سلامة العقل، والنفس والقلب من الآفات، فهو لب الحضارة وقوامها، لأنه أيضا قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارةوهذا يتعاضد مع ما قدَّمنا في هذا المعنى، وهو مؤكَّد على جدوى تهذيب الأذواق في أبواب الدنيا إذ بها تدبُّ الحياة في جسد الأمة؛ولن تتمكن الأمة من إعادة بناء نفسها، وبعث حضارتها الوليدة، والبناء عليها، إلَّا بالعودة إلى حسن التذوُّق. فلن يحصل آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها“. فليس بوسع المرء منَّا أن يتذوّق معرفة وبيان على الوجه المحمود التام في معزلٍ عن علومها وفكرها وحضارتها وسياقها الاجتماعي والثقافي ونحو ذلك.

محمود شاكر رحمه الله

الجمال بوصفه فرع التذوق

ما ينفك التلازم المنطقي بين معنى التذوُّق ومعنى الجمال، فالعلاقة بينهما تبادلية، يتذوّق المرء الجمال ليشعر به ويستشعر ذاته وكينونته، ويتموضع الجمال حتَّى يلقى متذوقًا بصيرًا يستنطق مكامن حسنه. وللجمال موقع محجوز في فضاءات الفلسفة، فكانط ممَّن عَدَّ الجمال من أسباب المتعة وهو لا يتجزأ عنده من العملية المعرفية؛ حيث أن الخيال والفهم يتشاركان على حدٍّ سواء في إنتاج المعرفة. وفي حالة الجمال تصبح الكليات المعرفية للخيال والفهم في حالة من اللعب الحر، وفي نوعٍ من التفاعل المتناغم. وقد أوجز شيخ البلاغيين محمد أبو موسى لما قال مقولته الذائعةأُعيذك بالله من أن تقرأ ما يُدهش ولا تندهشفحركة الأفكار في النفس والعقل إنما هي جوهر المعرفة وينبوع الفائدة مذ كانت العناصر المرئية والمقروءة والمكتوبة فاعلة في بعضها البعض، تتناغم وتنسجم بحسب قدرة الناظر والوارد في خلق الصلات فيما بينها، وعلى وسع طاقته في ردِّ ما حقَّه الرد منها وتنظيم ما شذَّ منها، وتفريع ما لزم، وهذه سمات المتذوِّق حقًا. وللدكتور أبو موسى إشارة بديعة هَهُنا يقول فيها: “العقل الذي يستحسن الحسن، ليس أقل مقدارًا من العقل الذي صنع الحسنوهذه مقاربة جليلة تفيد بعلو كعب الذائقة الحسنة التي حسن معها الاصطفاء كما حسن من الصانع صنعته فيما شاء. وقد ورد عن سهل بن هارون على لسان الجاحظ في البيان والتبيُّن قوله الخلَّاب: “العقلُ رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلموكلُّ عنصر كما تلحظ إنما هو عاملٌ فيما ينعقد به، وقد علَّق الدكتور كمال لاشين على هذا فقال: “البيان الإنساني حامل لكل ما يدل على الروح والعقل والعلم. ومعنى هذا أننا في تذوقنا للبيان في أي صورة كان، إنما نبحث في بيان الرجل عن مبلغ علمه، ونبحث في علمه عن مبلغ عقله، ونبحث في عقله عن روحهوهل التذوّق بعد هذا إلا قراءة في صفحات الدنيا سعيًا للبحث عن روح الإنسان التي هي جِماع مناقصه وفضائله؟ 

أداة التحصيل المعرفي والذوقي

لا يخفى على سليمِ ذوقٍ فضل البيان على سائر المزايا اللغوية والفكرية، فالمعنى المعتاد الباهت يغدو نضرًا إن حسن بيانه وكمل بنيانه بجودة الديباجة، وكم من معارف خارج الأطر الأدبية استمالت العقول والألباب بما ازدانت به من صنعة بيانية. يقول الدكتور أبو موسى: “عظمة البيان العالي أن يجعل ما لا قيمة له لا قيمة فوقه، وقد نقل محمد كرد علي عن بلونشلي الألماني ما تعريبه: “للآداب في أفكار الأفراد تأثير أعظم من تأثير العلم، إذ أن لجمال الشكل والصورة وقعًا كبيرًا في النفس أكثر من العلوم التي هي في الغالب قضايا غثّة باردة، وإن كتب شكسبير معروفة أكثر من كتب نيوتنوهذا واقعٌ ومشاهد في مختلف الثقافات والسياقات المعرفية، وإنما يدل على الطبيعة الفطرية التي تهفو للجمال تذوقًا وحسًا. والمرء منَّا يقوِّمُ ذوقه بكثرة مخالطة البيان العالي وأهله، ويهذِّب عقله بقدر ملازمته للنبهاء النوابغ في فنونهم وعقولهم، وقياسًا فمنادمة الكتاب الذي يعلو بحسِّك لا يقل أهميَّة عن الكتاب الذي يسمو بعقلك، بل ولعله يزيد عنه بدرجة لأن الحس اليقظ دليل حياة، والمرء إنما يحتاج لحياة حسِّه خارج دفتيِّ الكتب لتستقيم دنياه وأهلها، فإن وافق حسن البيان دقَّة الفهم وجلاء العقل فقد حيَّزت النعم وظفر النديم.

تذوق النصوص موسوم بفن المتذوق ومجال اهتمامه

لعل ممَّا يُحمد في المختص انسدال ظلال صنعته ومناط مهارته على سائر علومه وسلوكياته، وهذا مشاهد في أحوال متباينة، لكنها في الشعر أظهر، فتجد علماء اللغة والرواة ينتخبون من الشعر ما يلازم صنعتهم وما هو ممتد من جذع علومهم، يقول الدكتور لاشين: “النحويون اختاروا من الشعر ما فيه صنعة إعراب، وأهل الغريب والمعاني اختاروا منه ما فيه صنعة غريبٍ محوجٍ إلى تفسير، أو معنى خفي محتاجٌ إلى استخراج، وأهل الأخبار والأنساب اختاروا ما فيه الخبر والنسب والمثل والشاهدفلا ينفك متذوّق من مثل هذا بل وبه يحصل التفاضل، وكما قال ابن جني مرَّة في سياقٍ موافق: “من أتقن علمًا فقد أتقن علومًاوعلى نسقه: فمن تذوَّق معنى فقد ذاق معانٍ؛ تنكشف له بالزمان، إذ من سمت الجمال ألا ينكشف دفعة واحدة، ولا يلقاك بحسنه من أول مقابلة، إنما يبوح لك بأسراره على قدر ورودك وتكرار مطالعتك، فإن انكشف منه نزر فقد أذن لما بعده بالظهور. يقول الدكتور محمد أبو موسى في هذا المعنى: “ومن عمد إلى جليل فنظر فيه نظرًا قريبًا سطحيًا فقد صغّر ما حقِّه أن لا يصغّروعليه فالمعاني الشريفة إنما بلغت شأوها هذا على ما يلقاه الطالب من جهدٍ حتى يبلغها، وينال منها ثمرة صبره و عاقبة جهده؛ فتلذُّ عنده، ويمتد أثرها في نفسه وعقله وبيانه وسلوكه.

محمد أبو موسى

في ميادين حسن الانتخاب وحسن الاستشهاد

تقول العرباختيار المرء قطعة من عقلهويقول الجاحظ “… وبعد، فكم من بيت شعر سارَ، وأجود منه مقيم في بطون الدفاتر، لا تزيده الأيام إلا خمولًا، كما لا تزيد الذي دونه إلا شهرة ورفعةوالأمر أوسع من بيت شعر، ففي بطون الكتب من المعاني ما لم يحصه القرَّاء ويقيِّده النبهاء، وبالمقابل فلعل سطرًا من متن يكون قبلة ساعٍ نحو سفرٍ جليل، ولعل معنًى خالط عقل قارئ فطن دلَّ على منظومته الفكرية، وإنما الناس يتفاضلون بأذواقهم وحسن انتخاب معانيهم، واجتباء أوعية معارفهم، ومثل هذا يظهر بحسن إيراد الاستشهاد في جملة الكلام، فتعرف به القارئ النابه من المتلصِّص على المعارف تلصُّصًا يحمِّله أسفارًا تثقل كاهله فتتبدّى على ظاهر مبناه المتهالك وضامر عقله.

ما يحتاجه المتذوِّق

أما وقد اتضحت منزلة التذوُّق؛ فيحسن بالقارئ أن يستصحب معه في رحلته الجمالية فضل الاستعداد الفطري في التذوُّق؛ إذ أن الطبع أصل الاستحسان ومنطلقه، فإن لم توفَّق بذرة المعنى لأرضٍ خصبة تُحسن وفادتها وتعرف قدرها، فلن تثمر ثمرة يانعة تسرُّ الناظر وتبهج النائل؛ يقول ابن المقفع: ” وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم. والعقول سجيَّاتٌ وغرائز تقبَل الأدب، وبوسع القارئ أن يتلمَّس آثار الطبع على لغة الكاتب بآثاره البينة الجليَّة. ولعل من المفيد في هذا الموضع أن يعي المرء حقيقة أنَّ الطبع وإن كان سجيّة فلا يعارض أهمية الدُّربة والعناية بتجويد الأصل ومرانه، بل هذا ممَّا يسمو بالذائقة ويُربيها، فإنَّك متى جمدتَ هزلتْ قواها فيك وانفصمتْ عُراها.

وكما أن الاستعداد الفطري لازم، فإدراك أن المرء إنما يتقلَّب بين إقبال وإدبار لا يقل أهمية، وكذا التذوُّق الذي هو استجابة نفسية مردُّها للنفس اللجوج التي لا تسلِّم عقالها طوعًا على الدوام، بل شأنها التقليب، وإنما يكون ارتياضها على قدر مرانها وتفهم تباين الأذواق وفق تباين السياقات الوجدانية والفكرية. يقول المرزوقي في شرح ديوان الحماسة: “… ومعلومٌ أن طبع كل امرئإذا ملك زمام الاختياريجذبه إلى ما يستلذه ويهواه، ويصرفه عما ينفر منه ولا يرضاهبل نعتقد كثيرًا أن ما يستجيده زيدٌ، يجوز ألا يطابقه عليه عمروإذ كان ذلك موقوفًا على استحلاء المُستحلي، واجتواء المجتوِي.”

وممَّا لا يمكن إغفاله ، أن المتذوِّق الحق يعرف طبقة المتكلم ومنازل الكلام، فيفرِّق ما بين الطبقات والمنازل على قدرها، ويحسن الفصل بين الأنماط على منازل أهلها، فإن لم يقدر على ذلك ففي تذوقه نظر. وللباقلاني إشارة في هذا المعنى ذكرها في إعجاز القران؛ فيقول مبيِّنًا: “وبحسن التذوق يَعرف المتذوِّق درجة القائل من البيان، وطبقته بين المبينين من ذوق كلامه“.

ولعل الإنصافبعد كل هذايعدُّ من أجلِّ مقاصد التذوُّق، فلعلك تقرأ النص فتحسُّ منه بنغمةٍ تطربك لا تعرفُ لها تفسيرًا غير أنها وافقت ذوقك الجمالي، وقد يكون مناط التأثير لا يخرج عن إلفٍ واعتياد وهذا وجه من أوجه آفة العصبية التي قال عنها الجرجاني: “وما ملكت العصبية قلبًا، فتركت فيه للتثبُّت موضعًا، أو أبقت فيه للإنصاف نصيبًا، وما زُين عقل وقلب وبيان بزينة أعزُّ وأبهى من زينة الإنصاف والتثبُّت قبل تصدير الأحكام وترسيخ التصورات.

فصاحة البيان وعُجمة السلوك

وما دمنا في ذكر حلية الإنصاف، فكماله إنما يكون في موافقة القول للعمل، والنفس للَّفظ، فبهذا يتمايز الكلام وأهله، وبهذا يُفصل بين القارئ الألمعي وحامل لواء الاستعراض البارد الذي لا يفضي لبث الروح في المعاني والإنسان. يقول إبراهيم بن أدهم: “أعربنا في كلامنا فما نلحن حرفًا، ولحنّا في أعمالنا فما نُعرب حرفًاونعوذ بالله من أن نكون ممَّن يحسن التذوُّق ولا يحسن الإبانة عن تلك الهزَّة الطروب في سائر انفعالاته اللغوية، والسلوكية، وما يكون فوق اللغة الملفوظة والمحكية. زيَّنا الله وإياكم بحياة الحسِّ والوجدان، ورفعة العقل وحسن البيان.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول.

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها.

وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن "غيمة الألفة".

سبحات الذوق: قراءة تذوقية على ضوء كتاب تذوّق الشعر لـ أ.د. كمال لاشين. قراءة المزيد »