التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية!
لدي قناعة أكيدة بأهمية وجود تخصص علمي، أو معرفي، أو مهني، أو حياتي لكل واحد منا، كي يكون عمله مثمراً ونتاجه مقدراً.
لا إشكال عندي البتة في هذا، بيد أنني أعتقد أن التخصص يحتاج إلى مراجعة وتأمل من وجوه عديدة من وقت لآخر، بما في ذلك تعريف التخصص وتعيين حدوده، وهل ثمة تعريف وحدود تناسب الكافة، أم أن المسألة تحتاج إلى تفصيل؟! هذا النص الصغير يقوم بشيء من المشاكسة الخفيفة حول فكرة التخصص أو لنقل: في هجاء التخصص.
يحذر العلماء النابهون كابن خلدون -في المقدمة- من احتجاب “الحِكم القريبة”، ويكون ذلك من جراء القرب الشديد من الأشياء والاندغام التام معها، فالألفة كما يُقال حِجاب، إذ هي تفوِّت علينا فرصاً للتأمل وساحات للاندهاش، فلا نفطن لعجيب، ولا نلتفت لغريب !
ومن العوامل التي تجعلنا قريبين من الأشياء بأكثر مما ينبغي “التخصص”. ومن هذه الزاوية تحديداً تتخلق مشروعية نقدنا له، الذي سيكون عبر توصيفات مكبسلة :
1- “التخصص يكون أحياناً كالمدير المتسلط الذي يحرمك الترقية!”
نعني به التخصص الدقيق الذي يكون مصحوباً بانعدام أو ضحالة القراءتين “المسطورة” أو “المنظورة” أو كلتيهما، إذ يكون حينذاك سبباً في عدم حصولك على “ترقية معرفية”، فلا تستوعب المسائل والقضايا التخصصية في سياقها الحياتي، والتاريخي، والاجتماعي، والحضاري، والوجودي، إذ إنك تكتفي بفهم تخصصي صرف، مع إتقانك للجانب الإجرائي المتعلق بخبراتك وعملك، مما يشعرك بالتفوق والاكتفاء.
وقد يكون هذا المسلك التخصصي كافياً لحصولك على عمل جيد، بل ربما تتمتع بترقيات في عملك، وقد تتلقى عروضاً مغرية من جهات أخرى، ولكنك في الحقيقة تخسر ما هو أثمن؛ الترقيات المعرفية التي تجعل منك عارفاً ومخترعاً، والترقيات الحياتية التي تجعل منك إنساناً ومتدبراً، فتغدو مع تخصصك الدقيق كالآلة التي تعمل بوقود خاص!
2- “التخصص قد يصم آذاننا، فلا نسمع شيئاً غير ضوضائه ولغطه!”
نحن بحاجة أحياناً إلى إسكات صخب تخصصاتنا. لِمَ؟ لأن هذا الهدير المتكرر الممل يجعلنا غير قادرين على الاستماع بحس مرهف لنداءات معرفية جديدة واستشكالات فلسفية متجددة، أو الإنصات بصدق لشلال الحياة الهادر بالعجيب والمدهش والتلقائي. وهنا يتخلق سؤال منهجي يحسن بنا أن نفكر فيه ملياً: هل ثمة ألفة في تخصصنا تحجب عنا حقائق أو نتائج ذات قيمة وأثر؟ وكيف ننفك عنها؟
لعلنا نعود لابن خلدون، وننظر ماذا فعل لكي ينعتق من إسار التخصص وينفك من قيوده، وكيف نجح في تأسيس حقول معرفية جديدة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع؟
لن نستطيع تبين طعم التفاح حتى نتذوق البرتقال، أليس كذلك؟ لقد هجر ابن خلدون “تفاح التاريخ” ليتذوق “برتقال الفلسفة”، فكان منه الظفر بفلسفة التاريخ وعلم العمران. السر يكمن في إيمان ابن خلدون بضرورة الارتحال من النظرة المألوفة في التاريخ والعمران إلى نظرات أخرى، وهو ما يجعلنا نقرر بكل اطمئنان هذه القاعدة المنهجية: لا يكون ثمة قدرة على تأسيس معرفي جديد دون ممارسة نقد موضوعي دقيق؛ عبر مِرشاد (بارادايم) آخر، كي يكون الناقد قادراً على النفاذ إلى “المحارة ذات اللؤلؤ الكبير”.
في تقديري، إن “المؤرخ الفائق” لا يستطيع أن يكون “فيلسوف تاريخ”، لأن “الرواية” مقدمة عنده على “الدراية”. ويبدو لي أن ابن خلدون استطاع أن يكون فيلسوف تاريخ فائق لأنه مؤرخ جيد (وليس فائقاً)، تماماً كالناقد الذي هو بعضُ شاعر. وهذا ما دعاه إلى التقرير بأن الرواية وعلم التعديل والجرح مقدمة في علوم الشريعة لكونها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بها، وهذا يعني أنه مايز بذكاء شديد بين مِرشادين: “مرشاد الرواية” الصالح لأخبار الشريعة وتكاليفها، و”مرشاد الدراية” الملائم لأخبار التاريخ وقوانينه.
ومن اللافت أن ابن خلدون رحمه الله لم يكتفِ بتأسيس حقول معرفية جديدة عبر الارتحال من ضيق التخصص والبحث إلى سعة النظر والتأمل، إذ كان واعياً بمقتضيات “النص الكوني”، ولذا فقد عمد إلى صبغ نصه بالكونية عبر التعويل على بيانات واقعية إنسانية ذات طبيعة كلية، مما أوصله إلى قوانين أو تعميمات أو فرضيات كلية أو فيها نفس كلي، وهو ما أدى إلى إدراج نصه ضمن النصوص العالمية الملهمة، ومن ذلك قوله:
“وكأنه علم مستنبط (=العلم الجديد في المقدمة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع)، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، فالعلوم كثيرة، والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون”.
التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها، أو ارتداء عدسات لاصقة، أو الاستغناء عنها بالتشطيب، وقد نكتفي بمجرد خلعها بعض الوقت ومعاودة ارتدائها. وزبدة القول: ابتعدوا لكي تقتربوا!
التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية! قراءة المزيد »