Author name: nadiim

الجيل القلق

Picture of الكاتب: نيكولاس جوك
الكاتب: نيكولاس جوك

ترجمة: يارا عمار

“كما أنه لا بد أن يتعرض جهاز المناعة للجراثيم، وأن تتعرض الأشجار للرياح؛ كذلك الأطفال لا بد أن يتعرضوا للعقبات والإخفاقات والصدمات والعثرات، حتى يشتد عودهم ويعتمدوا على أنفسهم.”

جوناثان هايدت.

بعد ظهر أحد أيام أكتوبر عام 2006، وُجدت (ميجان ماير) ذات الثلاثة عشر عامًا وقد شنقت نفسها بحزام في خزانة الملابس. لماذا؟ لأنها قضت وقتًا طويلًا على موقع MySpace، وكانت تتعرض للتنمر الإلكتروني من حساب مزيف لوالدة إحدى زميلاتها.

ليت قصة ميجان ماير كانت حادثة مأساوية فردية، لكنها -بكل أسف- مجرد حالة من بين الآلاف، فقد ارتفع معدل انتحار المراهقين الأمريكيين (10-14 عامًا) بمعدل 121% في المتوسط بين عامَي 2010 و2020. يثير هذا الأمر سؤالًا ملحًا: لماذا؟ ما الذي يدفع هؤلاء اليافعين -أو الأطفال- لإنهاء حياتهم؟

يقدم عالم النفس الاجتماعي الشهير (جوناثان هايدت) في كتابه الجديد “الجيل القلِق” تفسيرات وحلول لما وصفه بـ “وباء الأمراض العقلية”.

ما هي نظريته؟ يرى هايدت أننا “نفرط في حماية الأطفال في العالم الحقيقي، ونقصّر في حمايتهم على الإنترنت”، ويؤكد على أن الأطفال بحاجة إلى “طفولة قائمة على اللعب في العالم الحقيقي” حتى يزدهروا وينموا. ما العاملان الأساسيان اللذان يحرمان الأطفال من هذا النوع من الطفولة؟ الهواتف الذكية “والتربية القائمة على الخوف”.

فيما يلي ثلاثة دروس توضح سبب تراجع الصحة النفسية في شتى أنحاء العالم، وما الذي يمكن فعله لتحسينها:

  1. أربعة أضرار أساسية تهدد الصحة النفسية لأطفالنا

لنفترض أن طفلك سجل نفسه ليكون من أول البشر الذين يعيشون على المريخ. وفي أثناء تعرّفك على شركة الفضاء، أدركت أنهم لا يريدون سوى أفراد للاختبار والتجربة، ولا يهتمون بالسلامة على الإطلاق، فهل ستسمح لهم بأخذ طفلك؟ بالطبع لا!

يقترح هايدت أنّ شركات التكنولوجيا تفعل الشيء ذاته تقريبًا منذ عام 2010: استغلال انتباه أطفالنا وصحتهم النفسية من أجل تحقيق الربح. يقول “إنّ الطفولة مدة تدريبية لتعلم المهارات اللازمة للنجاح في ثقافة المرء”. أمّا الآن فيعجز ملايين الأطفال عن تعلم تلك المهارات، لأنهم يعيشون في هواتفهم، لا في الواقع.

روابطنا في العالم الحقيقي لها أربع خصائص مميزة:

  • تعتمد على لغة الجسد.
  • تحدث بشكل متزامن مع الآخرين.
  • يتم التواصل بشكل متسلسل ومع عدد قليل جدًا من الأفراد.
  • تنشأ في مجتمعات ذات حواجز عالية لا يسهُل دخولها.

لا شيء من هذا ينطبق على أنشطتنا على الإنترنت، ولهذا السبب فهي غالبًا تضر بالازدهار البشري. وبناءً على ذلك، يرى هايدت أن الطفولة القائمة على الهاتف تفضي إلى أربعة “أضرار أساسية”:

  • الحرمان الاجتماعي: انخفض الوقت الذي يقضيه المراهقون في اللقاءات المباشرة مع أصدقائهم بنسبة 50% منذ عام 2012، وساهم الوباء في تفاقم هذه المشكلة.
  • اضطراب النوم: تؤدي قلة النوم إلى “الاكتئاب والقلق وسرعة الانفعال والعجز المعرفي وضعف التعلم وانخفاض الدرجات”. وقد أثبتت الدراسات طويلة المدى أن الهواتف الذكية تضر بجودة نومنا.
  • تشتت الانتباه: نظرًا لأن هواتفنا تقاطعنا باستمرار، فإن قدرتنا على التركيز تضعف بشدة.
  • الإدمان: يستخدم العديد من الأطفال هواتفهم كآلات لإنتاج الدوبامين، فهم في بحث دائم عن الجرعة التالية، وقد صممت شركات التكنولوجيا الكبرى تطبيقاتها بحيث تشجع هذا السلوك.

كيف نعالج هذه الأضرار وننشئ حياةً أصح وأكثر ارتباطًا بالواقع؟ يقترح هايدت لذلك أفكارًا أيضًا.

  1. إن نحن طبّقنا أربع إصلاحات أساسية، فستتحسّن الصحة النفسية لشبابنا إلى حد كبير.

يناقش هايدت في النصف الثاني من الكتاب ما يمكن أن تفعله الحكومات والمدارس والآباء لتهيئة طفولة صحيّة، فيدعو إلى أربعة “إصلاحات أساسية” لمكافحة الأضرار الأساسية الأربعة:

  • لا هواتف ذكية قبل المرحلة الثانوية، يجب ألا نعطي أطفالنا سوى هواتف بسيطة للمكالمات والرسائل النصية حتى يبلغوا الرابعة عشرة.
  • لا وسائل تواصل اجتماعي قبل السادسة عشرة، عندما يتعرض الصغار الذين لم يصلوا بعد إلى سن المراهقة لمحتوى غير محدود مختارًا عن طريق الخوارزميات، ومقارنات مع المؤثرين/ الإنفلونسرز، فقد يضر ذلك بقيمتهم الذاتية بشكل دائم.
  • حظر الهواتف في المدارس، لا يكفي مجرد عدم السماح باستخدام الهواتف أثناء الحصة، بل يجب أن تجبر المدارس الأطفال على إبعاد هواتفهم تمامًا، “هذه هي الطريقة الوحيدة لتحرير انتباههم لبعضهم بعضًا ولمعلميهم” كما يقول هايدت.
  • الإكثار من اللعب دون رقابة وزيادة الاستقلالية في الطفولة، يوصي هايدت الآباء بأن يتركوا مساحة لأطفالهم حتى يتعلموا “تنمية المهارات الاجتماعية، والتغلب على القلق، ويصبحوا شبابًا مستقلين” بشكل طبيعي. امنحهم الفرصة للتجربة والفشل والتعلم منه.

لا بد أن تتغير القوانين واللوائح التعليمية، وهذه الأمور بطيئة التطور، لكن من حسن الحظ أنّ ثلاثةً من هذه الإصلاحات الأربعة تقع تحت سيطرتنا. أزِل الهواتف والإنترنت، وأعِد الأطفال للانطلاق واللعب الحر.

يقول هايدت “كما أنه لا بد أن يتعرض جهاز المناعة للجراثيم، وأن تتعرض الأشجار للرياح؛ كذلك الأطفال لا بد أن يتعرضوا للعقبات والإخفاقات والصدمات والعثرات، حتى يشتدّ عودهم ويعتمدوا على أنفسهم”. لنحرص على مرورهم بهذه التجارب مع وجود ملاذ آمن للرجوع إليه، وسيصبح صغارنا بالغين ناضجين.

  1. استعن بهذه الممارسات الست لاستعادة صحتك وصحة أطفالك النفسية، وتقويتها.

يقدم هايدت أيضًا 6 ممارسات -تصلح للأطفال والبالغين- لانتشال أنفسنا من مستنقع الهواتف الذكية، يقول “يشعر الناس بالسمو الروحي عندما يشهدون الأفعال المستحسنة أخلاقيًا”.

فيما يلي الممارسات الست التي تشجع على مثل هذه “الأفعال المستحسنة”:

  • التجارب المشتركة: الانضمام لمجموعة “منظمة لغرض أخلاقي أو خيري أو روحي”.
  • التجسيد: والذي قد يكون بأي طقس أو نشاط جسدي، بدءًا من تناول الطعام إلى ممارسة الرياضة أو الصلاة معًا.
  • السكون والصمت والتركيز: بالقيام بالممارسات التأملية، أو الهدوء من أي نوع كان.
  • التفاني من أجل هدف سامٍ: يتعلق بالتضحية في سبيل قضية أسمى تتجاوز عالمك الخاص، بدءًا من التبرع وحتى العمل التطوعي.
  • العفو بدلًا من الحكم على الآخرين: تعلّم أن تكون “بطيء الغضب سريع الفيء”.
  • استشعار روعة الطبيعة: اقضِ وقتًا في الهواء الطلق، سواء للاستجمام في الغابات أو استنشاق هواء البحر المالح، فالطبيعة تجعلنا نشعر بالاتصال بالعالم من حولنا بطريقة فريدة.
شارك الصفحة

الجيل القلق قراءة المزيد »

فضيلة التَّرْك

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

فضيلة الترك

وهم الكمال، ووهم السعادة المحضة، وما يشابهه من مشاعر المستحيل الواقعي يقودنا إلى ضبابية في الشعور، فنلجأ إلى معالجة وهمية عبر جسر الاستهلاك (دعوني أمتلك)، سواء كان الاستهلاك المادي المتمثل باستكثار امتلاكنا للأشياء، أو الاستهلاك الشعوري المتمثل باستجلاب شهرة أو متابعة أو إعجاب.

وعزز الاستهلاكَ السائل التقدمُ الصناعي الذي زاد من جشع التملك للأشياء، فكبر الوهم وتبدلت المركزية؛ فلم يعد امتلاك الإنسان للأشياء منطلقًا مركزيًا، بل ذاب وتماهى في الامتلاك إلى أن صارت الأشياء تملكه، فتخلقت القيمة والسؤال فيما يُمتلك لا في الإنسان وقيمه! وهذا الوهم يفتقر إلى استشعار فضيلة تنتشله وتعافيه.

لا يتأسس حل هذا الإشكال إلا إذا استوعبنا مفهوم الامتلاك من حيث محدودية الإنسان فيه، وأن امتلاكه لا يكون إلا تجوزًا لا حقيقيًا. قيل لإعرابي: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لله في يدي. ومن هنا فإن فضيلة الترك تسلمنا إلى منهج حياة واعية وفلسفة عميقة تخلق فينا شعورًا صافيًا نقيا، ويمكن القول إن فضيلة الترك أقرب ما تكون إلى تقنية ذهنية تفحص احتياجاتنا الحقيقة والوهمية تجاه ما نرغب امتلاكه، وتفرغه من وهم طلب الكمال، فتعزز من قيمة القناعة، وشره الطلب، وتغلب أفكارَنا الغرائزية التي من شأن متبعها أن يلبي احتياجاتها بأي وسيلة وثمن. إن الترك فضيلة إنسانية كلما اصطبغ بها الإنسان ابتعد عن حيوانيته واقترب إلى إنسانيته، وتشكلت فيه نفس حية حرة ضميرها نابض، ووعيها مستنير وغرائزها منضبطة، ففضيلة الترك الواعية هي عين الامتلاك والتلذذ به من حيث كونه ملك نفسه واختياره.

فضيلة الترك تدعوك إلى أن تُصلِح الأشياء ليحسُن امتلاكها فلا يُمتلك إلا كل صالح، لكن ما العلاقة بين فضيلة الترك وإصلاح الأشياء؟ والجواب أن الترك لا يحمد لذاته إنما بما يؤدي إليه من الإحسان والجمال، ومن الإحسان والجمال ألا نترك الأشياء فاسدة لمجرد عدم امتلاكنا لها، بل نصلحها ونتركها لغيرنا صالحة نافعة، وبذلك تكون ثمار فضيلة الترك لصاحبها وتتعدى إلى غيره من الناس، ومن هذا الباب يأتي قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)الأعراف: 56، بألا يتغلب علينا الطابع الاستهلاكي، ونتحلى بالاستخدام المسؤول؛ ليكون هناك استدامة لموارد الأرض، وعدم هدرها، واستثمار خيراتها بما لا يفسدها للأجيال القادمة.

إن الأخلاق الفاضلة تكاد تكمن كلها في الترك، فالحياء خلق يبعث صاحبه على ترك القبيح من الأمور، والإيثار ترك حظوظ النفس وتقديم الغير عليها في النفع لها، والأناة ترك العجلة والمبالغة في الرفق في الأمور، والتؤدة ترك الخفة، والحلم ترك التعجل في العقاب المستحق، والتواضع ترك الترؤس والمفاخرة، والستر ترك الإفصاح عن العيوب وعدم إظهارها، وسلامة الصدر ترك الحقد والغل والبغضاء، والصبر ترك الجزع عند المصائب وترك ما لا يحسن عند وقوع المكروه، والسكوت ترك التكلم مع القدرة عليه وذلك في المواطن التي يحسن فيها، والعفة ترك النفس عن الشهوات وعن السرف، والصفح ترك التأنيب، وكتمان السر ترك الحديث ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها، وغير ذلك من الصفات الحميدة والأخلاق الفضيلة التي يكون الترك محورها أو أحد أركانها، فالترك تزكية للنفس، وثراء روحي ينعم به الإنسان مع نفسه فتصح نظرته للحياة والكون، وقيل: الحكمة لا تسكن معدة ملأى.

فضيلة الترك 1

ولو تأملنا في بعض الحكم والأمثال والفلسفة لا نعدم أن نلمس فيها شيئًا من الترك؛ وكأن فضيلة الترك نظرة كلية تصبغ الصواب في الأفكار فنجد فيها كثيرًا من معالجة الإشكالات النفسية والاجتماعية، يقول نيتشه: “من لا يستطيع التخلي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء”، ويقول ليو تولستوي: “أنت لا تنضج بقدر ما تكتسبه بل بقدر ما تتخلى عنه”، ويقول جبران خليل: “بدأت أفهم وأستوعب الآن أن سعادتي تكمن في التخلي عن المزيد لا الحصول على المزيد”، وجماع ذلك كله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه”، ففضيلة الترك هنا هي الصورة المثلى الذي تركبت من الترك وحسن النية والقصد.

وإذا سلم العقل بضرورة الترك وأيقن ذلك عن طريق الوعي المدعم بالحجج والبراهين، فهل يكفي ذلك لنيل فضيلة الترك؟ والجواب بحسب ما تؤكده الدراسات وواقع الإنسان عدم انفصال العقل عن العواطف، بل إن دور العواطف فاعل في عمليات التفكير، يقول جان جاك روسو: “إن الذهن الإنساني مدين بالكثير للأهواء، والأهواء مدينة بالكثير للذهن، وهذا متفق عليه بالكلية، فإنما يتكامل عقلنا بنشاط أهوائنا، ولا نطلب المعرفة إلا لأننا نرغب في المتعة”، ويقول ديفيد هيوم: “فإن النفس تنشط في مجال هواها، وتتعهد ميلها المهيمن بالرعاية”، ولعل النتيجة التي يمكن أن توضحها الأبحاث في هذا المجال أن الإنسان لا يملك عقلا محضا، وإنما عقلًا متداخلًا مع الغرائز والعواطف، تقول سوزان جرينفيلد المهتمة بالأعصاب والوعي: “فالمشاعر تشكل جوهر وعينا”. ونخلص من ذلك إلى أن عملية التحرر من سطوة الامتلاك إلى فضيلة الترك تبدأ من شعورنا بمنة الله علينا مما أنعم وأوجد، وربط النعم به، والتبرؤ من حولنا وقوتنا إلا به سبحانه، ومن شأن هذا الشعور أن يزاحم المشاعر الأخرى فنبدأ بالترك التدريجي الذي يمزج بين الفكر والعاطفة ويدرك مواطن تغذية كل منها إلى أن نصل إلى فضيلة الترك.

فضيلة الترك قوة في الشخصية، وحزم في اتخاذ القرار، كما تجعل الإنسان متصالحًا مع نقصه، فلا يبحث عن وهم اكتماله في الأشياء، ولا يقع في فخ التسويق والإعلان الذي يزيد عن قدر حاجته الأساس، فضيلة الترك مهارة تجعلنا متصالحين وراضين بالأقدار، بأن تكون لدينا قابلية لأن نترك الأشياء فنشعر بالحرية الحقيقية، وإن كان الترك يعطينا إحساسًا أوليًا بالفراغ والخواء، فالأمر ليس كذلك بل الترك يملأ النفس لذة وانشراحا بامتلاكها اختيارها لا بغيرها.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة التَّرْك قراءة المزيد »

أهمية اللاقراءة: مراجعة لكتاب كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعدّ كتاب “كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟” لبيير بايارد أحد الكتب التي تغيِّر في نفس المرء، وتعلِّمه كيف يمضي في حياته بين المعارف والكتب ومصادر الثقافة المختلفة، من دون أن يتسبَّب له ذلك بالتشوش، أو القلق، أو الادعاء، أو الخوف، أو البُعد عن ذاته، وذلك عبر تناول مسائل ومفاهيم عديدة تخصُّ رحلة المعرفة التي ننطلق بها إثر قراءاتنا.

بدايةً، يناقش الكاتب ضرورة أن يكون للمرء نظرة شمولية لمصادر المعرفة، أي الكتب، ونظرية العلائق التي تجمع بينها، والمستويات التي تترتب عليها، ليُدرك موقع كل كاتبٍ وكتابٍ في هذا الترتيب، ما يعني ضرورة أن يتجاوز المرء فردية الكتاب ليحكم عليه من حيث موقعه بالنسبة لبقية الكتب في مجاله، والعلاقة التي تربطه بها، ومن هنا يمكن أن يناقش المرء كتباً لم يقرأها لمعرفته بموقعها من حيث المستويات والعلاقات، كأن يستمع إلى نقاش يدور حولها أو يقرأ مراجعة عنها أو يتصفح الكتاب متوقفاً عند خطوطه العريضة.

ويرى فاليري بأن ملامسة المرء للفكرة أهم من الغوص فيها، وكذلك فإن ملامسة الكتاب أهم من قراءته والانغماس فيه والاندماج معه، ففعل الملامسة يحافظ على المسافة بين القارئ والكتاب والتي يتمكن عبرها المرء من تحديد موقع الكتاب وأهميته، وربما تحديد وظيفته في حياته فيما بعد، وهكذا تكون الممارسة النقدية عند فاليري متجهة للتعبير عن الذات لدرجة تستغني عن النص ذاته.

إن قراءة الكتب تغيِّر فينا وتبدِّلنا وتمتزج بعاطفتنا ونظريات المعرفة لدينا، ولكننا مع ذلك ننسى محتواها مع الوقت ولا نعود نذكر الجزء الأعظم منها، ولا مفرَّ من النسيان المرافق للقراءة، لذلك من الأفضل أن يركن المرء دائماً إلى الاقتراب من الفكرة ومجاورة الكتب والربط المعرفي بين مواضيعها، ومحاولة تطويع ذلك كله للاستفادة به في حياته، بدلاً من التوقف في كل مرة عند كتابٍ بعينه للغوص فيه وفي تفاصيله التي ستنسى مع الوقت.

ويشير الكاتب إلى مفهوم المكتبة الداخلية المتشكلة في كلٍّ منها، والتي تكون مجموع القراءات والأفكار والتصورات والعواطف التي يمر بها المرء، فتشكل هويته الثقافية، ويعتمد عليها المرء عادة في التعليق على الكتب التي لم يقرأها، ولكن التي يعرف موقعها من حيث موضوعها ومحتواها. لذلك يصحُّ القول بأن كل قارئ يقرأ نفسه في الكتاب، وكل كاتبٍ يفشل في إيصال معانيه الخاصة إلى القرِّاء، ما قد يضع الكاتب في ألمٍ لا بد منه عند حديث القراء إليه عن كتبه، لا سيما إن أحبُّوها بشدَّة.

وتضم المكتبة الجماعية مجموع الكتب التي قرأها المرء والتي لم يقرأها، أي التي يمكنه الحديث عنها بصورة عامة وتناولها من حيث أهميتها والوظيفة التي تلبيها، ولأن الكتب عادة ما تنتمي إلى المجال الافتراضي الذي نتحقق فيه، فإنها، كاللغة، طريقة مشوهة للتعبير عن نفوسنا، ذاك أننا لا نستطيع التعبير عما نريد عادة، لذلك يجب أن نقنع بالوجود الحتمي للغموض في عباراتنا والفضاء الذي نخلقه مع الآخرين.

من هنا يرى الكاتب بأن ما يُفهم من النصوص أهم بكثير ممَّا كُتب فيها، فأن يُشكل المرء عباراته بوساطة الكتب أهم بكثير من أن يفهم ما أريد حقاً بالكتاب ومعانيه:

“الحقيقة الموجهة للآخرين أقل أهمية من حقيقة الأنا التي لا يصل إليها إلَّا مَن تحرَّر مِن نير الضرورة التي تُكرهنا على أن نظهر أمام الناس بمظهر الثقافة، والتي تعذبنا في أعماقنا وتمنعنا من أن نبقى على طبيعتنا، ونكون ما نحن عليه حقاً”.

وبما أن لكل كتاب سياق الحديث الخاص به، والمنطوي على كاتبه وناشره وموضوعه، فإن له سياقاً داخلياً فينا كذلك يُحدد قيمته وموقعه ومدى قدرتنا على توظيفه لإفادتنا،وبالطبع فإن هذا السياق يتبدل ويتغير بمرور الزمن ونضوج الفرد وتغير مكانة الكتاب الخارجية.

واللافت في الأمر إثبات الكاتب بأن فعل قراءة الكتب ما هو إلا قراءة لأنفسنا، أي أننا ننتهي من قراءة كتبٍ نحن وضعناها وألَّفناها، ونفهم منها معانٍ متوهمة نحاول تصديرها من جديد، لتتموضع في فضاء متوهم كذلك ومختلف، وتقع على مسامع الآخر الذي سيفهمها تبعاً لمعجمه الخاص و”كتابه الداخلي”، أي أن فعل مناقشة مواضيع الكتب عملية تعبيرية تقوم على الوهم المشترك والمتحقق، ولا علاقة لها عادة بحقيقة الكتاب الذي تتم مناقشته.

ويمضي الكاتب متحدثاً عن تحويل القراء للكتب في أذهانهم وتغييرهم فيها بمرور الزمن، وذلك ضمن صيرورة إبداعية يكون فيها الإبداع أهم من الفهم، والاحتمال أقوى من الواقع، والعبارة النسبية أثقل من القاطعة:

“ما يهم في الكتاب هو خارجٌ عنه، لأن المهم هو لحظة النقاش التي لا يُمثل الكتاب إلا ذريعتها أو وسيلتها”.

بل إنه يرى الدقة والوضوح في التعبير عن محتوى الكتاب تنطوي على اعتداء على حق الآخر في الفهم كما يحلو له، أو كما يملي عليه كتابه الداخلي، يجب أن نترك لأنفسنا والآخرين حرية اللاقراءة وإمكانية الحُلم، أي يجب أن تكون القراءة فرصة للإبداع أكثر من الفهم، ولا تتحقق هذه العملية إلا عندما يدرك القارئ بأن جوهر الأدب لا يكمن في الرواية التي يقرأها، وجوهر المعرفة لن يجده في الكتاب الذي يقرأه، بل في العلائق التي يرسمها بنفسه بين التعبيرات المختلفة عن الموضوع، أي المحاولات الإنسانية العديدة لقول الشيء ذاته، ربما، ولكن بطرق إنسانية وإبداعية مختلفة ومبتكرة، عندئذٍ تصير قراءة العمل عائقاً لفهمه في مقابل عدم قراءته.

يُذكرنا ذلك بما تحدث عنه عبد السلام بنعبد العالي في كتابه “انتعاشة اللغة”، وذلك في مناقشته فعل الترجمة والأصل على أنها محاولات إنسانية على مستوى واحد، تحاول قول الشيء ذاته بطرق إبداعية مختلفة، وتنطوي كلٌ منها على القيمة ذاتها من حيث كونها التعبير الإبداعي والمبتكر عما يدور في خلد المرء حول الموضوع ذاته. وهذا ما يختتم به الكاتب كتابه، أي أن الغاية النهائية هي وصول المرء إلى القدرة الإبداعية لديه بوساطة الكتب، لا عبر قراءتها، بل عبر تعلم عدم قراءتها والوقوف على موقعها بدلاً من ذلك، هناك ضرورة يراها الكاتب في عدم الانغماس في العمل الفني وضرورة الانفصال عنه وتجاوزه ليتمكن من التعبير عنا:

“ليس الكذب بشأن النص هو الذي يجب أن نخشاه بل الكذب بشأن أنفسنا”.

أي أن غاية القراءة الاقتراب من الذات والحديث عنها وتطوير ملكة تعبيرية تمكِّننا من الكتابة بدورنا، ولو بمعنى مجازي.

 

شارك الصفحة

أهمية اللاقراءة: مراجعة لكتاب كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟ قراءة المزيد »

أريكة وكتاب تختتم نسختها السابعة

أريكة وكتاب

خلال الأسابيع الماضِية كُنت أبدأ كلّ صباح بهيج بتتبع وسم #أريكة_وكتاب، متأملة تنوع الأغلفة التي انضمت إلى قائمة الكتب المُنجزة، ومُستمتعةً بتلك الرحلات الفكرية التي خطّها القرّاء بأناملهم.

كُنت أقرأ بشغفٍ وإمعان آراء القرّاء، وأُتابع عدد الساعات والدقائق التي أمضوها مع الكتب، مُعجبةً بإنجازاتهم وتقدمهم. هُناك، حيثُ امتزجت أمواج المعرفة والعلم بأصداء صفحات الكتب، شعرتُ بملء قلبي أنني جزءٌ من مُجتمع نابض بالحياة والشغف.

لم تكن #أريكة_وكتاب في نسختها الأولى إلا مبادرة مبتكرة، هدفها تحفيز القرّاء على استغلال أوقاتهم أيام الحجر المنزلي، في تلك الأيام الغريبة من جائحة كورونا.

كان الإقبال مبهرًا، تناثر خبر الفعالية في كل زاوية قصيّةٍ من زوايا منصات التواصل الاجتماعي، وباتت أريكة وكتاب عنوانًا لكل من ينوي تجديد صلته بالكتب، وبناء عادة القراء كل يوم، وإكمال قراءة الكتب التي أهملنا إنجازها.

صارت أريكة وكتاب بوّابة كبرى للتعرف على نديم وبرامجها، فكثير من الأصدقاء شاركوا في برامجنا الأخرى بعد انضمامهم إلى أريكة وكتاب، بل إننا في بعض الأحيان تفاجأنا أن قطاعًا كبيرًا من القرّاء يعرف مبادرة #أريكة_وكتاب، ولكنه لا يعرف نديم!

بين وفينةٍ وأخرى نجد من يشجعنا على إقامة الفعالية من جديد، وترددنا قبل النسخة الثانية كثيرًا، فأجواء الحجر الكلي انتهت، والانشغالات تزايدت، والزخم القديم لا يُمكن بعثه من جديد.

لكننا نندهش كلّ مرة بالإقبال على كل نسخة من نسخ #أريكة_وكتاب، تتناثر الأغلفة بين الانستقرام وتويتر، وتتقافز ساعات التوقيت داخل كل صورة موضحة عدد الدقائق المستغرقة في إنهاء الكتاب، يتحوّل الوسم إلى معرض كتب، يُمكنك من خلاله أن تتعرف على كتب لم تمرّ عليك من قبل، أو تتذكر كتابًا نسيته بين رفوف مكتبتك، أو تتحفّز لإنجاز بعض الكتب المتراكمة على مكتبك.

ومع نهاية رحلتنا الصيفية في موسمها السابع حققت أريكة وكتاب بمثابرة قرّائها إنجازاتٍ عظيمة ومُبهرة، فقد شارك معنا أكثر من 100 قارئ وقارئة، قرأوا فيها 460 كتابًا، بصفحات تتجاوز الـ74 ألفًا، وبعدد ساعات اقتربت من الألف ساعة!

كانت رحلة قرائِية ثريّة جدًّا، أشبه بالإبحار في عالم من الكلمات والمعاني والحكايات، تنفسنا فيها عبق الأدب وتموُّجنا بخفةٍ بين جُزُر الأفكار.

كان القرّاء مختلفين لكل منهم دور في هذه الرحلة، كان بينهم النهّام الذي يشدو بألحانِ القصص، يشدُّنا بعذوبة صوته إلى أعماقِ الحكايات، والبحّار الذي كان يُملي فصلاً لُغويًا يوجه الدفّة بين تيارات الفكر والفلسفة، ويأخذنا بحكمةٍ بين رِياح التساؤلات، والغوّاص الذي كان يُدرك لذّة الرحلة في أعماق الصفحات، يبحثُ عن كُنُوز المعاني المخبوءة بين السطور، يلتقطُ ببصيرتهِ كلّ نفيسة كامنة!  

وهكذا، فقد فتحت هذه التجربة آفاقًا ومدّت آمالًا لكثيرين كانوا يظنون أنَّ الالتزام القرائي مستحيل، ناهيك عن إنهاء الكتاب في جلسة واحدة! ها هُم قد فعلوها وها هُم ينتشون بإنجازهم، فطوبى لهم!

أدركتُ أن “أريكة وكتاب” أكثر من مجرد مغامرة في عالم الكتب؛ فقد كانت رحلة إنسانية عميقة أثرت فيَّ بطرق مُذهلة!  كلّ ساعة قضيتها في متابعة القراءة كانت بمثابة اكتشافٍ جديد لعمقِ التجربة التي تقدمها القراءة.

شعرتُ بارتباط وثيق مع كل قارئ وكل تجربة قراءة، حيث أضاف كل منهما بُعدًا لامعًا لهذه الرحلة، مما أضفى عليها ثراءً وتأثيرًا عَميقًا!

ولا أبلغ من حديث المشاركين والمشاركات عن تجربتهم مع أريكة وكتاب، فهذه سعادة تقول:

“أريكة وكتاب لم تكن فقط مُبادرة للتشجيع على القراءة، بل كانت نُقطة فارقة في اكتشاف ذاتي.. لم أكن أعلم قبل هذا أني أستطيع إنهاء أكثر من كتاب في شهرٍ واحد! ظننت لسنوات أن مقدوري القرائي ضعيف؛ لكن أريكة وكتاب جعلت هذا الظنّ يتلاشى ويتبخر. من أجمل وأفضل التحديات التي شاركتُ بها، رغم أنهُ مر سريعًا، لكنهُ كان عميق الأثر رضي الله عنكم وأرضاكم”.

وتقول هناء جُبران:

“أحيانًا يكتشفُ الإنسان نفسه عن طريق الآخرين، حقيقةً ما كنتُ أتوقع هذا الإلتزام أبدًا، ما كانت تجربة قرائية بقدر ما كان فيها تربية للنفس. في بداية الأيام كنتُ أُنازعها وأجرّها جرًّا لإنهاء الكتاب، أما الآن أشعر بنقص في يومي لا يكتمل إلا بخلوةٍ مع كتاب؛ فالحمد لله الذي إذا كلف أعان، وبإذن الله سأستمر وأسعى لتثبيت عادة القراءة، كنت فقط أحتاج من يأخذ بيدي ويدفعني للأمام، لن ننساكم من الدعاء”.

يتزود الفرد بمددٍ من التشجيع والإلهام عبر مشاركته مع الجماعة، حيثُ يتجلى أثر المشاركة الجماعية في إثراء التجربة الفردية وتوسيع آفاقها، مِما يُساعد في تطوير رؤى خلاقة، ويحفّزه لاكتشافِ قدراتهِ!

شارك الصفحة
المزيد من الأخبار

أريكة وكتاب تختتم نسختها السابعة قراءة المزيد »

السر وراء بناء العادات: مراجعة لكتاب العادات الذريّة

Picture of إيمان علي حسين
إيمان علي حسين

مدققة لغوية

يُعد كتاب “العادات الذّريّة”، للكاتب الأمريكي جيمس كلير من أفضل ما كُتب عن بناء العادات الجيدة والتخلص من العادات السيئة، ويستند الكتاب إلى الدراسات العلمية في قضية العادات وبنائها، معتمدًا على علم النفس والفلسفة تارة وعلم الأعصاب تارة أخرى، وفي الوقت نفسه يحوي ما يساعدك من طرائق على التطبيق العملي، ويذكر أمثلة من واقع الحياة.

يرغب كل فرد منا في تغيير حياته إلى الأفضل، واكتساب العادات الحسنة التي تساهم في تحسين جودة حياته من الجوانب الحياتية المختلفة، ولكن رغم الكثير من المحاولات في سبيل تحقيق هذا الهدف؛ فإن المحاولات تنتهي بالفشل، محاولة تلو الأخرى؛ ومن ثمّ يبدو الأمر عصيًّا على التطبيق، بل إنه يبدو لبعض الناس مستحيلًا! ولكن في المقابل، يتغير بعض الناس إلى الأفضل ويحسنون من أنفسهم ويبنون عادات إيجابية؛ إذن ما السر؟

يُقال إنّ الكتاب الجيد هو الكتاب الذي ترغب في قراءته أكثر من مرّة؛ أي إنه يستحق الإعادة، وقد قرأت هذا الكتاب مرتين حتى الآن، وسأرحب بالقراءة الثالثة متى ما استطعت! لقد ساعدني الكتاب على بناء عادات حقيقية؛ بعضها ساعدني على رفع إنتاجيتي؛ مثل عادة القراءة، وبعضها كان سببًا في تحسن صحتي؛ كعادة شرب الماء بكميات صحية، وعادة الالتزام بتناول الفيتامينات.

يتحدث الكاتب في بداية الكتاب عن تجربة حياتية مر بها، وتعلم بفضلها أن التغير الذي قد يُرى بسيطًا وبلا أهميّة، سيتراكم مع التغييرات الأخرى مشكلًا نتائج استثنائية لو واصلت الالتزام به مدة كافية، وقد عرف أثر تكوين العادات في حياة الإنسان بسبب تجربته، ثم بدأ كتابة المقالات التي تحولت بعدها إلى هذا الكتاب الشهير.

ويتناول جيمس كلير أربعة قوانين تساعد على بناء العادة الجيدة، وعندما تعكسها تستطيع التخلص من العادة السيئة، وهذه القوانين -أو الخطوات- مبنية بدورها على المكونات الأربع لنموذج العادات: الإشارة، والتوق، والاستجابة، والمكافأة.

وفي القانون الأول يتحدث الكاتب عن جعل العادة واضحة في بيئتك، ومرئية أمامك بحيث تبرز ويسهل تنفيذها، ثم تحدث الكاتب في القانون الثاني عن كيفية جعل العادة جذابة ولا تقاوم، ويمكنك أن تنفذ ما هو ممتع قبلها حتى تحفز نفسك، أو أن تفعلها إلى جانب عادة سابقة (تكديس العادات)، أو عن طريق تجميع المغريات؛ فقد نصّت إحدى النظريات النفسية التي تعرف باسم “مبدأ بريماك” على أنّ: “السلوك الأكثر ترجيحًا سيعزز السلوك الأقل ترجيحًا”، ويتمثل تطبيق هذه الإستراتيجية في جمعك العادة التي ينبغي لك تنفيذها مع العادة التي ترغب في تنفيذها.

ووضح في القانون الثالث أهمية إبقاء العادة سهلة التنفيذ، وذلك بقلة الخطوات اللازمة لتنفيذها، وتجهيز البيئة المحيطة، واستخدام قاعدة الدقيقتين؛ بجعل تنفيذ العادة لا يزيد عنها! وفي القانون الأخير -والأهم- ناقش فكرة جعل العادة مشبعة؛ أي إنها تمدّك بشعور بالإنجاز من الفور، ولو كان ذلك بصورة بسيطة؛ كيف يحدث ذلك؟ كافئ نفسك بعد تنفيذ العادة، واستخدم متتبع العادات؛ فإن الضغط على علامة التنفيذ (تم) تعطي شعورًا بالإنجاز والإيجابية، وبالإضافة إلى ذلك يعطيك المتتبع أدلة مرئية على تقدمك.

وقد ذكر الكتاب أهمية البيئة في تشكيل العادة؛ فهي اليد الخفية في تشكيل السلوكيات الإنسانية، وقد كتب كيرت لوين (عالم نفسي) معادلة بسيطة تقول بأن السلوك يتكون من دالة للشخص والبيئة التي يوجد فيها: س = د(ش،ب)، وقد بين الواقع صحتها في كثير من الجوانب، مثل: شراء الناس للمنتجات المعروضة على مستوى العين أكثر من المنتجات الأقل ظهورًا؛ إذ إن الإشارات المرئية تعد المحفز الأكبر للسلوك.

وعندما نعكس هذه القوانين تظهر لدينا الطرائق التي نتخلص بها من العادات السيئة: اجعل العادة خفية؛ بإزالة إشاراتها من بيئتك، وغير جذابة؛ بإبراز المضار المترتبة على هذه العادة، وصعبة التنفيذ؛ بزيادة العقبات التي تحُول بينك وبين تنفيذها، وغير مشبعة، ومن سبل تحقيق ذلك: 1. شريك في المسؤولية، 2. عقد العادة، بكتابة مراحل الالتزام بالعادة والعقاب الذي سيترتب على خرق العقد، وكلا الطريقتين تعتمد على رغبة كل فرد منّا في إظهار الصورة الأفضل منه.

أما في الخاتمة فقد كشف المؤلف لنا سرًّا يساعد على الحصول على النتائج الدائمة، هل سمعت عن “متناقضة سوريتيس” من قبل؟ هذه المتناقضة جاءت من مثل يوناني قديم، وهو يتحدث عن الأثر الذي يتسبب به فعل واحد بسيط إذا تكرر لعدد كافٍ من المرات، والمقصد النهائي من ذلك هو أنّ التحسينات الكثيرة المتراكمة تؤدي إلى إحداث الفارق، إذن ما السر؟ إنه عدم التوقف عن إجراء التحسينات.

ماذا تبقى؟ كي تلتزم في شيء ما، وتعرف جدواه ووسائل تحسينه، عليك بالتتبع والمراجعة؛ من أجل معرفة ما يلزم من تعديلات؛ لأنه على الرغم من كون الحفاظ على الجهد أهم شيء في تحقيق الهدف؛ فإن سر النجاح يكمن في تعلم الطريقة الصحيحة لتنفيذ الأشياء وتكرار ذلك، والمراجعة تعطيك تصورًا عن تقدمك وتجعلك واعيًا بالأخطاء كي لا تكررها مرة أخرى.

العادة كالذَّرَّة، شديدةُ الصِّغر، هائلةٌ نتائجُها! القليل الدائم نتائجه عظيمة، والتحسن المستمر يجعل منك إنسانًا أفضل كلّ يوم! لذلك اختر عادة بسيطة نابعة منك أنت لا لمحاكاة الآخرين فحسب! فكون العادة مرتبطة بهُويتك والصورة التي ترغب في أن تكون عليها له أثر كبير في الالتزام بها.

مثال تطبيقي: عادة القراءة؛ اجعل العادة واضحة (أبقِ الكتاب قريبًا منك)، وجذابة (اصنع تحفيزًا بعمل أجواء للقراءة مثل تجهيز مكان مريح ومشروبك المفضل، وانضم إلى نادي للقراءة)، وابدأ بشيء بسيط وسهل (5-10) صفحات، واجعلها مشبعة (تتبع قراءتك للكتاب في تطبيق Goodreads)، ويمكنك استخدام التقنيات المذكورة في الكتاب لتحافظ عليها.

شارك الصفحة

السر وراء بناء العادات: مراجعة لكتاب العادات الذريّة قراءة المزيد »

قراءة تعزف سيمفونية المعنى

قراءة تعزف سيمفونية المعنى

“القراءة الناجحة” هي: تلك التي تجعل النص يعزف سيمفونية المعنى، فيعثر القارئ على النظام الداخلي للنص، ويكتشف المضمر، ويملأ الفراغ بـأدوات: الربط والترتيب والإكمال والتسديد، ليكون قادراً بعد ذلك على: إعادة تأليف مقطوعة النص؛ بما يضيء العقول، ويمتع الأرواح، ويرهف الحواس؛ بكل ما يحيط بموضوع النص. ولا يحسن تخيل قراءة كهذه إلا في ظل سياق “نص ملهم”. إن النص الملهم هو الذي يشهد ميلاد قارئ أفضل!  لقد كان القرآن الكريم الأحفل بالإلهام على مدار التاريخ، مما جعلنا نشهد أعظم قارئ في الوجود!

القراءة الناجحة هي: “قراءة راصدة معنصرة” للقضايا والأفكار الكبرى في النص، مع تركيز عالٍ بما يسمح للقارئ أن يبلورها ويرتبها في قالب منطقي محكم. دون هذه القراءة، سيكون القارئ مشوشاً دون مُكنة على فهم الأطروحة أو النظرية التي يسعى النص لبنائها، ولا يكون العقل حينذاك إلا متوفراً على شذرات ونتائج مشتتة متفرقة، لا ينظمها في عقد واحد؛ فيفوِّت التصور الكلي للنص والأطروحة والنظرية.

قد لا يكون التوصيف السابق مفيدًا بدرجة كبيرة دون تطبيق عملي. حسناً، لنتخيل أننا نقرأ مقدمة ابن خلدون بوصفه “نصاً ملهماً”، فكيف ندفع كلفة القراءة الناجحة وفق توصيفنا السابق؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن لنا عزف سيمفونية هذا النص العظيم واعتصار قضاياه واحتلاب أفكاره؟

لا يتحقق ذلك بقراءة عابرة فاترة باردة، تتجاهل إتقان فن التحشية والتعليق والتلخيص، إذ تتوه حينذاك راحلة القارئ في قفر النص، وقد يعدم “زاد المعنى” و”ماء التصور”، وقد تحرقه “شمس المعلومات” أو تضلله “نجمة البلاغة”، فلا يصل إلى حيث أراد: قراءة تعزف سيمفونية المعنى.

ولكي أكمل البعد التطبيقي الذي وعدتُ به، أثبت ما دونته في حاشية المقدمة أثناء قراءتي لها، وهو تعليق تلقائي يلخص الأبعاد الرئيسة في نظرية ابن خلدون في العمران في جانب منها بحسب قراءتي الثالثة لهذا النص الملهم. وقد انسرب هذا التعليق في مجموعة من العناصر المتسلسلة منطقياً، وهي عموماً: “تحشية قارئ” لا “بلورة باحث”، حيث لم أشأ أن أزوقها من جهة البلورة والتوصيف، بل تركتها على “سجيتها القرائية”، فهي مسوقة للمثال لا أكثر. ابن خلدون رحمه الله يقول لنا:

1- الاجتماع الإنساني “المنظم” ضروري لعوامل مادية، إذ لا يطيق الإنسان تدبير طعامه وتأمين نفسه وحمايتها ضد العدوان الذي هو “طبيعي في الحيوان”، دون تعاون وتضافر وفق نظام معين، فعُوّض الإنسان بـ “الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع، مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة، والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة”، وهذا كله مفتقر لتعاون وثيق. ويختص الإنسان عن الحيوان بجانب الصنائع بالعلوم، بجانب اختصاصه بخاصية الملك، وهو ما يفسر سر سمو العمران البشري وانتظامه وتطوره.

٢- ثمة تأكيد لاحتياج الاجتماع الإنساني إلى “وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض”، والاجتماع الإنساني ضروري أيضا لما ركُب في النفوس من حب المؤانسة مع الآخرين.

٣- الاجتماع الإنساني بضرورياته السابقة مفضٍ إلى نشوء فكرة “الرئاسة”، ومع “أن الإنسان رئيس بطبعه، بمقتضى الاستخلاف الذي جُعل له”، غير أن الرئاسة تؤول في نهاية المطاف لمن يمتلك مقوماتها وهي السؤدد والاتباع، وقد تتشوف النفس إلى ما فوق الرئاسة، وهو: الملك، الذي = الرئاسة + القهر بالأحكام.

٤- الاجتماع الإنساني قائم على “قانون التغير”، وذلك “أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد”، وهذا يفيد أن الإنسان والمجتمع ديناميكي متغير، وهذا “شأن كل مُحدَث”.

٥- البداوة تمثل حالة من حالات الاجتماع والتعاون وهي سابقة للحضارة وعنصر منشيء لها، “فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة”.

٦- البداوة تقوم على التعاون على “الضروري” تحديداً، وتعجز عما فوقه: “الحاجي والكمالي”.
٧- البداوة أكثر توحشاً، لأنها تقوم على الظعن: الارتحال المستمر (أهل الإبل أكثر ظعناً وإيغالاً في الصحراء مما يجعلهم أكثر توحشاً).

٨- البداوة أميل إلى الخير لأسبقيته إلى البدو، وذلك لبعدهم عن الترفه والكماليات.

٩- البداوة تتطلع للحضارة، فالبدو يتطلعون إلى: التماس الحاجيات والكماليات في معاشهم.

١٠- البداوة أكثر قوة وشجاعة وعصبية التي هي “التحام بالنسب وما في معناه”، على أن العصبية القوية إنما تكون في “الصريح من النسب” الذي يوجد في الصحراء والقفر.

١١- كلما كان العيش الصحراوي أكثر قسوة ساعد ذلك على نقاء النسب، إذ لا أحد سيقترب من عيش مكفهر كهذا، وهو ما يضمن للبدو عصبية صافية صلبة؛ مما يجعل البدو أمكن في إلحاق الهزيمة بأهل الحضارة الذين “ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة … واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم … لا تهيجهم هيعة ولا يُنفّر لهم صيد”. بخلاف البدو الذين “ينفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقاً، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ أو استفزهم صارخ”.

١٢- العصبية شرط ضروري لتحصيل كل من: المدافعة، المقاومة، الحماية، المطالبة، فتقوى العصبية وتكتسب مشروعيتها وصلابتها.

١٣- تتغير أخلاق البداوة وعوائدها مع استيطان البدو في المدن، إذ يألفون حياتها شيئا فشيئا، وفي هذا تأكيد لقانون التغير.

١٤- يستكثر البدو المستوطنون من الرفه والحاجيات والكماليات والتأنق.

١٥- يضعف خلق البأس والمنعة داخل الحضارة، من جراء وجود قانون حاكم يضبط التصرفات والسلوك، وقد يكون القانون عادلاً، مما يضعف هذا الخلق شيئاً فشيئاً، وقد يكون صارماً قاهراً، فينكسر البأس وتضعف المنعة بسبب التكاسل في النفوس المضطهدة، وقد يكون قانوناً عقابياً وهو ما يذهب بالبأس والمنعة بالكلية. وأما الصحابة رضوان الله عليهم “فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت، ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم”، فقد كان “الوازع لكل أحد من نفسه”، وقد قال عمر رضي الله عنه: “من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله”. “ولما تناقص الدين وأخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعلم والتأديب، ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام، نقصت بذلك سَورة البأس فيهم”.
١٦- يدب في أهل المدينة والحضارة الضعف والدعة والرفه ويكثر فيهم الشر والقبائح، في قالب تغير لا ينخرم.

١٧- الحضارة هي: نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير.

١٨- يُصاب أهل الحضارة بكل أدواء الضعف والميوعة، ويفتقدون للمعرفة بالنواحي والجهات وموارد الماء ومشارع السبل، “وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه من الأحوال حتى صار له خلقاً وملكةً وعادةً تنزل منزلة الطبيعة والجبلة”، وبذلك يكون حالهم “كدود القز ينسج ثم يفنى”.

١٩- يأتي بدو أقرب إلى الخير والقوة والعصبية، فيهجمون على أهل الحضارة ممن حولهم ويتغلبون عليهم، للأسباب التي سقناها سالفاً.

٢٠- يستوطن البدو المتغلبون في المدينة، ويتغيرون وفق قانون التغير، وهكذا تدور العجلة ويتكرر السيناريو، مرة بعد أخرى.

هذا مجرد مثال تطبيقي لـ قراءة معنصرة للنص، أي أنها قراءة تسعى لعزف سيمفونية المعنى.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني.
هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية.
إن تعبير "لغة العلم" من أكبر المغالطات التي سيطرت علينا في العصر الحالي.

قراءة تعزف سيمفونية المعنى قراءة المزيد »

حكاياتٌ أولى من زمالة قرّاء

صورة-زمالة-القراء-

عجيبة هي قدرة الإرشاد على اختصار الطّريق، وإثراء رحلتنا في الحياة، وأعجب منها قدرتنا على العطاء!

أن يعطيك إنسانٌ خبرة السّنين على طبق من حوار، يغمرك بكرم نصحه، وجميل مشاركته لما مرّ به، وخبره في سنيّ عمره، تسأله عن المجهول تخافه؛ فإذا هو قدّ عاشه قبلك، وتمدّ له يدك؛ فيأخذها بيده ليتّصل المسير، في طريق يدلّ فيه السّابق اللاحق، ويكمل فيه اللاحق أثر من سبقه.

من هنا انقدحت الفكرة: زمالة قرائية!

أعلنت شركة نديم قبل ثلاثة أشهر عن برنامجها المبتكر “زمالة قرّاء”، والذي توفر فيه بيئة معرفية مبتكرة للتمكين من أدوات القراءة، عبر ربط القراء المشاركين بمجمعة من المستشارين المميزين في قراءة الكتب وتقييمها، وهي أكملت اليوم أكثر من 100 جلسة استشارية!

في كتابه الفريد، ميراث الصّمت والملكوت، ينقل الأستاذ الهدلق عن ويل ديورانت في قصّة الحضارة:

“أن امرأة تدعى نينون دلّانكلو عاشت في عصر لويس الرابع عشر 1643 – 1715 حياة فاضحة متهتكة؛ إلا أن تلك الحياة لم تمنعها من أن تلتقط قدرًا من المعرفة لا يُستهان بها، وأن تفتح صالونًا أدبيًّا تقاطَرَ إليه أربابُ الأدب والفن والسياسة، حتى أذهلت باريس كلها بما أبدت من ذكاء ومعرفة؛ بل إنها أثارت فضول الملك لويس نفسه فاستمع إليها في قصره من وراء ستار.

عُمِّرت نينون بعد أصدقائها كلهم تقريبًا، فلما دنت منيَّتُها لم تترك في وصيتها -على ما بلغته من ثراء- سوى مالٍ يسيرٍ لجنازتها حتى تكون أبسط ما يستطاع؛ ولكنها كتبت: أطلب في تواضُع إلى المسيو لاروية -وكان وكيلها- أن يسمح لي بأن أترك لابنه الذي يتلقَّى العلم عند اليسوعيين ألف فرنك ليشتري بها كتبًا”.

قال ديورانت: “واشترى الابن الكتب، وقرأها، وأصبح فولتير”!

في «زمالة قرّاء» يرتبطُ ثمانية عشر مرشدًا خبيرًا بستّين زميلًا شابًّا، تجمعهم الكتب والقراءة وشؤونها على شاطئ الحياة، وأحيانًا في بحرها لجيّ التّجارب. في رحلة بين الكتب، وتجارب الحياة!

ليست «زمالة قرّاء» إلّا محاولةً لجعلنا نقرأ، نحن، ومن حولنا، ومن سيأتي بعدنا. محاولةٌ لمدّ جسرٍ يصل السّابق باللاحق في عوالم القراءة، وينسج روابط الود بين أهل القراءة وعاشقيها، لنستعين بها على مشقّات المعرفة، ونذوق بها حلاوات العلوم.

يقول الأستاذ حاتم الكاملي عن الزمالة، وهو أحد مرشديها الكبار:

“مبادرة شبابية رائعة تربط الشباب في مقتبل حياتهم بمن سبقوهم في رحلة القراءة. تشرفت بالمشاركة بها، وتفاجأت بمستوى القراءة لجيل الشباب الصاعد؛ شباب لم يلامسوا العشرين، تعليمهم رائع، يقرأون في كل الفنون، من روايات ديستويفسكي إلى تاريخ ابن كثير، ومن الجاحظ إلى طه حسين، ومن كتب الفيزياء إلى ريادة الأعمال والتقنية”.

وتُحدّث إسراء عن تجربتها في خوض رحلة الزمالة، فتقول:

“إنني خلال هذه الجلسات استفدت فائدة عظيمة جدًّا في معرفتي وتبصري بنفسي، وتأملي لعاداتي القرائية، وأخذت عن مرشدي وصايا قيمة لرسم خطة قرائية جادة تناسبني، ونصائح لتدوين فوائد الكتب بصورة فعالة وبعيدة المدى”.

أثرُ القراءة لا يُرى.. أثرُ القراءة لا يزول!

إن قيمة هذه المبادرة لا تكمن فقط فيما تنطوي عليه من قيم الإرشاد والتوجيه، بل تتجاوزه إلى ما هو مبثوث فيها من روح العطاء الحية، والمجتمع القرائي التفاعلي، والمشاركة المعرفية الثرّة، والتي تخلق بمجموعها بيئة ملهمة تعزز من حماس شبابنا القرَّاء للقراءة، وتدفعهم لاستكشاف آفاق جديدة في عوالمها الفسيحة.

يرسم مشاري لنا أثر الجلسات الإرشادية فيقول:

“مذ جلستي الأولى مع مرشدي وأنا أجد في نفسي رغبة ملحة ومؤرقة بأن أقطع أكبر كم وكيف من الكتب قبل لقائي التالي معه؛ حتى أقدر على توظيفها وتفعيلها في جلستنا لاستخراج ما لدى المرشد، ومنذ وصلني موعد الجلسة الثانية وأنا أعدّ لها”.

 وكم تنطوي زمالة قراء على قصص وحكايا، تبرز حاجتنا لمثل هذه المبادرات التي تبنينا من خلال بعضنا البعض.

وفي مهارات القراءة تحديدًا، تبرز إحدى أهم الفوائد التي تقدمها زمالة قرّاء، وهي تعزيز النقد الذاتي والتفكير العميق في المقروء، من خلال النقاشات المتعمقة، والمراجعات الجماعية، يتعلم الأعضاء كيفية تقييم الكتب بموضوعية، وتحديد الأفكار الرئيسية، والبحث عن الروابط بين المفاهيم المختلفة، وكلّ هذا نتيجة تفاعل القارئ مع مرشده، ومجتمع الزمالة ككل.

كما تسهم الزمالة في بناء شبكة اجتماعية قوية تجمع محبي القراءة، فالعلاقات التي تُبنى خلالها على أساس الاهتمامات المشتركة بالقراءة تكون أكثر استدامة وإثماراً، ويمكن للأعضاء الاستفادة من تجارب بعضهم البعض، سواء في مجال القراءة أو في الحياة بشكل عام.

بالإضافة إلى ذلك، توفر زمالة قرّاء بيئة ملهمة لتبادل التوصيات حول الكتب. يمكن للأعضاء مشاركة قائمة بالكتب التي أثرت فيهم بشكل كبير، مما يساعد الآخرين في اختيار قراءاتهم المستقبلية بناءً على توصيات موثوقة ومجربة.

تساهم المبادرة أيضًا في تطوير مهارات البحث والتحليل. فالقراءة المتعمقة تحتاج إلى قدرة على التفكيك والتحليل، وربط المعلومات والأفكار ببعضها البعض. هذا الأمر يعزز من القدرات العقلية ويجعل الأعضاء أكثر قدرة على مواجهة تحديات المعرفة. إلى معاني أثرى لعلّها تبرز نسخة بعد أخرى إن كتب الله للزّمالة النّمو، فهذه نسختها الأولى فقط.

ولئن كان الهدف الأسمى لزمالة قراء هو إرواء القارئ الفرد من بئر التجارب الإنسانيّة، فإنّما يتمّ هذا عبر مجتمع قارئ حيّ، قادر على مواجهة تحديات العصر، ومستعد لبناء مستقبل أفضل، قائم على أسس من الفهم العميق للنفس والناس، لنغيّر بالقراءة أنفسنا؛ فيتغيّر بنا العالم.

شارك الصفحة
المزيد من الأخبار

حكاياتٌ أولى من زمالة قرّاء قراءة المزيد »

فضيلة الفَنَاء 

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

فضيلة الفناء

إن الفناء فضيلة ليس في ذاته، إنما بممارسة التفكير فيه بعقلية واعية ناضجة تؤدي إلى حسن التبصر بحقيقة الأشياء، وتوازن تصوراتنا تجاه كل ما ترى فتكون محورية مثمرة لا غلو فيها ولا إجحاف، فتظل النفس ناضجة سوية مستقرة. يدور معنى الفناء في اللغة حول فقدان النفع الأساسي للشيء كالشيخ الفاني الذي ذهبت قوته. وكما هو معلوم من الضد تظهر معاني الأشياء ومآلاتها، والبقاء ضد الفناء، ولذا فإن أصحاب العقول النيّرة يلمحون الفناء في أوج اكتمال الأشياء، فكل قوة آيلة للزوال، وكل جمال ذاهب، وكل كثرة تقل، وكل اجتماع مفرق، وكل تماسك مفكك، وكل ارتفاع ساقط، ونور كل شيء مظلم في أساسه حتى نبصر الفناء فيه فنرى الأشياء كما هي.

إن نمط الحياة الحديثة بما تحويه من أفكار وسلوكيات وسرعة بالتغيرات والتحولات تجعل الذهن في حالة من الوهن الإدراكي فتغشي البصيرة عن رؤية الفناء؛ إذ كُثّف الإحساس في اللحظة الآنية، فصار ماضيها كالمجهول ومستقبلها لا يتجاوز لحظته إلا بقليل، وعمّق ذلك الوهن الإدراكي الوسائط الحديثة بمختلف أشكالها؛ إذ رسخت التفاعل الفوري بتتابع الأحداث دون قدرة الذهن على القيام بعمليات الإدراك والتحليل والنقد، فأضحت القدرة على التفكير إما واهنة أو تابعة لقوالب فكرية محدودة أو مريضة بوهم المعرفة، والإشكال أن لو أدرك الإنسان فناء الشيء استعاض عنه بكثرة امتلاك الأشياء؛ ظنًا منه أن يمسك معنى الخلود في كثرة ما يملكه، فلم يعد الامتلاك نفسه معنىً أوليًا أو رئيسًا، بل كثرته، فالكثرة أصبحت وهمًا يطارد الإنسان عثورًا عن معاني الخلود، وصدق الله: {ألهاكم التكاثر} التكاثر:1. ويا لها من كلمات من نور تدعو إلى التأمل والتفكير، وتضيء وهمنا بداء الكثرة، وهو المرض العضال الذي يغذي وهم الخلود.

إن عامل الزمن رئيس في إدراكنا وتصوّرنا للفناء، فكلما باعدت عقولنا المسافة في زمن تطور الصناعات الحديثة استطعنا ربط الأفكار بمقاصدها ومآلاتها، فينضج التصوّر ويستقيم، وكلما استجابت العقول لتتابع الصناعات وتطورها انزلق الفكر في وهم الخلود؛ ظنًا أن التقدم يسهم في البقاء والخلود؛ بما يحل من إشكالات طبية وصحية وتعليمية وكل ما له شأن في الحياة والعيش، ولذلك لا نستغرب أن نلمس أن المعاني العذبة ترافق نظرنا في بدايات الأشياء؛ كوننا نظرنا إلى إنجازاتها الآنية وصورها الظاهرية فقط دون إبصارها برؤية كلية ونظام فكري يربط السابق باللاحق من حيث فناؤهما جميعًا، وهذه التصورات التي تصاحب البدايات في كل شيء غالبًا ما تكون ناقصة مموهة بطلاء الإعجاب والزخارف والغموض الموهم بالكمال، مما يجعلنا في مطاردة الوضوح الذي يُظن فيه الخلود ولسنا بذائقيه إلا بمصادقتنا للفناء الكامن فينا أولا وفي كل من حولنا.

فضيلة الفناء 1

إن جدلية الفناء والخلود الصراع الأول للإنسانية إلا أنه صراع خفي لا قدرة للإنسان لمواجهة هذا الصراع إلا بالإيمان المقتضي للتسليم، وبدون الإيمان تظل الهزيمة أمرًا حتميًا للإنسانية كلها بمختلف حضاراتها وأعراقها، وقد تفرّع عن هذا الصراع الأزلي في العصر الحديث أزمة فقدان المعنى؛ كونه فقد أو تاه منه الفناء في الأشياء، فظلت العقول تبصر نصف الحقيقة والأخرى تائهة منها تلاحقها في منظومات فكرية وفلسفية فارغة من نصف الحقيقة، وهذه الحقيقة تكمن في القرآن الكريم وأخبار الرسل الصادقة اليقينية، وهذان المصدران يهبان لنا المنظار الحقيقي للأشياء، منظار الفناء الذي يحقق نظرة صادقة للأشياء مطابقة لواقعها الظاهري والباطني، سالمة من الأمراض النفسية والاجتماعية من النفعية والشره والبخل والخداع والكذب والغش والجشع والحرص والتعلق وحب التملك وحب العاجلة، إذ لا تُرى الأشياء كما هي فيكون الإنسان عبدًا دون أن يشعر لهذه المتعددات، في حين أن شعور الفناء المصاحب للأشياء يمكننا من رؤية مطابقة لحقيقة الأشياء، وتمنح الإنسان الحرية، وعلى أساس هذا النظر الواعي تزول أو تخف أمراض الإنسانية.

الفناء نظرة تأملية في حقيقة الأشياء وهويتها، لا تركن بنا إلى المحسوس دون الباطن، بل تحقيق النظر كليهما في محسوس وباطن، ومن أُعطي النظر الثاقب لحظ باطن الشيء من محسوسه، فبانت له الحقائق واطمأنت لها نفسه وسكنت له جوارحه، يقول المأمون: لو نطقت الدنيا ما وصفت نفسها بأحسن من قول أبي نواس:

وما الناس إلا هالك وابن هالك                 وذو نسب في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت                  له عن عدو في ثياب صديق

وأنا من المؤمنين بضرورة عيش الحياة بسعادة وطمأنينة وأكثر راحة ما أمكن ذلك، حتى يتم لنا تحقيق ما نصبو إليه من آمال وطموح وإنجازات، وما يدفعني لهذا القول ألا تكون نظرتنا للفناء من جانبها السلبي أو إنزال النظر للفناء من باب التثبيط أو الاستسلام واليأس، كلا ولكن من باب الصحة العقلية، وإحسان النظر للأمور وتقديم أفكار تجعلنا متصالحين مع أحوالنا وأعمارنا وهيئتنا، وتحررنا من كثير من الأوهام وكبت الرغبات والأطماع الزائفة، ففضيلة الفناء تقينا وطأة القلق والاكتئاب، ومن الخوف، خوف فقدان الشيء، أو خوف المجهول، يقول فرانكلن روزفلت: “الشيء الوحيد الذي يستحق الخوف هو خوفنا نفسه”، نظرة الفناء الحكيمة تحول الخوف إلى طمأنينة ومقاومة وتغيير ورغبة ومداواة؛ كوننا أدركنا منه طبيعة الحياة ونقائصها ونقائضها، وتجعل الإنسان معتزًا بما وهبه الله راضيًا مسلمًا وشاكرًا. فضيلة الفناء تخلصنا من الاهتمام المبالغ بالجسد إلى إنعاش الروح بالتسليم والإيمان. فضيلة الفناء تجعلنا ندرك بأن الإنسان ضعيف لا يلجأ إلى فانٍ مثله، بل يلجأ إلى باقٍ يرشده ويهديه ويصمد إليه. فضيلة الفناء تعطينا تفكيرًا مركبًا لا أحاديًا؛ إذ ننظر للأشياء من جانبيها المشرق وما تؤول إليه فلا نصدر الأحكام من البدايات والمحسوسات ونتشبث بالعاجل، بل هناك طريق طويل يُستبصر بالفناء. وتدعونا هذه الفضيلة إلى إعادة التفكير في مجريات مواقف الحياة وتجاربها فتخلق فينا نضجًا ووعيًا مكثفًا لقراءتها من صورتها المكتملة. فضيلة الفناء تحلينا بخلق الصبر والرحمة والشجاعة والكرم، وجل الأخلاق راجعة إليها، فضيلة الفناء حكمة وسكينة وهدوء واندهاش، فضيلة الفناء دواء للعقول وفقه للقلوب بالإبصار الحقيقي للأشياء.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة الفَنَاء  قراءة المزيد »

التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية!

التخصص كمدير يحرمك الترقية

 لدي قناعة أكيدة بأهمية وجود تخصص علمي، أو معرفي، أو مهني، أو حياتي لكل واحد منا، كي يكون عمله مثمراً ونتاجه مقدراً.

لا إشكال عندي البتة في هذا، بيد أنني أعتقد أن التخصص يحتاج إلى مراجعة وتأمل من وجوه عديدة من وقت لآخر، بما في ذلك تعريف التخصص وتعيين حدوده، وهل ثمة تعريف وحدود تناسب الكافة، أم أن المسألة تحتاج إلى تفصيل؟! هذا النص الصغير يقوم بشيء من المشاكسة الخفيفة حول فكرة التخصص أو لنقل: في هجاء التخصص.

يحذر العلماء النابهون كابن خلدون -في المقدمة- من احتجاب “الحِكم القريبة”، ويكون ذلك من جراء القرب الشديد من الأشياء والاندغام التام معها، فالألفة كما يُقال حِجاب، إذ هي تفوِّت علينا فرصاً للتأمل وساحات للاندهاش، فلا نفطن لعجيب، ولا نلتفت لغريب !

ومن العوامل التي تجعلنا قريبين من الأشياء بأكثر مما ينبغي “التخصص”. ومن هذه الزاوية تحديداً تتخلق مشروعية نقدنا له، الذي سيكون عبر توصيفات مكبسلة :

1- “التخصص يكون أحياناً كالمدير المتسلط الذي يحرمك الترقية!”

نعني به التخصص الدقيق الذي يكون مصحوباً بانعدام أو ضحالة القراءتين “المسطورة” أو “المنظورة” أو كلتيهما، إذ يكون حينذاك سبباً في عدم حصولك على “ترقية معرفية”، فلا تستوعب المسائل والقضايا التخصصية في سياقها الحياتي، والتاريخي، والاجتماعي، والحضاري، والوجودي، إذ إنك تكتفي بفهم تخصصي صرف، مع إتقانك للجانب الإجرائي المتعلق بخبراتك وعملك، مما يشعرك بالتفوق والاكتفاء.

وقد يكون هذا المسلك التخصصي كافياً لحصولك على عمل جيد، بل ربما تتمتع بترقيات في عملك، وقد تتلقى عروضاً مغرية من جهات أخرى، ولكنك في الحقيقة تخسر ما هو أثمن؛ الترقيات المعرفية التي تجعل منك عارفاً ومخترعاً، والترقيات الحياتية التي تجعل منك إنساناً ومتدبراً، فتغدو مع تخصصك الدقيق كالآلة التي تعمل بوقود خاص!

2- “التخصص قد يصم آذاننا، فلا نسمع شيئاً غير ضوضائه ولغطه!”

نحن بحاجة أحياناً إلى إسكات صخب تخصصاتنا. لِمَ؟ لأن هذا الهدير المتكرر الممل يجعلنا غير قادرين على الاستماع بحس مرهف لنداءات معرفية جديدة واستشكالات فلسفية متجددة، أو الإنصات بصدق لشلال الحياة الهادر بالعجيب والمدهش والتلقائي. وهنا يتخلق سؤال منهجي يحسن بنا أن نفكر فيه ملياً: هل ثمة ألفة في تخصصنا تحجب عنا حقائق أو نتائج ذات قيمة وأثر؟ وكيف ننفك عنها؟

لعلنا نعود لابن خلدون، وننظر ماذا فعل لكي ينعتق من إسار التخصص وينفك من قيوده، وكيف نجح في تأسيس حقول معرفية جديدة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع؟

لن نستطيع تبين طعم التفاح حتى نتذوق البرتقال، أليس كذلك؟ لقد هجر ابن خلدون “تفاح التاريخ” ليتذوق “برتقال الفلسفة”، فكان منه الظفر بفلسفة التاريخ وعلم العمران. السر يكمن في إيمان ابن خلدون بضرورة الارتحال من النظرة المألوفة في التاريخ والعمران إلى نظرات أخرى، وهو ما يجعلنا نقرر بكل اطمئنان هذه القاعدة المنهجية: لا يكون ثمة قدرة على تأسيس معرفي جديد دون ممارسة نقد موضوعي دقيق؛ عبر مِرشاد (بارادايم) آخر، كي يكون الناقد قادراً على النفاذ إلى “المحارة ذات اللؤلؤ الكبير”.

في تقديري، إن “المؤرخ الفائق” لا يستطيع أن يكون “فيلسوف تاريخ”، لأن “الرواية” مقدمة عنده على “الدراية”. ويبدو لي أن ابن خلدون استطاع أن يكون فيلسوف تاريخ فائق لأنه مؤرخ جيد (وليس فائقاً)، تماماً كالناقد الذي هو بعضُ شاعر.  وهذا ما دعاه إلى التقرير بأن الرواية وعلم التعديل والجرح مقدمة في علوم الشريعة لكونها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بها، وهذا يعني أنه مايز بذكاء شديد بين مِرشادين: “مرشاد الرواية” الصالح لأخبار الشريعة وتكاليفها، و”مرشاد الدراية” الملائم لأخبار التاريخ وقوانينه. 

ومن اللافت أن ابن خلدون رحمه الله لم يكتفِ بتأسيس حقول معرفية جديدة عبر الارتحال من ضيق التخصص والبحث إلى سعة النظر والتأمل،  إذ كان واعياً بمقتضيات “النص الكوني”، ولذا فقد عمد إلى صبغ نصه بالكونية عبر التعويل على بيانات واقعية إنسانية ذات طبيعة كلية، مما أوصله إلى قوانين أو تعميمات أو فرضيات كلية أو فيها نفس كلي، وهو ما أدى إلى إدراج نصه ضمن النصوص العالمية الملهمة، ومن ذلك قوله:

“وكأنه علم مستنبط (=العلم الجديد في المقدمة: فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع)، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، فالعلوم كثيرة، والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون”.

التخصص يكون أحياناً كالنظارة المكسورة أو المغبَّشة، وهو ما يدفعنا إلى: تغييرها، أو تنظيفها، أو ارتداء عدسات لاصقة، أو الاستغناء عنها بالتشطيب، وقد نكتفي بمجرد خلعها بعض الوقت ومعاودة ارتدائها. وزبدة القول: ابتعدوا لكي تقتربوا!

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني.
هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية.
إن تعبير "لغة العلم" من أكبر المغالطات التي سيطرت علينا في العصر الحالي.

التخصصُ كمديرٍ يحرمُك الترقية! قراءة المزيد »

المكسب الأخير من الثروة: مراجعة لكتاب سيكولوجية رأس المال

المال عصبُ الحياة..

هذه حقيقةٌ تشرق على الأيام مع كل إشراقةِ شمسٍ جديدة، تتجدد في كل يومٍ ويكثُر أنصارها وطُلّاب الحياة السعيدة. وهي أوضح من شمس النهار عند ذوي الأبصار، وأصدق من المتحدّث الرسمي في نشرة الأخبار. لا يجادل فيها إلا جاهل بمقاييس هذا الزمان، ولا يزهد فيها إلا عاجز وغريب وليس بإنسان. هذا ملخّص حالنا نحن أبناء هذا العصر الرأسمالي بامتياز، لا حديث لنا أشهى من حديث المال، ولا شغل لنا إلا الحديث عن فلانٍ كم ملَك وفلانٍ كم حاز.

المال منذ الأزل كان ولا يزال فتنة، فكما جاء في سورة الكهف: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ولو تساءل أحدنا لماذا أتت هذه الآية في سورة الكهف تحديدًا، لكان في مقصد السورة العام إجابةً فيها العظِة والعبرة. لأن مقصد السورة في بيان منهج التعامل مع الفتن، والمال لابد أن يكون حاضِرًا عند الحديث عن الفِتن.

وقد منّ الله علي وقرأت هذا الكتاب الذي عُنون له بـ سيكولوجيّة المال، فكان نفعهُ عظيم وتأثيره جسيم. ولشدّة إعجابي بما جاء فيه، اصطحبته إلى حيث أعمل وتركته على مكتبي يزيّن المكان ويذكّرني بقواعدهِ الحِسان. وقد استهوى زملائي عنوان الكتاب وودّ أكثرهم لو قرأه واستفاد منه طريقةً تثريه أو خطّةً تعمل في حسابه البنكيّ عمل الفانوس السحريّ. وليست هذه فكرة الكتاب من الأساس، وهذا ما اجتهدت لتوضيحه فكانت الردود متشابهة؛ خذ أنت السيكولوجيّة وأعطنا المال.

والكاتب أجهد عقله ليُفلسِف فكرة الثراء بعيدًا عن حيازة الكثير من المال. وقد يستغرب القارئ بدايةً هذا النهج، لأن الثراء ارتبط منذ ارتجّت الأرض بـهدير الترسانة الرأسمالية بالكثرة والتكثّر، والمزيد والتزوّد. فجاءت فصول الكتاب العشرون تباعًا تحاول رسم تصّور جديد أو حقيقيّ عن طبيعة المال، وما أقصى ما يمكن المال تقديمه للإنسان، وكيف يؤثر كلّ من الماضي والبيئة والحظ على تعاطي الإنسان مع المال حال تدفّقه.

المقارنة الاجتماعية:

كم منّا كان ضحيّة “هبّة” أو ترند كما يحب الناس تسمية هذا الأمر؟ هل اشتريت مضربًا ولعبت البادل يا صديقي؟ هل اشتريت خيطًا مائيًا؟ فرنا هوائيًا؟ عطرًا جديدًا؟ أم زرت مطعمًا يابانيّا؟ أو حضرت فيلمًا لأنه ترند على سبيل المثال؟

الضغط الاجتماعي الذي تفرضه منصات التواصل كبير جدًا، وهو يشبه الريح التي تجبر القبطان على مسايرتها لا الوقوف في طريقها. والترند أصبح حاضرًا بقوّة، وليس ثمة ترند لا يتطلب إنفاق المزيد من المال. ولأن من أهداف الكتاب أن ينبّهك على طرق التعامل مع المال، كان يجب أن يلفت الانتباه إلى الضغط الاجتماعي الذي يُمارس على الأفراد حتى ينفقوا المزيد من المال، ليس للحاجة، بل لمجرد الشعور بالانتماء أو المقدرة. فكثير من الناس تضطره المقارنات الاجتماعية إلى شراء أشياء وزيارة أماكن لا تعني له كثيرًا، ولكنه يريد بذلك إفادة الآخر أنه يشبهه وأنه يستطيع هذا الأمر. لديه مالٍ كافٍ للاقتناء والتجربة والسفر.

والكاتب لا يحرّض الافراد على الإمساك عن الانفاق على الكماليات والترفيه، ولكنه ينبّه على الأساليب التي يمكن من خلالها استنزاف محفظتك حتى تضع لها حدًا يناسب دخلك.

قيمة الأشياء:

من الحيل التي تنطلي على كثيرٍ من الناس، هي اعتقادهم بأن الأشياء التي ينفقون عليها أموالهم تعطيهم قيمةً أعلى في المجتمع وبين أوساط الناس. فمثلا الذي يشتري منتجًا معيّنًا ثم ينشر صورته على مواقع التواصل، أو يتباهى به على مرأى ومسمع زملائه وأصدقائه، ويتلقى إعجابهم بهذا المنتج ويفرح به، يغيب عن عقله أن الإعجاب كان بالمنتج لا به هو. فإن كانت السيارة التي تركب مميزة وباهظة الثمن، فكل من في الشارع قد أبدوا اعجابهم بالسيارة إما بالتحديق، أو الابتسامة، أو التصوير، ليست بك أنت. وكذلك الأمر مع المنتجات الالكترونية والملابس الفاخرة وما شابه. فالإنسان ربّما أنفق مالًا طائلًا ليرفع من قيمته بين أوساط المجتمع إلا أنه لا شيء من ذلك يحدث. الغالب أن قيمة الإنسان مرتبطة بما يفعل وما يقدم وما يعرف، لا بما يملك، حتى وإن أبدى الآخرون تقديرًا كبيرًا لأولئك الذين يملكون أشياء ثمينة، يظل هذا التقدير مؤقتا سرعان ما يزول.

الحظ:

راقتني فكرة الحظ والتي نسمّيها نحن المسلمون “الرزق“. بمعنى أن رزق الإنسان مكفول وهو آتيه بلا نقص وأنه لو جرى من رزقه هربًا كما يفعل مع الموت، لأصابه رزقه كاملًا كما يصيبهُ الموت. وتشبه فكرة الحظ هذه اليد التي تربّت على كتف المسلم حين يعلم أن رزقه مكفول، فهي تربّت على أكتاف هؤلاء الرأسماليين، وأن ما يفعله أحدهم ويُعد نجاحًا باهرًا، قد يفعله الآخر ويُعد فشلًا ذريعًا لمجرد أن الحظ حالف فلان، ولم يقف بصفّ الآخر.

الادخار:

أما الادخار فهو برأيه عين الثراء وأصله وأساسه. فمن يستطيع اقتطاع مبلغٍ من دخله الشهري وتركه بعيدًا عن مطامع نفسه وشهواتها ويستمر على هذه العادة عُمُرًا، فهو الثريّ حقًا. لأن نصيبًا كبيرًا من الثراء يكون في ألا تنفق كلّ ما تملك. فما بال أُناس يتدفق المال في أيديهم لزمن، ما أن ينضب مصدر هذا المال حتى يعودوا معدمين أو شبه معدمين كما كانوا قبل هذا الأمر. المال له طبيعة لا تتبدل، ومن طبيعته أنه يذهب سريعًا إذا أطلقت يدك فيه، ويتكاثر إذا هيّأت له أسباب التكاثر. وقد ضرب مثلًا أجده نافعًا جدًا في هذا الباب حين قارن بين استهلاك الولايات المتحدة الأمريكية للنفط في عام 1960 وفي العصر الحاضر. فكانت كمية الاستهلاك تقريبا مشابهه، مع العلم أن عدد السيارات والطائرات والسفن وما شابه أكثر بكثير منها قبل ستين عامًا. الفارق أن مُستهلكات الطاقة في عصرنا هذا صُممت على أن تستهلك وقودًا أقل، فلم يحتج لزيادة كمية الاستهلاك. تماما مثلك أنت، حين تقتصد في مصروفاتك، فسيكون دخلك زائدًا عن مصروفاتك وتشعر بالوفرة التي ستتحول مع الوقت إلى مدّخرات.

الاستثمار:

ومن أسباب تكاثر المال وأنفعها، الاستثمار طويل الأمد. لا تعجل على الاستثمار حتى يعطيك زُبدته ويريك العجب في قدرته. ذكر المؤلف أسماء أشخاص كثيرون أصبحوا من أثرى أثرياء العالم لفترات من الزمن، ثم طويت تلك الصفحة وأزيلت أسماءهم من سلّم الأثرياء انتهى بهم الأمر مسجونين. بينما هنالك اثنان أو ثلاثة منذ أكثر من عقد من الزمان ولا تزال أسماءهم على رأس قائمة أثرياء العالم. على سبيل المثال ذائع الصيت “وارن بوفيت“. مصادقًا على مقولة أنه ليست الصعوبة في الوصول، بل في الاستمرار في القمة.

من لم يتعلم الصبر في الادخار، لن يصبر على الاستثمار طويل الأمد وكثير النفع. فالادخار البوابة الصحيحة للاستثمار.

والفكرة الأخيرة التي أود الإشارة إليها لأنها دعتني للتفكير بجديّة تجاه المال ككُل، هي في ماذا يمكن أن يُقدّم المال لصاحبه؟ أو ما هو الشيء الذي لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان بغير المال. هذا لو افترضنا أن الإنسان من متوسطي الدخل الذين يملكون سكنًا ووسيلة نقل ويتلقون تعليمًا وخدماتٍ صحيّة ويعيشون في دول مستقرة. لنفترض أنك هذا الرجل أو تلك المرأة، تملك أسباب الحياة، فما الاضافة الكبيرة التي يمكن أن يضيفها الكثير من المال إليك بعيدًا عن توفير سبل الحياة، لو افترضنا في هذه الحالةِ أنها متوفرة.

“The ability to do what you want, when you want, with who you want, for as long as you want, is priceless”

لعل هذه الجملة هي فحوى الكتاب ومداره الذي عليه يدور، وهي كما أفهمها وأترجمها تقول:

“القدرة على فعل ما تريد، وقت ما تريد، مع الشخص الذي تريد، للمدة التي تريد، يعد أمرًا لا ثمن له”، أو بمعنى آخر؛ الإضافة الأهم التي يقدمها الكثير من المال للإنسان. أي بمعنى أوضح وأدق: يمنحك الحريّة. حرية تداول الوقت. فلست ملزمًا بالالتزام بعمل معيّن لساعاتٍ معينة بشكل معيّن في مكان معيّن ومع أشخاص معيّنون خلال حياتك. بل أنت من تحدد هذه الأمور وترسم ملامح يومك كما تريد أو كما يحلو لك. حياة الإنسان عبارة عن ساعات وأيام، إذا انقضى بعضها انقضى بعضه، وهي تشبه ساعة الرمل بالعلاقة مع الإنسان، فكلما مر الوقت، أُخذ من عمر الإنسان بقدر هذا الوقت. وهذا الذي يجعل حرية تداول الوقت أثمن شيء يقدّمه الكثير من المال للإنسان. أن يمتلك حياته إن صح التعبير. فليس مدينًا لأحد من العالمين بوقته الذي هو عمره والذي في نهاية المطاف هو مادة حياته.

ومن الأجدر بالإنسان الذي يسعى لمضاعفة أمواله أن يفكّر في هذه المسألة قبل أن يسلُك الطريق. لو وُهبت حرية الوقت وأصبحت تملك ساعات يومك كلها، ماذا يا ترى ستصنع بها؟ وكيف ستقضيها؟ ومع من؟ وأين؟

أم أنك ستهرب من كل هذه الساعات التي تملك بمزاولة عملٍ ما. أن تنشأ عملك الخاص وتعود لتعيش حياة الفقراء، أو متوسطي الدخل الذين ليست لديهم الحرية في تداول أوقاتهم كما يريدون.

فكّر فيما إذا كنت جاهزًا للكثير من الوقت قبل التفكير في الكثير من المال.

شارك الصفحة

المكسب الأخير من الثروة: مراجعة لكتاب سيكولوجية رأس المال قراءة المزيد »