Author name: nadiim

متع وآلام: مراجعة لكتاب أمة الدوبامين

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

“أمة الدوبامين” هو كتاب من تأليف الدكتورة “آنا ليمبكي” (Anna Lembke)، أستاذة الطب النفسي ومديرة برنامج طب الإدمان في جامعة ستانفورد. صدر الكتاب في عام 2021، وترجمته الى العربية علياء العمري وهو من اصدارت دار مدارك ويقع الكتاب في قرابة 300 صفحة. يهدف إلى تسليط الضوء على التأثيرات النفسية والاجتماعية للكميات الهائلة من التحفيز التي نعيشها في العصر الحديث، وكيف أن هذه التحفيزات تحركها آليات بيولوجية مثل الدوبامين، وهو ناقل عصبي يرتبط بشكل مباشر بمشاعر المتعة والمكافأة.

المقدمة: عصر الإفراط والإدمان

تبدأ ليمبكي بتقديم فكرة أن العصر الحالي هو عصر الإفراط، حيث يتوفر الكثير من المحفزات والمتع بسهولة غير مسبوقة. في هذا السياق، أصبح الإدمان بأنواعه المختلفة (سواء كان إدمان المخدرات، الطعام، الإنترنت، أو غيرها) مشكلة شائعة في المجتمع. تشير إلى أن هذا الإدمان ليس نتيجة للضعف الشخصي، بل هو نتيجة مباشرة للكيفية التي يعمل بها الدماغ، خصوصًا فيما يتعلق بنظام الدوبامين.

مفهوم الدوبامين وأثره في حياتنا

الدوبامين هو المادة الكيميائية التي تجعلنا نشعر بالمتعة والمكافأة. في الماضي، كانت هذه المادة ترتفع عندما نحقق شيئًا نحتاجه للبقاء، مثل العثور على طعام أو تجنب خطر ما. ولكن في العصر الحديث، نحن غارقون في كميات غير محدودة من المحفزات، مما يجعل نظام الدوبامين في دماغنا غير متوازن. تتحدث ليمبكي عن كيفية تحول هذا النظام إلى مصدر للمشاكل النفسية والإدمانات الحديثة.

فهم نظام الدوبامين

في الفصول الأولى، شرحت الكاتبة الآلية التي يعمل بها نظام الدوبامين في الدماغ. توضح أن الدوبامين هو المسؤول عن تهيئة الدماغ للسعي وراء المكافأة، وعندما نحصل على ما نريد، نختبر لحظة من المتعة أو السعادة. ولكن المشكلة تكمن في أن كل مرة نحصل فيها على هذه المكافأة، يصبح من الصعب على الدماغ أن يستجيب بنفس الطريقة في المرة القادمة، مما يدفعنا إلى البحث عن مستويات أعلى من التحفيز لتحقيق نفس الإحساس.

يُبرز الكتاب أن نظام الدوبامين في الدماغ يعمل وفق قاعدة التوازن بين المتعة والألم، حيث يشير إلى أن كل لحظة من المتعة المفرطة تؤدي إلى لحظة من الألم في المقابل. فعندما نفرط في الاستمتاع بشيء ما، يقوم الدماغ بالاستجابة عن طريق تقليل حساسيته لهذا الشيء، مما يتركنا في حالة من عدم الرضا أو الفراغ.

الانتقال من المتعة إلى الألم

تتناول ليمبكي بشكل مفصل كيف أن الإفراط في التعرض لمصادر المتعة (مثل الطعام اللذيذ، الألعاب الإلكترونية، وسائل التواصل الاجتماعي، المخدرات، أو غيرها) يمكن أن يؤدي إلى تحول تدريجي من المتعة إلى الألم. هذا التحول ناتج عن محاولة الدماغ للحفاظ على التوازن بين المتعة والألم. فكلما تعرضنا لمصادر المتعة بشكل مستمر، يقل استمتاعنا بها، ويبدأ الدماغ في البحث عن مستويات أعلى من التحفيز ليشعر بالمتعة مرة أخرى. يؤدي هذا في النهاية إلى حالة من الإدمان، حيث يصبح الفرد عالقًا في دائرة البحث عن المتعة دون الوصول إلى إشباع حقيقي.

تستعرض ايضا العلاقة المتشابكة بين المتعة والألم، حيث توضح أن زيادة المتعة دون حدود يؤدي إلى تعزيز مستويات الألم عندما تقل مصادر المتعة. هذه الدائرة المفرغة بين المتعة والألم تجعلنا نغرق في البحث المستمر عن التحفيز اللحظي، سواء من خلال استخدام الهواتف الذكية أو الإدمان على المخدرات أو غيرها من السلوكيات القهرية.

وتوضح الكاتبة من خلال أمثلة سريرية كيف يتحول الأفراد من استخدام شيء ما لتحقيق المتعة إلى استخدامه فقط لتجنب الألم الذي ينتج عن غيابه. هذا ما يحدث بشكل خاص في حالات الإدمان على المواد المخدرة، حيث يبدأ الشخص في تعاطي المخدر ليس للشعور بالنشوة، ولكن لتجنب أعراض الانسحاب المؤلمة.

الإدمان الحديث: التكنولوجيا والأطعمة والترفيه

تناقش ليمبكي في فصول لاحقة أشكال الإدمان الحديثة التي أصبحت أكثر انتشارًا في العصر الرقمي. تشير إلى أن التكنولوجيا الحديثة، وخاصة الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت واحدة من أكبر مصادر التحفيز المتواصل لنظام الدوبامين. في كل مرة ننظر فيها إلى الهاتف أو نحصل على إعجاب أو تعليق على منشور ما، يتم إفراز دفعة من الدوبامين في الدماغ، مما يجعلنا نرغب في المزيد. مع الوقت، يصبح هذا التحفيز المستمر مشكلة، حيث يفقد الدماغ القدرة على الاستمتاع بالأشياء البسيطة ويصبح معتمدًا على التحفيز المتزايد.

الأطعمة الغنية بالسكر والدهون هي أيضًا من بين مصادر الإدمان الحديثة التي تستغل نظام الدوبامين. تشير ليمبكي إلى أن الأطعمة السريعة المصنعة تم تصميمها لتحفيز إفراز الدوبامين بشكل قوي، مما يجعل الأفراد يتناولون كميات أكبر من اللازم بحثًا عن المتعة.

العواقب النفسية والاجتماعية

تتحدث ليمبكي عن العواقب النفسية والاجتماعية للإفراط في التعرض لمصادر التحفيز. واحدة من أبرز هذه العواقب هي حالة “عدم الرضا المزمن” أو “اللامبالاة”، حيث يشعر الأفراد أنهم غير قادرين على الاستمتاع بالأشياء التي كانت تجلب لهم السعادة في الماضي. تشرح ليمبكي أن السبب في ذلك هو أن الدماغ أصبح معتادًا على مستويات عالية من التحفيز، مما يجعله غير قادر على الاستجابة للمتعة البسيطة أو الطبيعية.

كما تشير إلى أن الإدمان لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل يمتد ليؤثر على المجتمع ككل. فقد أصبحت مجتمعاتنا أكثر توترًا وأقل قدرة على التعامل مع الملل أو الصعوبات الحياتية البسيطة، حيث أصبح الجميع معتادين على الحصول على المتعة الفورية من التكنولوجيا أو الأطعمة أو غيرها من المحفزات.

العلاج واستعادة التوازن

في الجزء الأخير من الكتاب، تركز ليمبكي على كيفية استعادة التوازن في حياتنا. تقدم توصيات عملية للتعامل مع الإفراط في التحفيز والإدمان. إحدى التوصيات الرئيسية هي “الصيام عن المتعة”، أي الامتناع عن المحفزات التي تسبب الإدمان لفترات زمنية محددة لإعادة ضبط نظام الدوبامين في الدماغ. تقترح أن أخذ استراحة من التكنولوجيا، الأطعمة المصنعة، أو المواد التي تسبب الإدمان يمكن أن يساعد في إعادة الدماغ إلى حالة من التوازن، مما يسمح للأفراد بالشعور بالمتعة من الأشياء البسيطة مرة أخرى.

تتحدث أيضًا عن أهمية إيجاد التوازن بين المتعة والألم. تشير إلى أن التعامل مع بعض الألم أو الإحباط في الحياة اليومية يمكن أن يساعد في تعزيز قدرتنا على الشعور بالمتعة بشكل أكثر طبيعية. بدلاً من البحث عن الإشباع الفوري، تشجع ليمبكي على تبني ممارسات مثل التأمل، الرياضة، والعلاقات الاجتماعية الصحية كطرق لإعادة تدريب الدماغ على الشعور بالرضا من دون الحاجة إلى التحفيز المستمر.

الخاتمة: نحو حياة متوازنة

في ختام الكتاب، تؤكد ليمبكي أن التحدي الأكبر في عصرنا هو إيجاد توازن بين المتعة والألم، فبينما نحن محاطون بفرص التحفيز المستمر والمتعة الفورية، علينا أن نتعلم كيف نقاوم هذه الإغراءات من أجل تحقيق حياة أكثر توازنًا. تقدم ليمبكي رؤية متفائلة بأن البشر قادرون على استعادة السيطرة على نظام الدوبامين الخاص بهم من خلال الوعي، الصبر، والممارسات التي تعزز الصحة النفسية والبدنية.

تؤكد أيضًا أن تحقيق هذا التوازن ليس مهمة سهلة، ولكنه ضروري لضمان رفاهيتنا النفسية والاجتماعية. فالاستمتاع بالحياة لا يأتي من الإغراق في المتعة، بل من القدرة على الاستمتاع بالأشياء البسيطة والحقيقية.

الخلاصة

“أمة الدوبامين” هو كتاب يدعو إلى التوقف والتفكير في كيفية تأثير الثقافة الحديثة للإفراط في المتعة على أدمغتنا وصحتنا النفسية. من خلال دمج قصص شخصية مع أبحاث علمية، وتقدم نظرة شاملة حول كيف أن نظام الدوبامين في الدماغ، الذي تم تصميمه لتحفيز البقاء، قد أصبح ضحية للإفراط في التحفيز الذي يوفره العالم الحديث. الكتاب دعوة للاستيقاظ نحو حياة أكثر توازنًا ووعيًا في مواجهة الإغراءات التي تواجهنا يوميًا.

شارك الصفحة

متع وآلام: مراجعة لكتاب أمة الدوبامين قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب: المجتمع المفتوح وأعداؤه

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

لفيلسوف العلم كارل بوبر كتاب مُهم بعنوان “المجتمع المفتوح وأعداؤه”، ويُقرأ بتأنٍ للوقوف على المواضيع التي ينقدها أو يدعمها لدى العديد من الفلاسفة، أبرزهم أفلاطون وماركس وهيجل وأرسطو، ففي الجزء الأول منه يبدأ الكاتب بنقد النظرة التاريخانية التي تقرأ التاريخ وتستكنه منه قواعده وقوانينه في محاولة لإخضاعه لعملية علمية يمكن التنبؤ بها، الأمر الذي حمله أفلاطون إلى أبعاد عديدة وخرج منه برؤى ومفاهيم ومشاريع سياسية غاية في الأهمية وجديرة بالنقد.

اعتمد أفلاطون منهج الجوهراتية لدراسة سوسيولوجيا المجتمعات، فكان السؤال السياسي الأهم في فكره: ما جوهر الدولة؟ ما هو السياسة؟ وما جوهر التغير السياسي؟ وتبعاً لنظريته في الأصول والمُثل والقوالب التي انبثق منها الوجود بأحيائه ومفاهيمه، فسَّر أفلاطون التغيرات السياسية و”الهندسة” الاجتماعية المتدرجة على أنها فساد يصيب الأصل المثالي ويعمد إلى الحط من قدره وشأنه، من المدينة الفاضلة أولاً، إلى التيموقراطية ثانياً (حكومة الثروات والمجد) إلى الأوليجاركية ثم الديموقراطية ثم الحكم الاستبدادي، إلا أن ملامح هذا الحكم الاستبدادي كانت أكثر وضوحاً في مدينته الفاضلة، والتي تكرس النظام الطبقي وترفض علائم التغيير السياسي.

ولما عرفنا أن الأخلاق تُعزى تارة إلى الوقائع الطبيعية، وتارة إلى القوانين الوضعية، وتارة إلى التعاليم الروحية والنفسية، أدركنا أن نوع النظام الأخلاقي الذي ابتغاه أفلاطون لمدينته منبثق من عالم المُثل والفضائل في ذهنه، والذي يحمل الخير الأسمى للفرد والمجتمع ككُل، على أن الحاكم وحده هو من يقرر ملامح هذا الخير ويفرضه بدوره على مملكته أو مدينته، وفي هذا الصدد، يرفض أفلاطون الوجود البشري المنفرد في مدينته ولا يرى أهمية للفرد دون جماعته ودولته، خاصة بعد تكريسه النظام الطبقي الذي يبقي على العبيد في طبقتهم، منتهياً إلى ثنائية فلسفية بين الكُل الخير والمتعدد الفاسد والمتحلل.

كما يُقر أفلاطون السيادة العامة في مدينته الفاضلة دون إيلاء الاهتمام للرقابة المؤسساتية على الحاكم أو خلق التوازن المؤسساتي بين السلطات الحاكمة، عازياً رفاهية الدولة إلى ثقافة الأفراد لا الدور الحكومي المنوط بالدولة، أما سقراط فعرضه أفلاطون – دون وجه حق – ممثلاً عن النزعة السيادية والشمولية الأفلاطونية، كما آمن أفلاطون بوجوب رقابة المدينة (أو الدولة) على التعليم الذي يهدف إلى استبقاء (تصفية) جند الدولة الأقوياء وإقصاء البقية بالعوامل البيولوجية أو بممارسة التمييز ضدهم فيختفوا من الوجود السياسي أو الفاعل في المدينة.

أما الحاكم الفيلسوف لمدينته الفاضلة، فكان بمعنى المتغطرس المالك للفلسفة دون ممارستها، فقد شرع له أفلاطون الوسائل جميعاً، حتى غير الشريفة منها، لتحقيق غاياته، ما يعني أن أفلاطون تقدم بمشروع سياسي شمولي رأى في نفسه الحق في ترأسه يوماً ما، الأمر الذي يتنافى تماماً مع رؤى سقراط وفلسفته في النقد الذاتي المستمر والابتعاد عن القوة المؤذية للمتفلسف:

“ولسوف تؤدي بنا النزعة الجمالية والنزعة الراديكالية إلى أن ننبُذ العقل، وأن نُحل محله أملاً يائساً في معجزات سياسية. وهذا الاتجاه اللاعقلاني الذي ينبثق من الافتتان بأحلام عالم جميل هو ما أسميه النزعة الرومانتيكية. فهي قد تبحث عن مدينتها السماوية في الماضي أو في المستقبل، وهي قد تبشر بـ”العودة إلى الطبيعة” أو بـ”التقدم نحو عالم من الحُب والجمال”؛ بيد أن جاذبيتها تكون موجهة دائماً إلى عواطفنا أكثر من عقلنا. بل إن أفضل النوايا لإقامة الجنة على الأرض إنما تنجح فقط في جعلها جحيماً – ذلك الجحيم الذي يجهزه الإنسان فقط لأخيه الإنسان”.

وكانت طريقة أفلاطون في خلق المدينة الفاضلة معتمدة على الجنوح إليها بكافة الوسائل الممكنة، الأمر الذي يتنافى وطبيعة التغيرات الاجتماعية المطلوبة، كما أن الاتجاه إلى المدينة الفاضلة لم يورث من قبل سوى خلق الجحيم تلو الجحيم على الأرض بغية خلق الجنان، بينما أثبتت الهندسة الاجتماعية المتدرجة قدرتها على تحسين الأوضاع الإنسانية باستمرار، ومع ذلك، كانت الطريقة التي يراها أفلاطون أكثر جدارة للوصول إلى مدينته الفاضلة هي “الاقتلاع” والبدء من جديد.

وفي نظر الكاتب، فقد أعاد أفلاطون تأويل فلسفة سقراط وخان تعاليمه وعمد إلى ليِّها لتتوافق ورؤاه وفلسفته الشمولية، ولكنَّ القارئ الدقيق في فلسفتيهما يدرك الفرق الكبير بين تعاليم سقراط ورؤى أفلاطون، خاصة بعد أن أفنى سقراط حياته (حرفياً) لنقد الديموقراطية بغية تحقيق الصورة الأجدر بها في المجتمع الأثيني، أما أفلاطون فتاق دائماً إلى إعادة صورة النظام القبلي ولكن ضمن شروطه ورؤاه الخاصة، وفي هذا، ينتقد كارل بوبر شمولية أفلاطون، وماركس في بعض الفقرات، ويرفض المجتمع المغلق الذي تمثله، ويتجه إلى المجتمع المفتوح الذي يجد فيه الفرد حريته واستقلاليته ونظام حكم ديموقراطي يحترمه ولا يمارس الوصاية عليه.

وفي الجزء الثاني من الكتاب، يناقش الكاتب التلاقح الفكري الذي جمع بين أفلاطون وأرسطو وهيجل وماركس، وذلك في الإيمان بجوهر الشيء و”حقيقته” الثابتة، و”جوهر” التاريخ الذي يتجه إليه دائماً ويحتكم إليه، فقد آمن هيجل وفيشتر وشيلينج بالحكم الشمولي والمجتمع المغلق، وبالدولة “واضعة الأخلاق” التي تتقدم تاريخياً وتبرز بصرف النظر عن المكاسب الأخلاقية العائدة عليها أو على أمتها، الأمر الذي سخر منه شوبنهاور ورفضه تماماً، وانتقده الكاتب إلى جانب كانط.

أما ماركس فآمن بحتمية التاريخ وقوانينه المادية ونادى بضرورة تغييره، وقال بأن المجتمع يخلق الفرد ووعيه ومنطلقاته، وبضرورة اعتماد السوسيولوجيا على المحيط والبيئة لا أن يتغلغل فيها التفسير السيكولوجي تماماً، كما آمن ماركس بالنزعة الاقتصادية في نفس المرء مقابل النزعة السيكولوجية لدى ستيوارت مِل والنزعة الروحية لدى هيجل، وبحتمية الصراع الطبقي الذي يخلق الدول والمجتمعات في كل مرة، الأمر الذي عدَّه الكاتب مجرد وصف لبعض مظاهر التاريخ ولا يرقى لأن يكون قانوناً تاريخياً، بل إن الكاتب يشك في وجود أي قانون تاريخية حتمي لاتساع منظوره في صيرورة التاريخ، والعوامل التي تغيره وتبدله في كل مرة، وفي رأيه فإن السؤال الذي انشغل به الفلاسفة الحتميون (المناصرين للمجتمع المغلق) كان “من ينبغي أن يكون الحاكم؟”، في حين أن السؤال الأهم الواجب طرحه “كيف يُروض الحاكم؟”.

رأى ماركس أن تحليل منهج الإنتاج الرأسمالي من شأنه أن يخلق ثورة عمالية تفضي إلى إلغاء الطبقية، الأمر الذي يجده الكاتب ضعيف المنطق والأدلة ومجرد نبوءة كان ليتحقق جزء منها تبعاً لظروف تاريخية خاصة ويفشل جزء آخر للسبب ذاته، وهذا ما حصل، لذلك، يعارض الكاتب اتجاه الفلاسفة إلى وضع النبوءات بدلاً من الانشغال في الهندسة التدريجية للمجتمعات ومؤسساتها الحكومية لتتجه نحو الإصلاح، خاصة وأن الحتميون – كماركس – رفضوا إمكانية الإصلاح في وجود الرأسمالية، واتجهوا دائماً إلى أن الحل الأمثل فرض وجهة نظر جوهرية شمولية واحدة يترأسها حاكم واحد يوجه بوصلة البلاد “إلى ما فيه خيرها”.

ثم يناقش الكاتب سوسيولوجيا المعرفة وتأثر الفكر العلمي بالتحيزات المسبقة لدى العلماء، الأمر الذي غالى فيه هيجل وكانط ورآه الكاتب ممكن تجاوزه، خاصة بعد أن ثبت المنهج العلمي ذلك، ثم يتحدث عن عقلانية سقراط النقدية والحقيقية التي تتضمن نقد الذات أولاً والإصغاء للغير واحتواء وجهات نظرهم ضمن رؤية متكاملة، مقابل العقلانية غير النقدية والزائفة لدى الجوهريون كأفلاطون وهيجل، ويرى بأن العقلانية النقدية مطابقة للإنسانية ومبادئها وتتجه بالمرء دائماً إلى ما فيه صلاحه، بينما لم تكرس النظريات الحتمية والشمولية سوى تبرير الإجرام والمآسي لتحقيق “الخير الأسمى للشعوب”.

وفي النهاية، يؤكد الكاتب أن انتقاده للنظريات لا يعني إقصاءها من الفكر العالمي أو تهميشها أو إلغاءها، بل يُصر على وجودها فيه ودورها الهام في تفسير بعض الجوانب، إلا أن ما يعارضه ادعاء أي نظرية امتلاكها الصورة الكاملة والشاملة للتاريخ الإنسانية وللوجهة التي ينبغي على الشعوب والأمم الاتجاه إليها، ويقول بأن على منظورنا الفكري احتواء النظريات جميعاً والاستفادة منها لتفسير الحال وحل مشاكله، خاصة عندما يكون التاريخ الوحيد الذي نعرفه، وللأسف، هو تاريخ السلطة السياسية، وبافتقاره الشديد إلى المعنى، وجب علينا خلق غايته ومعناه بأنفسنا، بما يضمن لنا صورة متحيزة لخيرنا قبل أي شيء آخر:

فبدلاً من التنكر في زي الأنبياء، لا بد أن نكون صنَّاع مصيرنا، لا بد أن نتعلم عمل الأشياء، وأن بمقدورنا عملها، وأن نكون مسؤولين عن أخطائنا، ثم حين نسقط فكرة أن تاريخ السلطة سيكون هو قاضينا، وحين نتخلى عن القلق بشأن ما إذا كان التاريخ سيقدِّم لنا تبريراً أم لا، فعندئذٍ قد ننجح ذات يوم في السيطرة على السلطة وضبطها. وبهذه الطريقة نُبرر التاريخ، فهو في حاجة ماسة إلى التبرير”

الكتاب دسمٌ ومُهم ومليء بوجهات النظر اللافتة، وأراه ضرورياً لتعليم القارئ أولاً آداب النقد الفلسفي والأدبي، وشروط خلق المعرفة ثانياً، وثالثاً، وهو الأهم، معرفة الوجهة الحقيقية لبوصلتنا الإنسانية.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب: المجتمع المفتوح وأعداؤه قراءة المزيد »

وهم المعرفة

Picture of كتابة: لاب مهراج
كتابة: لاب مهراج

ترجمة: يارا عمار

pexels-jonathanborba-13061418

لقد جعل عصر المعلومات قدرًا هائلًا من المعارف في متناول أيدينا، فالإنترنت -بمجرد بحث يسير على جوجل أو الموسوعاتالإلكترونية- يعطينا إجابات فورية لأي سؤال قد يطرأ على أذهاننا. ومع ذلك، فهذه الوفرة في المعلومات قد تخلق وهمًا بالمعرفة، وهو ما يشكّل خطرًا إن تُرك دون رادع.

ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الفرد أنه يفهم موضوعًا ما فهمًا عميقًا بسبب توفر المعلومات عنه وسهولة الوصول لها. هذه الظاهرة تدفع الناس إلى المبالغة في تقدير خبرتهم، وتؤدي إلى اتخاذ القرارات بناءً على افتراضات خاطئة. تتفاقم هذه المشكلة بسبب خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز القناعات دون التحقق من دقتها أو صحتها.

ما هي المعرفة؟

نحن البشر نسعى باستمرار لتحصيل المعرفة، فنقضي ساعات لا تحصى في قراءة الكتب والبحث على شبكة الإنترنت وحضور المحاضرات من أجل توسيع فهمنا للعالم المحيط بنا. لكن ما هي المعرفة بالضبط؟ يعرّفها أكثر الناس بأنها مجموعة الحقائق والمعلومات التي يحصلها المرء من خلال التعليم الذي يتلقاه أو التجارب التي يخوضها. إلا أن هذا تعريف سطحي ولا يكشف عن المعنى الحقيقي للمعرفة.

المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة، بل هي فهم كيفية ارتباط هذه المعلومات بعضها ببعض لتشكيل صورة أكبر وأشمل. الأمر يدور حول القدرة على استخدام تلك المعرفة في المواقف الحياتية لحل المشكلات واتخاذ قرارات مستنيرة. ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الشخص أنه على فهم تام بموضوع ما استنادًا إلى معلومات محدودة أو وجهات نظر متحيزة.

لكن هذا التعريف بمفرده لا يستوعب كل ما تنطوي عليه المعرفة من تعقيدات. فالمعرفة تشمل أيضًا قدرة الفرد على حُسن تطبيق المعلومات المكتسبة في مختلف السياقات والمواقف، كما تتطلب غالبًا امتلاك مهارات التفكير النقدي من أجل تحليل المعلومات الجديدة وتقييمها في ضوء المعتقدات أو التصورات القائمة.

وعلى الرغم من هذه الفوارق الدقيقة في طبيعة المعرفة، فإن الناس غالبًا يقعون في وهم أن لديهم فهمًا كاملًا لموضوع معين. تتضمن المعرفة الحقيقية مزيجًا من الفهم والتطبيق في المواقف العملية، ومن دون التكامل بين هذين المكونين، يظل فهمنا لأي موضوع معين غير مكتمل.

المعلومات والفهم

يكمن الفرق بين المعلومات والفهم في مستويات تفسير وتطبيق كل منهما. المعلومات مجموعةٌ من الحقائق التي يسهل الوصول لها عبر مصادر متعددة. أمّا الفهم فيتضمن مستوى أعمق من التحليل والتجميع حيث يفسر المرء المعنى الكامن وراء هذه الحقائق، كما يتطلب تطبيق هذا التفسير في السياقات ذات الصلة، وإلا فإنه على خطر الوقوع في فخ اكتساب المعرفة السطحية: جمع المعلومات دون تعلم شيء جديد أو نافع.

وهم الخبرة

لقد جعلت وفرة المعلومات كثيرًا من الناس يظنون أنفسهم خبراء في مجالات لا يعرفون عنها سوى القليل، مما يؤدي إلى الوقوع في وهم الخبرة.

أظهرت الأبحاث أنّ وهم المعرفة ينشأ غالبًا من ميل الأفراد إلى الاعتماد على الاستدلالات السريعة أو الاختصارات الذهنية لفهم المعلومات المعقدة. قد يكون هذا الأمر إشكاليًا على وجه الخصوص في مجالات مثل المالية أو الطب، حيث قد تترتب عواقب وخيمة على القرارات المتخذة بناءً على معلومات ناقصة أو غير دقيقة. كما تشير الأبحاث إلى أن الناس أكثر عرضة لوهم المعرفة عندما لا يتلقون ملاحظات على أدائهم، أو عندما يُمدحون على قدراتهم دون تبرير كاف.

من المهم أن يكون الناس على وعي بالمخاطر المرتبطة بوهم المعرفة، مع السعي لتحصين النفس ضدها. هذا يُعرف بتأثير وهم المعرفة أو تأثير دانينغ-كروجر، والذين يقعون في هذا الوهم غالبًا ما يتخذون قرارات سيئة بسبب افتراضاتهم الخاطئة وعدم إدراك حدود قدراتهم.

يتمثل خطر وهم المعرفة في أنه قد يؤدي إلى شعور زائف بالثقة، مما يفضي إلى ارتكاب أخطاء ذات عواقب وخيمة محتملة.

وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار المعرفة الزائفة

لقد سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي على الناس الوصول إلى المعلومات ومشاركتها مع الآخرين وخوض النقاشات التي ترسخ معتقداتهم. ومع ذلك، فهذه السهولة في الوصول للمعرفة يصحبها جانب سلبي خطير، وهو انتشار المعلومات الزائفة التي تؤدي إلى وهم المعرفة.

صُممت وسائل التواصل الاجتماعي في الأساس لإنشاء روابط بين الناس وتشجيع بناء المجتمعات، لكنها مع ذلك قد تُستخدم كأداة لنشر المعلومات المضللة والدعاية. خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعطي الأولوية للمحتوى بناءً على عدد الإعجابات والمشاركات عوضًا عن الدقة أو المصداقية. وهذا يعني أن القصص الموضوعة قد تنتشر كالنار في الهشيم، بينما يتم إهمال المحتوى الواقعي لأنه لا يأتي بالتفاعل المطلوب.

متلازمة السلطة الزائفة

يُعرف وهم الخبرة أيضًا بمتلازمة السلطة الزائفة، وهي تشير إلى ميل الناس إلى افتراض أنهم يعلمون أكثر من معرفتهم الحقيقية. يظهر خطر هذه المتلازمة على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات وحل المشكلات.

تُعد تحيزاتنا المعرفية الفطرية أحد أسباب هذه المشكلة، فنحن نميل إلى المبالغة في تقدير قدراتنا ومعرفتنا بسبب الأنا البشرية والانحياز للمصلحة الذاتية. إضافة لذلك، غالبًا ما نفرط في الثقة بما نعلمه لأننا تعرضنا لمعلومات كثيرة حول موضوع معين، وإن كان كثير منها غير دقيق أو غير مكتمل.

إنّ وهم المعرفة مشكلة كبيرة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد في جميع المجالات. لا بد من معرفة ما لا نعلم وإدراك مواطن ضعفنا حتى نفهم الواقع بصورة أدق. يعد الاعتراف بجهلنا ولزوم التواضع الفكري هو المفتاح لفهم العالم من حولنا بطريقة أفضل، واستخدام الأدلة لحل المشكلات الكبرى. الأمر يتطلب ذهنًا متفتحًا ورغبة في التعلم وتأملًا ذاتيًا منتظمًا.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.
القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة.

وهم المعرفة قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب موت الخبرة

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

نُشر الكتاب للمؤلف الأمريكي توم نيكولز لأول مرة في عام 2017 باللغة الإنجليزية بعنوان The Death of Expertise، ترجمه إلى العربية الاستاذ عمر فايد ونشر في منشورات نادي الكتاب، ويقع الكتاب في قرابة 380 صفحة.

يناقش فيه ظاهرة متنامية في المجتمع الحديث تتعلق برفض الناس المتزايد للخبراء والمختصين. يُظهر نيكولز كيف أصبحت المجتمعات، ولا سيما في الولايات المتحدة، تميل إلى استبعاد المعرفة القائمة على العلم والخبرة، واستبدالها بآراء شخصية، بحث سريع على الإنترنت، أو معتقدات ذاتية غير مستندة إلى أسس علمية.

ويسلط الكتاب الضوء على مشكلة معاصرة تتمثل في تزايد تجاهل الخبرة المتخصصة في العصر الحديث. في هذا الكتاب، يطرح نيكولز أسئلة مهمة حول كيف أصبحت المعرفة المتخصصة موضع تشكيك، ولماذا باتت الآراء التي لا تستند إلى خبرة تُعامل كأنها مساوية للآراء العلمية والمبنية على حقائق.

المقدمة: رفض الخبرة

في المقدمة، يقدم نيكولز النقطة الرئيسية لكتابه وهي أن المجتمعات الحديثة تعاني من أزمة تتعلق برفض الخبرة. لم يعد الناس يعتمدون على آراء الخبراء في اتخاذ القرارات، سواء كانت هذه القرارات شخصية أو سياسية أو اجتماعية. يشير نيكولز إلى أن هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة بسيطة تتعلق بعدم الثقة بالخبراء، بل هي نتيجة لمجموعة من العوامل التي تجعل الجمهور يتجاهل أو حتى يحتقر آراء المتخصصين.

كما يشدد على أن هذا الاتجاه يشكل تهديدًا كبيرًا للديمقراطية، لأن اتخاذ قرارات سياسية واجتماعية فعالة يتطلب استنادها إلى الحقائق العلمية والمعرفة المستندة إلى الخبرة.

الفصل الأول: الخبرة والشخص العادي

في هذا الفصل، يناقش نيكولز العلاقة بين الخبراء والجمهور العام. يؤكد أن الخبراء هم أشخاص يمتلكون معرفة متخصصة في مجالات معينة من خلال التعليم، التدريب، والممارسة. بينما يحتاج الأشخاص العاديون إلى الاعتماد على هذه الخبرة للحصول على فهم شامل للقضايا المعقدة.

ومع ذلك، يشير إلى أن هذا الاعتماد على الخبراء بدأ ينهار في العقود الأخيرة، حيث يشعر الكثيرون أنهم يمتلكون المعرفة الكافية لاتخاذ قرارات مستنيرة دون الحاجة إلى الاستعانة بالخبراء. هذا الاتجاه تعزز بشكل كبير بفعل توفر المعلومات عبر الإنترنت، حيث يمكن لأي شخص الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات، مما يمنحه شعورًا وهميًا بالمعرفة.

الفصل الثاني: الإنترنت وسوء الفهم الجماعي

يستعرض في هذا الفصل كيف ساهم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم ظاهرة رفض الخبرة. الإنترنت، بحسب نيكولز، يتيح للجميع إمكانية الوصول إلى المعلومات، لكنه لا يوفر سياقًا أو قدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة. يميل الناس إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الشخصية بدلاً من الاستماع إلى آراء الخبراء.

أدى ذلك إلى انتشار “التفكير الجماعي” أو “التضليل الجماعي”، حيث يتشارك الأفراد معلومات خاطئة مع بعضهم البعض، مما يؤدي إلى تعزيز الأفكار غير المستنيرة بدلاً من تصحيحها. يشير نيكولز إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت بيئة خصبة لنشر الأكاذيب ونظريات المؤامرة، وهذا يعزز مناخ رفض الخبرة والاعتماد على المعلومات الشخصية غير الدقيقة.

الفصل الثالث: التعليم العالي والطلاب

يناقش نيكولز في هذا الفصل دور التعليم العالي في ظاهرة “موت الخبرة”. يرى أن الجامعات، التي كانت في السابق معاقل للمعرفة والنقاش العلمي، أصبحت في كثير من الأحيان تساهم في هذه المشكلة. يشير إلى أن التعليم في كثير من الأحيان أصبح مُركزًا على “إرضاء” الطلاب بدلاً من تحديهم فكريًا وتعليمهم كيفية التفكير النقدي.

يتحدث نيكولز عن مشكلة “الطلاب الزبائن”، حيث يتعامل الطلاب مع التعليم كسلعة يشترونها، ويتوقعون الحصول على درجات جيدة بناءً على دفعهم للرسوم الدراسية وليس بناءً على الجهد أو الفهم الحقيقي للموضوعات. هذه الثقافة تعزز الفكرة القائلة بأن كل شخص لديه حق متساوٍ في آرائه، حتى إذا كانت تلك الآراء غير مدروسة أو تستند إلى معرفة سطحية.

الفصل الرابع: وسائل الإعلام ودورها في موت الخبرة

وسائل الإعلام تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز رفض الخبرة. في هذا الفصل، يناقش نيكولز كيف أن وسائل الإعلام الحديثة، وخاصة الإعلام الرقمي، تركز على تسطيح المعلومات وتقديم الأخبار بأسلوب بسيط وسريع يتناسب مع “الزبائن”. يعتمد الإعلام بشكل كبير على العناوين المثيرة والمحتوى الذي يجذب القراء أكثر من الاعتماد على التقارير المستندة إلى تحقيقات دقيقة وتحليل مستند إلى خبرة.

يشير نيكولز أيضًا إلى أن الإعلام التقليدي فقد الكثير من مصداقيته أمام وسائل الإعلام البديلة مثل المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي. هذه الوسائل، التي لا تلتزم بمعايير الإعلام المهني، أصبحت بديلًا للكثيرين ممن يرون أن وسائل الإعلام التقليدية تتآمر مع “النخبة” لتوجيه الجمهور.

الفصل الخامس: دور السياسة في تجاهل الخبرة

ينتقل نيكولز في هذا الفصل إلى السياسة، حيث يشير إلى أن تراجع ثقة الجمهور بالخبراء ينعكس بشكل مباشر على السياسة وصناعة القرار. السياسيون غالبًا ما يستغلون هذه الظاهرة، حيث يتجنبون الاعتماد على آراء الخبراء لتقديم سياسات شعبوية تتناسب مع رغبات الجمهور، حتى لو كانت هذه السياسات غير مستدامة أو مستندة إلى معلومات خاطئة.

السياسة، كما يوضح نيكولز، أصبحت مجالًا يعتمد بشكل كبير على العواطف والشعارات الجذابة بدلاً من الحقائق والأدلة العلمية. السياسيون الذين يعارضون أو يتجاهلون آراء الخبراء يمكنهم استغلال مشاعر الإحباط والارتياب لدى الجمهور لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل، ولكن هذا يأتي على حساب جودة القرارات السياسية وصحة المؤسسات الديمقراطية.

الفصل السادس: الجمهور ضد الخبراء

في هذا الفصل، يتحدث نيكولز عن الدوافع النفسية والاجتماعية وراء رفض الناس للخبراء. يشير إلى أن الناس يميلون بشكل طبيعي إلى تفضيل آرائهم الشخصية على آراء الآخرين، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي يشعرون أنها تؤثر بشكل مباشر على حياتهم. هذا الميل الطبيعي تعزز بفعل التكنولوجيا الحديثة التي تمنح الناس إحساسًا زائفًا بالمعرفة.

يشير نيكولز أيضًا إلى أن الخبراء غالبًا ما يُعتبرون “نخبة” أو “متعالين” من قبل الناس العاديين، مما يخلق فجوة كبيرة بين الجمهور والخبراء. هذه الفجوة تتسع بفعل اللغة التقنية التي يستخدمها الخبراء، والتي قد تكون صعبة الفهم على الأشخاص العاديين، مما يعزز الشعور بأن الخبراء “منفصلون” عن الواقع اليومي للناس.

الفصل السابع: التحديات التي تواجه الخبرة في المستقبل

يختتم نيكولز كتابه بتحليل العواقب طويلة الأمد لموت الخبرة. يرى أن استمرار هذا الاتجاه يشكل تهديدًا كبيرًا للمجتمعات الديمقراطية، لأن الديمقراطية تتطلب من الناس أن يكونوا مستنيرين وقادرين على اتخاذ قرارات مستندة إلى الحقائق والمعرفة. إذا استمرت المجتمعات في تجاهل الخبرة، فقد يؤدي ذلك إلى تفكك الحوار الديمقراطي وظهور سياسات شعبوية غير مستدامة.

يشير نيكولز إلى أن الحل يكمن في تعزيز الثقة بين الجمهور والخبراء، وهو ما يتطلب جهودًا من الطرفين. على الخبراء أن يكونوا أكثر وضوحًا وتواصلًا مع الجمهور، وأن يتجنبوا التعالي أو الانعزال في أبراجهم الأكاديمية. في المقابل، يجب على الجمهور أن يدرك أهمية الخبرة في صنع القرارات المعقدة التي تؤثر على حياتهم ومستقبلهم.

الخاتمة: إعادة إحياء احترام الخبرة

في الخاتمة، يدعو نيكولز إلى إحياء احترام الخبرة في المجتمع. يشدد على أن الخبرة ليست أمرًا يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه في عصر المعرفة. رغم أن التكنولوجيا جعلت المعلومات أكثر توافرًا، فإن الخبرة تظل ضرورية لفهم تلك المعلومات وتفسيرها بشكل صحيح. يدعو إلى تبني نهج تعليمي وإعلامي جديد يعيد الاعتبار لأهمية المعرفة العميقة والتفكير النقدي في مواجهة التدفق الهائل للمعلومات السطحية والمضللة.

الخلاصة

توم نيكولز يقدم في هذا الكتاب نقدًا ذكيًا ومؤثرًا للتوجه المتزايد نحو التشكيك في الخبرة والعلم، وهو موضوع ذو صلة كبيرة في عصرنا الحالي، حيث تنتشر المعلومات بشكل فوضوي عبر الإنترنت. يتيح الكتاب للقراء فرصة للتفكير بعمق حول كيفية تعاملهم مع المعرفة والآراء، ومدى اعتمادهم على مصادر غير موثوقة بدلًا من البحث عن المعلومات من الخبراء.

“موت الخبرة” هو كتاب قوي يدق ناقوس الخطر بشأن التحولات التي يشهدها المجتمع الحديث في علاقته بالمعرفة والخبرة. يرى توم نيكولز أن تراجع الثقة بالخبراء يشكل تهديدًا كبيرًا للديمقراطية والنقاش العام، ويقدم تحليلًا دقيقًا للأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، بدءًا من تأثير الإنترنت والتعليم العالي وصولًا إلى السياسة ووسائل الإعلام.

ويخلص إلى أن استعادة الثقة في الخبرة تتطلب جهدًا جماعيًا من الخبراء والجمهور على حد سواء، مع التركيز على أهمية المعرفة المستنيرة في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب موت الخبرة قراءة المزيد »

فن القراءة البطيئة

Picture of كتابة: دان إريكسون
كتابة: دان إريكسون

ترجمة: يارا عمار

pexels-kayvanibrahim-6399567

في هذا العصر الرقمي، ومع توفر المعلومات في متناول أيدينا باستمرار، اكتسب كثير منا بلا وعي عادةَ تصفح النصوص بسرعة بحثًا عن الإشباع الفوري والإجابات السريعة. لقد عوّدتنا الوفرة الهائلة في المحتوى على الإنترنت على الانتقال بسرعة من معلومة إلى أخرى دون أن نهضم ما قرأناه غالبًا. وفي خضم دوامة الاستهلاك السريع للمحتوى، تبرز حركة مضادة لهذا الاتجاه: فن القراءة البطيئة.

هذا النهج يشجع القراء على التمهّل في القراءة، من أجل تذوق كل كلمة وفهم المادة المقروءة فهمًا حقيقيًا، كما تتذوق كل لقمة من وجبة شهية.

نشأة القراءة البطيئة – ما هي القراءة البطيئة؟

كانت القراءة في الماضي رفاهيةً، فقد كانت المخطوطات نادرة وثمينة في الحضارات القديمة، وكانت القراءة نشاطًا متأنيًا وغالبًا ما يمارَس جماعيًا. ثم مع توفر الكتب، خاصة بعد اختراع الآلة الطابعة، أخذت الممارسات القرائية في التطور.

إلا أنّ حلول العصر الرقمي، مع الهواتف الذكية وأجهزة القراءة الإلكترونية والسيل المتدفق للمحتوى على الإنترنت، قد غيّر عاداتنا القرائية تغييرًا جذريًا. مما لا شك فيه أن التكنولوجيا -بإشعاراتها وروابطها كثيرة التشعّب ومشتتات الوسائط المتعددة- أثرت على سرعتنا في القراءة وعمق فهمنا للنصوص. فرغم أنها يسّرت الوصول للمعلومات التي نحتاجها، إلا أنها عززت أيضًا ثقافة التفاعل السطحي مع النصوص.

فوائد القراءة البطيئة

للقراءة البطيئة عدد من الفوائد المتنوعة التي تتجاوز مجرد فهم النص، فهي أولًا: تعزز استيعاب المعلومات وحفظها إلى حد كبير، فقضاء وقت في التفكير مليًا في كل جملة يعيننا على استيعاب الفروق الدقيقة وتعقيدات النص، مما يزيد تجربتنا القرائية ثراءً.

كما أن القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة، فالانغماس في النص، سواء كان رواية أو قصيدة أو حتى عملًا غير روائي، يساعد على التفاعل العميق مع مشاعر الكاتب ومقاصده ورسائله الخفية. الأمر أشبه بإجراء محادثة عميقة مع صديق حيث تكون حاضرًا مشاركًا بكل حواسك ومستمعًا بانتباه، مقابل الدردشة السريعة المليئة بالمشتتات.

أخيرًا، تُعد القراءة البطيئة شكلًا من أشكال اليقظة الذهنية في ظل عصرنا سريع الخطى والمليء بالمحفزات المستمرة. إنها نشاط تأملي يتطلب التركيز والحضور الذهني، مما يساعدنا على التخفيف من الضغط النفسي وعيش اللحظة التي نحن فيها. وكما أن ممارسة اليقظة الذهنية في أنشطتنا اليومية أمر مرغوب، فكذلك يحسُن ممارستها أثناء القراءة حيث ستكون مصدرًا للاسترخاء وتجديد الطاقة الذهنية.

أساليب تنمية عادة القراءة البطيئة

إنّ دمج القراءة البطيئة في حياتنا اليومية يتطلب جهدًا متعمدًا، لا سيما ونحن مُحاطون بثقافة تعطي الأولوية للسرعة على العمق. فيما يلي بضع طرق تعين على تنمية عادة القراءة البطيئة:

  • تحديد وقت مخصص للقراءة: كما أننا قد نحدد وقتًا لممارسة الرياضة أو التأمل، كذلك من المفيد أن نقتطع أوقاتًا ونخصصها للقراءة، ربما نصف ساعة هادئة في الصباح مع كوب من القهوة أو في المساء قبل النوم، فوجود روتين محدد يجعل الأمر عادة.
  • تهيئة بيئة مواتية للقراءة: اختر مكانًا مريحًا خاليًا من المشتتات، سواء جانب مريح في غرفة المعيشة أو ركن مخصص للقراءة أو حتى حديقة محلية، المهم أن تختار مكانًا تستطيع فيه أن تنغمس في النص بعيدًا عن أصوات الإشعارات المستمرة أو غيرها من عوامل التشتيت.
  • استخدام الأدوات المساعدة لتحسين التفاعل: تفاعل مع النص بنشاط، بإضافة التعليقات التوضيحية أو تظليل المقاطع الرئيسية أو تدوين الأفكار على الهوامش أو في دفتر منفصل، فإنّ ذلك يعمّق فهمك للنص ويجعل تجربتك القرائية غنية ومفيدة. هذه الممارسات لا تفيد في حفظ المعلومات فحسب، بل تدفعنا أيضًا إلى التأمل في أهمية المادة المقروءة بالنسبة لنا.

دور الكتب الورقية في القراءة البطيئة

لأجهزة القراءة الإلكترونية والكتب الصوتية مزاياها في العصر الرقمي، إلا أن هناك شيئًا مميزًا في تجربة قراءة كتاب ورقي.

  • التجربة الحسية: إنّ حمل الكتاب والشعور بثقله وتقليب صفحاته يربطنا بالقراءة بطريقة ملموسة. هذا الاتصال المباشر يؤثر على وتيرة القراءة، مما يشجعنا على التمهّل والاستمتاع بكل صفحة.
  • رؤية التقدم: إنّ ملاحظة التقدم الذي نحرزه ونحن نقرأ كتابًا يبعث على الشعور بالارتياح النفسي، فمشاهدة الجانب الأمامي للكتاب يزداد سمكًا مع تقلص الجانب الخلفي بالتدريج يُشعر بالإنجاز وقد يدفعنا لمواصلة القراءة.

التخلص من السموم الرقمية: تقليل وقت الشاشة من أجل قراءة أفضل

في حين أن المنصات الرقمية تسهّل حياتنا، إلا أنها تطرح عددًا من التحديات خاصة فيما يتعلق بتجربة القراءة.

  • آثار إجهاد العين: قد يؤدي التعرّض المطوّل للشاشات إلى إجهاد العين والصداع وانخفاض معدل الاستيعاب. ولذلك فإن الإضاءة الخلفية للشاشات واعتياد التمرير بسرعة يمكن أن يعيق التجربة العميقة والتفاعلية التي تحققها القراءة البطيئة.
  • الموازنة بين قراءة الكتب الرقمية والورقية: من الضروري أن تحقق توازنًا يناسب ظروفك الشخصية. إن كنت تستمتع بالكتب الإلكترونية أو الصوتية، فخصص لها أوقاتًا محددة وأوقاتًا أخرى للكتب الورقية، واحرص على أخذ استراحات بانتظام إن كنت تقرأ رقميًا. يحسُن أيضًا أن تحاول منع استخدام الأجهزة الإلكترونية بضعة أيام، فلا تقرأ فيها إلا الكتب الورقية. هذا التوازن يخفف من إجهاد العين ويشجع على القراءة بتأنٍ وتركيز أكثر.

التفاعل مع النص: ما وراء القراءة

القراءة ليست مجرد عملية تلقّي حيث تتدفق الكلمات من الصفحة إلى أذهاننا، بل علينا أن نتفاعل مع النص حتى ننغمس فيه حقًا ونستخرج معانيه العميقة. إليك الطريقة:

  • إعادة القراءة للتعمق في المعاني: عندما أقرأ رواية لأول مرة فغالبًا ما أندمج في الحبكة متشوقًا لاكتشاف الأحداث التالية. لكن عندما أعود إليها مرة أخرى ألاحظ الفروق الدقيقة والرمزية وتعقيدات تطور الشخصية التي ربما لم أنتبه لها في القراءة الأولى. تمكّننا إعادة القراءة من الغوص في أعماق النص وتذوقه واكتشاف تفاصيل قد نغفلها في القراءة الأولى.
  • المناقشة في المجموعات القرائية أو أندية القراءة: يوجد شيء سحري في مناقشة كتاب مع القراء الآخرين، حيث يعرض كل واحد آراءه وتفسيراته وتجاربه الشخصية. غالبًا ما أجد فهمي للنص يتوسّع ويتعمق بعد النقاشات الحيوية في الأندية القرائية. هذا تذكير بأن الأدب تجربة مشتركة، وحوار بين المؤلف والنص والقارئ.
  • كتابة التأملات أو المراجعات: يعجبني تدوين أفكاري خاصة بعد إنهاء كتاب مؤثر، سواء في شكل تأملات شخصية، أو التفكير في الرابط بين النص وتجاربي الشخصية، أو في شكل مراجعة رسمية. إنّ الكتابة على ترسخ الفهم في أذهاننا، والتعبير عن أفكارنا وصياغتها تزيد المعاني وضوحًا.

القراءة البطيئة في التعليم

أحيانًا يُغفل عن قيمة القراءة البطيئة في بيئاتنا التعليمية سريعة الخطى، حيث يتعين على الطلاب التوفيق بين العديد من المهام والقراءات. لكن من المهم أن تكون القراءة البطيئة جزءً لا يتجزأ من المنهج الدراسي للأسباب التالية:

  • تدريس أساليب القراءة البطيئة في المدارس: عندما أرجع بتفكيري إلى أيام الدراسة أتذكر ضغط القراءة السريعة النصوص لاستخراج المعلومات الأساسية بسرعة. لكن ماذا لو علّمنا طلابنا فن القراءة البطيئة وشجعناهم على أخذ وقتهم في القراءة وتذوق كل كلمة والتأمل في المعاني العميقة للنص؟ هذا النهج يمكن أن يغرس فيهم الحب الصادق للقراءة، وينمّي الفهم العميق للمادة المقروءة.
  • تحسين التفكير النقدي والمهارات التحليلية: القراءة البطيئة لا تتعلق بالوتيرة فحسب، بل بعُمق فهم النص كذلك. تتطور المهارات التحليلية للطلاب عندما يغوصون في أعماق النصوص، فيستطيعون تمييز الموضوعات والدوافع وتطور الشخصيات. وهذا النوع من التحليل العميق يعزز التفكير النقدي، وهو مهارة ثمينة في الحياة، وليس في البيئات الأكاديمية فحسب.

التغلب على تحديات القراءة البطيئة

إننا في الوقت الراهن غارقون في تدفق مستمر من المعلومات والمقالات والكتب، ولذلك قد تبدو فكرة القراءة البطيئة غير منطقية. كيف نواكب كل ذلك إن كنا نستغرق وقتًا في كل نص؟ إليك طريقة التعامل مع هذه التحديات:

  • معالجة الخوف من فوات الفرص (قلق الفومو): أعترف بأنه كثيرًا ما تلح عليّ فكرة قراءة أحدث الكتب الأكثر مبيعًا، أو المقالة الرائجة، أو الكتاب الذي يتحدث عنه الجميع. لكن أدركت بمرور الوقت أن القراءة ليست سباقًا. لا بأس بأن يفوتك بعض المحتوى إن كان ذلك يعني أن تفهم وتتفاعل بصدق مع ما اخترت قراءته. تذكّر أنّ الجودة أهم من الكمية.
  • الانتقال من القراءة السريعة إلى القراءة البطيئة: قد يصعب عليك الانتقال إلى القراءة البطيئة إن كنت معتادًا على التصفح السريع للمقالات أو العجلة أثناء قراءة الكتب. أنصحك بأن تبدأ بدايةً يسيرة: خصص وقتًا محددًا كل يوم للقراءة بتأني، وإن كان عشر دقائق، ثم مدّد هذا الوقت تدريجيًا كما شعرت بالتعود على القراءة البطيئة. تذكّر أن العبرة ليست بعدد الصفحات التي تقلّبها، بل بعمق تفاعلك مع كل صفحة.

خاتمة

قد تبدو القراءة البطيئة رفاهية في عالمنا الرقمي السريع، لكنها في الواقع ضرورة لمَن يرغب في فهم النصوص التي يقرأها والتفاعل معها. أحثك يا عزيزي القارئ على خوض التجربة، حدد وقتًا واختر كتابًا وانهمك في صفحاته. استمتع بفن القراءة البطيئة واستكشف المتعة البالغة والفوائد الجمة التي ستعود على حياتك. تذكر أن التأني في القراءة -كما في الحياة- هو الأفضل أحيانًا.

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.
القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة.

فن القراءة البطيئة قراءة المزيد »

فضيلة الافتقار

Picture of د. محسن الشهري
د. محسن الشهري

دكتوراة البلاغة والنقد

pexels-despoina-apostolidou-136436784-16764893

دوما عزيزي القارئ لا تحكم على الفكرة من عنوان أو قوالب ذهنية مسبقة في فكرك فتكن أسيرا عندها، تحكم أو تقوّم الأفكار من خلالها، فالافتقار بمفهومه الشائع والمتداول فكرة مدعاة إلى الضجر والضيق، بل الهروب منها، إلا أننا عندما نتأمل ونفكر بالافتقار من حيث ملاصقته بالإنسان نلمس فيه فضائل متعددة، ومحركات إلى السعي والطلب، والأمور بنتائجها ولو كانت الوسائل شاقة.

فضيلة الافتقار ذاتية المرجع، وحتمية الوقوع، فالإنسان كائن افتقاري ولو كان غنيا -بالمفهوم الضيق للغنى- كونه يفتقر إلى الصواب، والحكمة، والعلم، والأخلاق، والتفكير، والفلسفة، يفتقر إلى الاستشعار والشعور، ألم يقل الفرزدق يوما: “لنزع ضرس أهون عندي من قول بيت شعر”، معبرًا عن فقد الشعور الذي يمده بالمعاني والألفاظ.

الإنسان يفتقر إلى الطعام والشراب، والغريزة، فنحن نفتقر في اليوم عشرات المرات، حتى الملل الذي يرافقنا هو افتقار لكنه افتقار لشيء غير معلوم. لكن السؤال: متى يكون الافتقار فضيلة؟

تدل كلمة الفقر في اللغة على فراغ نافذ في العمق وانفراج في الشيء، ومن هنا ينشأ معنى الافتقار إذ هو الفقر مضافا إلى الشعور على سد الفراغ والانفراج.

فالافتقار محرك أساس للشعور، والافتقار شغف، وهو اكتناز؛ بوصفه محفزا إلى الطلب والتزود، والطلب لا يكون إلا بطريقة أو سيلة، فيسعى إلى تحصيل الوسيلة، وهكذا يظل سائرا في الطريق رغبة في الوصول، يحركه افتقاره إلى بغيته، بخلاف الممتلئ الذي قد غره الوهم بالشبع والاكتفاء، ولذلك لا يكون الإنسان غنيا حتى يوقن أنه فقير، ويكون فقيرا إذا شعر أنه غني، وهذه هُويته، لذلك لا يُؤمل بتحقيق الأمنيات والمعالي إلا عند من يشعر بالافتقار؛ فيحركه ذلك الشعور إلى مكتنزات الأفكار ودقائق السبل الموصلة.

فضيلة الافتقار بوصلة ذهنية واعية تبصرك بنظرة نوعية بماذا تفتقر، وعن ماذا تستغني، إذ الافتقار البصير يغني صاحبه، والاستغناء بالمادي يفقر طالبه، فالدين افتقار روحي وعملي، والعلم افتقار معرفي، والتفكير افتقار إنساني، والكتابة افتقار حواري، والحرفة افتقار للفن، والقراءة افتقار تأملي، والدعاء افتقار كلي، وقل مثل ذلك في أي قيمة كانت عليا أو دنيا بأي شيء تفتقر، وقريب من ذلك قول ابن حزم: “وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم”. فالافتقار من مباهج النفس الحية التي تشعر وتدرك، والحكمة كما ذكرنا عن ماذا تفتقر، والمكسب الحقيقي كيف نوجه الافتقار إلى ما يزيدنا نضجا وحكمة.

إن الدروس في الحياة والعبر، واغتنام الحكمة تلزم من قبولها نفس مفتقرة شاعرة بافتقارها ونقصها، وما أحكم المعنى الذي قاله الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى                 فصادف قلباً خالياً فتمكّنا

إن من أخطر ما يهدد فضيلة الافتقار داء الامتلاء وهو داء يوهم النفس بغناها واستغنائها، وأكثر ما يتمركز هذا الداء في المال، حتى يصل الظن بالإنسان إلى أن المال سيخلده، أو أن المال الذي معه سيظل خالدا، وصدق الحق: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة:3.

فضيلة الافتقار من ثمار فضيلة الترك؛ التي بدورها تفرغ النفس من شوائب ما يسلب فضائلها فتفتح مساحة للفكر والعقل والخيال والنفس، وتقبل ما يردها من سوانح معالي الأمور وفضائلها، ولا تخلق الدهشة بالفكر إلا في نفس مفتقرة، يكون فراغها مستوعبا القدرة على التساؤلات، وتحويل البديهي إلى وعي يحيط الأشياء بالاستغراب والشك، ولذلك مكتباتنا المليئة بالكتب لا يحركنا إلى مجلداتها إلا الشعور بالافتقار إلى ما فيها، إلى ما يثري تجارب الحياة وينضجها، تشعرنا بضرورة التزود من شتى حقول المعرفة.

نحن بحاجة إلى أن نخلص المفاهيم من الماديات التي صبغت بها المعاني، فالغنى ليس غنى المال، والفقر ليس عدم الامتلاك، وإن كان هذا المفهوم نسبي أو جزء من هذا المعنى إلا أنه لا يشكله بكليته، فوراء هذه المفاهيم دلالات عميقة تختبئ في تجارب الناجحين الذين ملأت إنجازاتهم دفاتر الحياة، واستغرقت حضارات الدنيا، فكل سؤال، وكل نظرية، وكل بيت من الشعر، وكل إنجاز، يبدأ بافتقار، وما إن ينتهي حتى يبدأ افتقار آخر وهكذا.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

فضيلة الافتقار قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب إنقاذ الروح الحديثة 

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

يُعد كتاب إنقاذ الروح الحريثة لإيفا إلوز وترجمة بثينة الإبراهيم من الكتب الناقدة والمُهمة اليوم، والتي يجب أن يُفكر بها الإنسان الحديث ملياً، لا سيما العربي الذي يواجه مدَّ الأفكار الجديدة والحديثة على حياته ومؤسسات دولته، وذلك للإطار البحثي الذي انطلقت منه الكاتبة لنقد ما تريد نقده على صورة تساؤلات تشير إلى المشكلة، من دون أن تقدم حلولاً، ولعلَّ ذلك أفضل بكثير، لأن مهمة النقد في استكناه الخطب.

تتحدث الكاتبة في البداية عن الحقائق البارزة التي أفاد منها علم النفس الحديث في أمريكا، والتي استمدَّها من فرويد ونظرياته التي لاقت ترحيباً في المجتمع الأمريكي، لجمعها بين الجانب الأسطوري والطبِّي في تحليل الذات، ولتقديمها إطاراً نظرياً علمياً لفهم الذات الأمريكية وضبط العلاقة بين الجنسين والعلاقة بين الفرد ومؤسسات الدولة. لقد تحدث فرويد ومُفسروه اللاحقون عن الكيفية التي تؤثر بها أحداث الحياة اليومية على شخصية المرء وميوله ونمط عاطفته اللاحق، فكان فرويد، مثلما تصفه الكاتبة، “الصنو الثقافي المثالي لماركس”، ففي حين تناول ماركس قيمة الفرد في عالم العمل، تناولها فرويد في عالم العائلة والحياة اليومية، وبيَّن الحدود الهشة بين مفاهيم المرض النفسي والسواء، ذلك أن العديد من السمات والنزعات يمكن أن تكون دلالة على أعراض مَرَضية خفية، تحتاج العلاج النفسي لإخراجها إلى حيز العلن والحديث عنها، ما جعل من الحياة مشروعاً تأويلياً في التحليل النفسي.

وإثر هذه النظرة المرنة للشخصية الإنسانية التي تتعدد فيها احتمالات المرض النفسي وتختلف أشكاله، تم الربط بين بحث الإنسان عن ذاته الضائعة وبحثه عن النجاح الاجتماعي، فصارت الصحة العاطفية رديفة النجاح مجتمعياً، وانعدام النضج العاطفي رديف الفشل في تحقيق مكانة اجتماعية معتبرة أو التقدم في المجال المهني، ما بدأ سلسلة من النظريات والأدبيات النفسية-الاجتماعية، والتي ربطت بين التقدم في الصحة العاطفية وما يُترجم إليه من التقدم الاجتماعي والمهني، فظهرت ثقافة العلاج النفسي في العديد من وسائل الإعلام، تزعم فهم الذات وعلاقتها بالآخر وتقدم “النصيحة” للأفراد حول الطرق المثلى للتعامل مع أنفسهم والآخرين.

وهكذا، تداخلت مفاهيم علم النفس مع مفاهيم علم الاقتصاد وصار للعقلانية والكفاءة في العمل أبعاد نفسية عاطفية وشخصية، فصار اعتماد رأس المال على الفهم النفسي-العاطفي للذات أمرًا شائعًا فيما صار يُدعى بـ “الرأسمالية العاطفية”. ولأن النظام الرأسمالي غايته الربح والإنتاج فقد دعم الخصائص النفسية المفضية إليهما، أهمها الضبط العاطفي وامتلاك مهارات التواصل الفعال، أو ما يدعى بالمهارات في مجال العلاقات العامة، فظهرت أخلاقيات العمل الجديدة المتداخلة مع أخلاقيات الحياة الخاصة لدى المرء، وصار مُهماً أن يتجاوز الفرد اختبارات الشخصية النفسية قبل قبوله في العمل، والتي تهتم بقدرته على ضبط نفسه وفهم الآخر وفصل نفسه شعورياً عما يحدث حوله والاهتمام بمصلحته الخاصة بصرف النظر عن العوامل الخارجية التي تحاول ثنيه عن ذلك:

“تتضمن القوة النفسية ’الحقيقية‘ قدرة المرء على ضمان مصالحه دون الدفاع عن نفسه عبر رد الفعل أو الهجوم المضاد. بهذه الصورة، ينشأ ضمان المصلحة الذاتية والقوة في التفاعل عبر إظهار الثقة بالذات التي تتساوى بالافتقار إلى الدفاعية أو العدائية الصارخة، فتنفصل القوة هكذا عن الإظهار الخارجي للعدائية وعن دفاع المرء عن شرفه، وهي استجابات كانت جوهرية في تعريف الذكورة التقليدي”

ما يعني أن العقلانية المؤسساتية صارت تُفهم من حيث تحكم المرء بعاطفته والتركيز عليها في آن، أي استكناه مهارات التواصل والعمل بها ولكن من دون أن ينخرط بكامل نفسه فيها، وأن يحافظ دائماً على هدوئه ولغته التواصلية المتقنة التي تحفظ مصلحته ولا تثير انزعاج الآخرين ولا تستثير حفائظهم، وتشير الكاتبة إلى أن ذلك خلق جواً من اللامبالاة النفسية، والناتج عن تحييد المرء لنفسه عن المشكلة وأن يحافظ على مكانته في النظام التواصلي من دون أن يتأثر بالآخرين، أي أن “يلعب اللعبة دون التأثر بها”، أو كما تقول الكاتبة، إن “الشرط المسبق ’للتواصل‘ أو ’التعاون‘ هو، على سبيل المفارقة، تعطيل المرء إدخال انفعالاته في علاقة اجتماعية”، ما يجعلنا أمام سؤال مُهم: إلى أي مدى يمكن للسلوك العلاجي النفسي أن يبدِّل في الإنسان وينزع منه المسؤولي والتعاطف ليجعله منخرطاً في المجتمع والمهنة من دون أن يبالي بهما في الآن ذاته؟

ثم تتحدث الكاتبة عن التآلف بين النسوية والتحليل النفسي من حيث تركيزهما على القضايا ذاتها، وذلك إثر التحولات الاجتماعية التي جعلت مواضيعهما متشابهة، مثل العلاقة بين الجنسين وقضايا الأسرة والمرأة والمعاناة، فبعد موجة العلوم النفسية والتحليل النفسي صارت معايير إنجاح الزواج مختلفة عما سبق، وصار الفشل أو النجاح في العلاقة مسؤولية الفرد وحده ومسؤولية نمط شخصيته التي هو عليها، لذلك تناولت الأبحاث النفسية أنماط الشخصية وطبيعة التواصل القائم بين طرفي العلاقة، وصار عبء إنجاح الزواج أو العلاقات عموماً قائماً على براعة التواصل اللغوي والتعبير العاطفي لدى الفردين، واتفقت النسوية والتحليل النفسي على أن للحميمية دور مُهم في العلاقات الزوجية، وأنها يجب أن تكون الغاية النهائية الواجب تحقيقها بقدرٍ من البراعة والمعرفة وطلب المساعدة، ويقصد بها عادة القدرة الرفيعة على التواصل العاطفي والجسدي في آن، وتحقيق فهمٍ متبادل بين الطرفين يضمن نجاح العلاقة مهما كانت المشاكل التي تواجههما.

بمعنى آخر، لقد عقلنت النظريات الاجتماعية الحديثة المشاعر لدى كلا الجنسين،وطالبت الإنسان الحديث بالتحكم بعواطفه وامتلاك القدرة الرفيعة في التعبير عنها في آن، كون ذلك السبب الحقيقي والأصيل لحل مشاكله مع نفسه والآخر، فصارت مهارات التحكم بالنفس والعاطفة هي المطلوبة والعنصر الثمين الذي يبحث عنه الإنسان الحديث للتخلص مما يُتعبه.

وهكذا، صار للعلاج النفسي سرديته العامة والشهيرة على مستوى الأفراد والمؤسسات، وبالتخلص من الربط الذي أقامه فرويد بين إرادة التغيير على المستوى العاطفي وبين مكانة المرء في طبقات المجتمع، شاعت مفاهيم التحليل النفسي في الأدبيات وسط أجواء من التفاؤل وإمكانية التغيير وتحقيق العديد من الإنجازات عبر ربط التحرر النفسي بالتحرر المادي والنضج العاطفي بتحقيق الإنجازات المادية، وظهرت اتجاهات نفسية تكرِّس سردية الضحية والمرض والصدمة النفسية، ليصير فضاء العلاج النفسي فضاءً تجارياً يستفيد منه قطاع الأطباء النفسيين وشركات الأدوية التي تبيع أدوية نفسية، غير أن المشكلة لا تكمن فقط في تسليع الحالة الذاتية غير المفهومة بعد، بل كذلك في ترسيخ سردية تعرِّف الذات من حيث المرض الذي يصيبها ورحلة العلاج الذي تسير عليه.

ما يعني أنَّ البنية الرمزية السردية صارت متوافقة مع الصناعة الثقافية لتبدُّل مبررات السرد وصوره وتأويلاته بصورٍ استهلاكية تخدم الجهات المستفيدة، وصارت السردية النفسية العلاجية هي القصة التي يحكيها الإنسان الحديث عن نفسه اليوم، فقد عنى السرد الذاتي للمعاناة تحرُّر المرء من هذه الذاكرة عبر مشاركتها مع الآخرين، ولأن الثقافة تحتاج إلى ممارسة اجتماعية كي تنتشر وتترسخ، فقد تمثلت ثقافة العلاج النفسي بمجموعات الدعم المختلفة، والتي تطورت لتصبح استثمارات رأسمالية ضخمة، في عالمٍ بات يحتفي بالضحايا والناجين، ويسبغ عليهم مكانة أخلاقية مُميزة.

لقد تحدث فرويد في نظرياته عن أنَّ الحالة العاطفية للمرء تتبع طبقته الاجتماعية (أي الطريقة التي نشأ فيها والإمكانات المتاحة له)، ولكنه تحدث كذلك عن أن الحالة العاطفية تُنتج هذه الطبقة وتخلق هذه الإمكانات، فالاختيارات الشخصية اللاحقة هي التي تموضع المرء في العالم المهمش أو العالم الرفيع، وفي ذلك كان يشير إلى مهارة ندعوها اليوم بالذكاء العاطفي، أي قدرة المرء على إدارة عواطفه ومشاعره لكي ينال مراده من الحياة أو الآخرين، أي عقلنة العواطف والقدرة على التعبير عنها بالطريقة الملائمة. وللأهمية التي نُسبت للذكاء العاطفي اليوم فقد صار من المُهم امتلاك كلا الجنسين مهارات ذكورية تخص تأكيد الذات ومهارات أنثوية تخص التعبير عن العواطف ليجدا لنفسيهما مكان مُعتبر في سوق العمل، وكانت هذه غاية فرويد في المقام الأول: “كانت أبرز إسهامات فرويد في الثقافة الأمريكية صياغة لغة وتقديم أطر للمعنى تضع الحياة اليومية، والصحة النفسية والسواء في مركز هوية الرجال والنساء الحديثين”، ولكن دمقرطة الحياة العملية والخاصة خلقت فوضى وتناقضات للذات الحديثة، وجعل مسؤوليتها وحدها إيجاد حل لمشكلات اجتماعية في الأصل، وجعل إطار فهم النفس خاص بالنفس فقط من دون المحيط والعوامل الثقافية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية العاملة فيها. غير أن اعتراضات الكاتبة الرئيسية على ثقافة العلاج الذاتي اليوم تمحورت حول نقطتين رئيسيتين:

  • لا يُمكنك التعبير لغوياً عن كلِّ ما تريد وتفعل وتشعر به، فما يُدعى اليوم بأيديولوجيا اللغة يفترض بأن معرفة النفس ممكنة عبر الاستبطان الداخلي الذي يساعدنا على تقبل محيطنا، ويمكِّننا من التعبير العاطفي عما نريده، غير أن الكاتبة ترى بأن نتيجة ذلك يكمن في “التعمية اللفظية” التي “يعمى” الإنسان عن جوانبه النفسية الخفية عبر اللغة التي يعتقد بأنه يعبِّر بها عنها، فتكون اللغة خافية للجانب لا مُظهرة له، وذلك نتيجة لأن النفس تنطوي على جوانب لا يمكن الحديث عنها باللغة، كالحدس أو البصيرة أو الجوانب الخفية التي تكمن خلف قراراتنا ورغباتنا وأفعالنا من دون الحاجة إلى لغة للتعبير عنها، وهذا يدعم توجهاً اجتماعياً لفهم النفس والذات لا تبعاً للماضي والطفولة فحسب، بل كذلك تبعاً لتشكلها مع الآخرين وعبر الآخرين، حيث “تتشكل أفعال الناس وردود أفعالهم وفق ضغط الموقف، لا وفق خصائص داخلية ثابتة للذات (التي تحتاج إلى كشفها)”، نجد ذلك في الأطروحة النفسية-الاجتماعية-الفلسفية التي تقدمت بها الفيلسوفة جوديث بتلر في كتابها “الذات تصف نفسها”.
  • لا يقتصر تعريف الذات على معاناتها، فالتوجه الحديث للحديث عن المعاناة واستنباطها من الماضي ومشاركتها يرسِّخ وجودها كجزء فاعل بل ومُهيمن على الذات وسلوكها وفكرها وتصوراتها، وترى الكاتبة أن استرجاع المعاناة تجديدٌ لدورها في حياة المرء وتعظيمٌ له، إلى درجة تصير هي السردية التي تحكي قصة المرء بعيداً عن بقية الجوانب الأخرى التي نتشكل بها وعبرها، لذلك يعمِّق العلاج النفسي من المعاناة ولا يُحرر المرء منها، بل يقولبه في قالب الضحية أو الناجي ويحتفي به إثر ذلك ويجعله يعرِّف نفسه بذلك الحدث الأليم الذي حدث له، وذلك بأن ينزع سبب المعاناة من الإطار السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي ويلقيها فقط في الإطار النفسي، فتصير “المعاناة أثراً للعواطف غير المنضبطة أو النفس المضطربة أو مرحلة يتعذر تجنبها من التطور العاطفي للمرء”. وفي ذلك إلقاء للمشاكل الاجتماعية على كاهل الفرد ليتحمل مسؤولة انزعاجه منها وتعاسته على إثرها، الأمر الذي تحدث عنها مطولاً زيجمونت باومان في كتابه “الأضرار الجانبية”.

ومن هنا، أجد الكتاب ثرياً بالأسئلة التي يطرحها والاعتراضات التي يقف عندها، لقد جعلت الكاتبة من كتابها مقدمة تحليلية وجيزة حول ما تريد الاعتراض عنه في النهاية، والقارئ يشعر بأنها تتحدث عن جوانب نفسية مُهمة نشعر بها اليوم وندرك افتقار التوجه النفسي الجديد إليها، لذلك من المُهم الاطلاع على هذا النوع من الكتب الناقدة لنتمكن من الحفاظ على ما يجعلنا دائماً ذواتاً واعية تُسائل الفكر وتحسِّنه قبل أن تقبل به.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب إنقاذ الروح الحديثة  قراءة المزيد »

الفكرةُ عجينُ الكتابة!

الفكرة عجين الكتابة

إن الخباز الماهر يعلم عبر الممارسة أنه لا يطيب الخبز دون خميرة جيدة لعجينه، وهذا هو حال الفكرة سواء بسواء، وهو ما يجعلنا نستنبط دلالات من هذه الصورة المجازية، تفيدنا في تخمير أفكارنا وإنضاجها، وذلك في فقرات مكثفة متسلسلة:

  • جودة الطحين لا تبرر لنا التقليل من زمن التخمير، وذلك أن الطحين الجيد مفتقر بالضرورة لبكتيريا طبيعية لا تنمو إلا عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن. وعليه، فلنا أن نقرر بأنه قد يكون لدينا فكرة عميقة أو جديدة أو حتى مدهشة، ولكن ذلك لا يعني البتة عدم حاجتنا إلى تخميرها لوقت كافٍ وبطريقة صحيحة، فالعبرة بثمرة الفكرة لا بعمقها، ونجاعتها لا بجدتها؛ والممارسة الكتابية تفيد بأن النصوص العظيمة الناجعة المؤثرة هي نِتاجُ أفكارٍ مُخمَّرة. وقديماً قالت العرب: “خمير الرأي خيرٌ من فطيره”.
  • جودة الطحين لا تسوِّغ لنا استخدام خمائر فورية، لكونها مادة ليست من جنسه، وعادة ما تنفش هذه الخمائر عجيناً إلا أنها لا تخبز ما نتغذى به ونلتذ. ومثل هذا الأمر يقودنا إلى تقرير خطورة إقحام مادة أجنبية على الفكرة، فقد يكون الإنسان على سبيل المثال متوفراً على “فكرة تراثية أصيلة”، ثم يقوم بحقنها بمواد غريبة لا تلائمها ولا تصلح لها (انتبه لهذه القيود!)، فيكون بذلك كمَنْ جلب قمحاً نادراً، بيدَ أنه أفسده بـ “خميرة صناعية” أو “مواد منهكة”!
  • الخميرة الجيدة كما قلنا تستلزم زمناً كافياً، مع اتباع الطريقة الصحيحة في التخمير، إذ هي ليست خبط عشواء، وهذه الطريقة تقضي بأن يُوضع قدرٌ معلومٌ من الطحين وقدرٌ معلومٌ من الماء، ويعجن الطحين عجناً جيداً، ويترك في حرارة الغرفة ما لم تكن حارة أو باردة بأكثر مما ينبغي. ويفيدنا هذا بأن نسعى إلى تغذية الفكرة بكل ما يجعلها تنمو وتتفرع وتتراكب وتتماسك، شريطة ملاءمة السياق، وتشمل هذه الملاءمة صاحب الفكرة، فلا يكون على سبيل المثال متحيزاً بطريقة تشوِّه الفكرة، ولا يكون جاهلاً في جوانب رئيسة منها، إذ يتوجب عليه حينها أن يقلع عن تطويرها لكيلا يتنكب الموضوعية أو يتورط في كتابة سطحية. كما تشمل الملاءمة أيضاً: الفضاء العام، إذ قد يكون غير مرحب بالفكرة، بل قد يكون معادياً لها، مما قد يضر الفكرة أو يشوهها أو يسحقها، وفي حالة كهذه، على صاحب الفكرة أن يتدبر كيفية حماية الفكرة من هذا السياق غير المواتي، أو دفعها لمن يمتلك مقومات تخميرها.
  • التخمير الجيد يتطلب عدم كتم ماعون العجين المُخمَّر بغطاء صلب، وذلك لضمان تنفس البكتيريا النافعة وتكاثرها ونموها، على أن يتبع ذلك تغذية مستمرة لهذه البكتيريا بمزيدِ طحينٍ وماءٍ وعجنٍ لعدة أيام، حتى تصل الخميرة إلى: أعلى مستويات التخمر الصحي النشط. ومثل هذا الأمر يدفع باتجاه ضرورة تعريض الفكرة لحيثيات جديدة وليس ذلك فحسب، بل تعريضها للآراء المخالفة أو الشواهد السالبة أيضاً، حيث يعين ذلك على تقويتها وجعلها تُبقي أجزاءَها القوية، وتُميت أجزاءَها الضعيفة، وهو ما يماثل حال الفكرة تماماً، إذ لا يصح أن تبقى إلا الأجزاء الصلبة أو الجيدة منها. وهنا نشير إلى خطورة نوع من التحيز يورطنا في تشبث أعمى بكل أجزاء الفكرة ولوازمها الحقيقية أو المتوهمة، وكأنها أضحتْ جزءاً من المعتقد. وهذا التحيز كفيل بإضعاف الفكرة، بل القضاء عليها أحياناً، حيث قد تكون مشتملة على أجزاء مغلوطة أو ضارة أو غير واقعية، بدرجات تكفي لإذهاب الدقة أو الجودة أو النجاعة في أجزاء الفكرة الأخرى، وهذا خطأ شنيع قلَّما يسلم المرء منه.
  • التخمير الناجح له علامات لا تخطئها عين المُخمِّر ولا أنفه، ومن بينها وجود فراغات وتخلخلات في تضاعيف العجين، مع تغير رائحة الخميرة وتقلبها إلى أن تصل إلى زكاء النضج وعبق الجاهزية. لا تحلِّق أفكارُنا ولا تتنفس إلا في سماء الفراغ، فالذكي إذن من يُحدِث فراغاتٍ كافيةً في الفكرة، لكي تتمدد وتنمو. وهذا ما يخول لنا التقرير بأن: الفكرة المصمتة أَمَة الامتلاء! ومن جانب آخر، تخمير الفكرة قد يترتب عليه شمُ رائحة زنِخة، لسبب يعود إلى الفكرة ذاتها أو إلى نوايا خلفها، وهذا أمر ينبغي التفطن له، فإن كانت هذه الرائحة مؤقتة تقتضيها طبيعة الإنضاج والتخمير فلا بأس، وأما إذا كانت دائمة، فقد يكون ذلك مؤشراً على عدم النجاعة في تطويرها.
  • كل ما سبق يزهدنا بـ “الرأي الفطير“، وهو الرأي: اللحظي التلقائي العجول، والترغيب بــ “الرأي الخمير”، وهو الرأي: المخمَّر الناضج الصالح، وثمة تحذير من مغبة “الرأي الدبير”، وهو الرأي: الفائت المتلكئ المتأخر، وقد يكون ذلك بسبب الإفراط في تخميره، والتأخر في عملية التخمير، مما يفسد خمائر الفكرة ونجاعتها وريادتها وإدهاشها وأثرها.
  • لتشسيع فكرة تخمير الأفكار، دعونا نلتقط بعض الكلمات ذات العلاقة بالتخمير، وننظر في كيفية تفعيلها، وهي متضافرة فيما بينها بشكل أو بآخر:
  • مُخامَرة: تدل على نقاشات هادفة لتخمير أفكار فردية أو جماعية بقالب منهجي محدد أو بعصف ذهني مفتوح.
  • أخمَرَ: هيأ للفكرة فضاء تتخمر فيه، إما عبر: الزمن والتفكير التراكمي الهادئ والكر والفر على قلاع الفكرة وجيوشها الجرارة من التحيزات والشواهد والبراهين، أو عبر المناقشة والمدارسة والجدل والمناظرة.
  • خَامَرَ: هنا نجد أنفسنا إزاء شخص يمتلك فكرة أولية، وهو مقتنع بضرورة أو جدوى تخمير فكرته، ويمارس طريقة أو أخرى لتخميرها.
  • مُخامَر: شخص يمتلك فكرة في طور التخمَّر، وهو بحاجة إلى مد يد العون له، إما باقتحامنا لساحته وملأ فراغات فكرته لدفعها أو لدفعه للتفكير في مسارب جديدة، أو بإفرغها منا ومن كل ما يعكر عليه صفوه، لنترك له فراغاته كي يملأها هو على مهل وتروٍ؛ وفق مقاربة يطورها عبر الزمن وفي الزمن ومن الزمن.
  • مِخمَار: إذا كان للتخمير آلة خاصة، فإنه يمكننا صناعة قالب مهيكل، نضع الفكرة فيه، فيعيننا على تقليبها والنظر فيها من زوايا جديدة، وفي اكتشاف مسارب خفية أو ضمنية لتطويرها عبر خطوات منهجية ممرحلة.
  • مُخمِّر: الأصل أن يكون صاحب الفكرة الأصلية، وقد يكون شخصاً يحسن تخمير الأفكار عبر احتضانها في عقله الدفِق ومخياله الخصِب، فيعمد إلى إضافة زوائد نافعة على الفكرة، وإزالة الحشائش الطفيلية عنها، ونحو ذلك، وقد يقوم بطرح أسئلة وإشكاليات، وربما يومئ إلى زوايا جديدة للنظر والتفكير عبر منهجية ملائمة للفكرة وصاحبها وللسياق أيضاً.
  • مُتخمِّر: ثمة أفكار ناضجة، وهي لا تفتقر إلا لمن يؤمن بها ويقوم بترجمتها إلى واقع ملموس وفق غاياتها ومقتضياتها وحيثيات السياق، حتى لا تكون في عداد “الرأي الدبير”.

هذه أفكار لتخمير الأفكار عبر التوسل باستحلاب صورة مجازية، والمجاز منجم لصناعة الأفكار الجديدة وتطويرها وحقنها بكل ما يروع ويدهش وينجع، وهذه مجرد مقاربة تطبيقية في هذا الميدان الرحيب.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.
القراءة البطيئة تنشئ اتصالًا عاطفيًا عميقًا بالمادة المقروءة.

الفكرةُ عجينُ الكتابة! قراءة المزيد »

الثنائية اللغوية في التعليم

الثنائية اللغوية في التعلم

لو رأيت قلمًا ثمينًا أعجبك فاقتنيته على الفور دون استفسار، وعهدُك بالأقلام أنها ما خُلقت إلا للكتابة، فستظل تستعمله في تلك الوظيفة حصرًا. ماذا لو كنت سألت البائع عن سبب غلو ثمنه فأخبرك بعدة وظائف: أنه للكتابة التقليدية، وبه خاصية للقراءة، وبه بطاقة ذاكرة تمكنه من تحرير نصوص تلقائية… إلخ أما كانت تقديرك له سيتضاعف، واستفادتك كذلك؟ أما كانت نظرتك له ستختلف وكذلك استعمالك؟ بلى، فإن معرفة قدر الشيء ووظيفته أول الطريق للاستفادة منه أقصى استفادة، وكذلك اللغة.

أهمية اللغة

يقول سقراط في محاورة كراتيلوس لأفلاطون، إن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتلقين بعضنا بعضا هذه الأشياء فتمييز الأشياء يُقصد به التمثل، أما تلقين أحدنا الآخر هذه الأشياء فهو التواصل.

فاللغة إذن ليست مجرد تواصل بل تتعدى ذلك إلى التمييز الذهني بين الموجودات، أي أن لها صلة وثيقة بالصحة العقلية، كما أن لها وظائف عدة نجهل أكثرها، ونتعامل معها من منطلق وجه واحد نعرفه عنها فلا نستفيد منها إلا بقدر ما نعرف. والنماذج اللغوية لوظائف اللغة عديدة، إلا أن أنسبها لهذا المقام باختصار “نموذج مايكل هاليداي” فلنعتمد عليه إذن.

وطبقًا له فإن وظائف اللغة الأساسية:

  1. الوظيفة الإدراكية: وتعني بناء المعنى وتنظيم الأفكار والمعرفة.
  2. الوظيفة التفاعلية: وهي وظيفة التواصل مع الآخرين وبناء العلاقات الاجتماعية.
  3. الوظيفة النصية: أي بناء النصوص المتماسكة والمترابطة.

الواقع اللغوي للغة العربية

من الظواهر الطبيعية في اللسانيات أن تتصف اللغة بـ (الازدواجية اللغوية)، والتي تعني مستويين مختلفين من الاستخدام للسان نفسه، أي أنه تنافس بين تنوعين للسان واحد (عامية وفصحى)، ووجود وضع مختلف لكل من هذين الشكلين اللغويين إذ يستخدم أحدهما في الحياة اليومية العامة ويستخدم الآخر في الأمور الرسمية والدوائر الحكومية وفي المدارس وغيرها، ويُعد الشكل المعياري والرسمي.

وهذا ليس خاصًّا بالعربية وحدها، بل عام ممتد لكل اللغات. إلا أن الواقع اللغوي العربي يختص بظاهرة أخرى مَرَضية وليست طبيعية؛ وهي استخدام لغة أجنبية في التعليم بدعوى أنها “لغة العلم”، و”متطلبات سوق العمل” رغم أن هذا المبرر واحد فقط من وظائف متنوعة للغة، مما يعني إهمال بقية الوظائف رغم أهميتها.

أغلب الأطفال اليوم يتحدثون عامية بلدهم، ويتعلمون في المدرسة بلغة أجنبية -عادة ما تكون الإنجليزية- ودافع الأهل في اختيار هذه المدارس جودة تعليمها، وإكساب أولادهم اللغة الثانية بسهولة وطلاقة، وإتاحة فرص عمل أفضل. وفي خضم هذه المباحثات عن أفضل مدرسة، تُطمَس لغة الطفل الأم تمامًا، فهو يتكلم في البيت العامية -إن كان الأهل يعتمدون العربية- وفي المدرسة يتواصل ويتعلم بالإنجليزية التي بدأ اكتسابها توًّا. والعامية تؤدي غرض الوظيفة التفاعلية بجدراة لكنها لا تفي بمتطلبات الوظيفتين الأخريين. ثم اللغة الثانية -في الأغلب- يقتصر منها الطفل على إدارة حوارات تواصلية بسيطة، وعلى ما يتلقاه من مادة علمية معروضة بها، لكنه لا يتعمق فيها ويتشربها تشرب اللغة الأم؛ فتأتي سطحية هشّة. وعلى هذا تكون أداة اللغة لدى الطفل متركبة من جناحين مهيضين؛ عامية قاصرة، وأجنبية سطحية، فلا تثبت أيٌّ منهما للتأمل العميق والبحث في المعاني المجردة، ولا تؤهلانه للإنتاج الفكري، اللهم إلا إذا أدرك ذلك هو أو والداه واهتما بتعميق لغة من اللغتين بالقراءة والكتابة وما يتصل بهما من أنشطة ذهنية.

وقد أشار الجاحظ (ت: 255هـ) إلى ذلك في وقت مبكر حيث قال في كتابه الحيوان:

“ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأ ّن كل واحدة من اللّغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها. وكيف يكون تمكُّن اللّسان منهما مجتمعين فيه كتمكّنه إذا انفرد بالواحدة وإنّ له قوة واحدة فإن تكلّم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهم”.

ونتيجة لذلك يظهر ما يمكن أن نسميه (الاكتفاء التواصلي)، أي اقتصار تعليم الناشئة ما يكفي تواصلهم في حالة اللغة الأم، وما يختص بدراستهم أو عملهم في حالة التعليم، فالطفل ينشأ بين لغتين سطحيتين دون أن يتعمق في أيّ منهما.

ويقول الأستاذ أحمد معتوق في عن الازدواجية الناتجة عن تعليم النشء بالعامية بدلًا من الفصحى

“يجعل الناشئ يعيش حالة ازدواجية أو فصاما لغويا ويعاني من لغة تتصارع مع مولود لها معقد التركيب أو (مولود غير شرعي) لا بد أن يوهنها صراعه لأنه يحتل مواقع مهمة في المجتمع وجوانب مختلفة في حياة الفرد”.

وهذا في حالة التعليم بنفس اللغة إلا أنه بمستوى مختلف، فماذا عن التعليم بلغة أخرى مختلفة كليًّا؟

– يعتاد الطفل ما سهل عليه من لغة التواصل الأجنبية فيجد نفورًا من ثقل تعلم لغته الأم التي تكلفه تعلم قواعد وأسس عميقة بالنسبة إلى اكتسابه اللغة الولى بالتواصل فقط.

– كما يؤدي هذا الازدواج إلى ضعف المستوى اللغوي لدى الطفل العربي المكتسب للغة ومن ثمة إلى قتل الإبداع لديه، فإن الإبداع هو الإمساك التام بناصية اللغة ويتطلب إتقانا تاما لها بالسيطرة الكاملة على ألفاظها ومعانيها والتحكم في استختدام صيغها ومفرداتها.

– ويؤدي هذا التذبذب اللغوي بين عربية فصحى، وعربية عامية، ولغة أجنبية إلى تذبذب فكري وثقافي أكيد.

– انقطاع الصلة بين النشء ودينهم الإسلامي؛ فالتراث الإسلامي بلسان عربي مبين، سواء القرآن أو الحديث أو التفسير أو حتى علوم العربية التي تعين على فهم وتذوق الشريعة. وهذه القطيعة إما أن تفضي إلى إلحاد أو فهم خاطئ للدين يضر بصاحبه وكامل مجتمعه

الثنائية اللغوية في التعلم 1

الآثار الناجمة عن التعليم بلغة أجنبية

1- ضعف مستوى التعليم عامة وضعف مستوى اللغة العربية الفصحى بشكل أخص. حيث المنافسة بين اللغة الأم ولغة السوق، وبتكرار ما ذكرناه آنفًا من أهمية ووظائف متنوعة للغة، إلا أن المادية قد طغت على العصر وأصبح ما يجلب المال الاهتمام الأوحد.

2- فوضى لغوية حيث التشتت الذهني والالتباس في المفاهيم نتيجة عدم التحكم في اللغتين تحكمًا كاملًا.

3 – توهين الروابط الاجتماعية، وتصدع المجتمع جراء تناقض المقومات الثقافية بين طوائفه الاجتماعية، وفقدان الثقة المتبادلة.

4 – أثر واضح على تخلف التنمية والنهضة الحضارية. ولا يخفى علينا أن معظم الدول العربية تحتل المرتبة بعد المئة في تصنيف التنمية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وهناك عوامل مشتركة بين هذه الدول المتخلفة -العربية منها وغير العربية:

أ – عدم عدالة النظام التعليمي، وتوفير الجيد منه لطبقة ضيقة.

ب – التعليم بلغة أجنبية، وتؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية أن الطلاب الذين يدرسون العلوم باللغة الأجنبية لا يستوعبون ما يدرسون لأسباب عديدة منها:

– أن الطالب يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: صعوبة فهم اللغة الأجنبية، وصعوبة المادة العلمية، وصعوبة ترجمة ذهنية لما يدرس إلى اللغة العربية، لإضافته إلى منظومته المفهومية المعرفية التي هي أساسا بلغته الوطنية.

– وأن تدريس العلوم بلغة أجنبية لا يساعد على توطين المعرفة العلمية، ويبقيها أجنبية، ويحول دون استيعابها وتمثيلها والإبداع فيها، ويعرقل تنمية اللغة الوطنية، ويحصر المعرفة في نسبة ضئيلة من السكان.

خاتمة

إن تعبير “لغة العلم” من أكبر المغالطات التي سيطرت علينا في العصر الحالي، فمن قال ومتى تقرر أن هناك لغة للأدب ولغة لعلم وأخرى للتواصل؟ الحق أن اللغة واحدة تتنوع مستوياتها باختلاف المجال المستخدمة فيه. وإن قصرت العربية حاليًا عن توصيف العلوم وشرحها فلتقصير أبناءها وانعدام الجهود الموجهة لهذه الغاية. ولا يخفى على أحد النهضة العلمية الإسلامية في عهد الدولة العباسية وقد شملت: الجبر، والطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات، والفلسفة، والأدب واللغة، والعلوم الدينية، والفلك، وغيرها من العلوم التي شملتها العربية دون أن تقصر عن أي منها.

وقد تبين لنا في الدراسة أن التعليم من أهم عوامل نهضة الأمم، وأنه يتأثر بالغًا بلغة تأديته، ومن المعروف أن كل الدول المتقدمة -على اختلاف لغاتها- لا تُعلِّم أبناءها إلا بلغتها الوطنية.

أختتم مقالتي ببعض الأفكار التي أرى أهميتها وصلتها بما سبق ذكره:

  • اللغة تواصل وتفكير ومخيلة وديانة وثقافة وليست تعليم وعمل فقط.
  • وأنه وإن اقتصرت المدارس في تعليمها على التعليم بلغة أجنبية فإنها لم تحكر عليكم تعليم أبناءكم لغتهم بشتى السبل المتاحة.
  • وأن السبل المتاحة لتحقيق ذلك وفيرة، والغاية عظيمة، فلا تستهينوا بها ولا تبخلوا عليها بالجهد والوقت والمال.
  • والتربية في أساسها تكوين ابن مستقيم صالح، ولن يتأتى ذلك إلا بتقويم فكره وتهذيبه، وإرساء ديانته على الفهم الصحيح، بلغة سليمة وقويمة.
شارك الصفحة
المزيد من المقالات

الثنائية اللغوية في التعليم قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب استهلاك الحياة

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“إن أعضاء مجتمع المستهلكين أنفسهم سلع استهلاكية، وإن كونهم سلعاً استهلاكية هو ما يجعل منهم أعضاء حقيقيين في ذلك المجتمع، أن يصبح الإنسان سلعة قابلة للبيع وأن يبقى كذلك هو أقوى دافع لمخاوف المستهلكين، رغم أنه عادة ما يكون هذا الأمر كامناً، ومن النادر أن يكون واعياً، ناهيك عن التصريح به علناً .. فأن ’يجعل المرء من نفسه سلعة قابلة للبيع‘ هو فعل ينجزه المرء بنفسه، وواجب فردي. دعونا نقدم الملاحظة التالية: إن صنع المرء لذاته، وليس مجرد أن يصبح ذاتاً، هو التحدي والمهمة. إن الفكرة القائلة بأن لا أحد يولد إنساناً بالكامل، وإن هناك الكثير مما يجب القيام به ليصبح إنساناً بشكل كامل وحقيقي، ليست من اختراع مجتمع المستهلكين، ولا حتى من اختراع العصر الحديث”

زيجمونت باومان

كتاب استهلاك الحياة لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان كتابٌ جدير بالاهتمام والقراءة المتأنية، يقف على أكثر مشاكل العصر أهمية وثقلاً، وهي تحويل الحياة إلى مجموعة من اللحظات التي يستهلك فيها الإنسان كل سلعة ممكنة، طلباً لسعادة مفترضة، وقد تناول باومان هذه القضية مناقشاً ثلاثة عناصر فيها: النزعة الاستهلاكية، مجتمع المستهلكين وثقافة النزعة الاستهلاكية.

أما النزعة الاستهلاكية فابتعد بها الكاتب عن معناها الحقيقي الضروري للوجود الإنساني، وناقش صنمية السلعة والذات الإنسانية، أي نزع الطابع الإنساني والاجتماعي منهما، وتحول السوق للمرء من مجرد فاعل في نفسه ومجتمعه إلى مفعول به بيد النظام السلعي وآليته، بما في ذلك من تسليع لذاته، فيغدو متعطشاً للاهتمام بصرف النظر عن مكنون هويته وما يمكن أن يقدمه.

وأما مجتمع المستهلكين فناقش باومان تقديسه العابرية في السلع والعلاقات والهويات، وتهميشه الديمومة والاستمرارية والبعد العميق في النفس الإنسانية، بما في ذلك سيولة الحب والعلاقات التي بات التخلي فيها عن الآخر ضرورة تواكب العصر، مع تهميش لدور المسؤولية الأخلاقية لدى الفرد تجاه شريكه.

كما تحدث الكاتب عن رسم النزعة الاستهلاكية للترتيبات في المجتمع والطبقات والفروق التي تعزز الفردية والتفرد والتميز على حساب الكينونة الحقيقية للنفس البشرية، ما يفضي إلى انعدام استقرار الرغبات ونهم الحاجات لدى المجتمع، فتكون الرغبة والإرادة منفصلتان عن المرء ومندمجتان في قوى السوق التي تسيِّرها.

وتناول باومان الزمن التنقيطي الذي ظهر ليناسب حياة السرعة والاستبدال، فغدا الزمن في ذهن الإنسان الحديث لحظات متتابعة متجددة باستمرار، لا تحمل للماضي قيمة ولا تتنبأ بالمستقبل ولا تحضِّر له، كما غدا التبذير وضخامة النفايات السلعية من مزايا العصر وتصور الزمان الحديث، خاصة بظهور النزعة السوداوية المتمثلة في الشره للأشياء دون إدراك جوهرها.

وفي التقييم الأخلاقي لمجتمع المستهلكين، انتقد باومان قياس السعادة في مجتمعاتنا بمقارنتها بغيرها من المجتمعات التي تعيش ظروفاً مختلفة، وناقش أن السرعة في تلبية الرغبات وتقصير الزمن بين الحاجة وتلبيتها لم يساهم في زيادة مستويات الرضى والسعادة بين الناس، بل تحدث عن الاقتصاد الموجه الذي بات يُنتج الخوف الذي وعد بتبديدهن وغدا مصدراً للتعاسة المتجددة، خاصة باعتماده على عدم إشباع الرغبة إلا بعد خلق بديلٍ عنها يحل محلها، ليظل إنسان العصر لاهثاً مسرعاً خلف رغباته المتجددة التي لا تنضب، والتي يحرص نظام السوق على ألا تنضب، أما المعارضة، فهناك نظام يعمد إلى امتصاصها وتسخيرها من جديد لصالح النظام.

وفي تعارض كبير بينه وبين مجتمع المستهلكين، فإن مجتمع المنتجين رفع من قيمة العمل واعتنى بالإنسان الجسد ليزج به في أرض المعركة أو بين صفوف عمال المصانع، بينما عُني مجتمع المستهلكين إلى رفع قيمة الاستهلاك والعناية بروح المرء وتسخيرها لمنفعة السوق واستهلاك منتجاته، ولأن المستهلك يرى نفسه سلعة تحتاج التسويق فإنه يشعر بالخزي من ذاته، ويسعى إلى نفي جسده وهويته في كل مرة و”الولادة من جديد” مستعيناً بتبديل هويته وآرائه ومواقفه وحتى جلده وملامحه وجسده، ليواكب قوانين العصر ومعاييره.

يرى مجتمع المستهلكين أن “من واجب المرء” أن يختار هويته وجسده في كل مرحلة من مراحل حياته، وأن عليه الانضمام إلى أسراب مختلفة، بدلاً من المجموعات، تتأكد فيها هويته المتفردة والمختارة بعناية، ويغدو فرداً في سربٍ يتماهى فيه ومعه، والذي عادة ما يكون سرباً يخص الرياضات أو الأعمال الترفيهية.

ويفترض مجتمع المستهلكين أن مسؤولية خلق المرء لنفسه تقع على عاتقه، فيتحمل، لوحده، تبعات نجاحه في الحياة أو فشله، ومن هنا تنتابه المخاوف والقلق والمشاعر السلبية لانعدام المنطق فيما فرضه عليه المجتمع: “إن الليالي التي تلي أيام الاختيارات الإلزامية مليئة بأحلام التحرر من المسؤولية”، ومن هنا فإن المرء مسؤول عن خلص تصوره الخاص عن العالم ونظامه الأخلاقي الخاص به، فيما يُدعى “بمسؤولية الفرد أمام ذاته”، لا أمام الآخر الذي نفاه وهمِّشه ولا أمام مجتمعه الذي انسلخ عنه.

يعيش مجتمع المستهلكين في حالة دائمة من الطوارئ، تسحب المرء في كل لحظاتها فلا يتبقى له الوقت للتفكير واتخاذ القرارات العقلانية، فنراه يُحدد هويته سريعاً في كل مرة بشكل مختلف، حسبما يُمليه عليه عرقه أو دينه أو ميوله أو ثقافته، ولا يحتاج الآخر في هذا الصدد إلا لغرض المصادقة على هويته الجديدة، دون اعتبار استقلالية الآخر برأيه ورؤيته.

ويختتم باومان كتابه بفصل “الأضرار الجانبية للنزعة الاستهلاكية”، مناقشاً مفهوم الضرر الجانبي اليوم كتضليل لغوي وفكري للبشاعة التي يحملها النظام والضحايا التي تُدهس تحت عجلته، فلا يتم الحديث عنها سوى على أنها مجرد أضرار جانبية “لا بد منها” أو “لم يُحسب حسابها”، ونحن هنا لا نتحدث عن فئات بسيطة، بل عن الطبقة الدنيا التي تشمل الفقراء والمرفوضين ومعارضي النظام، وكل فئة أخرجت نفسها من معادلة الاستهلاك ودعم نظام السوق، وظلت ترى القيمة في المبادئ والمواقف الأخلاقية والثبات على القيم التي رفضت تجزئتها، أي الفئة التي يدعوها نظام السوق “بالمستهلكين الفاشلين”، الأمر الذي بدأ دوامة من العنف والممارسات العنصرية والطبقية ضد “النفايات البشرية” التي يرفضها المجتمع لغرابتها عنه، إلا أنه يدفع ثمن جهله كل يوم بشتى الطرق، أهمها، انخفاض فهمه للسياسات التي تحكمه، وتضاؤل مشاركته في مواقع صنع القرار ورسم المستقبل، لتظل في أيدي المتحكمين بنظام السوق والمنتفعين من جهل العامة.

إنه كتاب ثري بالفعل، ويستحق القراءة مراراً.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب استهلاك الحياة قراءة المزيد »