Author name: nadiim

مراجعة لكتاب موت الخبرة

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

نُشر الكتاب للمؤلف الأمريكي توم نيكولز لأول مرة في عام 2017 باللغة الإنجليزية بعنوان The Death of Expertise، ترجمه إلى العربية الاستاذ عمر فايد ونشر في منشورات نادي الكتاب، ويقع الكتاب في قرابة 380 صفحة.

يناقش فيه ظاهرة متنامية في المجتمع الحديث تتعلق برفض الناس المتزايد للخبراء والمختصين. يُظهر نيكولز كيف أصبحت المجتمعات، ولا سيما في الولايات المتحدة، تميل إلى استبعاد المعرفة القائمة على العلم والخبرة، واستبدالها بآراء شخصية، بحث سريع على الإنترنت، أو معتقدات ذاتية غير مستندة إلى أسس علمية.

ويسلط الكتاب الضوء على مشكلة معاصرة تتمثل في تزايد تجاهل الخبرة المتخصصة في العصر الحديث. في هذا الكتاب، يطرح نيكولز أسئلة مهمة حول كيف أصبحت المعرفة المتخصصة موضع تشكيك، ولماذا باتت الآراء التي لا تستند إلى خبرة تُعامل كأنها مساوية للآراء العلمية والمبنية على حقائق.

المقدمة: رفض الخبرة

في المقدمة، يقدم نيكولز النقطة الرئيسية لكتابه وهي أن المجتمعات الحديثة تعاني من أزمة تتعلق برفض الخبرة. لم يعد الناس يعتمدون على آراء الخبراء في اتخاذ القرارات، سواء كانت هذه القرارات شخصية أو سياسية أو اجتماعية. يشير نيكولز إلى أن هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة بسيطة تتعلق بعدم الثقة بالخبراء، بل هي نتيجة لمجموعة من العوامل التي تجعل الجمهور يتجاهل أو حتى يحتقر آراء المتخصصين.

كما يشدد على أن هذا الاتجاه يشكل تهديدًا كبيرًا للديمقراطية، لأن اتخاذ قرارات سياسية واجتماعية فعالة يتطلب استنادها إلى الحقائق العلمية والمعرفة المستندة إلى الخبرة.

الفصل الأول: الخبرة والشخص العادي

في هذا الفصل، يناقش نيكولز العلاقة بين الخبراء والجمهور العام. يؤكد أن الخبراء هم أشخاص يمتلكون معرفة متخصصة في مجالات معينة من خلال التعليم، التدريب، والممارسة. بينما يحتاج الأشخاص العاديون إلى الاعتماد على هذه الخبرة للحصول على فهم شامل للقضايا المعقدة.

ومع ذلك، يشير إلى أن هذا الاعتماد على الخبراء بدأ ينهار في العقود الأخيرة، حيث يشعر الكثيرون أنهم يمتلكون المعرفة الكافية لاتخاذ قرارات مستنيرة دون الحاجة إلى الاستعانة بالخبراء. هذا الاتجاه تعزز بشكل كبير بفعل توفر المعلومات عبر الإنترنت، حيث يمكن لأي شخص الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات، مما يمنحه شعورًا وهميًا بالمعرفة.

الفصل الثاني: الإنترنت وسوء الفهم الجماعي

يستعرض في هذا الفصل كيف ساهم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم ظاهرة رفض الخبرة. الإنترنت، بحسب نيكولز، يتيح للجميع إمكانية الوصول إلى المعلومات، لكنه لا يوفر سياقًا أو قدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة. يميل الناس إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الشخصية بدلاً من الاستماع إلى آراء الخبراء.

أدى ذلك إلى انتشار “التفكير الجماعي” أو “التضليل الجماعي”، حيث يتشارك الأفراد معلومات خاطئة مع بعضهم البعض، مما يؤدي إلى تعزيز الأفكار غير المستنيرة بدلاً من تصحيحها. يشير نيكولز إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت بيئة خصبة لنشر الأكاذيب ونظريات المؤامرة، وهذا يعزز مناخ رفض الخبرة والاعتماد على المعلومات الشخصية غير الدقيقة.

الفصل الثالث: التعليم العالي والطلاب

يناقش نيكولز في هذا الفصل دور التعليم العالي في ظاهرة “موت الخبرة”. يرى أن الجامعات، التي كانت في السابق معاقل للمعرفة والنقاش العلمي، أصبحت في كثير من الأحيان تساهم في هذه المشكلة. يشير إلى أن التعليم في كثير من الأحيان أصبح مُركزًا على “إرضاء” الطلاب بدلاً من تحديهم فكريًا وتعليمهم كيفية التفكير النقدي.

يتحدث نيكولز عن مشكلة “الطلاب الزبائن”، حيث يتعامل الطلاب مع التعليم كسلعة يشترونها، ويتوقعون الحصول على درجات جيدة بناءً على دفعهم للرسوم الدراسية وليس بناءً على الجهد أو الفهم الحقيقي للموضوعات. هذه الثقافة تعزز الفكرة القائلة بأن كل شخص لديه حق متساوٍ في آرائه، حتى إذا كانت تلك الآراء غير مدروسة أو تستند إلى معرفة سطحية.

الفصل الرابع: وسائل الإعلام ودورها في موت الخبرة

وسائل الإعلام تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز رفض الخبرة. في هذا الفصل، يناقش نيكولز كيف أن وسائل الإعلام الحديثة، وخاصة الإعلام الرقمي، تركز على تسطيح المعلومات وتقديم الأخبار بأسلوب بسيط وسريع يتناسب مع “الزبائن”. يعتمد الإعلام بشكل كبير على العناوين المثيرة والمحتوى الذي يجذب القراء أكثر من الاعتماد على التقارير المستندة إلى تحقيقات دقيقة وتحليل مستند إلى خبرة.

يشير نيكولز أيضًا إلى أن الإعلام التقليدي فقد الكثير من مصداقيته أمام وسائل الإعلام البديلة مثل المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي. هذه الوسائل، التي لا تلتزم بمعايير الإعلام المهني، أصبحت بديلًا للكثيرين ممن يرون أن وسائل الإعلام التقليدية تتآمر مع “النخبة” لتوجيه الجمهور.

الفصل الخامس: دور السياسة في تجاهل الخبرة

ينتقل نيكولز في هذا الفصل إلى السياسة، حيث يشير إلى أن تراجع ثقة الجمهور بالخبراء ينعكس بشكل مباشر على السياسة وصناعة القرار. السياسيون غالبًا ما يستغلون هذه الظاهرة، حيث يتجنبون الاعتماد على آراء الخبراء لتقديم سياسات شعبوية تتناسب مع رغبات الجمهور، حتى لو كانت هذه السياسات غير مستدامة أو مستندة إلى معلومات خاطئة.

السياسة، كما يوضح نيكولز، أصبحت مجالًا يعتمد بشكل كبير على العواطف والشعارات الجذابة بدلاً من الحقائق والأدلة العلمية. السياسيون الذين يعارضون أو يتجاهلون آراء الخبراء يمكنهم استغلال مشاعر الإحباط والارتياب لدى الجمهور لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل، ولكن هذا يأتي على حساب جودة القرارات السياسية وصحة المؤسسات الديمقراطية.

الفصل السادس: الجمهور ضد الخبراء

في هذا الفصل، يتحدث نيكولز عن الدوافع النفسية والاجتماعية وراء رفض الناس للخبراء. يشير إلى أن الناس يميلون بشكل طبيعي إلى تفضيل آرائهم الشخصية على آراء الآخرين، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي يشعرون أنها تؤثر بشكل مباشر على حياتهم. هذا الميل الطبيعي تعزز بفعل التكنولوجيا الحديثة التي تمنح الناس إحساسًا زائفًا بالمعرفة.

يشير نيكولز أيضًا إلى أن الخبراء غالبًا ما يُعتبرون “نخبة” أو “متعالين” من قبل الناس العاديين، مما يخلق فجوة كبيرة بين الجمهور والخبراء. هذه الفجوة تتسع بفعل اللغة التقنية التي يستخدمها الخبراء، والتي قد تكون صعبة الفهم على الأشخاص العاديين، مما يعزز الشعور بأن الخبراء “منفصلون” عن الواقع اليومي للناس.

الفصل السابع: التحديات التي تواجه الخبرة في المستقبل

يختتم نيكولز كتابه بتحليل العواقب طويلة الأمد لموت الخبرة. يرى أن استمرار هذا الاتجاه يشكل تهديدًا كبيرًا للمجتمعات الديمقراطية، لأن الديمقراطية تتطلب من الناس أن يكونوا مستنيرين وقادرين على اتخاذ قرارات مستندة إلى الحقائق والمعرفة. إذا استمرت المجتمعات في تجاهل الخبرة، فقد يؤدي ذلك إلى تفكك الحوار الديمقراطي وظهور سياسات شعبوية غير مستدامة.

يشير نيكولز إلى أن الحل يكمن في تعزيز الثقة بين الجمهور والخبراء، وهو ما يتطلب جهودًا من الطرفين. على الخبراء أن يكونوا أكثر وضوحًا وتواصلًا مع الجمهور، وأن يتجنبوا التعالي أو الانعزال في أبراجهم الأكاديمية. في المقابل، يجب على الجمهور أن يدرك أهمية الخبرة في صنع القرارات المعقدة التي تؤثر على حياتهم ومستقبلهم.

الخاتمة: إعادة إحياء احترام الخبرة

في الخاتمة، يدعو نيكولز إلى إحياء احترام الخبرة في المجتمع. يشدد على أن الخبرة ليست أمرًا يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه في عصر المعرفة. رغم أن التكنولوجيا جعلت المعلومات أكثر توافرًا، فإن الخبرة تظل ضرورية لفهم تلك المعلومات وتفسيرها بشكل صحيح. يدعو إلى تبني نهج تعليمي وإعلامي جديد يعيد الاعتبار لأهمية المعرفة العميقة والتفكير النقدي في مواجهة التدفق الهائل للمعلومات السطحية والمضللة.

الخلاصة

توم نيكولز يقدم في هذا الكتاب نقدًا ذكيًا ومؤثرًا للتوجه المتزايد نحو التشكيك في الخبرة والعلم، وهو موضوع ذو صلة كبيرة في عصرنا الحالي، حيث تنتشر المعلومات بشكل فوضوي عبر الإنترنت. يتيح الكتاب للقراء فرصة للتفكير بعمق حول كيفية تعاملهم مع المعرفة والآراء، ومدى اعتمادهم على مصادر غير موثوقة بدلًا من البحث عن المعلومات من الخبراء.

“موت الخبرة” هو كتاب قوي يدق ناقوس الخطر بشأن التحولات التي يشهدها المجتمع الحديث في علاقته بالمعرفة والخبرة. يرى توم نيكولز أن تراجع الثقة بالخبراء يشكل تهديدًا كبيرًا للديمقراطية والنقاش العام، ويقدم تحليلًا دقيقًا للأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، بدءًا من تأثير الإنترنت والتعليم العالي وصولًا إلى السياسة ووسائل الإعلام.

ويخلص إلى أن استعادة الثقة في الخبرة تتطلب جهدًا جماعيًا من الخبراء والجمهور على حد سواء، مع التركيز على أهمية المعرفة المستنيرة في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب موت الخبرة قراءة المزيد »

فن القراءة البطيئة

Picture of كتابة: دان إريكسون
كتابة: دان إريكسون

ترجمة: يارا عمار

pexels-kayvanibrahim-6399567

في هذا العصر الرقمي، ومع توفر المعلومات في متناول أيدينا باستمرار، اكتسب كثير منا بلا وعي عادةَ تصفح النصوص بسرعة بحثًا عن الإشباع الفوري والإجابات السريعة. لقد عوّدتنا الوفرة الهائلة في المحتوى على الإنترنت على الانتقال بسرعة من معلومة إلى أخرى دون أن نهضم ما قرأناه غالبًا. وفي خضم دوامة الاستهلاك السريع للمحتوى، تبرز حركة مضادة لهذا الاتجاه: فن القراءة البطيئة.

هذا النهج يشجع القراء على التمهّل في القراءة، من أجل تذوق كل كلمة وفهم المادة المقروءة فهمًا حقيقيًا، كما تتذوق كل لقمة من وجبة شهية.

نشأة القراءة البطيئة – ما هي القراءة البطيئة؟

كانت القراءة في الماضي رفاهيةً، فقد كانت المخطوطات نادرة وثمينة في الحضارات القديمة، وكانت القراءة نشاطًا متأنيًا وغالبًا ما يمارَس جماعيًا. ثم مع توفر الكتب، خاصة بعد اختراع الآلة الطابعة، أخذت الممارسات القرائية في التطور.

إلا أنّ حلول العصر الرقمي، مع الهواتف الذكية وأجهزة القراءة الإلكترونية والسيل المتدفق للمحتوى على الإنترنت، قد غيّر عاداتنا القرائية تغييرًا جذريًا. مما لا شك فيه أن التكنولوجيا -بإشعاراتها وروابطها كثيرة التشعّب ومشتتات الوسائط المتعددة- أثرت على سرعتنا في القراءة وعمق فهمنا للنصوص. فرغم أنها يسّرت الوصول للمعلومات التي نحتاجها، إلا أنها عززت أيضًا ثقافة التفاعل السطحي مع النصوص.

فوائد القراءة البطيئة

للقراءة البطيئة عدد من الفوائد المتنوعة التي تتجاوز مجرد فهم النص، فهي أولًا: تعزز استيعاب المعلومات وحفظها إلى حد كبير، فقضاء وقت في التفكير مليًا في كل جملة يعيننا على استيعاب الفروق الدقيقة وتعقيدات النص، مما يزيد تجربتنا القرائية ثراءً.

كما أن القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة، فالانغماس في النص، سواء كان رواية أو قصيدة أو حتى عملًا غير روائي، يساعد على التفاعل العميق مع مشاعر الكاتب ومقاصده ورسائله الخفية. الأمر أشبه بإجراء محادثة عميقة مع صديق حيث تكون حاضرًا مشاركًا بكل حواسك ومستمعًا بانتباه، مقابل الدردشة السريعة المليئة بالمشتتات.

أخيرًا، تُعد القراءة البطيئة شكلًا من أشكال اليقظة الذهنية في ظل عصرنا سريع الخطى والمليء بالمحفزات المستمرة. إنها نشاط تأملي يتطلب التركيز والحضور الذهني، مما يساعدنا على التخفيف من الضغط النفسي وعيش اللحظة التي نحن فيها. وكما أن ممارسة اليقظة الذهنية في أنشطتنا اليومية أمر مرغوب، فكذلك يحسُن ممارستها أثناء القراءة حيث ستكون مصدرًا للاسترخاء وتجديد الطاقة الذهنية.

أساليب تنمية عادة القراءة البطيئة

إنّ دمج القراءة البطيئة في حياتنا اليومية يتطلب جهدًا متعمدًا، لا سيما ونحن مُحاطون بثقافة تعطي الأولوية للسرعة على العمق. فيما يلي بضع طرق تعين على تنمية عادة القراءة البطيئة:

  • تحديد وقت مخصص للقراءة: كما أننا قد نحدد وقتًا لممارسة الرياضة أو التأمل، كذلك من المفيد أن نقتطع أوقاتًا ونخصصها للقراءة، ربما نصف ساعة هادئة في الصباح مع كوب من القهوة أو في المساء قبل النوم، فوجود روتين محدد يجعل الأمر عادة.
  • تهيئة بيئة مواتية للقراءة: اختر مكانًا مريحًا خاليًا من المشتتات، سواء جانب مريح في غرفة المعيشة أو ركن مخصص للقراءة أو حتى حديقة محلية، المهم أن تختار مكانًا تستطيع فيه أن تنغمس في النص بعيدًا عن أصوات الإشعارات المستمرة أو غيرها من عوامل التشتيت.
  • استخدام الأدوات المساعدة لتحسين التفاعل: تفاعل مع النص بنشاط، بإضافة التعليقات التوضيحية أو تظليل المقاطع الرئيسية أو تدوين الأفكار على الهوامش أو في دفتر منفصل، فإنّ ذلك يعمّق فهمك للنص ويجعل تجربتك القرائية غنية ومفيدة. هذه الممارسات لا تفيد في حفظ المعلومات فحسب، بل تدفعنا أيضًا إلى التأمل في أهمية المادة المقروءة بالنسبة لنا.

دور الكتب الورقية في القراءة البطيئة

لأجهزة القراءة الإلكترونية والكتب الصوتية مزاياها في العصر الرقمي، إلا أن هناك شيئًا مميزًا في تجربة قراءة كتاب ورقي.

  • التجربة الحسية: إنّ حمل الكتاب والشعور بثقله وتقليب صفحاته يربطنا بالقراءة بطريقة ملموسة. هذا الاتصال المباشر يؤثر على وتيرة القراءة، مما يشجعنا على التمهّل والاستمتاع بكل صفحة.
  • رؤية التقدم: إنّ ملاحظة التقدم الذي نحرزه ونحن نقرأ كتابًا يبعث على الشعور بالارتياح النفسي، فمشاهدة الجانب الأمامي للكتاب يزداد سمكًا مع تقلص الجانب الخلفي بالتدريج يُشعر بالإنجاز وقد يدفعنا لمواصلة القراءة.

التخلص من السموم الرقمية: تقليل وقت الشاشة من أجل قراءة أفضل

في حين أن المنصات الرقمية تسهّل حياتنا، إلا أنها تطرح عددًا من التحديات خاصة فيما يتعلق بتجربة القراءة.

  • آثار إجهاد العين: قد يؤدي التعرّض المطوّل للشاشات إلى إجهاد العين والصداع وانخفاض معدل الاستيعاب. ولذلك فإن الإضاءة الخلفية للشاشات واعتياد التمرير بسرعة يمكن أن يعيق التجربة العميقة والتفاعلية التي تحققها القراءة البطيئة.
  • الموازنة بين قراءة الكتب الرقمية والورقية: من الضروري أن تحقق توازنًا يناسب ظروفك الشخصية. إن كنت تستمتع بالكتب الإلكترونية أو الصوتية، فخصص لها أوقاتًا محددة وأوقاتًا أخرى للكتب الورقية، واحرص على أخذ استراحات بانتظام إن كنت تقرأ رقميًا. يحسُن أيضًا أن تحاول منع استخدام الأجهزة الإلكترونية بضعة أيام، فلا تقرأ فيها إلا الكتب الورقية. هذا التوازن يخفف من إجهاد العين ويشجع على القراءة بتأنٍ وتركيز أكثر.

التفاعل مع النص: ما وراء القراءة

القراءة ليست مجرد عملية تلقّي حيث تتدفق الكلمات من الصفحة إلى أذهاننا، بل علينا أن نتفاعل مع النص حتى ننغمس فيه حقًا ونستخرج معانيه العميقة. إليك الطريقة:

  • إعادة القراءة للتعمق في المعاني: عندما أقرأ رواية لأول مرة فغالبًا ما أندمج في الحبكة متشوقًا لاكتشاف الأحداث التالية. لكن عندما أعود إليها مرة أخرى ألاحظ الفروق الدقيقة والرمزية وتعقيدات تطور الشخصية التي ربما لم أنتبه لها في القراءة الأولى. تمكّننا إعادة القراءة من الغوص في أعماق النص وتذوقه واكتشاف تفاصيل قد نغفلها في القراءة الأولى.
  • المناقشة في المجموعات القرائية أو أندية القراءة: يوجد شيء سحري في مناقشة كتاب مع القراء الآخرين، حيث يعرض كل واحد آراءه وتفسيراته وتجاربه الشخصية. غالبًا ما أجد فهمي للنص يتوسّع ويتعمق بعد النقاشات الحيوية في الأندية القرائية. هذا تذكير بأن الأدب تجربة مشتركة، وحوار بين المؤلف والنص والقارئ.
  • كتابة التأملات أو المراجعات: يعجبني تدوين أفكاري خاصة بعد إنهاء كتاب مؤثر، سواء في شكل تأملات شخصية، أو التفكير في الرابط بين النص وتجاربي الشخصية، أو في شكل مراجعة رسمية. إنّ الكتابة على ترسخ الفهم في أذهاننا، والتعبير عن أفكارنا وصياغتها تزيد المعاني وضوحًا.

القراءة البطيئة في التعليم

أحيانًا يُغفل عن قيمة القراءة البطيئة في بيئاتنا التعليمية سريعة الخطى، حيث يتعين على الطلاب التوفيق بين العديد من المهام والقراءات. لكن من المهم أن تكون القراءة البطيئة جزءً لا يتجزأ من المنهج الدراسي للأسباب التالية:

  • تدريس أساليب القراءة البطيئة في المدارس: عندما أرجع بتفكيري إلى أيام الدراسة أتذكر ضغط القراءة السريعة النصوص لاستخراج المعلومات الأساسية بسرعة. لكن ماذا لو علّمنا طلابنا فن القراءة البطيئة وشجعناهم على أخذ وقتهم في القراءة وتذوق كل كلمة والتأمل في المعاني العميقة للنص؟ هذا النهج يمكن أن يغرس فيهم الحب الصادق للقراءة، وينمّي الفهم العميق للمادة المقروءة.
  • تحسين التفكير النقدي والمهارات التحليلية: القراءة البطيئة لا تتعلق بالوتيرة فحسب، بل بعُمق فهم النص كذلك. تتطور المهارات التحليلية للطلاب عندما يغوصون في أعماق النصوص، فيستطيعون تمييز الموضوعات والدوافع وتطور الشخصيات. وهذا النوع من التحليل العميق يعزز التفكير النقدي، وهو مهارة ثمينة في الحياة، وليس في البيئات الأكاديمية فحسب.

التغلب على تحديات القراءة البطيئة

إننا في الوقت الراهن غارقون في تدفق مستمر من المعلومات والمقالات والكتب، ولذلك قد تبدو فكرة القراءة البطيئة غير منطقية. كيف نواكب كل ذلك إن كنا نستغرق وقتًا في كل نص؟ إليك طريقة التعامل مع هذه التحديات:

  • معالجة الخوف من فوات الفرص (قلق الفومو): أعترف بأنه كثيرًا ما تلح عليّ فكرة قراءة أحدث الكتب الأكثر مبيعًا، أو المقالة الرائجة، أو الكتاب الذي يتحدث عنه الجميع. لكن أدركت بمرور الوقت أن القراءة ليست سباقًا. لا بأس بأن يفوتك بعض المحتوى إن كان ذلك يعني أن تفهم وتتفاعل بصدق مع ما اخترت قراءته. تذكّر أنّ الجودة أهم من الكمية.
  • الانتقال من القراءة السريعة إلى القراءة البطيئة: قد يصعب عليك الانتقال إلى القراءة البطيئة إن كنت معتادًا على التصفح السريع للمقالات أو العجلة أثناء قراءة الكتب. أنصحك بأن تبدأ بدايةً يسيرة: خصص وقتًا محددًا كل يوم للقراءة بتأني، وإن كان عشر دقائق، ثم مدّد هذا الوقت تدريجيًا كما شعرت بالتعود على القراءة البطيئة. تذكّر أن العبرة ليست بعدد الصفحات التي تقلّبها، بل بعمق تفاعلك مع كل صفحة.

خاتمة

قد تبدو القراءة البطيئة رفاهية في عالمنا الرقمي السريع، لكنها في الواقع ضرورة لمَن يرغب في فهم النصوص التي يقرأها والتفاعل معها. أحثك يا عزيزي القارئ على خوض التجربة، حدد وقتًا واختر كتابًا وانهمك في صفحاته. استمتع بفن القراءة البطيئة واستكشف المتعة البالغة والفوائد الجمة التي ستعود على حياتك. تذكر أن التأني في القراءة -كما في الحياة- هو الأفضل أحيانًا.

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة.
فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني.
هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية.

فن القراءة البطيئة قراءة المزيد »

فضيلة الافتقار

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-despoina-apostolidou-136436784-16764893

دوما عزيزي القارئ لا تحكم على الفكرة من عنوان أو قوالب ذهنية مسبقة في فكرك فتكن أسيرا عندها، تحكم أو تقوّم الأفكار من خلالها، فالافتقار بمفهومه الشائع والمتداول فكرة مدعاة إلى الضجر والضيق، بل الهروب منها، إلا أننا عندما نتأمل ونفكر بالافتقار من حيث ملاصقته بالإنسان نلمس فيه فضائل متعددة، ومحركات إلى السعي والطلب، والأمور بنتائجها ولو كانت الوسائل شاقة.

فضيلة الافتقار ذاتية المرجع، وحتمية الوقوع، فالإنسان كائن افتقاري ولو كان غنيا -بالمفهوم الضيق للغنى- كونه يفتقر إلى الصواب، والحكمة، والعلم، والأخلاق، والتفكير، والفلسفة، يفتقر إلى الاستشعار والشعور، ألم يقل الفرزدق يوما: “لنزع ضرس أهون عندي من قول بيت شعر”، معبرًا عن فقد الشعور الذي يمده بالمعاني والألفاظ.

الإنسان يفتقر إلى الطعام والشراب، والغريزة، فنحن نفتقر في اليوم عشرات المرات، حتى الملل الذي يرافقنا هو افتقار لكنه افتقار لشيء غير معلوم. لكن السؤال: متى يكون الافتقار فضيلة؟

تدل كلمة الفقر في اللغة على فراغ نافذ في العمق وانفراج في الشيء، ومن هنا ينشأ معنى الافتقار إذ هو الفقر مضافا إلى الشعور على سد الفراغ والانفراج.

فالافتقار محرك أساس للشعور، والافتقار شغف، وهو اكتناز؛ بوصفه محفزا إلى الطلب والتزود، والطلب لا يكون إلا بطريقة أو سيلة، فيسعى إلى تحصيل الوسيلة، وهكذا يظل سائرا في الطريق رغبة في الوصول، يحركه افتقاره إلى بغيته، بخلاف الممتلئ الذي قد غره الوهم بالشبع والاكتفاء، ولذلك لا يكون الإنسان غنيا حتى يوقن أنه فقير، ويكون فقيرا إذا شعر أنه غني، وهذه هُويته، لذلك لا يُؤمل بتحقيق الأمنيات والمعالي إلا عند من يشعر بالافتقار؛ فيحركه ذلك الشعور إلى مكتنزات الأفكار ودقائق السبل الموصلة.

فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني، إذ الافتقار البصير يغني صاحبه، والاستغناء بالمادي يفقر طالبه، فالدين افتقار روحي وعملي، والعلم افتقار معرفي، والتفكير افتقار إنساني، والكتابة افتقار حواري، والحرفة افتقار للفن، والقراءة افتقار تأملي، والدعاء افتقار كلي، وقل مثل ذلك في أي قيمة كانت عليا أو دنيا بأي شيء تفتقر، وقريب من ذلك قول ابن حزم: “وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم”. فالافتقار من مباهج النفس الحية التي تشعر وتدرك، والحكمة كما ذكرنا عن ماذا تفتقر، والمكسب الحقيقي كيف نوجه الافتقار إلى ما يزيدنا نضجا وحكمة.

إن الدروس في الحياة والعبر، واغتنام الحكمة تلزم من قبولها نفس مفتقرة شاعرة بافتقارها ونقصها، وما أحكم المعنى الذي قاله الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى                 فصادف قلباً خالياً فتمكّنا

إن من أخطر ما يهدد فضيلة الافتقار داء الامتلاء وهو داء يوهم النفس بغناها واستغنائها، وأكثر ما يتمركز هذا الداء في المال، حتى يصل الظن بالإنسان إلى أن المال سيخلده، أو أن المال الذي معه سيظل خالدا، وصدق الحق: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة:3.

فضيلة الافتقار من ثمار فضيلة الترك؛ التي بدورها تفرغ النفس من شوائب ما يسلب فضائلها فتفتح مساحة للفكر والعقل والخيال والنفس، وتقبل ما يردها من سوانح معالي الأمور وفضائلها، ولا تخلق الدهشة بالفكر إلا في نفس مفتقرة، يكون فراغها مستوعبا القدرة على التساؤلات، وتحويل البديهي إلى وعي يحيط الأشياء بالاستغراب والشك، ولذلك مكتباتنا المليئة بالكتب لا يحركنا إلى مجلداتها إلا الشعور بالافتقار إلى ما فيها، إلى ما يثري تجارب الحياة وينضجها، تشعرنا بضرورة التزود من شتى حقول المعرفة.

نحن بحاجة إلى أن نخلص المفاهيم من الماديات التي صبغت بها المعاني، فالغنى ليس غنى المال، والفقر ليس عدم الامتلاك، وإن كان هذا المفهوم نسبي أو جزء من هذا المعنى إلا أنه لا يشكله بكليته، فوراء هذه المفاهيم دلالات عميقة تختبئ في تجارب الناجحين الذين ملأت إنجازاتهم دفاتر الحياة، واستغرقت حضارات الدنيا، فكل سؤال، وكل نظرية، وكل بيت من الشعر، وكل إنجاز، يبدأ بافتقار، وما إن ينتهي حتى يبدأ افتقار آخر وهكذا.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة الافتقار قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب إنقاذ الروح الحديثة 

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعد كتاب إنقاذ الروح الحريثة لإيفا إلوز وترجمة بثينة الإبراهيم من الكتب الناقدة والمُهمة اليوم، والتي يجب أن يُفكر بها الإنسان الحديث ملياً، لا سيما العربي الذي يواجه مدَّ الأفكار الجديدة والحديثة على حياته ومؤسسات دولته، وذلك للإطار البحثي الذي انطلقت منه الكاتبة لنقد ما تريد نقده على صورة تساؤلات تشير إلى المشكلة، من دون أن تقدم حلولاً، ولعلَّ ذلك أفضل بكثير، لأن مهمة النقد في استكناه الخطب.

تتحدث الكاتبة في البداية عن الحقائق البارزة التي أفاد منها علم النفس الحديث في أمريكا، والتي استمدَّها من فرويد ونظرياته التي لاقت ترحيباً في المجتمع الأمريكي، لجمعها بين الجانب الأسطوري والطبِّي في تحليل الذات، ولتقديمها إطاراً نظرياً علمياً لفهم الذات الأمريكية وضبط العلاقة بين الجنسين والعلاقة بين الفرد ومؤسسات الدولة. لقد تحدث فرويد ومُفسروه اللاحقون عن الكيفية التي تؤثر بها أحداث الحياة اليومية على شخصية المرء وميوله ونمط عاطفته اللاحق، فكان فرويد، مثلما تصفه الكاتبة، “الصنو الثقافي المثالي لماركس”، ففي حين تناول ماركس قيمة الفرد في عالم العمل، تناولها فرويد في عالم العائلة والحياة اليومية، وبيَّن الحدود الهشة بين مفاهيم المرض النفسي والسواء، ذلك أن العديد من السمات والنزعات يمكن أن تكون دلالة على أعراض مَرَضية خفية، تحتاج العلاج النفسي لإخراجها إلى حيز العلن والحديث عنها، ما جعل من الحياة مشروعاً تأويلياً في التحليل النفسي.

وإثر هذه النظرة المرنة للشخصية الإنسانية التي تتعدد فيها احتمالات المرض النفسي وتختلف أشكاله، تم الربط بين بحث الإنسان عن ذاته الضائعة وبحثه عن النجاح الاجتماعي، فصارت الصحة العاطفية رديفة النجاح مجتمعياً، وانعدام النضج العاطفي رديف الفشل في تحقيق مكانة اجتماعية معتبرة أو التقدم في المجال المهني، ما بدأ سلسلة من النظريات والأدبيات النفسية-الاجتماعية، والتي ربطت بين التقدم في الصحة العاطفية وما يُترجم إليه من التقدم الاجتماعي والمهني، فظهرت ثقافة العلاج النفسي في العديد من وسائل الإعلام، تزعم فهم الذات وعلاقتها بالآخر وتقدم “النصيحة” للأفراد حول الطرق المثلى للتعامل مع أنفسهم والآخرين.

وهكذا، تداخلت مفاهيم علم النفس مع مفاهيم علم الاقتصاد وصار للعقلانية والكفاءة في العمل أبعاد نفسية عاطفية وشخصية، فصار اعتماد رأس المال على الفهم النفسي-العاطفي للذات أمرًا شائعًا فيما صار يُدعى بـ “الرأسمالية العاطفية”. ولأن النظام الرأسمالي غايته الربح والإنتاج فقد دعم الخصائص النفسية المفضية إليهما، أهمها الضبط العاطفي وامتلاك مهارات التواصل الفعال، أو ما يدعى بالمهارات في مجال العلاقات العامة، فظهرت أخلاقيات العمل الجديدة المتداخلة مع أخلاقيات الحياة الخاصة لدى المرء، وصار مُهماً أن يتجاوز الفرد اختبارات الشخصية النفسية قبل قبوله في العمل، والتي تهتم بقدرته على ضبط نفسه وفهم الآخر وفصل نفسه شعورياً عما يحدث حوله والاهتمام بمصلحته الخاصة بصرف النظر عن العوامل الخارجية التي تحاول ثنيه عن ذلك:

“تتضمن القوة النفسية ’الحقيقية‘ قدرة المرء على ضمان مصالحه دون الدفاع عن نفسه عبر رد الفعل أو الهجوم المضاد. بهذه الصورة، ينشأ ضمان المصلحة الذاتية والقوة في التفاعل عبر إظهار الثقة بالذات التي تتساوى بالافتقار إلى الدفاعية أو العدائية الصارخة، فتنفصل القوة هكذا عن الإظهار الخارجي للعدائية وعن دفاع المرء عن شرفه، وهي استجابات كانت جوهرية في تعريف الذكورة التقليدي”

ما يعني أن العقلانية المؤسساتية صارت تُفهم من حيث تحكم المرء بعاطفته والتركيز عليها في آن، أي استكناه مهارات التواصل والعمل بها ولكن من دون أن ينخرط بكامل نفسه فيها، وأن يحافظ دائماً على هدوئه ولغته التواصلية المتقنة التي تحفظ مصلحته ولا تثير انزعاج الآخرين ولا تستثير حفائظهم، وتشير الكاتبة إلى أن ذلك خلق جواً من اللامبالاة النفسية، والناتج عن تحييد المرء لنفسه عن المشكلة وأن يحافظ على مكانته في النظام التواصلي من دون أن يتأثر بالآخرين، أي أن “يلعب اللعبة دون التأثر بها”، أو كما تقول الكاتبة، إن “الشرط المسبق ’للتواصل‘ أو ’التعاون‘ هو، على سبيل المفارقة، تعطيل المرء إدخال انفعالاته في علاقة اجتماعية”، ما يجعلنا أمام سؤال مُهم: إلى أي مدى يمكن للسلوك العلاجي النفسي أن يبدِّل في الإنسان وينزع منه المسؤولي والتعاطف ليجعله منخرطاً في المجتمع والمهنة من دون أن يبالي بهما في الآن ذاته؟

ثم تتحدث الكاتبة عن التآلف بين النسوية والتحليل النفسي من حيث تركيزهما على القضايا ذاتها، وذلك إثر التحولات الاجتماعية التي جعلت مواضيعهما متشابهة، مثل العلاقة بين الجنسين وقضايا الأسرة والمرأة والمعاناة، فبعد موجة العلوم النفسية والتحليل النفسي صارت معايير إنجاح الزواج مختلفة عما سبق، وصار الفشل أو النجاح في العلاقة مسؤولية الفرد وحده ومسؤولية نمط شخصيته التي هو عليها، لذلك تناولت الأبحاث النفسية أنماط الشخصية وطبيعة التواصل القائم بين طرفي العلاقة، وصار عبء إنجاح الزواج أو العلاقات عموماً قائماً على براعة التواصل اللغوي والتعبير العاطفي لدى الفردين، واتفقت النسوية والتحليل النفسي على أن للحميمية دور مُهم في العلاقات الزوجية، وأنها يجب أن تكون الغاية النهائية الواجب تحقيقها بقدرٍ من البراعة والمعرفة وطلب المساعدة، ويقصد بها عادة القدرة الرفيعة على التواصل العاطفي والجسدي في آن، وتحقيق فهمٍ متبادل بين الطرفين يضمن نجاح العلاقة مهما كانت المشاكل التي تواجههما.

بمعنى آخر، لقد عقلنت النظريات الاجتماعية الحديثة المشاعر لدى كلا الجنسين،وطالبت الإنسان الحديث بالتحكم بعواطفه وامتلاك القدرة الرفيعة في التعبير عنها في آن، كون ذلك السبب الحقيقي والأصيل لحل مشاكله مع نفسه والآخر، فصارت مهارات التحكم بالنفس والعاطفة هي المطلوبة والعنصر الثمين الذي يبحث عنه الإنسان الحديث للتخلص مما يُتعبه.

وهكذا، صار للعلاج النفسي سرديته العامة والشهيرة على مستوى الأفراد والمؤسسات، وبالتخلص من الربط الذي أقامه فرويد بين إرادة التغيير على المستوى العاطفي وبين مكانة المرء في طبقات المجتمع، شاعت مفاهيم التحليل النفسي في الأدبيات وسط أجواء من التفاؤل وإمكانية التغيير وتحقيق العديد من الإنجازات عبر ربط التحرر النفسي بالتحرر المادي والنضج العاطفي بتحقيق الإنجازات المادية، وظهرت اتجاهات نفسية تكرِّس سردية الضحية والمرض والصدمة النفسية، ليصير فضاء العلاج النفسي فضاءً تجارياً يستفيد منه قطاع الأطباء النفسيين وشركات الأدوية التي تبيع أدوية نفسية، غير أن المشكلة لا تكمن فقط في تسليع الحالة الذاتية غير المفهومة بعد، بل كذلك في ترسيخ سردية تعرِّف الذات من حيث المرض الذي يصيبها ورحلة العلاج الذي تسير عليه.

ما يعني أنَّ البنية الرمزية السردية صارت متوافقة مع الصناعة الثقافية لتبدُّل مبررات السرد وصوره وتأويلاته بصورٍ استهلاكية تخدم الجهات المستفيدة، وصارت السردية النفسية العلاجية هي القصة التي يحكيها الإنسان الحديث عن نفسه اليوم، فقد عنى السرد الذاتي للمعاناة تحرُّر المرء من هذه الذاكرة عبر مشاركتها مع الآخرين، ولأن الثقافة تحتاج إلى ممارسة اجتماعية كي تنتشر وتترسخ، فقد تمثلت ثقافة العلاج النفسي بمجموعات الدعم المختلفة، والتي تطورت لتصبح استثمارات رأسمالية ضخمة، في عالمٍ بات يحتفي بالضحايا والناجين، ويسبغ عليهم مكانة أخلاقية مُميزة.

لقد تحدث فرويد في نظرياته عن أنَّ الحالة العاطفية للمرء تتبع طبقته الاجتماعية (أي الطريقة التي نشأ فيها والإمكانات المتاحة له)، ولكنه تحدث كذلك عن أن الحالة العاطفية تُنتج هذه الطبقة وتخلق هذه الإمكانات، فالاختيارات الشخصية اللاحقة هي التي تموضع المرء في العالم المهمش أو العالم الرفيع، وفي ذلك كان يشير إلى مهارة ندعوها اليوم بالذكاء العاطفي، أي قدرة المرء على إدارة عواطفه ومشاعره لكي ينال مراده من الحياة أو الآخرين، أي عقلنة العواطف والقدرة على التعبير عنها بالطريقة الملائمة. وللأهمية التي نُسبت للذكاء العاطفي اليوم فقد صار من المُهم امتلاك كلا الجنسين مهارات ذكورية تخص تأكيد الذات ومهارات أنثوية تخص التعبير عن العواطف ليجدا لنفسيهما مكان مُعتبر في سوق العمل، وكانت هذه غاية فرويد في المقام الأول: “كانت أبرز إسهامات فرويد في الثقافة الأمريكية صياغة لغة وتقديم أطر للمعنى تضع الحياة اليومية، والصحة النفسية والسواء في مركز هوية الرجال والنساء الحديثين”، ولكن دمقرطة الحياة العملية والخاصة خلقت فوضى وتناقضات للذات الحديثة، وجعل مسؤوليتها وحدها إيجاد حل لمشكلات اجتماعية في الأصل، وجعل إطار فهم النفس خاص بالنفس فقط من دون المحيط والعوامل الثقافية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية العاملة فيها. غير أن اعتراضات الكاتبة الرئيسية على ثقافة العلاج الذاتي اليوم تمحورت حول نقطتين رئيسيتين:

  • لا يُمكنك التعبير لغوياً عن كلِّ ما تريد وتفعل وتشعر به، فما يُدعى اليوم بأيديولوجيا اللغة يفترض بأن معرفة النفس ممكنة عبر الاستبطان الداخلي الذي يساعدنا على تقبل محيطنا، ويمكِّننا من التعبير العاطفي عما نريده، غير أن الكاتبة ترى بأن نتيجة ذلك يكمن في “التعمية اللفظية” التي “يعمى” الإنسان عن جوانبه النفسية الخفية عبر اللغة التي يعتقد بأنه يعبِّر بها عنها، فتكون اللغة خافية للجانب لا مُظهرة له، وذلك نتيجة لأن النفس تنطوي على جوانب لا يمكن الحديث عنها باللغة، كالحدس أو البصيرة أو الجوانب الخفية التي تكمن خلف قراراتنا ورغباتنا وأفعالنا من دون الحاجة إلى لغة للتعبير عنها، وهذا يدعم توجهاً اجتماعياً لفهم النفس والذات لا تبعاً للماضي والطفولة فحسب، بل كذلك تبعاً لتشكلها مع الآخرين وعبر الآخرين، حيث “تتشكل أفعال الناس وردود أفعالهم وفق ضغط الموقف، لا وفق خصائص داخلية ثابتة للذات (التي تحتاج إلى كشفها)”، نجد ذلك في الأطروحة النفسية-الاجتماعية-الفلسفية التي تقدمت بها الفيلسوفة جوديث بتلر في كتابها “الذات تصف نفسها”.
  • لا يقتصر تعريف الذات على معاناتها، فالتوجه الحديث للحديث عن المعاناة واستنباطها من الماضي ومشاركتها يرسِّخ وجودها كجزء فاعل بل ومُهيمن على الذات وسلوكها وفكرها وتصوراتها، وترى الكاتبة أن استرجاع المعاناة تجديدٌ لدورها في حياة المرء وتعظيمٌ له، إلى درجة تصير هي السردية التي تحكي قصة المرء بعيداً عن بقية الجوانب الأخرى التي نتشكل بها وعبرها، لذلك يعمِّق العلاج النفسي من المعاناة ولا يُحرر المرء منها، بل يقولبه في قالب الضحية أو الناجي ويحتفي به إثر ذلك ويجعله يعرِّف نفسه بذلك الحدث الأليم الذي حدث له، وذلك بأن ينزع سبب المعاناة من الإطار السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي ويلقيها فقط في الإطار النفسي، فتصير “المعاناة أثراً للعواطف غير المنضبطة أو النفس المضطربة أو مرحلة يتعذر تجنبها من التطور العاطفي للمرء”. وفي ذلك إلقاء للمشاكل الاجتماعية على كاهل الفرد ليتحمل مسؤولة انزعاجه منها وتعاسته على إثرها، الأمر الذي تحدث عنها مطولاً زيجمونت باومان في كتابه “الأضرار الجانبية”.

ومن هنا، أجد الكتاب ثرياً بالأسئلة التي يطرحها والاعتراضات التي يقف عندها، لقد جعلت الكاتبة من كتابها مقدمة تحليلية وجيزة حول ما تريد الاعتراض عنه في النهاية، والقارئ يشعر بأنها تتحدث عن جوانب نفسية مُهمة نشعر بها اليوم وندرك افتقار التوجه النفسي الجديد إليها، لذلك من المُهم الاطلاع على هذا النوع من الكتب الناقدة لنتمكن من الحفاظ على ما يجعلنا دائماً ذواتاً واعية تُسائل الفكر وتحسِّنه قبل أن تقبل به.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب إنقاذ الروح الحديثة  قراءة المزيد »

الفكرةُ عجينُ الكتابة!

الفكرة عجين الكتابة

إن الخباز الماهر يعلم عبر الممارسة أنه لا يطيب الخبز دون خميرة جيدة لعجينه، وهذا هو حال الفكرة سواء بسواء، وهو ما يجعلنا نستنبط دلالات من هذه الصورة المجازية، تفيدنا في تخمير أفكارنا وإنضاجها، وذلك في فقرات مكثفة متسلسلة:

  • جودة الطحين لا تبرر لنا التقليل من زمن التخمير، وذلك أن الطحين الجيد مفتقر بالضرورة لبكتيريا طبيعية لا تنمو إلا عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن. وعليه، فلنا أن نقرر بأنه قد يكون لدينا فكرة عميقة أو جديدة أو حتى مدهشة، ولكن ذلك لا يعني البتة عدم حاجتنا إلى تخميرها لوقت كافٍ وبطريقة صحيحة، فالعبرة بثمرة الفكرة لا بعمقها، ونجاعتها لا بجدتها؛ والممارسة الكتابية تفيد بأن النصوص العظيمة الناجعة المؤثرة هي نِتاجُ أفكارٍ مُخمَّرة. وقديماً قالت العرب: “خمير الرأي خيرٌ من فطيره”.
  • جودة الطحين لا تسوِّغ لنا استخدام خمائر فورية، لكونها مادة ليست من جنسه، وعادة ما تنفش هذه الخمائر عجيناً إلا أنها لا تخبز ما نتغذى به ونلتذ. ومثل هذا الأمر يقودنا إلى تقرير خطورة إقحام مادة أجنبية على الفكرة، فقد يكون الإنسان على سبيل المثال متوفراً على “فكرة تراثية أصيلة”، ثم يقوم بحقنها بمواد غريبة لا تلائمها ولا تصلح لها (انتبه لهذه القيود!)، فيكون بذلك كمَنْ جلب قمحاً نادراً، بيدَ أنه أفسده بـ “خميرة صناعية” أو “مواد منهكة”!
  • الخميرة الجيدة كما قلنا تستلزم زمناً كافياً، مع اتباع الطريقة الصحيحة في التخمير، إذ هي ليست خبط عشواء، وهذه الطريقة تقضي بأن يُوضع قدرٌ معلومٌ من الطحين وقدرٌ معلومٌ من الماء، ويعجن الطحين عجناً جيداً، ويترك في حرارة الغرفة ما لم تكن حارة أو باردة بأكثر مما ينبغي. ويفيدنا هذا بأن نسعى إلى تغذية الفكرة بكل ما يجعلها تنمو وتتفرع وتتراكب وتتماسك، شريطة ملاءمة السياق، وتشمل هذه الملاءمة صاحب الفكرة، فلا يكون على سبيل المثال متحيزاً بطريقة تشوِّه الفكرة، ولا يكون جاهلاً في جوانب رئيسة منها، إذ يتوجب عليه حينها أن يقلع عن تطويرها لكيلا يتنكب الموضوعية أو يتورط في كتابة سطحية. كما تشمل الملاءمة أيضاً: الفضاء العام، إذ قد يكون غير مرحب بالفكرة، بل قد يكون معادياً لها، مما قد يضر الفكرة أو يشوهها أو يسحقها، وفي حالة كهذه، على صاحب الفكرة أن يتدبر كيفية حماية الفكرة من هذا السياق غير المواتي، أو دفعها لمن يمتلك مقومات تخميرها.
  • التخمير الجيد يتطلب عدم كتم ماعون العجين المُخمَّر بغطاء صلب، وذلك لضمان تنفس البكتيريا النافعة وتكاثرها ونموها، على أن يتبع ذلك تغذية مستمرة لهذه البكتيريا بمزيدِ طحينٍ وماءٍ وعجنٍ لعدة أيام، حتى تصل الخميرة إلى: أعلى مستويات التخمر الصحي النشط. ومثل هذا الأمر يدفع باتجاه ضرورة تعريض الفكرة لحيثيات جديدة وليس ذلك فحسب، بل تعريضها للآراء المخالفة أو الشواهد السالبة أيضاً، حيث يعين ذلك على تقويتها وجعلها تُبقي أجزاءَها القوية، وتُميت أجزاءَها الضعيفة، وهو ما يماثل حال الفكرة تماماً، إذ لا يصح أن تبقى إلا الأجزاء الصلبة أو الجيدة منها. وهنا نشير إلى خطورة نوع من التحيز يورطنا في تشبث أعمى بكل أجزاء الفكرة ولوازمها الحقيقية أو المتوهمة، وكأنها أضحتْ جزءاً من المعتقد. وهذا التحيز كفيل بإضعاف الفكرة، بل القضاء عليها أحياناً، حيث قد تكون مشتملة على أجزاء مغلوطة أو ضارة أو غير واقعية، بدرجات تكفي لإذهاب الدقة أو الجودة أو النجاعة في أجزاء الفكرة الأخرى، وهذا خطأ شنيع قلَّما يسلم المرء منه.
  • التخمير الناجح له علامات لا تخطئها عين المُخمِّر ولا أنفه، ومن بينها وجود فراغات وتخلخلات في تضاعيف العجين، مع تغير رائحة الخميرة وتقلبها إلى أن تصل إلى زكاء النضج وعبق الجاهزية. لا تحلِّق أفكارُنا ولا تتنفس إلا في سماء الفراغ، فالذكي إذن من يُحدِث فراغاتٍ كافيةً في الفكرة، لكي تتمدد وتنمو. وهذا ما يخول لنا التقرير بأن: الفكرة المصمتة أَمَة الامتلاء! ومن جانب آخر، تخمير الفكرة قد يترتب عليه شمُ رائحة زنِخة، لسبب يعود إلى الفكرة ذاتها أو إلى نوايا خلفها، وهذا أمر ينبغي التفطن له، فإن كانت هذه الرائحة مؤقتة تقتضيها طبيعة الإنضاج والتخمير فلا بأس، وأما إذا كانت دائمة، فقد يكون ذلك مؤشراً على عدم النجاعة في تطويرها.
  • كل ما سبق يزهدنا بـ “الرأي الفطير“، وهو الرأي: اللحظي التلقائي العجول، والترغيب بــ “الرأي الخمير”، وهو الرأي: المخمَّر الناضج الصالح، وثمة تحذير من مغبة “الرأي الدبير”، وهو الرأي: الفائت المتلكئ المتأخر، وقد يكون ذلك بسبب الإفراط في تخميره، والتأخر في عملية التخمير، مما يفسد خمائر الفكرة ونجاعتها وريادتها وإدهاشها وأثرها.
  • لتشسيع فكرة تخمير الأفكار، دعونا نلتقط بعض الكلمات ذات العلاقة بالتخمير، وننظر في كيفية تفعيلها، وهي متضافرة فيما بينها بشكل أو بآخر:
  • مُخامَرة: تدل على نقاشات هادفة لتخمير أفكار فردية أو جماعية بقالب منهجي محدد أو بعصف ذهني مفتوح.
  • أخمَرَ: هيأ للفكرة فضاء تتخمر فيه، إما عبر: الزمن والتفكير التراكمي الهادئ والكر والفر على قلاع الفكرة وجيوشها الجرارة من التحيزات والشواهد والبراهين، أو عبر المناقشة والمدارسة والجدل والمناظرة.
  • خَامَرَ: هنا نجد أنفسنا إزاء شخص يمتلك فكرة أولية، وهو مقتنع بضرورة أو جدوى تخمير فكرته، ويمارس طريقة أو أخرى لتخميرها.
  • مُخامَر: شخص يمتلك فكرة في طور التخمَّر، وهو بحاجة إلى مد يد العون له، إما باقتحامنا لساحته وملأ فراغات فكرته لدفعها أو لدفعه للتفكير في مسارب جديدة، أو بإفرغها منا ومن كل ما يعكر عليه صفوه، لنترك له فراغاته كي يملأها هو على مهل وتروٍ؛ وفق مقاربة يطورها عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن.
  • مِخمَار: إذا كان للتخمير آلة خاصة، فإنه يمكننا صناعة قالب مهيكل، نضع الفكرة فيه، فيعيننا على تقليبها والنظر فيها من زوايا جديدة، وفي اكتشاف مسارب خفية أو ضمنية لتطويرها عبر خطوات منهجية ممرحلة.
  • مُخمِّر: الأصل أن يكون صاحب الفكرة الأصلية، وقد يكون شخصاً يحسن تخمير الأفكار عبر احتضانها في عقله الدفِق ومخياله الخصِب، فيعمد إلى إضافة زوائد نافعة على الفكرة، وإزالة الحشائش الطفيلية عنها، ونحو ذلك، وقد يقوم بطرح أسئلة وإشكاليات، وربما يومئ إلى زوايا جديدة للنظر والتفكير عبر منهجية ملائمة للفكرة وصاحبها وللسياق أيضاً.
  • مُتخمِّر: ثمة أفكار ناضجة، وهي لا تفتقر إلا لمن يؤمن بها ويقوم بترجمتها إلى واقع ملموس وفق غاياتها ومقتضياتها وحيثيات السياق، حتى لا تكون في عداد “الرأي الدبير”.

هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية، والمجاز منجم لصناعة الأفكار الجديدة وتطويرها وحقنها بكل ما يروع ويدهش وينجع، وهذه مجرد مقاربة تطبيقية في هذا الميدان الرحيب.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة.
فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني.
هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية.

الفكرةُ عجينُ الكتابة! قراءة المزيد »

الثنائية اللغوية في التعليم

الثنائية اللغوية في التعلم

لو رأيت قلمًا ثمينًا أعجبك فاقتنيته على الفور دون استفسار، وعهدُك بالأقلام أنها ما خُلقت إلا للكتابة، فستظل تستعمله في تلك الوظيفة حصرًا. ماذا لو كنت سألت البائع عن سبب غلو ثمنه فأخبرك بعدة وظائف: أنه للكتابة التقليدية، وبه خاصية للقراءة، وبه بطاقة ذاكرة تمكنه من تحرير نصوص تلقائية… إلخ أما كانت تقديرك له سيتضاعف، واستفادتك كذلك؟ أما كانت نظرتك له ستختلف وكذلك استعمالك؟ بلى، فإن معرفة قدر الشيء ووظيفته أول الطريق للاستفادة منه أقصى استفادة، وكذلك اللغة.

أهمية اللغة

يقول سقراط في محاورة كراتيلوس لأفلاطون، إن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتلقين بعضنا بعضا هذه الأشياء فتمييز الأشياء يُقصد به التمثل، أما تلقين أحدنا الآخر هذه الأشياء فهو التواصل.

فاللغة إذن ليست مجرد تواصل بل تتعدى ذلك إلى التمييز الذهني بين الموجودات، أي أن لها صلة وثيقة بالصحة العقلية، كما أن لها وظائف عدة نجهل أكثرها، ونتعامل معها من منطلق وجه واحد نعرفه عنها فلا نستفيد منها إلا بقدر ما نعرف. والنماذج اللغوية لوظائف اللغة عديدة، إلا أن أنسبها لهذا المقام باختصار “نموذج مايكل هاليداي” فلنعتمد عليه إذن.

وطبقًا له فإن وظائف اللغة الأساسية:

  1. الوظيفة الإدراكية: وتعني بناء المعنى وتنظيم الأفكار والمعرفة.
  2. الوظيفة التفاعلية: وهي وظيفة التواصل مع الآخرين وبناء العلاقات الاجتماعية.
  3. الوظيفة النصية: أي بناء النصوص المتماسكة والمترابطة.

الواقع اللغوي للغة العربية

من الظواهر الطبيعية في اللسانيات أن تتصف اللغة بـ (الازدواجية اللغوية)، والتي تعني مستويين مختلفين من الاستخدام للسان نفسه، أي أنه تنافس بين تنوعين للسان واحد (عامية وفصحى)، ووجود وضع مختلف لكل من هذين الشكلين اللغويين إذ يستخدم أحدهما في الحياة اليومية العامة ويستخدم الآخر في الأمور الرسمية والدوائر الحكومية وفي المدارس وغيرها، ويُعد الشكل المعياري والرسمي.

وهذا ليس خاصًّا بالعربية وحدها، بل عام ممتد لكل اللغات. إلا أن الواقع اللغوي العربي يختص بظاهرة أخرى مَرَضية وليست طبيعية؛ وهي استخدام لغة أجنبية في التعليم بدعوى أنها “لغة العلم”، و”متطلبات سوق العمل” رغم أن هذا المبرر واحد فقط من وظائف متنوعة للغة، مما يعني إهمال بقية الوظائف رغم أهميتها.

أغلب الأطفال اليوم يتحدثون عامية بلدهم، ويتعلمون في المدرسة بلغة أجنبية -عادة ما تكون الإنجليزية- ودافع الأهل في اختيار هذه المدارس جودة تعليمها، وإكساب أولادهم اللغة الثانية بسهولة وطلاقة، وإتاحة فرص عمل أفضل. وفي خضم هذه المباحثات عن أفضل مدرسة، تُطمَس لغة الطفل الأم تمامًا، فهو يتكلم في البيت العامية -إن كان الأهل يعتمدون العربية- وفي المدرسة يتواصل ويتعلم بالإنجليزية التي بدأ اكتسابها توًّا. والعامية تؤدي غرض الوظيفة التفاعلية بجدراة لكنها لا تفي بمتطلبات الوظيفتين الأخريين. ثم اللغة الثانية -في الأغلب- يقتصر منها الطفل على إدارة حوارات تواصلية بسيطة، وعلى ما يتلقاه من مادة علمية معروضة بها، لكنه لا يتعمق فيها ويتشربها تشرب اللغة الأم؛ فتأتي سطحية هشّة. وعلى هذا تكون أداة اللغة لدى الطفل متركبة من جناحين مهيضين؛ عامية قاصرة، وأجنبية سطحية، فلا تثبت أيٌّ منهما للتأمل العميق والبحث في المعاني المجردة، ولا تؤهلانه للإنتاج الفكري، اللهم إلا إذا أدرك ذلك هو أو والداه واهتما بتعميق لغة من اللغتين بالقراءة والكتابة وما يتصل بهما من أنشطة ذهنية.

وقد أشار الجاحظ (ت: 255هـ) إلى ذلك في وقت مبكر حيث قال في كتابه الحيوان:

“ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأ ّن كل واحدة من اللّغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها. وكيف يكون تمكُّن اللّسان منهما مجتمعين فيه كتمكّنه إذا انفرد بالواحدة وإنّ له قوة واحدة فإن تكلّم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهم”.

ونتيجة لذلك يظهر ما يمكن أن نسميه (الاكتفاء التواصلي)، أي اقتصار تعليم الناشئة ما يكفي تواصلهم في حالة اللغة الأم، وما يختص بدراستهم أو عملهم في حالة التعليم، فالطفل ينشأ بين لغتين سطحيتين دون أن يتعمق في أيّ منهما.

ويقول الأستاذ أحمد معتوق في عن الازدواجية الناتجة عن تعليم النشء بالعامية بدلًا من الفصحى

“يجعل الناشئ يعيش حالة ازدواجية أو فصاما لغويا ويعاني من لغة تتصارع مع مولود لها معقد التركيب أو (مولود غير شرعي) لا بد أن يوهنها صراعه لأنه يحتل مواقع مهمة في المجتمع وجوانب مختلفة في حياة الفرد”.

وهذا في حالة التعليم بنفس اللغة إلا أنه بمستوى مختلف، فماذا عن التعليم بلغة أخرى مختلفة كليًّا؟

– يعتاد الطفل ما سهل عليه من لغة التواصل الأجنبية فيجد نفورًا من ثقل تعلم لغته الأم التي تكلفه تعلم قواعد وأسس عميقة بالنسبة إلى اكتسابه اللغة الولى بالتواصل فقط.

– كما يؤدي هذا الازدواج إلى ضعف المستوى اللغوي لدى الطفل العربي المكتسب للغة ومن ثمة إلى قتل الإبداع لديه، فإن الإبداع هو الإمساك التام بناصية اللغة ويتطلب إتقانا تاما لها بالسيطرة الكاملة على ألفاظها ومعانيها والتحكم في استختدام صيغها ومفرداتها.

– ويؤدي هذا التذبذب اللغوي بين عربية فصحى، وعربية عامية، ولغة أجنبية إلى تذبذب فكري وثقافي أكيد.

– انقطاع الصلة بين النشء ودينهم الإسلامي؛ فالتراث الإسلامي بلسان عربي مبين، سواء القرآن أو الحديث أو التفسير أو حتى علوم العربية التي تعين على فهم وتذوق الشريعة. وهذه القطيعة إما أن تفضي إلى إلحاد أو فهم خاطئ للدين يضر بصاحبه وكامل مجتمعه

الثنائية اللغوية في التعلم 1

الآثار الناجمة عن التعليم بلغة أجنبية

1- ضعف مستوى التعليم عامة وضعف مستوى اللغة العربية الفصحى بشكل أخص. حيث المنافسة بين اللغة الأم ولغة السوق، وبتكرار ما ذكرناه آنفًا من أهمية ووظائف متنوعة للغة، إلا أن المادية قد طغت على العصر وأصبح ما يجلب المال الاهتمام الأوحد.

2- فوضى لغوية حيث التشتت الذهني والالتباس في المفاهيم نتيجة عدم التحكم في اللغتين تحكمًا كاملًا.

3 – توهين الروابط الاجتماعية، وتصدع المجتمع جراء تناقض المقومات الثقافية بين طوائفه الاجتماعية، وفقدان الثقة المتبادلة.

4 – أثر واضح على تخلف التنمية والنهضة الحضارية. ولا يخفى علينا أن معظم الدول العربية تحتل المرتبة بعد المئة في تصنيف التنمية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وهناك عوامل مشتركة بين هذه الدول المتخلفة -العربية منها وغير العربية:

أ – عدم عدالة النظام التعليمي، وتوفير الجيد منه لطبقة ضيقة.

ب – التعليم بلغة أجنبية، وتؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية أن الطلاب الذين يدرسون العلوم باللغة الأجنبية لا يستوعبون ما يدرسون لأسباب عديدة منها:

– أن الطالب يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: صعوبة فهم اللغة الأجنبية، وصعوبة المادة العلمية، وصعوبة ترجمة ذهنية لما يدرس إلى اللغة العربية، لإضافته إلى منظومته المفهومية المعرفية التي هي أساسا بلغته الوطنية.

– وأن تدريس العلوم بلغة أجنبية لا يساعد على توطين المعرفة العلمية، ويبقيها أجنبية، ويحول دون استيعابها وتمثيلها والإبداع فيها، ويعرقل تنمية اللغة الوطنية، ويحصر المعرفة في نسبة ضئيلة من السكان.

خاتمة

إن تعبير “لغة العلم” من أكبر المغالطات التي سيطرت علينا في العصر الحالي، فمن قال ومتى تقرر أن هناك لغة للأدب ولغة لعلم وأخرى للتواصل؟ الحق أن اللغة واحدة تتنوع مستوياتها باختلاف المجال المستخدمة فيه. وإن قصرت العربية حاليًا عن توصيف العلوم وشرحها فلتقصير أبناءها وانعدام الجهود الموجهة لهذه الغاية. ولا يخفى على أحد النهضة العلمية الإسلامية في عهد الدولة العباسية وقد شملت: الجبر، والطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات، والفلسفة، والأدب واللغة، والعلوم الدينية، والفلك، وغيرها من العلوم التي شملتها العربية دون أن تقصر عن أي منها.

وقد تبين لنا في الدراسة أن التعليم من أهم عوامل نهضة الأمم، وأنه يتأثر بالغًا بلغة تأديته، ومن المعروف أن كل الدول المتقدمة -على اختلاف لغاتها- لا تُعلِّم أبناءها إلا بلغتها الوطنية.

أختتم مقالتي ببعض الأفكار التي أرى أهميتها وصلتها بما سبق ذكره:

  • اللغة تواصل وتفكير ومخيلة وديانة وثقافة وليست تعليم وعمل فقط.
  • وأنه وإن اقتصرت المدارس في تعليمها على التعليم بلغة أجنبية فإنها لم تحكر عليكم تعليم أبناءكم لغتهم بشتى السبل المتاحة.
  • وأن السبل المتاحة لتحقيق ذلك وفيرة، والغاية عظيمة، فلا تستهينوا بها ولا تبخلوا عليها بالجهد والوقت والمال.
  • والتربية في أساسها تكوين ابن مستقيم صالح، ولن يتأتى ذلك إلا بتقويم فكره وتهذيبه، وإرساء ديانته على الفهم الصحيح، بلغة سليمة وقويمة.
شارك الصفحة
المزيد من المقالات

الثنائية اللغوية في التعليم قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب استهلاك الحياة

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“إن أعضاء مجتمع المستهلكين أنفسهم سلع استهلاكية، وإن كونهم سلعاً استهلاكية هو ما يجعل منهم أعضاء حقيقيين في ذلك المجتمع، أن يصبح الإنسان سلعة قابلة للبيع وأن يبقى كذلك هو أقوى دافع لمخاوف المستهلكين، رغم أنه عادة ما يكون هذا الأمر كامناً، ومن النادر أن يكون واعياً، ناهيك عن التصريح به علناً .. فأن ’يجعل المرء من نفسه سلعة قابلة للبيع‘ هو فعل ينجزه المرء بنفسه، وواجب فردي. دعونا نقدم الملاحظة التالية: إن صنع المرء لذاته، وليس مجرد أن يصبح ذاتاً، هو التحدي والمهمة. إن الفكرة القائلة بأن لا أحد يولد إنساناً بالكامل، وإن هناك الكثير مما يجب القيام به ليصبح إنساناً بشكل كامل وحقيقي، ليست من اختراع مجتمع المستهلكين، ولا حتى من اختراع العصر الحديث”

زيجمونت باومان

كتاب استهلاك الحياة لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان كتابٌ جدير بالاهتمام والقراءة المتأنية، يقف على أكثر مشاكل العصر أهمية وثقلاً، وهي تحويل الحياة إلى مجموعة من اللحظات التي يستهلك فيها الإنسان كل سلعة ممكنة، طلباً لسعادة مفترضة، وقد تناول باومان هذه القضية مناقشاً ثلاثة عناصر فيها: النزعة الاستهلاكية، مجتمع المستهلكين وثقافة النزعة الاستهلاكية.

أما النزعة الاستهلاكية فابتعد بها الكاتب عن معناها الحقيقي الضروري للوجود الإنساني، وناقش صنمية السلعة والذات الإنسانية، أي نزع الطابع الإنساني والاجتماعي منهما، وتحول السوق للمرء من مجرد فاعل في نفسه ومجتمعه إلى مفعول به بيد النظام السلعي وآليته، بما في ذلك من تسليع لذاته، فيغدو متعطشاً للاهتمام بصرف النظر عن مكنون هويته وما يمكن أن يقدمه.

وأما مجتمع المستهلكين فناقش باومان تقديسه العابرية في السلع والعلاقات والهويات، وتهميشه الديمومة والاستمرارية والبعد العميق في النفس الإنسانية، بما في ذلك سيولة الحب والعلاقات التي بات التخلي فيها عن الآخر ضرورة تواكب العصر، مع تهميش لدور المسؤولية الأخلاقية لدى الفرد تجاه شريكه.

كما تحدث الكاتب عن رسم النزعة الاستهلاكية للترتيبات في المجتمع والطبقات والفروق التي تعزز الفردية والتفرد والتميز على حساب الكينونة الحقيقية للنفس البشرية، ما يفضي إلى انعدام استقرار الرغبات ونهم الحاجات لدى المجتمع، فتكون الرغبة والإرادة منفصلتان عن المرء ومندمجتان في قوى السوق التي تسيِّرها.

وتناول باومان الزمن التنقيطي الذي ظهر ليناسب حياة السرعة والاستبدال، فغدا الزمن في ذهن الإنسان الحديث لحظات متتابعة متجددة باستمرار، لا تحمل للماضي قيمة ولا تتنبأ بالمستقبل ولا تحضِّر له، كما غدا التبذير وضخامة النفايات السلعية من مزايا العصر وتصور الزمان الحديث، خاصة بظهور النزعة السوداوية المتمثلة في الشره للأشياء دون إدراك جوهرها.

وفي التقييم الأخلاقي لمجتمع المستهلكين، انتقد باومان قياس السعادة في مجتمعاتنا بمقارنتها بغيرها من المجتمعات التي تعيش ظروفاً مختلفة، وناقش أن السرعة في تلبية الرغبات وتقصير الزمن بين الحاجة وتلبيتها لم يساهم في زيادة مستويات الرضى والسعادة بين الناس، بل تحدث عن الاقتصاد الموجه الذي بات يُنتج الخوف الذي وعد بتبديدهن وغدا مصدراً للتعاسة المتجددة، خاصة باعتماده على عدم إشباع الرغبة إلا بعد خلق بديلٍ عنها يحل محلها، ليظل إنسان العصر لاهثاً مسرعاً خلف رغباته المتجددة التي لا تنضب، والتي يحرص نظام السوق على ألا تنضب، أما المعارضة، فهناك نظام يعمد إلى امتصاصها وتسخيرها من جديد لصالح النظام.

وفي تعارض كبير بينه وبين مجتمع المستهلكين، فإن مجتمع المنتجين رفع من قيمة العمل واعتنى بالإنسان الجسد ليزج به في أرض المعركة أو بين صفوف عمال المصانع، بينما عُني مجتمع المستهلكين إلى رفع قيمة الاستهلاك والعناية بروح المرء وتسخيرها لمنفعة السوق واستهلاك منتجاته، ولأن المستهلك يرى نفسه سلعة تحتاج التسويق فإنه يشعر بالخزي من ذاته، ويسعى إلى نفي جسده وهويته في كل مرة و”الولادة من جديد” مستعيناً بتبديل هويته وآرائه ومواقفه وحتى جلده وملامحه وجسده، ليواكب قوانين العصر ومعاييره.

يرى مجتمع المستهلكين أن “من واجب المرء” أن يختار هويته وجسده في كل مرحلة من مراحل حياته، وأن عليه الانضمام إلى أسراب مختلفة، بدلاً من المجموعات، تتأكد فيها هويته المتفردة والمختارة بعناية، ويغدو فرداً في سربٍ يتماهى فيه ومعه، والذي عادة ما يكون سرباً يخص الرياضات أو الأعمال الترفيهية.

ويفترض مجتمع المستهلكين أن مسؤولية خلق المرء لنفسه تقع على عاتقه، فيتحمل، لوحده، تبعات نجاحه في الحياة أو فشله، ومن هنا تنتابه المخاوف والقلق والمشاعر السلبية لانعدام المنطق فيما فرضه عليه المجتمع: “إن الليالي التي تلي أيام الاختيارات الإلزامية مليئة بأحلام التحرر من المسؤولية”، ومن هنا فإن المرء مسؤول عن خلص تصوره الخاص عن العالم ونظامه الأخلاقي الخاص به، فيما يُدعى “بمسؤولية الفرد أمام ذاته”، لا أمام الآخر الذي نفاه وهمِّشه ولا أمام مجتمعه الذي انسلخ عنه.

يعيش مجتمع المستهلكين في حالة دائمة من الطوارئ، تسحب المرء في كل لحظاتها فلا يتبقى له الوقت للتفكير واتخاذ القرارات العقلانية، فنراه يُحدد هويته سريعاً في كل مرة بشكل مختلف، حسبما يُمليه عليه عرقه أو دينه أو ميوله أو ثقافته، ولا يحتاج الآخر في هذا الصدد إلا لغرض المصادقة على هويته الجديدة، دون اعتبار استقلالية الآخر برأيه ورؤيته.

ويختتم باومان كتابه بفصل “الأضرار الجانبية للنزعة الاستهلاكية”، مناقشاً مفهوم الضرر الجانبي اليوم كتضليل لغوي وفكري للبشاعة التي يحملها النظام والضحايا التي تُدهس تحت عجلته، فلا يتم الحديث عنها سوى على أنها مجرد أضرار جانبية “لا بد منها” أو “لم يُحسب حسابها”، ونحن هنا لا نتحدث عن فئات بسيطة، بل عن الطبقة الدنيا التي تشمل الفقراء والمرفوضين ومعارضي النظام، وكل فئة أخرجت نفسها من معادلة الاستهلاك ودعم نظام السوق، وظلت ترى القيمة في المبادئ والمواقف الأخلاقية والثبات على القيم التي رفضت تجزئتها، أي الفئة التي يدعوها نظام السوق “بالمستهلكين الفاشلين”، الأمر الذي بدأ دوامة من العنف والممارسات العنصرية والطبقية ضد “النفايات البشرية” التي يرفضها المجتمع لغرابتها عنه، إلا أنه يدفع ثمن جهله كل يوم بشتى الطرق، أهمها، انخفاض فهمه للسياسات التي تحكمه، وتضاؤل مشاركته في مواقع صنع القرار ورسم المستقبل، لتظل في أيدي المتحكمين بنظام السوق والمنتفعين من جهل العامة.

إنه كتاب ثري بالفعل، ويستحق القراءة مراراً.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب استهلاك الحياة قراءة المزيد »

الجيل القلق

Picture of الكاتب: نيكولاس جوك
الكاتب: نيكولاس جوك

ترجمة: يارا عمار

“كما أنه لا بد أن يتعرض جهاز المناعة للجراثيم، وأن تتعرض الأشجار للرياح؛ كذلك الأطفال لا بد أن يتعرضوا للعقبات والإخفاقات والصدمات والعثرات، حتى يشتد عودهم ويعتمدوا على أنفسهم.”

جوناثان هايدت.

بعد ظهر أحد أيام أكتوبر عام 2006، وُجدت (ميجان ماير) ذات الثلاثة عشر عامًا وقد شنقت نفسها بحزام في خزانة الملابس. لماذا؟ لأنها قضت وقتًا طويلًا على موقع MySpace، وكانت تتعرض للتنمر الإلكتروني من حساب مزيف لوالدة إحدى زميلاتها.

ليت قصة ميجان ماير كانت حادثة مأساوية فردية، لكنها -بكل أسف- مجرد حالة من بين الآلاف، فقد ارتفع معدل انتحار المراهقين الأمريكيين (10-14 عامًا) بمعدل 121% في المتوسط بين عامَي 2010 و2020. يثير هذا الأمر سؤالًا ملحًا: لماذا؟ ما الذي يدفع هؤلاء اليافعين -أو الأطفال- لإنهاء حياتهم؟

يقدم عالم النفس الاجتماعي الشهير (جوناثان هايدت) في كتابه الجديد “الجيل القلِق” تفسيرات وحلول لما وصفه بـ “وباء الأمراض العقلية”.

ما هي نظريته؟ يرى هايدت أننا “نفرط في حماية الأطفال في العالم الحقيقي، ونقصّر في حمايتهم على الإنترنت”، ويؤكد على أن الأطفال بحاجة إلى “طفولة قائمة على اللعب في العالم الحقيقي” حتى يزدهروا وينموا. ما العاملان الأساسيان اللذان يحرمان الأطفال من هذا النوع من الطفولة؟ الهواتف الذكية “والتربية القائمة على الخوف”.

فيما يلي ثلاثة دروس توضح سبب تراجع الصحة النفسية في شتى أنحاء العالم، وما الذي يمكن فعله لتحسينها:

  1. أربعة أضرار أساسية تهدد الصحة النفسية لأطفالنا

لنفترض أن طفلك سجل نفسه ليكون من أول البشر الذين يعيشون على المريخ. وفي أثناء تعرّفك على شركة الفضاء، أدركت أنهم لا يريدون سوى أفراد للاختبار والتجربة، ولا يهتمون بالسلامة على الإطلاق، فهل ستسمح لهم بأخذ طفلك؟ بالطبع لا!

يقترح هايدت أنّ شركات التكنولوجيا تفعل الشيء ذاته تقريبًا منذ عام 2010: استغلال انتباه أطفالنا وصحتهم النفسية من أجل تحقيق الربح. يقول “إنّ الطفولة مدة تدريبية لتعلم المهارات اللازمة للنجاح في ثقافة المرء”. أمّا الآن فيعجز ملايين الأطفال عن تعلم تلك المهارات، لأنهم يعيشون في هواتفهم، لا في الواقع.

روابطنا في العالم الحقيقي لها أربع خصائص مميزة:

  • تعتمد على لغة الجسد.
  • تحدث بشكل متزامن مع الآخرين.
  • يتم التواصل بشكل متسلسل ومع عدد قليل جدًا من الأفراد.
  • تنشأ في مجتمعات ذات حواجز عالية لا يسهُل دخولها.

لا شيء من هذا ينطبق على أنشطتنا على الإنترنت، ولهذا السبب فهي غالبًا تضر بالازدهار البشري. وبناءً على ذلك، يرى هايدت أن الطفولة القائمة على الهاتف تفضي إلى أربعة “أضرار أساسية”:

  • الحرمان الاجتماعي: انخفض الوقت الذي يقضيه المراهقون في اللقاءات المباشرة مع أصدقائهم بنسبة 50% منذ عام 2012، وساهم الوباء في تفاقم هذه المشكلة.
  • اضطراب النوم: تؤدي قلة النوم إلى “الاكتئاب والقلق وسرعة الانفعال والعجز المعرفي وضعف التعلم وانخفاض الدرجات”. وقد أثبتت الدراسات طويلة المدى أن الهواتف الذكية تضر بجودة نومنا.
  • تشتت الانتباه: نظرًا لأن هواتفنا تقاطعنا باستمرار، فإن قدرتنا على التركيز تضعف بشدة.
  • الإدمان: يستخدم العديد من الأطفال هواتفهم كآلات لإنتاج الدوبامين، فهم في بحث دائم عن الجرعة التالية، وقد صممت شركات التكنولوجيا الكبرى تطبيقاتها بحيث تشجع هذا السلوك.

كيف نعالج هذه الأضرار وننشئ حياةً أصح وأكثر ارتباطًا بالواقع؟ يقترح هايدت لذلك أفكارًا أيضًا.

  1. إن نحن طبّقنا أربع إصلاحات أساسية، فستتحسّن الصحة النفسية لشبابنا إلى حد كبير.

يناقش هايدت في النصف الثاني من الكتاب ما يمكن أن تفعله الحكومات والمدارس والآباء لتهيئة طفولة صحيّة، فيدعو إلى أربعة “إصلاحات أساسية” لمكافحة الأضرار الأساسية الأربعة:

  • لا هواتف ذكية قبل المرحلة الثانوية، يجب ألا نعطي أطفالنا سوى هواتف بسيطة للمكالمات والرسائل النصية حتى يبلغوا الرابعة عشرة.
  • لا وسائل تواصل اجتماعي قبل السادسة عشرة، عندما يتعرض الصغار الذين لم يصلوا بعد إلى سن المراهقة لمحتوى غير محدود مختارًا عن طريق الخوارزميات، ومقارنات مع المؤثرين/ الإنفلونسرز، فقد يضر ذلك بقيمتهم الذاتية بشكل دائم.
  • حظر الهواتف في المدارس، لا يكفي مجرد عدم السماح باستخدام الهواتف أثناء الحصة، بل يجب أن تجبر المدارس الأطفال على إبعاد هواتفهم تمامًا، “هذه هي الطريقة الوحيدة لتحرير انتباههم لبعضهم بعضًا ولمعلميهم” كما يقول هايدت.
  • الإكثار من اللعب دون رقابة وزيادة الاستقلالية في الطفولة، يوصي هايدت الآباء بأن يتركوا مساحة لأطفالهم حتى يتعلموا “تنمية المهارات الاجتماعية، والتغلب على القلق، ويصبحوا شبابًا مستقلين” بشكل طبيعي. امنحهم الفرصة للتجربة والفشل والتعلم منه.

لا بد أن تتغير القوانين واللوائح التعليمية، وهذه الأمور بطيئة التطور، لكن من حسن الحظ أنّ ثلاثةً من هذه الإصلاحات الأربعة تقع تحت سيطرتنا. أزِل الهواتف والإنترنت، وأعِد الأطفال للانطلاق واللعب الحر.

يقول هايدت “كما أنه لا بد أن يتعرض جهاز المناعة للجراثيم، وأن تتعرض الأشجار للرياح؛ كذلك الأطفال لا بد أن يتعرضوا للعقبات والإخفاقات والصدمات والعثرات، حتى يشتدّ عودهم ويعتمدوا على أنفسهم”. لنحرص على مرورهم بهذه التجارب مع وجود ملاذ آمن للرجوع إليه، وسيصبح صغارنا بالغين ناضجين.

  1. استعن بهذه الممارسات الست لاستعادة صحتك وصحة أطفالك النفسية، وتقويتها.

يقدم هايدت أيضًا 6 ممارسات -تصلح للأطفال والبالغين- لانتشال أنفسنا من مستنقع الهواتف الذكية، يقول “يشعر الناس بالسمو الروحي عندما يشهدون الأفعال المستحسنة أخلاقيًا”.

فيما يلي الممارسات الست التي تشجع على مثل هذه “الأفعال المستحسنة”:

  • التجارب المشتركة: الانضمام لمجموعة “منظمة لغرض أخلاقي أو خيري أو روحي”.
  • التجسيد: والذي قد يكون بأي طقس أو نشاط جسدي، بدءًا من تناول الطعام إلى ممارسة الرياضة أو الصلاة معًا.
  • السكون والصمت والتركيز: بالقيام بالممارسات التأملية، أو الهدوء من أي نوع كان.
  • التفاني من أجل هدف سامٍ: يتعلق بالتضحية في سبيل قضية أسمى تتجاوز عالمك الخاص، بدءًا من التبرع وحتى العمل التطوعي.
  • العفو بدلًا من الحكم على الآخرين: تعلّم أن تكون “بطيء الغضب سريع الفيء”.
  • استشعار روعة الطبيعة: اقضِ وقتًا في الهواء الطلق، سواء للاستجمام في الغابات أو استنشاق هواء البحر المالح، فالطبيعة تجعلنا نشعر بالاتصال بالعالم من حولنا بطريقة فريدة.
شارك الصفحة

الجيل القلق قراءة المزيد »

فضيلة التَّرْك

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

فضيلة الترك

وهم الكمال، ووهم السعادة المحضة، وما يشابهه من مشاعر المستحيل الواقعي يقودنا إلى ضبابية في الشعور، فنلجأ إلى معالجة وهمية عبر جسر الاستهلاك (دعوني أمتلك)، سواء كان الاستهلاك المادي المتمثل باستكثار امتلاكنا للأشياء، أو الاستهلاك الشعوري المتمثل باستجلاب شهرة أو متابعة أو إعجاب.

وعزز الاستهلاكَ السائل التقدمُ الصناعي الذي زاد من جشع التملك للأشياء، فكبر الوهم وتبدلت المركزية؛ فلم يعد امتلاك الإنسان للأشياء منطلقًا مركزيًا، بل ذاب وتماهى في الامتلاك إلى أن صارت الأشياء تملكه، فتخلقت القيمة والسؤال فيما يُمتلك لا في الإنسان وقيمه! وهذا الوهم يفتقر إلى استشعار فضيلة تنتشله وتعافيه.

لا يتأسس حل هذا الإشكال إلا إذا استوعبنا مفهوم الامتلاك من حيث محدودية الإنسان فيه، وأن امتلاكه لا يكون إلا تجوزًا لا حقيقيًا. قيل لإعرابي: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لله في يدي. ومن هنا فإن فضيلة الترك تسلمنا إلى منهج حياة واعية وفلسفة عميقة تخلق فينا شعورًا صافيًا نقيا، ويمكن القول إن فضيلة الترك أقرب ما تكون إلى تقنية ذهنية تفحص احتياجاتنا الحقيقة والوهمية تجاه ما نرغب امتلاكه، وتفرغه من وهم طلب الكمال، فتعزز من قيمة القناعة، وشره الطلب، وتغلب أفكارَنا الغرائزية التي من شأن متبعها أن يلبي احتياجاتها بأي وسيلة وثمن. إن الترك فضيلة إنسانية كلما اصطبغ بها الإنسان ابتعد عن حيوانيته واقترب إلى إنسانيته، وتشكلت فيه نفس حية حرة ضميرها نابض، ووعيها مستنير وغرائزها منضبطة، ففضيلة الترك الواعية هي عين الامتلاك والتلذذ به من حيث كونه ملك نفسه واختياره.

فضيلة الترك تدعوك إلى أن تُصلِح الأشياء ليحسُن امتلاكها فلا يُمتلك إلا كل صالح، لكن ما العلاقة بين فضيلة الترك وإصلاح الأشياء؟ والجواب أن الترك لا يحمد لذاته إنما بما يؤدي إليه من الإحسان والجمال، ومن الإحسان والجمال ألا نترك الأشياء فاسدة لمجرد عدم امتلاكنا لها، بل نصلحها ونتركها لغيرنا صالحة نافعة، وبذلك تكون ثمار فضيلة الترك لصاحبها وتتعدى إلى غيره من الناس، ومن هذا الباب يأتي قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)الأعراف: 56، بألا يتغلب علينا الطابع الاستهلاكي، ونتحلى بالاستخدام المسؤول؛ ليكون هناك استدامة لموارد الأرض، وعدم هدرها، واستثمار خيراتها بما لا يفسدها للأجيال القادمة.

إن الأخلاق الفاضلة تكاد تكمن كلها في الترك، فالحياء خلق يبعث صاحبه على ترك القبيح من الأمور، والإيثار ترك حظوظ النفس وتقديم الغير عليها في النفع لها، والأناة ترك العجلة والمبالغة في الرفق في الأمور، والتؤدة ترك الخفة، والحلم ترك التعجل في العقاب المستحق، والتواضع ترك الترؤس والمفاخرة، والستر ترك الإفصاح عن العيوب وعدم إظهارها، وسلامة الصدر ترك الحقد والغل والبغضاء، والصبر ترك الجزع عند المصائب وترك ما لا يحسن عند وقوع المكروه، والسكوت ترك التكلم مع القدرة عليه وذلك في المواطن التي يحسن فيها، والعفة ترك النفس عن الشهوات وعن السرف، والصفح ترك التأنيب، وكتمان السر ترك الحديث ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها، وغير ذلك من الصفات الحميدة والأخلاق الفضيلة التي يكون الترك محورها أو أحد أركانها، فالترك تزكية للنفس، وثراء روحي ينعم به الإنسان مع نفسه فتصح نظرته للحياة والكون، وقيل: الحكمة لا تسكن معدة ملأى.

فضيلة الترك 1

ولو تأملنا في بعض الحكم والأمثال والفلسفة لا نعدم أن نلمس فيها شيئًا من الترك؛ وكأن فضيلة الترك نظرة كلية تصبغ الصواب في الأفكار فنجد فيها كثيرًا من معالجة الإشكالات النفسية والاجتماعية، يقول نيتشه: “من لا يستطيع التخلي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء”، ويقول ليو تولستوي: “أنت لا تنضج بقدر ما تكتسبه بل بقدر ما تتخلى عنه”، ويقول جبران خليل: “بدأت أفهم وأستوعب الآن أن سعادتي تكمن في التخلي عن المزيد لا الحصول على المزيد”، وجماع ذلك كله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه”، ففضيلة الترك هنا هي الصورة المثلى الذي تركبت من الترك وحسن النية والقصد.

وإذا سلم العقل بضرورة الترك وأيقن ذلك عن طريق الوعي المدعم بالحجج والبراهين، فهل يكفي ذلك لنيل فضيلة الترك؟ والجواب بحسب ما تؤكده الدراسات وواقع الإنسان عدم انفصال العقل عن العواطف، بل إن دور العواطف فاعل في عمليات التفكير، يقول جان جاك روسو: “إن الذهن الإنساني مدين بالكثير للأهواء، والأهواء مدينة بالكثير للذهن، وهذا متفق عليه بالكلية، فإنما يتكامل عقلنا بنشاط أهوائنا، ولا نطلب المعرفة إلا لأننا نرغب في المتعة”، ويقول ديفيد هيوم: “فإن النفس تنشط في مجال هواها، وتتعهد ميلها المهيمن بالرعاية”، ولعل النتيجة التي يمكن أن توضحها الأبحاث في هذا المجال أن الإنسان لا يملك عقلا محضا، وإنما عقلًا متداخلًا مع الغرائز والعواطف، تقول سوزان جرينفيلد المهتمة بالأعصاب والوعي: “فالمشاعر تشكل جوهر وعينا”. ونخلص من ذلك إلى أن عملية التحرر من سطوة الامتلاك إلى فضيلة الترك تبدأ من شعورنا بمنة الله علينا مما أنعم وأوجد، وربط النعم به، والتبرؤ من حولنا وقوتنا إلا به سبحانه، ومن شأن هذا الشعور أن يزاحم المشاعر الأخرى فنبدأ بالترك التدريجي الذي يمزج بين الفكر والعاطفة ويدرك مواطن تغذية كل منها إلى أن نصل إلى فضيلة الترك.

فضيلة الترك قوة في الشخصية، وحزم في اتخاذ القرار، كما تجعل الإنسان متصالحًا مع نقصه، فلا يبحث عن وهم اكتماله في الأشياء، ولا يقع في فخ التسويق والإعلان الذي يزيد عن قدر حاجته الأساس، فضيلة الترك مهارة تجعلنا متصالحين وراضين بالأقدار، بأن تكون لدينا قابلية لأن نترك الأشياء فنشعر بالحرية الحقيقية، وإن كان الترك يعطينا إحساسًا أوليًا بالفراغ والخواء، فالأمر ليس كذلك بل الترك يملأ النفس لذة وانشراحا بامتلاكها اختيارها لا بغيرها.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة التَّرْك قراءة المزيد »

أهمية اللاقراءة: مراجعة لكتاب كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعدّ كتاب “كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟” لبيير بايارد أحد الكتب التي تغيِّر في نفس المرء، وتعلِّمه كيف يمضي في حياته بين المعارف والكتب ومصادر الثقافة المختلفة، من دون أن يتسبَّب له ذلك بالتشوش، أو القلق، أو الادعاء، أو الخوف، أو البُعد عن ذاته، وذلك عبر تناول مسائل ومفاهيم عديدة تخصُّ رحلة المعرفة التي ننطلق بها إثر قراءاتنا.

بدايةً، يناقش الكاتب ضرورة أن يكون للمرء نظرة شمولية لمصادر المعرفة، أي الكتب، ونظرية العلائق التي تجمع بينها، والمستويات التي تترتب عليها، ليُدرك موقع كل كاتبٍ وكتابٍ في هذا الترتيب، ما يعني ضرورة أن يتجاوز المرء فردية الكتاب ليحكم عليه من حيث موقعه بالنسبة لبقية الكتب في مجاله، والعلاقة التي تربطه بها، ومن هنا يمكن أن يناقش المرء كتباً لم يقرأها لمعرفته بموقعها من حيث المستويات والعلاقات، كأن يستمع إلى نقاش يدور حولها أو يقرأ مراجعة عنها أو يتصفح الكتاب متوقفاً عند خطوطه العريضة.

ويرى فاليري بأن ملامسة المرء للفكرة أهم من الغوص فيها، وكذلك فإن ملامسة الكتاب أهم من قراءته والانغماس فيه والاندماج معه، ففعل الملامسة يحافظ على المسافة بين القارئ والكتاب والتي يتمكن عبرها المرء من تحديد موقع الكتاب وأهميته، وربما تحديد وظيفته في حياته فيما بعد، وهكذا تكون الممارسة النقدية عند فاليري متجهة للتعبير عن الذات لدرجة تستغني عن النص ذاته.

إن قراءة الكتب تغيِّر فينا وتبدِّلنا وتمتزج بعاطفتنا ونظريات المعرفة لدينا، ولكننا مع ذلك ننسى محتواها مع الوقت ولا نعود نذكر الجزء الأعظم منها، ولا مفرَّ من النسيان المرافق للقراءة، لذلك من الأفضل أن يركن المرء دائماً إلى الاقتراب من الفكرة ومجاورة الكتب والربط المعرفي بين مواضيعها، ومحاولة تطويع ذلك كله للاستفادة به في حياته، بدلاً من التوقف في كل مرة عند كتابٍ بعينه للغوص فيه وفي تفاصيله التي ستنسى مع الوقت.

ويشير الكاتب إلى مفهوم المكتبة الداخلية المتشكلة في كلٍّ منها، والتي تكون مجموع القراءات والأفكار والتصورات والعواطف التي يمر بها المرء، فتشكل هويته الثقافية، ويعتمد عليها المرء عادة في التعليق على الكتب التي لم يقرأها، ولكن التي يعرف موقعها من حيث موضوعها ومحتواها. لذلك يصحُّ القول بأن كل قارئ يقرأ نفسه في الكتاب، وكل كاتبٍ يفشل في إيصال معانيه الخاصة إلى القرِّاء، ما قد يضع الكاتب في ألمٍ لا بد منه عند حديث القراء إليه عن كتبه، لا سيما إن أحبُّوها بشدَّة.

وتضم المكتبة الجماعية مجموع الكتب التي قرأها المرء والتي لم يقرأها، أي التي يمكنه الحديث عنها بصورة عامة وتناولها من حيث أهميتها والوظيفة التي تلبيها، ولأن الكتب عادة ما تنتمي إلى المجال الافتراضي الذي نتحقق فيه، فإنها، كاللغة، طريقة مشوهة للتعبير عن نفوسنا، ذاك أننا لا نستطيع التعبير عما نريد عادة، لذلك يجب أن نقنع بالوجود الحتمي للغموض في عباراتنا والفضاء الذي نخلقه مع الآخرين.

من هنا يرى الكاتب بأن ما يُفهم من النصوص أهم بكثير ممَّا كُتب فيها، فأن يُشكل المرء عباراته بوساطة الكتب أهم بكثير من أن يفهم ما أريد حقاً بالكتاب ومعانيه:

“الحقيقة الموجهة للآخرين أقل أهمية من حقيقة الأنا التي لا يصل إليها إلَّا مَن تحرَّر مِن نير الضرورة التي تُكرهنا على أن نظهر أمام الناس بمظهر الثقافة، والتي تعذبنا في أعماقنا وتمنعنا من أن نبقى على طبيعتنا، ونكون ما نحن عليه حقاً”.

وبما أن لكل كتاب سياق الحديث الخاص به، والمنطوي على كاتبه وناشره وموضوعه، فإن له سياقاً داخلياً فينا كذلك يُحدد قيمته وموقعه ومدى قدرتنا على توظيفه لإفادتنا،وبالطبع فإن هذا السياق يتبدل ويتغير بمرور الزمن ونضوج الفرد وتغير مكانة الكتاب الخارجية.

واللافت في الأمر إثبات الكاتب بأن فعل قراءة الكتب ما هو إلا قراءة لأنفسنا، أي أننا ننتهي من قراءة كتبٍ نحن وضعناها وألَّفناها، ونفهم منها معانٍ متوهمة نحاول تصديرها من جديد، لتتموضع في فضاء متوهم كذلك ومختلف، وتقع على مسامع الآخر الذي سيفهمها تبعاً لمعجمه الخاص و”كتابه الداخلي”، أي أن فعل مناقشة مواضيع الكتب عملية تعبيرية تقوم على الوهم المشترك والمتحقق، ولا علاقة لها عادة بحقيقة الكتاب الذي تتم مناقشته.

ويمضي الكاتب متحدثاً عن تحويل القراء للكتب في أذهانهم وتغييرهم فيها بمرور الزمن، وذلك ضمن صيرورة إبداعية يكون فيها الإبداع أهم من الفهم، والاحتمال أقوى من الواقع، والعبارة النسبية أثقل من القاطعة:

“ما يهم في الكتاب هو خارجٌ عنه، لأن المهم هو لحظة النقاش التي لا يُمثل الكتاب إلا ذريعتها أو وسيلتها”.

بل إنه يرى الدقة والوضوح في التعبير عن محتوى الكتاب تنطوي على اعتداء على حق الآخر في الفهم كما يحلو له، أو كما يملي عليه كتابه الداخلي، يجب أن نترك لأنفسنا والآخرين حرية اللاقراءة وإمكانية الحُلم، أي يجب أن تكون القراءة فرصة للإبداع أكثر من الفهم، ولا تتحقق هذه العملية إلا عندما يدرك القارئ بأن جوهر الأدب لا يكمن في الرواية التي يقرأها، وجوهر المعرفة لن يجده في الكتاب الذي يقرأه، بل في العلائق التي يرسمها بنفسه بين التعبيرات المختلفة عن الموضوع، أي المحاولات الإنسانية العديدة لقول الشيء ذاته، ربما، ولكن بطرق إنسانية وإبداعية مختلفة ومبتكرة، عندئذٍ تصير قراءة العمل عائقاً لفهمه في مقابل عدم قراءته.

يُذكرنا ذلك بما تحدث عنه عبد السلام بنعبد العالي في كتابه “انتعاشة اللغة”، وذلك في مناقشته فعل الترجمة والأصل على أنها محاولات إنسانية على مستوى واحد، تحاول قول الشيء ذاته بطرق إبداعية مختلفة، وتنطوي كلٌ منها على القيمة ذاتها من حيث كونها التعبير الإبداعي والمبتكر عما يدور في خلد المرء حول الموضوع ذاته. وهذا ما يختتم به الكاتب كتابه، أي أن الغاية النهائية هي وصول المرء إلى القدرة الإبداعية لديه بوساطة الكتب، لا عبر قراءتها، بل عبر تعلم عدم قراءتها والوقوف على موقعها بدلاً من ذلك، هناك ضرورة يراها الكاتب في عدم الانغماس في العمل الفني وضرورة الانفصال عنه وتجاوزه ليتمكن من التعبير عنا:

“ليس الكذب بشأن النص هو الذي يجب أن نخشاه بل الكذب بشأن أنفسنا”.

أي أن غاية القراءة الاقتراب من الذات والحديث عنها وتطوير ملكة تعبيرية تمكِّننا من الكتابة بدورنا، ولو بمعنى مجازي.

 

شارك الصفحة

أهمية اللاقراءة: مراجعة لكتاب كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟ قراءة المزيد »