هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟

قبل أن أُرزق بمولودٍ ذكر؛ استحال عليّ فهم العلاقة بين الابن وأبيه، وذلك لأن أبي توفّي عنّا ولم أبلغ الخامسة من عمري. ولا أجد له في ذاكرتي سوى مقاطع متفرّقة لا تشفع بتكوين صورةٍ متكاملة عن طبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء، ولا أجد في نفسي مشاعر حقيقيّة حيال هذه العلاقة، وبالتالي لم أستطع التفريق بين هذه العلاقة وعلاقة الإنسان بأمه حتى وقت قريب. وطالما تساءلت:
- ما طبيعة العلاقة بين الابن وأبيه إن لم تكن عاطفةً محضة، وأمنيات كبيرة، ودعوات مستمرة، وغزيرة؟
- وهل يجب أن يُحب الأب ابنه حبًّا رقيقًا كما تحبُّه أمه؟
- وهل القرد في عين أبيه غزالًا كما هو حاله في عيون الأمهات؟
في الأدب الحديث بقطبيه الشرقيّ والغربي، جاءت محاولات عدّة في زجّ الأب داخل حلبةٍ من المقارنات مع الأم، وهذا لا يتم إلا بافتراض تقاربٍ مفتعل بين دوريهما. فمثلا جاء في الأدب الغربي في محاولات كثيرة؛ الأب الذي يقوم بدور الأم بعد أن تُفقد الأم أو تقرر التخلي عن ابنها أو بنتها. الأب الحنون الذي يعطي بلا مقدمات ويقدّم الحنان على التوجيه، والعاطفة على العقل، ويكبر ويتّسع حضنه أكثر مما يُتكأ على كتفه وظهره. حاول بعضهم لفت النظر لهذا النوع من الآباء الذين حتّمت عليهم الظروف لعب دور الأبوّة والأمومة معًا، وصارت مقارنة عاطفة الأب بعاطفة الأم مقبولة من هذا الباب، لكني أجدها محاولات بائسة ولا تمثل واقع الرجل الحقيقي الذي نعرفه في الشرق وفي الغرب.
وجاء في الأدب الحديث محاولات كثيرة لمقاربة هذه العلاقة، وفهم دور الأب بعيدًا عن الأم، وحينا بالمقارنة معها. والذي يهمنا في هذا السياق والأشهر في هذا الصدد رواية البؤساء لفيكتور هوغو، والذي حاول فيها تصوير علاقة الأب بـابنته حتى وإن كانت علاقةً بالتبنّي. “فالجان”بطل قصّتنا؛ يختار طواعيةً منه تبنّي الفتاة “كوزيت”، وهو باختياره تبنّي هذه الطفلة الوحيدة والمظلومة يشبه كل الآباء في كل زمان ومكان. الأب يختار حب الذريّة لا يُوهبها كما في حالة الأم. فالقصّة تلخّص عاطفة الأب تجاه بنيه بشكلها الطبيعي. أن يكبر الحب وينمو مع الأيام، ولكنها لا ترقى لأن تصوّر الأب كأم ثانية بمعنى الحاضنة والحنونة والعاطفيّة.
وفي المقابل، قصة ذكرها المفكر عبد الوهاب المسيري وكانت حجرَ أساس في هدايته للإيمان بوجود الله بعد أن كان في شكٍّ من ذلك في أول حياته. يذكر أنه لما بلغ مبلغ الرجال وقرر الزواج، وقد أحب زميلته في الجامعة وعزم على الدخول بها بعد أن تمدد الحب وكبُر بين الإثنين، فكان أن تُوّج هذا الحب بالزواج. ومضت الحياة كما يتوقعها متلذذا بالحب ومغمورًا به إلى أن جاءت اللحظة التي تبدّل فيها كل شيء؛ لحظة الولادة. ذُهل صاحبنا من عاطفة الأم المفاجئة التي نشأت بلا مقدّمات مع ولادة المولود الجديد، وأن الفتاة صارت تحب هذا المخلوق الجديد والضعيف وكثير البكاء أكثر منه. وهو الذي بذل وأعطى وضحّى حتى استحق حبّها وحنانها ورعايتها، أما هذا المخلوق الصغير فماذا فعل حتى تحبّه كل هذا الحب، وتُؤثره على كل أحد. لم يستوعب هذه العلاقة الجديدة والتي هي فطريّة وبلا شروط. ما أن تلد المرأة حتى تحبّ مولودها وتتفانى في هذه المحبة. بعكس الرجل الذي ينمو حب أولاده فيه مع الوقت، لا يأتي دفعةً واحدة. من هذه الحادثة علِم يقينًا أن الذي وهبهم هذا الطفل لم يتركه عبثًا وفجّر قلب أمه بالعاطفة والحب حتى ترعاه حق الرعاية، ومن هنا علِم أن الإنسان لم يُخلق عبثًا وأن الطبيعة لا تعمل من تلقاء نفسها، بل بـ تدبير الله وحكمته.
ووجدت في نفسي بعد أن صرتُ أبًا أن الأب لا يمكن أن يكون أمًّا ثانية، وأنه رغم قربه ووالديّته؛ عقل مدبّر ومتّزن أكثر مما هو قلبٌ مخلصٌ ومحبّ. فالابن ليس في عين أبيه غزالًا، لأن الأبَ لا يغض الطرف عن مساوئ الأبناء كما تفعل الأم وتلهج لربّها لهم بالدعاء.
وهذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء. الأب كالعصا التي تنذر بالعقاب ليستقيم سيرك وتنضبط برؤيته أنت وغيرك، بينما الأم كالحياة التي تُوهب بلا مقدّمات. هي هبة ربّانية خالصة؛ وتظل كما هي حتى آخر يوم من العمر.
الأب هو المُؤدّب والمُؤدب لابد له من عصا، والعصا هنا رمزيّتها أبعد من النزعة للعقاب، بل قد تجيء بمعنى السند الذي يُتّكأ عليه، والمعيل الذي يُهَشّ بها عليهم. فهكذا وصف نبي الله موسى عليه السلام عصاه: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)). والهشُّ: “أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود”. وهنا يتجلّى دور الأب الحقيقي، الذي يأتي بمعنى المقوّم للخطأ، والسند الذي يُتكأ عليه، والمعيل الذي يُلتفت إليه لما تتكوّن الرغبات.
والأب حضن دافئ مالم تخرج عن طاعته أو تخالف التوقعات، فهنا تضطرب في قلبه العاطفة وربّما خاب أمله وانحنى ظهره وآثر الصمت على الكلام، ونقص في قلبه الحب والاهتمام، بينما الأم تظل حضنًا دافئًا لك حتى وإن كنتَ طاغيةً مجرمًا شريرًا.
والأب بحسب تضحياته وكثرة مسؤوليّاته يظن ظن المتيقّن أن الأبناء سيفعلون الشيء ذاته، حين يطول به العمر ويحتاج فيه لهم. فهو ينظر إليهم نظرته للعصا، تلك التي سيتكئ عليها بينما كان يهشّ بها على نفسه والعيال. فالعصا هنا تجيء بمعنى أن يكون الأب هو السند الذي يعوّل عليه الأبناء، ثم تلعب الدور ذاته حين يتقدم بالأب العمر، فيكون الابناء هم العصا التي يتكئ عليها في كبره والتي تهشّ عليه من ورق الشجر وثمره.
وكما يقول جاسم الصحيّح:
روحُ الأُبُوَّةِ تحمينا من الكِبَرِ ما مِنْ أبٍ فائضٍ عن حاجةِ البشرِ
ما مِن أبٍ فائضٍ عن حجمِ لهفتِنا للحُبِّ.. للفطرةِ الأسمى من الفِطَرِ
آباؤُنا! يا لَأَفعالٍ مُضارِعةٍ مرفوعةٍ بالضَّنا والكدِّ والسهرِ
هُمْ يحملونَ الليالي عن كواهلِنا فيكبرونَ، ونبقى نحنُ في الصِّغَرِ
والخلاصة أن كلاهما يحبّ ضناه ويسعى بجَهدهِ ووقتهِ ومالِه لمضاعفةِ سعادتهم وتقليلِ آلامهم على طريقته وما جُبل عليه منذ اليوم الأول من مجيئهم إلى الدنيا، ولكن كلٌ بما جُبل عليه.
لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل
هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟ قراءة المزيد »