المقالات

وهم المعرفة

Picture of كتابة: لاب مهراج
كتابة: لاب مهراج

ترجمة: يارا عمار

pexels-jonathanborba-13061418

لقد جعل عصر المعلومات قدرًا هائلًا من المعارف في متناول أيدينا، فالإنترنت -بمجرد بحث يسير على جوجل أو الموسوعاتالإلكترونية- يعطينا إجابات فورية لأي سؤال قد يطرأ على أذهاننا. ومع ذلك، فهذه الوفرة في المعلومات قد تخلق وهمًا بالمعرفة، وهو ما يشكّل خطرًا إن تُرك دون رادع.

ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الفرد أنه يفهم موضوعًا ما فهمًا عميقًا بسبب توفر المعلومات عنه وسهولة الوصول لها. هذه الظاهرة تدفع الناس إلى المبالغة في تقدير خبرتهم، وتؤدي إلى اتخاذ القرارات بناءً على افتراضات خاطئة. تتفاقم هذه المشكلة بسبب خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز القناعات دون التحقق من دقتها أو صحتها.

ما هي المعرفة؟

نحن البشر نسعى باستمرار لتحصيل المعرفة، فنقضي ساعات لا تحصى في قراءة الكتب والبحث على شبكة الإنترنت وحضور المحاضرات من أجل توسيع فهمنا للعالم المحيط بنا. لكن ما هي المعرفة بالضبط؟ يعرّفها أكثر الناس بأنها مجموعة الحقائق والمعلومات التي يحصلها المرء من خلال التعليم الذي يتلقاه أو التجارب التي يخوضها. إلا أن هذا تعريف سطحي ولا يكشف عن المعنى الحقيقي للمعرفة.

المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة، بل هي فهم كيفية ارتباط هذه المعلومات بعضها ببعض لتشكيل صورة أكبر وأشمل. الأمر يدور حول القدرة على استخدام تلك المعرفة في المواقف الحياتية لحل المشكلات واتخاذ قرارات مستنيرة. ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الشخص أنه على فهم تام بموضوع ما استنادًا إلى معلومات محدودة أو وجهات نظر متحيزة.

لكن هذا التعريف بمفرده لا يستوعب كل ما تنطوي عليه المعرفة من تعقيدات. فالمعرفة تشمل أيضًا قدرة الفرد على حُسن تطبيق المعلومات المكتسبة في مختلف السياقات والمواقف، كما تتطلب غالبًا امتلاك مهارات التفكير النقدي من أجل تحليل المعلومات الجديدة وتقييمها في ضوء المعتقدات أو التصورات القائمة.

وعلى الرغم من هذه الفوارق الدقيقة في طبيعة المعرفة، فإن الناس غالبًا يقعون في وهم أن لديهم فهمًا كاملًا لموضوع معين. تتضمن المعرفة الحقيقية مزيجًا من الفهم والتطبيق في المواقف العملية، ومن دون التكامل بين هذين المكونين، يظل فهمنا لأي موضوع معين غير مكتمل.

المعلومات والفهم

يكمن الفرق بين المعلومات والفهم في مستويات تفسير وتطبيق كل منهما. المعلومات مجموعةٌ من الحقائق التي يسهل الوصول لها عبر مصادر متعددة. أمّا الفهم فيتضمن مستوى أعمق من التحليل والتجميع حيث يفسر المرء المعنى الكامن وراء هذه الحقائق، كما يتطلب تطبيق هذا التفسير في السياقات ذات الصلة، وإلا فإنه على خطر الوقوع في فخ اكتساب المعرفة السطحية: جمع المعلومات دون تعلم شيء جديد أو نافع.

وهم الخبرة

لقد جعلت وفرة المعلومات كثيرًا من الناس يظنون أنفسهم خبراء في مجالات لا يعرفون عنها سوى القليل، مما يؤدي إلى الوقوع في وهم الخبرة.

أظهرت الأبحاث أنّ وهم المعرفة ينشأ غالبًا من ميل الأفراد إلى الاعتماد على الاستدلالات السريعة أو الاختصارات الذهنية لفهم المعلومات المعقدة. قد يكون هذا الأمر إشكاليًا على وجه الخصوص في مجالات مثل المالية أو الطب، حيث قد تترتب عواقب وخيمة على القرارات المتخذة بناءً على معلومات ناقصة أو غير دقيقة. كما تشير الأبحاث إلى أن الناس أكثر عرضة لوهم المعرفة عندما لا يتلقون ملاحظات على أدائهم، أو عندما يُمدحون على قدراتهم دون تبرير كاف.

من المهم أن يكون الناس على وعي بالمخاطر المرتبطة بوهم المعرفة، مع السعي لتحصين النفس ضدها. هذا يُعرف بتأثير وهم المعرفة أو تأثير دانينغ-كروجر، والذين يقعون في هذا الوهم غالبًا ما يتخذون قرارات سيئة بسبب افتراضاتهم الخاطئة وعدم إدراك حدود قدراتهم.

يتمثل خطر وهم المعرفة في أنه قد يؤدي إلى شعور زائف بالثقة، مما يفضي إلى ارتكاب أخطاء ذات عواقب وخيمة محتملة.

وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار المعرفة الزائفة

لقد سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي على الناس الوصول إلى المعلومات ومشاركتها مع الآخرين وخوض النقاشات التي ترسخ معتقداتهم. ومع ذلك، فهذه السهولة في الوصول للمعرفة يصحبها جانب سلبي خطير، وهو انتشار المعلومات الزائفة التي تؤدي إلى وهم المعرفة.

صُممت وسائل التواصل الاجتماعي في الأساس لإنشاء روابط بين الناس وتشجيع بناء المجتمعات، لكنها مع ذلك قد تُستخدم كأداة لنشر المعلومات المضللة والدعاية. خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعطي الأولوية للمحتوى بناءً على عدد الإعجابات والمشاركات عوضًا عن الدقة أو المصداقية. وهذا يعني أن القصص الموضوعة قد تنتشر كالنار في الهشيم، بينما يتم إهمال المحتوى الواقعي لأنه لا يأتي بالتفاعل المطلوب.

متلازمة السلطة الزائفة

يُعرف وهم الخبرة أيضًا بمتلازمة السلطة الزائفة، وهي تشير إلى ميل الناس إلى افتراض أنهم يعلمون أكثر من معرفتهم الحقيقية. يظهر خطر هذه المتلازمة على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات وحل المشكلات.

تُعد تحيزاتنا المعرفية الفطرية أحد أسباب هذه المشكلة، فنحن نميل إلى المبالغة في تقدير قدراتنا ومعرفتنا بسبب الأنا البشرية والانحياز للمصلحة الذاتية. إضافة لذلك، غالبًا ما نفرط في الثقة بما نعلمه لأننا تعرضنا لمعلومات كثيرة حول موضوع معين، وإن كان كثير منها غير دقيق أو غير مكتمل.

إنّ وهم المعرفة مشكلة كبيرة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد في جميع المجالات. لا بد من معرفة ما لا نعلم وإدراك مواطن ضعفنا حتى نفهم الواقع بصورة أدق. يعد الاعتراف بجهلنا ولزوم التواضع الفكري هو المفتاح لفهم العالم من حولنا بطريقة أفضل، واستخدام الأدلة لحل المشكلات الكبرى. الأمر يتطلب ذهنًا متفتحًا ورغبة في التعلم وتأملًا ذاتيًا منتظمًا.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

وهم المعرفة قراءة المزيد »

فن القراءة البطيئة

Picture of كتابة: دان إريكسون
كتابة: دان إريكسون

ترجمة: يارا عمار

pexels-kayvanibrahim-6399567

في هذا العصر الرقمي، ومع توفر المعلومات في متناول أيدينا باستمرار، اكتسب كثير منا بلا وعي عادةَ تصفح النصوص بسرعة بحثًا عن الإشباع الفوري والإجابات السريعة. لقد عوّدتنا الوفرة الهائلة في المحتوى على الإنترنت على الانتقال بسرعة من معلومة إلى أخرى دون أن نهضم ما قرأناه غالبًا. وفي خضم دوامة الاستهلاك السريع للمحتوى، تبرز حركة مضادة لهذا الاتجاه: فن القراءة البطيئة.

هذا النهج يشجع القراء على التمهّل في القراءة، من أجل تذوق كل كلمة وفهم المادة المقروءة فهمًا حقيقيًا، كما تتذوق كل لقمة من وجبة شهية.

نشأة القراءة البطيئة – ما هي القراءة البطيئة؟

كانت القراءة في الماضي رفاهيةً، فقد كانت المخطوطات نادرة وثمينة في الحضارات القديمة، وكانت القراءة نشاطًا متأنيًا وغالبًا ما يمارَس جماعيًا. ثم مع توفر الكتب، خاصة بعد اختراع الآلة الطابعة، أخذت الممارسات القرائية في التطور.

إلا أنّ حلول العصر الرقمي، مع الهواتف الذكية وأجهزة القراءة الإلكترونية والسيل المتدفق للمحتوى على الإنترنت، قد غيّر عاداتنا القرائية تغييرًا جذريًا. مما لا شك فيه أن التكنولوجيا -بإشعاراتها وروابطها كثيرة التشعّب ومشتتات الوسائط المتعددة- أثرت على سرعتنا في القراءة وعمق فهمنا للنصوص. فرغم أنها يسّرت الوصول للمعلومات التي نحتاجها، إلا أنها عززت أيضًا ثقافة التفاعل السطحي مع النصوص.

فوائد القراءة البطيئة

للقراءة البطيئة عدد من الفوائد المتنوعة التي تتجاوز مجرد فهم النص، فهي أولًا: تعزز استيعاب المعلومات وحفظها إلى حد كبير، فقضاء وقت في التفكير مليًا في كل جملة يعيننا على استيعاب الفروق الدقيقة وتعقيدات النص، مما يزيد تجربتنا القرائية ثراءً.

كما أن القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة، فالانغماس في النص، سواء كان رواية أو قصيدة أو حتى عملًا غير روائي، يساعد على التفاعل العميق مع مشاعر الكاتب ومقاصده ورسائله الخفية. الأمر أشبه بإجراء محادثة عميقة مع صديق حيث تكون حاضرًا مشاركًا بكل حواسك ومستمعًا بانتباه، مقابل الدردشة السريعة المليئة بالمشتتات.

أخيرًا، تُعد القراءة البطيئة شكلًا من أشكال اليقظة الذهنية في ظل عصرنا سريع الخطى والمليء بالمحفزات المستمرة. إنها نشاط تأملي يتطلب التركيز والحضور الذهني، مما يساعدنا على التخفيف من الضغط النفسي وعيش اللحظة التي نحن فيها. وكما أن ممارسة اليقظة الذهنية في أنشطتنا اليومية أمر مرغوب، فكذلك يحسُن ممارستها أثناء القراءة حيث ستكون مصدرًا للاسترخاء وتجديد الطاقة الذهنية.

أساليب تنمية عادة القراءة البطيئة

إنّ دمج القراءة البطيئة في حياتنا اليومية يتطلب جهدًا متعمدًا، لا سيما ونحن مُحاطون بثقافة تعطي الأولوية للسرعة على العمق. فيما يلي بضع طرق تعين على تنمية عادة القراءة البطيئة:

  • تحديد وقت مخصص للقراءة: كما أننا قد نحدد وقتًا لممارسة الرياضة أو التأمل، كذلك من المفيد أن نقتطع أوقاتًا ونخصصها للقراءة، ربما نصف ساعة هادئة في الصباح مع كوب من القهوة أو في المساء قبل النوم، فوجود روتين محدد يجعل الأمر عادة.
  • تهيئة بيئة مواتية للقراءة: اختر مكانًا مريحًا خاليًا من المشتتات، سواء جانب مريح في غرفة المعيشة أو ركن مخصص للقراءة أو حتى حديقة محلية، المهم أن تختار مكانًا تستطيع فيه أن تنغمس في النص بعيدًا عن أصوات الإشعارات المستمرة أو غيرها من عوامل التشتيت.
  • استخدام الأدوات المساعدة لتحسين التفاعل: تفاعل مع النص بنشاط، بإضافة التعليقات التوضيحية أو تظليل المقاطع الرئيسية أو تدوين الأفكار على الهوامش أو في دفتر منفصل، فإنّ ذلك يعمّق فهمك للنص ويجعل تجربتك القرائية غنية ومفيدة. هذه الممارسات لا تفيد في حفظ المعلومات فحسب، بل تدفعنا أيضًا إلى التأمل في أهمية المادة المقروءة بالنسبة لنا.

دور الكتب الورقية في القراءة البطيئة

لأجهزة القراءة الإلكترونية والكتب الصوتية مزاياها في العصر الرقمي، إلا أن هناك شيئًا مميزًا في تجربة قراءة كتاب ورقي.

  • التجربة الحسية: إنّ حمل الكتاب والشعور بثقله وتقليب صفحاته يربطنا بالقراءة بطريقة ملموسة. هذا الاتصال المباشر يؤثر على وتيرة القراءة، مما يشجعنا على التمهّل والاستمتاع بكل صفحة.
  • رؤية التقدم: إنّ ملاحظة التقدم الذي نحرزه ونحن نقرأ كتابًا يبعث على الشعور بالارتياح النفسي، فمشاهدة الجانب الأمامي للكتاب يزداد سمكًا مع تقلص الجانب الخلفي بالتدريج يُشعر بالإنجاز وقد يدفعنا لمواصلة القراءة.

التخلص من السموم الرقمية: تقليل وقت الشاشة من أجل قراءة أفضل

في حين أن المنصات الرقمية تسهّل حياتنا، إلا أنها تطرح عددًا من التحديات خاصة فيما يتعلق بتجربة القراءة.

  • آثار إجهاد العين: قد يؤدي التعرّض المطوّل للشاشات إلى إجهاد العين والصداع وانخفاض معدل الاستيعاب. ولذلك فإن الإضاءة الخلفية للشاشات واعتياد التمرير بسرعة يمكن أن يعيق التجربة العميقة والتفاعلية التي تحققها القراءة البطيئة.
  • الموازنة بين قراءة الكتب الرقمية والورقية: من الضروري أن تحقق توازنًا يناسب ظروفك الشخصية. إن كنت تستمتع بالكتب الإلكترونية أو الصوتية، فخصص لها أوقاتًا محددة وأوقاتًا أخرى للكتب الورقية، واحرص على أخذ استراحات بانتظام إن كنت تقرأ رقميًا. يحسُن أيضًا أن تحاول منع استخدام الأجهزة الإلكترونية بضعة أيام، فلا تقرأ فيها إلا الكتب الورقية. هذا التوازن يخفف من إجهاد العين ويشجع على القراءة بتأنٍ وتركيز أكثر.

التفاعل مع النص: ما وراء القراءة

القراءة ليست مجرد عملية تلقّي حيث تتدفق الكلمات من الصفحة إلى أذهاننا، بل علينا أن نتفاعل مع النص حتى ننغمس فيه حقًا ونستخرج معانيه العميقة. إليك الطريقة:

  • إعادة القراءة للتعمق في المعاني: عندما أقرأ رواية لأول مرة فغالبًا ما أندمج في الحبكة متشوقًا لاكتشاف الأحداث التالية. لكن عندما أعود إليها مرة أخرى ألاحظ الفروق الدقيقة والرمزية وتعقيدات تطور الشخصية التي ربما لم أنتبه لها في القراءة الأولى. تمكّننا إعادة القراءة من الغوص في أعماق النص وتذوقه واكتشاف تفاصيل قد نغفلها في القراءة الأولى.
  • المناقشة في المجموعات القرائية أو أندية القراءة: يوجد شيء سحري في مناقشة كتاب مع القراء الآخرين، حيث يعرض كل واحد آراءه وتفسيراته وتجاربه الشخصية. غالبًا ما أجد فهمي للنص يتوسّع ويتعمق بعد النقاشات الحيوية في الأندية القرائية. هذا تذكير بأن الأدب تجربة مشتركة، وحوار بين المؤلف والنص والقارئ.
  • كتابة التأملات أو المراجعات: يعجبني تدوين أفكاري خاصة بعد إنهاء كتاب مؤثر، سواء في شكل تأملات شخصية، أو التفكير في الرابط بين النص وتجاربي الشخصية، أو في شكل مراجعة رسمية. إنّ الكتابة على ترسخ الفهم في أذهاننا، والتعبير عن أفكارنا وصياغتها تزيد المعاني وضوحًا.

القراءة البطيئة في التعليم

أحيانًا يُغفل عن قيمة القراءة البطيئة في بيئاتنا التعليمية سريعة الخطى، حيث يتعين على الطلاب التوفيق بين العديد من المهام والقراءات. لكن من المهم أن تكون القراءة البطيئة جزءً لا يتجزأ من المنهج الدراسي للأسباب التالية:

  • تدريس أساليب القراءة البطيئة في المدارس: عندما أرجع بتفكيري إلى أيام الدراسة أتذكر ضغط القراءة السريعة النصوص لاستخراج المعلومات الأساسية بسرعة. لكن ماذا لو علّمنا طلابنا فن القراءة البطيئة وشجعناهم على أخذ وقتهم في القراءة وتذوق كل كلمة والتأمل في المعاني العميقة للنص؟ هذا النهج يمكن أن يغرس فيهم الحب الصادق للقراءة، وينمّي الفهم العميق للمادة المقروءة.
  • تحسين التفكير النقدي والمهارات التحليلية: القراءة البطيئة لا تتعلق بالوتيرة فحسب، بل بعُمق فهم النص كذلك. تتطور المهارات التحليلية للطلاب عندما يغوصون في أعماق النصوص، فيستطيعون تمييز الموضوعات والدوافع وتطور الشخصيات. وهذا النوع من التحليل العميق يعزز التفكير النقدي، وهو مهارة ثمينة في الحياة، وليس في البيئات الأكاديمية فحسب.

التغلب على تحديات القراءة البطيئة

إننا في الوقت الراهن غارقون في تدفق مستمر من المعلومات والمقالات والكتب، ولذلك قد تبدو فكرة القراءة البطيئة غير منطقية. كيف نواكب كل ذلك إن كنا نستغرق وقتًا في كل نص؟ إليك طريقة التعامل مع هذه التحديات:

  • معالجة الخوف من فوات الفرص (قلق الفومو): أعترف بأنه كثيرًا ما تلح عليّ فكرة قراءة أحدث الكتب الأكثر مبيعًا، أو المقالة الرائجة، أو الكتاب الذي يتحدث عنه الجميع. لكن أدركت بمرور الوقت أن القراءة ليست سباقًا. لا بأس بأن يفوتك بعض المحتوى إن كان ذلك يعني أن تفهم وتتفاعل بصدق مع ما اخترت قراءته. تذكّر أنّ الجودة أهم من الكمية.
  • الانتقال من القراءة السريعة إلى القراءة البطيئة: قد يصعب عليك الانتقال إلى القراءة البطيئة إن كنت معتادًا على التصفح السريع للمقالات أو العجلة أثناء قراءة الكتب. أنصحك بأن تبدأ بدايةً يسيرة: خصص وقتًا محددًا كل يوم للقراءة بتأني، وإن كان عشر دقائق، ثم مدّد هذا الوقت تدريجيًا كما شعرت بالتعود على القراءة البطيئة. تذكّر أن العبرة ليست بعدد الصفحات التي تقلّبها، بل بعمق تفاعلك مع كل صفحة.

خاتمة

قد تبدو القراءة البطيئة رفاهية في عالمنا الرقمي السريع، لكنها في الواقع ضرورة لمَن يرغب في فهم النصوص التي يقرأها والتفاعل معها. أحثك يا عزيزي القارئ على خوض التجربة، حدد وقتًا واختر كتابًا وانهمك في صفحاته. استمتع بفن القراءة البطيئة واستكشف المتعة البالغة والفوائد الجمة التي ستعود على حياتك. تذكر أن التأني في القراءة -كما في الحياة- هو الأفضل أحيانًا.

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

فن القراءة البطيئة قراءة المزيد »

فضيلة الافتقار

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-despoina-apostolidou-136436784-16764893

دوما عزيزي القارئ لا تحكم على الفكرة من عنوان أو قوالب ذهنية مسبقة في فكرك فتكن أسيرا عندها، تحكم أو تقوّم الأفكار من خلالها، فالافتقار بمفهومه الشائع والمتداول فكرة مدعاة إلى الضجر والضيق، بل الهروب منها، إلا أننا عندما نتأمل ونفكر بالافتقار من حيث ملاصقته بالإنسان نلمس فيه فضائل متعددة، ومحركات إلى السعي والطلب، والأمور بنتائجها ولو كانت الوسائل شاقة.

فضيلة الافتقار ذاتية المرجع، وحتمية الوقوع، فالإنسان كائن افتقاري ولو كان غنيا -بالمفهوم الضيق للغنى- كونه يفتقر إلى الصواب، والحكمة، والعلم، والأخلاق، والتفكير، والفلسفة، يفتقر إلى الاستشعار والشعور، ألم يقل الفرزدق يوما: “لنزع ضرس أهون عندي من قول بيت شعر”، معبرًا عن فقد الشعور الذي يمده بالمعاني والألفاظ.

الإنسان يفتقر إلى الطعام والشراب، والغريزة، فنحن نفتقر في اليوم عشرات المرات، حتى الملل الذي يرافقنا هو افتقار لكنه افتقار لشيء غير معلوم. لكن السؤال: متى يكون الافتقار فضيلة؟

تدل كلمة الفقر في اللغة على فراغ نافذ في العمق وانفراج في الشيء، ومن هنا ينشأ معنى الافتقار إذ هو الفقر مضافا إلى الشعور على سد الفراغ والانفراج.

فالافتقار محرك أساس للشعور، والافتقار شغف، وهو اكتناز؛ بوصفه محفزا إلى الطلب والتزود، والطلب لا يكون إلا بطريقة أو سيلة، فيسعى إلى تحصيل الوسيلة، وهكذا يظل سائرا في الطريق رغبة في الوصول، يحركه افتقاره إلى بغيته، بخلاف الممتلئ الذي قد غره الوهم بالشبع والاكتفاء، ولذلك لا يكون الإنسان غنيا حتى يوقن أنه فقير، ويكون فقيرا إذا شعر أنه غني، وهذه هُويته، لذلك لا يُؤمل بتحقيق الأمنيات والمعالي إلا عند من يشعر بالافتقار؛ فيحركه ذلك الشعور إلى مكتنزات الأفكار ودقائق السبل الموصلة.

فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني، إذ الافتقار البصير يغني صاحبه، والاستغناء بالمادي يفقر طالبه، فالدين افتقار روحي وعملي، والعلم افتقار معرفي، والتفكير افتقار إنساني، والكتابة افتقار حواري، والحرفة افتقار للفن، والقراءة افتقار تأملي، والدعاء افتقار كلي، وقل مثل ذلك في أي قيمة كانت عليا أو دنيا بأي شيء تفتقر، وقريب من ذلك قول ابن حزم: “وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم”. فالافتقار من مباهج النفس الحية التي تشعر وتدرك، والحكمة كما ذكرنا عن ماذا تفتقر، والمكسب الحقيقي كيف نوجه الافتقار إلى ما يزيدنا نضجا وحكمة.

إن الدروس في الحياة والعبر، واغتنام الحكمة تلزم من قبولها نفس مفتقرة شاعرة بافتقارها ونقصها، وما أحكم المعنى الذي قاله الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى                 فصادف قلباً خالياً فتمكّنا

إن من أخطر ما يهدد فضيلة الافتقار داء الامتلاء وهو داء يوهم النفس بغناها واستغنائها، وأكثر ما يتمركز هذا الداء في المال، حتى يصل الظن بالإنسان إلى أن المال سيخلده، أو أن المال الذي معه سيظل خالدا، وصدق الحق: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة:3.

فضيلة الافتقار من ثمار فضيلة الترك؛ التي بدورها تفرغ النفس من شوائب ما يسلب فضائلها فتفتح مساحة للفكر والعقل والخيال والنفس، وتقبل ما يردها من سوانح معالي الأمور وفضائلها، ولا تخلق الدهشة بالفكر إلا في نفس مفتقرة، يكون فراغها مستوعبا القدرة على التساؤلات، وتحويل البديهي إلى وعي يحيط الأشياء بالاستغراب والشك، ولذلك مكتباتنا المليئة بالكتب لا يحركنا إلى مجلداتها إلا الشعور بالافتقار إلى ما فيها، إلى ما يثري تجارب الحياة وينضجها، تشعرنا بضرورة التزود من شتى حقول المعرفة.

نحن بحاجة إلى أن نخلص المفاهيم من الماديات التي صبغت بها المعاني، فالغنى ليس غنى المال، والفقر ليس عدم الامتلاك، وإن كان هذا المفهوم نسبي أو جزء من هذا المعنى إلا أنه لا يشكله بكليته، فوراء هذه المفاهيم دلالات عميقة تختبئ في تجارب الناجحين الذين ملأت إنجازاتهم دفاتر الحياة، واستغرقت حضارات الدنيا، فكل سؤال، وكل نظرية، وكل بيت من الشعر، وكل إنجاز، يبدأ بافتقار، وما إن ينتهي حتى يبدأ افتقار آخر وهكذا.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة الافتقار قراءة المزيد »

الفكرةُ عجينُ الكتابة!

الفكرة عجين الكتابة

إن الخباز الماهر يعلم عبر الممارسة أنه لا يطيب الخبز دون خميرة جيدة لعجينه، وهذا هو حال الفكرة سواء بسواء، وهو ما يجعلنا نستنبط دلالات من هذه الصورة المجازية، تفيدنا في تخمير أفكارنا وإنضاجها، وذلك في فقرات مكثفة متسلسلة:

  • جودة الطحين لا تبرر لنا التقليل من زمن التخمير، وذلك أن الطحين الجيد مفتقر بالضرورة لبكتيريا طبيعية لا تنمو إلا عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن. وعليه، فلنا أن نقرر بأنه قد يكون لدينا فكرة عميقة أو جديدة أو حتى مدهشة، ولكن ذلك لا يعني البتة عدم حاجتنا إلى تخميرها لوقت كافٍ وبطريقة صحيحة، فالعبرة بثمرة الفكرة لا بعمقها، ونجاعتها لا بجدتها؛ والممارسة الكتابية تفيد بأن النصوص العظيمة الناجعة المؤثرة هي نِتاجُ أفكارٍ مُخمَّرة. وقديماً قالت العرب: “خمير الرأي خيرٌ من فطيره”.
  • جودة الطحين لا تسوِّغ لنا استخدام خمائر فورية، لكونها مادة ليست من جنسه، وعادة ما تنفش هذه الخمائر عجيناً إلا أنها لا تخبز ما نتغذى به ونلتذ. ومثل هذا الأمر يقودنا إلى تقرير خطورة إقحام مادة أجنبية على الفكرة، فقد يكون الإنسان على سبيل المثال متوفراً على “فكرة تراثية أصيلة”، ثم يقوم بحقنها بمواد غريبة لا تلائمها ولا تصلح لها (انتبه لهذه القيود!)، فيكون بذلك كمَنْ جلب قمحاً نادراً، بيدَ أنه أفسده بـ “خميرة صناعية” أو “مواد منهكة”!
  • الخميرة الجيدة كما قلنا تستلزم زمناً كافياً، مع اتباع الطريقة الصحيحة في التخمير، إذ هي ليست خبط عشواء، وهذه الطريقة تقضي بأن يُوضع قدرٌ معلومٌ من الطحين وقدرٌ معلومٌ من الماء، ويعجن الطحين عجناً جيداً، ويترك في حرارة الغرفة ما لم تكن حارة أو باردة بأكثر مما ينبغي. ويفيدنا هذا بأن نسعى إلى تغذية الفكرة بكل ما يجعلها تنمو وتتفرع وتتراكب وتتماسك، شريطة ملاءمة السياق، وتشمل هذه الملاءمة صاحب الفكرة، فلا يكون على سبيل المثال متحيزاً بطريقة تشوِّه الفكرة، ولا يكون جاهلاً في جوانب رئيسة منها، إذ يتوجب عليه حينها أن يقلع عن تطويرها لكيلا يتنكب الموضوعية أو يتورط في كتابة سطحية. كما تشمل الملاءمة أيضاً: الفضاء العام، إذ قد يكون غير مرحب بالفكرة، بل قد يكون معادياً لها، مما قد يضر الفكرة أو يشوهها أو يسحقها، وفي حالة كهذه، على صاحب الفكرة أن يتدبر كيفية حماية الفكرة من هذا السياق غير المواتي، أو دفعها لمن يمتلك مقومات تخميرها.
  • التخمير الجيد يتطلب عدم كتم ماعون العجين المُخمَّر بغطاء صلب، وذلك لضمان تنفس البكتيريا النافعة وتكاثرها ونموها، على أن يتبع ذلك تغذية مستمرة لهذه البكتيريا بمزيدِ طحينٍ وماءٍ وعجنٍ لعدة أيام، حتى تصل الخميرة إلى: أعلى مستويات التخمر الصحي النشط. ومثل هذا الأمر يدفع باتجاه ضرورة تعريض الفكرة لحيثيات جديدة وليس ذلك فحسب، بل تعريضها للآراء المخالفة أو الشواهد السالبة أيضاً، حيث يعين ذلك على تقويتها وجعلها تُبقي أجزاءَها القوية، وتُميت أجزاءَها الضعيفة، وهو ما يماثل حال الفكرة تماماً، إذ لا يصح أن تبقى إلا الأجزاء الصلبة أو الجيدة منها. وهنا نشير إلى خطورة نوع من التحيز يورطنا في تشبث أعمى بكل أجزاء الفكرة ولوازمها الحقيقية أو المتوهمة، وكأنها أضحتْ جزءاً من المعتقد. وهذا التحيز كفيل بإضعاف الفكرة، بل القضاء عليها أحياناً، حيث قد تكون مشتملة على أجزاء مغلوطة أو ضارة أو غير واقعية، بدرجات تكفي لإذهاب الدقة أو الجودة أو النجاعة في أجزاء الفكرة الأخرى، وهذا خطأ شنيع قلَّما يسلم المرء منه.
  • التخمير الناجح له علامات لا تخطئها عين المُخمِّر ولا أنفه، ومن بينها وجود فراغات وتخلخلات في تضاعيف العجين، مع تغير رائحة الخميرة وتقلبها إلى أن تصل إلى زكاء النضج وعبق الجاهزية. لا تحلِّق أفكارُنا ولا تتنفس إلا في سماء الفراغ، فالذكي إذن من يُحدِث فراغاتٍ كافيةً في الفكرة، لكي تتمدد وتنمو. وهذا ما يخول لنا التقرير بأن: الفكرة المصمتة أَمَة الامتلاء! ومن جانب آخر، تخمير الفكرة قد يترتب عليه شمُ رائحة زنِخة، لسبب يعود إلى الفكرة ذاتها أو إلى نوايا خلفها، وهذا أمر ينبغي التفطن له، فإن كانت هذه الرائحة مؤقتة تقتضيها طبيعة الإنضاج والتخمير فلا بأس، وأما إذا كانت دائمة، فقد يكون ذلك مؤشراً على عدم النجاعة في تطويرها.
  • كل ما سبق يزهدنا بـ “الرأي الفطير“، وهو الرأي: اللحظي التلقائي العجول، والترغيب بــ “الرأي الخمير”، وهو الرأي: المخمَّر الناضج الصالح، وثمة تحذير من مغبة “الرأي الدبير”، وهو الرأي: الفائت المتلكئ المتأخر، وقد يكون ذلك بسبب الإفراط في تخميره، والتأخر في عملية التخمير، مما يفسد خمائر الفكرة ونجاعتها وريادتها وإدهاشها وأثرها.
  • لتشسيع فكرة تخمير الأفكار، دعونا نلتقط بعض الكلمات ذات العلاقة بالتخمير، وننظر في كيفية تفعيلها، وهي متضافرة فيما بينها بشكل أو بآخر:
  • مُخامَرة: تدل على نقاشات هادفة لتخمير أفكار فردية أو جماعية بقالب منهجي محدد أو بعصف ذهني مفتوح.
  • أخمَرَ: هيأ للفكرة فضاء تتخمر فيه، إما عبر: الزمن والتفكير التراكمي الهادئ والكر والفر على قلاع الفكرة وجيوشها الجرارة من التحيزات والشواهد والبراهين، أو عبر المناقشة والمدارسة والجدل والمناظرة.
  • خَامَرَ: هنا نجد أنفسنا إزاء شخص يمتلك فكرة أولية، وهو مقتنع بضرورة أو جدوى تخمير فكرته، ويمارس طريقة أو أخرى لتخميرها.
  • مُخامَر: شخص يمتلك فكرة في طور التخمَّر، وهو بحاجة إلى مد يد العون له، إما باقتحامنا لساحته وملأ فراغات فكرته لدفعها أو لدفعه للتفكير في مسارب جديدة، أو بإفرغها منا ومن كل ما يعكر عليه صفوه، لنترك له فراغاته كي يملأها هو على مهل وتروٍ؛ وفق مقاربة يطورها عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن.
  • مِخمَار: إذا كان للتخمير آلة خاصة، فإنه يمكننا صناعة قالب مهيكل، نضع الفكرة فيه، فيعيننا على تقليبها والنظر فيها من زوايا جديدة، وفي اكتشاف مسارب خفية أو ضمنية لتطويرها عبر خطوات منهجية ممرحلة.
  • مُخمِّر: الأصل أن يكون صاحب الفكرة الأصلية، وقد يكون شخصاً يحسن تخمير الأفكار عبر احتضانها في عقله الدفِق ومخياله الخصِب، فيعمد إلى إضافة زوائد نافعة على الفكرة، وإزالة الحشائش الطفيلية عنها، ونحو ذلك، وقد يقوم بطرح أسئلة وإشكاليات، وربما يومئ إلى زوايا جديدة للنظر والتفكير عبر منهجية ملائمة للفكرة وصاحبها وللسياق أيضاً.
  • مُتخمِّر: ثمة أفكار ناضجة، وهي لا تفتقر إلا لمن يؤمن بها ويقوم بترجمتها إلى واقع ملموس وفق غاياتها ومقتضياتها وحيثيات السياق، حتى لا تكون في عداد “الرأي الدبير”.

هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية، والمجاز منجم لصناعة الأفكار الجديدة وتطويرها وحقنها بكل ما يروع ويدهش وينجع، وهذه مجرد مقاربة تطبيقية في هذا الميدان الرحيب.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

الفكرةُ عجينُ الكتابة! قراءة المزيد »

الثنائية اللغوية في التعليم

الثنائية اللغوية في التعلم

لو رأيت قلمًا ثمينًا أعجبك فاقتنيته على الفور دون استفسار، وعهدُك بالأقلام أنها ما خُلقت إلا للكتابة، فستظل تستعمله في تلك الوظيفة حصرًا. ماذا لو كنت سألت البائع عن سبب غلو ثمنه فأخبرك بعدة وظائف: أنه للكتابة التقليدية، وبه خاصية للقراءة، وبه بطاقة ذاكرة تمكنه من تحرير نصوص تلقائية… إلخ أما كانت تقديرك له سيتضاعف، واستفادتك كذلك؟ أما كانت نظرتك له ستختلف وكذلك استعمالك؟ بلى، فإن معرفة قدر الشيء ووظيفته أول الطريق للاستفادة منه أقصى استفادة، وكذلك اللغة.

أهمية اللغة

يقول سقراط في محاورة كراتيلوس لأفلاطون، إن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتلقين بعضنا بعضا هذه الأشياء فتمييز الأشياء يُقصد به التمثل، أما تلقين أحدنا الآخر هذه الأشياء فهو التواصل.

فاللغة إذن ليست مجرد تواصل بل تتعدى ذلك إلى التمييز الذهني بين الموجودات، أي أن لها صلة وثيقة بالصحة العقلية، كما أن لها وظائف عدة نجهل أكثرها، ونتعامل معها من منطلق وجه واحد نعرفه عنها فلا نستفيد منها إلا بقدر ما نعرف. والنماذج اللغوية لوظائف اللغة عديدة، إلا أن أنسبها لهذا المقام باختصار “نموذج مايكل هاليداي” فلنعتمد عليه إذن.

وطبقًا له فإن وظائف اللغة الأساسية:

  1. الوظيفة الإدراكية: وتعني بناء المعنى وتنظيم الأفكار والمعرفة.
  2. الوظيفة التفاعلية: وهي وظيفة التواصل مع الآخرين وبناء العلاقات الاجتماعية.
  3. الوظيفة النصية: أي بناء النصوص المتماسكة والمترابطة.

الواقع اللغوي للغة العربية

من الظواهر الطبيعية في اللسانيات أن تتصف اللغة بـ (الازدواجية اللغوية)، والتي تعني مستويين مختلفين من الاستخدام للسان نفسه، أي أنه تنافس بين تنوعين للسان واحد (عامية وفصحى)، ووجود وضع مختلف لكل من هذين الشكلين اللغويين إذ يستخدم أحدهما في الحياة اليومية العامة ويستخدم الآخر في الأمور الرسمية والدوائر الحكومية وفي المدارس وغيرها، ويُعد الشكل المعياري والرسمي.

وهذا ليس خاصًّا بالعربية وحدها، بل عام ممتد لكل اللغات. إلا أن الواقع اللغوي العربي يختص بظاهرة أخرى مَرَضية وليست طبيعية؛ وهي استخدام لغة أجنبية في التعليم بدعوى أنها “لغة العلم”، و”متطلبات سوق العمل” رغم أن هذا المبرر واحد فقط من وظائف متنوعة للغة، مما يعني إهمال بقية الوظائف رغم أهميتها.

أغلب الأطفال اليوم يتحدثون عامية بلدهم، ويتعلمون في المدرسة بلغة أجنبية -عادة ما تكون الإنجليزية- ودافع الأهل في اختيار هذه المدارس جودة تعليمها، وإكساب أولادهم اللغة الثانية بسهولة وطلاقة، وإتاحة فرص عمل أفضل. وفي خضم هذه المباحثات عن أفضل مدرسة، تُطمَس لغة الطفل الأم تمامًا، فهو يتكلم في البيت العامية -إن كان الأهل يعتمدون العربية- وفي المدرسة يتواصل ويتعلم بالإنجليزية التي بدأ اكتسابها توًّا. والعامية تؤدي غرض الوظيفة التفاعلية بجدراة لكنها لا تفي بمتطلبات الوظيفتين الأخريين. ثم اللغة الثانية -في الأغلب- يقتصر منها الطفل على إدارة حوارات تواصلية بسيطة، وعلى ما يتلقاه من مادة علمية معروضة بها، لكنه لا يتعمق فيها ويتشربها تشرب اللغة الأم؛ فتأتي سطحية هشّة. وعلى هذا تكون أداة اللغة لدى الطفل متركبة من جناحين مهيضين؛ عامية قاصرة، وأجنبية سطحية، فلا تثبت أيٌّ منهما للتأمل العميق والبحث في المعاني المجردة، ولا تؤهلانه للإنتاج الفكري، اللهم إلا إذا أدرك ذلك هو أو والداه واهتما بتعميق لغة من اللغتين بالقراءة والكتابة وما يتصل بهما من أنشطة ذهنية.

وقد أشار الجاحظ (ت: 255هـ) إلى ذلك في وقت مبكر حيث قال في كتابه الحيوان:

“ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأ ّن كل واحدة من اللّغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها. وكيف يكون تمكُّن اللّسان منهما مجتمعين فيه كتمكّنه إذا انفرد بالواحدة وإنّ له قوة واحدة فإن تكلّم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهم”.

ونتيجة لذلك يظهر ما يمكن أن نسميه (الاكتفاء التواصلي)، أي اقتصار تعليم الناشئة ما يكفي تواصلهم في حالة اللغة الأم، وما يختص بدراستهم أو عملهم في حالة التعليم، فالطفل ينشأ بين لغتين سطحيتين دون أن يتعمق في أيّ منهما.

ويقول الأستاذ أحمد معتوق في عن الازدواجية الناتجة عن تعليم النشء بالعامية بدلًا من الفصحى

“يجعل الناشئ يعيش حالة ازدواجية أو فصاما لغويا ويعاني من لغة تتصارع مع مولود لها معقد التركيب أو (مولود غير شرعي) لا بد أن يوهنها صراعه لأنه يحتل مواقع مهمة في المجتمع وجوانب مختلفة في حياة الفرد”.

وهذا في حالة التعليم بنفس اللغة إلا أنه بمستوى مختلف، فماذا عن التعليم بلغة أخرى مختلفة كليًّا؟

– يعتاد الطفل ما سهل عليه من لغة التواصل الأجنبية فيجد نفورًا من ثقل تعلم لغته الأم التي تكلفه تعلم قواعد وأسس عميقة بالنسبة إلى اكتسابه اللغة الولى بالتواصل فقط.

– كما يؤدي هذا الازدواج إلى ضعف المستوى اللغوي لدى الطفل العربي المكتسب للغة ومن ثمة إلى قتل الإبداع لديه، فإن الإبداع هو الإمساك التام بناصية اللغة ويتطلب إتقانا تاما لها بالسيطرة الكاملة على ألفاظها ومعانيها والتحكم في استختدام صيغها ومفرداتها.

– ويؤدي هذا التذبذب اللغوي بين عربية فصحى، وعربية عامية، ولغة أجنبية إلى تذبذب فكري وثقافي أكيد.

– انقطاع الصلة بين النشء ودينهم الإسلامي؛ فالتراث الإسلامي بلسان عربي مبين، سواء القرآن أو الحديث أو التفسير أو حتى علوم العربية التي تعين على فهم وتذوق الشريعة. وهذه القطيعة إما أن تفضي إلى إلحاد أو فهم خاطئ للدين يضر بصاحبه وكامل مجتمعه

الثنائية اللغوية في التعلم 1

الآثار الناجمة عن التعليم بلغة أجنبية

1- ضعف مستوى التعليم عامة وضعف مستوى اللغة العربية الفصحى بشكل أخص. حيث المنافسة بين اللغة الأم ولغة السوق، وبتكرار ما ذكرناه آنفًا من أهمية ووظائف متنوعة للغة، إلا أن المادية قد طغت على العصر وأصبح ما يجلب المال الاهتمام الأوحد.

2- فوضى لغوية حيث التشتت الذهني والالتباس في المفاهيم نتيجة عدم التحكم في اللغتين تحكمًا كاملًا.

3 – توهين الروابط الاجتماعية، وتصدع المجتمع جراء تناقض المقومات الثقافية بين طوائفه الاجتماعية، وفقدان الثقة المتبادلة.

4 – أثر واضح على تخلف التنمية والنهضة الحضارية. ولا يخفى علينا أن معظم الدول العربية تحتل المرتبة بعد المئة في تصنيف التنمية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وهناك عوامل مشتركة بين هذه الدول المتخلفة -العربية منها وغير العربية:

أ – عدم عدالة النظام التعليمي، وتوفير الجيد منه لطبقة ضيقة.

ب – التعليم بلغة أجنبية، وتؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية أن الطلاب الذين يدرسون العلوم باللغة الأجنبية لا يستوعبون ما يدرسون لأسباب عديدة منها:

– أن الطالب يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: صعوبة فهم اللغة الأجنبية، وصعوبة المادة العلمية، وصعوبة ترجمة ذهنية لما يدرس إلى اللغة العربية، لإضافته إلى منظومته المفهومية المعرفية التي هي أساسا بلغته الوطنية.

– وأن تدريس العلوم بلغة أجنبية لا يساعد على توطين المعرفة العلمية، ويبقيها أجنبية، ويحول دون استيعابها وتمثيلها والإبداع فيها، ويعرقل تنمية اللغة الوطنية، ويحصر المعرفة في نسبة ضئيلة من السكان.

خاتمة

إن تعبير “لغة العلم” من أكبر المغالطات التي سيطرت علينا في العصر الحالي، فمن قال ومتى تقرر أن هناك لغة للأدب ولغة لعلم وأخرى للتواصل؟ الحق أن اللغة واحدة تتنوع مستوياتها باختلاف المجال المستخدمة فيه. وإن قصرت العربية حاليًا عن توصيف العلوم وشرحها فلتقصير أبناءها وانعدام الجهود الموجهة لهذه الغاية. ولا يخفى على أحد النهضة العلمية الإسلامية في عهد الدولة العباسية وقد شملت: الجبر، والطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات، والفلسفة، والأدب واللغة، والعلوم الدينية، والفلك، وغيرها من العلوم التي شملتها العربية دون أن تقصر عن أي منها.

وقد تبين لنا في الدراسة أن التعليم من أهم عوامل نهضة الأمم، وأنه يتأثر بالغًا بلغة تأديته، ومن المعروف أن كل الدول المتقدمة -على اختلاف لغاتها- لا تُعلِّم أبناءها إلا بلغتها الوطنية.

أختتم مقالتي ببعض الأفكار التي أرى أهميتها وصلتها بما سبق ذكره:

  • اللغة تواصل وتفكير ومخيلة وديانة وثقافة وليست تعليم وعمل فقط.
  • وأنه وإن اقتصرت المدارس في تعليمها على التعليم بلغة أجنبية فإنها لم تحكر عليكم تعليم أبناءكم لغتهم بشتى السبل المتاحة.
  • وأن السبل المتاحة لتحقيق ذلك وفيرة، والغاية عظيمة، فلا تستهينوا بها ولا تبخلوا عليها بالجهد والوقت والمال.
  • والتربية في أساسها تكوين ابن مستقيم صالح، ولن يتأتى ذلك إلا بتقويم فكره وتهذيبه، وإرساء ديانته على الفهم الصحيح، بلغة سليمة وقويمة.
شارك الصفحة
المزيد من المقالات

الثنائية اللغوية في التعليم قراءة المزيد »

فضيلة التَّرْك

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

فضيلة الترك

وهم الكمال، ووهم السعادة المحضة، وما يشابهه من مشاعر المستحيل الواقعي يقودنا إلى ضبابية في الشعور، فنلجأ إلى معالجة وهمية عبر جسر الاستهلاك (دعوني أمتلك)، سواء كان الاستهلاك المادي المتمثل باستكثار امتلاكنا للأشياء، أو الاستهلاك الشعوري المتمثل باستجلاب شهرة أو متابعة أو إعجاب.

وعزز الاستهلاكَ السائل التقدمُ الصناعي الذي زاد من جشع التملك للأشياء، فكبر الوهم وتبدلت المركزية؛ فلم يعد امتلاك الإنسان للأشياء منطلقًا مركزيًا، بل ذاب وتماهى في الامتلاك إلى أن صارت الأشياء تملكه، فتخلقت القيمة والسؤال فيما يُمتلك لا في الإنسان وقيمه! وهذا الوهم يفتقر إلى استشعار فضيلة تنتشله وتعافيه.

لا يتأسس حل هذا الإشكال إلا إذا استوعبنا مفهوم الامتلاك من حيث محدودية الإنسان فيه، وأن امتلاكه لا يكون إلا تجوزًا لا حقيقيًا. قيل لإعرابي: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لله في يدي. ومن هنا فإن فضيلة الترك تسلمنا إلى منهج حياة واعية وفلسفة عميقة تخلق فينا شعورًا صافيًا نقيا، ويمكن القول إن فضيلة الترك أقرب ما تكون إلى تقنية ذهنية تفحص احتياجاتنا الحقيقة والوهمية تجاه ما نرغب امتلاكه، وتفرغه من وهم طلب الكمال، فتعزز من قيمة القناعة، وشره الطلب، وتغلب أفكارَنا الغرائزية التي من شأن متبعها أن يلبي احتياجاتها بأي وسيلة وثمن. إن الترك فضيلة إنسانية كلما اصطبغ بها الإنسان ابتعد عن حيوانيته واقترب إلى إنسانيته، وتشكلت فيه نفس حية حرة ضميرها نابض، ووعيها مستنير وغرائزها منضبطة، ففضيلة الترك الواعية هي عين الامتلاك والتلذذ به من حيث كونه ملك نفسه واختياره.

فضيلة الترك تدعوك إلى أن تُصلِح الأشياء ليحسُن امتلاكها فلا يُمتلك إلا كل صالح، لكن ما العلاقة بين فضيلة الترك وإصلاح الأشياء؟ والجواب أن الترك لا يحمد لذاته إنما بما يؤدي إليه من الإحسان والجمال، ومن الإحسان والجمال ألا نترك الأشياء فاسدة لمجرد عدم امتلاكنا لها، بل نصلحها ونتركها لغيرنا صالحة نافعة، وبذلك تكون ثمار فضيلة الترك لصاحبها وتتعدى إلى غيره من الناس، ومن هذا الباب يأتي قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)الأعراف: 56، بألا يتغلب علينا الطابع الاستهلاكي، ونتحلى بالاستخدام المسؤول؛ ليكون هناك استدامة لموارد الأرض، وعدم هدرها، واستثمار خيراتها بما لا يفسدها للأجيال القادمة.

إن الأخلاق الفاضلة تكاد تكمن كلها في الترك، فالحياء خلق يبعث صاحبه على ترك القبيح من الأمور، والإيثار ترك حظوظ النفس وتقديم الغير عليها في النفع لها، والأناة ترك العجلة والمبالغة في الرفق في الأمور، والتؤدة ترك الخفة، والحلم ترك التعجل في العقاب المستحق، والتواضع ترك الترؤس والمفاخرة، والستر ترك الإفصاح عن العيوب وعدم إظهارها، وسلامة الصدر ترك الحقد والغل والبغضاء، والصبر ترك الجزع عند المصائب وترك ما لا يحسن عند وقوع المكروه، والسكوت ترك التكلم مع القدرة عليه وذلك في المواطن التي يحسن فيها، والعفة ترك النفس عن الشهوات وعن السرف، والصفح ترك التأنيب، وكتمان السر ترك الحديث ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها، وغير ذلك من الصفات الحميدة والأخلاق الفضيلة التي يكون الترك محورها أو أحد أركانها، فالترك تزكية للنفس، وثراء روحي ينعم به الإنسان مع نفسه فتصح نظرته للحياة والكون، وقيل: الحكمة لا تسكن معدة ملأى.

فضيلة الترك 1

ولو تأملنا في بعض الحكم والأمثال والفلسفة لا نعدم أن نلمس فيها شيئًا من الترك؛ وكأن فضيلة الترك نظرة كلية تصبغ الصواب في الأفكار فنجد فيها كثيرًا من معالجة الإشكالات النفسية والاجتماعية، يقول نيتشه: “من لا يستطيع التخلي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء”، ويقول ليو تولستوي: “أنت لا تنضج بقدر ما تكتسبه بل بقدر ما تتخلى عنه”، ويقول جبران خليل: “بدأت أفهم وأستوعب الآن أن سعادتي تكمن في التخلي عن المزيد لا الحصول على المزيد”، وجماع ذلك كله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه”، ففضيلة الترك هنا هي الصورة المثلى الذي تركبت من الترك وحسن النية والقصد.

وإذا سلم العقل بضرورة الترك وأيقن ذلك عن طريق الوعي المدعم بالحجج والبراهين، فهل يكفي ذلك لنيل فضيلة الترك؟ والجواب بحسب ما تؤكده الدراسات وواقع الإنسان عدم انفصال العقل عن العواطف، بل إن دور العواطف فاعل في عمليات التفكير، يقول جان جاك روسو: “إن الذهن الإنساني مدين بالكثير للأهواء، والأهواء مدينة بالكثير للذهن، وهذا متفق عليه بالكلية، فإنما يتكامل عقلنا بنشاط أهوائنا، ولا نطلب المعرفة إلا لأننا نرغب في المتعة”، ويقول ديفيد هيوم: “فإن النفس تنشط في مجال هواها، وتتعهد ميلها المهيمن بالرعاية”، ولعل النتيجة التي يمكن أن توضحها الأبحاث في هذا المجال أن الإنسان لا يملك عقلا محضا، وإنما عقلًا متداخلًا مع الغرائز والعواطف، تقول سوزان جرينفيلد المهتمة بالأعصاب والوعي: “فالمشاعر تشكل جوهر وعينا”. ونخلص من ذلك إلى أن عملية التحرر من سطوة الامتلاك إلى فضيلة الترك تبدأ من شعورنا بمنة الله علينا مما أنعم وأوجد، وربط النعم به، والتبرؤ من حولنا وقوتنا إلا به سبحانه، ومن شأن هذا الشعور أن يزاحم المشاعر الأخرى فنبدأ بالترك التدريجي الذي يمزج بين الفكر والعاطفة ويدرك مواطن تغذية كل منها إلى أن نصل إلى فضيلة الترك.

فضيلة الترك قوة في الشخصية، وحزم في اتخاذ القرار، كما تجعل الإنسان متصالحًا مع نقصه، فلا يبحث عن وهم اكتماله في الأشياء، ولا يقع في فخ التسويق والإعلان الذي يزيد عن قدر حاجته الأساس، فضيلة الترك مهارة تجعلنا متصالحين وراضين بالأقدار، بأن تكون لدينا قابلية لأن نترك الأشياء فنشعر بالحرية الحقيقية، وإن كان الترك يعطينا إحساسًا أوليًا بالفراغ والخواء، فالأمر ليس كذلك بل الترك يملأ النفس لذة وانشراحا بامتلاكها اختيارها لا بغيرها.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة التَّرْك قراءة المزيد »

قراءة تعزف سيمفونية المعنى

قراءة تعزف سيمفونية المعنى

“القراءة الناجحة” هي: تلك التي تجعل النص يعزف سيمفونية المعنى، فيعثر القارئ على النظام الداخلي للنص، ويكتشف المضمر، ويملأ الفراغ بـأدوات: الربط والترتيب والإكمال والتسديد، ليكون قادراً بعد ذلك على: إعادة تأليف مقطوعة النص؛ بما يضيء العقول، ويمتع الأرواح، ويرهف الحواس؛ بكل ما يحيط بموضوع النص. ولا يحسن تخيل قراءة كهذه إلا في ظل سياق “نص ملهم”. إن النص الملهم هو الذي يشهد ميلاد قارئ أفضل!  لقد كان القرآن الكريم الأحفل بالإلهام على مدار التاريخ، مما جعلنا نشهد أعظم قارئ في الوجود!

القراءة الناجحة هي: “قراءة راصدة معنصرة” للقضايا والأفكار الكبرى في النص، مع تركيز عالٍ بما يسمح للقارئ أن يبلورها ويرتبها في قالب منطقي محكم. دون هذه القراءة، سيكون القارئ مشوشاً دون مُكنة على فهم الأطروحة أو النظرية التي يسعى النص لبنائها، ولا يكون العقل حينذاك إلا متوفراً على شذرات ونتائج مشتتة متفرقة، لا ينظمها في عقد واحد؛ فيفوِّت التصور الكلي للنص والأطروحة والنظرية.

قد لا يكون التوصيف السابق مفيدًا بدرجة كبيرة دون تطبيق عملي. حسناً، لنتخيل أننا نقرأ مقدمة ابن خلدون بوصفه “نصاً ملهماً”، فكيف ندفع كلفة القراءة الناجحة وفق توصيفنا السابق؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن لنا عزف سيمفونية هذا النص العظيم واعتصار قضاياه واحتلاب أفكاره؟

لا يتحقق ذلك بقراءة عابرة فاترة باردة، تتجاهل إتقان فن التحشية والتعليق والتلخيص، إذ تتوه حينذاك راحلة القارئ في قفر النص، وقد يعدم “زاد المعنى” و”ماء التصور”، وقد تحرقه “شمس المعلومات” أو تضلله “نجمة البلاغة”، فلا يصل إلى حيث أراد: قراءة تعزف سيمفونية المعنى.

ولكي أكمل البعد التطبيقي الذي وعدتُ به، أثبت ما دونته في حاشية المقدمة أثناء قراءتي لها، وهو تعليق تلقائي يلخص الأبعاد الرئيسة في نظرية ابن خلدون في العمران في جانب منها بحسب قراءتي الثالثة لهذا النص الملهم. وقد انسرب هذا التعليق في مجموعة من العناصر المتسلسلة منطقياً، وهي عموماً: “تحشية قارئ” لا “بلورة باحث”، حيث لم أشأ أن أزوقها من جهة البلورة والتوصيف، بل تركتها على “سجيتها القرائية”، فهي مسوقة للمثال لا أكثر. ابن خلدون رحمه الله يقول لنا:

1- الاجتماع الإنساني “المنظم” ضروري لعوامل مادية، إذ لا يطيق الإنسان تدبير طعامه وتأمين نفسه وحمايتها ضد العدوان الذي هو “طبيعي في الحيوان”، دون تعاون وتضافر وفق نظام معين، فعُوّض الإنسان بـ “الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع، مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة”، وهذا كله مفتقر لتعاون وثيق. ويختص الإنسان عن الحيوان بجانب الصنائع بالعلوم، بجانب اختصاصه بخاصية الملك، وهو ما يفسر سر سمو العمران البشري وانتظامه وتطوره.

٢- ثمة تأكيد لاحتياج الاجتماع الإنساني إلى “وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض”، والاجتماع الإنساني ضروري أيضا لما ركُب في النفوس من حب المؤانسة مع الآخرين.

٣- الاجتماع الإنساني بضرورياته السابقة مفضٍ إلى نشوء فكرة “الرئاسة”، ومع “أن الإنسان رئيس بطبعه، بمقتضى الاستخلاف الذي جُعل له”، غير أن الرئاسة تؤول في نهاية المطاف لمن يمتلك مقوماتها وهي السؤدد والاتباع، وقد تتشوف النفس إلى ما فوق الرئاسة، وهو: الملك، الذي = الرئاسة + القهر بالأحكام.

٤- الاجتماع الإنساني قائم على “قانون التغير”، وذلك “أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد”، وهذا يفيد أن الإنسان والمجتمع ديناميكي متغير، وهذا “شأن كل مُحدَث”.

٥- البداوة تمثل حالة من حالات الاجتماع والتعاون وهي سابقة للحضارة وعنصر منشيء لها، “فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة”.

٦- البداوة تقوم على التعاون على “الضروري” تحديداً، وتعجز عما فوقه: “الحاجي والكمالي”.
٧- البداوة أكثر توحشاً، لأنها تقوم على الظعن: الارتحال المستمر (أهل الإبل أكثر ظعناً وإيغالاً في الصحراء مما يجعلهم أكثر توحشاً).

٨- البداوة أميل إلى الخير لأسبقيته إلى البدو، وذلك لبعدهم عن الترفه والكماليات.

٩- البداوة تتطلع للحضارة، فالبدو يتطلعون إلى: التماس الحاجيات والكماليات في معاشهم.

١٠- البداوة أكثر قوة وشجاعة وعصبية التي هي “التحام بالنسب وما في معناه”، على أن العصبية القوية إنما تكون في “الصريح من النسب” الذي يوجد في الصحراء والقفر.

١١- كلما كان العيش الصحراوي أكثر قسوة ساعد ذلك على نقاء النسب، إذ لا أحد سيقترب من عيش مكفهر كهذا، وهو ما يضمن للبدو عصبية صافية صلبة؛ مما يجعل البدو أمكن في إلحاق الهزيمة بأهل الحضارة الذين “ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة … واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم … لا تهيجهم هيعة ولا يُنفّر لهم صيد”. بخلاف البدو الذين “ينفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقاً، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ أو استفزهم صارخ”.

١٢- العصبية شرط ضروري لتحصيل كل من: المدافعة، المقاومة، الحماية، المطالبة، فتقوى العصبية وتكتسب مشروعيتها وصلابتها.

١٣- تتغير أخلاق البداوة وعوائدها مع استيطان البدو في المدن، إذ يألفون حياتها شيئا فشيئا، وفي هذا تأكيد لقانون التغير.

١٤- يستكثر البدو المستوطنون من الرفه والحاجيات والكماليات والتأنق.

١٥- يضعف خلق البأس والمنعة داخل الحضارة، من جراء وجود قانون حاكم يضبط التصرفات والسلوك، وقد يكون القانون عادلاً، مما يضعف هذا الخلق شيئاً فشيئاً، وقد يكون صارماً قاهراً، فينكسر البأس وتضعف المنعة بسبب التكاسل في النفوس المضطهدة، وقد يكون قانوناً عقابياً وهو ما يذهب بالبأس والمنعة بالكلية. وأما الصحابة رضوان الله عليهم “فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت، ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم”، فقد كان “الوازع لكل أحد من نفسه”، وقد قال عمر رضي الله عنه: “من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله”. “ولما تناقص الدين وأخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعلم والتأديب، ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام، نقصت بذلك سَورة البأس فيهم”.
١٦- يدب في أهل المدينة والحضارة الضعف والدعة والرفه ويكثر فيهم الشر والقبائح، في قالب تغير لا ينخرم.

١٧- الحضارة هي: نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير.

١٨- يُصاب أهل الحضارة بكل أدواء الضعف والميوعة، ويفتقدون للمعرفة بالنواحي والجهات وموارد الماء ومشارع السبل، “وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه من الأحوال حتى صار له خلقاً وملكةً وعادةً تنزل منزلة الطبيعة والجبلة”، وبذلك يكون حالهم “كدود القز ينسج ثم يفنى”.

١٩- يأتي بدو أقرب إلى الخير والقوة والعصبية، فيهجمون على أهل الحضارة ممن حولهم ويتغلبون عليهم، للأسباب التي سقناها سالفاً.

٢٠- يستوطن البدو المتغلبون في المدينة، ويتغيرون وفق قانون التغير، وهكذا تدور العجلة ويتكرر السيناريو، مرة بعد أخرى.

هذا مجرد مثال تطبيقي لـ قراءة معنصرة للنص، أي أنها قراءة تسعى لعزف سيمفونية المعنى.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

قراءة تعزف سيمفونية المعنى قراءة المزيد »

فضيلة الفَنَاء 

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

فضيلة الفناء

إن الفناء فضيلة ليس في ذاته، إنما بممارسة التفكير فيه بعقلية واعية ناضجة تؤدي إلى حسن التبصر بحقيقة الأشياء، وتوازن تصوراتنا تجاه كل ما ترى فتكون محورية مثمرة لا غلو فيها ولا إجحاف، فتظل النفس ناضجة سوية مستقرة. يدور معنى الفناء في اللغة حول فقدان النفع الأساسي للشيء كالشيخ الفاني الذي ذهبت قوته. وكما هو معلوم من الضد تظهر معاني الأشياء ومآلاتها، والبقاء ضد الفناء، ولذا فإن أصحاب العقول النيّرة يلمحون الفناء في أوج اكتمال الأشياء، فكل قوة آيلة للزوال، وكل جمال ذاهب، وكل كثرة تقل، وكل اجتماع مفرق، وكل تماسك مفكك، وكل ارتفاع ساقط، ونور كل شيء مظلم في أساسه حتى نبصر الفناء فيه فنرى الأشياء كما هي.

إن نمط الحياة الحديثة بما تحويه من أفكار وسلوكيات وسرعة بالتغيرات والتحولات تجعل الذهن في حالة من الوهن الإدراكي فتغشي البصيرة عن رؤية الفناء؛ إذ كُثّف الإحساس في اللحظة الآنية، فصار ماضيها كالمجهول ومستقبلها لا يتجاوز لحظته إلا بقليل، وعمّق ذلك الوهن الإدراكي الوسائط الحديثة بمختلف أشكالها؛ إذ رسخت التفاعل الفوري بتتابع الأحداث دون قدرة الذهن على القيام بعمليات الإدراك والتحليل والنقد، فأضحت القدرة على التفكير إما واهنة أو تابعة لقوالب فكرية محدودة أو مريضة بوهم المعرفة، والإشكال أن لو أدرك الإنسان فناء الشيء استعاض عنه بكثرة امتلاك الأشياء؛ ظنًا منه أن يمسك معنى الخلود في كثرة ما يملكه، فلم يعد الامتلاك نفسه معنىً أوليًا أو رئيسًا، بل كثرته، فالكثرة أصبحت وهمًا يطارد الإنسان عثورًا عن معاني الخلود، وصدق الله: {ألهاكم التكاثر} التكاثر:1. ويا لها من كلمات من نور تدعو إلى التأمل والتفكير، وتضيء وهمنا بداء الكثرة، وهو المرض العضال الذي يغذي وهم الخلود.

إن عامل الزمن رئيس في إدراكنا وتصوّرنا للفناء، فكلما باعدت عقولنا المسافة في زمن تطور الصناعات الحديثة استطعنا ربط الأفكار بمقاصدها ومآلاتها، فينضج التصوّر ويستقيم، وكلما استجابت العقول لتتابع الصناعات وتطورها انزلق الفكر في وهم الخلود؛ ظنًا أن التقدم يسهم في البقاء والخلود؛ بما يحل من إشكالات طبية وصحية وتعليمية وكل ما له شأن في الحياة والعيش، ولذلك لا نستغرب أن نلمس أن المعاني العذبة ترافق نظرنا في بدايات الأشياء؛ كوننا نظرنا إلى إنجازاتها الآنية وصورها الظاهرية فقط دون إبصارها برؤية كلية ونظام فكري يربط السابق باللاحق من حيث فناؤهما جميعًا، وهذه التصورات التي تصاحب البدايات في كل شيء غالبًا ما تكون ناقصة مموهة بطلاء الإعجاب والزخارف والغموض الموهم بالكمال، مما يجعلنا في مطاردة الوضوح الذي يُظن فيه الخلود ولسنا بذائقيه إلا بمصادقتنا للفناء الكامن فينا أولا وفي كل من حولنا.

فضيلة الفناء 1

إن جدلية الفناء والخلود الصراع الأول للإنسانية إلا أنه صراع خفي لا قدرة للإنسان لمواجهة هذا الصراع إلا بالإيمان المقتضي للتسليم، وبدون الإيمان تظل الهزيمة أمرًا حتميًا للإنسانية كلها بمختلف حضاراتها وأعراقها، وقد تفرّع عن هذا الصراع الأزلي في العصر الحديث أزمة فقدان المعنى؛ كونه فقد أو تاه منه الفناء في الأشياء، فظلت العقول تبصر نصف الحقيقة والأخرى تائهة منها تلاحقها في منظومات فكرية وفلسفية فارغة من نصف الحقيقة، وهذه الحقيقة تكمن في القرآن الكريم وأخبار الرسل الصادقة اليقينية، وهذان المصدران يهبان لنا المنظار الحقيقي للأشياء، منظار الفناء الذي يحقق نظرة صادقة للأشياء مطابقة لواقعها الظاهري والباطني، سالمة من الأمراض النفسية والاجتماعية من النفعية والشره والبخل والخداع والكذب والغش والجشع والحرص والتعلق وحب التملك وحب العاجلة، إذ لا تُرى الأشياء كما هي فيكون الإنسان عبدًا دون أن يشعر لهذه المتعددات، في حين أن شعور الفناء المصاحب للأشياء يمكننا من رؤية مطابقة لحقيقة الأشياء، وتمنح الإنسان الحرية، وعلى أساس هذا النظر الواعي تزول أو تخف أمراض الإنسانية.

الفناء نظرة تأملية في حقيقة الأشياء وهويتها، لا تركن بنا إلى المحسوس دون الباطن، بل تحقيق النظر كليهما في محسوس وباطن، ومن أُعطي النظر الثاقب لحظ باطن الشيء من محسوسه، فبانت له الحقائق واطمأنت لها نفسه وسكنت له جوارحه، يقول المأمون: لو نطقت الدنيا ما وصفت نفسها بأحسن من قول أبي نواس:

وما الناس إلا هالك وابن هالك                 وذو نسب في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت                  له عن عدو في ثياب صديق

وأنا من المؤمنين بضرورة عيش الحياة بسعادة وطمأنينة وأكثر راحة ما أمكن ذلك، حتى يتم لنا تحقيق ما نصبو إليه من آمال وطموح وإنجازات، وما يدفعني لهذا القول ألا تكون نظرتنا للفناء من جانبها السلبي أو إنزال النظر للفناء من باب التثبيط أو الاستسلام واليأس، كلا ولكن من باب الصحة العقلية، وإحسان النظر للأمور وتقديم أفكار تجعلنا متصالحين مع أحوالنا وأعمارنا وهيئتنا، وتحررنا من كثير من الأوهام وكبت الرغبات والأطماع الزائفة، ففضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول، يقول فرانكلن روزفلت: “الشيء الوحيد الذي يستحق الخوف هو خوفنا نفسه”، نظرة الفناء الحكيمة تحول الخوف إلى طمأنينة ومقاومة وتغيير ورغبة ومداواة؛ كوننا أدركنا منه طبيعة الحياة ونقائصها ونقائضها، وتجعل الإنسان معتزًا بما وهبه الله راضيًا مسلمًا وشاكرًا. فضيلة الفناء تخلصنا من الاهتمام المبالغ بالجسد إلى إنعاش الروح بالتسليم والإيمان. فضيلة الفناء تجعلنا ندرك بأن الإنسان ضعيف لا يلجأ إلى فانٍ مثله، بل يلجأ إلى باقٍ يرشده ويهديه ويصمد إليه. فضيلة الفناء تعطينا تفكيرًا مركبًا لا أحاديًا؛ إذ ننظر للأشياء من جانبيها المشرق وما تؤول إليه فلا نصدر الأحكام من البدايات والمحسوسات ونتشبث بالعاجل، بل هناك طريق طويل يُستبصر بالفناء. وتدعونا هذه الفضيلة إلى إعادة التفكير في مجريات مواقف الحياة وتجاربها فتخلق فينا نضجًا ووعيًا مكثفًا لقراءتها من صورتها المكتملة. فضيلة الفناء تحلينا بخلق الصبر والرحمة والشجاعة والكرم، وجل الأخلاق راجعة إليها، فضيلة الفناء حكمة وسكينة وهدوء واندهاش، فضيلة الفناء دواء للعقول وفقه للقلوب بالإبصار الحقيقي للأشياء.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة الفَنَاء  قراءة المزيد »

التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية!

التخصص كمدير يحرمك الترقية

 لدي قناعة أكيدة بأهمية وجود تخصص علمي، أو معرفي، أو مهني، أو حياتي لكل واحد منا، كي يكون عمله مثمراً ونتاجه مقدراً.

لا إشكال عندي البتة في هذا، بيد أنني أعتقد أن التخصص يحتاج إلى مراجعة وتأمل من وجوه عديدة من وقت لآخر، بما في ذلك تعريف التخصص وتعيين حدوده، وهل ثمة تعريف وحدود تناسب الكافة، أم أن المسألة تحتاج إلى تفصيل؟! هذا النص الصغير يقوم بشيء من المشاكسة الخفيفة حول فكرة التخصص أو لنقل: في هجاء التخصص.

يحذر العلماء النابهون كابن خلدون -في المقدمة- من احتجاب “الحِكم القريبة”، ويكون ذلك من جراء القرب الشديد من الأشياء والاندغام التام معها، فالألفة كما يُقال حِجاب، إذ هي تفوِّت علينا فرصاً للتأمل وساحات للاندهاش، فلا نفطن لعجيب، ولا نلتفت لغريب !

ومن العوامل التي تجعلنا قريبين من الأشياء بأكثر مما ينبغي “التخصص”. ومن هذه الزاوية تحديداً تتخلق مشروعية نقدنا له، الذي سيكون عبر توصيفات مكبسلة :

1- “التخصص يكون أحياناً كالمدير المتسلط الذي يحرمك الترقية!”

نعني به التخصص الدقيق الذي يكون مصحوباً بانعدام أو ضحالة القراءتين “المسطورة” أو “المنظورة” أو كلتيهما، إذ يكون حينذاك سبباً في عدم حصولك على “ترقية معرفية”، فلا تستوعب المسائل والقضايا التخصصية في سياقها الحياتي، والتاريخي، والاجتماعي، والحضاري، والوجودي، إذ إنك تكتفي بفهم تخصصي صرف، مع إتقانك للجانب الإجرائي المتعلق بخبراتك وعملك، مما يشعرك بالتفوق والاكتفاء.

وقد يكون هذا المسلك التخصصي كافياً لحصولك على عمل جيد، بل ربما تتمتع بترقيات في عملك، وقد تتلقى عروضاً مغرية من جهات أخرى، ولكنك في الحقيقة تخسر ما هو أثمن؛ الترقيات المعرفية التي تجعل منك عارفاً ومخترعاً، والترقيات الحياتية التي تجعل منك إنساناً ومتدبراً، فتغدو مع تخصصك الدقيق كالآلة التي تعمل بوقود خاص!

2- “التخصص قد يصم آذاننا، فلا نسمع شيئاً غير ضوضائه ولغطه!”

نحن بحاجة أحياناً إلى إسكات صخب تخصصاتنا. لِمَ؟ لأن هذا الهدير المتكرر الممل يجعلنا غير قادرين على الاستماع بحس مرهف لنداءات معرفية جديدة واستشكالات فلسفية متجددة، أو الإنصات بصدق لشلال الحياة الهادر بالعجيب والمدهش والتلقائي. وهنا يتخلق سؤال منهجي يحسن بنا أن نفكر فيه ملياً: هل ثمة ألفة في تخصصنا تحجب عنا حقائق أو نتائج ذات قيمة وأثر؟ وكيف ننفك عنها؟

لعلنا نعود لابن خلدون، وننظر ماذا فعل لكي ينعتق من إسار التخصص وينفك من قيوده، وكيف نجح في تأسيس حقول معرفية جديدة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع؟

لن نستطيع تبين طعم التفاح حتى نتذوق البرتقال، أليس كذلك؟ لقد هجر ابن خلدون “تفاح التاريخ” ليتذوق “برتقال الفلسفة”، فكان منه الظفر بفلسفة التاريخ وعلم العمران. السر يكمن في إيمان ابن خلدون بضرورة الارتحال من النظرة المألوفة في التاريخ والعمران إلى نظرات أخرى، وهو ما يجعلنا نقرر بكل اطمئنان هذه القاعدة المنهجية: لا يكون ثمة قدرة على تأسيس معرفي جديد دون ممارسة نقد موضوعي دقيق؛ عبر مِرشاد (بارادايم) آخر، كي يكون الناقد قادراً على النفاذ إلى “المحارة ذات اللؤلؤ الكبير”.

في تقديري، إن “المؤرخ الفائق” لا يستطيع أن يكون “فيلسوف تاريخ”، لأن “الرواية” مقدمة عنده على “الدراية”. ويبدو لي أن ابن خلدون استطاع أن يكون فيلسوف تاريخ فائق لأنه مؤرخ جيد (وليس فائقاً)، تماماً كالناقد الذي هو بعضُ شاعر.  وهذا ما دعاه إلى التقرير بأن الرواية وعلم التعديل والجرح مقدمة في علوم الشريعة لكونها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بها، وهذا يعني أنه مايز بذكاء شديد بين مِرشادين: “مرشاد الرواية” الصالح لأخبار الشريعة وتكاليفها، و”مرشاد الدراية” الملائم لأخبار التاريخ وقوانينه. 

ومن اللافت أن ابن خلدون رحمه الله لم يكتفِ بتأسيس حقول معرفية جديدة عبر الارتحال من ضيق التخصص والبحث إلى سعة النظر والتأمل،  إذ كان واعياً بمقتضيات “النص الكوني”، ولذا فقد عمد إلى صبغ نصه بالكونية عبر التعويل على بيانات واقعية إنسانية ذات طبيعة كلية، مما أوصله إلى قوانين أو تعميمات أو فرضيات كلية أو فيها نفس كلي، وهو ما أدى إلى إدراج نصه ضمن النصوص العالمية الملهمة، ومن ذلك قوله:

“وكأنه علم مستنبط (=العلم الجديد في المقدمة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع)، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، فالعلوم كثيرة، والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون”.

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها، أو ارتداء عدسات لاصقة، أو الاستغناء عنها بالتشطيب، وقد نكتفي بمجرد خلعها بعض الوقت ومعاودة ارتدائها. وزبدة القول: ابتعدوا لكي تقتربوا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية! قراءة المزيد »

حقيبة السفر أم حقيبة المصير!

حقيبة السفر ام حقيبة المصير

بعد إفطار خفيف في مطعم وسط فيينا (مايو 2024)، التقطتْ عيني شيئاً مألوفاً لطالما شاهدناه جميعاً مئات المرات، بيد أن عقلي هذه المرة شرع في تفسيره بطريقة غير مألوفة. هذا الشيء هو: جرجرة حقائب السفر للقادمين أو للراحلين، خاصة أنني كنتُ أسكن في منطقة مكتنزة بـ النُزل وغاصة بـ الدرج، التي يعرج عليها أو ينزل منها: السائرون إلى حيث يسكنون أو يرتحلون؛ فإلى أي شيء يذهب هذا التفسير؟!

في تلك اللحظة، اختفت هذه الحقائب فجأة، فلم أعد أراها، واختفى جارُّوها فلم أعد أشاهدهم، وانقلبت هذه الصور إلى رموز جعلتْ تتكاثر في وجداني، ومنها الآتي:

  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمر”، فنحن في الحقيقة لا نجرجر أشياءنا، بل نجرجر أيامنا، يوماً بعد آخر؛ صوب محطته الموالية: الموت. هنا، يبدو اليوم كأنه قطعة ملابس سنحشرها في حقيبة سفرنا، ولذا فلا مفر من أن نبادر بتنظيف يومنا وتهيئته للسفر. هذا يومئ إلى حقيقة أن أيامنا تتسخ من جراء ولوغنا في الحياة، ومن الأوساخ ما يحتاج إلى مطهرات قوية ومكلفة، ومنها ما تكفيه الغسلةُ السريعةُ، ولو كانت بماء بارد!
  • “حقيبة السفر” هي “حقيبة العمل”. هنا، يبدو العمل كأنه شيء ضروري سيجد مكانه لا محالة في سفرنا، وهو ما يوجب كونه عملاً صالحاً طيباً، إذ لا يليق أن نضع في حقيبة سفرنا السيء أو الفاسد، أو حتى التافه الذي لا قيمة له، بما في ذلك الملابس المتكررة، التي تعود غالباً دون أن نرتديها!
  • “حقيبة السفر” هي على الحقيقة “حقيبة المصير”. تخيل أنك تعد مصيرك كما تعد حقيبة سفرك. إنه المصير أيها السادة والسيدات، لا مجرد محطة عابرة في سفر عابر! إن الشخصية ليست سوى مشروعِ مصيرٍ قيد التحقق. ليس لأحد أن يعهد بمصيره لغيره! لئن كانت الشخصية دالاً ممتلئاً، فإن مدلولها فارغ، وداخل مركب الامتلاء والفراغ تتخلق “كينونةُ المصير”. الشخصية ليست قِرَاناً اعتباطياً بمصير لم يسعَ الإنسان بطواعية إليه، وإنما هي مصير مُتخيّل مُشتهى، سواء كان نبيلاً أو منحطاً.
  • حقائب السفر تتنوع، فمنها الثمين ومنها الرخيص، ومنها الجميل الذي يؤشر على أناقة أصحابها، فلا تحوي إذ ذاك من المتاع إلا أطيبه وأنفسه، على أن الناس يختلفون في المقاصد، فمنهم من يزين حقائبه من أجل الظفر بنظرات الإعجاب، ومنهم من يكون معجوناً بجمال جواني يتغذى على: إن الله جميل يحب الجمال. وبعض الحقائب قبيح في تصميمه، ومنتن في رائحته، ومنفر في شكله.
  • بعض الحقائب صغير لا يكاد يتوفر إلا على “الأساسيات”، بل لا لعله لا يفي ببعضها، وقد يكون مع ذلك مكسوراً فتسقط أمتعة دونما شعور، وبعضها يكون كبيراً وممتداً ومتماسكاً، فيتسع من ثمَّ للأركان وروافدها الدقيقة والجليلة. وبعضها يتوفر على جيوب إضافية، وربما كانت خفية لا يعملها إلا صاحبها، وقد تكون محكمة بقفل منيع!
  • بعض الحقائب ذو عجلات تسهِّل دفعها، ولو كانت الحقائب كبيرة ثقيلة، وبعضها يتوفر على مقبض علوي متين، يمكِّن صاحبها من التحكم بها ودفعها باتجاهات متعددة بحسب الحاجة. وبعضها يفتقر لمثل هذا كله، مما يجعل صاحبها يواجه عنتاً في حملها أو دفعها، وقد يتخفف من بعض أشيائها ولو رماها في سلة المهملات أو على قارعة الطريق، بل قد يتركها ويمضي دونما حقيبة حتى يدرك الرحلة، ويا لها من رحلة!
  • بعض الحقائب مميز بلون أو تصميم أو شكل، وهو ما يسمح بسرعة التقاطه من “سير الأعمال”، فكيف إذا كانت الحقيبة مميزة وفاخرة ومرنة؟ وبعض الحقائب رتيب مكرور يُقعد صاحبَه وقتاً أطول، وقد يجسُّ حقيبة بعد حقيبة ظاناً أنها حقيبته، فإذا عاين الاسم أدرك أنها لغيره، وقد يستل أحدهم حقيبة صاحبنا بالخطأ ويذهب بها، ولا يكون ثمة قدرة على التواصل فتضيع منه ويكمل الرحلة بعنت، وقد يجد أنه قد طُوِّح بحقيبته خارج السير، لأن أحداً التقطها بالخطأ ولم يعدها إليه مرة أخرى، وقد لا يشاهدها بسبب انزوائها خلف شيء ما، متوهماً أنها سُرقت، فيغدو بلا حقيبة هذه المرة أيضاً!

سأكتفي بهذه المشاهد الخاطفة، تاركاً قدراً من الفراغ في النص، لكي يملأه القارئ بمداد خياله. ولعلي ألتفتُ اِلتفاتة سريعة صوب هذا السؤال: لماذا تغيب عنا تفسيراتٌ معمقةٌ في حالات مألوفة؟ ثمة جواب مكثف، ويكمن في الألفة ذاتها، فالألفة حجاب، حيث تحجب عنا شمس التصورات والتفسيرات الجديدة، وذلك أن عَود الظاهرة كرة بعد أخرى، يُوهم أنه ليس ثمة جديد أو جدير بالتأمل، وهنا نقع في الفخ، المتمثل في “بلادة الألفة”. ولهذا وجب على المتأمل أن ينأى بعقله بين الفينة والفينة عن “غيمة الألفة”. حينها، سيجد نفسه خارج الأسوار، محلِّقاً في فضاءات رحيبة، ومحدِّقاً في تفاصيل صغيرة، ولعله إذ ذاك أن يصل إلى شفرات ذات بال، ويفك رموزاً ذات قيمة تفسيرية لظاهرة أو أخرى. وأختم بالقول: إن التأمل قراءة للمألوف بحواس مرهفة، وعقل محلِّق محدِّق. وتحلو بذلك جرجرةُ أيامنا صوب مصيرنا، الذي نعده كما نعد حقائب سفرنا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

حقيبة السفر أم حقيبة المصير! قراءة المزيد »