المقالات المميزة

هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟

pexels-mikhail-nilov-7929356

قبل أن أُرزق بمولودٍ ذكر؛ استحال عليّ فهم العلاقة بين الابن وأبيه، وذلك لأن أبي توفّي عنّا ولم أبلغ الخامسة من عمري. ولا أجد له في ذاكرتي سوى مقاطع متفرّقة لا تشفع بتكوين صورةٍ متكاملة عن طبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء، ولا أجد في نفسي مشاعر حقيقيّة حيال هذه العلاقة، وبالتالي لم أستطع التفريق بين هذه العلاقة وعلاقة الإنسان بأمه حتى وقت قريب. وطالما تساءلت:

  • ما طبيعة العلاقة بين الابن وأبيه إن لم تكن عاطفةً محضة، وأمنيات كبيرة، ودعوات مستمرة، وغزيرة؟
  • وهل يجب أن يُحب الأب ابنه حبًّا رقيقًا كما تحبُّه أمه؟
  • وهل القرد في عين أبيه غزالًا كما هو حاله في عيون الأمهات؟

في الأدب الحديث بقطبيه الشرقيّ والغربي، جاءت محاولات عدّة في زجّ الأب داخل حلبةٍ من المقارنات مع الأم، وهذا لا يتم إلا بافتراض تقاربٍ مفتعل بين دوريهما. فمثلا جاء في الأدب الغربي في محاولات كثيرة؛ الأب الذي يقوم بدور الأم بعد أن تُفقد الأم أو تقرر التخلي عن ابنها أو بنتها. الأب الحنون الذي يعطي بلا مقدمات ويقدّم الحنان على التوجيه، والعاطفة على العقل، ويكبر ويتّسع حضنه أكثر مما يُتكأ على كتفه وظهره. حاول بعضهم لفت النظر لهذا النوع من الآباء الذين حتّمت عليهم الظروف لعب دور الأبوّة والأمومة معًا، وصارت مقارنة عاطفة الأب بعاطفة الأم مقبولة من هذا الباب، لكني أجدها محاولات بائسة ولا تمثل واقع الرجل الحقيقي الذي نعرفه في الشرق وفي الغرب.

وجاء في الأدب الحديث محاولات كثيرة لمقاربة هذه العلاقة، وفهم دور الأب بعيدًا عن الأم، وحينا بالمقارنة معها. والذي يهمنا في هذا السياق والأشهر في هذا الصدد رواية البؤساء لفيكتور هوغو، والذي حاول فيها تصوير علاقة الأب بـابنته حتى وإن كانت علاقةً بالتبنّي. “فالجان”بطل قصّتنا؛ يختار طواعيةً منه تبنّي الفتاة “كوزيت”، وهو باختياره تبنّي هذه الطفلة الوحيدة والمظلومة يشبه كل الآباء في كل زمان ومكان. الأب يختار حب الذريّة لا يُوهبها كما في حالة الأم. فالقصّة تلخّص عاطفة الأب تجاه بنيه بشكلها الطبيعي. أن يكبر الحب وينمو مع الأيام، ولكنها لا ترقى لأن تصوّر الأب كأم ثانية بمعنى الحاضنة والحنونة والعاطفيّة.

وفي المقابل، قصة ذكرها المفكر عبد الوهاب المسيري وكانت حجرَ أساس في هدايته للإيمان بوجود الله بعد أن كان في شكٍّ من ذلك في أول حياته. يذكر أنه لما بلغ مبلغ الرجال وقرر الزواج، وقد أحب زميلته في الجامعة وعزم على الدخول بها بعد أن تمدد الحب وكبُر بين الإثنين، فكان أن تُوّج هذا الحب بالزواج. ومضت الحياة كما يتوقعها متلذذا بالحب ومغمورًا به إلى أن جاءت اللحظة التي تبدّل فيها كل شيء؛ لحظة الولادة. ذُهل صاحبنا من عاطفة الأم المفاجئة التي نشأت بلا مقدّمات مع ولادة المولود الجديد، وأن الفتاة صارت تحب هذا المخلوق الجديد والضعيف وكثير البكاء أكثر منه. وهو الذي بذل وأعطى وضحّى حتى استحق حبّها وحنانها ورعايتها، أما هذا المخلوق الصغير فماذا فعل حتى تحبّه كل هذا الحب، وتُؤثره على كل أحد. لم يستوعب هذه العلاقة الجديدة والتي هي فطريّة وبلا شروط. ما أن تلد المرأة حتى تحبّ مولودها وتتفانى في هذه المحبة. بعكس الرجل الذي ينمو حب أولاده فيه مع الوقت، لا يأتي دفعةً واحدة. من هذه الحادثة علِم يقينًا أن الذي وهبهم هذا الطفل لم يتركه عبثًا وفجّر قلب أمه بالعاطفة والحب حتى ترعاه حق الرعاية، ومن هنا علِم أن الإنسان لم يُخلق عبثًا وأن الطبيعة لا تعمل من تلقاء نفسها، بل بـ تدبير الله وحكمته.

ووجدت في نفسي بعد أن صرتُ أبًا أن الأب لا يمكن أن يكون أمًّا ثانية، وأنه رغم قربه ووالديّته؛ عقل مدبّر ومتّزن أكثر مما هو قلبٌ مخلصٌ ومحبّ. فالابن ليس في عين أبيه غزالًا، لأن الأبَ لا يغض الطرف عن مساوئ الأبناء كما تفعل الأم وتلهج لربّها لهم بالدعاء.

وهذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء. الأب كالعصا التي تنذر بالعقاب ليستقيم سيرك وتنضبط برؤيته أنت وغيرك، بينما الأم كالحياة التي تُوهب بلا مقدّمات. هي هبة ربّانية خالصة؛ وتظل كما هي حتى آخر يوم من العمر.

الأب هو المُؤدّب والمُؤدب لابد له من عصا، والعصا هنا رمزيّتها أبعد من النزعة للعقاب، بل قد تجيء بمعنى السند الذي يُتّكأ عليه، والمعيل الذي يُهَشّ بها عليهم. فهكذا وصف نبي الله موسى عليه السلام عصاه: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)). والهشُّ: “أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود”. وهنا يتجلّى دور الأب الحقيقي، الذي يأتي بمعنى المقوّم للخطأ، والسند الذي يُتكأ عليه، والمعيل الذي يُلتفت إليه لما تتكوّن الرغبات.

والأب حضن دافئ مالم تخرج عن طاعته أو تخالف التوقعات، فهنا تضطرب في قلبه العاطفة وربّما خاب أمله وانحنى ظهره وآثر الصمت على الكلام، ونقص في قلبه الحب والاهتمام، بينما الأم تظل حضنًا دافئًا لك حتى وإن كنتَ طاغيةً مجرمًا شريرًا.

والأب بحسب تضحياته وكثرة مسؤوليّاته يظن ظن المتيقّن أن الأبناء سيفعلون الشيء ذاته، حين يطول به العمر ويحتاج فيه لهم. فهو ينظر إليهم نظرته للعصا، تلك التي سيتكئ عليها بينما كان يهشّ بها على نفسه والعيال. فالعصا هنا تجيء بمعنى أن يكون الأب هو السند الذي يعوّل عليه الأبناء، ثم تلعب الدور ذاته حين يتقدم بالأب العمر، فيكون الابناء هم العصا التي يتكئ عليها في كبره والتي تهشّ عليه من ورق الشجر وثمره.

وكما يقول جاسم الصحيّح:

روحُ الأُبُوَّةِ تحمينا من الكِبَرِ   ما مِنْ أبٍ فائضٍ عن حاجةِ البشرِ

ما مِن أبٍ فائضٍ عن حجمِ لهفتِنا   للحُبِّ.. للفطرةِ الأسمى من الفِطَرِ

آباؤُنا! يا لَأَفعالٍ مُضارِعةٍ   مرفوعةٍ بالضَّنا والكدِّ والسهرِ

هُمْ يحملونَ الليالي عن كواهلِنا   فيكبرونَ، ونبقى نحنُ في الصِّغَرِ

والخلاصة أن كلاهما يحبّ ضناه ويسعى بجَهدهِ ووقتهِ ومالِه لمضاعفةِ سعادتهم وتقليلِ آلامهم على طريقته وما جُبل عليه منذ اليوم الأول من مجيئهم إلى الدنيا، ولكن كلٌ بما جُبل عليه.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟ قراءة المزيد »

هل استعدت أي ذكريات طيبة في الآونة الأخيرة؟

pexels-hson-5216874

وقعت قبل يومين على مقالة تتحدث عن “تسع عادات يومية للأثرياء” والتي تميزهم عن ذوي الإمكانيات المتواضعة. أغلب العناصر المدرجة في المقالة واضحة، لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم “يقرأون… لكن ليس من أجل المتعة”. لا يضيع الأثرياء ساعات طويلة بين دفتي رواية، بل يُفترض أنهم يكرسون وقت قراءتهم للكتب غير الروائية، مثل التي تتناول استراتيجيات تحسين الذات أو المعلومات العملية المتعلقة بوظائفهم. يرتبط بهذه المقالة أيضًا مقالة أخرى عن الإدارة المالية تناقش “نمط تفكير معين يميل الجميع [الأثرياء] إلى تجنبه”.

تلك العادة الذهنية السلبية -وفقًا للمقالة- هي الحنين إلى الماضي. ببساطة: لا يشعر الأثرياء بالحنين إلى الماضي، بل إن “عقليتهم موجهة نحو المستقبل” ولا تقدّر في الماضي سوى الدروس التي يُستفاد منها في اتخاذ قرارات الأعمال المستقبلية. وبما أني شخص ذو شهية نهمة للروايات الخيالية وميل إلى الحنين، فمن الطبيعي الآن أن أتساءل عن العامل المشترك بين هاتين العادتين السلبيتين (وما إذا كان عليّ أن أغير نهجي غير العملي). كشفت بعض البحوث عن وجود قدر كبير من القواسم المشتركة بين القراءة الترفيهية والحنين إلى الماضي. فبالإضافة إلى أن كليهما أنشطة ذهنية تقدَّر في المقام الأول للمتعة التي تجلبها -وهو سبب غير نفعي على الإطلاق- فقراءة الروايات للاستمتاع واسترجاع ذكريات الماضي يشتركان في بعض القواسم الدقيقة التي تجعلهما أنشطة عملية أكثر مما يبدو للوهلة الأولى.

من الخصائص المشتركة والمهمة للغاية بين قراءة الروايات والشعور بالحنين: الشبكة العصبية التي يوظفها كل منهما. عندما ينهمك شخص في مهمة تتطلب تركيز شديدًا -كصفقة تجارية مثلًا- تنشط “الشبكة التنفيذية المركزية” في دماغه. وعندما لا يوجَّه الانتباه نحو مهمة محددة، تنشط “شبكة الوضع الافتراضي”. وهذه الشبكة -يطلق عليها أيضًا وضع “شرود الذهن”- هي التي تنشط أثناء التحديق خارج النافذة أو أثناء القيادة لمسافات طويلة على طريق سريع ممتد. وتنشط أيضًا عند القراءة الترفيهية واسترجاع ذكريات الماضي، فكلا النشاطين يتضمن إنشاء تمثيلات ذهنية للمشاهد المحكية: المشاهد الافتراضية في الحالة الأولى، والذاكرة الشخصية في الثانية. قد يبدو ربط هذه المشاهد الذهنية بوضع شرود الذهن داعمًا للطبيعة غير النفعية المتصوَّرة عن القراءة الترفيهية والشعور بالحنين، وصحيح أن الوضع الافتراضي أحيانًا يصرف انتباهنا عن المهام التي تتطلب تركيزًا تامًا، إلا أنه لا يلزم أن يكون كل خروج عن الوضع التنفيذي تافهًا أو غير عملي.

 الأمر كله متعلق بما يشرد فيه الذهن عندما يفعَّل الوضع الافتراضي. من النتائج العملية لشرود الذهن المرتبط بالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين: زيادة الإبداع. أظهرت دراسة أجريت في جامعة تورونتو أن قراءة عمل خيالي قللت مستوى “الإغلاق المعرفي” أو الرغبة في “التخلص من الغموض والحصول على إجابات محددة”، مما زاد من مرونة الأفراد المشاركين في التعامل مع حل المشكلات. وتوصلت دراسة أخرى أجريت في جامعة ساوثهامبتون عن الشعور بالحنين إلى نتائج مشابهة أيضًا، حيث وُجد أن المشاركين الذين شعروا بالحنين كانوا أكثر إبداعيةنتيجة “الانفتاح على التجربة” أو “التحول من حالة تجنب المخاطرة إلى الرغبة في خوض تجارب جديدة” المرتبطة بالشعور بالحنين. وهذا الانفتاح على الأفكار والتجارب المرتبطة بالقراءة والشعور بالحنين يعزز الأساليب الإبداعية في اتخاذ القرارات وحل المشكلات.

توجد نتيجة أخرى عملية وغير متوقعة للقراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات، وهي تتعلق بالتفاعل الاجتماعي. عادة ما يفسَّر الانغماس في قراءة الكتب أو عيش تجارب الماضي ذهنيًا على أنه سلوك غير اجتماعي، لكن قد يكون العكس هو الصحيح. فمحاكاة العالم الاجتماعي التي يجربها المرء عندما ينغمس في عمل خيالي يمكن أن تحسّن مهاراته الاجتماعية، حيث تتاح له فرصة تجربة مجموعة من التفاعلات الاجتماعية بشكل خيالي. وهذه “المعرفة الاجتماعية” المكتسبة من التفاعلات الخيالية يمكن نقلها إلى العالم الواقعي وتطبيقها خارج دفتي الكتاب، وبالتالي سيُحسن القارئ التصرف في مختلف المواقف الاجتماعية. ومن المثير للدهشة أن الحنين إلى الماضي كذلك له بُعد اجتماعي. نظرًا لأن ذكريات الحنين تتضمن غالبًا أشخاصًا آخرين -مثل العائلة والأصدقاء- فاسترجاع التجارب المشتركة معهم يمكن أن يعزز الشعور بالترابط الاجتماعي، ويحسّن “ثقة المرء في قدرته على بدء التفاعلات والعلاقات، ومشاركة أفكاره، وتقديم الدعم العاطفي للآخرين”. وبالتالي، فالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين -على عكس الصورة النمطية- وسيلة لتقريبنا من الناس، لا إبعادنا عنهم.

أيضًا من فوائد القراءة الترفيهية والشعور بالحنين ما يتعلق بتطوير المهارات الاجتماعية: التعاطف. فالانغماس في قراءة الروايات -خاصة الروايات الأدبية- يحسن قدرة القارئ على فهم ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به، مما يؤدي إلى زيادة التعاطف والسخاء. وكذلك الحنين إلى الماضي -وهو عاطفة اجتماعية تبني اتصالًا رمزيًا مع أحبّائنا- يعزز الإحساس بالترابط الاجتماعي، فيزداد التعاطف والرغبة في مساعدة الآخرين. يساعد التعاطف مع الآخرين على فهم طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للعالم. وهذا الفهم وإن كان قيمة جوهرية من وجهة نظر إنسانية بحتة، إلا أن له فائدة عملية وهي توقع استجابات الآخرين لمبادرات المرء في الساحة الاجتماعية.

إنني أشك أن الأثرياء -كقاعدة عامة- يتعمدون تجنب القراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات بحجة الإضرار بأعمالهم. إن كان من الطامحين إلى الثراء مَن يميل إلى تجنب هذه المسليات الذهنية لأنها غير عملية ويراها مضيعة للوقت، أقول له: لا داعي للقلق، القراءة الترفيهية والشعور بالحنين بالتأكيد لن يؤثروا على فرص المرء في الثراء، بل قد يساعدان بطريقتهما الخفية!

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

هل استعدت أي ذكريات طيبة في الآونة الأخيرة؟ قراءة المزيد »

لماذا نعيد قراءة الكتب؟

pexels-stockphotoartist-1082953

إعادة القراءة متعة يشوبها الشعور بالذنب بالنسبة لكثير من الناس، كما تصفها باتريشيا ماير سباكس في كتابها حول إعادة القراءة بـ “الانغماس في متعة مُذنبة”. كيف يترك قارئ متفانٍ قائمته القرائية الزاخرة بالقصص الجديدة التي تنتظر من يستكشفها، ويضيّع وقته مع كتاب يعرفه بالفعل؟ وفي الوقت ذاته، يشيد الأكاديميون على مر التاريخ بإعادة القراءة باعتبارها الطريقة الوحيدة لفهم النص فهمًا حقيقيًا. ولو قابل قارئ جاد شخصًا يقول إنه “قرأ هذا الكتاب عشرات المرات”، فقد يشعر بشيء من النقص.   

إلا أنّ معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها، وبالتالي ربما تخف حدة المشاعر غير المريحة المصاحبة لكلتا الحالتين.

محاسن إعادة القراءة

لماذا نعيد القراءة؟ تتعدد الإجابات كما تتعدد أسباب قراءة الكتاب للمرة الأولى، والمتعة على رأسها. ومع ذلك، فإعادة القراءة تعطي القارئ شعورًا بالراحة النفسية بفضل استقرار القصة المقروءة وطبيعتها الثابتة، أو توقظ فيه مشاعر الحنين إلى ذكريات محبوبة. وقد تمثل إعادة القراءة تجربةً اجتماعية أيضًا، وذلك عندما يكون هدفها مشاركة شخص يقرأ الكتاب لأول مرة.  

فهم التعقيدات

غالبًا ما يناقش الأكاديميون فوائد إعادة القراءة من جهة كونها وسيلة لتحسين فهم النصوص المعقدة وفهم الذات.

يتّفق معلّمو الأطفال في سن القراءة المبكرة مع معلّمي اللغات الأجنبية على أن إعادة القراءة تحسّن الاستيعاب، ولا يقتصر ذلك على التعرف على الكلمات الأساسية، بل يشمل فهم الأحداث وإدراك التفاصيل الدقيقة وتطوير المهارات التحليلية أيضًا. كذلك لا غنى عن إعادة القراءة بالنسبة للبالغين، خاصة في البيئات الأكاديمية، من أجل فهم النص بما يكفي لبناء حجج نقدية قوية. وقد وصل الأمر إلى درجة تحديد قيمة العمل الأدبي بناءً على قابلية إعادة قراءته.

يقول فلاديمير نابوكوف في كتابه محاضرات في الأدب:

“عندما نقرأ كتابًا للمرة الأولى، فإن الجهد المبذول في تحريك أعيننا من بداية السطر إلى نهايته، سطرًا بعد سطر، وصفحة بعد صفحة، هذا العمل الجسدي المعقد الذي نقوم به تجاه الكتاب، إلى جانب عملية فهم ما يتحدث عنه الكتاب، كل هذا يحول بيننا وبين تقدير قيمته الفنية”.

إن إعادة القراءة تُكسب القارئ فهمًا للنص لا يتحقق بمجرد القراءة الأولى. ومن دونها ربما يكون من المحال تقدير المواهب الدقيقة للكاتب، أو فهم الأفكار والموضوعات المعقدة للنص.

 

فهم الذات

تعد إعادة القراءة شكلًا من أشكال التأمل الذاتي. تقول سباكس: “إعادة القراءة الهادفة في حد ذاتها تُنتج نوعًا من الوعي الذاتي”. وبما أن الكتاب لا يتغير أبدًا، فقد يمثل معيارًا يُقاس عليه مدى نمو القارئ، كما توضح: “إن ثبات الكتب المُعاد قراءتها يبني شعورًا قويًا بالذات… فهو يكشف عن تطور الذات أو استمراريتها”. وبالتالي، قد تمثل إعادة القراءة وسيلةً لإعادة النظر في الذات والتغيرات التي طرأت عليها منذ القراءة الأولى.

مثالب إعادة القراءة

ومع ذلك توجد مساوئ محتملة لإعادة القراءة، فهي تستهلك الوقت، وتصرف القراء عن قوائمهم القرائية الطويلة، وقد تكون تجربة مُحبطة إن لم يظل الكتاب محبوبًا للقارئ كما كان في ذاكرته منذ القراءة الأولى. قد ينزعج المرء أيضًا من إدراك التغيرات التي طرأت عليه، كما قد تضيع بعض التفاصيل الدقيقة، وتحسين الفهم ليس مضمونًا بالضرورة.

ظاهرة المكسب والخسارة

يطرح ديفيد غاليف في كتابه “أفكار ثانية” ظاهرة المكسب والخسارة في إعادة القراءة: حقيقة أن بعض التجارب لا يمكن أن تُعاش إلا في القراءة الأولى، وتُفقد في القراءات التالية. يقول “النظرة السائدة لإعادة القراءة أنها عملية مكمّلة نتعلم منها أكثر وأكثر حتى نستوعب كل كلمة في الكتاب. إلا أن مثل هذه المراجعة المستمرة قد تُضعف حساسيات معينة” ومن بينها تأثير الحبكة، كالتشويق والعفوية. فالمشاعر التي تنتاب القارئ، كالمتعة والإثارة والفضول، تدفعه إلى الإسراع في القراءة، مما يجعله يغفل عن التفاصيل الدقيقة التي تظهر في القراءات التالية، لكن هذه المشاعر عناصر مهمة أيضًا قد تخفت في القراءات التالية.  

زيادة الألفة زيادة الاستيعاب

إضافة إلى ما سبق، ما لم تكن إعادة القراءة مركزة ومقصودة لاكتساب أفكار جديدة، فقد لا تؤدي إلى تحسين الفهم. نشرت مطبعة بيلكناب التابعة لجامعة هارفارد عام 2014 مقالة تنتقد إعادة القراءة كاستراتيجية دراسية لأنها “تنطوي غالبًا على نوع من الخداع الذاتي غير المقصود، إذ أن زيادة الألفة مع النص تبدو وكأنها إتقان للمادة”. وهذا ينطبق كذلك على إعادة قراءة الأدب، فلا يلزم أن يكون فهم مَن قرأ كتابًا عشرات المرات أدق ممن قرأه مرةً أو اثنتين فقط، لكن كان يسعى إلى استيعاب النص وتعميق رؤيته مع كل قراءة.

لماذا نعيد القراءة؟

لماذا نكترث إذًا بإعادة القراءة إن كان لها مثل هذه المثالب؟ يجدر الانتباه إلى أن ظاهرة المكسب والخسارة التي اقترحها غاليف تختلف من كتاب لآخر ومن قارئ لآخر. فالروايات الغامضة مثلًا تفقد عنصر التشويق، والقصص القصيرة ذات النهاية المفاجئة تفقد عنصر المفاجأة، لكن إعادة القراءة تجعل القارئ في حالة ترقب. إلا أن ذلك لا ينطبق على الجميع بالضرورة كما يشير غاليف، فالقارئ المناسب قد يستمتع أكثر بقراءة القصة وهو يعرف نهايتها. وقد يصعب فهم أعمال ويليام فولكنر وإن كان في القراءة الثانية أو الثالثة (أو الرابعة حتى)، لكن هذه الصعوبة جزء من المتعة التي يعيشها القارئ المناسب.

لإعادة القراءة قيمة جوهرية، لكن هذه القيمة ذاتية. إن أعدت القراءة من أجل تحسين فهمك للجوانب الفنية الدقيقة والمعقدة، فاعزم على أن تخرج من النص بأكثر من مجرد الألفة. وإن كنت تعيد القراءة من أجل المتعة، فركز على الجوانب التي تستمع بها، وانتبه إلى أن بعض العناصر قد لا تجد لها نفس التأثير في القراءة التالية.

لا ينبغي أن يشعر أي قارئ بأنه غير مُنجز لأنه آثر إعادة قراءة كتاب مفضل على الالتزام بقائمته القرائية، أو لأنه لا يعيد القراءة إلا نادرًا، فلكل من الحالتين متعة خاصة.

المصدر 

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

لماذا نعيد قراءة الكتب؟ قراءة المزيد »

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٤م

نشرنا العام الماضي مفضلات فريق نديم القرائية لسنة ٢٠٢٣م، حيث قدم الفريق من خلالها باقة من الاقتراحات المتنوعة لكتب مميزة ولافتة.

نكرر هذا العام نشرنا لمفضلات الفريق لعام ٢٠٢٤، آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

 

مارد الأحذية، لفيل نايت.

أجمل سيرة ذاتية قرأتها هذا العام، مؤلف الكتاب هو مؤسس شركة نايك، استمتعت بالكتاب ولامسني كثيرًا.

عبيد الظاهري، المشرف على شركة نديم.

لغات الحب الخمسة التي يستخدمها الأطفال، لجاري تشامبان، وروس كامبل.

أكثر الكتب التي قرأتها هذا العام تتعلق بالجانب التربوي، لكن هذا الكتاب أعطاني نظرة مختلفة للتواصل مع الأطفال بذكاء، وفهمهم بعمق.

مريم المحناء، فريق التصميم.

فيض الخاطر، لأحمد أمين.

أحببته بسبب ثرائه وتنوع موضوعاته، وأسلوبه عذب وسلس غير متكلف.

يارا عمار، فريق التحرير.

مفهوم النسوية: داراسة نقدية في ضوء الإسلام، لأمل الخريّف.

تميز الكتاب بإستعراض وبيان مفهوم النسوية، ومن أين جاء وبدأ، وتسليط الضوء على بعض جوانبه وآثاره الهدّامة في الواقع، والمُخالِفة لما جاءت به الشريعة الإسلامية من إكرام وتنزيه وصيانة للمرأة، ودورها الفعّال في المجتمع من خلال الأمومة والأسرة، وسعي النسوية لهدم ذلك كله وتفكيكه.

سهام الحربي، الفريق التطوعي.

تقي الدين المقريزي: وجدان التاريخ المصري، لناصر الرباط.

بقدر ما يُعمل الكاتب أدواته، ويسبر أغوار الحكايات المتصلة بحياة الشخصية، ويستنطق ما كتبه صاحب السيرة سواء عن ذاته أو من اتصلت أسبابه بهم، تخرج لنا سيرة استثنائية، كأنما أملاها صاحبها، فهذا صنيع م. ناصر الرباط في سيرة المقريزي.

وقد اخترته كمقدمة لجرد درر المقريزي.

آلاء الخطيب، فريق المشاريع.

الجواهر: من أخبار النساء في القرآن، لفايز الزهراني.

تقول صديقتي: “هذا الكتاب يستحق أن يُقرأ كل عام”، وهو كذلك.

الكتاب مليء بالمفاهيم التي تفتح آفاقًا رحبة للمرأة المسلمة في عبوديتها لله، والوعي بدورها، ومواضع شرفها، وعزها.

مستلهمة من قدوات نسائية اختارها العليم الحكيم وخلّد ذكرها إلى قيام الساعة.

سارة بن سويدان، الفريق التطوعي.

عين تراقب العصفور، لملاك الجهني.

تصف الدكتورة ملاك ألم الفقد فتقول: “يترك الفقد وشومه الداكنة فيمن يعبرهم، وكما أن الوشم يحرق الموشوم لحظة وشمه، ثم لا يلبث ألمه أن يزول، فينسى صاحبه أنه قد وشم، حتى يبصر وشمه ماثلا أمام عينيه، كذلك يفعل الفقد في صاحبه، يلذعه بحرارته، ثم يتلاشى شعوره بالألم تدريجيا، حتى ليكاد ينسى مصابه، فإذا بأول موقف يصادفه يذكره -بوحشية لا مثيل لها- أنه موشوم بالفقد”.

وقد ترك فيني الكتاب أثرًا كبيرًا وخاصة عندما تضع نفسك أمام مشاعر جديدة، وخاصة مشاعر فقد الزوجة لزوجها، حينها يجب عليك أن تتذكر معية الله، وعينه الحارسة، والإيمان به يأتي ليجدد الأمل فينا فندرك أن للعصفور عينًا تراقبه.

يوسف بنتن، فريق المشاريع.

مفاتيح إقامة الصلاة، لخالد اللاحم.

كتابٌ يُقرأ على مهل، لا تصلح قراءته في جلسة، ولا يوم، ولا أسبوع.

أفضل طريقة للاستفادة قراءة مقدار قليل، ثم التطبيق إن كان هناك ما يطبق عمليا، أو استشعار الجزئية المقروؤة.

قراءة كل جزء أو كل فصل مرة ومرتين وثلاث وأربع، حتى تجد الأثر في قلبك وفي صلواتك.

فهيمة حسين، الفريق التطوعي.

السعي للعدالة، لخالد فهمي.

القراءة لخالد فهمي تدريب بحثي على مراجعة الأطروحات السابقة وفحصها، وبناء الحجج، وتوظيف النظريات.

يكفي أن تكون باحثًا في أي مجال ليكون الكتاب مهمًا لك، مهما كان تخصصك قريبًا أو بعيدًا من حقل الكتاب.

حسان الغامدي، فريق التحرير.

القواعد الذهبية، لنابليون هيل.

هو آخر ما قرأته هذا العام، والكتاب يعد أصل كل كتب تنمية الذات، كتاب مفيد وواضح.

لوله الغامدي، فريق التصميم.

كتابة البحث العلمي، لعبد الله الرشيد.

دليل علمي مبسط لكتابة البحث العلمي لكل باحث جديد، مع عصارة من خبرة المؤلف الغنيّة، استمتعت بقراءته أثناء كتابة بحث الماجستير، غيّر نظرتي عن كتابة البحوث، ووسّعها أكثر.

منيرة التركي، الفريق التطوعي.

الممتع في فقه الدعاء، لعبد الله الفريح.

أعجبني هذا الكتاب في استقبال شهر رمضان، الذي لا يفصلنا عنه غير شهرين.

وجدت فيه بغية كل مسلم في فهم معاني الأدعية الجوامع الصحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والمعلوم أنها تجمع خيري الدنيا والآخرة.

فهذا الكتاب، أو ما يقوم مقامه، مهم، لا سيما أن إجابة الدعاء مرتبة بحضور القلب، وإدراكه لما ينطق به اللسان.

شيماء، فريق المشاريع.

تجارب وخبرات، لباسل شيخو.

كتاب يجمع لك مابين دفتيه مجموعة من المقالات المتنوعة في مجالات متعددة (نفسية، اجتماعية، فكرية، عملية… إلى آخره.)، يجمع لك هذا الكتاب خلاصة خبرات كبار الكُتّاب من الشرق والغرب، تعطيك هذه الخبرات مفاهيم توجهك لمسارات الحياة الأفضل بدلاً من أن تجرب فتقع ببعضها مما قد يضيع الجهد والمال والوقت، كتاب جميل ويستحق القراءة مرات.

حسين العبدلي، الفريق التطوعي.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٤م قراءة المزيد »

نهاية القراءة

pexels-jakubzerdzicki-29711758

يستضيف برنامج الكتابة الخاص بي ندوة صيفية كل عام، يقدم فيهام أعضاء هيئة التدريس استراتيجيات تعليمية حديثة (مثال: التصحيح بدون درجات، وكيفية تطبيق هذا الأسلوب؟)ويتبادلون الأفكار حول المشكلات المستجدة (مثال: كيفية إدارة استخدام الطلاب ChatGPT  في الكتابة الجامعية.) وفي هذا العام قدمتُ بالتعاون مع أحد الزملاء عرضًا يتناول مشكلةً كبيرة ومتنامية تتعلق بتدريس الكتابة للجيل الحالي من الطلاب الجامعيين: ألا وهي عدم القراءة.  

من عادتي أن أبدأ محاضرات الكتابة التي أقدمها للمستجدين بالتعرف على طلابي (القاعات صغيرة، مما يشجع على النقاش). أسألهم مَن يحب الكتابة ومن لا يحبها، وما هي عاداتهم ومهاراتهم في الكتابة، وكيف كانت تجربتهم الكتابية في المرحلة الثانوية، وغير ذلك.

كما أطرح عليهم هذا السؤال: ما هي أفضل طريقة لتحسين الكتابة؟ وتأتيني نفس الإجابة دائمًا: الإكثار من الكتابة، فأقول إن هذه هي ثاني أفضل طريقة. أفضل طريقة لتحسين الكتابة هي الإكثار من القراءة. لا يروقهم هذا الكلام، فأسمع منهم عبارات مثل “لم أقرأ كتابًا منذ عشر سنوات!” أو “لم أقرأ كتابًا مذ كنت في الصف السادس!” أو حتى “لم أقرأ كتابًا قط.”

هذا أمر لا يصدق! كيف يتخرج شخص من المدرسة الثانوية ويُقبل بالجامعة دون أن يقرأ كتابًا منذ سنوات (أو في حياته)؟ لدي بعض النظريات المدعومة بالبحوث الأخيرة (انظر المراجع أدناه)[1]:

  1. التكنولوجيا: نشأ الجيل زد (الذين هم في الجامعة الآن) مع جوجل والهواتف الخلوية ووسائل التواصل الاجتماعي، وكلها توفر معلومات سهلة وسريعة لا تتطلب جهدًا إدراكيًا مقارنة بالمقالات المطولة والكتب.
  2. الاختبارات الموحدة: يُدرَّب طلاب المرحلة الثانوية على فحص فقرات منفصلة وتحديد فكرتها الرئيسية، وهي مهارة مفيدة للاختبارات، لكنها لا تفيد في التعلم عن الطبيعة البشرية والعالم، ولا تحسّن المهارات الكتابية، لأن ذلك يتطلب قراءة عميقة ومستمرة.
  3. الجداول المزدحمة: طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية مشغولون للغاية بالواجبات المنزلية والرياضة والعمل والتدريس والتطوع باسم الاستعداد للجامعة، فيشعرون أن لا وقت لديهم للقراءة الترفيهية أو حتى القراءة الإلزامية.

العزوف عن القراءة بين الأجيال ينعكس على طلابنا في عدة صور: أصبحت القراءة الجهرية في الفصول الدراسية ممارسة صعبة، حيث يعجز بعض الطلاب عن تهجّي اسم مؤلف غير مألوف أو نطق الكلمات الشائعة حتى. يميل الطلاب إلى الكتابة مثلما يتحدثون، حيث تُكتب المقالات بلغة غير رسمية وعامية بوجه عام بسبب عدم التعرض لنماذج كافية بقراءة الأدب والكتابات الأكاديمية. هنا يحضرني نموذج المدخلات والمخرجات للحوسبة: لا بد أن تقرأ كتابات رصينة حتى تُخرج كتابة متقنة. أخيرًا، يصعُب أحيانًا فهم رسائل البريد التي يرسلها الطلاب، لأنها تشبه الرسائل النصية كثيرًا ومليئة بالاختصارات، ومن دون علامات ترقيم أو إلقاء التحية.

أود أن أؤكد على أنّ هذا التراجع في القراءة اتجاه وليس قاعدة. يسرني دائمًا السماع من الطلاب عن الكتاب الذي قرأوه في الصيف وأعجبهم، أو عن كاتب مفضل اكتشفوه مؤخرًا، وأذكر طالبًا العام الماضي كان يعزو مهاراته القوية في الكتابة التقنية إلى قراءة الكثير من الأدلة الفنية للسيارات. لكن التراجع في القراءة اتجاه متزايد، وهذا أمر مُقلق.

أشار أحد المتحدثين الضيوف في ندوتنا الصيفية إلى أن الطلاب الجامعيين يقرأون كثيرًا في الواقع، إلا أن محتوى قراءتهم قد تطور، فصار كل ما يُقرأ الآن عبارة عن رسائل وتغريدات وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكني لا أوافق على ذلك.

إن نوع “القراءة” الذي يمارسه الناس على منصات التواصل الاجتماعي قصير ومجزّأ ويركز على المعلومات: أحب هذا، لا أحب ذاك، أنت مخطئ، أنا على حق، انظر إليّ، اشترِ هذا، لا تشتر ذاك. هذه التفاعلات الموجزة مجتمعة تجعل الناس على اطلاع دائم بما يفكر فيه كل إنسان في العالم في اللحظة الحالية (وهو أمر مرهق).

إلا أنّ التطور السليم للعقل البشري يتطلب شيئًا أعمق من مثل هذه الجرعات السريعة من المعلومات المنفصلة. تحتّم علينا القراءة المستمرة متابعة الأفكار والتفكير العميق وفهم وجهات النظر المختلفة. ونحن بذلك نخضع لتعلم عميق، فالمدخلات الجديدة تعيد تنظيم الاتصال العصبي في أدمغتنا، فنرى العالم بطريقة جديدة حقًا. بعبارة أخرى: نحن نتعلم عندما نقرأ.

جميع المواد الأكاديمية مهمة، فكل منها يساهم بشيء لفهم أنفسنا وعالمنا. لكني أزعم أن لا شيء منها أهم من القراءة، لأنه عندما نعرف كيف نقرأ -أقصد القراءة الحقيقية- سنستطيع أن نتعلم ونفهم أي شيء.

ما الذي يمكن فعله إذًا لتحسين مهارات القراءة عند الشباب؟

  1. إيجاد طرق للحد من أشكال القراءة السطحية (مثل تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي)، وبذلك يتوفر المزيد من الوقت للأشكال الأعمق للقراءة.
  2. إدراك أن مهارات القراءة اللازمة لأداء الاختبارات مهمة، لكنها ليست أساسية للتطور البشري مثل القراءة العميقة التي تعزز فهمنا للطبيعة البشرية وعالمنا وتساعدنا على عيش حياة مُرضية.
  3. الحرص على اقتطاع وقت لقراءة أي شيء يجذب اهتمامك، سواء كان أدلة فنية للسيارات أو محاورات أفلاطون. يحتاج الشباب إلى وقت للراحة، وإلى تذكير بأن وقت الراحة هذا قد يعني قراءة كتاب بدلًا من تصفح وسائل التواصل الاجتماعي.

حاليًا أقرأ مع ابني في المرحلة المتوسطة أن تقتل طائرًا محاكيًا، نتبادل الدور في القراءة جهرًا. وسأقرأ مع طلابي المستجدين فصلين يتحدثان عن الجيل زد من كتابين جديدين، أحدهما الأجياللجين توينج، والآخر لا يكفي أبدًا لجينيفر والاس. أتطلع لرؤية استجابة طلابي لهذه الإضافات الممتازة للأدبيات المعاصرة عن فهم هذا الجيل ومساعدتهم حتى يصبحوا قراء ومفكرين وكتّاب مثقفين ومطلعين كما يطمحون.

[1] Twenge, J. M. (2023). Generations: the real differences between Gen Z, Millennials, Gen X, Boomers, and Silents : and what they mean for America’s future. First Atria Books hardcover edition. New York, NY, Atria Books.

Wallace, J. B. (2023). Never enough: when achievement culture becomes toxic– and what we can do about it. New York, Portfolio/Penguin.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

نهاية القراءة قراءة المزيد »

تسوندوكو: فن شراء الكتب وعدم قراءتها

pexels-fernando-gonzalez-2626178-4227666

من الظواهر المثيرة للاهتمام التي تؤثر علينا نحن القراء “تسوندوكو” ( باليابانية: 積ん読): فن شراء الكتب وعدم قراءتها. نناقش في هذه المقالة مفهوم تسوندوكو، وما يمكن فعله كي لا تقع ضحية لهذه الظاهرة.

ما المقصود بتسوندوكو؟

تعريف هذا المفهوم بسيط للغاية: عادة شراء الكتب وعدم قراءتها. وهو مصطلح ياباني يعود إلى القرن السابع عشر، ويتكوّن من جزئين: “تسون” يعني تكديس الأشياء، “دوكو” يعني القراءة.

كيف تحولت هذه الكلمة اليابانية التي تدل على شراء الكتب وعدم قراءتها إلى ظاهرة عالمية؟ المعنى الأصلي لتسوندوكو أعمق قليلًا مما نعلمه اليوم. استُخدم المصطلح في اليابان لعدة قرون وله جذور عميقة في الثقافة اليابانية، فقد كان يُعتقد أن الكتب ممتلكات ثمينة للغاية، فكانت تُجمع وتوَرَّث من جيل لآخر.

كانت الكتب سلعًا آنذاك، ومن الطبيعي أن يقتنيها الناس ويحتفظوا بها عندما يقدرون على شرائها، وإن لم تكن لهم نية في قراءتها. لم يكن شراء الكتب دون قراءتها يُرى عادةً سلبية بالضرورة، بل كان استثمارًا حكيمًا.

يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما. قد يبدو المصطلحان مماثلين تمامًا للوهلة الأولى، لكن إن دققنا أكثر سيتضح الفرق بينهما. البيبلومانيا حالة تنطوي على جمع الكتب (أحيانًا مع نزعة للوسواس القهري) إلى حد يشكل خطرًا على الصحة أو يؤثر سلبًا على حياة الشخص وعلاقاته.

هنا يكمن الفرق المهم: المصاب بالبيبلومانيا لا يهتم بقراءة الكتب، هو فقط يسعد بمجرد امتلاكها ويشعر بالارتياح أو المتعة بوجودها حوله. أما المصاب بالتسوندوكو فيشعر بالاستياء من امتلاك الكتب وعدم توفر وقت لقراءتها.

إذًا، المصاب بالبيبلومانيا يرغب في تملك الكتب فحسب، بينما الذي يعاني من متلازمة تسوندوكو لديه رغبة قوية في شراء الكتب، لكن أيضًا يشعر بالحزن لعدم قدرته على قراءتها كلها.

هل تسوندوكو عادة حسَنة؟

ما المشكلة في شراء كتب أكثر مما أستطيع قراءته؟ الأمر يعتمد على تأثير ذلك على حياتك وعاداتك القرائية. شراء الكتب وجمعها في حد ذاته ليس عادة سلبية، لكن مشكلة تسوندوكو تحدث في بعض الحالات.

يجدر الانتباه إلى أن الزمن تغير منذ صياغة مصطلح تسوندوكو في الثقافة اليابانية. لم تعد الكتب في أيامنا هذه سلعًا (ما لم تكن جامعًا جادًا وتبحث باستمرار عن الكتب الثمينة)، وقيمتها الحقيقية لا تنبع من كونها أشياء مادية، بل إن قيمتها تكمن في محتواها والمعلومات التي تستفيدها من قراءتها والتجربة التي تعيشها معها.

وبالتالي يعد تسودونكو مشكلةً إن وجدت أن المال الذي تنفقه على الكتب أكثر من الوقت الذي تقضيه في قراءتها. كقاعدة عامة: ما لم تكن جامعًا يحب مجرد امتلاك الكتب، فإن المقصد من شراء الكتب هو الاستفادة من محتواها والتجربة التي توفرها. إن شعرت أنك مقصّر في القراءة وقائمتك القرائية تطول شيئًا فشيئًا، مما يُشعرك بالإحباط، فإنّ تسوندوكو مشكلة بالنسبة لك حينئذ وتحتاج إلى تعلم كيفية التغلب عليها.

قد تؤثر متلازمة تسوندوكو سلبًا على تجربتك القرائية ونظرتك للقراءة كنشاط. إن كنت تشعر دائمًا بعدم الرضا عن مقدار قراءتك وتربط كثيرًا بين هذا النشاط والشعور بالإحباط، فمن المحتمل أن ينشأ لديك موقف سلبي تجاه القراءة.

قد تشعر في مرحلة ما بالضغط من عدد الكتب التي عندك عندما تدرك أنك متأخر جدًا في القراءة لدرجة أنك قد تستغرق أعوامًا حتى تنهيها جميعها.

كيف تتغلب على متلازمة تسوندوكو؟

رغم السلبيات المرتبطة بمتلازمة تسوندوكو، إلا أنه يمكن التغلب عليها، بل واستخدامها لصالحك.  توجد عدة طرق للتعامل مع الأمر بناءً على هدفك النهائي كقارئ.

فيما يلي بعض الاستراتيجيات الشائعة للتغلب على تسوندوكو بمجرد ظهورها.

  1. حدد هل هي مشكلة حتى تعالجها أم لا

كما ذكرت آنفًا، ليس بالضرورة أن تكون تسوندوكو مشكلة حتى تحتاج إلى حل. في الحياة أمور كثيرة قد يحدث أسوأ من إحاطة نفسك بالكتب، وكونك متحمسًا تجاه الكتب والقراءة وشراء روايات جديدة باستمرار حتى تستمع بها لا يستدعي علاجًا.   

إليك بعض الحالات التي قد تشير إلى أن لديك مشكلة حقًا ويجب أن تنظر فيها:

  • عندما تنفق على الكتب أكثر من مقدرتك.
  • عندما تشعر بالضغط والإرهاق باستمرار بسبب امتلاك كتب كثيرة لم تقرأها.
  • عندما تتأثر أنشطتك اليومية بسبب الشراء المستمر للكتب.
  • عندما تجد نفسك في حالة فوضى مستمرة بسبب أن الكتب الجديدة أكثر من اللازم فلا تستطيع أن تنظمها.

ما لم تصدُق عليك بعض هذه الحالات فلا داعي للقلق، أنت شخص عادي يحب الكتب لكن لا يجد وقتًا للقراءة. أما إن شعرت أن الأمر أصبح مشكلة، فلا بد من السعي لحلها.

  1. ضع حدًا للشراء

بكل وضوح: أسرع وأضمن طريقة لتقليل الضغط أو الانزعاج الناتج عن تسوندوكو هي أن تراجع عاداتك في الشراء. ومن هنا يوجد احتمالان مختلفان يعتمدان على ما يسبب لك الضيق: هل تقلق أكثر بسبب المال الذي تنفقه، أم بسبب المساحة التي تشغلها الكتب في منزلك؟

إن كنت قلقًا بشأن المال فحدد ميزانية، واجعلها قاعدة ألا تنفق على الكتب أكثر من القدر المحدد شهريًا. عيّن الحد والقدر الذي تستطيعه، وتذكر أنه ليس بالضرورة أن تمتنع عن شراء الكتب تمامًا، المهم أن تضع حدًا يناسبك.

وإن كانت المساحة هي المشكلة فينبغي أن تحد من عدد الكتب التي تشتريها، أو تجرب الصيغ البديلة (الكتب الإلكترونية، الكتب الصوتية).

  1. ارفق بنفسك

يكمن السر في التعامل مع تسوندوكو في تغيير نظرتك وتقبّل الأمر. نعم، ربما اشتريت كتبًا كثيرة ولا تستطيع قراءتها، لكن هذه ليست كارثة.

ينبغي أن تركز على الجانب الإيجابي، وهو أن لديك وفرة من الكتب لتقرأها! إن علمت نفسك ووجدت طريقة للامتناع عن شراء الكتب حتى تقرأ ما لديك، فسيكون كل شيء على ما يرام.

أما القسوة على نفسك فلن تفيدك. كلما زاد إحباطك قلّ ما تقرؤه، وسيزداد إحباطك أكثر وستسعى للتخفيف عن نفسك بشراء المزيد من الكتب. تجنب هذه الدوامة بأي ثمن كان.

  1. اعرف متى تتوقف

تعلمنا أنه لا بد من إنهاء أي كتاب بدأنا فيه. لكن طريقة التفكير هذه ليست صائبة بالضرورة، فأحيانًا يكون ترك كتاب لا يستحق القراءة أفضل كثيرًا من مواصلة قراءة شيء لا يعجبنا. المفترض أن تُشعرنا القراءة بالمتعة وتضيف لنا قيمة، وإن لم تفعل فلا فائدة من إجبار أنفسنا على قراءة شيء لا يستحق وقتنا.

  1. بِع أو تبرع بالكتب الزائدة

كذلك أحيانًا يكون من الأفضل أن تبيع أو تتبرع بالكتب التي تشغل مساحة كبيرة للغاية من المنزل. بدلًا من أن تعاقب نفسك بسبب الكتب المتراكمة وتظل تضع خططًا لقراءتها كلها مع أن وقتك لا يتسع لها، حاول على الأقل أن تسترد جزءً من استثمارك أو أن تترك أثرًا بالتبرع بها.

  1. اقرأ أكثر

أعلم أن الكلام أسهل من الفعل، لكن يجب أن تعلم أيضًا أن المشكلة الحقيقية ليست في ضيق الوقت. إن كانت طريقة تفكيرك منضبطة مع الاستفادة من الأدوات المساعدة على اكتساب عادات القراءة الإيجابية، ستندهش من القدر الذي تستطيع قراءته إن كانت لديك عزيمة.

أخيرًا، القراءة نشاط مرن للغاية من حيث المكان والوقت الذي يمكن أداؤها فيه: فيمكن أن تقرأ وأنت تتناول قهوتك الصباحية أو في طريقك إلى العمل أو وقت استراحة الغداء أو أثناء السفر أو حتى أثناء ممارسة الرياضة أو قبل النوم. أهم شيء أن يكون لديك الدافع الكافي والأدوات اللازمة لتكوين عادات قرائية إيجابية.

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

تسوندوكو: فن شراء الكتب وعدم قراءتها قراءة المزيد »

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك

Picture of كتابة: إليزابيث جورج
كتابة: إليزابيث جورج

ترجمة: يارا عمار

pexels-ron-lach-8036320

إنّ القراءة -لا سيما النقدية- جزء لا يتجزأ من عملية البحث. ومع ذلك، فالقراءة البحثية ليست مجرد مسح سريع للأوراق البحثية، بل يلزم أن يتفاعل القارئ مع النص وأن يستخلص منه المعلومات لتطوير أفكاره الخاصة. ولذا، من الضروري أن يدرك طلاب الدكتوراه والباحثون أهمية القراءة النقدية، وأن ينمّوا روح الاستقصاء العلمي في بداية رحلتهم البحثية. مما لا يخفى أنّ القراءة البحثية الفعالة والكتابة الأكاديمية عالية الجودة يسيران جنبًا إلى جنب: كلما أتقنت استراتيجيات القراءة النقدية، استطعت أن تقدم عملك في الأوراق البحثية بشكل أفضل. لكن ما هي القراءة النقدية؟ وما استراتيجيات القراءة النقدية التي يمكن أن تتبعها للربط بين قراءة الأدبيات وعملية الكتابة البحثية بطريقة مجدية؟ سنجيب على هذه الأسئلة الشائعة بين الباحثين في هذه المقالة.

ما هي القراءة النقدية؟

تنطوي القراءة النقدية على قراءة النص بنشاط لفهم وجهة نظر المؤلف وهدف الدراسة البحثية وكيف تساهم النتائج في النهوض بالبحث في مجالك. لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش الافتراضات التي تعرضها الأوراق البحثية، وأن توظف تجربتك وخبرتك لتطوير أفكار ووجهات نظر جديدة.

تساهم القراءة النقدية بقدر كبير في تحويل القرّاء إلى باحثين مبدعين. إنّ مهارات القراءة النقدية الجيدة تعزز قدرتك على تحديد مواطن القوة ومواطن الضعف في الأبحاث السابقة في مجال معين، وتسليط الضوء على الثغرات في التحليل أو الأدبيات نفسها. كما أن الأفكار التي تنشأ من هذه العملية تساعد في تحويل الاستجابات المستنيرة القائمة على القراءة النقدية إلى دراسات بحثية مستقبلية يمكن أن تنهض بالعلوم، وكذلك تساعد في بناء أسس نظرية متينة، وتحسين تصميم البحث ومنهجيته. إن صقل مهاراتك في القراءة النقدية يسهّل عليك تقييم الأدلة ودمج هذه المعلومات في كتابتك البحثية.

استراتيجيات القراءة النقدية للباحثين

نستعرض فيما يلي بضع استراتيجيات للقراءة النقدية تعين الباحثين على الفهم التام لمحتوى الأدبيات التي يقرؤنها وتقييمها تقييمًا نقديًا. سنركز على الاستراتيجيات الأساسية التي يمكن أن يتبعها الباحث حتى تصير القراءة النقدية عادةً له:

  1. اقرأ بهدف محدد: من أهم استراتيجيات القراءة النقدية أن تقرأ الورقة البحثية مع وجود هدف أو سؤال محدد في ذهنك. مُر سريعًا على كل فصل في البحث وظلل الفقرات التي تتناول هدفك المحدد حتى تعلم ما إذا كانت الورقة بأكملها تستحق القراءة أم لا. وبمرور الوقت ستصقَل مهاراتك في القراءة النقدية وستتمكن من تقييم مدى أهمية الورقة البحثية بسرعة. كما ستفهم كيفية هيكلة الأوراق البحثية عالية الجودة، وستستفيد منها بتطبيقها في كتابتك.
  2. اكتب ملاحظات: من المهم أن تضع خطًا تحت العبارات الرئيسية، وأن تدوّن ملاحظات أثناء قراءة المؤلفات العلمية. علّم على التعليقات والأفكار المهمة، واكتب تفسيراتك أو أي أسئلة ترد على ذهنك نتيجةً للقراءة الدقيقة للنص. هذه الاستراتيجية تساعد الباحثين على استنباط المعنى الصحيح، وتشكيل حجج ذكية أثناء كتابة البحوث. كما أن تظليل الأجزاء المهمة والمطلوبة من النص يجعل القراءة أشمل ويسهّل الرجوع إليها لاحقًا، مما يسرّع عملية الكتابة الأكاديمية بوجه عام.
  3. ضع تحيزاتك جانبًا أثناء القراءة: من أساسيات القراءة النقدية أن تكون ذا عقل متفتح. على سبيل المثال: قد تمر عليك وجهات نظر وحجج توافقها أو تخالفها بشدة أثناء قراءة المقالات العلمية، هنا من الضروري أن تنحي جانبًا معتقداتك الشخصية وتفاعلاتك العاطفية التي قد تؤثر على وجهة نظرك أو فهمك للورقة البحثية التي تقرؤها. القراءة النقدية يعني أن تكون قادرًا على التعمق وفهم الحجج التي يطرحها المؤلف حتى تُحسن الاستشهاد بها في كتابتك.
  4. ضع النص في سياقه: يحتاج الباحثون أثناء القراءة النقدية إلى استيعاب السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية الذي أجري وكُتب البحث في إطارها. من المهم أن تقارن بين الموقف الذي كُتب فيه النص وواقعك، حتى تستنتج وتستخلص المعنى الصحيح وتطور حجتك.
  5. ابحث عن الروابط: جزء من عملية القراءة النقدية أن تبحث عن الروابط بين الأوراق المنشورة سابقًا في مجال دراستك، فالتعرف على الأنماط واكتشاف الروابط يساعدك في البناء على المعرفة القائمة وتعزيز بحثك وإبراز المساهمة التي سيضيفها عملك إلى مجال بحثك. كذلك من مزايا البحث عن النصوص والمصادر ذات الصلة أنه يضفي على دراستك وكتابتك البحثية منظورًا عالميًا أكثر، ويمنحك فرصة التعرف على مؤلفيها والتواصل معهم لمواصلة تعليمك البحثي.
  6. اقرأ عدة مرات: ينبغي أن يقرأ الباحثون المقالة مرات عديدة مع تجنب المشتتات. إن تكرار القراءة النقدية مع تحديد الهدف منها يعينك على زيادة فهمك تدريجيًا ورسم الروابط التي ربما غفلت عنها في القراءة العامة الأولى. قد يبدو هذا غير ضروري، لكن من المهم أن تدرك أن بناء عادة القراءة النقدية القوية -كالكتابة الأكاديمية تمامًا- عملية تدريجية تتطلب وقتًا لإتقانها.
  7. خصص دفترًا: لكتابة الأفكار والسرديات والمراجع المهمة ومواضع الاتفاق أو الاختلاف أثناء قراءة المقالات البحثية. ويحسن أيضًا أن تكتب أي تساؤلات أو شكوك تنشأ في هذا الدفتر. إلى جانب أنك تعد مرجعًا جاهزًا للمستقبل، سيكون هذا الدفتر مصدرًا رائعًا عندما تبحث عن أفكار للمشروعات البحثية المستقبلية.
  8. أعد الصياغة وبسّط: تساعد القراءة النقدية على معالجة المعلومات التقنية المعقدة، لكن قد تظل أجزاء من النص محيّرة للقرّاء. من الطرق الحسنة لتبسيط مثل هذه المفاهيم أن تعيد صياغتها، فإعادة كتابة النص بكلماتك دون تغيير جوهره يحسّن فهمك لمحتوى الورقة البحثية، كما يقوّي مهاراتك في الكتابة الأكاديمية.
  9. وسّع مفرداتك: قد تمر عليك كلمات وعبارات جديدة ذات صلة بمجال بحثك وأنت تقرأ المؤلفات العلمية قراءة نقدية: احرص على تسجيلها حتى تستكشف معانيها والسياق الذي استُخدمت فيه. هذا يسرّع وتيرة قراءتك النقدية بمرور الوقت وسيُثري كتابتك بتوسيع نطاق المفردات التي تستخدمها.

إنّ اتباع استراتيجيات القراءة النقدية المذكورة أعلاه يحسّن كفاءتك في القراءة ويزوّدك بمستودع من الأفكار البحثية. ثم بعد ذلك قد تتحول ملاحظاتك على العمل المنشور سابقًا وتفسيراتك له إلى بحث رائد محتمل يضعك على طريق النجاح.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك قراءة المزيد »

وهم المعرفة

Picture of كتابة: لاب مهراج
كتابة: لاب مهراج

ترجمة: يارا عمار

pexels-jonathanborba-13061418

لقد جعل عصر المعلومات قدرًا هائلًا من المعارف في متناول أيدينا، فالإنترنت -بمجرد بحث يسير على جوجل أو الموسوعاتالإلكترونية- يعطينا إجابات فورية لأي سؤال قد يطرأ على أذهاننا. ومع ذلك، فهذه الوفرة في المعلومات قد تخلق وهمًا بالمعرفة، وهو ما يشكّل خطرًا إن تُرك دون رادع.

ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الفرد أنه يفهم موضوعًا ما فهمًا عميقًا بسبب توفر المعلومات عنه وسهولة الوصول لها. هذه الظاهرة تدفع الناس إلى المبالغة في تقدير خبرتهم، وتؤدي إلى اتخاذ القرارات بناءً على افتراضات خاطئة. تتفاقم هذه المشكلة بسبب خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز القناعات دون التحقق من دقتها أو صحتها.

ما هي المعرفة؟

نحن البشر نسعى باستمرار لتحصيل المعرفة، فنقضي ساعات لا تحصى في قراءة الكتب والبحث على شبكة الإنترنت وحضور المحاضرات من أجل توسيع فهمنا للعالم المحيط بنا. لكن ما هي المعرفة بالضبط؟ يعرّفها أكثر الناس بأنها مجموعة الحقائق والمعلومات التي يحصلها المرء من خلال التعليم الذي يتلقاه أو التجارب التي يخوضها. إلا أن هذا تعريف سطحي ولا يكشف عن المعنى الحقيقي للمعرفة.

المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة، بل هي فهم كيفية ارتباط هذه المعلومات بعضها ببعض لتشكيل صورة أكبر وأشمل. الأمر يدور حول القدرة على استخدام تلك المعرفة في المواقف الحياتية لحل المشكلات واتخاذ قرارات مستنيرة. ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الشخص أنه على فهم تام بموضوع ما استنادًا إلى معلومات محدودة أو وجهات نظر متحيزة.

لكن هذا التعريف بمفرده لا يستوعب كل ما تنطوي عليه المعرفة من تعقيدات. فالمعرفة تشمل أيضًا قدرة الفرد على حُسن تطبيق المعلومات المكتسبة في مختلف السياقات والمواقف، كما تتطلب غالبًا امتلاك مهارات التفكير النقدي من أجل تحليل المعلومات الجديدة وتقييمها في ضوء المعتقدات أو التصورات القائمة.

وعلى الرغم من هذه الفوارق الدقيقة في طبيعة المعرفة، فإن الناس غالبًا يقعون في وهم أن لديهم فهمًا كاملًا لموضوع معين. تتضمن المعرفة الحقيقية مزيجًا من الفهم والتطبيق في المواقف العملية، ومن دون التكامل بين هذين المكونين، يظل فهمنا لأي موضوع معين غير مكتمل.

المعلومات والفهم

يكمن الفرق بين المعلومات والفهم في مستويات تفسير وتطبيق كل منهما. المعلومات مجموعةٌ من الحقائق التي يسهل الوصول لها عبر مصادر متعددة. أمّا الفهم فيتضمن مستوى أعمق من التحليل والتجميع حيث يفسر المرء المعنى الكامن وراء هذه الحقائق، كما يتطلب تطبيق هذا التفسير في السياقات ذات الصلة، وإلا فإنه على خطر الوقوع في فخ اكتساب المعرفة السطحية: جمع المعلومات دون تعلم شيء جديد أو نافع.

وهم الخبرة

لقد جعلت وفرة المعلومات كثيرًا من الناس يظنون أنفسهم خبراء في مجالات لا يعرفون عنها سوى القليل، مما يؤدي إلى الوقوع في وهم الخبرة.

أظهرت الأبحاث أنّ وهم المعرفة ينشأ غالبًا من ميل الأفراد إلى الاعتماد على الاستدلالات السريعة أو الاختصارات الذهنية لفهم المعلومات المعقدة. قد يكون هذا الأمر إشكاليًا على وجه الخصوص في مجالات مثل المالية أو الطب، حيث قد تترتب عواقب وخيمة على القرارات المتخذة بناءً على معلومات ناقصة أو غير دقيقة. كما تشير الأبحاث إلى أن الناس أكثر عرضة لوهم المعرفة عندما لا يتلقون ملاحظات على أدائهم، أو عندما يُمدحون على قدراتهم دون تبرير كاف.

من المهم أن يكون الناس على وعي بالمخاطر المرتبطة بوهم المعرفة، مع السعي لتحصين النفس ضدها. هذا يُعرف بتأثير وهم المعرفة أو تأثير دانينغ-كروجر، والذين يقعون في هذا الوهم غالبًا ما يتخذون قرارات سيئة بسبب افتراضاتهم الخاطئة وعدم إدراك حدود قدراتهم.

يتمثل خطر وهم المعرفة في أنه قد يؤدي إلى شعور زائف بالثقة، مما يفضي إلى ارتكاب أخطاء ذات عواقب وخيمة محتملة.

وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار المعرفة الزائفة

لقد سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي على الناس الوصول إلى المعلومات ومشاركتها مع الآخرين وخوض النقاشات التي ترسخ معتقداتهم. ومع ذلك، فهذه السهولة في الوصول للمعرفة يصحبها جانب سلبي خطير، وهو انتشار المعلومات الزائفة التي تؤدي إلى وهم المعرفة.

صُممت وسائل التواصل الاجتماعي في الأساس لإنشاء روابط بين الناس وتشجيع بناء المجتمعات، لكنها مع ذلك قد تُستخدم كأداة لنشر المعلومات المضللة والدعاية. خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعطي الأولوية للمحتوى بناءً على عدد الإعجابات والمشاركات عوضًا عن الدقة أو المصداقية. وهذا يعني أن القصص الموضوعة قد تنتشر كالنار في الهشيم، بينما يتم إهمال المحتوى الواقعي لأنه لا يأتي بالتفاعل المطلوب.

متلازمة السلطة الزائفة

يُعرف وهم الخبرة أيضًا بمتلازمة السلطة الزائفة، وهي تشير إلى ميل الناس إلى افتراض أنهم يعلمون أكثر من معرفتهم الحقيقية. يظهر خطر هذه المتلازمة على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات وحل المشكلات.

تُعد تحيزاتنا المعرفية الفطرية أحد أسباب هذه المشكلة، فنحن نميل إلى المبالغة في تقدير قدراتنا ومعرفتنا بسبب الأنا البشرية والانحياز للمصلحة الذاتية. إضافة لذلك، غالبًا ما نفرط في الثقة بما نعلمه لأننا تعرضنا لمعلومات كثيرة حول موضوع معين، وإن كان كثير منها غير دقيق أو غير مكتمل.

إنّ وهم المعرفة مشكلة كبيرة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد في جميع المجالات. لا بد من معرفة ما لا نعلم وإدراك مواطن ضعفنا حتى نفهم الواقع بصورة أدق. يعد الاعتراف بجهلنا ولزوم التواضع الفكري هو المفتاح لفهم العالم من حولنا بطريقة أفضل، واستخدام الأدلة لحل المشكلات الكبرى. الأمر يتطلب ذهنًا متفتحًا ورغبة في التعلم وتأملًا ذاتيًا منتظمًا.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

وهم المعرفة قراءة المزيد »

فن القراءة البطيئة

Picture of كتابة: دان إريكسون
كتابة: دان إريكسون

ترجمة: يارا عمار

pexels-kayvanibrahim-6399567

في هذا العصر الرقمي، ومع توفر المعلومات في متناول أيدينا باستمرار، اكتسب كثير منا بلا وعي عادةَ تصفح النصوص بسرعة بحثًا عن الإشباع الفوري والإجابات السريعة. لقد عوّدتنا الوفرة الهائلة في المحتوى على الإنترنت على الانتقال بسرعة من معلومة إلى أخرى دون أن نهضم ما قرأناه غالبًا. وفي خضم دوامة الاستهلاك السريع للمحتوى، تبرز حركة مضادة لهذا الاتجاه: فن القراءة البطيئة.

هذا النهج يشجع القراء على التمهّل في القراءة، من أجل تذوق كل كلمة وفهم المادة المقروءة فهمًا حقيقيًا، كما تتذوق كل لقمة من وجبة شهية.

نشأة القراءة البطيئة – ما هي القراءة البطيئة؟

كانت القراءة في الماضي رفاهيةً، فقد كانت المخطوطات نادرة وثمينة في الحضارات القديمة، وكانت القراءة نشاطًا متأنيًا وغالبًا ما يمارَس جماعيًا. ثم مع توفر الكتب، خاصة بعد اختراع الآلة الطابعة، أخذت الممارسات القرائية في التطور.

إلا أنّ حلول العصر الرقمي، مع الهواتف الذكية وأجهزة القراءة الإلكترونية والسيل المتدفق للمحتوى على الإنترنت، قد غيّر عاداتنا القرائية تغييرًا جذريًا. مما لا شك فيه أن التكنولوجيا -بإشعاراتها وروابطها كثيرة التشعّب ومشتتات الوسائط المتعددة- أثرت على سرعتنا في القراءة وعمق فهمنا للنصوص. فرغم أنها يسّرت الوصول للمعلومات التي نحتاجها، إلا أنها عززت أيضًا ثقافة التفاعل السطحي مع النصوص.

فوائد القراءة البطيئة

للقراءة البطيئة عدد من الفوائد المتنوعة التي تتجاوز مجرد فهم النص، فهي أولًا: تعزز استيعاب المعلومات وحفظها إلى حد كبير، فقضاء وقت في التفكير مليًا في كل جملة يعيننا على استيعاب الفروق الدقيقة وتعقيدات النص، مما يزيد تجربتنا القرائية ثراءً.

كما أن القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة، فالانغماس في النص، سواء كان رواية أو قصيدة أو حتى عملًا غير روائي، يساعد على التفاعل العميق مع مشاعر الكاتب ومقاصده ورسائله الخفية. الأمر أشبه بإجراء محادثة عميقة مع صديق حيث تكون حاضرًا مشاركًا بكل حواسك ومستمعًا بانتباه، مقابل الدردشة السريعة المليئة بالمشتتات.

أخيرًا، تُعد القراءة البطيئة شكلًا من أشكال اليقظة الذهنية في ظل عصرنا سريع الخطى والمليء بالمحفزات المستمرة. إنها نشاط تأملي يتطلب التركيز والحضور الذهني، مما يساعدنا على التخفيف من الضغط النفسي وعيش اللحظة التي نحن فيها. وكما أن ممارسة اليقظة الذهنية في أنشطتنا اليومية أمر مرغوب، فكذلك يحسُن ممارستها أثناء القراءة حيث ستكون مصدرًا للاسترخاء وتجديد الطاقة الذهنية.

أساليب تنمية عادة القراءة البطيئة

إنّ دمج القراءة البطيئة في حياتنا اليومية يتطلب جهدًا متعمدًا، لا سيما ونحن مُحاطون بثقافة تعطي الأولوية للسرعة على العمق. فيما يلي بضع طرق تعين على تنمية عادة القراءة البطيئة:

  • تحديد وقت مخصص للقراءة: كما أننا قد نحدد وقتًا لممارسة الرياضة أو التأمل، كذلك من المفيد أن نقتطع أوقاتًا ونخصصها للقراءة، ربما نصف ساعة هادئة في الصباح مع كوب من القهوة أو في المساء قبل النوم، فوجود روتين محدد يجعل الأمر عادة.
  • تهيئة بيئة مواتية للقراءة: اختر مكانًا مريحًا خاليًا من المشتتات، سواء جانب مريح في غرفة المعيشة أو ركن مخصص للقراءة أو حتى حديقة محلية، المهم أن تختار مكانًا تستطيع فيه أن تنغمس في النص بعيدًا عن أصوات الإشعارات المستمرة أو غيرها من عوامل التشتيت.
  • استخدام الأدوات المساعدة لتحسين التفاعل: تفاعل مع النص بنشاط، بإضافة التعليقات التوضيحية أو تظليل المقاطع الرئيسية أو تدوين الأفكار على الهوامش أو في دفتر منفصل، فإنّ ذلك يعمّق فهمك للنص ويجعل تجربتك القرائية غنية ومفيدة. هذه الممارسات لا تفيد في حفظ المعلومات فحسب، بل تدفعنا أيضًا إلى التأمل في أهمية المادة المقروءة بالنسبة لنا.

دور الكتب الورقية في القراءة البطيئة

لأجهزة القراءة الإلكترونية والكتب الصوتية مزاياها في العصر الرقمي، إلا أن هناك شيئًا مميزًا في تجربة قراءة كتاب ورقي.

  • التجربة الحسية: إنّ حمل الكتاب والشعور بثقله وتقليب صفحاته يربطنا بالقراءة بطريقة ملموسة. هذا الاتصال المباشر يؤثر على وتيرة القراءة، مما يشجعنا على التمهّل والاستمتاع بكل صفحة.
  • رؤية التقدم: إنّ ملاحظة التقدم الذي نحرزه ونحن نقرأ كتابًا يبعث على الشعور بالارتياح النفسي، فمشاهدة الجانب الأمامي للكتاب يزداد سمكًا مع تقلص الجانب الخلفي بالتدريج يُشعر بالإنجاز وقد يدفعنا لمواصلة القراءة.

التخلص من السموم الرقمية: تقليل وقت الشاشة من أجل قراءة أفضل

في حين أن المنصات الرقمية تسهّل حياتنا، إلا أنها تطرح عددًا من التحديات خاصة فيما يتعلق بتجربة القراءة.

  • آثار إجهاد العين: قد يؤدي التعرّض المطوّل للشاشات إلى إجهاد العين والصداع وانخفاض معدل الاستيعاب. ولذلك فإن الإضاءة الخلفية للشاشات واعتياد التمرير بسرعة يمكن أن يعيق التجربة العميقة والتفاعلية التي تحققها القراءة البطيئة.
  • الموازنة بين قراءة الكتب الرقمية والورقية: من الضروري أن تحقق توازنًا يناسب ظروفك الشخصية. إن كنت تستمتع بالكتب الإلكترونية أو الصوتية، فخصص لها أوقاتًا محددة وأوقاتًا أخرى للكتب الورقية، واحرص على أخذ استراحات بانتظام إن كنت تقرأ رقميًا. يحسُن أيضًا أن تحاول منع استخدام الأجهزة الإلكترونية بضعة أيام، فلا تقرأ فيها إلا الكتب الورقية. هذا التوازن يخفف من إجهاد العين ويشجع على القراءة بتأنٍ وتركيز أكثر.

التفاعل مع النص: ما وراء القراءة

القراءة ليست مجرد عملية تلقّي حيث تتدفق الكلمات من الصفحة إلى أذهاننا، بل علينا أن نتفاعل مع النص حتى ننغمس فيه حقًا ونستخرج معانيه العميقة. إليك الطريقة:

  • إعادة القراءة للتعمق في المعاني: عندما أقرأ رواية لأول مرة فغالبًا ما أندمج في الحبكة متشوقًا لاكتشاف الأحداث التالية. لكن عندما أعود إليها مرة أخرى ألاحظ الفروق الدقيقة والرمزية وتعقيدات تطور الشخصية التي ربما لم أنتبه لها في القراءة الأولى. تمكّننا إعادة القراءة من الغوص في أعماق النص وتذوقه واكتشاف تفاصيل قد نغفلها في القراءة الأولى.
  • المناقشة في المجموعات القرائية أو أندية القراءة: يوجد شيء سحري في مناقشة كتاب مع القراء الآخرين، حيث يعرض كل واحد آراءه وتفسيراته وتجاربه الشخصية. غالبًا ما أجد فهمي للنص يتوسّع ويتعمق بعد النقاشات الحيوية في الأندية القرائية. هذا تذكير بأن الأدب تجربة مشتركة، وحوار بين المؤلف والنص والقارئ.
  • كتابة التأملات أو المراجعات: يعجبني تدوين أفكاري خاصة بعد إنهاء كتاب مؤثر، سواء في شكل تأملات شخصية، أو التفكير في الرابط بين النص وتجاربي الشخصية، أو في شكل مراجعة رسمية. إنّ الكتابة على ترسخ الفهم في أذهاننا، والتعبير عن أفكارنا وصياغتها تزيد المعاني وضوحًا.

القراءة البطيئة في التعليم

أحيانًا يُغفل عن قيمة القراءة البطيئة في بيئاتنا التعليمية سريعة الخطى، حيث يتعين على الطلاب التوفيق بين العديد من المهام والقراءات. لكن من المهم أن تكون القراءة البطيئة جزءً لا يتجزأ من المنهج الدراسي للأسباب التالية:

  • تدريس أساليب القراءة البطيئة في المدارس: عندما أرجع بتفكيري إلى أيام الدراسة أتذكر ضغط القراءة السريعة النصوص لاستخراج المعلومات الأساسية بسرعة. لكن ماذا لو علّمنا طلابنا فن القراءة البطيئة وشجعناهم على أخذ وقتهم في القراءة وتذوق كل كلمة والتأمل في المعاني العميقة للنص؟ هذا النهج يمكن أن يغرس فيهم الحب الصادق للقراءة، وينمّي الفهم العميق للمادة المقروءة.
  • تحسين التفكير النقدي والمهارات التحليلية: القراءة البطيئة لا تتعلق بالوتيرة فحسب، بل بعُمق فهم النص كذلك. تتطور المهارات التحليلية للطلاب عندما يغوصون في أعماق النصوص، فيستطيعون تمييز الموضوعات والدوافع وتطور الشخصيات. وهذا النوع من التحليل العميق يعزز التفكير النقدي، وهو مهارة ثمينة في الحياة، وليس في البيئات الأكاديمية فحسب.

التغلب على تحديات القراءة البطيئة

إننا في الوقت الراهن غارقون في تدفق مستمر من المعلومات والمقالات والكتب، ولذلك قد تبدو فكرة القراءة البطيئة غير منطقية. كيف نواكب كل ذلك إن كنا نستغرق وقتًا في كل نص؟ إليك طريقة التعامل مع هذه التحديات:

  • معالجة الخوف من فوات الفرص (قلق الفومو): أعترف بأنه كثيرًا ما تلح عليّ فكرة قراءة أحدث الكتب الأكثر مبيعًا، أو المقالة الرائجة، أو الكتاب الذي يتحدث عنه الجميع. لكن أدركت بمرور الوقت أن القراءة ليست سباقًا. لا بأس بأن يفوتك بعض المحتوى إن كان ذلك يعني أن تفهم وتتفاعل بصدق مع ما اخترت قراءته. تذكّر أنّ الجودة أهم من الكمية.
  • الانتقال من القراءة السريعة إلى القراءة البطيئة: قد يصعب عليك الانتقال إلى القراءة البطيئة إن كنت معتادًا على التصفح السريع للمقالات أو العجلة أثناء قراءة الكتب. أنصحك بأن تبدأ بدايةً يسيرة: خصص وقتًا محددًا كل يوم للقراءة بتأني، وإن كان عشر دقائق، ثم مدّد هذا الوقت تدريجيًا كما شعرت بالتعود على القراءة البطيئة. تذكّر أن العبرة ليست بعدد الصفحات التي تقلّبها، بل بعمق تفاعلك مع كل صفحة.

خاتمة

قد تبدو القراءة البطيئة رفاهية في عالمنا الرقمي السريع، لكنها في الواقع ضرورة لمَن يرغب في فهم النصوص التي يقرأها والتفاعل معها. أحثك يا عزيزي القارئ على خوض التجربة، حدد وقتًا واختر كتابًا وانهمك في صفحاته. استمتع بفن القراءة البطيئة واستكشف المتعة البالغة والفوائد الجمة التي ستعود على حياتك. تذكر أن التأني في القراءة -كما في الحياة- هو الأفضل أحيانًا.

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها

فن القراءة البطيئة قراءة المزيد »

فضيلة الافتقار

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-despoina-apostolidou-136436784-16764893

دوما عزيزي القارئ لا تحكم على الفكرة من عنوان أو قوالب ذهنية مسبقة في فكرك فتكن أسيرا عندها، تحكم أو تقوّم الأفكار من خلالها، فالافتقار بمفهومه الشائع والمتداول فكرة مدعاة إلى الضجر والضيق، بل الهروب منها، إلا أننا عندما نتأمل ونفكر بالافتقار من حيث ملاصقته بالإنسان نلمس فيه فضائل متعددة، ومحركات إلى السعي والطلب، والأمور بنتائجها ولو كانت الوسائل شاقة.

فضيلة الافتقار ذاتية المرجع، وحتمية الوقوع، فالإنسان كائن افتقاري ولو كان غنيا -بالمفهوم الضيق للغنى- كونه يفتقر إلى الصواب، والحكمة، والعلم، والأخلاق، والتفكير، والفلسفة، يفتقر إلى الاستشعار والشعور، ألم يقل الفرزدق يوما: “لنزع ضرس أهون عندي من قول بيت شعر”، معبرًا عن فقد الشعور الذي يمده بالمعاني والألفاظ.

الإنسان يفتقر إلى الطعام والشراب، والغريزة، فنحن نفتقر في اليوم عشرات المرات، حتى الملل الذي يرافقنا هو افتقار لكنه افتقار لشيء غير معلوم. لكن السؤال: متى يكون الافتقار فضيلة؟

تدل كلمة الفقر في اللغة على فراغ نافذ في العمق وانفراج في الشيء، ومن هنا ينشأ معنى الافتقار إذ هو الفقر مضافا إلى الشعور على سد الفراغ والانفراج.

فالافتقار محرك أساس للشعور، والافتقار شغف، وهو اكتناز؛ بوصفه محفزا إلى الطلب والتزود، والطلب لا يكون إلا بطريقة أو سيلة، فيسعى إلى تحصيل الوسيلة، وهكذا يظل سائرا في الطريق رغبة في الوصول، يحركه افتقاره إلى بغيته، بخلاف الممتلئ الذي قد غره الوهم بالشبع والاكتفاء، ولذلك لا يكون الإنسان غنيا حتى يوقن أنه فقير، ويكون فقيرا إذا شعر أنه غني، وهذه هُويته، لذلك لا يُؤمل بتحقيق الأمنيات والمعالي إلا عند من يشعر بالافتقار؛ فيحركه ذلك الشعور إلى مكتنزات الأفكار ودقائق السبل الموصلة.

فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني، إذ الافتقار البصير يغني صاحبه، والاستغناء بالمادي يفقر طالبه، فالدين افتقار روحي وعملي، والعلم افتقار معرفي، والتفكير افتقار إنساني، والكتابة افتقار حواري، والحرفة افتقار للفن، والقراءة افتقار تأملي، والدعاء افتقار كلي، وقل مثل ذلك في أي قيمة كانت عليا أو دنيا بأي شيء تفتقر، وقريب من ذلك قول ابن حزم: “وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم”. فالافتقار من مباهج النفس الحية التي تشعر وتدرك، والحكمة كما ذكرنا عن ماذا تفتقر، والمكسب الحقيقي كيف نوجه الافتقار إلى ما يزيدنا نضجا وحكمة.

إن الدروس في الحياة والعبر، واغتنام الحكمة تلزم من قبولها نفس مفتقرة شاعرة بافتقارها ونقصها، وما أحكم المعنى الذي قاله الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى                 فصادف قلباً خالياً فتمكّنا

إن من أخطر ما يهدد فضيلة الافتقار داء الامتلاء وهو داء يوهم النفس بغناها واستغنائها، وأكثر ما يتمركز هذا الداء في المال، حتى يصل الظن بالإنسان إلى أن المال سيخلده، أو أن المال الذي معه سيظل خالدا، وصدق الحق: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة:3.

فضيلة الافتقار من ثمار فضيلة الترك؛ التي بدورها تفرغ النفس من شوائب ما يسلب فضائلها فتفتح مساحة للفكر والعقل والخيال والنفس، وتقبل ما يردها من سوانح معالي الأمور وفضائلها، ولا تخلق الدهشة بالفكر إلا في نفس مفتقرة، يكون فراغها مستوعبا القدرة على التساؤلات، وتحويل البديهي إلى وعي يحيط الأشياء بالاستغراب والشك، ولذلك مكتباتنا المليئة بالكتب لا يحركنا إلى مجلداتها إلا الشعور بالافتقار إلى ما فيها، إلى ما يثري تجارب الحياة وينضجها، تشعرنا بضرورة التزود من شتى حقول المعرفة.

نحن بحاجة إلى أن نخلص المفاهيم من الماديات التي صبغت بها المعاني، فالغنى ليس غنى المال، والفقر ليس عدم الامتلاك، وإن كان هذا المفهوم نسبي أو جزء من هذا المعنى إلا أنه لا يشكله بكليته، فوراء هذه المفاهيم دلالات عميقة تختبئ في تجارب الناجحين الذين ملأت إنجازاتهم دفاتر الحياة، واستغرقت حضارات الدنيا، فكل سؤال، وكل نظرية، وكل بيت من الشعر، وكل إنجاز، يبدأ بافتقار، وما إن ينتهي حتى يبدأ افتقار آخر وهكذا.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا أقرأ؟ وهل عليّ حقًا الإجابة عن هذا السؤال؟
من أراد الابتداء بتلخيص كتاب من كتبه فليبدأ أولاً بالمقدمة، ويركز عليها كثيراً.
ما ينفك التلازم المنطقي بين معنى التذوُّق ومعنى الجمال، فالعلاقة بينهما تبادلية.

فضيلة الافتقار قراءة المزيد »