المقالات

فضيلة الافتقار

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-despoina-apostolidou-136436784-16764893

دوما عزيزي القارئ لا تحكم على الفكرة من عنوان أو قوالب ذهنية مسبقة في فكرك فتكن أسيرا عندها، تحكم أو تقوّم الأفكار من خلالها، فالافتقار بمفهومه الشائع والمتداول فكرة مدعاة إلى الضجر والضيق، بل الهروب منها، إلا أننا عندما نتأمل ونفكر بالافتقار من حيث ملاصقته بالإنسان نلمس فيه فضائل متعددة، ومحركات إلى السعي والطلب، والأمور بنتائجها ولو كانت الوسائل شاقة.

فضيلة الافتقار ذاتية المرجع، وحتمية الوقوع، فالإنسان كائن افتقاري ولو كان غنيا -بالمفهوم الضيق للغنى- كونه يفتقر إلى الصواب، والحكمة، والعلم، والأخلاق، والتفكير، والفلسفة، يفتقر إلى الاستشعار والشعور، ألم يقل الفرزدق يوما: “لنزع ضرس أهون عندي من قول بيت شعر”، معبرًا عن فقد الشعور الذي يمده بالمعاني والألفاظ.

الإنسان يفتقر إلى الطعام والشراب، والغريزة، فنحن نفتقر في اليوم عشرات المرات، حتى الملل الذي يرافقنا هو افتقار لكنه افتقار لشيء غير معلوم. لكن السؤال: متى يكون الافتقار فضيلة؟

تدل كلمة الفقر في اللغة على فراغ نافذ في العمق وانفراج في الشيء، ومن هنا ينشأ معنى الافتقار إذ هو الفقر مضافا إلى الشعور على سد الفراغ والانفراج.

فالافتقار محرك أساس للشعور، والافتقار شغف، وهو اكتناز؛ بوصفه محفزا إلى الطلب والتزود، والطلب لا يكون إلا بطريقة أو سيلة، فيسعى إلى تحصيل الوسيلة، وهكذا يظل سائرا في الطريق رغبة في الوصول، يحركه افتقاره إلى بغيته، بخلاف الممتلئ الذي قد غره الوهم بالشبع والاكتفاء، ولذلك لا يكون الإنسان غنيا حتى يوقن أنه فقير، ويكون فقيرا إذا شعر أنه غني، وهذه هُويته، لذلك لا يُؤمل بتحقيق الأمنيات والمعالي إلا عند من يشعر بالافتقار؛ فيحركه ذلك الشعور إلى مكتنزات الأفكار ودقائق السبل الموصلة.

فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني، إذ الافتقار البصير يغني صاحبه، والاستغناء بالمادي يفقر طالبه، فالدين افتقار روحي وعملي، والعلم افتقار معرفي، والتفكير افتقار إنساني، والكتابة افتقار حواري، والحرفة افتقار للفن، والقراءة افتقار تأملي، والدعاء افتقار كلي، وقل مثل ذلك في أي قيمة كانت عليا أو دنيا بأي شيء تفتقر، وقريب من ذلك قول ابن حزم: “وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم”. فالافتقار من مباهج النفس الحية التي تشعر وتدرك، والحكمة كما ذكرنا عن ماذا تفتقر، والمكسب الحقيقي كيف نوجه الافتقار إلى ما يزيدنا نضجا وحكمة.

إن الدروس في الحياة والعبر، واغتنام الحكمة تلزم من قبولها نفس مفتقرة شاعرة بافتقارها ونقصها، وما أحكم المعنى الذي قاله الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى                 فصادف قلباً خالياً فتمكّنا

إن من أخطر ما يهدد فضيلة الافتقار داء الامتلاء وهو داء يوهم النفس بغناها واستغنائها، وأكثر ما يتمركز هذا الداء في المال، حتى يصل الظن بالإنسان إلى أن المال سيخلده، أو أن المال الذي معه سيظل خالدا، وصدق الحق: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة:3.

فضيلة الافتقار من ثمار فضيلة الترك؛ التي بدورها تفرغ النفس من شوائب ما يسلب فضائلها فتفتح مساحة للفكر والعقل والخيال والنفس، وتقبل ما يردها من سوانح معالي الأمور وفضائلها، ولا تخلق الدهشة بالفكر إلا في نفس مفتقرة، يكون فراغها مستوعبا القدرة على التساؤلات، وتحويل البديهي إلى وعي يحيط الأشياء بالاستغراب والشك، ولذلك مكتباتنا المليئة بالكتب لا يحركنا إلى مجلداتها إلا الشعور بالافتقار إلى ما فيها، إلى ما يثري تجارب الحياة وينضجها، تشعرنا بضرورة التزود من شتى حقول المعرفة.

نحن بحاجة إلى أن نخلص المفاهيم من الماديات التي صبغت بها المعاني، فالغنى ليس غنى المال، والفقر ليس عدم الامتلاك، وإن كان هذا المفهوم نسبي أو جزء من هذا المعنى إلا أنه لا يشكله بكليته، فوراء هذه المفاهيم دلالات عميقة تختبئ في تجارب الناجحين الذين ملأت إنجازاتهم دفاتر الحياة، واستغرقت حضارات الدنيا، فكل سؤال، وكل نظرية، وكل بيت من الشعر، وكل إنجاز، يبدأ بافتقار، وما إن ينتهي حتى يبدأ افتقار آخر وهكذا.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة الافتقار قراءة المزيد »

الفكرةُ عجينُ الكتابة!

الفكرة عجين الكتابة

إن الخباز الماهر يعلم عبر الممارسة أنه لا يطيب الخبز دون خميرة جيدة لعجينه، وهذا هو حال الفكرة سواء بسواء، وهو ما يجعلنا نستنبط دلالات من هذه الصورة المجازية، تفيدنا في تخمير أفكارنا وإنضاجها، وذلك في فقرات مكثفة متسلسلة:

  • جودة الطحين لا تبرر لنا التقليل من زمن التخمير، وذلك أن الطحين الجيد مفتقر بالضرورة لبكتيريا طبيعية لا تنمو إلا عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن. وعليه، فلنا أن نقرر بأنه قد يكون لدينا فكرة عميقة أو جديدة أو حتى مدهشة، ولكن ذلك لا يعني البتة عدم حاجتنا إلى تخميرها لوقت كافٍ وبطريقة صحيحة، فالعبرة بثمرة الفكرة لا بعمقها، ونجاعتها لا بجدتها؛ والممارسة الكتابية تفيد بأن النصوص العظيمة الناجعة المؤثرة هي نِتاجُ أفكارٍ مُخمَّرة. وقديماً قالت العرب: “خمير الرأي خيرٌ من فطيره”.
  • جودة الطحين لا تسوِّغ لنا استخدام خمائر فورية، لكونها مادة ليست من جنسه، وعادة ما تنفش هذه الخمائر عجيناً إلا أنها لا تخبز ما نتغذى به ونلتذ. ومثل هذا الأمر يقودنا إلى تقرير خطورة إقحام مادة أجنبية على الفكرة، فقد يكون الإنسان على سبيل المثال متوفراً على “فكرة تراثية أصيلة”، ثم يقوم بحقنها بمواد غريبة لا تلائمها ولا تصلح لها (انتبه لهذه القيود!)، فيكون بذلك كمَنْ جلب قمحاً نادراً، بيدَ أنه أفسده بـ “خميرة صناعية” أو “مواد منهكة”!
  • الخميرة الجيدة كما قلنا تستلزم زمناً كافياً، مع اتباع الطريقة الصحيحة في التخمير، إذ هي ليست خبط عشواء، وهذه الطريقة تقضي بأن يُوضع قدرٌ معلومٌ من الطحين وقدرٌ معلومٌ من الماء، ويعجن الطحين عجناً جيداً، ويترك في حرارة الغرفة ما لم تكن حارة أو باردة بأكثر مما ينبغي. ويفيدنا هذا بأن نسعى إلى تغذية الفكرة بكل ما يجعلها تنمو وتتفرع وتتراكب وتتماسك، شريطة ملاءمة السياق، وتشمل هذه الملاءمة صاحب الفكرة، فلا يكون على سبيل المثال متحيزاً بطريقة تشوِّه الفكرة، ولا يكون جاهلاً في جوانب رئيسة منها، إذ يتوجب عليه حينها أن يقلع عن تطويرها لكيلا يتنكب الموضوعية أو يتورط في كتابة سطحية. كما تشمل الملاءمة أيضاً: الفضاء العام، إذ قد يكون غير مرحب بالفكرة، بل قد يكون معادياً لها، مما قد يضر الفكرة أو يشوهها أو يسحقها، وفي حالة كهذه، على صاحب الفكرة أن يتدبر كيفية حماية الفكرة من هذا السياق غير المواتي، أو دفعها لمن يمتلك مقومات تخميرها.
  • التخمير الجيد يتطلب عدم كتم ماعون العجين المُخمَّر بغطاء صلب، وذلك لضمان تنفس البكتيريا النافعة وتكاثرها ونموها، على أن يتبع ذلك تغذية مستمرة لهذه البكتيريا بمزيدِ طحينٍ وماءٍ وعجنٍ لعدة أيام، حتى تصل الخميرة إلى: أعلى مستويات التخمر الصحي النشط. ومثل هذا الأمر يدفع باتجاه ضرورة تعريض الفكرة لحيثيات جديدة وليس ذلك فحسب، بل تعريضها للآراء المخالفة أو الشواهد السالبة أيضاً، حيث يعين ذلك على تقويتها وجعلها تُبقي أجزاءَها القوية، وتُميت أجزاءَها الضعيفة، وهو ما يماثل حال الفكرة تماماً، إذ لا يصح أن تبقى إلا الأجزاء الصلبة أو الجيدة منها. وهنا نشير إلى خطورة نوع من التحيز يورطنا في تشبث أعمى بكل أجزاء الفكرة ولوازمها الحقيقية أو المتوهمة، وكأنها أضحتْ جزءاً من المعتقد. وهذا التحيز كفيل بإضعاف الفكرة، بل القضاء عليها أحياناً، حيث قد تكون مشتملة على أجزاء مغلوطة أو ضارة أو غير واقعية، بدرجات تكفي لإذهاب الدقة أو الجودة أو النجاعة في أجزاء الفكرة الأخرى، وهذا خطأ شنيع قلَّما يسلم المرء منه.
  • التخمير الناجح له علامات لا تخطئها عين المُخمِّر ولا أنفه، ومن بينها وجود فراغات وتخلخلات في تضاعيف العجين، مع تغير رائحة الخميرة وتقلبها إلى أن تصل إلى زكاء النضج وعبق الجاهزية. لا تحلِّق أفكارُنا ولا تتنفس إلا في سماء الفراغ، فالذكي إذن من يُحدِث فراغاتٍ كافيةً في الفكرة، لكي تتمدد وتنمو. وهذا ما يخول لنا التقرير بأن: الفكرة المصمتة أَمَة الامتلاء! ومن جانب آخر، تخمير الفكرة قد يترتب عليه شمُ رائحة زنِخة، لسبب يعود إلى الفكرة ذاتها أو إلى نوايا خلفها، وهذا أمر ينبغي التفطن له، فإن كانت هذه الرائحة مؤقتة تقتضيها طبيعة الإنضاج والتخمير فلا بأس، وأما إذا كانت دائمة، فقد يكون ذلك مؤشراً على عدم النجاعة في تطويرها.
  • كل ما سبق يزهدنا بـ “الرأي الفطير“، وهو الرأي: اللحظي التلقائي العجول، والترغيب بــ “الرأي الخمير”، وهو الرأي: المخمَّر الناضج الصالح، وثمة تحذير من مغبة “الرأي الدبير”، وهو الرأي: الفائت المتلكئ المتأخر، وقد يكون ذلك بسبب الإفراط في تخميره، والتأخر في عملية التخمير، مما يفسد خمائر الفكرة ونجاعتها وريادتها وإدهاشها وأثرها.
  • لتشسيع فكرة تخمير الأفكار، دعونا نلتقط بعض الكلمات ذات العلاقة بالتخمير، وننظر في كيفية تفعيلها، وهي متضافرة فيما بينها بشكل أو بآخر:
  • مُخامَرة: تدل على نقاشات هادفة لتخمير أفكار فردية أو جماعية بقالب منهجي محدد أو بعصف ذهني مفتوح.
  • أخمَرَ: هيأ للفكرة فضاء تتخمر فيه، إما عبر: الزمن والتفكير التراكمي الهادئ والكر والفر على قلاع الفكرة وجيوشها الجرارة من التحيزات والشواهد والبراهين، أو عبر المناقشة والمدارسة والجدل والمناظرة.
  • خَامَرَ: هنا نجد أنفسنا إزاء شخص يمتلك فكرة أولية، وهو مقتنع بضرورة أو جدوى تخمير فكرته، ويمارس طريقة أو أخرى لتخميرها.
  • مُخامَر: شخص يمتلك فكرة في طور التخمَّر، وهو بحاجة إلى مد يد العون له، إما باقتحامنا لساحته وملأ فراغات فكرته لدفعها أو لدفعه للتفكير في مسارب جديدة، أو بإفرغها منا ومن كل ما يعكر عليه صفوه، لنترك له فراغاته كي يملأها هو على مهل وتروٍ؛ وفق مقاربة يطورها عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن.
  • مِخمَار: إذا كان للتخمير آلة خاصة، فإنه يمكننا صناعة قالب مهيكل، نضع الفكرة فيه، فيعيننا على تقليبها والنظر فيها من زوايا جديدة، وفي اكتشاف مسارب خفية أو ضمنية لتطويرها عبر خطوات منهجية ممرحلة.
  • مُخمِّر: الأصل أن يكون صاحب الفكرة الأصلية، وقد يكون شخصاً يحسن تخمير الأفكار عبر احتضانها في عقله الدفِق ومخياله الخصِب، فيعمد إلى إضافة زوائد نافعة على الفكرة، وإزالة الحشائش الطفيلية عنها، ونحو ذلك، وقد يقوم بطرح أسئلة وإشكاليات، وربما يومئ إلى زوايا جديدة للنظر والتفكير عبر منهجية ملائمة للفكرة وصاحبها وللسياق أيضاً.
  • مُتخمِّر: ثمة أفكار ناضجة، وهي لا تفتقر إلا لمن يؤمن بها ويقوم بترجمتها إلى واقع ملموس وفق غاياتها ومقتضياتها وحيثيات السياق، حتى لا تكون في عداد “الرأي الدبير”.

هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية، والمجاز منجم لصناعة الأفكار الجديدة وتطويرها وحقنها بكل ما يروع ويدهش وينجع، وهذه مجرد مقاربة تطبيقية في هذا الميدان الرحيب.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

الفكرةُ عجينُ الكتابة! قراءة المزيد »

الثنائية اللغوية في التعليم

الثنائية اللغوية في التعلم

لو رأيت قلمًا ثمينًا أعجبك فاقتنيته على الفور دون استفسار، وعهدُك بالأقلام أنها ما خُلقت إلا للكتابة، فستظل تستعمله في تلك الوظيفة حصرًا. ماذا لو كنت سألت البائع عن سبب غلو ثمنه فأخبرك بعدة وظائف: أنه للكتابة التقليدية، وبه خاصية للقراءة، وبه بطاقة ذاكرة تمكنه من تحرير نصوص تلقائية… إلخ أما كانت تقديرك له سيتضاعف، واستفادتك كذلك؟ أما كانت نظرتك له ستختلف وكذلك استعمالك؟ بلى، فإن معرفة قدر الشيء ووظيفته أول الطريق للاستفادة منه أقصى استفادة، وكذلك اللغة.

أهمية اللغة

يقول سقراط في محاورة كراتيلوس لأفلاطون، إن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتلقين بعضنا بعضا هذه الأشياء فتمييز الأشياء يُقصد به التمثل، أما تلقين أحدنا الآخر هذه الأشياء فهو التواصل.

فاللغة إذن ليست مجرد تواصل بل تتعدى ذلك إلى التمييز الذهني بين الموجودات، أي أن لها صلة وثيقة بالصحة العقلية، كما أن لها وظائف عدة نجهل أكثرها، ونتعامل معها من منطلق وجه واحد نعرفه عنها فلا نستفيد منها إلا بقدر ما نعرف. والنماذج اللغوية لوظائف اللغة عديدة، إلا أن أنسبها لهذا المقام باختصار “نموذج مايكل هاليداي” فلنعتمد عليه إذن.

وطبقًا له فإن وظائف اللغة الأساسية:

  1. الوظيفة الإدراكية: وتعني بناء المعنى وتنظيم الأفكار والمعرفة.
  2. الوظيفة التفاعلية: وهي وظيفة التواصل مع الآخرين وبناء العلاقات الاجتماعية.
  3. الوظيفة النصية: أي بناء النصوص المتماسكة والمترابطة.

الواقع اللغوي للغة العربية

من الظواهر الطبيعية في اللسانيات أن تتصف اللغة بـ (الازدواجية اللغوية)، والتي تعني مستويين مختلفين من الاستخدام للسان نفسه، أي أنه تنافس بين تنوعين للسان واحد (عامية وفصحى)، ووجود وضع مختلف لكل من هذين الشكلين اللغويين إذ يستخدم أحدهما في الحياة اليومية العامة ويستخدم الآخر في الأمور الرسمية والدوائر الحكومية وفي المدارس وغيرها، ويُعد الشكل المعياري والرسمي.

وهذا ليس خاصًّا بالعربية وحدها، بل عام ممتد لكل اللغات. إلا أن الواقع اللغوي العربي يختص بظاهرة أخرى مَرَضية وليست طبيعية؛ وهي استخدام لغة أجنبية في التعليم بدعوى أنها “لغة العلم”، و”متطلبات سوق العمل” رغم أن هذا المبرر واحد فقط من وظائف متنوعة للغة، مما يعني إهمال بقية الوظائف رغم أهميتها.

أغلب الأطفال اليوم يتحدثون عامية بلدهم، ويتعلمون في المدرسة بلغة أجنبية -عادة ما تكون الإنجليزية- ودافع الأهل في اختيار هذه المدارس جودة تعليمها، وإكساب أولادهم اللغة الثانية بسهولة وطلاقة، وإتاحة فرص عمل أفضل. وفي خضم هذه المباحثات عن أفضل مدرسة، تُطمَس لغة الطفل الأم تمامًا، فهو يتكلم في البيت العامية -إن كان الأهل يعتمدون العربية- وفي المدرسة يتواصل ويتعلم بالإنجليزية التي بدأ اكتسابها توًّا. والعامية تؤدي غرض الوظيفة التفاعلية بجدراة لكنها لا تفي بمتطلبات الوظيفتين الأخريين. ثم اللغة الثانية -في الأغلب- يقتصر منها الطفل على إدارة حوارات تواصلية بسيطة، وعلى ما يتلقاه من مادة علمية معروضة بها، لكنه لا يتعمق فيها ويتشربها تشرب اللغة الأم؛ فتأتي سطحية هشّة. وعلى هذا تكون أداة اللغة لدى الطفل متركبة من جناحين مهيضين؛ عامية قاصرة، وأجنبية سطحية، فلا تثبت أيٌّ منهما للتأمل العميق والبحث في المعاني المجردة، ولا تؤهلانه للإنتاج الفكري، اللهم إلا إذا أدرك ذلك هو أو والداه واهتما بتعميق لغة من اللغتين بالقراءة والكتابة وما يتصل بهما من أنشطة ذهنية.

وقد أشار الجاحظ (ت: 255هـ) إلى ذلك في وقت مبكر حيث قال في كتابه الحيوان:

“ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأ ّن كل واحدة من اللّغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها. وكيف يكون تمكُّن اللّسان منهما مجتمعين فيه كتمكّنه إذا انفرد بالواحدة وإنّ له قوة واحدة فإن تكلّم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهم”.

ونتيجة لذلك يظهر ما يمكن أن نسميه (الاكتفاء التواصلي)، أي اقتصار تعليم الناشئة ما يكفي تواصلهم في حالة اللغة الأم، وما يختص بدراستهم أو عملهم في حالة التعليم، فالطفل ينشأ بين لغتين سطحيتين دون أن يتعمق في أيّ منهما.

ويقول الأستاذ أحمد معتوق في عن الازدواجية الناتجة عن تعليم النشء بالعامية بدلًا من الفصحى

“يجعل الناشئ يعيش حالة ازدواجية أو فصاما لغويا ويعاني من لغة تتصارع مع مولود لها معقد التركيب أو (مولود غير شرعي) لا بد أن يوهنها صراعه لأنه يحتل مواقع مهمة في المجتمع وجوانب مختلفة في حياة الفرد”.

وهذا في حالة التعليم بنفس اللغة إلا أنه بمستوى مختلف، فماذا عن التعليم بلغة أخرى مختلفة كليًّا؟

– يعتاد الطفل ما سهل عليه من لغة التواصل الأجنبية فيجد نفورًا من ثقل تعلم لغته الأم التي تكلفه تعلم قواعد وأسس عميقة بالنسبة إلى اكتسابه اللغة الولى بالتواصل فقط.

– كما يؤدي هذا الازدواج إلى ضعف المستوى اللغوي لدى الطفل العربي المكتسب للغة ومن ثمة إلى قتل الإبداع لديه، فإن الإبداع هو الإمساك التام بناصية اللغة ويتطلب إتقانا تاما لها بالسيطرة الكاملة على ألفاظها ومعانيها والتحكم في استختدام صيغها ومفرداتها.

– ويؤدي هذا التذبذب اللغوي بين عربية فصحى، وعربية عامية، ولغة أجنبية إلى تذبذب فكري وثقافي أكيد.

– انقطاع الصلة بين النشء ودينهم الإسلامي؛ فالتراث الإسلامي بلسان عربي مبين، سواء القرآن أو الحديث أو التفسير أو حتى علوم العربية التي تعين على فهم وتذوق الشريعة. وهذه القطيعة إما أن تفضي إلى إلحاد أو فهم خاطئ للدين يضر بصاحبه وكامل مجتمعه

الثنائية اللغوية في التعلم 1

الآثار الناجمة عن التعليم بلغة أجنبية

1- ضعف مستوى التعليم عامة وضعف مستوى اللغة العربية الفصحى بشكل أخص. حيث المنافسة بين اللغة الأم ولغة السوق، وبتكرار ما ذكرناه آنفًا من أهمية ووظائف متنوعة للغة، إلا أن المادية قد طغت على العصر وأصبح ما يجلب المال الاهتمام الأوحد.

2- فوضى لغوية حيث التشتت الذهني والالتباس في المفاهيم نتيجة عدم التحكم في اللغتين تحكمًا كاملًا.

3 – توهين الروابط الاجتماعية، وتصدع المجتمع جراء تناقض المقومات الثقافية بين طوائفه الاجتماعية، وفقدان الثقة المتبادلة.

4 – أثر واضح على تخلف التنمية والنهضة الحضارية. ولا يخفى علينا أن معظم الدول العربية تحتل المرتبة بعد المئة في تصنيف التنمية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وهناك عوامل مشتركة بين هذه الدول المتخلفة -العربية منها وغير العربية:

أ – عدم عدالة النظام التعليمي، وتوفير الجيد منه لطبقة ضيقة.

ب – التعليم بلغة أجنبية، وتؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية أن الطلاب الذين يدرسون العلوم باللغة الأجنبية لا يستوعبون ما يدرسون لأسباب عديدة منها:

– أن الطالب يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: صعوبة فهم اللغة الأجنبية، وصعوبة المادة العلمية، وصعوبة ترجمة ذهنية لما يدرس إلى اللغة العربية، لإضافته إلى منظومته المفهومية المعرفية التي هي أساسا بلغته الوطنية.

– وأن تدريس العلوم بلغة أجنبية لا يساعد على توطين المعرفة العلمية، ويبقيها أجنبية، ويحول دون استيعابها وتمثيلها والإبداع فيها، ويعرقل تنمية اللغة الوطنية، ويحصر المعرفة في نسبة ضئيلة من السكان.

خاتمة

إن تعبير “لغة العلم” من أكبر المغالطات التي سيطرت علينا في العصر الحالي، فمن قال ومتى تقرر أن هناك لغة للأدب ولغة لعلم وأخرى للتواصل؟ الحق أن اللغة واحدة تتنوع مستوياتها باختلاف المجال المستخدمة فيه. وإن قصرت العربية حاليًا عن توصيف العلوم وشرحها فلتقصير أبناءها وانعدام الجهود الموجهة لهذه الغاية. ولا يخفى على أحد النهضة العلمية الإسلامية في عهد الدولة العباسية وقد شملت: الجبر، والطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات، والفلسفة، والأدب واللغة، والعلوم الدينية، والفلك، وغيرها من العلوم التي شملتها العربية دون أن تقصر عن أي منها.

وقد تبين لنا في الدراسة أن التعليم من أهم عوامل نهضة الأمم، وأنه يتأثر بالغًا بلغة تأديته، ومن المعروف أن كل الدول المتقدمة -على اختلاف لغاتها- لا تُعلِّم أبناءها إلا بلغتها الوطنية.

أختتم مقالتي ببعض الأفكار التي أرى أهميتها وصلتها بما سبق ذكره:

  • اللغة تواصل وتفكير ومخيلة وديانة وثقافة وليست تعليم وعمل فقط.
  • وأنه وإن اقتصرت المدارس في تعليمها على التعليم بلغة أجنبية فإنها لم تحكر عليكم تعليم أبناءكم لغتهم بشتى السبل المتاحة.
  • وأن السبل المتاحة لتحقيق ذلك وفيرة، والغاية عظيمة، فلا تستهينوا بها ولا تبخلوا عليها بالجهد والوقت والمال.
  • والتربية في أساسها تكوين ابن مستقيم صالح، ولن يتأتى ذلك إلا بتقويم فكره وتهذيبه، وإرساء ديانته على الفهم الصحيح، بلغة سليمة وقويمة.
شارك الصفحة
المزيد من المقالات

الثنائية اللغوية في التعليم قراءة المزيد »

فضيلة التَّرْك

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

فضيلة الترك

وهم الكمال، ووهم السعادة المحضة، وما يشابهه من مشاعر المستحيل الواقعي يقودنا إلى ضبابية في الشعور، فنلجأ إلى معالجة وهمية عبر جسر الاستهلاك (دعوني أمتلك)، سواء كان الاستهلاك المادي المتمثل باستكثار امتلاكنا للأشياء، أو الاستهلاك الشعوري المتمثل باستجلاب شهرة أو متابعة أو إعجاب.

وعزز الاستهلاكَ السائل التقدمُ الصناعي الذي زاد من جشع التملك للأشياء، فكبر الوهم وتبدلت المركزية؛ فلم يعد امتلاك الإنسان للأشياء منطلقًا مركزيًا، بل ذاب وتماهى في الامتلاك إلى أن صارت الأشياء تملكه، فتخلقت القيمة والسؤال فيما يُمتلك لا في الإنسان وقيمه! وهذا الوهم يفتقر إلى استشعار فضيلة تنتشله وتعافيه.

لا يتأسس حل هذا الإشكال إلا إذا استوعبنا مفهوم الامتلاك من حيث محدودية الإنسان فيه، وأن امتلاكه لا يكون إلا تجوزًا لا حقيقيًا. قيل لإعرابي: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لله في يدي. ومن هنا فإن فضيلة الترك تسلمنا إلى منهج حياة واعية وفلسفة عميقة تخلق فينا شعورًا صافيًا نقيا، ويمكن القول إن فضيلة الترك أقرب ما تكون إلى تقنية ذهنية تفحص احتياجاتنا الحقيقة والوهمية تجاه ما نرغب امتلاكه، وتفرغه من وهم طلب الكمال، فتعزز من قيمة القناعة، وشره الطلب، وتغلب أفكارَنا الغرائزية التي من شأن متبعها أن يلبي احتياجاتها بأي وسيلة وثمن. إن الترك فضيلة إنسانية كلما اصطبغ بها الإنسان ابتعد عن حيوانيته واقترب إلى إنسانيته، وتشكلت فيه نفس حية حرة ضميرها نابض، ووعيها مستنير وغرائزها منضبطة، ففضيلة الترك الواعية هي عين الامتلاك والتلذذ به من حيث كونه ملك نفسه واختياره.

فضيلة الترك تدعوك إلى أن تُصلِح الأشياء ليحسُن امتلاكها فلا يُمتلك إلا كل صالح، لكن ما العلاقة بين فضيلة الترك وإصلاح الأشياء؟ والجواب أن الترك لا يحمد لذاته إنما بما يؤدي إليه من الإحسان والجمال، ومن الإحسان والجمال ألا نترك الأشياء فاسدة لمجرد عدم امتلاكنا لها، بل نصلحها ونتركها لغيرنا صالحة نافعة، وبذلك تكون ثمار فضيلة الترك لصاحبها وتتعدى إلى غيره من الناس، ومن هذا الباب يأتي قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)الأعراف: 56، بألا يتغلب علينا الطابع الاستهلاكي، ونتحلى بالاستخدام المسؤول؛ ليكون هناك استدامة لموارد الأرض، وعدم هدرها، واستثمار خيراتها بما لا يفسدها للأجيال القادمة.

إن الأخلاق الفاضلة تكاد تكمن كلها في الترك، فالحياء خلق يبعث صاحبه على ترك القبيح من الأمور، والإيثار ترك حظوظ النفس وتقديم الغير عليها في النفع لها، والأناة ترك العجلة والمبالغة في الرفق في الأمور، والتؤدة ترك الخفة، والحلم ترك التعجل في العقاب المستحق، والتواضع ترك الترؤس والمفاخرة، والستر ترك الإفصاح عن العيوب وعدم إظهارها، وسلامة الصدر ترك الحقد والغل والبغضاء، والصبر ترك الجزع عند المصائب وترك ما لا يحسن عند وقوع المكروه، والسكوت ترك التكلم مع القدرة عليه وذلك في المواطن التي يحسن فيها، والعفة ترك النفس عن الشهوات وعن السرف، والصفح ترك التأنيب، وكتمان السر ترك الحديث ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها، وغير ذلك من الصفات الحميدة والأخلاق الفضيلة التي يكون الترك محورها أو أحد أركانها، فالترك تزكية للنفس، وثراء روحي ينعم به الإنسان مع نفسه فتصح نظرته للحياة والكون، وقيل: الحكمة لا تسكن معدة ملأى.

فضيلة الترك 1

ولو تأملنا في بعض الحكم والأمثال والفلسفة لا نعدم أن نلمس فيها شيئًا من الترك؛ وكأن فضيلة الترك نظرة كلية تصبغ الصواب في الأفكار فنجد فيها كثيرًا من معالجة الإشكالات النفسية والاجتماعية، يقول نيتشه: “من لا يستطيع التخلي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء”، ويقول ليو تولستوي: “أنت لا تنضج بقدر ما تكتسبه بل بقدر ما تتخلى عنه”، ويقول جبران خليل: “بدأت أفهم وأستوعب الآن أن سعادتي تكمن في التخلي عن المزيد لا الحصول على المزيد”، وجماع ذلك كله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه”، ففضيلة الترك هنا هي الصورة المثلى الذي تركبت من الترك وحسن النية والقصد.

وإذا سلم العقل بضرورة الترك وأيقن ذلك عن طريق الوعي المدعم بالحجج والبراهين، فهل يكفي ذلك لنيل فضيلة الترك؟ والجواب بحسب ما تؤكده الدراسات وواقع الإنسان عدم انفصال العقل عن العواطف، بل إن دور العواطف فاعل في عمليات التفكير، يقول جان جاك روسو: “إن الذهن الإنساني مدين بالكثير للأهواء، والأهواء مدينة بالكثير للذهن، وهذا متفق عليه بالكلية، فإنما يتكامل عقلنا بنشاط أهوائنا، ولا نطلب المعرفة إلا لأننا نرغب في المتعة”، ويقول ديفيد هيوم: “فإن النفس تنشط في مجال هواها، وتتعهد ميلها المهيمن بالرعاية”، ولعل النتيجة التي يمكن أن توضحها الأبحاث في هذا المجال أن الإنسان لا يملك عقلا محضا، وإنما عقلًا متداخلًا مع الغرائز والعواطف، تقول سوزان جرينفيلد المهتمة بالأعصاب والوعي: “فالمشاعر تشكل جوهر وعينا”. ونخلص من ذلك إلى أن عملية التحرر من سطوة الامتلاك إلى فضيلة الترك تبدأ من شعورنا بمنة الله علينا مما أنعم وأوجد، وربط النعم به، والتبرؤ من حولنا وقوتنا إلا به سبحانه، ومن شأن هذا الشعور أن يزاحم المشاعر الأخرى فنبدأ بالترك التدريجي الذي يمزج بين الفكر والعاطفة ويدرك مواطن تغذية كل منها إلى أن نصل إلى فضيلة الترك.

فضيلة الترك قوة في الشخصية، وحزم في اتخاذ القرار، كما تجعل الإنسان متصالحًا مع نقصه، فلا يبحث عن وهم اكتماله في الأشياء، ولا يقع في فخ التسويق والإعلان الذي يزيد عن قدر حاجته الأساس، فضيلة الترك مهارة تجعلنا متصالحين وراضين بالأقدار، بأن تكون لدينا قابلية لأن نترك الأشياء فنشعر بالحرية الحقيقية، وإن كان الترك يعطينا إحساسًا أوليًا بالفراغ والخواء، فالأمر ليس كذلك بل الترك يملأ النفس لذة وانشراحا بامتلاكها اختيارها لا بغيرها.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة التَّرْك قراءة المزيد »

قراءة تعزف سيمفونية المعنى

قراءة تعزف سيمفونية المعنى

“القراءة الناجحة” هي: تلك التي تجعل النص يعزف سيمفونية المعنى، فيعثر القارئ على النظام الداخلي للنص، ويكتشف المضمر، ويملأ الفراغ بـأدوات: الربط والترتيب والإكمال والتسديد، ليكون قادراً بعد ذلك على: إعادة تأليف مقطوعة النص؛ بما يضيء العقول، ويمتع الأرواح، ويرهف الحواس؛ بكل ما يحيط بموضوع النص. ولا يحسن تخيل قراءة كهذه إلا في ظل سياق “نص ملهم”. إن النص الملهم هو الذي يشهد ميلاد قارئ أفضل!  لقد كان القرآن الكريم الأحفل بالإلهام على مدار التاريخ، مما جعلنا نشهد أعظم قارئ في الوجود!

القراءة الناجحة هي: “قراءة راصدة معنصرة” للقضايا والأفكار الكبرى في النص، مع تركيز عالٍ بما يسمح للقارئ أن يبلورها ويرتبها في قالب منطقي محكم. دون هذه القراءة، سيكون القارئ مشوشاً دون مُكنة على فهم الأطروحة أو النظرية التي يسعى النص لبنائها، ولا يكون العقل حينذاك إلا متوفراً على شذرات ونتائج مشتتة متفرقة، لا ينظمها في عقد واحد؛ فيفوِّت التصور الكلي للنص والأطروحة والنظرية.

قد لا يكون التوصيف السابق مفيدًا بدرجة كبيرة دون تطبيق عملي. حسناً، لنتخيل أننا نقرأ مقدمة ابن خلدون بوصفه “نصاً ملهماً”، فكيف ندفع كلفة القراءة الناجحة وفق توصيفنا السابق؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن لنا عزف سيمفونية هذا النص العظيم واعتصار قضاياه واحتلاب أفكاره؟

لا يتحقق ذلك بقراءة عابرة فاترة باردة، تتجاهل إتقان فن التحشية والتعليق والتلخيص، إذ تتوه حينذاك راحلة القارئ في قفر النص، وقد يعدم “زاد المعنى” و”ماء التصور”، وقد تحرقه “شمس المعلومات” أو تضلله “نجمة البلاغة”، فلا يصل إلى حيث أراد: قراءة تعزف سيمفونية المعنى.

ولكي أكمل البعد التطبيقي الذي وعدتُ به، أثبت ما دونته في حاشية المقدمة أثناء قراءتي لها، وهو تعليق تلقائي يلخص الأبعاد الرئيسة في نظرية ابن خلدون في العمران في جانب منها بحسب قراءتي الثالثة لهذا النص الملهم. وقد انسرب هذا التعليق في مجموعة من العناصر المتسلسلة منطقياً، وهي عموماً: “تحشية قارئ” لا “بلورة باحث”، حيث لم أشأ أن أزوقها من جهة البلورة والتوصيف، بل تركتها على “سجيتها القرائية”، فهي مسوقة للمثال لا أكثر. ابن خلدون رحمه الله يقول لنا:

1- الاجتماع الإنساني “المنظم” ضروري لعوامل مادية، إذ لا يطيق الإنسان تدبير طعامه وتأمين نفسه وحمايتها ضد العدوان الذي هو “طبيعي في الحيوان”، دون تعاون وتضافر وفق نظام معين، فعُوّض الإنسان بـ “الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع، مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة”، وهذا كله مفتقر لتعاون وثيق. ويختص الإنسان عن الحيوان بجانب الصنائع بالعلوم، بجانب اختصاصه بخاصية الملك، وهو ما يفسر سر سمو العمران البشري وانتظامه وتطوره.

٢- ثمة تأكيد لاحتياج الاجتماع الإنساني إلى “وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض”، والاجتماع الإنساني ضروري أيضا لما ركُب في النفوس من حب المؤانسة مع الآخرين.

٣- الاجتماع الإنساني بضرورياته السابقة مفضٍ إلى نشوء فكرة “الرئاسة”، ومع “أن الإنسان رئيس بطبعه، بمقتضى الاستخلاف الذي جُعل له”، غير أن الرئاسة تؤول في نهاية المطاف لمن يمتلك مقوماتها وهي السؤدد والاتباع، وقد تتشوف النفس إلى ما فوق الرئاسة، وهو: الملك، الذي = الرئاسة + القهر بالأحكام.

٤- الاجتماع الإنساني قائم على “قانون التغير”، وذلك “أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد”، وهذا يفيد أن الإنسان والمجتمع ديناميكي متغير، وهذا “شأن كل مُحدَث”.

٥- البداوة تمثل حالة من حالات الاجتماع والتعاون وهي سابقة للحضارة وعنصر منشيء لها، “فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة”.

٦- البداوة تقوم على التعاون على “الضروري” تحديداً، وتعجز عما فوقه: “الحاجي والكمالي”.
٧- البداوة أكثر توحشاً، لأنها تقوم على الظعن: الارتحال المستمر (أهل الإبل أكثر ظعناً وإيغالاً في الصحراء مما يجعلهم أكثر توحشاً).

٨- البداوة أميل إلى الخير لأسبقيته إلى البدو، وذلك لبعدهم عن الترفه والكماليات.

٩- البداوة تتطلع للحضارة، فالبدو يتطلعون إلى: التماس الحاجيات والكماليات في معاشهم.

١٠- البداوة أكثر قوة وشجاعة وعصبية التي هي “التحام بالنسب وما في معناه”، على أن العصبية القوية إنما تكون في “الصريح من النسب” الذي يوجد في الصحراء والقفر.

١١- كلما كان العيش الصحراوي أكثر قسوة ساعد ذلك على نقاء النسب، إذ لا أحد سيقترب من عيش مكفهر كهذا، وهو ما يضمن للبدو عصبية صافية صلبة؛ مما يجعل البدو أمكن في إلحاق الهزيمة بأهل الحضارة الذين “ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة … واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم … لا تهيجهم هيعة ولا يُنفّر لهم صيد”. بخلاف البدو الذين “ينفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقاً، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ أو استفزهم صارخ”.

١٢- العصبية شرط ضروري لتحصيل كل من: المدافعة، المقاومة، الحماية، المطالبة، فتقوى العصبية وتكتسب مشروعيتها وصلابتها.

١٣- تتغير أخلاق البداوة وعوائدها مع استيطان البدو في المدن، إذ يألفون حياتها شيئا فشيئا، وفي هذا تأكيد لقانون التغير.

١٤- يستكثر البدو المستوطنون من الرفه والحاجيات والكماليات والتأنق.

١٥- يضعف خلق البأس والمنعة داخل الحضارة، من جراء وجود قانون حاكم يضبط التصرفات والسلوك، وقد يكون القانون عادلاً، مما يضعف هذا الخلق شيئاً فشيئاً، وقد يكون صارماً قاهراً، فينكسر البأس وتضعف المنعة بسبب التكاسل في النفوس المضطهدة، وقد يكون قانوناً عقابياً وهو ما يذهب بالبأس والمنعة بالكلية. وأما الصحابة رضوان الله عليهم “فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت، ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم”، فقد كان “الوازع لكل أحد من نفسه”، وقد قال عمر رضي الله عنه: “من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله”. “ولما تناقص الدين وأخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعلم والتأديب، ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام، نقصت بذلك سَورة البأس فيهم”.
١٦- يدب في أهل المدينة والحضارة الضعف والدعة والرفه ويكثر فيهم الشر والقبائح، في قالب تغير لا ينخرم.

١٧- الحضارة هي: نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير.

١٨- يُصاب أهل الحضارة بكل أدواء الضعف والميوعة، ويفتقدون للمعرفة بالنواحي والجهات وموارد الماء ومشارع السبل، “وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه من الأحوال حتى صار له خلقاً وملكةً وعادةً تنزل منزلة الطبيعة والجبلة”، وبذلك يكون حالهم “كدود القز ينسج ثم يفنى”.

١٩- يأتي بدو أقرب إلى الخير والقوة والعصبية، فيهجمون على أهل الحضارة ممن حولهم ويتغلبون عليهم، للأسباب التي سقناها سالفاً.

٢٠- يستوطن البدو المتغلبون في المدينة، ويتغيرون وفق قانون التغير، وهكذا تدور العجلة ويتكرر السيناريو، مرة بعد أخرى.

هذا مجرد مثال تطبيقي لـ قراءة معنصرة للنص، أي أنها قراءة تسعى لعزف سيمفونية المعنى.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

قراءة تعزف سيمفونية المعنى قراءة المزيد »

فضيلة الفَنَاء 

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

فضيلة الفناء

إن الفناء فضيلة ليس في ذاته، إنما بممارسة التفكير فيه بعقلية واعية ناضجة تؤدي إلى حسن التبصر بحقيقة الأشياء، وتوازن تصوراتنا تجاه كل ما ترى فتكون محورية مثمرة لا غلو فيها ولا إجحاف، فتظل النفس ناضجة سوية مستقرة. يدور معنى الفناء في اللغة حول فقدان النفع الأساسي للشيء كالشيخ الفاني الذي ذهبت قوته. وكما هو معلوم من الضد تظهر معاني الأشياء ومآلاتها، والبقاء ضد الفناء، ولذا فإن أصحاب العقول النيّرة يلمحون الفناء في أوج اكتمال الأشياء، فكل قوة آيلة للزوال، وكل جمال ذاهب، وكل كثرة تقل، وكل اجتماع مفرق، وكل تماسك مفكك، وكل ارتفاع ساقط، ونور كل شيء مظلم في أساسه حتى نبصر الفناء فيه فنرى الأشياء كما هي.

إن نمط الحياة الحديثة بما تحويه من أفكار وسلوكيات وسرعة بالتغيرات والتحولات تجعل الذهن في حالة من الوهن الإدراكي فتغشي البصيرة عن رؤية الفناء؛ إذ كُثّف الإحساس في اللحظة الآنية، فصار ماضيها كالمجهول ومستقبلها لا يتجاوز لحظته إلا بقليل، وعمّق ذلك الوهن الإدراكي الوسائط الحديثة بمختلف أشكالها؛ إذ رسخت التفاعل الفوري بتتابع الأحداث دون قدرة الذهن على القيام بعمليات الإدراك والتحليل والنقد، فأضحت القدرة على التفكير إما واهنة أو تابعة لقوالب فكرية محدودة أو مريضة بوهم المعرفة، والإشكال أن لو أدرك الإنسان فناء الشيء استعاض عنه بكثرة امتلاك الأشياء؛ ظنًا منه أن يمسك معنى الخلود في كثرة ما يملكه، فلم يعد الامتلاك نفسه معنىً أوليًا أو رئيسًا، بل كثرته، فالكثرة أصبحت وهمًا يطارد الإنسان عثورًا عن معاني الخلود، وصدق الله: {ألهاكم التكاثر} التكاثر:1. ويا لها من كلمات من نور تدعو إلى التأمل والتفكير، وتضيء وهمنا بداء الكثرة، وهو المرض العضال الذي يغذي وهم الخلود.

إن عامل الزمن رئيس في إدراكنا وتصوّرنا للفناء، فكلما باعدت عقولنا المسافة في زمن تطور الصناعات الحديثة استطعنا ربط الأفكار بمقاصدها ومآلاتها، فينضج التصوّر ويستقيم، وكلما استجابت العقول لتتابع الصناعات وتطورها انزلق الفكر في وهم الخلود؛ ظنًا أن التقدم يسهم في البقاء والخلود؛ بما يحل من إشكالات طبية وصحية وتعليمية وكل ما له شأن في الحياة والعيش، ولذلك لا نستغرب أن نلمس أن المعاني العذبة ترافق نظرنا في بدايات الأشياء؛ كوننا نظرنا إلى إنجازاتها الآنية وصورها الظاهرية فقط دون إبصارها برؤية كلية ونظام فكري يربط السابق باللاحق من حيث فناؤهما جميعًا، وهذه التصورات التي تصاحب البدايات في كل شيء غالبًا ما تكون ناقصة مموهة بطلاء الإعجاب والزخارف والغموض الموهم بالكمال، مما يجعلنا في مطاردة الوضوح الذي يُظن فيه الخلود ولسنا بذائقيه إلا بمصادقتنا للفناء الكامن فينا أولا وفي كل من حولنا.

فضيلة الفناء 1

إن جدلية الفناء والخلود الصراع الأول للإنسانية إلا أنه صراع خفي لا قدرة للإنسان لمواجهة هذا الصراع إلا بالإيمان المقتضي للتسليم، وبدون الإيمان تظل الهزيمة أمرًا حتميًا للإنسانية كلها بمختلف حضاراتها وأعراقها، وقد تفرّع عن هذا الصراع الأزلي في العصر الحديث أزمة فقدان المعنى؛ كونه فقد أو تاه منه الفناء في الأشياء، فظلت العقول تبصر نصف الحقيقة والأخرى تائهة منها تلاحقها في منظومات فكرية وفلسفية فارغة من نصف الحقيقة، وهذه الحقيقة تكمن في القرآن الكريم وأخبار الرسل الصادقة اليقينية، وهذان المصدران يهبان لنا المنظار الحقيقي للأشياء، منظار الفناء الذي يحقق نظرة صادقة للأشياء مطابقة لواقعها الظاهري والباطني، سالمة من الأمراض النفسية والاجتماعية من النفعية والشره والبخل والخداع والكذب والغش والجشع والحرص والتعلق وحب التملك وحب العاجلة، إذ لا تُرى الأشياء كما هي فيكون الإنسان عبدًا دون أن يشعر لهذه المتعددات، في حين أن شعور الفناء المصاحب للأشياء يمكننا من رؤية مطابقة لحقيقة الأشياء، وتمنح الإنسان الحرية، وعلى أساس هذا النظر الواعي تزول أو تخف أمراض الإنسانية.

الفناء نظرة تأملية في حقيقة الأشياء وهويتها، لا تركن بنا إلى المحسوس دون الباطن، بل تحقيق النظر كليهما في محسوس وباطن، ومن أُعطي النظر الثاقب لحظ باطن الشيء من محسوسه، فبانت له الحقائق واطمأنت لها نفسه وسكنت له جوارحه، يقول المأمون: لو نطقت الدنيا ما وصفت نفسها بأحسن من قول أبي نواس:

وما الناس إلا هالك وابن هالك                 وذو نسب في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت                  له عن عدو في ثياب صديق

وأنا من المؤمنين بضرورة عيش الحياة بسعادة وطمأنينة وأكثر راحة ما أمكن ذلك، حتى يتم لنا تحقيق ما نصبو إليه من آمال وطموح وإنجازات، وما يدفعني لهذا القول ألا تكون نظرتنا للفناء من جانبها السلبي أو إنزال النظر للفناء من باب التثبيط أو الاستسلام واليأس، كلا ولكن من باب الصحة العقلية، وإحسان النظر للأمور وتقديم أفكار تجعلنا متصالحين مع أحوالنا وأعمارنا وهيئتنا، وتحررنا من كثير من الأوهام وكبت الرغبات والأطماع الزائفة، ففضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول، يقول فرانكلن روزفلت: “الشيء الوحيد الذي يستحق الخوف هو خوفنا نفسه”، نظرة الفناء الحكيمة تحول الخوف إلى طمأنينة ومقاومة وتغيير ورغبة ومداواة؛ كوننا أدركنا منه طبيعة الحياة ونقائصها ونقائضها، وتجعل الإنسان معتزًا بما وهبه الله راضيًا مسلمًا وشاكرًا. فضيلة الفناء تخلصنا من الاهتمام المبالغ بالجسد إلى إنعاش الروح بالتسليم والإيمان. فضيلة الفناء تجعلنا ندرك بأن الإنسان ضعيف لا يلجأ إلى فانٍ مثله، بل يلجأ إلى باقٍ يرشده ويهديه ويصمد إليه. فضيلة الفناء تعطينا تفكيرًا مركبًا لا أحاديًا؛ إذ ننظر للأشياء من جانبيها المشرق وما تؤول إليه فلا نصدر الأحكام من البدايات والمحسوسات ونتشبث بالعاجل، بل هناك طريق طويل يُستبصر بالفناء. وتدعونا هذه الفضيلة إلى إعادة التفكير في مجريات مواقف الحياة وتجاربها فتخلق فينا نضجًا ووعيًا مكثفًا لقراءتها من صورتها المكتملة. فضيلة الفناء تحلينا بخلق الصبر والرحمة والشجاعة والكرم، وجل الأخلاق راجعة إليها، فضيلة الفناء حكمة وسكينة وهدوء واندهاش، فضيلة الفناء دواء للعقول وفقه للقلوب بالإبصار الحقيقي للأشياء.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة الفَنَاء  قراءة المزيد »

التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية!

التخصص كمدير يحرمك الترقية

 لدي قناعة أكيدة بأهمية وجود تخصص علمي، أو معرفي، أو مهني، أو حياتي لكل واحد منا، كي يكون عمله مثمراً ونتاجه مقدراً.

لا إشكال عندي البتة في هذا، بيد أنني أعتقد أن التخصص يحتاج إلى مراجعة وتأمل من وجوه عديدة من وقت لآخر، بما في ذلك تعريف التخصص وتعيين حدوده، وهل ثمة تعريف وحدود تناسب الكافة، أم أن المسألة تحتاج إلى تفصيل؟! هذا النص الصغير يقوم بشيء من المشاكسة الخفيفة حول فكرة التخصص أو لنقل: في هجاء التخصص.

يحذر العلماء النابهون كابن خلدون -في المقدمة- من احتجاب “الحِكم القريبة”، ويكون ذلك من جراء القرب الشديد من الأشياء والاندغام التام معها، فالألفة كما يُقال حِجاب، إذ هي تفوِّت علينا فرصاً للتأمل وساحات للاندهاش، فلا نفطن لعجيب، ولا نلتفت لغريب !

ومن العوامل التي تجعلنا قريبين من الأشياء بأكثر مما ينبغي “التخصص”. ومن هذه الزاوية تحديداً تتخلق مشروعية نقدنا له، الذي سيكون عبر توصيفات مكبسلة :

1- “التخصص يكون أحياناً كالمدير المتسلط الذي يحرمك الترقية!”

نعني به التخصص الدقيق الذي يكون مصحوباً بانعدام أو ضحالة القراءتين “المسطورة” أو “المنظورة” أو كلتيهما، إذ يكون حينذاك سبباً في عدم حصولك على “ترقية معرفية”، فلا تستوعب المسائل والقضايا التخصصية في سياقها الحياتي، والتاريخي، والاجتماعي، والحضاري، والوجودي، إذ إنك تكتفي بفهم تخصصي صرف، مع إتقانك للجانب الإجرائي المتعلق بخبراتك وعملك، مما يشعرك بالتفوق والاكتفاء.

وقد يكون هذا المسلك التخصصي كافياً لحصولك على عمل جيد، بل ربما تتمتع بترقيات في عملك، وقد تتلقى عروضاً مغرية من جهات أخرى، ولكنك في الحقيقة تخسر ما هو أثمن؛ الترقيات المعرفية التي تجعل منك عارفاً ومخترعاً، والترقيات الحياتية التي تجعل منك إنساناً ومتدبراً، فتغدو مع تخصصك الدقيق كالآلة التي تعمل بوقود خاص!

2- “التخصص قد يصم آذاننا، فلا نسمع شيئاً غير ضوضائه ولغطه!”

نحن بحاجة أحياناً إلى إسكات صخب تخصصاتنا. لِمَ؟ لأن هذا الهدير المتكرر الممل يجعلنا غير قادرين على الاستماع بحس مرهف لنداءات معرفية جديدة واستشكالات فلسفية متجددة، أو الإنصات بصدق لشلال الحياة الهادر بالعجيب والمدهش والتلقائي. وهنا يتخلق سؤال منهجي يحسن بنا أن نفكر فيه ملياً: هل ثمة ألفة في تخصصنا تحجب عنا حقائق أو نتائج ذات قيمة وأثر؟ وكيف ننفك عنها؟

لعلنا نعود لابن خلدون، وننظر ماذا فعل لكي ينعتق من إسار التخصص وينفك من قيوده، وكيف نجح في تأسيس حقول معرفية جديدة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع؟

لن نستطيع تبين طعم التفاح حتى نتذوق البرتقال، أليس كذلك؟ لقد هجر ابن خلدون “تفاح التاريخ” ليتذوق “برتقال الفلسفة”، فكان منه الظفر بفلسفة التاريخ وعلم العمران. السر يكمن في إيمان ابن خلدون بضرورة الارتحال من النظرة المألوفة في التاريخ والعمران إلى نظرات أخرى، وهو ما يجعلنا نقرر بكل اطمئنان هذه القاعدة المنهجية: لا يكون ثمة قدرة على تأسيس معرفي جديد دون ممارسة نقد موضوعي دقيق؛ عبر مِرشاد (بارادايم) آخر، كي يكون الناقد قادراً على النفاذ إلى “المحارة ذات اللؤلؤ الكبير”.

في تقديري، إن “المؤرخ الفائق” لا يستطيع أن يكون “فيلسوف تاريخ”، لأن “الرواية” مقدمة عنده على “الدراية”. ويبدو لي أن ابن خلدون استطاع أن يكون فيلسوف تاريخ فائق لأنه مؤرخ جيد (وليس فائقاً)، تماماً كالناقد الذي هو بعضُ شاعر.  وهذا ما دعاه إلى التقرير بأن الرواية وعلم التعديل والجرح مقدمة في علوم الشريعة لكونها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بها، وهذا يعني أنه مايز بذكاء شديد بين مِرشادين: “مرشاد الرواية” الصالح لأخبار الشريعة وتكاليفها، و”مرشاد الدراية” الملائم لأخبار التاريخ وقوانينه. 

ومن اللافت أن ابن خلدون رحمه الله لم يكتفِ بتأسيس حقول معرفية جديدة عبر الارتحال من ضيق التخصص والبحث إلى سعة النظر والتأمل،  إذ كان واعياً بمقتضيات “النص الكوني”، ولذا فقد عمد إلى صبغ نصه بالكونية عبر التعويل على بيانات واقعية إنسانية ذات طبيعة كلية، مما أوصله إلى قوانين أو تعميمات أو فرضيات كلية أو فيها نفس كلي، وهو ما أدى إلى إدراج نصه ضمن النصوص العالمية الملهمة، ومن ذلك قوله:

“وكأنه علم مستنبط (=العلم الجديد في المقدمة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع)، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، فالعلوم كثيرة، والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون”.

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها، أو ارتداء عدسات لاصقة، أو الاستغناء عنها بالتشطيب، وقد نكتفي بمجرد خلعها بعض الوقت ومعاودة ارتدائها. وزبدة القول: ابتعدوا لكي تقتربوا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية! قراءة المزيد »

حقيبة السفر أم حقيبة المصير!

حقيبة السفر ام حقيبة المصير

بعد إفطار خفيف في مطعم وسط فيينا (مايو 2024)، التقطتْ عيني شيئاً مألوفاً لطالما شاهدناه جميعاً مئات المرات، بيد أن عقلي هذه المرة شرع في تفسيره بطريقة غير مألوفة. هذا الشيء هو: جرجرة حقائب السفر للقادمين أو للراحلين، خاصة أنني كنتُ أسكن في منطقة مكتنزة بـ النُزل وغاصة بـ الدرج، التي يعرج عليها أو ينزل منها: السائرون إلى حيث يسكنون أو يرتحلون؛ فإلى أي شيء يذهب هذا التفسير؟!

في تلك اللحظة، اختفت هذه الحقائب فجأة، فلم أعد أراها، واختفى جارُّوها فلم أعد أشاهدهم، وانقلبت هذه الصور إلى رموز جعلتْ تتكاثر في وجداني، ومنها الآتي:

  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمر”، فنحن في الحقيقة لا نجرجر أشياءنا، بل نجرجر أيامنا، يوماً بعد آخر؛ صوب محطته الموالية: الموت. هنا، يبدو اليوم كأنه قطعة ملابس سنحشرها في حقيبة سفرنا، ولذا فلا مفر من أن نبادر بتنظيف يومنا وتهيئته للسفر. هذا يومئ إلى حقيقة أن أيامنا تتسخ من جراء ولوغنا في الحياة، ومن الأوساخ ما يحتاج إلى مطهرات قوية ومكلفة، ومنها ما تكفيه الغسلةُ السريعةُ، ولو كانت بماء بارد!
  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمل”. هنا، يبدو العمل كأنه شيء ضروري سيجد مكانه لا محالة في سفرنا، وهو ما يوجب كونه عملاً صالحاً طيباً، إذ لا يليق أن نضع في حقيبة سفرنا السيء أو الفاسد، أو حتى التافه الذي لا قيمة له، بما في ذلك الملابس المتكررة، التي تعود غالباً دون أن نرتديها!
  • “حقيبة السفر” هي على الحقيقة “حقيبة المصير”. تخيل أنك تعد مصيرك كما تعد حقيبة سفرك. إنه المصير أيها السادة والسيدات، لا مجرد محطة عابرة في سفر عابر! إن الشخصية ليست سوى مشروعِ مصيرٍ قيد التحقق. ليس لأحد أن يعهد بمصيره لغيره! لئن كانت الشخصية دالاً ممتلئاً، فإن مدلولها فارغ، وداخل مركب الامتلاء والفراغ تتخلق “كينونةُ المصير”. الشخصية ليست قِرَاناً اعتباطياً بمصير لم يسعَ الإنسان بطواعية إليه، وإنما هي مصير مُتخيّل مُشتهى، سواء كان نبيلاً أو منحطاً.
  • حقائب السفر تتنوع، فمنها الثمين ومنها الرخيص، ومنها الجميل الذي يؤشر على أناقة أصحابها، فلا تحوي إذ ذاك من المتاع إلا أطيبه وأنفسه، على أن الناس يختلفون في المقاصد، فمنهم من يزين حقائبه من أجل الظفر بنظرات الإعجاب، ومنهم من يكون معجوناً بجمال جواني يتغذى على: إن الله جميل يحب الجمال. وبعض الحقائب قبيح في تصميمه، ومنتن في رائحته، ومنفر في شكله.
  • بعض الحقائب صغير لا يكاد يتوفر إلا على “الأساسيات”، بل لا لعله لا يفي ببعضها، وقد يكون مع ذلك مكسوراً فتسقط أمتعة دونما شعور، وبعضها يكون كبيراً وممتداً ومتماسكاً، فيتسع من ثمَّ للأركان وروافدها الدقيقة والجليلة. وبعضها يتوفر على جيوب إضافية، وربما كانت خفية لا يعملها إلا صاحبها، وقد تكون محكمة بقفل منيع!
  • بعض الحقائب ذو عجلات تسهِّل دفعها، ولو كانت الحقائب كبيرة ثقيلة، وبعضها يتوفر على مقبض علوي متين، يمكِّن صاحبها من التحكم بها ودفعها باتجاهات متعددة بحسب الحاجة. وبعضها يفتقر لمثل هذا كله، مما يجعل صاحبها يواجه عنتاً في حملها أو دفعها، وقد يتخفف من بعض أشيائها ولو رماها في سلة المهملات أو على قارعة الطريق، بل قد يتركها ويمضي دونما حقيبة حتى يدرك الرحلة، ويا لها من رحلة!
  • بعض الحقائب مميز بلون أو تصميم أو شكل، وهو ما يسمح بسرعة التقاطه من “سير الأعمال”، فكيف إذا كانت الحقيبة مميزة وفاخرة ومرنة؟ وبعض الحقائب رتيب مكرور يُقعد صاحبَه وقتاً أطول، وقد يجسُّ حقيبة بعد حقيبة ظاناً أنها حقيبته، فإذا عاين الاسم أدرك أنها لغيره، وقد يستل أحدهم حقيبة صاحبنا بالخطأ ويذهب بها، ولا يكون ثمة قدرة على التواصل فتضيع منه ويكمل الرحلة بعنت، وقد يجد أنه قد طُوِّح بحقيبته خارج السير، لأن أحداً التقطها بالخطأ ولم يعدها إليه مرة أخرى، وقد لا يشاهدها بسبب انزوائها خلف شيء ما، متوهماً أنها سُرقت، فيغدو بلا حقيبة هذه المرة أيضاً!

سأكتفي بهذه المشاهد الخاطفة، تاركاً قدراً من الفراغ في النص، لكي يملأه القارئ بمداد خياله. ولعلي ألتفتُ اِلتفاتة سريعة صوب هذا السؤال: لماذا تغيب عنا تفسيراتٌ معمقةٌ في حالات مألوفة؟ ثمة جواب مكثف، ويكمن في الألفة ذاتها، فالألفة حجاب، حيث تحجب عنا شمس التصورات والتفسيرات الجديدة، وذلك أن عَود الظاهرة كرة بعد أخرى، يُوهم أنه ليس ثمة جديد أو جدير بالتأمل، وهنا نقع في الفخ، المتمثل في “بلادة الألفة”. ولهذا وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن “غيمة الألفة”. حينها، سيجد نفسه خارج الأسوار، محلِّقاً في فضاءات رحيبة، ومحدِّقاً في تفاصيل صغيرة، ولعله إذ ذاك أن يصل إلى شفرات ذات بال، ويفك رموزاً ذات قيمة تفسيرية لظاهرة أو أخرى. وأختم بالقول: إن التأمل قراءة للمألوف بحواس مرهفة، وعقل محلِّق محدِّق. وتحلو بذلك جرجرةُ أيامنا صوب مصيرنا، الذي نعده كما نعد حقائب سفرنا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

حقيبة السفر أم حقيبة المصير! قراءة المزيد »

الصمت ودلالته البيانية

الصمت ودلالته البيانية

الحمدُ لله الذي جعل دلائل صنعته في كل شيءٍ ناطقة، والصّلاة والسّلام على من كان نطقه وحيًا، وصمته برهانًا، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعد:

    فقد كان للصّمتِ في الموروثِ العربيّ حضورٌ بارزٌ، بوصفِهِ قسيمَ النطق في عملية التُّـواصل، فإذا كان النطق هو الوسيلة الإيجابية في الكشفِ عن المعاني فإن الصّمتَ وإن كان فعلاً سلبيًا يتحقّقُ بتركِ الكلام أو تعمُّدِ السّكوت، إلا أنه يحسُن عندما يقع موقعه المناسِب من الحديث، ولأجلِ المزايا البيانيّـة للصّمت والتي قاربت مزايا النطق وطاولتها، ذهبَ كثيرٌ من العلماء إلى المفاضلةِ بينهما في الأثرِ البياني، وأصبحَ لكلِّ منهما أنصارٌ ومؤيدون، فقال أنصار الصّمت:”إذا كان الكلام من فضةٍ فالسكوت من ذهبٍ”، كما قالوا:”الندمُ على الصّمتِ خيرٌ من الندمِ على القولِ” وقال أنصار الكلام كيف يكون الصّمت أنفع والإيثار له أفضل، ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمُّ ويخصُّ، وَالرواة لمْ يرووا سكوتَ الصّامتين كما رووا كلام الناطقين، وبالكلام أرسلَ اللهُ أنبياءه لا بالصّمت، ومواضع الصّمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة وطول الصّمت يفسدُ البيان.

     تحدثَ علماء اللُّغة والبلاغة القدامى عن مصطلحِ الصّمت ببلاغتِهِ وكثافةِ بيانِهِ المَحسُوس وقد اصطلحوا عليهِ بـ”الحذف”، ونظروا إليهِ نظرةَ إجلال لأهميتهِ في البلاغةِ والإيجازِ على وجهِ التحديد.

     وقدْ عُرِّفت البلاغة عِندما سُئِلَ بعضهم عنها بأنّها:“الإيجازُ من غيرِ عجزٍ”، ونقل لنا الجاحظُ في كتابهِ (البيان والتبيين) قولَ ابن المُقفّع الّذي عدَّ السّكوت والاستماع أوّل وُجوه المعانيّ التي تَجري بها البلاغة. إذْ يقول:”البلاغةُ اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكونُ في السكوتِ، ومنها ما يكون في الاستماعِ ومنها ما يكون في الإشارةِ،…”.

     إنَّ الصّمتَ يُعدُّ اختيارًا يختارهُ المرءُ لِمَا في نفسِه، فَيقودُهُ إلى عالمٍ مُكتنز يمنحُهُ الضياء ويكشفُ له آفاق عالمه الداخليّ بصورةٍ أبعد وأصدق.  الصّمتُ يحفظُ على المرءِ انفعالاته عندما يرى من الآخرين ما يذهله ويطرقه، يحفظُ عليه ما يُعانيه من آلامٍ لا يستشعرها غيره مهما تفوّه بها أو وصف.

     فَتأمّل صمت يوسف -عليه السّلام- في قولِهِ تعالى: ﴿فأسَرَّها يوسفُ في نفسِهِ﴾ هذه الجملة تحكي كيفَ عالجَ عليه السلام سُوء ما رُميَ بهِ، بل إنّها تصوّرُ مدى تحمُّلهِ ألم التهمةِ البشعة التي وُجهت إليهِ: ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ لمْ يجد لكلامِهِ جدوى في الوقت الذي ضاق فيه صدره، لمْ يجد إلاّ الصّمت والإسرار. صمْتٌ يدفعُ الشخص العادي للانتصار والدفاع عن النّفس لكن يوسف -عليه السلام- آثر الصّمت، آثر الانتظار، آثر العُزوف عن الكلام في أمورٍ لا يُمكن لأيِّ حديثٍ أنْ يكشفَ زيفها أو يُجلِّي تهافتها.

“وقد تَنطِقُ الأشياءُ وهيَ صوامتُ” – المعرِّي.

      إنَّ كثيرًا من الدلالات غير اللّفظية يُمكنُ أنْ تندرجَ في إطـارِ الصّمت ولو على سبيل المجازِ والتوسعِ، فلغة الإشارة مثلاً من الوسائل الدلالية القديمة والسابقة للفظِ المنطوق عند أصحاب النظريات اللّغوية، وأيضًا دلالة الحال، ولُغة الجسد والإيحاء وغير ذلك، يقولُ الجاحظ :”…وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد؛ أولها اللّفظ، ثم الإشارة، ثم العقدُ، ثم الخطُّ، ثم الحالُ؛ وتسمّى نِصْبَة، والنِّصْبَةُ هي: الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات”.

      والدلالةُ غير اللفظية كلغةِ الإشارة، ودلالة الحال أو النِّصبة-كما سماها الجاحظ- تُعدُّ وسيلة للتعبير في حالة صمْت اللِّسان. وهُنا نذكرُ مريمَ -عليها السّلام- لمَّا أتت بابنها تحمله، ما كان منها إلا أنْ لجأت إلى الإشارة، بعد ما نذرتْ أن تصومَ عن الكلام كما أمرها الله، ولو كانت إشارتها خرقًا لقواعد الصّمت لحنثتْ، ولكنَّ ذلك لم يَكُن.

    إنَّ لُغة الجسد والإشارة المُعبرة وغيرها قرائــنٌ تؤدي عن المُتكلم كثيرًا من الرسائل التي لا يسعها الكلام، فهي أبلغُ وأوقعُ في القلب من كلِّ حديثٍ وأبينُ من كلِّ كلامٍ!

قالَ الشّاعر عن إشارات العين:

“أشارَت بِطَرفِ العَينِ خَشيَةَ أَهلِـها    إِشــارَةَ مَحزونٍ وَلَــم تَتَكَلَّمِ

فَأَيقَنتُ أَنَّ الطَـــرفَ قَـــد قــالَ مَرحَبًا    وَأَهــلاً وَسَهلاً بِالحَبيبِ المُتَيَّمِ”

     إنَّ كلامَ السكوت هذا يعرِّفه من مرَّ بتجربةِ عشقٍ صادقة كالتي أنطقت الشعراء والأدباء بتلك الكلمات العذبة الرقراقة، إنها لُغة ذات أحرف مخصُوصة، أحرف نورانية تتسعُ لِما لا تتسع له الأحرف الملفوظة، فإذا كانت قلة الألفاظ بلاغةً، فإن لغةَ الصّمت في بعض المواقف أبلغ من كلِّ وجـازةٍ، وأفصح من كلِّ إبانةٍ.

     لقد لهج كثيرٌ من الشعراء والأدباء بهذا المعنى، فالرَّافعيُّ ونزار كانت لهم فلسفةٌ خاصة في الصّمتِ، فيرون أنّهُ وسيلة أقـرب من الكلام إلى أفئِدةِ العاشقين، يقولُ الرّافعي في ذلك: “تتكلمُ ساكتةً وأردُّ عليها بسكوتي، صمتٌ ضائعٌ كالعبثِ، ولكنْ له في القلبين عملُ كلامٍ طويل…”

     ويقولُ قبّاني:”هل تسمعين أشواقي عندما أكون صامتًا؟ إنَّ الصَّمتَ يا سيدتي هو أقوى أسلحتي. هل شعرتِ بروعة الأشياء التي أقولها عندما لا أقول شيئًا؟”

الصمت ودلالته البيانيه 1

       وللصمتِ دلالات أُخرى تتعلق بالأحوالِ النّفسية، فمقام “الهيبة” من المقاماتِ الداعية إلى الصّمتِ، كأن يكون المُهيب على قدرٍ من الهيمنة والعظمة، فكلّما تعالى السلطان وتعاظم القدر، وازداد الجاه، كان الصّمت هو الترجمانُ لِما يختلجُ في النفوسِ ويتراءَى للأوهامِ، وقد صَور لنا القرآنُ الكريم هذا المقام تصويرًا دقيقًا في قولهِ تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ [طه: 108] أي وسكنت أصوات الخلائق للرحمن، فلا تسمع إلا حسن الأقدام إلى المحشر. وقيل:”الهمسُ هو: الصوتُ الخفيّ الّذي يوجد لتحريك الشفتين، يقال: همسَ فلان إلى فلان بحديثٍ، إذا أسره إليه وأخفاه، ففي هذا الموقف تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، ويستولي سلطان الحقيقة على الحضور فيسود الصّمت، حتى يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى”.

وقد أجاد الفرزدق تصوير دلالة الصّمت في هذا المقام، فقال مادحًا زين العابدين:

“يُغضي حياء، ويُغضى من مهابتــه        فَمَـــــــا يُكَلِّــــــــمُ إِلَّا حِــــــــينَ يَبْتَســـمُ”

     جعلَ الفرزدق ممدوحَه مهيبًا في حال إغضائه، وهذا من أبلغ الوصف؛ لأنّه إذا كان مهيبًا في إغضائه فكيفَ به إذا توجَّه بناظريه إلى مَنْ يُخاطبه؟

      استطاعَ الفرزدق نقل إحساسه بجلال المعنى، استطاعَ مداخلة النفوس ولو على سبيل الفــرض والتخييل، الناسُ أمام هذا المهيب صامتون، منتظرون إشارة طمأنة، تبسمه هو باعثُ الاطمئنان في قلوبِ المخاطبين، هو فكاك ألسنتهم، هو طـلاقة أفكارهم وهُـدُوِّ نُفوسهم.

      ومن المقامات النفسية الداعية إلى الصّمت “مقام التأدب” كالإنصات إلى حديثٍ ذي خطر؛ قال الله تعالى في نعت تواصي الجنّ بعضهم لبعض عند شهود الرسول -صلى الله عليه وسلم –﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: 29]. 

      والصّمتُ في كلِّ ما سبق محمود مُرتضى حَسَن، ومنه ما يكون مذمومًا سمجًا، كصمتِ العجزِ والعيِّ؛ وذلك لأنهم يجعلون العجز والعيّ من الخرق سواء كان في الجوارحِ أم في الألسنة، قال أحيحة بن الجلاح:

“وَالصَمتُ خَيرٌ لِلفَتى     ما لَم يَكُن عيٌّ يَشينُهُ”

     وهناك صمتٌ عارضٌ يتخلّل الحديث لأمرٍ ما؛ كالنسيان أو شرود الذهن أو الرهبة ونحو ذلك، وهو ما أطلقوا عليه ( الإرتاج ) ومنه قولهم:قد أُرْتِـجَ عليه: إذا أغلق عليه ما يُريد من الكلام، فلم يَدرِ ما يقول، وللعرب في ذلك حكايات طريفة، منها لما أتى يزيد بن أبي سفيان الشامَ واليًا لأبي بكر -رضي الله عنه- خطب، فأُرْتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله، فأُرْتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله، ثم أُرْتِج عليه، فقال: “يا أهل الشام، عسى الله أن يجعلَ من بعد عُسْرِ يُسْرًا، ومن بعد عيٍّ بيانا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل، ثم نزل. فبلغ ذلك عمرو ابن العاص فاستحسنه”.

     وصَعَد ثابت قُطنةَ منبرًا بسجستان فحمد الله، ثمّ أُرتِج عليه، فنزل وهو يقولُ:

“فـإِلّا أَكُن فيكُم خَطيبًا فَإِنَّني      بِسَيفي إِذا جَدَّ الوَغى لَخَطيبُ”

فقيلَ له: “لو قلتها على المنبرِ كنت أخطبَ الناس”.

     أما الصّمت الذي يتعلق ببلاغةِ النّظم، فهو قلادة الجِيدِ وقاعدة التجويد عند البلاغيين، وهو صمت عن أجزاء مخصوصة من الكلام، يرى المتكلم أنه مهمّا تحدث أو وصف فإنه لن يُوفّى الموصُوف حقه، أو أن الكلامَ ذاته قاصر عن أداء المعنى الذي يجول في الخاطر، وعبارتهم المشهورة في ذلك: “إن من الأشياء ما تُحِيطُ بهِ المعرفةُ ولا تُؤدِّيه الصّفةُ” وقد جعلَ الإمام عبد القاهر الجُرجانيّ بابَ الحذفِ من هذا النوع، فقال في كتابِهِ (دلائل الإعجاز):”الحذف بابٌ دقيقٌ المَسلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأمر شبيهٌ بالسحر، فإنَّك ترى به تركَ الذِكر، أفصَحَ من الذكرِ، والصَّمتُ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادةِ، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بيانًا إذا لمْ تبِنْ” وذلك كقوله تعالى:﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل : 9]، والتقدير: ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم، يقولُ الجرجاني: إلا أن البلاغةَ في أن يُجاء به كذلك محذوفًا.

      والحذفُ بابٌ متسعٌ يجري في أمور كثيرة، كحذفِ حرفٍ أو أكثر من الكلمة كما في الترخيم والضرائر الشعرية ونحوهِما، وحذف بعض أجزاء الجملة كالمسند أو المسند إليه لدواعٍ بلاغية، وحذف الجمل لدلالة السّياق عليها كما في أسلوب الاحتباك، وحذف فضول الكلام كما في القصّص القرآني، إذ نراهُ يعرض لِما فيه العبرة والموعظة في كلِّ قصةٍ دون ذكر لأوصافِ المكانِ أو الزمانِ، وغير ذلك مِما لا يُحصيه العد، وهذا من الصّمت البليغ الذي يتخلل الحديث ويجري في أثنائِه، وهو مقصودُ البلاغيين في قولهم والصّمتُ عن الإفادةِ أزيدَ للإفادةِ.

     والصّمت أيضًا بابٌ متسعٌ لا يُمكن حصر أنواعِهِ، ففي كلِّ عملية تواصل نلحظ كثيرًا من أنواع الصّمت، كالصّمت للدهشة أو لانتظار خبر أو ترقب جواب أو فك شفرة ترسلها العين أو ملامح الوجه أو حركات الجسد أو نزعات الغضب أو الفرح أو الحزن أو غير ذلك من المشاعر والأحوال والأفكار، إنَّ اللّغةَ الصامتة قد تكون أكثر رحابةً إلى آفاقِ المعنى من اللّغة الناطقة، فلا تتقيد بحدود النحو أو المنطق أو البلاغة، بل لا تتقيد بطقوس أو عادات، إنَّها لُغة تعبيرية حُرة حكيمة تحكي كلّ انفعالٍ وتصفُ كلّ إحساسٍ وتُعبّر عن كلّ خاطرةٍ دون أن تقولَ شيئًا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

الصمت ودلالته البيانية قراءة المزيد »

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٣م

كان عام 2023م حافلًا بالبرامج والمبادرات الجديدة التي أطلقتها شركة نديم، وهي التي يقف خلفها فريق يؤمن بضرورة البناء المعرفي للأفراد مهما تنوعت مجالات اهتماماتهم.

وقد أحببنا أن يشارككم الفريق بمفضلاته السنوية من الكتب، حيث اختار كل واحد كتاباً مما قرأه خلال العام الماضي، ليرشحه للمهتمين، فنتج من ذلك باقة متنوعة من الكتب سواء في تخصصاتها أو أنماطها أو لغاتها.

بين يديكم مفضلات فريق نديم، آملين أن تجدوا بها ما يوافق اهتماماتكم، وما قد يكون رفيقًا حلوَا لأيامكم القادمة، لاسيما وأنه لا ينقصها لا الفائدة ولا المتعة.

قراءة التراث الأدبي: صوى ومعالم، لعبد الله بن سليم الرشيد.

كتاب جميل نابع من خبرة طويلة في التعامل مع التراث الأدبي نثراً وشعراً، تناول إطلالة على مصادره الأساسية والفرعية، وآليات لقراءة النثر وقراءة الشعر.

عبيد الظاهري، المشرف على شركة نديم.

شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين رحمه الله.

عزمت على قراءته مع صديقتي بمعدل نصف ساعة كل يوم، وقد تفاجأت أنها كانت رحلة ممتعة، جعلتني أنتظر هذه النصف ساعة من يومي بفارغ الصبر.

إيمان الفيفي، متطوعة في برامج نديم.

علم النفس دينًا: مذهب عبادة الذات، لبول سي. فيتز.

يحتاج المرء بين فينة وأخرى إلى الكتابات النقدية التي تناقش الأفكار السائدة في حقل ما، هذا الكتاب من هذا النوع، يناقش كيف أصبحت مقولة “تحقيق الذات” المقولة المؤسسة لكثير من النظريات في هذا الحقل، وكيف انعكست هذه المقولة وتسربت إلى طرائق تفكيرنا وأنماط حياتنا ونظرتنا إلى أنفسنا والوجود من حولنا

عبد الرحمن دباس، أخصائي مشاريع.

محركات الأفكار: تنقيب في الجذور ورصد للمنابع، لعبد الرحمن الريس.

قسّم المصنّف الكتاب إلى أربعة موضوعات رئيسية: المحرّكات النفسية، والعقلية، والخارجية، ومحركات الأفكار والخطابات الحداثية، تندرج تحتها مجموعة من المُحركات، وختم الكلام عن اعتبار المُحركات في القراءة الفكريّة.

الكتاب ذكي ومميّز وماتع، ميّزته النقولات الأصيلة من التراث الإسلامي لكبار الفقهاء كـابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، والغزالي، وابن الجوزي، والمعلّمي، وغيرهم

سمية سعود، متطوعة في مبادرة التراث التيمي.

اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية رحمه الله.

أحببت فيه الدعوة القوية لاعتزاز المسلم بشخصيته وهويته ودينه. تحدث عن دقائق في فقه أحكام التشبه ما قرأتها من قبل عند أحد، كما أدهشني في الاستنباط من الأدلة التي يستشهد بها. مبهر وباعث للتأمل.

شيماء، منسقة مشاريع.

كيف تغير العالم: رياديو الأعمال الاجتماعية وفعالية الأفكار الجدية، لديفيد بورنستاين.

ملهم، ومليء بالقصص والأفكار التي تخدم رواد الأعمال الاجتماعية. الكتاب ينطلق من أفكار للتغيير الاجتماعي على مستوى العالم.

حسين العبدلي، متطوع في مبادرة منصت.

النبأ العظيم، لمحمد دراز رحمه الله.

كتاب صغير الحجم عظيم النفع، يثبت أن القرآن كلام الله بطرق شتى مقنعة، ويبحث في أوجه الإعجاز اللغوي للقرآن. دفعني الكتاب للتأمل في أسلوب القرآن الذي يجمع بين إيجاز اللفظ والوفاء بالمعنى، والبيان والإجمال، وإقناع العقل وإمتاع العاطفة.

يارا عمار، مترجمة.

الثمين من أخبار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، لتركي الميمان.

عرضٌ شامل لجوانب سيرته وحياته العامرة بالخير، يدرك معها القارئ سرّ محبة الناس له، وانتشاره، وثقتهم فيه حتى يومنا هذا، باقيًا ذكره الطيب محفوظًا على ألسنة الطيبين. يذكرني هذا بقول عمر رضي الله عنه: “يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته “.

لبنى المفرج، متطوعة في مبادرة منصت.

فرصة أخرى، لروبرت هاين.

كان العنوان مثيراً للدهشة، وحسب المرء أن يرى الأمل في محطات الآخرين فينعكس ذلك على حياته. وقد اخترتها لأنها تجمع بين السيرة الذاتية وقصة لم يُعتد أن تحدث وتوثق، فحظ المرء من تلك الحكايات أن يعرف دهاليزها ودواخلها ممن عاين وجرب.

آلاء الخطيب، أخصائية مشاريع.

الداء والدواء، لابن القيم رحمه الله.

من أجمل الكتب التي تدفع القارئ لإعادة ترتيب أولويات حياته، ومراجعة خارطة سيره فيها، وهو كتاب غني عن التعريف.

أمنية محمود أبو الفتح، متطوعة في برامج نديم.

الدماغ الخلاق: علم أعصاب العبقرية، لنانسي أندرياسن.

رحلة تبحث في أسرار الإبداع والعبقرية، رائدتها محاضرة في الأدب الإنجليزي غيرت مسارها المهني إلى دراسة الطب، وتخصصت في علم الأعصاب، لتصبح أخيرًا معالجةً نفسية. مزيج تخصصات ظهر أثره في السرد المشوّق لمباحث الكتاب وجوانبه العلمية.

خلود بن صدّيق، مصممة.

تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، للبيروني رحمه الله.

من أكثر الحضارات إسهاماً في علوم الحكمة والطبيعيات والمنطقيات حضارة الهند. وعنهم تُرجمت كثير من الكتب التي استمد منها الإسلاميون في الأصول والمنطق والكلام والفلسفة والطب والمواد وغيرها. وأبو الريحان البيروني (ت:٤٤٠هـ) من أخص الناس بمعرفة أحوال أهل الهند، وهذا الكتاب وافٍ بكثير من أحوالهم في الاعتقاد والمعاش والعوائد والطبائع والأجناس، على درجة معتبرة من التحقيق. وعنه يصدر كثير ممن بعده.

عثمان العمودي، محرر.

هبة الألم: لماذا نُعذّب وما موقفنا من ذلك، لبول براند وفيليب يانسي.

أن ترى الألم بين حافّتي العذاب والنعيم، بين اللاشعور وأن تحس بوخزة إبرة. أن يلتصق ظهرا الألم واللذة كتوأم مختلف! الكتاب يعطي نظرة مختلفة للقارئ عن قيمة الشعور بالألم، قيمة ما نسعى لكبح جماحه كل ما بدا طرفه، وبين طياته تتلمس معنى وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.

منيرة التركي، متطوعة في مبادرة قراء الجرد.

شرح شمائل النبي للإمام الترمذي رحمه الله، لعبدالمحسن البدر.

بعد قراءة هذا الكتاب لم أعد أستطيع الاستمتاع بأي كتاب آخر. تقربت إلى الرسول ﷺ أكثر من خلاله، أحببت الرسول ﷺ أكثر. تعلمت كيف كان يتعامل الرسول ﷺ مع المواقف المختلفة، كيف كان شكله، كيف كان يبتسم ويضحك، وكيف كان يتحدث. كلما أصبح يومي ثقيلاً قرأت جزءاً من الكتاب، أخفف به ثقل الحياة.

فهيمة حسين، متطوعة في برامج نديم.

لغز الماء في الأندلس، لشريف عبدالرحمن جاه.

كتاب نادر في موضوعه، تعرفت من خلاله على أسرار ومعجزات عمارة الماء في الأندلس، ومحاكم المياه، وتعرفت على أنظمة الري والفلاحة المتبعة آنذاك، والتي لا زال بعضها يُعمل بها للآن، وفي الكتاب أسماء لكتب ودراسات أخرى عاد إليها المؤلف، كتاب ثري ونادر، ما استطعت الحصول عليه إلا في معارض الكتب.

أثير العمري، متطوعة في مبادرة قراء الجرد.

دلائل الإعجاز، للجرجاني رحمه الله.

لما فيه من جلالة الموضوع، وذكاء الأفكار، وحسن العرض، ورقّة اللفظ، وجزالة السّبك. فكأنّما هو كتبٌ جُمعت في كتاب؛ يجد فيه المتعلّم بغيته، والمتأدّب طلبته، والباحث مراده. ولا يخرج قارئه بعده كما دخل، ولكن بقلبٍ غير القلب، وعقل غير العقل، وروح ترى في القرآن قوتًا وطبًّا.

عبدالعزيز التركي، مطور أعمال.

نشأة الإنسانيات، لجورج مقدسي.

ملحمةٌ في الدراسات الحضارية المقارنة، ودرسٌ في التنقيب داخل كتب التراجم والطبقات، ودورةٌ تدريبيةٌ في الاستقراء والتحليل والاستنتاج.

حسان الغامدي، محرر.

مداواة النفوس، لابن حزم رحمه الله.

من رام صلاح نفسه وتزكيتها كما أمر بذلك ربنا جلا وعلا، فدونه هذا الكتاب النفيس والقيم بفوائده، وخصوصاً أن المؤلف قد أبان عيوباً في نفسه، وجاهد في إصلاحها، وبين السبيل لذلك، وقد أجاد رحمه الله.

سهام الحربي، متطوعة في مبادرة منصت.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٣م قراءة المزيد »