المقالات

القراءة الجهرية للأطفال وأثرها على السلوك والانتباه

pexels-tara-winstead-6692845

من المسلّمات في مجال نموّ الطفل أن الأطفال الصغار يتعلمون من خلال العلاقات والتفاعلات المتبادلة، بما في ذلك التفاعلات التي تحدث عندما يقرأ لهم الآباء. تقدم إحدى الدراسات الحديثة دليلًا على مدى التأثير المستدام للقراءة واللعب مع الأطفال الصغار، حيث تشكّل تطورهم الاجتماعي والعاطفي بطرق تتجاوز مساعدتهم على تعلم اللغة ومهارات القراءة المبكرة. وجدت الدراسة أن اللحظات التي يقضيها أحد الوالدين والطفل مع الكتاب تساعد في الحد من المشكلات السلوكية، كالعدوانية وفرط الحركة وصعوبة الانتباه.

قال الدكتور آلان مندلسون، الأستاذ المساعد في طب الأطفال بكلية الطب جامعة نيويورك، والباحث الرئيسي في دراسة نشرت في مجلة طب الأطفال تحت عنوان (القراءة الجهرية واللعب والتطور الاجتماعي والعاطفي): “نحن نرى القراءة من زوايا مختلفة كثيرة، لكن هذه الدراسة تقدم منظورًا جديدًا لم نفكر فيه من قبل”.

أظهر الباحثون -وكثير منهم أصدقاء وزملاء لي- أن هذا التدخل القائم على الرعاية الأولية للأطفال، والذي يهدف إلى تشجيع الآباء على القراءة الجهرية واللعب مع أطفالهم الصغار يمكن أن يحدث تأثيرًا مستدامًا على سلوك الأطفال.

شملت الدراسة 675 أسرة تتراوح أعمار أطفالهم من سن الولادة إلى خمس سنوات. كانت تجربةً عشوائية تلقت فيها 225 أسرة التدخل المسمى بمشروع  الفيديو التفاعلي، بينما ظلت الأسر المتبقية كمجموعة مقارنة. طُور نموذج المشروع في الأصل عام 1998، ودرسته هذه المجموعة البحثية على نطاق واسع منذ ذلك الحين.  

مُنحت الأسر المشاركة كتبًا وألعابًا أثناء زيارتهم عيادة الأطفال، واجتمعوا مدة وجيزة مع مدرب التربية في البرنامج للتحدث عن نمو أبنائهم، وما لاحظه الآباء، وما قد يُتوقع من الناحية التنموية، ثم صُوروا بالفيديو وهم يلعبون ويقرأون مع أطفالهم لمدة خمس دقائق (أو أطول قليلًا في الجزء من الدراسة الذي استمر حتى سنوات ما قبل المدرسة). وبعد ذلك مباشرة شاهدوا المقطع المسجل مع أخصائي التدخل في الدراسة، والذي وضّح لهم استجابات الطفل.

قالت أدريانا ويزليدر، وهي مؤلفة مشاركة في الدراسة وأستاذة مساعدة في قسم علوم الاتصال والاضطرابات في جامعة نورث ويسترن “شاهد الآباء أنفسهم على أشرطة الفيديو المسجلة، مما كشف لهم عن طريقة تفاعل أطفالهم معهم عند القيام بأشياء مختلفة. لقد حاولنا أن نسلط الضوء على الأمور الإيجابية في هذا التفاعل. قد يشعر الوالدان أن ما يقومون به سخيف بعض الشيء، ثم نعرض لهم على الشريط مدى حب طفلهم لهذه الأشياء واستمتاعه بها. هذا محفز للغاية”.

وقال الدكتور بينارد دراير، أستاذ طب الأطفال في كلية الطب بجامعة نيويورك والرئيس السابق للأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، وهو المؤلف الرئيسي للدراسة “إن أنشطة التربية الإيجابية تؤثر تأثيرًا حقيقيًا على الأطفال”. لقد لاحظ أن الفترة الحرجة في نمو الطفل تبدأ من الميلاد، وهو الوقت الذي تكثر فيه زيارات طبيب الأطفال، ويضيف “هذه فرصة رائعة لنا للوصول إلى الآباء ومساعدتهم على تحسين مهارات الوالدية، وهو ما يريدونه”.

بدأ مشروع الفيديو التفاعلي كبرنامج للرضّع والأطفال الصغار من الميلاد إلى سن الثالثة، وكان يركز على الأسر الحضرية منخفضة الدخل في نيويورك أثناء زياراتهم العيادات. أظهرت بيانات منشورة سابقًا من تجربة عشوائية مضبوطة بتمويل من المعهد الوطني لصحة الطفل والتنمية البشرية أن الأطفال في سن الثالثة الذين تلقوا التدخل قد تحسّنوا سلوكيًا – أي أنهم كانوا أقل عرضة للعدوانية وفرط الحركة مقارنةً بالأطفال في مثل سنهم في المجموعة الضابطة.

فحصت هذه الدراسة الجديدة أولئك الأطفال بعد عام ونصف -قريبًا من دخول المدرسة- ووجدت أن التأثيرات على السلوك ما زالت مستمرة. كما كان الأطفال المشاركين الأصغر سنًا أقل عرضة لظهور المشكلات السلوكية -العدوانية، فرط الحركة، صعوبة الانتباه- التي تصعّب على الأطفال التفوق والتعلم والازدهار عند الالتحاق بالمدرسة.

انضم بعض الأطفال إلى مرحلة ثانية من المشروع، وحصلوا على كتب وألعابًا وصُوروا أيضًا أثناء زياراتهم العيادة من سن الثالثة إلى الخامسة. تبيّن أن هناك علاقة مباشرة بين زيادة جرعة التدخل وتحسن سلوك الأطفال، فزيادة التعرض لأساليب “التربية الإيجابية” يعني تأثيرات إيجابية أقوى.

قال الدكتور مندلسون “إن انخفاض فرط الحركة يعني انخفاض المستويات المَرضية التي تستدعي تدخلًا طبيًا، نحن بذلك قد نساعد بعض الأطفال حتى لا يحتاجوا إلى الخضوع لأنواع معنية من التقييمات”. إن الأطفال الذين ينشؤون في ظل الفقر معرّضون بدرجة أكبر بكثير لخطر المشكلات السلوكية في المدرسة، ولذا فإن تقليل خطر مشكلات الانتباه والسلوك هذه من أهم الاستراتيجيات للحد من الفوارق التعليمية، وكذلك تحسين المهارات اللغوية عند الأطفال – مصدرٌ آخر للمشكلات المدرسية التي يعاني منها الأطفال الفقراء.

لكن ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة واللعب على التطور المعرفي والاجتماعي والعاطفي، بالإضافة إلى قيمة اهتماهم في مساعدة الطفل على الازدهار. قالت الدكتورة فايزليدر إن الأطفال أثناء اللعب والقراءة يواجهون مواقف أصعب مما يواجهونه في الحياة اليومية عادة، ويمكن أن يساعدهم الكبار في التفكير في كيفية إدارة هذه المواقف.

تقول “الإكثار من القراءة واللعب يقلل المشكلات السلوكية عند الأطفال بشكل مباشر، ذلك لأنها تُشعرهم بالسعادة، كما تجعل الأبوين يستمتعون بطفلهم ويرون هذه العلاقة بنظرة إيجابية”.

قد توفر القراءة الجهرية والألعاب التخيلية فرصًا اجتماعية وعاطفية خاصة. يقول الدكتور مندلسون “عندما يُكثر الآباء من القراءة واللعب مع الأطفال، فإنه تتاح لهم فرصة التفكير في الشخصيات، وفي مشاعر تلك الشخصيات. فيتعلمون استخدام الكلمات لوصف المشاعر التي قد يصعب عليهم الإفصاح عنها، وهذا يمكّنهم من ضبط سلوكهم عندما يمرون بمشاعر سلبية كالغضب أو الحزن”.

 “الرسالة الأساسية هنا بالنسبة لي هي أن قراءة الآباء مع أبنائهم واللعب معهم في سن صغيرة جدًا -نتحدث عن سن الميلاد إلى الثالثة- لها تأثيرات كبيرة حقًا على سلوك الأطفال”. وهذا ليس مقتصرًا على الأسر المعرضة للخطر، بل إن “جميع الأسر يجب أن تعلم أنه بقراءتهم مع أبنائهم ولعبهم معهم يساعدونهم على تعلم ضبط سلوكهم” مما يهيّئهم للانتباه والتعلم في المدرسة.

المصدر 

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

القراءة الجهرية للأطفال وأثرها على السلوك والانتباه قراءة المزيد »

المراجعات المعادية: عادة بسيطة لقراءة أذكى 

Picture of كتابة: سكوت يونج
كتابة: سكوت يونج

ترجمة: يارا عمار

pexels-karolina-grabowska-5852298

من أكثر العادات التي حسّنت جودة تجربتي القرائية: قراءة الردود المعارضة.

سأقدّم ببيان السياق للتوضيح.

طالما استمتعت بقراءة الكتب التي تعالج أفكارًا تحويلية في مجالات العلوم والأعمال وتطوير الذات، وتتنوع هذه الكتب ما بين الأكثر مبيعًا (مثل أسلحة وجراثيم وفولاذ) إلى الكتب المجهولة نسبيًا (مثل لغز العقل).

في أكثر الحالات لا يكون لدي خبرة عميقة في الموضوع الذي أقرأ عنه، والأدبيات البحثية التي يستشهد بها المؤلف ليست مألوفة لي، وبالتالي لا أدري إن كانت الفكرة المطروحة تمثل رأيًا شبه مجمع عليه أم مجرد نظرية شاذة تتبناها أقلية هامشية.

ونتيجة لذلك قد تؤدي قراءة مثل هذه الكتب إلى نمط شائع:

  1. لا تعرف شيئًا عن الموضوع (س) وأفكارك المسبقة عنه قليلة أو منعدمة.
  2. تقرأ كتابًا يطرح مؤلفه فكرة جريئة (ص) ويدّعي بأنها الطريقة الصحيحة للتفكير في (س)، ويدعم هذا الادعاء باقتباسات منمّقة ورسوم بيانية وردود مبهرة على اعتراضات لم تخطر لك على بال.
  3. تنهي القراءة وأنت على قناعة بأن (ص) هي الطريقة الصحيحة للتفكير في (س).
  4. يشير أحدهم إلى بعض الثغرات الموجودة في (ص)، وربما تطالع كتابًا آخر يفصّل أسباب كون (ص) طريقة خاطئة للتفكير في (س)!
  5. فتشعر بأنك خُدعت، ذلك المؤلف الأصلي الذي طرح الفكرة (ص) قد ضلّلك! ما كان جليًا لم يعد كذلك، ولا تدري ماذا تصدق.

إن مررت بهذه الدورة عدة مرات فمن الصعب ألا تصبح متشككًا. ما الفائدة من قراءة الكتب إن كان الأمر ينتهي غالبًا بخداعك بالأفكار المغلوطة؟ كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟

لماذا لا يُجدي “التفكير النقدي”؟

النصيحة التقليدية لمعالجة هذه المشكلة هي تطوير مهارات “التفكير النقدي”، تتعدد أشكال هذه النصيحة لكن من بينها:

  1. أن نطالب بالأدلة القوية: مثل التجارب العشوائية المضبوطة بتصميمات مسجلة مسبقًا، أو الأساليب الاقتصادية القياسية الدقيقة للتمييز بين الارتباط والسببية، أو العينات الكبيرة. إلا أن مثل هذه الأدلة القوية غير موجودة غالبًا، وإن وُجدت فقد يصعب تجميعها. كثيرًا ما يستشهد المؤلفون بالدراسات المتقَنة التي تدعم استنتاجهم، ويتجاهلون غيرها من الأبحاث المعارضة رغم كونها على نفس القدر من الجودة.
  2. أن نكشف عن الحجج الباطلة والمغالطات المنطقية: يرى آخرون من أنصار التفكير النقدي أننا يجب أن نقرأ بتأنٍّ ونلاحظ الأخطاء المنطقية، فنسأل مثلًا: هل كان ذلك هجومًا شخصيًا؟ هل ارتكب المؤلف مغالطة المصادرة على المطلوب وافترض صحة ما يحاول إثباته؟ يبدو هذا النهج ذكيًا، لكنه يفترض أن جميع الحجج مبنية على الاستنتاج وتُعرض في شكل قياس منطقي، لكن معظم الاستدلال يعتمد على الاستقراء (والاستنباط) وليس الاستنتاج. وفي الوقت ذاته كثير من أخطاء الاستنتاج المنطقي قد تفيد في أشكال أخرى من الاستدلال (على سبيل المثال: هل تفضيل رأي عالم متخصص على رأي شخص عادي على الإنترنت يعد هجومًا شخصيًا؟) لكن هذا النهج ليس حلًا شاملًا لجميع أشكال التفكير الخاطئ.
  3. أن نستثمر جهدًا في دراسة الأفكار بعمق وتشكيل آرائنا بأنفسنا: لا توجد طريقة متبعة على الإطلاق من هذا المنظور، فالتفكير النقدي ببساطة يعني أن نتعامل مع الأفكار بذكاء وألا تنخدع بغير المتقَن منها. عندما نقرأ كتابًا فإننا غالبًا نكون في وضع غير مواتٍ للأسف، فالمؤلف قد أمضى سنوات في دراسة حجة لم نفكر فيها من قبل، وصمم طريقة عرضها بعناية مسبقًا، فيما نحن مطلوب منا أن نرتجل حججًا مضادة أثناء القراءة.

لا أعتقد أن التفكير النقدي مهارة على الإطلاق، بل إن كثيرًا مما نسميه تفكيرًا نقديًا ما هو إلا امتلاك معرفة أكثر عن الموضوع المطروح للمناقشة. يكتشف الخبراء المغالطات المنطقية في بعض الحجج لأنهم غمروا أنفسهم في تاريخ الأفكار والنقاشات في هذا المجال على مدى سنوات، أما المبتدئين فلم يفعلوا ذلك، وبالتالي لا يستطيعون اكتشاف المغالطات المنطقية.

وهنا تكمن الصعوبة: كيف تقرأ كالخبراء دون أن تكون واحدًا منهم؟

المراجعات “المُعادية” مفتاح القراءة بذكاء

 يصعب إعداد رد مدروس لفكرة معروضة بطريقة مُحكمة، إذ يتطلب ذلك خبرةً وجهدًا ذهنيًا أكثر مما يرغب أو يستطيع معظمنا بذله على كتاب اشتريناه لأنه أثار اهتمامنا.

الحل الأمثل أن تبحث عن أفضل الحجج المضادة المطروحة. عادة ما يكون أصحاب هذه الحجج خبراء منافسين في نفس المجال. انظر ما الخطأ الذي يراه هؤلاء الخبراء في فكرة الكتاب؟

قد يظن المرء أن قراءة رد معارض ستؤدي إلى نقض أطروحة الكتاب الأصلية. إن قرأت كتابًا ثم قرأت الرد عليه ألن تشعر بفوضى مُربكة؟

لكن الأمور لا تسير على هذا النحو في الواقع. أكثر الكتب لا تقدم أطروحة واحدة، بل تتضمن مجموعة واسعة من الأفكار وتداعياتها، وعندما تقرأ الردود فإن التركيز يكون على بعض نقاط الضعف الموجودة في حجة المؤلف.

بل إن الردود قد تعزز تقديرك للفكرة الأصلية لأنك تتعرف على الأجزاء التي يؤكدها أشد المنتقدين. عندما يعترف معارضوك بأنك على صواب في أمر ما، فإن هذه علامة قوية على أن هذا الجزء من فكرتك صائب.

والأهم من ذلك، قراءة الردود المدروسة تتطلب الاستعانة بشخص مؤهل يتمتع بالخبرة والتفكير المكثف اللازمَين لاكتشاف الثغرات في الأفكار التحويلية، فمَن أفنى حياته في القراءة والتفكير في موضوع ما سيُحسن في ملاحظة الخطأ ما أكثر منك.

كيف تطبق هذه الاستراتيجية حتى تحسّن تفكيرك

مصدري المفضل للاطلاع على هذا النوع من الردود هو مراجعات الكتب العلمية، فغالبًا ما يكون كتّاب هذه المراجعات خبراء في المجال، على عكس كتّاب المراجعات الصحفية. حتى تجد هذه المراجعات اكتب في محرك الباحث العلمي من جوجل “مراجعة” و”اسم الكتاب” وستظهر لك بعض الأمثلة.

وإن لم يُجد هذا نفعًا فابحث عن الكتاب نفسه على الباحث العلمي واضغط على “تم اقتباسه في” حتى تجد مادة تناقش الكتاب بدلًا من مجرد الإشارة إليه. إن اقتبس العديد من المؤلفين من هذا الكتاب، فابحث عن المراجعات أو الانتقادات ضمن المقالات التي اقتبست العمل الأصلي.  

ماذا عن الكتب التي لا تتوفر لها مراجعات؟ أو التي لا تتعمق مراجعاتها في الفكرة نفسها؟ في هذه الحالة أنتقل إلى البحث عن المصطلحات الأكاديمية التي تشير إلى الأفكار التي يناقشها المؤلف، فمثلًا الحتمية الجغرافية أو البيئية هي الفكرة التي يتناولها كتاب “أسلحة وجراثيم وفولاذ” لجارد دايموند.

إن البحث عن المصطلحات التي تشير إلى الأفكار المطروحة في الكتاب يساعد في الوصول إلى انتقادات تلك الأفكار، وإن لم تكن تستهدف كتابا معينًا. أي فكرة تقريبًا لها اسم، وبمجرد أن تعرف اسمها ستعثر على مَن يتفق معها ومَن يخالفها.

يحسُن هنا أن تستعين بـ ChatGPT  والنماذج اللغوية الكبيرة. لكن انتبه إلى أن مجرد سؤال نموذج لغوي “ما هي أكثر الاعتراضات الواردة على الرأي س؟” لا يضمن لك ملخصًا دقيقًا للأدبيات، لكنه قد يمثل نقطة بداية بتعريفك على بعض المصطلحات المتخصصة التي قد تبحث عنها لاحقًا.

ألا يُطيل هذا وقت القراءة؟

ليس بالضرورة. غالبًا ما تتألف الكتب من بضع مئات من الصفحات، ومراجعة الكتاب لا تتجاوز صفحات معدودة، وحتى قراءة عدد من المراجعات لا تضيف أكثر من 10% من الوقت الإجمالي للقراءة.

تقبل حقيقة نقص أكثر الأفكار

من التحولات التي تحدث عندما تنتظم في هذه العادة أنك تدرك أنّ بعض الحجج لا يوجد لها حجج مضادة قوية، وبعض الأفكار لا يوجد لها عيوب ظاهرة.

لكن أعتقد أن تقبل أنّ أكثر الحجج ناقصة، وأن الأفكار الصحيحة حتى لها ردود معارضة مقنعة، خطوةٌ أساسية للارتقاء بمستوى التفكير، فهو يجنبك التقلبات الشديدة من الاعتقاد الحماسي المتبوع بخيبة الأمل، ويشجعك على النظر إلى القضايا من زوايا مختلفة.

أفضل عادة لتحسين قراءتك أن تسأل بعد كل حجة حماسية “ما الرد عليها؟”

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

المراجعات المعادية: عادة بسيطة لقراءة أذكى  قراءة المزيد »

هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟

pexels-mikhail-nilov-7929356

قبل أن أُرزق بمولودٍ ذكر؛ استحال عليّ فهم العلاقة بين الابن وأبيه، وذلك لأن أبي توفّي عنّا ولم أبلغ الخامسة من عمري. ولا أجد له في ذاكرتي سوى مقاطع متفرّقة لا تشفع بتكوين صورةٍ متكاملة عن طبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء، ولا أجد في نفسي مشاعر حقيقيّة حيال هذه العلاقة، وبالتالي لم أستطع التفريق بين هذه العلاقة وعلاقة الإنسان بأمه حتى وقت قريب. وطالما تساءلت:

  • ما طبيعة العلاقة بين الابن وأبيه إن لم تكن عاطفةً محضة، وأمنيات كبيرة، ودعوات مستمرة، وغزيرة؟
  • وهل يجب أن يُحب الأب ابنه حبًّا رقيقًا كما تحبُّه أمه؟
  • وهل القرد في عين أبيه غزالًا كما هو حاله في عيون الأمهات؟

في الأدب الحديث بقطبيه الشرقيّ والغربي، جاءت محاولات عدّة في زجّ الأب داخل حلبةٍ من المقارنات مع الأم، وهذا لا يتم إلا بافتراض تقاربٍ مفتعل بين دوريهما. فمثلا جاء في الأدب الغربي في محاولات كثيرة؛ الأب الذي يقوم بدور الأم بعد أن تُفقد الأم أو تقرر التخلي عن ابنها أو بنتها. الأب الحنون الذي يعطي بلا مقدمات ويقدّم الحنان على التوجيه، والعاطفة على العقل، ويكبر ويتّسع حضنه أكثر مما يُتكأ على كتفه وظهره. حاول بعضهم لفت النظر لهذا النوع من الآباء الذين حتّمت عليهم الظروف لعب دور الأبوّة والأمومة معًا، وصارت مقارنة عاطفة الأب بعاطفة الأم مقبولة من هذا الباب، لكني أجدها محاولات بائسة ولا تمثل واقع الرجل الحقيقي الذي نعرفه في الشرق وفي الغرب.

وجاء في الأدب الحديث محاولات كثيرة لمقاربة هذه العلاقة، وفهم دور الأب بعيدًا عن الأم، وحينا بالمقارنة معها. والذي يهمنا في هذا السياق والأشهر في هذا الصدد رواية البؤساء لفيكتور هوغو، والذي حاول فيها تصوير علاقة الأب بـابنته حتى وإن كانت علاقةً بالتبنّي. “فالجان”بطل قصّتنا؛ يختار طواعيةً منه تبنّي الفتاة “كوزيت”، وهو باختياره تبنّي هذه الطفلة الوحيدة والمظلومة يشبه كل الآباء في كل زمان ومكان. الأب يختار حب الذريّة لا يُوهبها كما في حالة الأم. فالقصّة تلخّص عاطفة الأب تجاه بنيه بشكلها الطبيعي. أن يكبر الحب وينمو مع الأيام، ولكنها لا ترقى لأن تصوّر الأب كأم ثانية بمعنى الحاضنة والحنونة والعاطفيّة.

وفي المقابل، قصة ذكرها المفكر عبد الوهاب المسيري وكانت حجرَ أساس في هدايته للإيمان بوجود الله بعد أن كان في شكٍّ من ذلك في أول حياته. يذكر أنه لما بلغ مبلغ الرجال وقرر الزواج، وقد أحب زميلته في الجامعة وعزم على الدخول بها بعد أن تمدد الحب وكبُر بين الإثنين، فكان أن تُوّج هذا الحب بالزواج. ومضت الحياة كما يتوقعها متلذذا بالحب ومغمورًا به إلى أن جاءت اللحظة التي تبدّل فيها كل شيء؛ لحظة الولادة. ذُهل صاحبنا من عاطفة الأم المفاجئة التي نشأت بلا مقدّمات مع ولادة المولود الجديد، وأن الفتاة صارت تحب هذا المخلوق الجديد والضعيف وكثير البكاء أكثر منه. وهو الذي بذل وأعطى وضحّى حتى استحق حبّها وحنانها ورعايتها، أما هذا المخلوق الصغير فماذا فعل حتى تحبّه كل هذا الحب، وتُؤثره على كل أحد. لم يستوعب هذه العلاقة الجديدة والتي هي فطريّة وبلا شروط. ما أن تلد المرأة حتى تحبّ مولودها وتتفانى في هذه المحبة. بعكس الرجل الذي ينمو حب أولاده فيه مع الوقت، لا يأتي دفعةً واحدة. من هذه الحادثة علِم يقينًا أن الذي وهبهم هذا الطفل لم يتركه عبثًا وفجّر قلب أمه بالعاطفة والحب حتى ترعاه حق الرعاية، ومن هنا علِم أن الإنسان لم يُخلق عبثًا وأن الطبيعة لا تعمل من تلقاء نفسها، بل بـ تدبير الله وحكمته.

ووجدت في نفسي بعد أن صرتُ أبًا أن الأب لا يمكن أن يكون أمًّا ثانية، وأنه رغم قربه ووالديّته؛ عقل مدبّر ومتّزن أكثر مما هو قلبٌ مخلصٌ ومحبّ. فالابن ليس في عين أبيه غزالًا، لأن الأبَ لا يغض الطرف عن مساوئ الأبناء كما تفعل الأم وتلهج لربّها لهم بالدعاء.

وهذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء. الأب كالعصا التي تنذر بالعقاب ليستقيم سيرك وتنضبط برؤيته أنت وغيرك، بينما الأم كالحياة التي تُوهب بلا مقدّمات. هي هبة ربّانية خالصة؛ وتظل كما هي حتى آخر يوم من العمر.

الأب هو المُؤدّب والمُؤدب لابد له من عصا، والعصا هنا رمزيّتها أبعد من النزعة للعقاب، بل قد تجيء بمعنى السند الذي يُتّكأ عليه، والمعيل الذي يُهَشّ بها عليهم. فهكذا وصف نبي الله موسى عليه السلام عصاه: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)). والهشُّ: “أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود”. وهنا يتجلّى دور الأب الحقيقي، الذي يأتي بمعنى المقوّم للخطأ، والسند الذي يُتكأ عليه، والمعيل الذي يُلتفت إليه لما تتكوّن الرغبات.

والأب حضن دافئ مالم تخرج عن طاعته أو تخالف التوقعات، فهنا تضطرب في قلبه العاطفة وربّما خاب أمله وانحنى ظهره وآثر الصمت على الكلام، ونقص في قلبه الحب والاهتمام، بينما الأم تظل حضنًا دافئًا لك حتى وإن كنتَ طاغيةً مجرمًا شريرًا.

والأب بحسب تضحياته وكثرة مسؤوليّاته يظن ظن المتيقّن أن الأبناء سيفعلون الشيء ذاته، حين يطول به العمر ويحتاج فيه لهم. فهو ينظر إليهم نظرته للعصا، تلك التي سيتكئ عليها بينما كان يهشّ بها على نفسه والعيال. فالعصا هنا تجيء بمعنى أن يكون الأب هو السند الذي يعوّل عليه الأبناء، ثم تلعب الدور ذاته حين يتقدم بالأب العمر، فيكون الابناء هم العصا التي يتكئ عليها في كبره والتي تهشّ عليه من ورق الشجر وثمره.

وكما يقول جاسم الصحيّح:

روحُ الأُبُوَّةِ تحمينا من الكِبَرِ   ما مِنْ أبٍ فائضٍ عن حاجةِ البشرِ

ما مِن أبٍ فائضٍ عن حجمِ لهفتِنا   للحُبِّ.. للفطرةِ الأسمى من الفِطَرِ

آباؤُنا! يا لَأَفعالٍ مُضارِعةٍ   مرفوعةٍ بالضَّنا والكدِّ والسهرِ

هُمْ يحملونَ الليالي عن كواهلِنا   فيكبرونَ، ونبقى نحنُ في الصِّغَرِ

والخلاصة أن كلاهما يحبّ ضناه ويسعى بجَهدهِ ووقتهِ ومالِه لمضاعفةِ سعادتهم وتقليلِ آلامهم على طريقته وما جُبل عليه منذ اليوم الأول من مجيئهم إلى الدنيا، ولكن كلٌ بما جُبل عليه.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟ قراءة المزيد »

هل استعدت أي ذكريات طيبة في الآونة الأخيرة؟

pexels-hson-5216874

وقعت قبل يومين على مقالة تتحدث عن “تسع عادات يومية للأثرياء” والتي تميزهم عن ذوي الإمكانيات المتواضعة. أغلب العناصر المدرجة في المقالة واضحة، لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم “يقرأون… لكن ليس من أجل المتعة”. لا يضيع الأثرياء ساعات طويلة بين دفتي رواية، بل يُفترض أنهم يكرسون وقت قراءتهم للكتب غير الروائية، مثل التي تتناول استراتيجيات تحسين الذات أو المعلومات العملية المتعلقة بوظائفهم. يرتبط بهذه المقالة أيضًا مقالة أخرى عن الإدارة المالية تناقش “نمط تفكير معين يميل الجميع [الأثرياء] إلى تجنبه”.

تلك العادة الذهنية السلبية -وفقًا للمقالة- هي الحنين إلى الماضي. ببساطة: لا يشعر الأثرياء بالحنين إلى الماضي، بل إن “عقليتهم موجهة نحو المستقبل” ولا تقدّر في الماضي سوى الدروس التي يُستفاد منها في اتخاذ قرارات الأعمال المستقبلية. وبما أني شخص ذو شهية نهمة للروايات الخيالية وميل إلى الحنين، فمن الطبيعي الآن أن أتساءل عن العامل المشترك بين هاتين العادتين السلبيتين (وما إذا كان عليّ أن أغير نهجي غير العملي). كشفت بعض البحوث عن وجود قدر كبير من القواسم المشتركة بين القراءة الترفيهية والحنين إلى الماضي. فبالإضافة إلى أن كليهما أنشطة ذهنية تقدَّر في المقام الأول للمتعة التي تجلبها -وهو سبب غير نفعي على الإطلاق- فقراءة الروايات للاستمتاع واسترجاع ذكريات الماضي يشتركان في بعض القواسم الدقيقة التي تجعلهما أنشطة عملية أكثر مما يبدو للوهلة الأولى.

من الخصائص المشتركة والمهمة للغاية بين قراءة الروايات والشعور بالحنين: الشبكة العصبية التي يوظفها كل منهما. عندما ينهمك شخص في مهمة تتطلب تركيز شديدًا -كصفقة تجارية مثلًا- تنشط “الشبكة التنفيذية المركزية” في دماغه. وعندما لا يوجَّه الانتباه نحو مهمة محددة، تنشط “شبكة الوضع الافتراضي”. وهذه الشبكة -يطلق عليها أيضًا وضع “شرود الذهن”- هي التي تنشط أثناء التحديق خارج النافذة أو أثناء القيادة لمسافات طويلة على طريق سريع ممتد. وتنشط أيضًا عند القراءة الترفيهية واسترجاع ذكريات الماضي، فكلا النشاطين يتضمن إنشاء تمثيلات ذهنية للمشاهد المحكية: المشاهد الافتراضية في الحالة الأولى، والذاكرة الشخصية في الثانية. قد يبدو ربط هذه المشاهد الذهنية بوضع شرود الذهن داعمًا للطبيعة غير النفعية المتصوَّرة عن القراءة الترفيهية والشعور بالحنين، وصحيح أن الوضع الافتراضي أحيانًا يصرف انتباهنا عن المهام التي تتطلب تركيزًا تامًا، إلا أنه لا يلزم أن يكون كل خروج عن الوضع التنفيذي تافهًا أو غير عملي.

 الأمر كله متعلق بما يشرد فيه الذهن عندما يفعَّل الوضع الافتراضي. من النتائج العملية لشرود الذهن المرتبط بالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين: زيادة الإبداع. أظهرت دراسة أجريت في جامعة تورونتو أن قراءة عمل خيالي قللت مستوى “الإغلاق المعرفي” أو الرغبة في “التخلص من الغموض والحصول على إجابات محددة”، مما زاد من مرونة الأفراد المشاركين في التعامل مع حل المشكلات. وتوصلت دراسة أخرى أجريت في جامعة ساوثهامبتون عن الشعور بالحنين إلى نتائج مشابهة أيضًا، حيث وُجد أن المشاركين الذين شعروا بالحنين كانوا أكثر إبداعيةنتيجة “الانفتاح على التجربة” أو “التحول من حالة تجنب المخاطرة إلى الرغبة في خوض تجارب جديدة” المرتبطة بالشعور بالحنين. وهذا الانفتاح على الأفكار والتجارب المرتبطة بالقراءة والشعور بالحنين يعزز الأساليب الإبداعية في اتخاذ القرارات وحل المشكلات.

توجد نتيجة أخرى عملية وغير متوقعة للقراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات، وهي تتعلق بالتفاعل الاجتماعي. عادة ما يفسَّر الانغماس في قراءة الكتب أو عيش تجارب الماضي ذهنيًا على أنه سلوك غير اجتماعي، لكن قد يكون العكس هو الصحيح. فمحاكاة العالم الاجتماعي التي يجربها المرء عندما ينغمس في عمل خيالي يمكن أن تحسّن مهاراته الاجتماعية، حيث تتاح له فرصة تجربة مجموعة من التفاعلات الاجتماعية بشكل خيالي. وهذه “المعرفة الاجتماعية” المكتسبة من التفاعلات الخيالية يمكن نقلها إلى العالم الواقعي وتطبيقها خارج دفتي الكتاب، وبالتالي سيُحسن القارئ التصرف في مختلف المواقف الاجتماعية. ومن المثير للدهشة أن الحنين إلى الماضي كذلك له بُعد اجتماعي. نظرًا لأن ذكريات الحنين تتضمن غالبًا أشخاصًا آخرين -مثل العائلة والأصدقاء- فاسترجاع التجارب المشتركة معهم يمكن أن يعزز الشعور بالترابط الاجتماعي، ويحسّن “ثقة المرء في قدرته على بدء التفاعلات والعلاقات، ومشاركة أفكاره، وتقديم الدعم العاطفي للآخرين”. وبالتالي، فالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين -على عكس الصورة النمطية- وسيلة لتقريبنا من الناس، لا إبعادنا عنهم.

أيضًا من فوائد القراءة الترفيهية والشعور بالحنين ما يتعلق بتطوير المهارات الاجتماعية: التعاطف. فالانغماس في قراءة الروايات -خاصة الروايات الأدبية- يحسن قدرة القارئ على فهم ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به، مما يؤدي إلى زيادة التعاطف والسخاء. وكذلك الحنين إلى الماضي -وهو عاطفة اجتماعية تبني اتصالًا رمزيًا مع أحبّائنا- يعزز الإحساس بالترابط الاجتماعي، فيزداد التعاطف والرغبة في مساعدة الآخرين. يساعد التعاطف مع الآخرين على فهم طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للعالم. وهذا الفهم وإن كان قيمة جوهرية من وجهة نظر إنسانية بحتة، إلا أن له فائدة عملية وهي توقع استجابات الآخرين لمبادرات المرء في الساحة الاجتماعية.

إنني أشك أن الأثرياء -كقاعدة عامة- يتعمدون تجنب القراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات بحجة الإضرار بأعمالهم. إن كان من الطامحين إلى الثراء مَن يميل إلى تجنب هذه المسليات الذهنية لأنها غير عملية ويراها مضيعة للوقت، أقول له: لا داعي للقلق، القراءة الترفيهية والشعور بالحنين بالتأكيد لن يؤثروا على فرص المرء في الثراء، بل قد يساعدان بطريقتهما الخفية!

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

هل استعدت أي ذكريات طيبة في الآونة الأخيرة؟ قراءة المزيد »

لماذا نعيد قراءة الكتب؟

pexels-stockphotoartist-1082953

إعادة القراءة متعة يشوبها الشعور بالذنب بالنسبة لكثير من الناس، كما تصفها باتريشيا ماير سباكس في كتابها حول إعادة القراءة بـ “الانغماس في متعة مُذنبة”. كيف يترك قارئ متفانٍ قائمته القرائية الزاخرة بالقصص الجديدة التي تنتظر من يستكشفها، ويضيّع وقته مع كتاب يعرفه بالفعل؟ وفي الوقت ذاته، يشيد الأكاديميون على مر التاريخ بإعادة القراءة باعتبارها الطريقة الوحيدة لفهم النص فهمًا حقيقيًا. ولو قابل قارئ جاد شخصًا يقول إنه “قرأ هذا الكتاب عشرات المرات”، فقد يشعر بشيء من النقص.   

إلا أنّ معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها، وبالتالي ربما تخف حدة المشاعر غير المريحة المصاحبة لكلتا الحالتين.

محاسن إعادة القراءة

لماذا نعيد القراءة؟ تتعدد الإجابات كما تتعدد أسباب قراءة الكتاب للمرة الأولى، والمتعة على رأسها. ومع ذلك، فإعادة القراءة تعطي القارئ شعورًا بالراحة النفسية بفضل استقرار القصة المقروءة وطبيعتها الثابتة، أو توقظ فيه مشاعر الحنين إلى ذكريات محبوبة. وقد تمثل إعادة القراءة تجربةً اجتماعية أيضًا، وذلك عندما يكون هدفها مشاركة شخص يقرأ الكتاب لأول مرة.  

فهم التعقيدات

غالبًا ما يناقش الأكاديميون فوائد إعادة القراءة من جهة كونها وسيلة لتحسين فهم النصوص المعقدة وفهم الذات.

يتّفق معلّمو الأطفال في سن القراءة المبكرة مع معلّمي اللغات الأجنبية على أن إعادة القراءة تحسّن الاستيعاب، ولا يقتصر ذلك على التعرف على الكلمات الأساسية، بل يشمل فهم الأحداث وإدراك التفاصيل الدقيقة وتطوير المهارات التحليلية أيضًا. كذلك لا غنى عن إعادة القراءة بالنسبة للبالغين، خاصة في البيئات الأكاديمية، من أجل فهم النص بما يكفي لبناء حجج نقدية قوية. وقد وصل الأمر إلى درجة تحديد قيمة العمل الأدبي بناءً على قابلية إعادة قراءته.

يقول فلاديمير نابوكوف في كتابه محاضرات في الأدب:

“عندما نقرأ كتابًا للمرة الأولى، فإن الجهد المبذول في تحريك أعيننا من بداية السطر إلى نهايته، سطرًا بعد سطر، وصفحة بعد صفحة، هذا العمل الجسدي المعقد الذي نقوم به تجاه الكتاب، إلى جانب عملية فهم ما يتحدث عنه الكتاب، كل هذا يحول بيننا وبين تقدير قيمته الفنية”.

إن إعادة القراءة تُكسب القارئ فهمًا للنص لا يتحقق بمجرد القراءة الأولى. ومن دونها ربما يكون من المحال تقدير المواهب الدقيقة للكاتب، أو فهم الأفكار والموضوعات المعقدة للنص.

 

فهم الذات

تعد إعادة القراءة شكلًا من أشكال التأمل الذاتي. تقول سباكس: “إعادة القراءة الهادفة في حد ذاتها تُنتج نوعًا من الوعي الذاتي”. وبما أن الكتاب لا يتغير أبدًا، فقد يمثل معيارًا يُقاس عليه مدى نمو القارئ، كما توضح: “إن ثبات الكتب المُعاد قراءتها يبني شعورًا قويًا بالذات… فهو يكشف عن تطور الذات أو استمراريتها”. وبالتالي، قد تمثل إعادة القراءة وسيلةً لإعادة النظر في الذات والتغيرات التي طرأت عليها منذ القراءة الأولى.

مثالب إعادة القراءة

ومع ذلك توجد مساوئ محتملة لإعادة القراءة، فهي تستهلك الوقت، وتصرف القراء عن قوائمهم القرائية الطويلة، وقد تكون تجربة مُحبطة إن لم يظل الكتاب محبوبًا للقارئ كما كان في ذاكرته منذ القراءة الأولى. قد ينزعج المرء أيضًا من إدراك التغيرات التي طرأت عليه، كما قد تضيع بعض التفاصيل الدقيقة، وتحسين الفهم ليس مضمونًا بالضرورة.

ظاهرة المكسب والخسارة

يطرح ديفيد غاليف في كتابه “أفكار ثانية” ظاهرة المكسب والخسارة في إعادة القراءة: حقيقة أن بعض التجارب لا يمكن أن تُعاش إلا في القراءة الأولى، وتُفقد في القراءات التالية. يقول “النظرة السائدة لإعادة القراءة أنها عملية مكمّلة نتعلم منها أكثر وأكثر حتى نستوعب كل كلمة في الكتاب. إلا أن مثل هذه المراجعة المستمرة قد تُضعف حساسيات معينة” ومن بينها تأثير الحبكة، كالتشويق والعفوية. فالمشاعر التي تنتاب القارئ، كالمتعة والإثارة والفضول، تدفعه إلى الإسراع في القراءة، مما يجعله يغفل عن التفاصيل الدقيقة التي تظهر في القراءات التالية، لكن هذه المشاعر عناصر مهمة أيضًا قد تخفت في القراءات التالية.  

زيادة الألفة زيادة الاستيعاب

إضافة إلى ما سبق، ما لم تكن إعادة القراءة مركزة ومقصودة لاكتساب أفكار جديدة، فقد لا تؤدي إلى تحسين الفهم. نشرت مطبعة بيلكناب التابعة لجامعة هارفارد عام 2014 مقالة تنتقد إعادة القراءة كاستراتيجية دراسية لأنها “تنطوي غالبًا على نوع من الخداع الذاتي غير المقصود، إذ أن زيادة الألفة مع النص تبدو وكأنها إتقان للمادة”. وهذا ينطبق كذلك على إعادة قراءة الأدب، فلا يلزم أن يكون فهم مَن قرأ كتابًا عشرات المرات أدق ممن قرأه مرةً أو اثنتين فقط، لكن كان يسعى إلى استيعاب النص وتعميق رؤيته مع كل قراءة.

لماذا نعيد القراءة؟

لماذا نكترث إذًا بإعادة القراءة إن كان لها مثل هذه المثالب؟ يجدر الانتباه إلى أن ظاهرة المكسب والخسارة التي اقترحها غاليف تختلف من كتاب لآخر ومن قارئ لآخر. فالروايات الغامضة مثلًا تفقد عنصر التشويق، والقصص القصيرة ذات النهاية المفاجئة تفقد عنصر المفاجأة، لكن إعادة القراءة تجعل القارئ في حالة ترقب. إلا أن ذلك لا ينطبق على الجميع بالضرورة كما يشير غاليف، فالقارئ المناسب قد يستمتع أكثر بقراءة القصة وهو يعرف نهايتها. وقد يصعب فهم أعمال ويليام فولكنر وإن كان في القراءة الثانية أو الثالثة (أو الرابعة حتى)، لكن هذه الصعوبة جزء من المتعة التي يعيشها القارئ المناسب.

لإعادة القراءة قيمة جوهرية، لكن هذه القيمة ذاتية. إن أعدت القراءة من أجل تحسين فهمك للجوانب الفنية الدقيقة والمعقدة، فاعزم على أن تخرج من النص بأكثر من مجرد الألفة. وإن كنت تعيد القراءة من أجل المتعة، فركز على الجوانب التي تستمع بها، وانتبه إلى أن بعض العناصر قد لا تجد لها نفس التأثير في القراءة التالية.

لا ينبغي أن يشعر أي قارئ بأنه غير مُنجز لأنه آثر إعادة قراءة كتاب مفضل على الالتزام بقائمته القرائية، أو لأنه لا يعيد القراءة إلا نادرًا، فلكل من الحالتين متعة خاصة.

المصدر 

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لماذا نعيد قراءة الكتب؟ قراءة المزيد »

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٤م

نشرنا العام الماضي مفضلات فريق نديم القرائية لسنة ٢٠٢٣م، حيث قدم الفريق من خلالها باقة من الاقتراحات المتنوعة لكتب مميزة ولافتة.

نكرر هذا العام نشرنا لمفضلات الفريق لعام ٢٠٢٤، آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

 

مارد الأحذية، لفيل نايت.

أجمل سيرة ذاتية قرأتها هذا العام، مؤلف الكتاب هو مؤسس شركة نايك، استمتعت بالكتاب ولامسني كثيرًا.

عبيد الظاهري، المشرف على شركة نديم.

لغات الحب الخمسة التي يستخدمها الأطفال، لجاري تشامبان، وروس كامبل.

أكثر الكتب التي قرأتها هذا العام تتعلق بالجانب التربوي، لكن هذا الكتاب أعطاني نظرة مختلفة للتواصل مع الأطفال بذكاء، وفهمهم بعمق.

مريم المحناء، فريق التصميم.

فيض الخاطر، لأحمد أمين.

أحببته بسبب ثرائه وتنوع موضوعاته، وأسلوبه عذب وسلس غير متكلف.

يارا عمار، فريق التحرير.

مفهوم النسوية: داراسة نقدية في ضوء الإسلام، لأمل الخريّف.

تميز الكتاب بإستعراض وبيان مفهوم النسوية، ومن أين جاء وبدأ، وتسليط الضوء على بعض جوانبه وآثاره الهدّامة في الواقع، والمُخالِفة لما جاءت به الشريعة الإسلامية من إكرام وتنزيه وصيانة للمرأة، ودورها الفعّال في المجتمع من خلال الأمومة والأسرة، وسعي النسوية لهدم ذلك كله وتفكيكه.

سهام الحربي، الفريق التطوعي.

تقي الدين المقريزي: وجدان التاريخ المصري، لناصر الرباط.

بقدر ما يُعمل الكاتب أدواته، ويسبر أغوار الحكايات المتصلة بحياة الشخصية، ويستنطق ما كتبه صاحب السيرة سواء عن ذاته أو من اتصلت أسبابه بهم، تخرج لنا سيرة استثنائية، كأنما أملاها صاحبها، فهذا صنيع م. ناصر الرباط في سيرة المقريزي.

وقد اخترته كمقدمة لجرد درر المقريزي.

آلاء الخطيب، فريق المشاريع.

الجواهر: من أخبار النساء في القرآن، لفايز الزهراني.

تقول صديقتي: “هذا الكتاب يستحق أن يُقرأ كل عام”، وهو كذلك.

الكتاب مليء بالمفاهيم التي تفتح آفاقًا رحبة للمرأة المسلمة في عبوديتها لله، والوعي بدورها، ومواضع شرفها، وعزها.

مستلهمة من قدوات نسائية اختارها العليم الحكيم وخلّد ذكرها إلى قيام الساعة.

سارة بن سويدان، الفريق التطوعي.

عين تراقب العصفور، لملاك الجهني.

تصف الدكتورة ملاك ألم الفقد فتقول: “يترك الفقد وشومه الداكنة فيمن يعبرهم، وكما أن الوشم يحرق الموشوم لحظة وشمه، ثم لا يلبث ألمه أن يزول، فينسى صاحبه أنه قد وشم، حتى يبصر وشمه ماثلا أمام عينيه، كذلك يفعل الفقد في صاحبه، يلذعه بحرارته، ثم يتلاشى شعوره بالألم تدريجيا، حتى ليكاد ينسى مصابه، فإذا بأول موقف يصادفه يذكره -بوحشية لا مثيل لها- أنه موشوم بالفقد”.

وقد ترك فيني الكتاب أثرًا كبيرًا وخاصة عندما تضع نفسك أمام مشاعر جديدة، وخاصة مشاعر فقد الزوجة لزوجها، حينها يجب عليك أن تتذكر معية الله، وعينه الحارسة، والإيمان به يأتي ليجدد الأمل فينا فندرك أن للعصفور عينًا تراقبه.

يوسف بنتن، فريق المشاريع.

مفاتيح إقامة الصلاة، لخالد اللاحم.

كتابٌ يُقرأ على مهل، لا تصلح قراءته في جلسة، ولا يوم، ولا أسبوع.

أفضل طريقة للاستفادة قراءة مقدار قليل، ثم التطبيق إن كان هناك ما يطبق عمليا، أو استشعار الجزئية المقروؤة.

قراءة كل جزء أو كل فصل مرة ومرتين وثلاث وأربع، حتى تجد الأثر في قلبك وفي صلواتك.

فهيمة حسين، الفريق التطوعي.

السعي للعدالة، لخالد فهمي.

القراءة لخالد فهمي تدريب بحثي على مراجعة الأطروحات السابقة وفحصها، وبناء الحجج، وتوظيف النظريات.

يكفي أن تكون باحثًا في أي مجال ليكون الكتاب مهمًا لك، مهما كان تخصصك قريبًا أو بعيدًا من حقل الكتاب.

حسان الغامدي، فريق التحرير.

القواعد الذهبية، لنابليون هيل.

هو آخر ما قرأته هذا العام، والكتاب يعد أصل كل كتب تنمية الذات، كتاب مفيد وواضح.

لوله الغامدي، فريق التصميم.

كتابة البحث العلمي، لعبد الله الرشيد.

دليل علمي مبسط لكتابة البحث العلمي لكل باحث جديد، مع عصارة من خبرة المؤلف الغنيّة، استمتعت بقراءته أثناء كتابة بحث الماجستير، غيّر نظرتي عن كتابة البحوث، ووسّعها أكثر.

منيرة التركي، الفريق التطوعي.

الممتع في فقه الدعاء، لعبد الله الفريح.

أعجبني هذا الكتاب في استقبال شهر رمضان، الذي لا يفصلنا عنه غير شهرين.

وجدت فيه بغية كل مسلم في فهم معاني الأدعية الجوامع الصحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والمعلوم أنها تجمع خيري الدنيا والآخرة.

فهذا الكتاب، أو ما يقوم مقامه، مهم، لا سيما أن إجابة الدعاء مرتبة بحضور القلب، وإدراكه لما ينطق به اللسان.

شيماء، فريق المشاريع.

تجارب وخبرات، لباسل شيخو.

كتاب يجمع لك مابين دفتيه مجموعة من المقالات المتنوعة في مجالات متعددة (نفسية، اجتماعية، فكرية، عملية… إلى آخره.)، يجمع لك هذا الكتاب خلاصة خبرات كبار الكُتّاب من الشرق والغرب، تعطيك هذه الخبرات مفاهيم توجهك لمسارات الحياة الأفضل بدلاً من أن تجرب فتقع ببعضها مما قد يضيع الجهد والمال والوقت، كتاب جميل ويستحق القراءة مرات.

حسين العبدلي، الفريق التطوعي.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٤م قراءة المزيد »

نهاية القراءة

pexels-jakubzerdzicki-29711758

يستضيف برنامج الكتابة الخاص بي ندوة صيفية كل عام، يقدم فيهام أعضاء هيئة التدريس استراتيجيات تعليمية حديثة (مثال: التصحيح بدون درجات، وكيفية تطبيق هذا الأسلوب؟)ويتبادلون الأفكار حول المشكلات المستجدة (مثال: كيفية إدارة استخدام الطلاب ChatGPT  في الكتابة الجامعية.) وفي هذا العام قدمتُ بالتعاون مع أحد الزملاء عرضًا يتناول مشكلةً كبيرة ومتنامية تتعلق بتدريس الكتابة للجيل الحالي من الطلاب الجامعيين: ألا وهي عدم القراءة.  

من عادتي أن أبدأ محاضرات الكتابة التي أقدمها للمستجدين بالتعرف على طلابي (القاعات صغيرة، مما يشجع على النقاش). أسألهم مَن يحب الكتابة ومن لا يحبها، وما هي عاداتهم ومهاراتهم في الكتابة، وكيف كانت تجربتهم الكتابية في المرحلة الثانوية، وغير ذلك.

كما أطرح عليهم هذا السؤال: ما هي أفضل طريقة لتحسين الكتابة؟ وتأتيني نفس الإجابة دائمًا: الإكثار من الكتابة، فأقول إن هذه هي ثاني أفضل طريقة. أفضل طريقة لتحسين الكتابة هي الإكثار من القراءة. لا يروقهم هذا الكلام، فأسمع منهم عبارات مثل “لم أقرأ كتابًا منذ عشر سنوات!” أو “لم أقرأ كتابًا مذ كنت في الصف السادس!” أو حتى “لم أقرأ كتابًا قط.”

هذا أمر لا يصدق! كيف يتخرج شخص من المدرسة الثانوية ويُقبل بالجامعة دون أن يقرأ كتابًا منذ سنوات (أو في حياته)؟ لدي بعض النظريات المدعومة بالبحوث الأخيرة (انظر المراجع أدناه)[1]:

  1. التكنولوجيا: نشأ الجيل زد (الذين هم في الجامعة الآن) مع جوجل والهواتف الخلوية ووسائل التواصل الاجتماعي، وكلها توفر معلومات سهلة وسريعة لا تتطلب جهدًا إدراكيًا مقارنة بالمقالات المطولة والكتب.
  2. الاختبارات الموحدة: يُدرَّب طلاب المرحلة الثانوية على فحص فقرات منفصلة وتحديد فكرتها الرئيسية، وهي مهارة مفيدة للاختبارات، لكنها لا تفيد في التعلم عن الطبيعة البشرية والعالم، ولا تحسّن المهارات الكتابية، لأن ذلك يتطلب قراءة عميقة ومستمرة.
  3. الجداول المزدحمة: طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية مشغولون للغاية بالواجبات المنزلية والرياضة والعمل والتدريس والتطوع باسم الاستعداد للجامعة، فيشعرون أن لا وقت لديهم للقراءة الترفيهية أو حتى القراءة الإلزامية.

العزوف عن القراءة بين الأجيال ينعكس على طلابنا في عدة صور: أصبحت القراءة الجهرية في الفصول الدراسية ممارسة صعبة، حيث يعجز بعض الطلاب عن تهجّي اسم مؤلف غير مألوف أو نطق الكلمات الشائعة حتى. يميل الطلاب إلى الكتابة مثلما يتحدثون، حيث تُكتب المقالات بلغة غير رسمية وعامية بوجه عام بسبب عدم التعرض لنماذج كافية بقراءة الأدب والكتابات الأكاديمية. هنا يحضرني نموذج المدخلات والمخرجات للحوسبة: لا بد أن تقرأ كتابات رصينة حتى تُخرج كتابة متقنة. أخيرًا، يصعُب أحيانًا فهم رسائل البريد التي يرسلها الطلاب، لأنها تشبه الرسائل النصية كثيرًا ومليئة بالاختصارات، ومن دون علامات ترقيم أو إلقاء التحية.

أود أن أؤكد على أنّ هذا التراجع في القراءة اتجاه وليس قاعدة. يسرني دائمًا السماع من الطلاب عن الكتاب الذي قرأوه في الصيف وأعجبهم، أو عن كاتب مفضل اكتشفوه مؤخرًا، وأذكر طالبًا العام الماضي كان يعزو مهاراته القوية في الكتابة التقنية إلى قراءة الكثير من الأدلة الفنية للسيارات. لكن التراجع في القراءة اتجاه متزايد، وهذا أمر مُقلق.

أشار أحد المتحدثين الضيوف في ندوتنا الصيفية إلى أن الطلاب الجامعيين يقرأون كثيرًا في الواقع، إلا أن محتوى قراءتهم قد تطور، فصار كل ما يُقرأ الآن عبارة عن رسائل وتغريدات وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكني لا أوافق على ذلك.

إن نوع “القراءة” الذي يمارسه الناس على منصات التواصل الاجتماعي قصير ومجزّأ ويركز على المعلومات: أحب هذا، لا أحب ذاك، أنت مخطئ، أنا على حق، انظر إليّ، اشترِ هذا، لا تشتر ذاك. هذه التفاعلات الموجزة مجتمعة تجعل الناس على اطلاع دائم بما يفكر فيه كل إنسان في العالم في اللحظة الحالية (وهو أمر مرهق).

إلا أنّ التطور السليم للعقل البشري يتطلب شيئًا أعمق من مثل هذه الجرعات السريعة من المعلومات المنفصلة. تحتّم علينا القراءة المستمرة متابعة الأفكار والتفكير العميق وفهم وجهات النظر المختلفة. ونحن بذلك نخضع لتعلم عميق، فالمدخلات الجديدة تعيد تنظيم الاتصال العصبي في أدمغتنا، فنرى العالم بطريقة جديدة حقًا. بعبارة أخرى: نحن نتعلم عندما نقرأ.

جميع المواد الأكاديمية مهمة، فكل منها يساهم بشيء لفهم أنفسنا وعالمنا. لكني أزعم أن لا شيء منها أهم من القراءة، لأنه عندما نعرف كيف نقرأ -أقصد القراءة الحقيقية- سنستطيع أن نتعلم ونفهم أي شيء.

ما الذي يمكن فعله إذًا لتحسين مهارات القراءة عند الشباب؟

  1. إيجاد طرق للحد من أشكال القراءة السطحية (مثل تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي)، وبذلك يتوفر المزيد من الوقت للأشكال الأعمق للقراءة.
  2. إدراك أن مهارات القراءة اللازمة لأداء الاختبارات مهمة، لكنها ليست أساسية للتطور البشري مثل القراءة العميقة التي تعزز فهمنا للطبيعة البشرية وعالمنا وتساعدنا على عيش حياة مُرضية.
  3. الحرص على اقتطاع وقت لقراءة أي شيء يجذب اهتمامك، سواء كان أدلة فنية للسيارات أو محاورات أفلاطون. يحتاج الشباب إلى وقت للراحة، وإلى تذكير بأن وقت الراحة هذا قد يعني قراءة كتاب بدلًا من تصفح وسائل التواصل الاجتماعي.

حاليًا أقرأ مع ابني في المرحلة المتوسطة أن تقتل طائرًا محاكيًا، نتبادل الدور في القراءة جهرًا. وسأقرأ مع طلابي المستجدين فصلين يتحدثان عن الجيل زد من كتابين جديدين، أحدهما الأجياللجين توينج، والآخر لا يكفي أبدًا لجينيفر والاس. أتطلع لرؤية استجابة طلابي لهذه الإضافات الممتازة للأدبيات المعاصرة عن فهم هذا الجيل ومساعدتهم حتى يصبحوا قراء ومفكرين وكتّاب مثقفين ومطلعين كما يطمحون.

[1] Twenge, J. M. (2023). Generations: the real differences between Gen Z, Millennials, Gen X, Boomers, and Silents : and what they mean for America’s future. First Atria Books hardcover edition. New York, NY, Atria Books.

Wallace, J. B. (2023). Never enough: when achievement culture becomes toxic– and what we can do about it. New York, Portfolio/Penguin.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

نهاية القراءة قراءة المزيد »

تسوندوكو: فن شراء الكتب وعدم قراءتها

pexels-fernando-gonzalez-2626178-4227666

من الظواهر المثيرة للاهتمام التي تؤثر علينا نحن القراء “تسوندوكو” ( باليابانية: 積ん読): فن شراء الكتب وعدم قراءتها. نناقش في هذه المقالة مفهوم تسوندوكو، وما يمكن فعله كي لا تقع ضحية لهذه الظاهرة.

ما المقصود بتسوندوكو؟

تعريف هذا المفهوم بسيط للغاية: عادة شراء الكتب وعدم قراءتها. وهو مصطلح ياباني يعود إلى القرن السابع عشر، ويتكوّن من جزئين: “تسون” يعني تكديس الأشياء، “دوكو” يعني القراءة.

كيف تحولت هذه الكلمة اليابانية التي تدل على شراء الكتب وعدم قراءتها إلى ظاهرة عالمية؟ المعنى الأصلي لتسوندوكو أعمق قليلًا مما نعلمه اليوم. استُخدم المصطلح في اليابان لعدة قرون وله جذور عميقة في الثقافة اليابانية، فقد كان يُعتقد أن الكتب ممتلكات ثمينة للغاية، فكانت تُجمع وتوَرَّث من جيل لآخر.

كانت الكتب سلعًا آنذاك، ومن الطبيعي أن يقتنيها الناس ويحتفظوا بها عندما يقدرون على شرائها، وإن لم تكن لهم نية في قراءتها. لم يكن شراء الكتب دون قراءتها يُرى عادةً سلبية بالضرورة، بل كان استثمارًا حكيمًا.

يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما. قد يبدو المصطلحان مماثلين تمامًا للوهلة الأولى، لكن إن دققنا أكثر سيتضح الفرق بينهما. البيبلومانيا حالة تنطوي على جمع الكتب (أحيانًا مع نزعة للوسواس القهري) إلى حد يشكل خطرًا على الصحة أو يؤثر سلبًا على حياة الشخص وعلاقاته.

هنا يكمن الفرق المهم: المصاب بالبيبلومانيا لا يهتم بقراءة الكتب، هو فقط يسعد بمجرد امتلاكها ويشعر بالارتياح أو المتعة بوجودها حوله. أما المصاب بالتسوندوكو فيشعر بالاستياء من امتلاك الكتب وعدم توفر وقت لقراءتها.

إذًا، المصاب بالبيبلومانيا يرغب في تملك الكتب فحسب، بينما الذي يعاني من متلازمة تسوندوكو لديه رغبة قوية في شراء الكتب، لكن أيضًا يشعر بالحزن لعدم قدرته على قراءتها كلها.

هل تسوندوكو عادة حسَنة؟

ما المشكلة في شراء كتب أكثر مما أستطيع قراءته؟ الأمر يعتمد على تأثير ذلك على حياتك وعاداتك القرائية. شراء الكتب وجمعها في حد ذاته ليس عادة سلبية، لكن مشكلة تسوندوكو تحدث في بعض الحالات.

يجدر الانتباه إلى أن الزمن تغير منذ صياغة مصطلح تسوندوكو في الثقافة اليابانية. لم تعد الكتب في أيامنا هذه سلعًا (ما لم تكن جامعًا جادًا وتبحث باستمرار عن الكتب الثمينة)، وقيمتها الحقيقية لا تنبع من كونها أشياء مادية، بل إن قيمتها تكمن في محتواها والمعلومات التي تستفيدها من قراءتها والتجربة التي تعيشها معها.

وبالتالي يعد تسودونكو مشكلةً إن وجدت أن المال الذي تنفقه على الكتب أكثر من الوقت الذي تقضيه في قراءتها. كقاعدة عامة: ما لم تكن جامعًا يحب مجرد امتلاك الكتب، فإن المقصد من شراء الكتب هو الاستفادة من محتواها والتجربة التي توفرها. إن شعرت أنك مقصّر في القراءة وقائمتك القرائية تطول شيئًا فشيئًا، مما يُشعرك بالإحباط، فإنّ تسوندوكو مشكلة بالنسبة لك حينئذ وتحتاج إلى تعلم كيفية التغلب عليها.

قد تؤثر متلازمة تسوندوكو سلبًا على تجربتك القرائية ونظرتك للقراءة كنشاط. إن كنت تشعر دائمًا بعدم الرضا عن مقدار قراءتك وتربط كثيرًا بين هذا النشاط والشعور بالإحباط، فمن المحتمل أن ينشأ لديك موقف سلبي تجاه القراءة.

قد تشعر في مرحلة ما بالضغط من عدد الكتب التي عندك عندما تدرك أنك متأخر جدًا في القراءة لدرجة أنك قد تستغرق أعوامًا حتى تنهيها جميعها.

كيف تتغلب على متلازمة تسوندوكو؟

رغم السلبيات المرتبطة بمتلازمة تسوندوكو، إلا أنه يمكن التغلب عليها، بل واستخدامها لصالحك.  توجد عدة طرق للتعامل مع الأمر بناءً على هدفك النهائي كقارئ.

فيما يلي بعض الاستراتيجيات الشائعة للتغلب على تسوندوكو بمجرد ظهورها.

  1. حدد هل هي مشكلة حتى تعالجها أم لا

كما ذكرت آنفًا، ليس بالضرورة أن تكون تسوندوكو مشكلة حتى تحتاج إلى حل. في الحياة أمور كثيرة قد يحدث أسوأ من إحاطة نفسك بالكتب، وكونك متحمسًا تجاه الكتب والقراءة وشراء روايات جديدة باستمرار حتى تستمع بها لا يستدعي علاجًا.   

إليك بعض الحالات التي قد تشير إلى أن لديك مشكلة حقًا ويجب أن تنظر فيها:

  • عندما تنفق على الكتب أكثر من مقدرتك.
  • عندما تشعر بالضغط والإرهاق باستمرار بسبب امتلاك كتب كثيرة لم تقرأها.
  • عندما تتأثر أنشطتك اليومية بسبب الشراء المستمر للكتب.
  • عندما تجد نفسك في حالة فوضى مستمرة بسبب أن الكتب الجديدة أكثر من اللازم فلا تستطيع أن تنظمها.

ما لم تصدُق عليك بعض هذه الحالات فلا داعي للقلق، أنت شخص عادي يحب الكتب لكن لا يجد وقتًا للقراءة. أما إن شعرت أن الأمر أصبح مشكلة، فلا بد من السعي لحلها.

  1. ضع حدًا للشراء

بكل وضوح: أسرع وأضمن طريقة لتقليل الضغط أو الانزعاج الناتج عن تسوندوكو هي أن تراجع عاداتك في الشراء. ومن هنا يوجد احتمالان مختلفان يعتمدان على ما يسبب لك الضيق: هل تقلق أكثر بسبب المال الذي تنفقه، أم بسبب المساحة التي تشغلها الكتب في منزلك؟

إن كنت قلقًا بشأن المال فحدد ميزانية، واجعلها قاعدة ألا تنفق على الكتب أكثر من القدر المحدد شهريًا. عيّن الحد والقدر الذي تستطيعه، وتذكر أنه ليس بالضرورة أن تمتنع عن شراء الكتب تمامًا، المهم أن تضع حدًا يناسبك.

وإن كانت المساحة هي المشكلة فينبغي أن تحد من عدد الكتب التي تشتريها، أو تجرب الصيغ البديلة (الكتب الإلكترونية، الكتب الصوتية).

  1. ارفق بنفسك

يكمن السر في التعامل مع تسوندوكو في تغيير نظرتك وتقبّل الأمر. نعم، ربما اشتريت كتبًا كثيرة ولا تستطيع قراءتها، لكن هذه ليست كارثة.

ينبغي أن تركز على الجانب الإيجابي، وهو أن لديك وفرة من الكتب لتقرأها! إن علمت نفسك ووجدت طريقة للامتناع عن شراء الكتب حتى تقرأ ما لديك، فسيكون كل شيء على ما يرام.

أما القسوة على نفسك فلن تفيدك. كلما زاد إحباطك قلّ ما تقرؤه، وسيزداد إحباطك أكثر وستسعى للتخفيف عن نفسك بشراء المزيد من الكتب. تجنب هذه الدوامة بأي ثمن كان.

  1. اعرف متى تتوقف

تعلمنا أنه لا بد من إنهاء أي كتاب بدأنا فيه. لكن طريقة التفكير هذه ليست صائبة بالضرورة، فأحيانًا يكون ترك كتاب لا يستحق القراءة أفضل كثيرًا من مواصلة قراءة شيء لا يعجبنا. المفترض أن تُشعرنا القراءة بالمتعة وتضيف لنا قيمة، وإن لم تفعل فلا فائدة من إجبار أنفسنا على قراءة شيء لا يستحق وقتنا.

  1. بِع أو تبرع بالكتب الزائدة

كذلك أحيانًا يكون من الأفضل أن تبيع أو تتبرع بالكتب التي تشغل مساحة كبيرة للغاية من المنزل. بدلًا من أن تعاقب نفسك بسبب الكتب المتراكمة وتظل تضع خططًا لقراءتها كلها مع أن وقتك لا يتسع لها، حاول على الأقل أن تسترد جزءً من استثمارك أو أن تترك أثرًا بالتبرع بها.

  1. اقرأ أكثر

أعلم أن الكلام أسهل من الفعل، لكن يجب أن تعلم أيضًا أن المشكلة الحقيقية ليست في ضيق الوقت. إن كانت طريقة تفكيرك منضبطة مع الاستفادة من الأدوات المساعدة على اكتساب عادات القراءة الإيجابية، ستندهش من القدر الذي تستطيع قراءته إن كانت لديك عزيمة.

أخيرًا، القراءة نشاط مرن للغاية من حيث المكان والوقت الذي يمكن أداؤها فيه: فيمكن أن تقرأ وأنت تتناول قهوتك الصباحية أو في طريقك إلى العمل أو وقت استراحة الغداء أو أثناء السفر أو حتى أثناء ممارسة الرياضة أو قبل النوم. أهم شيء أن يكون لديك الدافع الكافي والأدوات اللازمة لتكوين عادات قرائية إيجابية.

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

تسوندوكو: فن شراء الكتب وعدم قراءتها قراءة المزيد »

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك

Picture of كتابة: إليزابيث جورج
كتابة: إليزابيث جورج

ترجمة: يارا عمار

pexels-ron-lach-8036320

إنّ القراءة -لا سيما النقدية- جزء لا يتجزأ من عملية البحث. ومع ذلك، فالقراءة البحثية ليست مجرد مسح سريع للأوراق البحثية، بل يلزم أن يتفاعل القارئ مع النص وأن يستخلص منه المعلومات لتطوير أفكاره الخاصة. ولذا، من الضروري أن يدرك طلاب الدكتوراه والباحثون أهمية القراءة النقدية، وأن ينمّوا روح الاستقصاء العلمي في بداية رحلتهم البحثية. مما لا يخفى أنّ القراءة البحثية الفعالة والكتابة الأكاديمية عالية الجودة يسيران جنبًا إلى جنب: كلما أتقنت استراتيجيات القراءة النقدية، استطعت أن تقدم عملك في الأوراق البحثية بشكل أفضل. لكن ما هي القراءة النقدية؟ وما استراتيجيات القراءة النقدية التي يمكن أن تتبعها للربط بين قراءة الأدبيات وعملية الكتابة البحثية بطريقة مجدية؟ سنجيب على هذه الأسئلة الشائعة بين الباحثين في هذه المقالة.

ما هي القراءة النقدية؟

تنطوي القراءة النقدية على قراءة النص بنشاط لفهم وجهة نظر المؤلف وهدف الدراسة البحثية وكيف تساهم النتائج في النهوض بالبحث في مجالك. لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش الافتراضات التي تعرضها الأوراق البحثية، وأن توظف تجربتك وخبرتك لتطوير أفكار ووجهات نظر جديدة.

تساهم القراءة النقدية بقدر كبير في تحويل القرّاء إلى باحثين مبدعين. إنّ مهارات القراءة النقدية الجيدة تعزز قدرتك على تحديد مواطن القوة ومواطن الضعف في الأبحاث السابقة في مجال معين، وتسليط الضوء على الثغرات في التحليل أو الأدبيات نفسها. كما أن الأفكار التي تنشأ من هذه العملية تساعد في تحويل الاستجابات المستنيرة القائمة على القراءة النقدية إلى دراسات بحثية مستقبلية يمكن أن تنهض بالعلوم، وكذلك تساعد في بناء أسس نظرية متينة، وتحسين تصميم البحث ومنهجيته. إن صقل مهاراتك في القراءة النقدية يسهّل عليك تقييم الأدلة ودمج هذه المعلومات في كتابتك البحثية.

استراتيجيات القراءة النقدية للباحثين

نستعرض فيما يلي بضع استراتيجيات للقراءة النقدية تعين الباحثين على الفهم التام لمحتوى الأدبيات التي يقرؤنها وتقييمها تقييمًا نقديًا. سنركز على الاستراتيجيات الأساسية التي يمكن أن يتبعها الباحث حتى تصير القراءة النقدية عادةً له:

  1. اقرأ بهدف محدد: من أهم استراتيجيات القراءة النقدية أن تقرأ الورقة البحثية مع وجود هدف أو سؤال محدد في ذهنك. مُر سريعًا على كل فصل في البحث وظلل الفقرات التي تتناول هدفك المحدد حتى تعلم ما إذا كانت الورقة بأكملها تستحق القراءة أم لا. وبمرور الوقت ستصقَل مهاراتك في القراءة النقدية وستتمكن من تقييم مدى أهمية الورقة البحثية بسرعة. كما ستفهم كيفية هيكلة الأوراق البحثية عالية الجودة، وستستفيد منها بتطبيقها في كتابتك.
  2. اكتب ملاحظات: من المهم أن تضع خطًا تحت العبارات الرئيسية، وأن تدوّن ملاحظات أثناء قراءة المؤلفات العلمية. علّم على التعليقات والأفكار المهمة، واكتب تفسيراتك أو أي أسئلة ترد على ذهنك نتيجةً للقراءة الدقيقة للنص. هذه الاستراتيجية تساعد الباحثين على استنباط المعنى الصحيح، وتشكيل حجج ذكية أثناء كتابة البحوث. كما أن تظليل الأجزاء المهمة والمطلوبة من النص يجعل القراءة أشمل ويسهّل الرجوع إليها لاحقًا، مما يسرّع عملية الكتابة الأكاديمية بوجه عام.
  3. ضع تحيزاتك جانبًا أثناء القراءة: من أساسيات القراءة النقدية أن تكون ذا عقل متفتح. على سبيل المثال: قد تمر عليك وجهات نظر وحجج توافقها أو تخالفها بشدة أثناء قراءة المقالات العلمية، هنا من الضروري أن تنحي جانبًا معتقداتك الشخصية وتفاعلاتك العاطفية التي قد تؤثر على وجهة نظرك أو فهمك للورقة البحثية التي تقرؤها. القراءة النقدية يعني أن تكون قادرًا على التعمق وفهم الحجج التي يطرحها المؤلف حتى تُحسن الاستشهاد بها في كتابتك.
  4. ضع النص في سياقه: يحتاج الباحثون أثناء القراءة النقدية إلى استيعاب السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية الذي أجري وكُتب البحث في إطارها. من المهم أن تقارن بين الموقف الذي كُتب فيه النص وواقعك، حتى تستنتج وتستخلص المعنى الصحيح وتطور حجتك.
  5. ابحث عن الروابط: جزء من عملية القراءة النقدية أن تبحث عن الروابط بين الأوراق المنشورة سابقًا في مجال دراستك، فالتعرف على الأنماط واكتشاف الروابط يساعدك في البناء على المعرفة القائمة وتعزيز بحثك وإبراز المساهمة التي سيضيفها عملك إلى مجال بحثك. كذلك من مزايا البحث عن النصوص والمصادر ذات الصلة أنه يضفي على دراستك وكتابتك البحثية منظورًا عالميًا أكثر، ويمنحك فرصة التعرف على مؤلفيها والتواصل معهم لمواصلة تعليمك البحثي.
  6. اقرأ عدة مرات: ينبغي أن يقرأ الباحثون المقالة مرات عديدة مع تجنب المشتتات. إن تكرار القراءة النقدية مع تحديد الهدف منها يعينك على زيادة فهمك تدريجيًا ورسم الروابط التي ربما غفلت عنها في القراءة العامة الأولى. قد يبدو هذا غير ضروري، لكن من المهم أن تدرك أن بناء عادة القراءة النقدية القوية -كالكتابة الأكاديمية تمامًا- عملية تدريجية تتطلب وقتًا لإتقانها.
  7. خصص دفترًا: لكتابة الأفكار والسرديات والمراجع المهمة ومواضع الاتفاق أو الاختلاف أثناء قراءة المقالات البحثية. ويحسن أيضًا أن تكتب أي تساؤلات أو شكوك تنشأ في هذا الدفتر. إلى جانب أنك تعد مرجعًا جاهزًا للمستقبل، سيكون هذا الدفتر مصدرًا رائعًا عندما تبحث عن أفكار للمشروعات البحثية المستقبلية.
  8. أعد الصياغة وبسّط: تساعد القراءة النقدية على معالجة المعلومات التقنية المعقدة، لكن قد تظل أجزاء من النص محيّرة للقرّاء. من الطرق الحسنة لتبسيط مثل هذه المفاهيم أن تعيد صياغتها، فإعادة كتابة النص بكلماتك دون تغيير جوهره يحسّن فهمك لمحتوى الورقة البحثية، كما يقوّي مهاراتك في الكتابة الأكاديمية.
  9. وسّع مفرداتك: قد تمر عليك كلمات وعبارات جديدة ذات صلة بمجال بحثك وأنت تقرأ المؤلفات العلمية قراءة نقدية: احرص على تسجيلها حتى تستكشف معانيها والسياق الذي استُخدمت فيه. هذا يسرّع وتيرة قراءتك النقدية بمرور الوقت وسيُثري كتابتك بتوسيع نطاق المفردات التي تستخدمها.

إنّ اتباع استراتيجيات القراءة النقدية المذكورة أعلاه يحسّن كفاءتك في القراءة ويزوّدك بمستودع من الأفكار البحثية. ثم بعد ذلك قد تتحول ملاحظاتك على العمل المنشور سابقًا وتفسيراتك له إلى بحث رائد محتمل يضعك على طريق النجاح.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك قراءة المزيد »

التسلية بالعلم

Picture of معاذ الأنصاري
معاذ الأنصاري

مؤسس مبادرات قرائية

pexels-osmanozumut-14493661

مقدمة:

كان العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله- في زيارة علاجية للبنان لما وقع بين يديه كتاب ديل كارنيجي “دع القلق وأبدأ الحياة”، فأُعجب به وقال أنه “رجل منصف”.

وقد ألف العلامة السعدي على ضوء هذا الكتاب رسالة صغيرة الحجم كبيرة المعنى عظيمة النفع قد سماها ” الوسائل المفيدة للحياة السعيدة”.

ومن الأسباب التي عقد لها العلامة السعدي -رحمه الله- فصلاً في دفع القلق وتحصيل السعادة سماه: الاشتغال بعلم من العلوم النافعة.

وقد كنت قيدت نصوصاً وافقت هذا المعنى على فترات كلما تسور التردد والملل على الحزم، وهذه منها:

التسلية بالعلم عن الفقر:

جاء في ترجمة أبي الوليد الباجي: “الإمام، العلامة، الحافظ، ذو الفنون، القاضي، أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، الأندلسي، القرطبي، الباجي، الذهبي، صاحب التصانيف، أصله من مدينة بطليوس، فتحول جده إلى باجة- بليدة بقرب إشبيلية – فنسب إليها، وما هو من باجة المدينة التي بإيفريقية.

ولد أبو الوليد: في سنة ثلاث وأربع مئة”.

وقد عانى رحمه الله في طريق الطلب كما يقول فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه مفهوم العالمية: “الفقر وشظف العيش، وقاسى لواعج الحاجة والحرمان في رحلته إلى المشرق ببغداد، وكذلك بعد عودته إلى موطنه الأصلي بالأندلس؛ فاشتغل بيده حيناً واستأجر نفسه حيناً آخر بل اضطر للتكسب بشعره أحياناً أخرى إلى أن اكتشف الناس تفوقه العلمي ونبوغه الفقهي فكان من أمره ما كان وهرع إليه العلماء والأمراء، ثم صار ( ذا الوزارتين ) في الأندلس… حتى جاء بمصنفات في الفقه، والحديث، والأصول، والجدل، والمناظرة، ما لا يجود الزمان بمثله، ولا يتمخض التاريخ بكفئه”.

 ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة وجرت بينهما مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: “تعذرني، فإن أكثر مطالعتي كانت على سُرج الحُرَّاس”.

توفي رحمه الله عام ٤٧٤هـ.

التسلية بالعلم عن المرض:

شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ترجم له الحافظ البزار – رحمه الله- ترجمة حسنة مختصرة سماها ” الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.”

قال عنه الإمام ابن القيم-رحمه الله-:

“وحدثني شيخنا [ابن تيمية] قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض.

فقلت: لا أصبر عن ذلك، وأنا أُحاكمك إلى علمك:

 أليست النفسُ إذا فرحت وسُرّتْ قويت الطبيعة، فدفعت المرض؟ فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تُسَرِّ بالعلم فتقوى به الطبيعة، فأجد راحةً.

فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا. أو كما قال”.

توفي رحمه الله عام ٧٢٨هـ.

التسلية بالعلم عن الأهل والوطن:

محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي: علامة عصره في اللغة والأدب.

قال عنه الأديب طه حسين  :

“كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريباً للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سنداً ومتنا عن ظهر غيب”.

أخذ العلم في موريتانيا عن أبيه وبعض أقاربه، كما أشار في حماسته:

“غذاني بدر العلم أرأف والدٍ

وأرحم أم لم تُبِتني على غم

ولم يفطماني عنه حتى رويته

عن الأب ثم الأخ والخال والأم.

وعن غيرهم من كل حبر سيمدع

تقي نقي لا عيي ولا فدم”.

 ثم ارتحل إلى المشرق وحج، وصار يتردد في الاقامة بين مكة والمدينة إلى أن قصد القسطنطينية، فأكرمه السلطان عبد الحميد وعرف قدره وأوفده ١٣٠٤هـ إلى باريس ولندن والأندلس للاطلاع على ما في خزانتها من الكتب العربية النادرة.

وقد كتب لنفسه رحلة علمية أسماها “الحماسة السَّنِيّة الكاملة المَزِيّة فى الرحلة العلمية الشنقيطية التُّركزية”، ضمنها كما يقول أحمد تيمور باشا: “شيئاً من أخباره وقصائده وردوده على من خالفه في بعض المسائل العلمية”، منها قصيدة في مدح العلم والتحفيز له بدأها بقوله:

“ولـمَّا طعمتُ لذَّة العلمِ صيَّرتْ

سواها من اللَّذات عندي كالسُّمِّ

ولـمَّا عَشِقتُ العلمَ عشقَ درايةٍ

سلوتُ عن الأوطان والأهل والخِلْمِ

ولـمَّا علمتُ ما علمتُ بغربنا

ترحَّلتَ نحو الشرقِ بالحزم والعزمِ

ولم يَثْنِ عزمي نهيُ حسناءَ غادةٍ

شبيهةُ جُمْلٍ بل بُثَينَةَ بل نُعْمِ

ولم يُعْمِ قلبي حبُّ عذراءَ كاعبٍ

وحبُّ العذارى قد يُصِمُّ وقد يُعمِي

رحلتُ لجمع العلم والكتب ذاهبًا

إلى الله أبغي بسطةَ العلمِ في جسمي

وأمعنتُ في إدراك ما رُمتُ نيلَهُ

فأدركتُ ما أدركتُ بالصَّبرِ والحزمِ

وصرتُ بما أدركتُ من ذَينِ هاديًا

بشمسٍ على شمسٍ ونجمٍ على نجمِ”.

توفي رحمه الله ١٣٢٢هـ.

التسلية بالعلم عن الشقاء النفسي:

مصطفى لطفي المنفلوطي أحد أعلام الأدب العربي في عصر النهضة، يقول عنه أحمد حسن الزيات: “وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وفي أمريكا، قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنوناً من القول، وضروباً من الفن، لا نعرفها في أدب العرب، ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها، كما أجمنا أساليب المقامات، من الألفاظ المسرودة، والجمل الجوف، والصناعة السمجة، والمعاني الغثة… وحينذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه [صحيفة] المؤيد، إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النعيم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد، مالم يرد في فقرات الجاحظ وسجعات البديع”.

من مؤلفاته: النظرات، العبرات، في سبيل التاج، الشاعر، ماجدولين، الفضيلة.

نشأ المنفلوطي في بيت علم وقضاء لكن كما يقول محمد أبو الأنوار في دراسته الرائدة عن المنفلوطي: “لكن الأمور لم تستقم بين والده وأمه، فقد طلقت هذي الأم، وتُرى إلى أي حدٍ أثرت هذه الحادثة على نفس حساسة رقيقة تبكي للشيء تتخيله وتئن حتى للوهم يمر بها؟ الذي لا شك فيه أن هذا السبب لعب مبكراً دوره في تعميق إحساس المنفلوطي ببؤس الحياة، وأقنعه أن الخير فيها عارض ومن أجل هذا أحس مأساة الآخرين”.

يقول المنفلوطي: وكنت إنساناً بائساً لم يترك الدهر سهماً من سهامه النافذة لم يرمني به ولا جرعة من كؤوس مصائبه ورزاياه لم يجرعني إياها فقد ذقت الذل أحياناً والجوع أياماً، والفقر أعواماً، ولقيت من بأساء الحياة وضرائها مالم يلق بشر”.

ويذكر أثر تعلقه بالأدب والتسلية به: “فكنت أجد في نفسي من اللذة والغبطة بذلك كله ما لا يقوم به عندي كل ما ينعم به الناعمون من رغد في العيش ورخاء، حتى ظننت أن الله سبحانه وتعالى قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه لما علم أنه لم يكتب لي في لوح مقاديره ما كتبه للسعداء والمجدودين من عباده من مال أو جاهٍ أعيش في ظله وأنعم بثمرته، زخرف لي هذا الجمال الخيالي البريء من الريبة والإثم، وزوره لي تزويراً بديعاً، ووضع لي فيه من الملاذ والمحاسن مالم يضع لغيري، رحمةً لي وإرعاءً علي أن أهلك أو يهلك لبي بين اليأس القاتل والرجاء الكاذب”.

توفي رحمه الله ١٣٤٢هـ ١٩٢٤م.

التسلية به عن الإعاقة الحركية:

الإمام العلامة محمد البشير الابراهيمي، ولد عام 1306هـ الموافق ١٨٨٩م.

قام على تربيته وتعليمه عمه العلامة محمد المكي الابراهيمي، ولم يفارق تعلمه في بيت أسرته.

كانت له حافظة عجيبة وعرف عمه كيف يصرفها فيه، “فحفظ القرآن حفظاً متنقنا وهو في الثامنة، وحفظ معه في تلك السن، ألفية ابن مالك وتلخيص المفتاح، وما بلغ العاشرة حتى كان يحفظ ألفيتي العراقي في الأثر والسير

ونظم الدول لابن الخطيب ومعظم رسائله المجموعة في كتابه ريحانه الكتاب، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كتاب المشرق كالصابي والبديع، مع حفظ المعلقات والمفضليات وشعر المتنبي كله وكثير من الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهر كثيراً من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظ كثيراً من كتب اللغة كاملة كالإصلاح والفصيح، ومن كتب الأدب كالكامل والبيان وأدب الكاتب، ولقد حفظ وهو في تلك السن أسماء الرجال الذين ترجم لهم نفح الطيب وأخبارهم وكثيراً من أشعارهم.

ويقول كنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد ممّا يحقق ما نقرأه من سلفنا من غرائب الحفظ”.

ويقول عنه الشيخ خبيب الواضحي في مناقشات آثاره: “كان الإبراهيميُّ فيلسوفًا في الحياة، هو وابنُ باديس، وكانا على درجةٍ من الوعي، والبصيرةِ بطرقِ الإصلاحِ، عاليةٍ، وعلى همّةٍ في ذلك ماضيةٍ، وكذلك كان أبناءُ ذلك الجيلِ، شحَذتْهم إكراهاتُ الزّمان، ونجَّذَهم ضيقُ الأحوال، فانتهوا إلى أشياءَ نحن اليومَ نَلَغُ فيها وما زلنا لا نفهمُها”.

يقول الإبراهيمي رحمه الله: “ولما بلغت التاسعة أصيبت رجلي اليسرى بمرض، وكان الإهمال والبعد عن التطبيب المنظم أثر في إصابتي بعاهة العرج في رجلي، وقد أنساني ألمها والحزن عليها ما كنت منكباً عليه من التهام كتب كاملة بالحفظ فكان لي في ذلك أعظم سلوى عن تلك العاهة”.

توفي رحمه الله في ١٣٨٥هـ الموافق ١٩٦٥م

التسلية به عن نكبة الحروب والنزاعات:

العلامة محمد الله دراز -رحمه الله- من خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين.

ولد رحمه الله يوم ١٨ نوفمبر ١٨٩٤م في محافظة (كفر الشيخ) المصرية، ونشأ في أسرة ذات دين وعلم وخلق.

كان والده الشيخ عبدالله دراز (ت:١٩٣٢م) فهو من علماء الأزهر المبرزين في علم الأصول وفقه اللغة، وهو شارح كتاب الموافقات للإمام الشاطبي.

حفظ دراز القرآن وهو فتى يافع لما يكمل بعد العقد الأول من سنيه، ثم انتقل إلى الاسكندرية عام ١٩٠٥م حينما كلفَ الإمام محمد عبده والدَه بالإشراف على تأسيس معهد أزهري هناك، والتحق به دراز وحصل الشهادة الابتدائية والعالمية متفوقاً على دفعته.

وكانت أول تجربة مهنية له هي في التدريس الذي بدأه في المعهد ذاته فور تخرجه من عام ١٩١٦م وهو لا يزال في أوائل العشرينات من عمره، وكان يدرس في المساء الفرنسية حتى أتقنها في ثلاث سنوات.

حصل على منحة دراسية بجامعة السوربون، درس خلالها بمثابرة عيون الفلسفة الغربية، مقارنًا لها بما حصّله من دراسة التراث الإسلامي.

وكانت أطروحته لشهادة الدكتوراة بعنوان “أخلاق القرآن”، وأُعجب بها كبار المستشرقين مثل لويس ماسينيون، وبروفنسال.

كان عزيز النفس لم تثنه أهوال الحرب العالمية الثانية وخضوع فرنسا للاحتلال النازي من متابعة دراسته بكل مثابرة، ويحكي نجله محسن أن أباه “رفض مراراً عروض من السفارة المصرية بباريس بإعادته وأسرته إلى مصر خوفاً على حياتهم، فكان رده دائماً “إن مهمتي لم تنته بعد” ولم يقبل العودة إلى مصر قبل نهاية دراسته، وإن كان قد اضطر إلى إرسال أسرته بعد إصابة زوجته في قصف أمريكي لفرنسا المحتلة يوم ٨ يونيو ١٩٤٨م”.

توفي رحمه الله بمدينة لاهور الباكستانية عام ١٩٨٥م.

التسلية به عن الأرق:

هل سمعت بـصامويل أنرماير؟ يصفه ديل كارنيجي بأنه “محام ذائع الصيت، ومفخرة جامعة نيويورك، لما بلغ الحادية والعشرين كان دخله السنوي يقدر بخمسة وسبعين ألفاً من الدولارات، وفي عام ١٩٣١م تقاضى في قضية واحدة مليوناً كاملاً من الدولارات وقد عُمّر هذا الرجل حتى بلغ الحادية والثمانين”.

لما التحق بالجامعة كان يشكو من علتين: الربو والأرق،” ولم يكن يلوح له أن هاتين العلتين ستفارقانه، من أجل ذلك عوّل صمويل على استخلاص ما عساه يكمن من الخير في علته، لقد كان إذا أراد النوم فاستعصى عليه لم يلح في الطلب، بل يقوم إلى مكتبته وينكب على الدراسة، فماذا كانت النتيجة؟ لقد تخرج حائزاً على مرتبة الشرف ولازمه القلق حتى بعد أن تخرج في الجامعة ومارس المحاماة ولكنه لم يمتثل للقلق مطلقاً، وعلى الرغم من ضآلة حظه من النوم كان محتفظاً بصحته وظل قادراً على بذل الجهد، بل كان يبذل مجهوداً يفوق ما يبذله أقرانه من المحامين، ولا عجب فقد كان يعمل بينما زملاؤه نيام”.

خاتمة:

ظلت هذه الحقائق كرامة “يشترك فيها المؤمن وغيره” كما يقول العلامة السعدي رحمه الله، وقد حاول علم النفس تفسيرها كما ينقل ديل كارنيجي بأنه “من المحال لأي ذهن بشري، مهما يكن خارقاً أن ينشغل بأكثر من أمر واحد في وقت واحد”، لذا يقول كارنيجي نفسه بأن “الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق”.

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

التسلية بالعلم قراءة المزيد »