Author name: nadiim

الفضول

Picture of الكاتب: روز هندريكس
الكاتب: روز هندريكس

ترجمة: يارا عمار

كنت أتصفح أمازون يومًا ما، فاقترح لي الموقع كتابًا بغلاف أسود مع صورة بومة عنوانه “الفضول”. انتابني الفضول بطبيعة الحال: كتاب كامل عن الفضول؟ ماذا عساه أن يُقال؟  وبعد 45 ثانية تقريبًا كنت شرعت في قراءته. كان الكتاب ممتعًا، مليئًا بالقصص واستعراضات الأبحاث والحكايات التاريخية. كما كان زاخرًا بالاقتباسات الثرية، سواء للمؤلف نفسه أو لغيره ممن كتب عن نفس الموضوع على مر القرون، وستقوم المراجعة على هذه النقولات.

تصنيف الفضول

الفضول ليس نوعًا واحدًا، لكنه كما يذكر إيان ليزلي على ثلاثة أنواع، تتميز بناءً على السياقات التي تنشأ فيها، والسلوكيات التي تستحثها.

الفضول المشتت: وهو الانجذاب لكل ما هو جديد. يُظهر البشر هذا النوع من الفضول عند تصفّح إكس مثلًا أو تقليب قنوات التلفاز 30 مرةً في الدقيقة، وهو ليس مجرد فضول سطحي عديم الفائدة، لكنه نقطة الانطلاق التي تدفعنا لخوض تجارب جديدة والتعرف على أناس جدد، وتمهّد الطريق لنوعَي الفضول الأعمق.

الفضول المعرفي: يظهر هذا النوع من الفضول عندما يُصقَل الفضول المشتت ويتحول إلى سعي للمعرفة أو الفهم، وهو “أعمق” وأكثر انضباطًا ويتطلب جهدًا أكثر من النوع الأول حيث يهدف إلى فهم العالم. يستخدم علماء النفس مفهوم “الحاجة إلى الإدراك” مقياسًا للفضول الفكري: ذوو المستوى العالي يزدهرون ويستمتعون بالتحديات الفكرية، بينما ذوو المستوى المنخفض يفضّلون أن تكون حياتهم العقلية بسيطة قدر الإمكان.

الفضول التعاطفي: وهو الدافع لفهم أفكار الآخرين ومشاعرهم، ويمكن تحقيقه بتعلم وضع أنفسنا مكان الآخرين.

تاريخ الفضول

يأخذنا ليزلي في جولة عبر تاريخ الفضول المتقلّب على مر القرون: ففي بعض العصور كان يُنظر إليه بازدراء، ولم تحدث ابتكارات تُذكر في تلك الأوقات. وفي عصور أخرى -كعصر النهضة على سبيل المثال- انتشر الفضول التعاطفي والمعرفي انتشارًا واسعًا، مما أدى إلى طفرة ثقافية.

وما زال الرأي العام حول الفضول متضاربًا حتى الآن: فنحن نحذر ونقول “الفضول يقتل صاحبه”، ونصف الشخص بأنه فضولي عندما يتصرف بغرابة، ونركز في التعليم على المهارات العملية أكثر من أي شيء. وفي الوقت ذاته تجد سوقًا لبيع مثل هذه الكتب التي تشيد بهذه السمة، بل تزعم أن “حياتك تعتمد عليها”.

كيف يؤثر الإنترنت على فضول المجتمع؟ يوفر الإنترنت ثروة من المعلومات في متناول أيدينا حرفيًا، مما يتيح للفضوليين بطبيعتهم البحث والاستكشاف بلا حدود، وهو ما يفعله الكثير. لكن الذين لديهم مستوى أقل من “الحاجة إلى الإدراك” قد يستخدمون الإنترنت بطريقة تكبح فضولهم، وهو ما يفعله الكثير أيضًا. يمكن عادة الإجابة على أي سؤال: مَن/ما/متى/أين، بكتابة عبارة موجزة على جوجل، والنقر على نتيجة البحث الأولى دون قراءتها، والمرور سريعًا على جملة أو اثنتين من صفحة الويب. هذا النوع من البحث عن المعلومات لا يتطلب جهدًا، وبالتالي فلا ينشّط العمليات العميقة المرتبطة بالفضول الحقيقي. يكرر ليزلي هذا الموضوع كثيرًا: على الرغم من الإمكانات العظيمة التي يوفرها الإنترنت لتوسيع آفاقنا وتبادل أفكارنا بسرعة غير مسبوقة، فإنه -إن لم نحذر- قد يقمع فضولنا مما يلحق بالمجتمع ضررًا بالغًا.

تشبيهات الفضول

الأحاجي والألغاز: ينسب ليزلي هذا التمييز إلى غريغوري تريفيرتون الخبير في الأمن والاستخبارات. يقول إن بعض المشكلات كالأحاجي:

“لها إجابات محددة… ومنظمة، لها بداية ونهاية. وبمجرد اكتشاف المعلومات المجهولة، فلا تعد أحجية بعد الآن. يُستبدل الشعور بالرضا بالإحباط الذي أصابك وأنت تبحث عن الإجابة. أما الألغاز فهي أشد غموضًا وأقل ترتيبًا، إذ تطرح أسئلة لا يمكن الإجابة عليها إجابةً قاطعة لأن الإجابات تعتمد غالبًا على مجموعة من العوامل شديدة التعقيد والتداخل، وقد تكون معلومة أو غير معلومة… الأحاجي تسأل غالبًا عن الكم أو المكان، أما الألغاز فتسأل عن السبب أو الكيفية.”

فقراءة رواية بوليسية أحجية أيضًا، لأنه بمجرد الانتهاء منها تعرف مَن فعل ماذا وتحَل المشكلة. أما رواية مثل (غاتسبي العظيم/ The Great Gatsby) فهي لغز لأنها تجعلك تفكر في أسئلة ليس لها إجابات محددة، مثل الطابع الحقيقي للحلم الأمريكي.

يُنسب إلى الشاعر اليوناني أرخيلوخوس فكرة أنّ “الثعلب يعلم أشياء كثيرة، أما القنفذ فيعلم شيئًا واحدًا مهمًا” ومن هنا يشجعنا ليزلي على الجمع بين صفتَي الثعلب والقنفذ، فهذا هو الحل الأوسط لمسألة ما إذا كان الأفضل أن نكون مثقفين بوجه عام، أم خبراء في مجالات محددة.  ينتج عن الجمع بين الأمرين معرفةً يمكن تشبيهها بشكل الحرف T: يمثل الجزء الأعلى منه المعرفة السطحية، والجزء الآخر العمودي والطويل والنحيل يمثل المعرفة المكثفة في مجال واحد على الأقل. بعبارة أخرى “المتعلمون الفضوليون يتعمقون ويتوسعون.”

مرونة الفضول

يؤكد ليزلي أن “فضول الإنسان حالة أكثر من كونه سمة”. ذلك يعني أنه رغم أننا نولد بدرجات مختلفة من “الحاجة إلى الإدراك”، فإن الفضول يتأثر ببيئتنا المحيطة بشدة.

للأسئلة أهمية بالغة لأنها إحدى أدوات اكتساب المعرفة. قد يبدو طرح الأسئلة قدرةً أساسية، إلا أنه في الواقع يتطلب عددًا من المهارات المهمة: يجب أن تعرف أنّ هناك أشياء لا تعرفها، وأن تكون قادرًا على تصور احتمالات مختلفة لما لا تعرفه، وأن تدرك أنّ الآخرين مصدر من مصادر المعلومات. يسأل الطفل بين عمر الثانية والخامسة نحو 40000 سؤال توضيحي. وعندما يتحدث الكبار مع الأطفال ويسألونهم بأنفسهم، يبدأ الأطفال في طرح المزيد من الأسئلة. المغزى من كل ذلك أن طرح الأسئلة على الأطفال يحفزهم على التساؤل أكثر، وهذا إلى جانب اكتساب المعرفة يعلّمهم أن هذا الاستفسار سلوك مثمر.

أهمية الفضول

الفضول يعزز الابتكار. أصبحت أجهزة الحاسوب الآن أذكى من البشر في مهام كثيرة، إلا أنها ليست فضولية، ولهذا السبب يقول ليزلي:

“سيزداد الطلب على الشخص الفضولي بحق. يبحث أصحاب العمل عمن لا يقتصر على مجرد اتباع الإجراءات بكفاءة أو الاستجابة للطلبات، يبحثون عمن لديه رغبة داخلية قوية في التعلم وحل المشكلات وطرح الأسئلة النافذة. قد يصعب إدارة هؤلاء الأشخاص أحيانًا بسبب اهتماماتهم وحماسهم الذي ربما يقودهم إلى مسارات غير متوقعة، وصعوبة توجيه تفكيرهم، إلا أنهم يستحقون الجهد المبذول معهم في الغالب.”

لماذا يتفوق الفضوليون في الابتكار على غيرهم أو على أجهزة الحاسوب؟ لأنهم يتميزون “بقدرتهم الفريدة على إقامة روابط إبداعية بين مختلف المجالات، مما ينتج عنه أفكار جديدة.”

تعرف أنجيلا داكوورث مفهوم grit/ المثابرة بأنه: “القدرة على التعامل مع الإخفاق، والتغلب على العقبات، والتركيز على الأهداف بعيدة المدى”، ثبت أنّ هذا المفهوم مؤشر أساسي من مؤشرات النجاح في جميع مناحي الحياة. سمعت مرةً أستاذين جامعيين يتحدثان عن أنجح طلاب الدراسات العليا، ويقولان إنهم هم الذين يتمتعون بالمثابرة، وقد ظلت محادثتهما تدور في ذهني نحو أسبوع أو أكثر.  إن المثابرة والفضول صفتان متلازمتان: فإن كنت فضوليًا فستستمر في التعلم والاستكشاف حتى بعدما تعرف ما أردت تعلمه في البداية. وإن كنت مثابرًا فستواصل المسير حتى وإن ظهرت العوائق في طريقك وازداد الهدف الذي تسعى له صعوبةً.   

حتى تكون فضوليًا لا بد أن يكون لديك أساس من المعرفة. يرى جورج لوينشتاين أنّ الفضول ينشأ من إدراك وجود فجوة في المعلومات: عندما تعرف بعض الأمور عن موضوع ما، ثم تدرك أنك لا تعرف كل شيء، لكن يمكن تعلم المزيد. وهكذا تنشأ حلقة إيجابية رائعة: كلما تعلمت أكثر، زادت رغبتك في التعلم.

 المصدر

شارك الصفحة

الفضول قراءة المزيد »

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك

Picture of كتابة: إليزابيث جورج
كتابة: إليزابيث جورج

ترجمة: يارا عمار

pexels-ron-lach-8036320

إنّ القراءة -لا سيما النقدية- جزء لا يتجزأ من عملية البحث. ومع ذلك، فالقراءة البحثية ليست مجرد مسح سريع للأوراق البحثية، بل يلزم أن يتفاعل القارئ مع النص وأن يستخلص منه المعلومات لتطوير أفكاره الخاصة. ولذا، من الضروري أن يدرك طلاب الدكتوراه والباحثون أهمية القراءة النقدية، وأن ينمّوا روح الاستقصاء العلمي في بداية رحلتهم البحثية. مما لا يخفى أنّ القراءة البحثية الفعالة والكتابة الأكاديمية عالية الجودة يسيران جنبًا إلى جنب: كلما أتقنت استراتيجيات القراءة النقدية، استطعت أن تقدم عملك في الأوراق البحثية بشكل أفضل. لكن ما هي القراءة النقدية؟ وما استراتيجيات القراءة النقدية التي يمكن أن تتبعها للربط بين قراءة الأدبيات وعملية الكتابة البحثية بطريقة مجدية؟ سنجيب على هذه الأسئلة الشائعة بين الباحثين في هذه المقالة.

ما هي القراءة النقدية؟

تنطوي القراءة النقدية على قراءة النص بنشاط لفهم وجهة نظر المؤلف وهدف الدراسة البحثية وكيف تساهم النتائج في النهوض بالبحث في مجالك. لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش الافتراضات التي تعرضها الأوراق البحثية، وأن توظف تجربتك وخبرتك لتطوير أفكار ووجهات نظر جديدة.

تساهم القراءة النقدية بقدر كبير في تحويل القرّاء إلى باحثين مبدعين. إنّ مهارات القراءة النقدية الجيدة تعزز قدرتك على تحديد مواطن القوة ومواطن الضعف في الأبحاث السابقة في مجال معين، وتسليط الضوء على الثغرات في التحليل أو الأدبيات نفسها. كما أن الأفكار التي تنشأ من هذه العملية تساعد في تحويل الاستجابات المستنيرة القائمة على القراءة النقدية إلى دراسات بحثية مستقبلية يمكن أن تنهض بالعلوم، وكذلك تساعد في بناء أسس نظرية متينة، وتحسين تصميم البحث ومنهجيته. إن صقل مهاراتك في القراءة النقدية يسهّل عليك تقييم الأدلة ودمج هذه المعلومات في كتابتك البحثية.

استراتيجيات القراءة النقدية للباحثين

نستعرض فيما يلي بضع استراتيجيات للقراءة النقدية تعين الباحثين على الفهم التام لمحتوى الأدبيات التي يقرؤنها وتقييمها تقييمًا نقديًا. سنركز على الاستراتيجيات الأساسية التي يمكن أن يتبعها الباحث حتى تصير القراءة النقدية عادةً له:

  1. اقرأ بهدف محدد: من أهم استراتيجيات القراءة النقدية أن تقرأ الورقة البحثية مع وجود هدف أو سؤال محدد في ذهنك. مُر سريعًا على كل فصل في البحث وظلل الفقرات التي تتناول هدفك المحدد حتى تعلم ما إذا كانت الورقة بأكملها تستحق القراءة أم لا. وبمرور الوقت ستصقَل مهاراتك في القراءة النقدية وستتمكن من تقييم مدى أهمية الورقة البحثية بسرعة. كما ستفهم كيفية هيكلة الأوراق البحثية عالية الجودة، وستستفيد منها بتطبيقها في كتابتك.
  2. اكتب ملاحظات: من المهم أن تضع خطًا تحت العبارات الرئيسية، وأن تدوّن ملاحظات أثناء قراءة المؤلفات العلمية. علّم على التعليقات والأفكار المهمة، واكتب تفسيراتك أو أي أسئلة ترد على ذهنك نتيجةً للقراءة الدقيقة للنص. هذه الاستراتيجية تساعد الباحثين على استنباط المعنى الصحيح، وتشكيل حجج ذكية أثناء كتابة البحوث. كما أن تظليل الأجزاء المهمة والمطلوبة من النص يجعل القراءة أشمل ويسهّل الرجوع إليها لاحقًا، مما يسرّع عملية الكتابة الأكاديمية بوجه عام.
  3. ضع تحيزاتك جانبًا أثناء القراءة: من أساسيات القراءة النقدية أن تكون ذا عقل متفتح. على سبيل المثال: قد تمر عليك وجهات نظر وحجج توافقها أو تخالفها بشدة أثناء قراءة المقالات العلمية، هنا من الضروري أن تنحي جانبًا معتقداتك الشخصية وتفاعلاتك العاطفية التي قد تؤثر على وجهة نظرك أو فهمك للورقة البحثية التي تقرؤها. القراءة النقدية يعني أن تكون قادرًا على التعمق وفهم الحجج التي يطرحها المؤلف حتى تُحسن الاستشهاد بها في كتابتك.
  4. ضع النص في سياقه: يحتاج الباحثون أثناء القراءة النقدية إلى استيعاب السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية الذي أجري وكُتب البحث في إطارها. من المهم أن تقارن بين الموقف الذي كُتب فيه النص وواقعك، حتى تستنتج وتستخلص المعنى الصحيح وتطور حجتك.
  5. ابحث عن الروابط: جزء من عملية القراءة النقدية أن تبحث عن الروابط بين الأوراق المنشورة سابقًا في مجال دراستك، فالتعرف على الأنماط واكتشاف الروابط يساعدك في البناء على المعرفة القائمة وتعزيز بحثك وإبراز المساهمة التي سيضيفها عملك إلى مجال بحثك. كذلك من مزايا البحث عن النصوص والمصادر ذات الصلة أنه يضفي على دراستك وكتابتك البحثية منظورًا عالميًا أكثر، ويمنحك فرصة التعرف على مؤلفيها والتواصل معهم لمواصلة تعليمك البحثي.
  6. اقرأ عدة مرات: ينبغي أن يقرأ الباحثون المقالة مرات عديدة مع تجنب المشتتات. إن تكرار القراءة النقدية مع تحديد الهدف منها يعينك على زيادة فهمك تدريجيًا ورسم الروابط التي ربما غفلت عنها في القراءة العامة الأولى. قد يبدو هذا غير ضروري، لكن من المهم أن تدرك أن بناء عادة القراءة النقدية القوية -كالكتابة الأكاديمية تمامًا- عملية تدريجية تتطلب وقتًا لإتقانها.
  7. خصص دفترًا: لكتابة الأفكار والسرديات والمراجع المهمة ومواضع الاتفاق أو الاختلاف أثناء قراءة المقالات البحثية. ويحسن أيضًا أن تكتب أي تساؤلات أو شكوك تنشأ في هذا الدفتر. إلى جانب أنك تعد مرجعًا جاهزًا للمستقبل، سيكون هذا الدفتر مصدرًا رائعًا عندما تبحث عن أفكار للمشروعات البحثية المستقبلية.
  8. أعد الصياغة وبسّط: تساعد القراءة النقدية على معالجة المعلومات التقنية المعقدة، لكن قد تظل أجزاء من النص محيّرة للقرّاء. من الطرق الحسنة لتبسيط مثل هذه المفاهيم أن تعيد صياغتها، فإعادة كتابة النص بكلماتك دون تغيير جوهره يحسّن فهمك لمحتوى الورقة البحثية، كما يقوّي مهاراتك في الكتابة الأكاديمية.
  9. وسّع مفرداتك: قد تمر عليك كلمات وعبارات جديدة ذات صلة بمجال بحثك وأنت تقرأ المؤلفات العلمية قراءة نقدية: احرص على تسجيلها حتى تستكشف معانيها والسياق الذي استُخدمت فيه. هذا يسرّع وتيرة قراءتك النقدية بمرور الوقت وسيُثري كتابتك بتوسيع نطاق المفردات التي تستخدمها.

إنّ اتباع استراتيجيات القراءة النقدية المذكورة أعلاه يحسّن كفاءتك في القراءة ويزوّدك بمستودع من الأفكار البحثية. ثم بعد ذلك قد تتحول ملاحظاتك على العمل المنشور سابقًا وتفسيراتك له إلى بحث رائد محتمل يضعك على طريق النجاح.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك قراءة المزيد »

حوارٌ حول برامج القراءة في مركز باحثات

Picture of حوار: سارة المطيري
حوار: سارة المطيري

ساهم في الحوار: غالية الفوزان

الحديثُ عن القراءة حديثٌ يجعل القلب مُفعمًا بالسعادةِ والحماسة، ونحن اليوم في مركز باحثات الذي يهتم بقضايا المرأة المعاصرة، ويعالجها من أبعاد معرفية مختلفة. تحدثنا مع ضيفتنا نسيبة باوزير المديرة التنفيذية لشركة أوقاف مركز باحثات عن مشاريع القراءة في باحثات، ابتداءً من فكرتها ودوافعها، وطريقة انضمام الفتيات إليها، وإقامة ندوات القراءة والتفاصيل التي تحيط بهذه اللقاءات والمناقشات. 

نترككم مع الحوار

– بدايةً حدثينا عن نشأة مشروع القراءة في باحثات، ابتداءً من فكرتها ودوافعها، وكيف انطلقت هذه المشاريع؟

انطلقت مشاريع القراءة في باحثات منذ عام ١٤٢٨ تقريبا؛ نشأ المركز نشأةً تخصصية، وكان يركز أولًا على الأكاديميين والمثقفين والمهتمين بالجانبِ الفكري وقضايا المرأة، ومما لا يَخفى في هذا المسار أن القراءة مدخل أساسي عند المثقفين والمهتمين والأكاديميين، سواء من الناحية المعرفية أو التطوير، فقد كانت القراءة وما زالت محورًا مهمًّا.

وتمثلت أبرز جهود “باحثات” في إصدارِ ما لا يقل عن ستين كتابًا حتَّى الآن، وعندما بدأ باحثات العمل في إطار المشاريع ليكون أقرب إلى السوق المحلي والمستفيدين، بدأنا التفكير في ماهية القوالب الحيوية والمناسبة للمستفيدين، باختلاف أنواعها، جربنا إقامة نادي قراءة للفتيات، ونادي قراءة للأمهات، ونادي قراءة للمثقفين والمهتمين، فقد كانت نوادي القراءة في “باحثات” على مشارب شتى وفئات متعددة، ولكل فئة طريقتها وآلياتها وكتبها، وطريقتها في الحوار والاستضافات المعينة، وطريقة التحفيز لها من أجل إتمامها. ومن هذا الباب، ولأننا نؤمن بأنَّ القراءة من أهم الطرق المعرفية لنمو الإنسان، فقد كانت نوادي القراءة من الأشياء الأساسية مُنذ سنوات طويلة، تقريبًا من عام ١٤٣٥هـ حيث أنشأنا أول نادٍ، وبعده تسلسلت الفروع.

والآن ونحن في عام ١٤٤٦، في باحثات نادي قراءة يستهدف الأمهات والمربيات، كما يستهدف المثقفين والمهتمين، وكان تحت مسمى نادي صبغة، ويستهدفُ الهُوية الإسلامية، ونادي للأمهات يستهدف مواضيع تربوية تحت اسم فَنن التربوي. 

– إذا أرادت إحدى الفتيات الانضمام إلى نادي القراءة، ولا سيما بمركز باحثات فثمّة أسباب عديدة تحثها على ذلك، برأيك لماذا تختار باحثات؟ 

في السنوات الثلاث الأخيرة نحن لا نستهدف الفتيات للانضمام إلى نوادي القراءة، لدينا فقط برامج ولا نقيمها في باحثات، ولكن عن طريق شركاء تنفيذين، يستهدفون الفتيات رأسًا، نحن في باحثات نعد أنفسنا بيتًا من بيوت الخبرة، يُصدر كثيرًا من الوثائق والبرامج للسوق المحلي والجهات الشريكة، الفتيات عامةً ستتوجهن إلى شركاء وليس إلى باحثات، “باحثات” سيظهر بصورةِ شريك في البرنامج للشركات المنفّذة.  

– ما هو خط سير مشروع القراءة في “باحثات” عبر مراحل وطرق من البدء وحتى إغلاق المشروع؟

ينطلقُ أي مشروعٍ من التخطيط المناسب. وندرك بصفتنا إداراتِ مشاريع، أنَّ المبادرات الجيدة قد بُذل فيها وقت نوعي، فنوادي القراءة مثلاً عندما نخطط لها:  

نبدأ بتحديدِ الأطر العامة لها (مثل الفئة المستهدفة، والغاية، والأهداف، والمُبررات، والقيمة المضافة، والقضية أو القضايا الموضوعية التي سنخدمها في هذا النادي…) 

وبعد تحديد الأطر الأساسية، نُبحر في ضبطِ المحتوى العلمي للنادي، عن طريق دراسة الحاجات، وسؤال الخبراء، وورش العمل، والاستمارات، فنجمعُ ما يمكن من الأفكار لإنضاج الفكرة الرئيسة، وبعدها نطيلُ العمل في ورش عمل، وجلسات تركيز لخروج النادي بأبهى حلة.  

وفي هذا الإطار، نحنُ حريصون على أن تكون نوادي القراءةِ التابعةُ لـ”باحثات”، ذاتَ أثرٍ عميق أكثر من مجرد قراءة كتاب، حيث نحرص كثيرًا على صُنع أواصرَ اجتماعيةٍ بين المستفيدات، ولدينا فقرة ثابتة نسميها “الخطة الاجتماعية” هدفها توليد العلاقات، وكسر الجمود، وتحقيق الألفة.  

وإذا عدنا لنتحدث عن المحتوى فلدينا معايير في اختيار الكتب، وقد تكون هذه من أصعب مراحل العمل في النادي، حيث تبدأ رحلة البحث عن الكتب إلى ما بعد تحديد الموضوعات والقضايا التي يخدمها النادي، فنضع سمات الفئة المستهدفة نصب أعيننا ونحاول اختيار كتب تناسب الفئة طولًا وقِصَرًا، وسهولةً وصعوبة.  

فنختار لكل فئة ما يناسبها، ونتأكد من وجود الكتب، وسهولة وصول المستفيد إليها، ونحرص في مرحلة جمع الخِيارات على حفظها وتقييمها في صفحة مصنفة وفق الموضوعات، حتى يُستفاد منها لاحقًا.  

كما نسعى جاهدين أثناء التنفيذ وبعد الانطلاق لاختيار المناقش المناسب الذي يثري القراء، كما نحب في النادي فكرة توسيع الأثر ونقل المعرفة، وذلك بمساعدة المستفيدين على تصدير المعارف المكتسبة من النادي.  

ولا يخفى عليكم أثر الصورة والتصميم الجذاب والملائم، لذا نحرص على الإبداع في الهوية الإعلامية لكلّ ناد. 

– هل ثمة معايير لاختيار الكتب القديمة والحديثة؟ 

ربما نختار من كتب التراث أو كتب المتقدمين أو العلماء، أو نختار كتابًا حديثًا يجمع ما بين المتقدمين والواقع المعاصر، وهذا يكون على حسب اختيارنا للموضوع وتحريرنا لموضوعات النادي، ونحن حينما نحرر ذلك نضع لكل محور هدفًا، فعندما أقول لها أريدها أن تفهم عن موضوع اضطراب الهويات اليوم أو تصادم الهويات اليوم، فإنني أقول ما الهدف الذي أود أن يخرج به المستفيد؟ وسيقرأ كتابًا مكونًا من ٥٠ صفحة أو ١٠٠ أو ٢٠٠، فكل شخص من الناس سيستفيد من زاوية مختلفة عن شخص آخر، لأن مدخلاتنا مختلفة، ومن ثَمّ إفادتنا مختلفة، ونرجع لنقول ما الهدف الذي يود أن يكتسبه فلان؟ أحيانًا يكون أمرًا تأصيليًّا، فعندما أريد أن يكون الهدف تأصيلًا لقضية ما أو معرفة ما، فأنا أحرص أن تكون الكتب المقروءة من كتب المتقدمين، أما عندما يكون الكتاب مواكبًا لأحداث العصر والواقع لكي نعرف إلى أين يتجه المجتمع؟ فسأختار كتابًا معاصرًا، أما عندما أتكلم مثلًا عن النسوية، أو الشذوذ، أو الجندر، أو الإجهاض، فسأختار مجموعة المركز المتمثلة في المصطلحات الثقافية، وهي قطعًا كتب معاصرة. لكن عندما أود الحديث عن تأصيل شرعي، أو تأصيل لحقوق المرأة، أو تأصيل لقضايا نسائية، أو الفرق بين الذكر والأنثى، فسأختار كتابًا تأصيليًّا من كتب المتقدمين، وأحيانًا نقدم بعد ذلك الفقرات الاستثنائية للنادي مثل الكبسولات، أو نتصل بالكاتب إذا استطعنا ذلك، أو تحرير لسريرة هذا العلم وقصته، بحيث لا يشترط في هذه القارئة أن تكون قد بحثت كثيرًا، لأنَّ هناك عددًا كبيرًا من القراء الذين يأتوننا مشغولين، فهي قرأت وأتت، لذا أقول لها كيف أعطيها خلاصة المعرفة؛ وهذه قيمة مضافة لأنني أعطيكِ خلاصة الخلاصة التي تحتاج إلى بحث لكي تصلي لها. كما نحرص على تطعيم النادي بهذه القيم المختلفة والنقاط المضافة التي تُعطي المستفيد زاوية أكثر اتساعًا من مجرد قراءة كتاب، إضافة إلى النقاش حول الكتاب، فهذه فكرة المتقدمين أو الكتب القديمة أو الحديثة، وذلك بحسب المحور الأساسي الأعلى في جدولة النادي.

– ماهي التفاصيل التي تُحيط بهذهِ اللّقاءات والمُناقشات؟

نستطيع القول القلوب في عيون المستفيدين، والسَّعادة التي تأتيك مقبلة بشغف لقراءة الكتاب، ومتحمسة لإعداد الكتب على الطاولات، وعدد الحضور، والديكور، ورائحة القهوة العربية إلى حدٍّ ما! ويا سلام على القراءة في مكتبة باحثات في هذا الجو مع الديكور ورائحة البخور، إذ تصير هذه الأمور تفاصيل فارقة، كما يصبح الحضور فارقًا، أضيفي إلى ذلك، نوعية المستفيدين من باحثات، الحمد لله نحن في تزايد على صعيد مستفيدي باحثات وعملائها، إنهم أناس مختلفون حقيقةً، لأن أول من نشأ نشأةً خاصةً، كان يركز على مستوى عالٍ، فلما توسع ونزل إلى طبقات أوسع في المجتمع، أصبح بحمد الله ذا سمعة، ووصل إلى الأثر البالغ، وخاصةً أن باحثات قد اكتسبت قوتها من الجانب العلمي، فأصبحنا كلما قدمنا أي برنامج، على ثقة تامة بأن القوة العلمية موجودة، أضيفي إلى ذلك أنّنا نهتم جدًّا بالقوالب والعملاء والتواصل مع كل فرد مسجل أو نحتاج لأن نصل إليه، سواء حضر أو لم يحضر، وإذا غاب بعضهم نتفقدهم، فهذه من القيم الفارقة في باحثات. كما أن لدينا اهتمامًا بالناس الذين وصلوا إلينا أو أحبوا الانضمام لنا، سواء في القرائية أو غيرها، فهذا جانب من التفاصيل التي تحيط بالسعادة في نوادي باحثات.

– ما استدامة مشاريع القراءة في باحثات؟

في نادي فنن مثلًا وهو بالمناسبة يستهدف الأمهات، وبوصفه ناديًا للقراءة فقد ابتدأ بمبادرة فردية، من نادٍ في البيت، إلى الوصول اليوم في الموسم الخامس إلى سبع مناطق في المملكة. فقد كان بين مجموعة من الصديقات في المنزل، ثم تبنت باحثات الفكرة، وصنعت الوثيقة ودعمتها في النسخة الأولى من قِبل السبيعي الخيرية، جزاهم الله عنّا خير الجزاء، في الرياض، والثانية في الرياض، وفي الثالثة أردنا التوسع، في الرَابعة أيضًا توسعنا، وفي النسخة الخامسة في سبع مناطق حضوريًّا وعن بُعد أيضًا.

فتلك هي الاستدامة، ونحن سعداء وفخورون بأننا أنشأنا النادي وصدرناه إلى الجمهور في مناطق متعددة من أنحاء مملكتنا، فحتى لو قررنا في باحثات أن نتوقف في أي ظرف ما عن أن يكون نادي فنن في باحثات، فإننا نستطيع مع الشركاء أن يكون في القصيم ومكة وجدة وأبها، فالشرقية وجازان، ونسأل الله البركة والسداد، وهذا الشكل المستدام. ونحن نؤمن حقيقةً بالشراكة ابتداءً، لكونها أحد أهم الأسباب المؤثرة في استدامة المشاريع، فعامةً وكما تعلمين نحن لا نصنع الوثيقة في القطاع الخيري لكي تكون ربحًا شخصيًّا أو مزايدة، ولكن حتى ينتشر الأثر ويعم النفع، فالوصول إلى هذا الحد من النفع وتمكين الجهات من إقامة المشروع، بحيث لا يتبقى ولا يكون لديهم أي عبء على تكراره، ويتشربون المشروع ويتبنونه، فهذا في حد ذاته بحمد الله نظن أنه جزء مهم من الاستدامة.

ختامًا: فكلّ الشكر لكم في نديم، وأسأل الله أن يبارك لكم في جهودكم ويتقبلها بقبول حسن، شكرًا لاختياركم باحثات، نتمنى أن نكون عند حسن الظن دائمًا.

شارك الصفحة
المزيد من الحوارات

حوارٌ حول برامج القراءة في مركز باحثات قراءة المزيد »

اختيار الجنون: مراجعة لكتاب: عشرة أيام في نزل الجنون

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو كتاب من تأليف الصحفية الأمريكية نيللي بلاي (Nellie Bly)، التي تُعد واحدة من أوائل الصحفيين الاستقصائيين في الولايات المتحدة.

ترجمه إلى العربية عواطف الجاروف وطُبع في دار منطاد.

نُشر الكتاب لأول مرة في عام 1887 كمجموعة من المقالات التي كتبَتْها بلاي لتوثيق تجربتها الشخصية داخل مستشفى بلاكويل آيلاند للأمراض العقلية، حيث قامت بالتظاهر بأنها فاقدة للعقل لتتمكن من الدخول إلى المستشفى ومراقبة أحوال المرضى عن قرب. يُعتبر هذا العمل من أهم الأعمال الصحفية الاستقصائية في القرن التاسع عشر، وقد ساعد بشكل مباشر في إحداث تغييرات كبيرة في نظام رعاية الصحة النفسية في أمريكا.

كانت نيللي بلاي صحفية شابة عندما قررت أن تقوم بهذه المهمة الجريئة. كانت قد التحقت بجريدة نيويورك وورلد، ولها طموح كبير في تغطية القصص التي تتجاوز العناوين اليومية البسيطة. في وقت كانت فيه النساء نادرًا ما يتم منحهن فرصًا للقيام بتحقيقات استقصائية، نجحت بلاي في إقناع رؤسائها بإرسالها في مهمة خطيرة ومثيرة تتمثل في التظاهر بأنها فاقدة للعقل لدخول مستشفى للأمراض العقلية في جزيرة بلاكويل، والتي كانت معروفة بسوء معاملتها للمرضى. كان هدفها كشف الظروف البشعة التي يعيشها المرضى وكشف الإهمال الذي يعانونه.

في الداخل:

بدأت بلاي رحلتها بتعلم كيفية التظاهر بأنها فاقدة للعقل. تدرّبت على التعبير عن جنون وهمي، حيث بدأت تتحدث بشكل غير مفهوم وتتصرف بطريقة غير مألوفة. وفعلاً، بعد سلسلة من الاختبارات الطبية السطحية والمقابلات مع أطباء لم يأخذوا الوقت الكافي لتقييم حالتها النفسية بشكل دقيق، تم إدخالها إلى مستشفى بلاكويل. هذه المرحلة تُظهر بوضوح مدى ضعف الفهم الطبي للأمراض العقلية في ذلك الوقت، وكيف كانت عملية تشخيص الأمراض العقلية غير دقيقة وتعتمد على المظاهر الخارجية.

كانت تجربة بلاي داخل المستشفى صادمة. بمجرد دخولها، بدأت تلاحظ أن الظروف التي يعيشها المرضى لا تتماشى مع أدنى معايير الإنسانية. كان المستشفى مكتظًا، والطعام الذي يُقدّم للمرضى سيئًا لدرجة أنه بالكاد يمكن تناوله. كما كانت المياه التي يشربونها غير نظيفة ومليئة بالملوثات. المرضى كانوا يُتركون دون أي رعاية طبية حقيقية، بل كانوا مُجردين من إنسانيتهم ويتعرضون لإهمال قاسٍ.

كان أحد أكثر الجوانب التي هزت بلاي هو معاملة الطاقم الطبي والممرضات للمرضى. بدلاً من تقديم الرعاية أو المساعدة، كان المرضى يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي بشكل يومي. الممرضات كنّ يصرخن في وجه المرضى، ويعاملوهم بقسوة بالغة، ويضربونهم في بعض الأحيان. أما المرضى الذين حاولوا الاعتراض على هذه المعاملة، فكانوا يُعزلون تمامًا ويُتركون في حالة من العزلة المدمرة. كانت البيئة مليئة بالخوف والترهيب، مما زاد من معاناة المرضى وعمّق شعورهم بالعجز.

عزلةٌ وإقصاء:

أحد الجوانب الأكثر تدميرًا في حياة المرضى هو العزلة التامة التي كانوا يعيشون فيها. لم يكن يُسمح للمرضى بالتحدث مع بعضهم البعض، وكانوا يُجبرون على البقاء صامتين طوال اليوم. هذا التجريد من القدرة على التواصل البشري أدى إلى تدهور حالتهم النفسية بشكل أسرع. حتى نيللي، التي كانت تعرف أن إقامتها ستكون مؤقتة، شعرت بالأثر النفسي السلبي لهذه العزلة، حيث بدأت تفقد الإحساس بالوقت والشعور بالواقع.

لاحظت بلاي أن العديد من المرضى الذين يعيشون في المستشفى لم يكونوا يعانون من اضطرابات عقلية حقيقية. البعض كان قد أُدخل إلى المستشفى لاعتبارات غير مبررة مثل كونهم فقراء أو غير مرغوب فيهم من قِبَل عائلاتهم. في بعض الحالات، كانت النساء تُدخَلن إلى المستشفى فقط لأنهن تصرفن بطريقة غير تقليدية أو لأنهن ببساطة لم يكنّ مرغوبات من المجتمع. هذه الاكتشافات أظهرت إلى أي مدى كانت الأمراض العقلية تُستخدم كذريعة لعزل الأشخاص غير المرغوب فيهم عن المجتمع.

في الخارج:

بعد مرور عشرة أيام داخل المستشفى، شعرت نيللي بلاي أنها جمعت أدلة كافية على الظروف المروعة. استدعت محامي الصحيفة الذي تدخل لإنقاذها من هذه التجربة القاسية. كانت قادرة على العودة إلى حياتها الطبيعية، ولكن تأثير هذه التجربة لم يكن مؤقتًا. عند خروجها، قامت بنشر تجربتها في سلسلة من المقالات التي هزت المجتمع الأمريكي وجعلت القراء يشعرون بالصدمة والغضب تجاه المعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها المرضى.

كان لكتاب “عشرة أيام في نزل الجنون” تأثير كبير وفوري. بعد نشر المقالات، شُكّلت لجنة تحقيق حكومية للنظر في الأوضاع داخل مستشفيات الأمراض العقلية. اكتشفت اللجنة العديد من الانتهاكات التي وثقتها نيللي بلاي وأوصت بإجراء إصلاحات عاجلة. تم تحسين ميزانية المستشفيات، وجرى توظيف طاقم طبي أكثر تأهيلاً، كما تم تحسين ظروف الإقامة وتقديم الرعاية الصحية بشكل أفضل.

الرسالة الأساسية التي تحملها تجربة نيللي بلاي هي أن الجنون ليس بالضرورة مرضًا داخليًا يُعاني منه الأفراد بقدر ما هو حالة قد تخلقها البيئة القمعية التي يُحتجز فيها الناس. البيئة القاسية، الإهمال، وسوء المعاملة قد تجعل من أي شخص سليم نفسيًا مريضًا بسبب العزلة والضغوط النفسية التي يُوضع فيها. الكتاب يُظهر أن الجنون قد يكون نتيجة لسوء معاملة المجتمع للأفراد المختلفين أو الضعفاء.

من خلال تجربتها، لم تقم نيللي بلاي فقط بكشف العيوب في نظام الصحة العقلية، بل طرحت تساؤلات أعمق حول كيفية تعامل المجتمع مع الأشخاص الذين يُعتبرون غير ملائمين. هل نعتبرهم مرضى لأنهم مختلفون؟ أم أن المرض الحقيقي يكمن في الطريقة التي يُعزل بها هؤلاء الأشخاص ويُعاملون على أنهم أقل إنسانية؟

إضافة إلى إلقاء الضوء على النظام العقلي، انتقدت بلاي النظام الطبي ككل. خلال تجربتها القصيرة في مستشفى بلاكويل، اكتشفت أن الأطباء كانوا متسرّعين في التشخيص والخروج باستنتاجات دون النظر بعمق في حالة المريض أو إجراء فحوصات دقيقة. هذه المعاينة السطحية لأعراض المرضى تُظهر فشل النظام الطبي في تلك الفترة، حيث كان الأطباء غير مهيئين للتعامل مع المرضى بطريقة إنسانية أو علمية.

الخلاصة:

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو أكثر من مجرد قصة عن التحقيق الصحفي؛ إنه دعوة إلى الإنسانية والإصلاح. من خلال شجاعة نيللي بلاي، نرى كيف يمكن لشخص واحد أن يحدث تغييرًا كبيرًا في المجتمع. الكتاب يسلط الضوء على قضية لا تزال مهمة حتى اليوم: كيفية التعامل مع أولئك الذين يعانون من اضطرابات عقلية، وكيف يجب أن نعيد التفكير في الأنظمة التي تسيء إليهم بدلاً من مساعدتهم.

شارك الصفحة

اختيار الجنون: مراجعة لكتاب: عشرة أيام في نزل الجنون قراءة المزيد »

أبو العيناء: سيرةُ ضريرٍ صلف اللِّسان

قبل سنتين من الآن كنت مكبًّا على قراءة كتابٍ سَنِيٍّ يُعدُّ من أطايب التراث العربي الإسلامي؛ وأعني: “البصائر والذّخائر” لفيلسوف الأدباء أبو حيان التوحيدي. وكان مما لاحظته في هذا الكتاب الفخيم تكرُّرَ اسمٍ في مضمار ذكر التوحيدي لحفنةٍ من الطرائف المسلية والنوادر اللطيفة التي تبثُّ الحبور في النفس، وتُلطّفها، وتبعث في الصّدر عزيمةً وإرادةً كبيرتين على مواصلة الغور في هذا الكِتاب الدسم. وهذا الاسم كان هو أبو العيناء.

بحثت في الشبكة العنكبية فوجدتُ تعريفًا يختزلُ سيرته، وبعض المقالات المتناثرة التي عرفتُ من خلالها أنّه يوجد ديوانٌ يتيم جمع أشعاره المرصّعة بالأساليب البلاغية والمشبّعة بالحِكم التي تنمُّ عن خبرةٍ عاليّةٍ ببلاوى الدّهر وتصاريف الأحوال، وتشي أيضًا بمعرفة واسعة بطباع الناس سواءً أكانت محمودة ومستحبة، أو مذمومة يتكرّه منها كلّ من ملك النّزر اليسير من التعقُّل، ويُنبئ هذا الديوان بأنّ صاحبه ناثرٌ سجّاع وشاعرٌ جدلٌ، بيِّنُ الإشارة ودقيق العبارة، يُجيدُ التلاعب باللفظين: الجزل والشائن، وتلك مزيّةٌ لا نجدها عند غالبية الكُتَّاب في التراث.

انصرمت الشهور ولم أجد هذا الديوان إلى أن ساقتني الأقدار فعثرتُ عليه صدفةً في إحدى المكتبات الجامعية العربية، فكان ذلك اليوم بمثابة عيدٍ عندي، وصار لساني يلهجُ بالقول الذي قرضهُ الشّاعر: “هذا هو العيد فلتصف النفوس به وبذلك الخير فيه خير ما صنعا”. وحدها الكتب النادرة والمكتظّة بالنُّضرة والألق من تستحقُّ أن يُنشد عنها هذا البيت الشِّعري.

عكفتُ عكوف الزاهد على قراءة هذا الديوان الصغير الذي يمتد على مساحة 144 صفحة من القطع الكبير، وقد أسدى المحقق الجليل أنطوان القوّال خدمةً جليلة للتراث العربي الإسلامي حينما اعتنى بتحقيقه والتعليق عليه. وجدتهُ ديوانًا كيّسًا، مرتَّبًا، ومليئًا بالأشعار الحكيمة المتأرجحة بين اللغة الفتّانة، وحينة أخرى يبدو صاحبه وكأنّه مهتجسٌ بالحكمة والقضية أكثر من الاهتمام باللغة؛ فتصيرُ هذه الأخيرة متنابذة مع التي سبكَ بها أشعارًا أخرى؛ بيد أنَّه بالرغم من ذلك لا يقع في مصيدة الإملاق الجمالي. أفرد المحقق قسمًا كاملًا لكتاباته الشّعرية التي تنبئ بأنّ صاحبها كان حصيفًا على بينةٍ من الأمور، مرتَّبَ الأفكار، ذليق اللسان لا يُهادن من تجرَّأ عليه، وصريحًا متبرِّمًا من الختل والمخادعة، لا يستحبُّ إلّا الصدق والإيثاق، وإن أحبَّ شخصًا تودّد إليه، وإن كره آخر غمرهُ بالقول البذيء ولفَّه بالعبارات المنحطة المنتقاة بعناية فائقة من قاموس الكلام المقذع. وأمثال أبو العيناء هم في انقراضٍ متواصل؛ إذ عمَّ زمننا الضّنين هذا وبشُ القوم البارعين في المداهنة والمماذقة والتزلف، لا يفترون عن إظهار المحاسن قصد بلوغ مآرب ذاتية وبعدها يتلونون مظهرين كومةً من المقابح التي لا تماري في أنْ يستبشعها كلُّ عاقلٍ سويٍّ.

انطوى هذا الديوان على ثلاثة أقسام: الأول كان في غاية التكثيف والاختزال؛ إذ روى فيه المحقِّقُ سيرة أبو العيناء وتنقله من الأهواز التي تعرَّف فيها على الوجود، ثم انتقاله إلى البصرة التي عاش فيها ردحًا من العمر قبل أن يُداهمه فيها المنتصرُ على الإنسان دائمًا: الموت. تتلمذَ على يد أساتذة أجلاء وشعراء لامعين من قبيل: الأصمعي، وكان ضريرًا يُعاني وَبيْلَ الاحولال، يرتحلُ في درب الحياة متكئا على حكمتهِ وفصاحته وملاحة عبارته، ومستندًا أيضًا على رجاحة عقله وأحوذيّته البائنة وسلاطة لسانه التي كان يخشاها ناسٌ كثرٌ ومن بينهم علية القوم.

فالخليفة العباسي العاشر المتوكّل كان من بين الذين احتووا أبا العيناء واهتمّ به وأغدق عليه بجوده وجعله زاهيًا في قصره، غير أنّه كان دائمَ التوجس من قوة لسانه؛ فالقوة هنا ليست كناية على الفصاحة والبلاغة وحسن القول، بل توجسه كان من البذاءة وصفاقة القول. نقرأ في هذا المضمار ما ورد في ديوان أبو العيناء:

“لمَّا أُدخلتُ على المتوكل عابثني جلساؤه فلما برزت عليهم قال المتوكل: ادفعوا إليه عشرة آلاف درهم اتقاءً للسانه. فقلت: قد قتلتني والله يا أمير المؤمنين. قال لي: ويحك، وكيف ذلك؟ قلتُ: لأنَّ من خِفتهُ لا يعيش. فقال: ليس خوف فَرَقٍ، ولكن خوف صيانة”.

ولعل الباعث على الانذهال في سيرة أبو العيناء هو أن أساطين النثر العربي المائزين الذين نُصِّبوا في مصاف ألمع من طوَّع اللغة العربية وتلهوا بها هم أيضًا وجدوا أنفسهم خانعين أمام صريمة لسان أبو العيناء، وأضرب هنا من باب التمثيل حكايته مع الجاحظ؛ حيث قزَّم منزلة هذا الأخير أمام الناس وجعلهُ عاجزًا عن مجاراته بعدما طنزَ صاحب كتاب “البُخلاء” من العاهة التي يُعاني منها أبو العيناء:

“قال الجاحظ مقابلًا بين اسمي الرجلين وكنيتهما ولقبيهما: علمتُ أنّ أبا القاسم أحسن من عمرو بن بحر، وأنّ أبا عبد الله أحسن من أبي عثمان. ولكن الجاحظ أحسن من أبي العيناء. فقال هذا الأخير: هيهات. جئت إلى ما يخفى من أمورنا ففضّلتني عليك فيه، وإلى ما يُعرف، ففضّلت نفسكَ فيه. إنّ أبا العيناء يدل على كنيةٍ، والجاحظ يدلُّ على عاهةٍ. والكنية، وإن سمجت، أصلحُ من العاهة، وإن ملحت”.

هذه الصلافة التي طبَعت لسان أبي العيناء جعلته يظفر بنعت “الوقح”؛ إذ لم يسلم منه أحد، وكان لسانه يقطرُ بالعبارات الجامعة للألفاظ المُسكتة والنّاسفة لمنزلة للآخر، وقد ردّ على من نعتوه بذلك قائلًا:

“أمَا علمتم أنّ للحياء شرائط ليست معي واحدة منهن؟ أولهنّ العين، ولستُ أبصرُ، والثانية اجتناب الكذب، وأنا من رهط مسيلمة الكذاب، والثالثة أنّ النبي محمد قال: الحياء من الإيمان، فأيُّ إيمانٍ ترون معي؟”.

والقسمين الثاني والثالث خُصِّصا لشعره الذي كان في مجملهِ ردًّا على أناسٍ زاحموا أبا العيناء وكلَّفهم ذلك سماع قوله القميء والمستهجن، ثم لأخباره الطريفة ونوادره المستظرفة مع الخليفة المتوكل والقضاة وكتّاب الدواوين وأفناء البشر أيضًا.

اجتمع في نوادر أبي العيناء ما تفرق في غيرها؛ إذ زاوج بين البصيرة الثاقبة في النظر إلى أمور الحياة وبين الحكمة في التصرف، وجمع بين رقّة البيان وفخامة المعنى وطراوة اللفظ والقدرة الهائلة على التفكُّه والتندر وبين الجلافة وجهامة اللسان، وامتلك أيضًا مقاليد الحكي والتناظر؛ إذ كان يروي مروياته وأخبار الآخرين باستحكامٍ كبير يبيّن براعته في التنقل الرشيق من واقعة لأخرى، وكان يرمي من ذلك تلطيف الجو وجعل القلوب مغتبطة، لذلك نالَ باقتدار صفة: فاكهة مجالس ندمائه وخلّانه.

فضلًا عن أنه كان يردُّ بأجوبةٍ مسكتة في غاية العجل لا تخفى على كلّ من حاول التصغير منه أو التطاول عليه أو المسّ بتوقيره، فكلّ من ارتأى أذيّته فقد حكم على نفسه بسماع ما قد لا يستحسنهُ، ولربما يصل الأمر بأبي العيناء إلى لسع الآخر بقوارص الكلم وقول عبارة جارحة تقصمُ ظهره وتنغرسُ في صدره آبيةً أن تبرحه بعدما تعجزُ السّنون على انصرامها على تذويبها. وهذا تأكيدٌ وتشاكلٌ مع ما ورد في كتاب البصائر والذخائر: “جرحُ اللسان أعمقُ من جرحِ اليد”. يُقرُّ ياقوت الحموي في مصنّفه الرّحيب بذلاقة وعذوبة قول أبو العيناء وسطوة لسانه. قال عنه: “وكان فصيحًا من ظرفاء العالم، آيةً في الذّكاء واللسن وسرعة الجواب”.

هل القوّة التي توفّرت في لسان هذا الأديب الظريف هي تعويضٌ على الفقد الذي حلّ بعينيه؟ ألم يذكر الماوردي في كتابه أدب الدّنيا والدّين “أنّ “العينان أنمُّ من اللسان”؟ هل للسان مقدرةٌ تفوق العين؟ الجواب على الأرجح يقتضي الكثير من الحذر لأنّ التسليم بحكمٍ قطعي هو مُجازفةٌ حقيقيّة. يظهر من خلال تجربة أبي العيناء الذي عاقره الضرُّ في عينيه أنّه لم يستسلم لهذا الداء الوبيل بل جابه تقلُّبات الحياة وعرف كيف يُعوّض هذا الفقد الذي لحقه، وانكبَّ على الأدب شعرًا ونثرًا، حفظًا وقرضًا، ونهل من تراث القدامى، وعرف طرائفهم وأخذ يرويها بسخاء، وحينة أخرى يستدعي قدراته التخييلية ليبتدعَ قصصًا لم يقرأها في أيّ مصنفٍ من ذي قبل، وهذا ما منحه التميز والتفرد، وجعل كثيرين من الساسة والمسؤولين على الرعية أن يغمروه بالعطف والحدب، ويجعلوه متطامنًا في أحضانهم، ليستغلّ الفرصة وينشر الفرح في الندماء وكلّ من حظيَّ بمُجالسته.

والأمتع أنّ أبا العيناء صار هو والطّرائف مترادفين؛ إذ لا يكاد يمرُّ يومٌ ولا يُصادفُ شخصًا فيُساجله ويفحمه بعباراته الوجيعة-المضحكة-المسكتة التي تُظهر سرعة البديهية عنده وأنّه غير فدمٍ يُعاني ثقل الفهم وعسر الاستيعاب؛ فيرتقي الحادث إلى مرتبة طرفة تروى عنه. لنأخذ من باب التمثيل بعض الطّرائف عنه: “قالتْ قينةٌ لأبي العيناء: هبْ لي خاتمك وأذكرك به. فقال لها: اُذكري أنكِ طلبته منّي ومنعتُكِ”، ونجد في موقعٍ آخر من الدّيوان: “مرَّ أبو العيناء يومًا بباب عبد الله بن منصور، وكان يكرهه. وكان عبد الله مريضًا، وقد صحَّ. فسأل غلامهُ: كيف خبره؟ فقال: كما تُحبّ. فقال أبو العيناء: ما لي لا أسمع الصراخ عليه”! وذات مرّة تبجّحَ أبو العيناء على قينةٍ بفطنته المتّقدة وصفاء لغته وفشو اسمه في صفوف القاصي والداني، فلمّا رأته استقبحت منظره، وتحاشته، فكان ذلك أن هيّج بداخله الغضب إزاء تصرفها ذاك وقرضَ في وجهها البيتين الآتيين:

“وشاطرةٍ لما رأتني تنكَّرتْ   وقالت: قبيحٌ أحْوَلُ ما له جسمٌ

فإنْ تُنْكِري منّي احولالًا فإنني   أديبٌ أريبٌ لا عييٌّ ولا فَدْمٌ”.

لمّا سمعت القينة هذين البيتين شرعت في إحباط عُنجهيته تلك بقولٍ لم يتوقعهُ على الإطلاق: “إنّي لم أردكَ أن أوليّك على ديوان العراق”.

لقد كان أبو العيناء يُواربُ الحياة العصيبة بالسخرية والتندر وكأنّه اتخذهما دواءين لداءين عاصفين هما: العَمى، والحمد لله أنّه عانَى العمى العُضويّ، ولم يكن عَمِهَ البصيرة مثل كثيرين في هذا الزمن، والفرق بينهما بائنٌ لا يخفى على أحدٍ. والداء الثاني هو أنّ شظف العيش كان ينهشهُ ولم يعرف سبيلًا إلى الرفه ورغد الحياة إلّا حينما عانقته الشُّهرة وصار يُشار إليه بالبَنان؛ فأخذه بعض الوزراء والقضاة للعيش تحت كنفهم، وقبل ذلك عاش في قصر المتوكل ليتنعم ببحبوحة العيش، ولكي يُجابه كلّ هذا البؤس الذي عمَّر في حياته نزع إلى السخريةوالتي تظهر بشكلٍ أوضح في الرسالة الآتية التي بعثها إلى صديقٍ له تقلّد مهمةً جسيمة، والحقُّ أنّها رسالةٌ كانت عامرةً بالتلميح العابر والسّريع والملغوم وفعل أبو العيناء ذلك مُحتميًا بأحابيل اللغة التي منحته فسحةً شاسعة للنّط على الترميز والإيماء المُحتاجين للتروّي والتبصُّر لاستكناه مرامي أبا العيناء:

أمّا بعد فإنّي أعظكَ بموعظة الله تعالى، لأنّك غنيٌّ عنها، ولا أخوِّفك إيّاه لأنك لا تخافهُ… واعلم أنّ الخيانة فطنةٌ والأمانة خرقةٌ، والجمعُ كيسٌ والمنع صرامةٌ، فاذكر أيام العُطلة في حال الولاية، ولا تحقرن شيئًا صغيرًا فالذود إلى لذود إبل، والولاية رقدة، فتنبّه قبل أن تنبَّه… وما هذه الوصية كما أوصى به الحكماء، ولكنّي رأيتُ الحزم في أخذ العاجل وترك الآجل”.

كيف كان سيعيشُ أبو العيناء لو لم يكن لوذعيًا قويمَ اللسان، طريّ اللفظ، بديع العبارة، سيئ اللسان، ألمعيًا في السّرد والنثر والشِّعر، دؤوبَ السعي إلى إطراب ندمائه بالنوادر والطرائف المُبيدة للهمّ والغمّ، ميالًا إلى السخرية والتفكه، مقبلًا بشكلٍ ظاهرٍ على الحياة غير متبرمٍ منها رغم أنّه فاقدٌ لنعمة البصر وكأنّه كان بهذا الإقبال يُطبِّقُ وصيَّةَ الكِندي في رسالته الشهيرة “في الحيلة لدفع الأحزان” التي قال فيها: الحزن والسرور ضدان لا يثبتان في النفس معا… فينبغي إذن أن لا نحزن على الفائتات ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضيةً بكل حالٍ، لنكون مسرورين أبدًا“؟. على الأرجح إنّه كان سيظلّ ضريرًا حاردًا على وضعه، ومعانقًا الفاقة وضيق الحال والتكفف، وسيصطبر مضطرًا على تكالب الدهارس عليه، ولن يحظى بالمساناة التي من شأنها أن تشمله بالبهجة، ولن يظفر بأكلٍ باذخ على سفرةٍ تسلبُ العقل واللب، أو ينال بدنه سمتًا حسنًا، أو يحتويه مكانٌ يكون مرتعًا للوسن حينما يستحليه ويقيه نكزات الشمس والصَّرَدِ. لا غرو إذا قلت إن هذه الحظوة التي سَعِد بها أبو العيناء جرّت عليه طائفةً من الحسدة الذين تمنوا لو كانوا مكانه، وخامرتهم مأربة أن يبعدوه عن قصر الخليفة المتوكل، وهذا ديدن الحُسَّاد؛ إذ كلّما حسدوا امرأ روّجوا عنه الافتراءات، وحاكوا له المكائد والدسائس، ومضوا في تشويه سمعته وجعلِه سافرًا في صفوف الناس، وقد يتعدّون ذلك إلى الإيذاء البدني، وهذه بعضٌ من مثالب الحسّاد الذين وصفهم التوحيدي بأنّهم “مناشيرٌ لأنفسهم”، ولعل أَجَلَّ مثال على هذا الحسد هو ما هو ما قرضهُ الشّاعر أبو علي البصير عن أبي العيناء حيث قال:

“قد كنتُ خِفتُ يد الزمان   عليك إذا ذهب البصر

ولم أدرِ أنَّك بالعَمى   تغنى ويفتقرُ البشر”.

شارك الصفحة

أبو العيناء: سيرةُ ضريرٍ صلف اللِّسان قراءة المزيد »

التسلية بالعلم

Picture of معاذ الأنصاري
معاذ الأنصاري

مؤسس مبادرات قرائية

pexels-osmanozumut-14493661

مقدمة:

كان العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله- في زيارة علاجية للبنان لما وقع بين يديه كتاب ديل كارنيجي “دع القلق وأبدأ الحياة”، فأُعجب به وقال أنه “رجل منصف”.

وقد ألف العلامة السعدي على ضوء هذا الكتاب رسالة صغيرة الحجم كبيرة المعنى عظيمة النفع قد سماها ” الوسائل المفيدة للحياة السعيدة”.

ومن الأسباب التي عقد لها العلامة السعدي -رحمه الله- فصلاً في دفع القلق وتحصيل السعادة سماه: الاشتغال بعلم من العلوم النافعة.

وقد كنت قيدت نصوصاً وافقت هذا المعنى على فترات كلما تسور التردد والملل على الحزم، وهذه منها:

التسلية بالعلم عن الفقر:

جاء في ترجمة أبي الوليد الباجي: “الإمام، العلامة، الحافظ، ذو الفنون، القاضي، أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، الأندلسي، القرطبي، الباجي، الذهبي، صاحب التصانيف، أصله من مدينة بطليوس، فتحول جده إلى باجة- بليدة بقرب إشبيلية – فنسب إليها، وما هو من باجة المدينة التي بإيفريقية.

ولد أبو الوليد: في سنة ثلاث وأربع مئة”.

وقد عانى رحمه الله في طريق الطلب كما يقول فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه مفهوم العالمية: “الفقر وشظف العيش، وقاسى لواعج الحاجة والحرمان في رحلته إلى المشرق ببغداد، وكذلك بعد عودته إلى موطنه الأصلي بالأندلس؛ فاشتغل بيده حيناً واستأجر نفسه حيناً آخر بل اضطر للتكسب بشعره أحياناً أخرى إلى أن اكتشف الناس تفوقه العلمي ونبوغه الفقهي فكان من أمره ما كان وهرع إليه العلماء والأمراء، ثم صار ( ذا الوزارتين ) في الأندلس… حتى جاء بمصنفات في الفقه، والحديث، والأصول، والجدل، والمناظرة، ما لا يجود الزمان بمثله، ولا يتمخض التاريخ بكفئه”.

 ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة وجرت بينهما مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: “تعذرني، فإن أكثر مطالعتي كانت على سُرج الحُرَّاس”.

توفي رحمه الله عام ٤٧٤هـ.

التسلية بالعلم عن المرض:

شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ترجم له الحافظ البزار – رحمه الله- ترجمة حسنة مختصرة سماها ” الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.”

قال عنه الإمام ابن القيم-رحمه الله-:

“وحدثني شيخنا [ابن تيمية] قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض.

فقلت: لا أصبر عن ذلك، وأنا أُحاكمك إلى علمك:

 أليست النفسُ إذا فرحت وسُرّتْ قويت الطبيعة، فدفعت المرض؟ فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تُسَرِّ بالعلم فتقوى به الطبيعة، فأجد راحةً.

فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا. أو كما قال”.

توفي رحمه الله عام ٧٢٨هـ.

التسلية بالعلم عن الأهل والوطن:

محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي: علامة عصره في اللغة والأدب.

قال عنه الأديب طه حسين  :

“كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريباً للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سنداً ومتنا عن ظهر غيب”.

أخذ العلم في موريتانيا عن أبيه وبعض أقاربه، كما أشار في حماسته:

“غذاني بدر العلم أرأف والدٍ

وأرحم أم لم تُبِتني على غم

ولم يفطماني عنه حتى رويته

عن الأب ثم الأخ والخال والأم.

وعن غيرهم من كل حبر سيمدع

تقي نقي لا عيي ولا فدم”.

 ثم ارتحل إلى المشرق وحج، وصار يتردد في الاقامة بين مكة والمدينة إلى أن قصد القسطنطينية، فأكرمه السلطان عبد الحميد وعرف قدره وأوفده ١٣٠٤هـ إلى باريس ولندن والأندلس للاطلاع على ما في خزانتها من الكتب العربية النادرة.

وقد كتب لنفسه رحلة علمية أسماها “الحماسة السَّنِيّة الكاملة المَزِيّة فى الرحلة العلمية الشنقيطية التُّركزية”، ضمنها كما يقول أحمد تيمور باشا: “شيئاً من أخباره وقصائده وردوده على من خالفه في بعض المسائل العلمية”، منها قصيدة في مدح العلم والتحفيز له بدأها بقوله:

“ولـمَّا طعمتُ لذَّة العلمِ صيَّرتْ

سواها من اللَّذات عندي كالسُّمِّ

ولـمَّا عَشِقتُ العلمَ عشقَ درايةٍ

سلوتُ عن الأوطان والأهل والخِلْمِ

ولـمَّا علمتُ ما علمتُ بغربنا

ترحَّلتَ نحو الشرقِ بالحزم والعزمِ

ولم يَثْنِ عزمي نهيُ حسناءَ غادةٍ

شبيهةُ جُمْلٍ بل بُثَينَةَ بل نُعْمِ

ولم يُعْمِ قلبي حبُّ عذراءَ كاعبٍ

وحبُّ العذارى قد يُصِمُّ وقد يُعمِي

رحلتُ لجمع العلم والكتب ذاهبًا

إلى الله أبغي بسطةَ العلمِ في جسمي

وأمعنتُ في إدراك ما رُمتُ نيلَهُ

فأدركتُ ما أدركتُ بالصَّبرِ والحزمِ

وصرتُ بما أدركتُ من ذَينِ هاديًا

بشمسٍ على شمسٍ ونجمٍ على نجمِ”.

توفي رحمه الله ١٣٢٢هـ.

التسلية بالعلم عن الشقاء النفسي:

مصطفى لطفي المنفلوطي أحد أعلام الأدب العربي في عصر النهضة، يقول عنه أحمد حسن الزيات: “وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وفي أمريكا، قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنوناً من القول، وضروباً من الفن، لا نعرفها في أدب العرب، ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها، كما أجمنا أساليب المقامات، من الألفاظ المسرودة، والجمل الجوف، والصناعة السمجة، والمعاني الغثة… وحينذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه [صحيفة] المؤيد، إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النعيم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد، مالم يرد في فقرات الجاحظ وسجعات البديع”.

من مؤلفاته: النظرات، العبرات، في سبيل التاج، الشاعر، ماجدولين، الفضيلة.

نشأ المنفلوطي في بيت علم وقضاء لكن كما يقول محمد أبو الأنوار في دراسته الرائدة عن المنفلوطي: “لكن الأمور لم تستقم بين والده وأمه، فقد طلقت هذي الأم، وتُرى إلى أي حدٍ أثرت هذه الحادثة على نفس حساسة رقيقة تبكي للشيء تتخيله وتئن حتى للوهم يمر بها؟ الذي لا شك فيه أن هذا السبب لعب مبكراً دوره في تعميق إحساس المنفلوطي ببؤس الحياة، وأقنعه أن الخير فيها عارض ومن أجل هذا أحس مأساة الآخرين”.

يقول المنفلوطي: وكنت إنساناً بائساً لم يترك الدهر سهماً من سهامه النافذة لم يرمني به ولا جرعة من كؤوس مصائبه ورزاياه لم يجرعني إياها فقد ذقت الذل أحياناً والجوع أياماً، والفقر أعواماً، ولقيت من بأساء الحياة وضرائها مالم يلق بشر”.

ويذكر أثر تعلقه بالأدب والتسلية به: “فكنت أجد في نفسي من اللذة والغبطة بذلك كله ما لا يقوم به عندي كل ما ينعم به الناعمون من رغد في العيش ورخاء، حتى ظننت أن الله سبحانه وتعالى قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه لما علم أنه لم يكتب لي في لوح مقاديره ما كتبه للسعداء والمجدودين من عباده من مال أو جاهٍ أعيش في ظله وأنعم بثمرته، زخرف لي هذا الجمال الخيالي البريء من الريبة والإثم، وزوره لي تزويراً بديعاً، ووضع لي فيه من الملاذ والمحاسن مالم يضع لغيري، رحمةً لي وإرعاءً علي أن أهلك أو يهلك لبي بين اليأس القاتل والرجاء الكاذب”.

توفي رحمه الله ١٣٤٢هـ ١٩٢٤م.

التسلية به عن الإعاقة الحركية:

الإمام العلامة محمد البشير الابراهيمي، ولد عام 1306هـ الموافق ١٨٨٩م.

قام على تربيته وتعليمه عمه العلامة محمد المكي الابراهيمي، ولم يفارق تعلمه في بيت أسرته.

كانت له حافظة عجيبة وعرف عمه كيف يصرفها فيه، “فحفظ القرآن حفظاً متنقنا وهو في الثامنة، وحفظ معه في تلك السن، ألفية ابن مالك وتلخيص المفتاح، وما بلغ العاشرة حتى كان يحفظ ألفيتي العراقي في الأثر والسير

ونظم الدول لابن الخطيب ومعظم رسائله المجموعة في كتابه ريحانه الكتاب، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كتاب المشرق كالصابي والبديع، مع حفظ المعلقات والمفضليات وشعر المتنبي كله وكثير من الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهر كثيراً من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظ كثيراً من كتب اللغة كاملة كالإصلاح والفصيح، ومن كتب الأدب كالكامل والبيان وأدب الكاتب، ولقد حفظ وهو في تلك السن أسماء الرجال الذين ترجم لهم نفح الطيب وأخبارهم وكثيراً من أشعارهم.

ويقول كنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد ممّا يحقق ما نقرأه من سلفنا من غرائب الحفظ”.

ويقول عنه الشيخ خبيب الواضحي في مناقشات آثاره: “كان الإبراهيميُّ فيلسوفًا في الحياة، هو وابنُ باديس، وكانا على درجةٍ من الوعي، والبصيرةِ بطرقِ الإصلاحِ، عاليةٍ، وعلى همّةٍ في ذلك ماضيةٍ، وكذلك كان أبناءُ ذلك الجيلِ، شحَذتْهم إكراهاتُ الزّمان، ونجَّذَهم ضيقُ الأحوال، فانتهوا إلى أشياءَ نحن اليومَ نَلَغُ فيها وما زلنا لا نفهمُها”.

يقول الإبراهيمي رحمه الله: “ولما بلغت التاسعة أصيبت رجلي اليسرى بمرض، وكان الإهمال والبعد عن التطبيب المنظم أثر في إصابتي بعاهة العرج في رجلي، وقد أنساني ألمها والحزن عليها ما كنت منكباً عليه من التهام كتب كاملة بالحفظ فكان لي في ذلك أعظم سلوى عن تلك العاهة”.

توفي رحمه الله في ١٣٨٥هـ الموافق ١٩٦٥م

التسلية به عن نكبة الحروب والنزاعات:

العلامة محمد الله دراز -رحمه الله- من خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين.

ولد رحمه الله يوم ١٨ نوفمبر ١٨٩٤م في محافظة (كفر الشيخ) المصرية، ونشأ في أسرة ذات دين وعلم وخلق.

كان والده الشيخ عبدالله دراز (ت:١٩٣٢م) فهو من علماء الأزهر المبرزين في علم الأصول وفقه اللغة، وهو شارح كتاب الموافقات للإمام الشاطبي.

حفظ دراز القرآن وهو فتى يافع لما يكمل بعد العقد الأول من سنيه، ثم انتقل إلى الاسكندرية عام ١٩٠٥م حينما كلفَ الإمام محمد عبده والدَه بالإشراف على تأسيس معهد أزهري هناك، والتحق به دراز وحصل الشهادة الابتدائية والعالمية متفوقاً على دفعته.

وكانت أول تجربة مهنية له هي في التدريس الذي بدأه في المعهد ذاته فور تخرجه من عام ١٩١٦م وهو لا يزال في أوائل العشرينات من عمره، وكان يدرس في المساء الفرنسية حتى أتقنها في ثلاث سنوات.

حصل على منحة دراسية بجامعة السوربون، درس خلالها بمثابرة عيون الفلسفة الغربية، مقارنًا لها بما حصّله من دراسة التراث الإسلامي.

وكانت أطروحته لشهادة الدكتوراة بعنوان “أخلاق القرآن”، وأُعجب بها كبار المستشرقين مثل لويس ماسينيون، وبروفنسال.

كان عزيز النفس لم تثنه أهوال الحرب العالمية الثانية وخضوع فرنسا للاحتلال النازي من متابعة دراسته بكل مثابرة، ويحكي نجله محسن أن أباه “رفض مراراً عروض من السفارة المصرية بباريس بإعادته وأسرته إلى مصر خوفاً على حياتهم، فكان رده دائماً “إن مهمتي لم تنته بعد” ولم يقبل العودة إلى مصر قبل نهاية دراسته، وإن كان قد اضطر إلى إرسال أسرته بعد إصابة زوجته في قصف أمريكي لفرنسا المحتلة يوم ٨ يونيو ١٩٤٨م”.

توفي رحمه الله بمدينة لاهور الباكستانية عام ١٩٨٥م.

التسلية به عن الأرق:

هل سمعت بـصامويل أنرماير؟ يصفه ديل كارنيجي بأنه “محام ذائع الصيت، ومفخرة جامعة نيويورك، لما بلغ الحادية والعشرين كان دخله السنوي يقدر بخمسة وسبعين ألفاً من الدولارات، وفي عام ١٩٣١م تقاضى في قضية واحدة مليوناً كاملاً من الدولارات وقد عُمّر هذا الرجل حتى بلغ الحادية والثمانين”.

لما التحق بالجامعة كان يشكو من علتين: الربو والأرق،” ولم يكن يلوح له أن هاتين العلتين ستفارقانه، من أجل ذلك عوّل صمويل على استخلاص ما عساه يكمن من الخير في علته، لقد كان إذا أراد النوم فاستعصى عليه لم يلح في الطلب، بل يقوم إلى مكتبته وينكب على الدراسة، فماذا كانت النتيجة؟ لقد تخرج حائزاً على مرتبة الشرف ولازمه القلق حتى بعد أن تخرج في الجامعة ومارس المحاماة ولكنه لم يمتثل للقلق مطلقاً، وعلى الرغم من ضآلة حظه من النوم كان محتفظاً بصحته وظل قادراً على بذل الجهد، بل كان يبذل مجهوداً يفوق ما يبذله أقرانه من المحامين، ولا عجب فقد كان يعمل بينما زملاؤه نيام”.

خاتمة:

ظلت هذه الحقائق كرامة “يشترك فيها المؤمن وغيره” كما يقول العلامة السعدي رحمه الله، وقد حاول علم النفس تفسيرها كما ينقل ديل كارنيجي بأنه “من المحال لأي ذهن بشري، مهما يكن خارقاً أن ينشغل بأكثر من أمر واحد في وقت واحد”، لذا يقول كارنيجي نفسه بأن “الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق”.

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.

التسلية بالعلم قراءة المزيد »

الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا

Picture of الكاتب: بو سيو
الكاتب: بو سيو

ترجمة: يارا عمار

“بو سيو بطلٌ في المناظرات نال البطولة العالمية مرتين، وكان مدربًا سابقًا لفريق المناظرات الوطني الأسترالي واتحاد مناظرات كلية هارفارد. يقدم سيو في هذه المقالة خمس أفكار رئيسية من كتابه الحديث “الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا”.

١. المناظرات فرصة للتعبير عن النفس:

لم أكن أتحدث الإنجليزية عندما انتقلت من كوريا الجنوبية إلى أستراليا وأنا في الثامنة من عمري. سرعان ما أدركت أن أصعب جزء في التغلب على الحواجز اللغوية هو التكيف مع المحادثات اليومية، وأنّ أصعب المحادثات في التكيف معها هي الخلافات. هنا حيث تشتد الانفعالات وتنهار أنماط الحديث العادية ويقاطع المتحدثون بعضهم بعضًا.

شعرت أن اختلافاتي عن أقراني -إذا ما انكشفت- ستجعلني شخصًا دخيلًا بينهم، وستقوّض أي شعور بالانتماء حققته في هذا المكان الجديد. ولذلك عزمت على أن أكون متوافقًا للغاية، وأن أبتسم وأومئ برأسي، وأن أحتفظ بمعظم أفكاري لنفسي. ثم أصدر معلّمي في الصف الخامس قرارًا بأن على الجميع التزام الصمت عندما يتحدث أحد الطرفين في المناظرات، وكان هذا ما أخرجني من حالة العزوف عن خوض النزاعات. بدا الأمر نوعًا من الخلاص بالنسبة لشخص اعتاد على مقاطعة كلامه واستبعاده من المحادثات.

لقد وجدت في فريق المناظرة هيكلًا ومجتمعًا وثروة من المعرفة، مما مكّنني كل ذلك من رفع صوتي والتعبير عن نفسي بوضوح وثقة.

٢. كل حجة لا بد أن تثبت صحة ادعائها وأهميته:

الحجة ليست مجرد مجموعة عشوائية من الأفكار أو الصيحات، وليست تكرارًا لكل ما يراود ذهنك فيما يخص موضوعًا معينًا، بل هي أداةٌ لتغيير الآراء، ولا بد أن تثبت أمرين أساسيين: صحة ادعائها الأساسي، وأهميته.

تخيل أنك تدّعي أن علينا الامتناع عن أكل اللحوم لأنّ النباتية تفيد البيئة. حتى تستقيم هذه الحجة، عليك أولًا أن تثبت أنّ كون الشخص نباتيًا -في الواقع- مفيد للبيئة، وإلا فقولك إن إصلاح البيئة يتطلب الامتناع عن أكل اللحوم ادّعاءٌ لا أساس له. ثانيًا، السؤال الأساسي الذي يجب طرحه في هذه الحجة هو: لماذا يجب أن نعطي الأولوية لسلامة البيئة على متعتنا الشخصية؟

غالبًا ما يتجاهل الناس الجزء الثاني. لا يكفي أن تعرض وجهة نظرك، بل لا بد أن تجعلها ذات قيمة عند الطرف الآخر. هذا يستلزم السؤال عن سبب تغير رأيك وسلوكك بناءً على صحة هذه الحجة.

٣. اختر معاركك، وانتصر فيها:

عندما تبدأ في تعلم استراتيجيات المناظرة الفعالة وأسرارها، ستبدو لك كل عبارة مرفوضة يقولها الناس فرصةً للجدال وإثبات وجهة نظرك “فإن كنت لا تملك من الأدوات سوى المطرقة، فسترى كل شيء أمامك وكأنه مسمار”. لكن من المعلوم أن المحادثات والعلاقات الفعالة بها مواضع اتفاق إلى جانب مواضع الاختلاف. إن كانت القدرة على حُسن الجدال وإثبات وجهة النظر مقياسًا للذكاء، فإنّ الحكمة تكمن في معرفة متى تخوض الجدال ومتى تُحجم. عالجت هذه المشكلة بوضع قائمة مرجعية أطلقت عليها اختصارًا: RISA.

RISA : هل الخلاف حقيقي (Real) ومهم (Important) ومحدد (Specific) ومتوافق (Alignedعلى سبيل المثال، قبل أن تدخل في أي خلاف اسأل نفسك هل هذا الخلاف خلاف حقيقي أم أنه إساءة متوهمَة أو شيء من هذا القبيل؟ ثانيًا: هل الخلاف مهمكفاية حتى يبرّر الجدال؟ ثالثًا: هل الخلاف محدد بحيث تستطيع أن تحرز تقدمًا في الوقت المحدد؟ رابعًا: هل الطرفان متوافقان في أهدافهم من الخلاف؟ أم أن الطرف الآخر -على سبيل المثال- يسعى إلى إزعاجك فحسب؟

يجدر ملاحظة أن الالتزام بهذه القائمة المرجعية لا يعني الوصول إلى نتيجة إيجابية بالضرورة، لكنه يشير إلى تحقق الشروط التي تساهم في ذلك. تأنَّ ولا تتسرع بالخوض في الخلافات من منطلق الكبرياء أو الدفاع عن النفس، وحينها ستركز على الخلافات المثمرة في الغالب.

٤. الأفعال تولّد التعاطف.

عندما كنت صغيرًا كنت أكره أن يُطلب مني أن أتعاطف مع زملائي في الفصل لأني لم أكن أعرف معنى “التعاطف”. البعض يصف التعاطف بأنه حالة ذهنية سحرية تعتريك تلقائيًا عندما تنظر في أعين الشخص الآخر. ويصفه آخرون بأنه فضيلة يملكها خير الناس، ويأمل الباقون في بلوغها. لكن المناظرات علّمتني أن أرى التعاطف بطريقة مختلفة: وهو أنه سلسلة من الأفعال، وليس مجرد شعور.

إنّ قدرًا كبيرًا من المناظرة يدور حول إثبات صحة الحجة. فأنت تؤمن إيمانًا راسخًا بوجهة نظرك، وتأتي بأفضل الحجج الممكنة التي تدعم موقفك، وتجمع أكثر الأدلة إقناعًا التي تبرهن حجتك. لكن أقوى المناظرين يفعلون شيئًا عجيبًا في الدقائق الخمس التي تسبق بدء الجولة: يحضرون ورقة جديدة ويكتبون أفضل أربع حجج للطرف الآخر، أو يراجعون كلامهم من وجهة نظر الخصم ويحاولون أن يجدوا أكبر عدد ممكن من أوجه القصور فيه.

يعرف هذا الأسلوب بتبادل الأدوار. ونظرًا لأنه لا شيء يضاهي الاستماع من الطرف الآخر، فلن يساعدك هذا الأسلوب على التعاطف معه، لكنه ينشئ مساحة للتأمل والتفكير، فتشعر أنه قد توجد طريقة أخرى لرؤية هذه القضية الخلافية. وعندما تحتدم خلافاتنا ونشعر أنها كحرب الخنادق، كل طرف غير قادر على فهم الآخر، حينها أرى أنّ هذه المساحة للتأمل تفيد في كسر هذا الجمود وتمهيد الطريق لتحقيق التعاطف.

٥. الخلاف الهدّام لا يقابله الاتفاق.

الخلاف الهدام يقابله الخلاف البنّاء. مُنعت مجموعات كاملة من الناس على مر التاريخ من التحدث بحكم مركزهم الاجتماعي، فلم تتوفر لهم أي منصة أو فرصة للتحدث والتعبير عن آرائهم. ما نفعله نحن اليوم -تقبل مختلف الآراء في مجتمعاتنا، ومنح الناس فرصة للتعبير عن أنفسهم في الساحة العامة، ومحاولة إدارة خلافاتنا- كلها أشياء غير مسبوقة. لذلك أرى أن بناء الحجج السليمة خطوة نحو مستقبل مثالي، وإن لم نرَ الصورة الكاملة له في الوقت الحالي.

علينا أن نستعيد الثقة والإيمان في قوة الحجج السليمة، مع إدراك أن الخلاف قد يمثل أساسًا لإجراء محادثات أثرى، وإقامة علاقات وثيقة، وطرح استفسارات أعمق، أكثر مما نأمل في تحقيقه من الاتفاق. إنّ بناء الحجج ليس أمرًا وليد الصدفة، بل مهارةً وشكلًا من أشكال الفن واجتهادًا. يعد عالَم المناظرات رمزًا لما يمكن أن يحققه المجتمع بتقبّل الخلاف -لا تجنبه- كما أنه ثري بالمعارف التي يمكن أن نطبقها في حياتنا اليومية حتى نحقق هذا المستقبل.. مستقبل لا يقوم على الاتفاق، بل على الخلاف البناء الذي يقدّر ثراء اختلافاتنا ويشجعنا على التعبير عنها.

المصدر

 

شارك الصفحة

الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا قراءة المزيد »

متع وآلام: مراجعة لكتاب أمة الدوبامين

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

“أمة الدوبامين” هو كتاب من تأليف الدكتورة “آنا ليمبكي” (Anna Lembke)، أستاذة الطب النفسي ومديرة برنامج طب الإدمان في جامعة ستانفورد. صدر الكتاب في عام 2021، وترجمته الى العربية علياء العمري وهو من اصدارت دار مدارك ويقع الكتاب في قرابة 300 صفحة. يهدف إلى تسليط الضوء على التأثيرات النفسية والاجتماعية للكميات الهائلة من التحفيز التي نعيشها في العصر الحديث، وكيف أن هذه التحفيزات تحركها آليات بيولوجية مثل الدوبامين، وهو ناقل عصبي يرتبط بشكل مباشر بمشاعر المتعة والمكافأة.

المقدمة: عصر الإفراط والإدمان

تبدأ ليمبكي بتقديم فكرة أن العصر الحالي هو عصر الإفراط، حيث يتوفر الكثير من المحفزات والمتع بسهولة غير مسبوقة. في هذا السياق، أصبح الإدمان بأنواعه المختلفة (سواء كان إدمان المخدرات، الطعام، الإنترنت، أو غيرها) مشكلة شائعة في المجتمع. تشير إلى أن هذا الإدمان ليس نتيجة للضعف الشخصي، بل هو نتيجة مباشرة للكيفية التي يعمل بها الدماغ، خصوصًا فيما يتعلق بنظام الدوبامين.

مفهوم الدوبامين وأثره في حياتنا

الدوبامين هو المادة الكيميائية التي تجعلنا نشعر بالمتعة والمكافأة. في الماضي، كانت هذه المادة ترتفع عندما نحقق شيئًا نحتاجه للبقاء، مثل العثور على طعام أو تجنب خطر ما. ولكن في العصر الحديث، نحن غارقون في كميات غير محدودة من المحفزات، مما يجعل نظام الدوبامين في دماغنا غير متوازن. تتحدث ليمبكي عن كيفية تحول هذا النظام إلى مصدر للمشاكل النفسية والإدمانات الحديثة.

فهم نظام الدوبامين

في الفصول الأولى، شرحت الكاتبة الآلية التي يعمل بها نظام الدوبامين في الدماغ. توضح أن الدوبامين هو المسؤول عن تهيئة الدماغ للسعي وراء المكافأة، وعندما نحصل على ما نريد، نختبر لحظة من المتعة أو السعادة. ولكن المشكلة تكمن في أن كل مرة نحصل فيها على هذه المكافأة، يصبح من الصعب على الدماغ أن يستجيب بنفس الطريقة في المرة القادمة، مما يدفعنا إلى البحث عن مستويات أعلى من التحفيز لتحقيق نفس الإحساس.

يُبرز الكتاب أن نظام الدوبامين في الدماغ يعمل وفق قاعدة التوازن بين المتعة والألم، حيث يشير إلى أن كل لحظة من المتعة المفرطة تؤدي إلى لحظة من الألم في المقابل. فعندما نفرط في الاستمتاع بشيء ما، يقوم الدماغ بالاستجابة عن طريق تقليل حساسيته لهذا الشيء، مما يتركنا في حالة من عدم الرضا أو الفراغ.

الانتقال من المتعة إلى الألم

تتناول ليمبكي بشكل مفصل كيف أن الإفراط في التعرض لمصادر المتعة (مثل الطعام اللذيذ، الألعاب الإلكترونية، وسائل التواصل الاجتماعي، المخدرات، أو غيرها) يمكن أن يؤدي إلى تحول تدريجي من المتعة إلى الألم. هذا التحول ناتج عن محاولة الدماغ للحفاظ على التوازن بين المتعة والألم. فكلما تعرضنا لمصادر المتعة بشكل مستمر، يقل استمتاعنا بها، ويبدأ الدماغ في البحث عن مستويات أعلى من التحفيز ليشعر بالمتعة مرة أخرى. يؤدي هذا في النهاية إلى حالة من الإدمان، حيث يصبح الفرد عالقًا في دائرة البحث عن المتعة دون الوصول إلى إشباع حقيقي.

تستعرض ايضا العلاقة المتشابكة بين المتعة والألم، حيث توضح أن زيادة المتعة دون حدود يؤدي إلى تعزيز مستويات الألم عندما تقل مصادر المتعة. هذه الدائرة المفرغة بين المتعة والألم تجعلنا نغرق في البحث المستمر عن التحفيز اللحظي، سواء من خلال استخدام الهواتف الذكية أو الإدمان على المخدرات أو غيرها من السلوكيات القهرية.

وتوضح الكاتبة من خلال أمثلة سريرية كيف يتحول الأفراد من استخدام شيء ما لتحقيق المتعة إلى استخدامه فقط لتجنب الألم الذي ينتج عن غيابه. هذا ما يحدث بشكل خاص في حالات الإدمان على المواد المخدرة، حيث يبدأ الشخص في تعاطي المخدر ليس للشعور بالنشوة، ولكن لتجنب أعراض الانسحاب المؤلمة.

الإدمان الحديث: التكنولوجيا والأطعمة والترفيه

تناقش ليمبكي في فصول لاحقة أشكال الإدمان الحديثة التي أصبحت أكثر انتشارًا في العصر الرقمي. تشير إلى أن التكنولوجيا الحديثة، وخاصة الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت واحدة من أكبر مصادر التحفيز المتواصل لنظام الدوبامين. في كل مرة ننظر فيها إلى الهاتف أو نحصل على إعجاب أو تعليق على منشور ما، يتم إفراز دفعة من الدوبامين في الدماغ، مما يجعلنا نرغب في المزيد. مع الوقت، يصبح هذا التحفيز المستمر مشكلة، حيث يفقد الدماغ القدرة على الاستمتاع بالأشياء البسيطة ويصبح معتمدًا على التحفيز المتزايد.

الأطعمة الغنية بالسكر والدهون هي أيضًا من بين مصادر الإدمان الحديثة التي تستغل نظام الدوبامين. تشير ليمبكي إلى أن الأطعمة السريعة المصنعة تم تصميمها لتحفيز إفراز الدوبامين بشكل قوي، مما يجعل الأفراد يتناولون كميات أكبر من اللازم بحثًا عن المتعة.

العواقب النفسية والاجتماعية

تتحدث ليمبكي عن العواقب النفسية والاجتماعية للإفراط في التعرض لمصادر التحفيز. واحدة من أبرز هذه العواقب هي حالة “عدم الرضا المزمن” أو “اللامبالاة”، حيث يشعر الأفراد أنهم غير قادرين على الاستمتاع بالأشياء التي كانت تجلب لهم السعادة في الماضي. تشرح ليمبكي أن السبب في ذلك هو أن الدماغ أصبح معتادًا على مستويات عالية من التحفيز، مما يجعله غير قادر على الاستجابة للمتعة البسيطة أو الطبيعية.

كما تشير إلى أن الإدمان لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل يمتد ليؤثر على المجتمع ككل. فقد أصبحت مجتمعاتنا أكثر توترًا وأقل قدرة على التعامل مع الملل أو الصعوبات الحياتية البسيطة، حيث أصبح الجميع معتادين على الحصول على المتعة الفورية من التكنولوجيا أو الأطعمة أو غيرها من المحفزات.

العلاج واستعادة التوازن

في الجزء الأخير من الكتاب، تركز ليمبكي على كيفية استعادة التوازن في حياتنا. تقدم توصيات عملية للتعامل مع الإفراط في التحفيز والإدمان. إحدى التوصيات الرئيسية هي “الصيام عن المتعة”، أي الامتناع عن المحفزات التي تسبب الإدمان لفترات زمنية محددة لإعادة ضبط نظام الدوبامين في الدماغ. تقترح أن أخذ استراحة من التكنولوجيا، الأطعمة المصنعة، أو المواد التي تسبب الإدمان يمكن أن يساعد في إعادة الدماغ إلى حالة من التوازن، مما يسمح للأفراد بالشعور بالمتعة من الأشياء البسيطة مرة أخرى.

تتحدث أيضًا عن أهمية إيجاد التوازن بين المتعة والألم. تشير إلى أن التعامل مع بعض الألم أو الإحباط في الحياة اليومية يمكن أن يساعد في تعزيز قدرتنا على الشعور بالمتعة بشكل أكثر طبيعية. بدلاً من البحث عن الإشباع الفوري، تشجع ليمبكي على تبني ممارسات مثل التأمل، الرياضة، والعلاقات الاجتماعية الصحية كطرق لإعادة تدريب الدماغ على الشعور بالرضا من دون الحاجة إلى التحفيز المستمر.

الخاتمة: نحو حياة متوازنة

في ختام الكتاب، تؤكد ليمبكي أن التحدي الأكبر في عصرنا هو إيجاد توازن بين المتعة والألم، فبينما نحن محاطون بفرص التحفيز المستمر والمتعة الفورية، علينا أن نتعلم كيف نقاوم هذه الإغراءات من أجل تحقيق حياة أكثر توازنًا. تقدم ليمبكي رؤية متفائلة بأن البشر قادرون على استعادة السيطرة على نظام الدوبامين الخاص بهم من خلال الوعي، الصبر، والممارسات التي تعزز الصحة النفسية والبدنية.

تؤكد أيضًا أن تحقيق هذا التوازن ليس مهمة سهلة، ولكنه ضروري لضمان رفاهيتنا النفسية والاجتماعية. فالاستمتاع بالحياة لا يأتي من الإغراق في المتعة، بل من القدرة على الاستمتاع بالأشياء البسيطة والحقيقية.

الخلاصة

“أمة الدوبامين” هو كتاب يدعو إلى التوقف والتفكير في كيفية تأثير الثقافة الحديثة للإفراط في المتعة على أدمغتنا وصحتنا النفسية. من خلال دمج قصص شخصية مع أبحاث علمية، وتقدم نظرة شاملة حول كيف أن نظام الدوبامين في الدماغ، الذي تم تصميمه لتحفيز البقاء، قد أصبح ضحية للإفراط في التحفيز الذي يوفره العالم الحديث. الكتاب دعوة للاستيقاظ نحو حياة أكثر توازنًا ووعيًا في مواجهة الإغراءات التي تواجهنا يوميًا.

شارك الصفحة

متع وآلام: مراجعة لكتاب أمة الدوبامين قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب: المجتمع المفتوح وأعداؤه

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

لفيلسوف العلم كارل بوبر كتاب مُهم بعنوان “المجتمع المفتوح وأعداؤه”، ويُقرأ بتأنٍ للوقوف على المواضيع التي ينقدها أو يدعمها لدى العديد من الفلاسفة، أبرزهم أفلاطون وماركس وهيجل وأرسطو، ففي الجزء الأول منه يبدأ الكاتب بنقد النظرة التاريخانية التي تقرأ التاريخ وتستكنه منه قواعده وقوانينه في محاولة لإخضاعه لعملية علمية يمكن التنبؤ بها، الأمر الذي حمله أفلاطون إلى أبعاد عديدة وخرج منه برؤى ومفاهيم ومشاريع سياسية غاية في الأهمية وجديرة بالنقد.

اعتمد أفلاطون منهج الجوهراتية لدراسة سوسيولوجيا المجتمعات، فكان السؤال السياسي الأهم في فكره: ما جوهر الدولة؟ ما هو السياسة؟ وما جوهر التغير السياسي؟ وتبعاً لنظريته في الأصول والمُثل والقوالب التي انبثق منها الوجود بأحيائه ومفاهيمه، فسَّر أفلاطون التغيرات السياسية و”الهندسة” الاجتماعية المتدرجة على أنها فساد يصيب الأصل المثالي ويعمد إلى الحط من قدره وشأنه، من المدينة الفاضلة أولاً، إلى التيموقراطية ثانياً (حكومة الثروات والمجد) إلى الأوليجاركية ثم الديموقراطية ثم الحكم الاستبدادي، إلا أن ملامح هذا الحكم الاستبدادي كانت أكثر وضوحاً في مدينته الفاضلة، والتي تكرس النظام الطبقي وترفض علائم التغيير السياسي.

ولما عرفنا أن الأخلاق تُعزى تارة إلى الوقائع الطبيعية، وتارة إلى القوانين الوضعية، وتارة إلى التعاليم الروحية والنفسية، أدركنا أن نوع النظام الأخلاقي الذي ابتغاه أفلاطون لمدينته منبثق من عالم المُثل والفضائل في ذهنه، والذي يحمل الخير الأسمى للفرد والمجتمع ككُل، على أن الحاكم وحده هو من يقرر ملامح هذا الخير ويفرضه بدوره على مملكته أو مدينته، وفي هذا الصدد، يرفض أفلاطون الوجود البشري المنفرد في مدينته ولا يرى أهمية للفرد دون جماعته ودولته، خاصة بعد تكريسه النظام الطبقي الذي يبقي على العبيد في طبقتهم، منتهياً إلى ثنائية فلسفية بين الكُل الخير والمتعدد الفاسد والمتحلل.

كما يُقر أفلاطون السيادة العامة في مدينته الفاضلة دون إيلاء الاهتمام للرقابة المؤسساتية على الحاكم أو خلق التوازن المؤسساتي بين السلطات الحاكمة، عازياً رفاهية الدولة إلى ثقافة الأفراد لا الدور الحكومي المنوط بالدولة، أما سقراط فعرضه أفلاطون – دون وجه حق – ممثلاً عن النزعة السيادية والشمولية الأفلاطونية، كما آمن أفلاطون بوجوب رقابة المدينة (أو الدولة) على التعليم الذي يهدف إلى استبقاء (تصفية) جند الدولة الأقوياء وإقصاء البقية بالعوامل البيولوجية أو بممارسة التمييز ضدهم فيختفوا من الوجود السياسي أو الفاعل في المدينة.

أما الحاكم الفيلسوف لمدينته الفاضلة، فكان بمعنى المتغطرس المالك للفلسفة دون ممارستها، فقد شرع له أفلاطون الوسائل جميعاً، حتى غير الشريفة منها، لتحقيق غاياته، ما يعني أن أفلاطون تقدم بمشروع سياسي شمولي رأى في نفسه الحق في ترأسه يوماً ما، الأمر الذي يتنافى تماماً مع رؤى سقراط وفلسفته في النقد الذاتي المستمر والابتعاد عن القوة المؤذية للمتفلسف:

“ولسوف تؤدي بنا النزعة الجمالية والنزعة الراديكالية إلى أن ننبُذ العقل، وأن نُحل محله أملاً يائساً في معجزات سياسية. وهذا الاتجاه اللاعقلاني الذي ينبثق من الافتتان بأحلام عالم جميل هو ما أسميه النزعة الرومانتيكية. فهي قد تبحث عن مدينتها السماوية في الماضي أو في المستقبل، وهي قد تبشر بـ”العودة إلى الطبيعة” أو بـ”التقدم نحو عالم من الحُب والجمال”؛ بيد أن جاذبيتها تكون موجهة دائماً إلى عواطفنا أكثر من عقلنا. بل إن أفضل النوايا لإقامة الجنة على الأرض إنما تنجح فقط في جعلها جحيماً – ذلك الجحيم الذي يجهزه الإنسان فقط لأخيه الإنسان”.

وكانت طريقة أفلاطون في خلق المدينة الفاضلة معتمدة على الجنوح إليها بكافة الوسائل الممكنة، الأمر الذي يتنافى وطبيعة التغيرات الاجتماعية المطلوبة، كما أن الاتجاه إلى المدينة الفاضلة لم يورث من قبل سوى خلق الجحيم تلو الجحيم على الأرض بغية خلق الجنان، بينما أثبتت الهندسة الاجتماعية المتدرجة قدرتها على تحسين الأوضاع الإنسانية باستمرار، ومع ذلك، كانت الطريقة التي يراها أفلاطون أكثر جدارة للوصول إلى مدينته الفاضلة هي “الاقتلاع” والبدء من جديد.

وفي نظر الكاتب، فقد أعاد أفلاطون تأويل فلسفة سقراط وخان تعاليمه وعمد إلى ليِّها لتتوافق ورؤاه وفلسفته الشمولية، ولكنَّ القارئ الدقيق في فلسفتيهما يدرك الفرق الكبير بين تعاليم سقراط ورؤى أفلاطون، خاصة بعد أن أفنى سقراط حياته (حرفياً) لنقد الديموقراطية بغية تحقيق الصورة الأجدر بها في المجتمع الأثيني، أما أفلاطون فتاق دائماً إلى إعادة صورة النظام القبلي ولكن ضمن شروطه ورؤاه الخاصة، وفي هذا، ينتقد كارل بوبر شمولية أفلاطون، وماركس في بعض الفقرات، ويرفض المجتمع المغلق الذي تمثله، ويتجه إلى المجتمع المفتوح الذي يجد فيه الفرد حريته واستقلاليته ونظام حكم ديموقراطي يحترمه ولا يمارس الوصاية عليه.

وفي الجزء الثاني من الكتاب، يناقش الكاتب التلاقح الفكري الذي جمع بين أفلاطون وأرسطو وهيجل وماركس، وذلك في الإيمان بجوهر الشيء و”حقيقته” الثابتة، و”جوهر” التاريخ الذي يتجه إليه دائماً ويحتكم إليه، فقد آمن هيجل وفيشتر وشيلينج بالحكم الشمولي والمجتمع المغلق، وبالدولة “واضعة الأخلاق” التي تتقدم تاريخياً وتبرز بصرف النظر عن المكاسب الأخلاقية العائدة عليها أو على أمتها، الأمر الذي سخر منه شوبنهاور ورفضه تماماً، وانتقده الكاتب إلى جانب كانط.

أما ماركس فآمن بحتمية التاريخ وقوانينه المادية ونادى بضرورة تغييره، وقال بأن المجتمع يخلق الفرد ووعيه ومنطلقاته، وبضرورة اعتماد السوسيولوجيا على المحيط والبيئة لا أن يتغلغل فيها التفسير السيكولوجي تماماً، كما آمن ماركس بالنزعة الاقتصادية في نفس المرء مقابل النزعة السيكولوجية لدى ستيوارت مِل والنزعة الروحية لدى هيجل، وبحتمية الصراع الطبقي الذي يخلق الدول والمجتمعات في كل مرة، الأمر الذي عدَّه الكاتب مجرد وصف لبعض مظاهر التاريخ ولا يرقى لأن يكون قانوناً تاريخياً، بل إن الكاتب يشك في وجود أي قانون تاريخية حتمي لاتساع منظوره في صيرورة التاريخ، والعوامل التي تغيره وتبدله في كل مرة، وفي رأيه فإن السؤال الذي انشغل به الفلاسفة الحتميون (المناصرين للمجتمع المغلق) كان “من ينبغي أن يكون الحاكم؟”، في حين أن السؤال الأهم الواجب طرحه “كيف يُروض الحاكم؟”.

رأى ماركس أن تحليل منهج الإنتاج الرأسمالي من شأنه أن يخلق ثورة عمالية تفضي إلى إلغاء الطبقية، الأمر الذي يجده الكاتب ضعيف المنطق والأدلة ومجرد نبوءة كان ليتحقق جزء منها تبعاً لظروف تاريخية خاصة ويفشل جزء آخر للسبب ذاته، وهذا ما حصل، لذلك، يعارض الكاتب اتجاه الفلاسفة إلى وضع النبوءات بدلاً من الانشغال في الهندسة التدريجية للمجتمعات ومؤسساتها الحكومية لتتجه نحو الإصلاح، خاصة وأن الحتميون – كماركس – رفضوا إمكانية الإصلاح في وجود الرأسمالية، واتجهوا دائماً إلى أن الحل الأمثل فرض وجهة نظر جوهرية شمولية واحدة يترأسها حاكم واحد يوجه بوصلة البلاد “إلى ما فيه خيرها”.

ثم يناقش الكاتب سوسيولوجيا المعرفة وتأثر الفكر العلمي بالتحيزات المسبقة لدى العلماء، الأمر الذي غالى فيه هيجل وكانط ورآه الكاتب ممكن تجاوزه، خاصة بعد أن ثبت المنهج العلمي ذلك، ثم يتحدث عن عقلانية سقراط النقدية والحقيقية التي تتضمن نقد الذات أولاً والإصغاء للغير واحتواء وجهات نظرهم ضمن رؤية متكاملة، مقابل العقلانية غير النقدية والزائفة لدى الجوهريون كأفلاطون وهيجل، ويرى بأن العقلانية النقدية مطابقة للإنسانية ومبادئها وتتجه بالمرء دائماً إلى ما فيه صلاحه، بينما لم تكرس النظريات الحتمية والشمولية سوى تبرير الإجرام والمآسي لتحقيق “الخير الأسمى للشعوب”.

وفي النهاية، يؤكد الكاتب أن انتقاده للنظريات لا يعني إقصاءها من الفكر العالمي أو تهميشها أو إلغاءها، بل يُصر على وجودها فيه ودورها الهام في تفسير بعض الجوانب، إلا أن ما يعارضه ادعاء أي نظرية امتلاكها الصورة الكاملة والشاملة للتاريخ الإنسانية وللوجهة التي ينبغي على الشعوب والأمم الاتجاه إليها، ويقول بأن على منظورنا الفكري احتواء النظريات جميعاً والاستفادة منها لتفسير الحال وحل مشاكله، خاصة عندما يكون التاريخ الوحيد الذي نعرفه، وللأسف، هو تاريخ السلطة السياسية، وبافتقاره الشديد إلى المعنى، وجب علينا خلق غايته ومعناه بأنفسنا، بما يضمن لنا صورة متحيزة لخيرنا قبل أي شيء آخر:

فبدلاً من التنكر في زي الأنبياء، لا بد أن نكون صنَّاع مصيرنا، لا بد أن نتعلم عمل الأشياء، وأن بمقدورنا عملها، وأن نكون مسؤولين عن أخطائنا، ثم حين نسقط فكرة أن تاريخ السلطة سيكون هو قاضينا، وحين نتخلى عن القلق بشأن ما إذا كان التاريخ سيقدِّم لنا تبريراً أم لا، فعندئذٍ قد ننجح ذات يوم في السيطرة على السلطة وضبطها. وبهذه الطريقة نُبرر التاريخ، فهو في حاجة ماسة إلى التبرير”

الكتاب دسمٌ ومُهم ومليء بوجهات النظر اللافتة، وأراه ضرورياً لتعليم القارئ أولاً آداب النقد الفلسفي والأدبي، وشروط خلق المعرفة ثانياً، وثالثاً، وهو الأهم، معرفة الوجهة الحقيقية لبوصلتنا الإنسانية.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب: المجتمع المفتوح وأعداؤه قراءة المزيد »

وهم المعرفة

Picture of كتابة: لاب مهراج
كتابة: لاب مهراج

ترجمة: يارا عمار

pexels-jonathanborba-13061418

لقد جعل عصر المعلومات قدرًا هائلًا من المعارف في متناول أيدينا، فالإنترنت -بمجرد بحث يسير على جوجل أو الموسوعاتالإلكترونية- يعطينا إجابات فورية لأي سؤال قد يطرأ على أذهاننا. ومع ذلك، فهذه الوفرة في المعلومات قد تخلق وهمًا بالمعرفة، وهو ما يشكّل خطرًا إن تُرك دون رادع.

ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الفرد أنه يفهم موضوعًا ما فهمًا عميقًا بسبب توفر المعلومات عنه وسهولة الوصول لها. هذه الظاهرة تدفع الناس إلى المبالغة في تقدير خبرتهم، وتؤدي إلى اتخاذ القرارات بناءً على افتراضات خاطئة. تتفاقم هذه المشكلة بسبب خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز القناعات دون التحقق من دقتها أو صحتها.

ما هي المعرفة؟

نحن البشر نسعى باستمرار لتحصيل المعرفة، فنقضي ساعات لا تحصى في قراءة الكتب والبحث على شبكة الإنترنت وحضور المحاضرات من أجل توسيع فهمنا للعالم المحيط بنا. لكن ما هي المعرفة بالضبط؟ يعرّفها أكثر الناس بأنها مجموعة الحقائق والمعلومات التي يحصلها المرء من خلال التعليم الذي يتلقاه أو التجارب التي يخوضها. إلا أن هذا تعريف سطحي ولا يكشف عن المعنى الحقيقي للمعرفة.

المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة، بل هي فهم كيفية ارتباط هذه المعلومات بعضها ببعض لتشكيل صورة أكبر وأشمل. الأمر يدور حول القدرة على استخدام تلك المعرفة في المواقف الحياتية لحل المشكلات واتخاذ قرارات مستنيرة. ينشأ وهم المعرفة عندما يعتقد الشخص أنه على فهم تام بموضوع ما استنادًا إلى معلومات محدودة أو وجهات نظر متحيزة.

لكن هذا التعريف بمفرده لا يستوعب كل ما تنطوي عليه المعرفة من تعقيدات. فالمعرفة تشمل أيضًا قدرة الفرد على حُسن تطبيق المعلومات المكتسبة في مختلف السياقات والمواقف، كما تتطلب غالبًا امتلاك مهارات التفكير النقدي من أجل تحليل المعلومات الجديدة وتقييمها في ضوء المعتقدات أو التصورات القائمة.

وعلى الرغم من هذه الفوارق الدقيقة في طبيعة المعرفة، فإن الناس غالبًا يقعون في وهم أن لديهم فهمًا كاملًا لموضوع معين. تتضمن المعرفة الحقيقية مزيجًا من الفهم والتطبيق في المواقف العملية، ومن دون التكامل بين هذين المكونين، يظل فهمنا لأي موضوع معين غير مكتمل.

المعلومات والفهم

يكمن الفرق بين المعلومات والفهم في مستويات تفسير وتطبيق كل منهما. المعلومات مجموعةٌ من الحقائق التي يسهل الوصول لها عبر مصادر متعددة. أمّا الفهم فيتضمن مستوى أعمق من التحليل والتجميع حيث يفسر المرء المعنى الكامن وراء هذه الحقائق، كما يتطلب تطبيق هذا التفسير في السياقات ذات الصلة، وإلا فإنه على خطر الوقوع في فخ اكتساب المعرفة السطحية: جمع المعلومات دون تعلم شيء جديد أو نافع.

وهم الخبرة

لقد جعلت وفرة المعلومات كثيرًا من الناس يظنون أنفسهم خبراء في مجالات لا يعرفون عنها سوى القليل، مما يؤدي إلى الوقوع في وهم الخبرة.

أظهرت الأبحاث أنّ وهم المعرفة ينشأ غالبًا من ميل الأفراد إلى الاعتماد على الاستدلالات السريعة أو الاختصارات الذهنية لفهم المعلومات المعقدة. قد يكون هذا الأمر إشكاليًا على وجه الخصوص في مجالات مثل المالية أو الطب، حيث قد تترتب عواقب وخيمة على القرارات المتخذة بناءً على معلومات ناقصة أو غير دقيقة. كما تشير الأبحاث إلى أن الناس أكثر عرضة لوهم المعرفة عندما لا يتلقون ملاحظات على أدائهم، أو عندما يُمدحون على قدراتهم دون تبرير كاف.

من المهم أن يكون الناس على وعي بالمخاطر المرتبطة بوهم المعرفة، مع السعي لتحصين النفس ضدها. هذا يُعرف بتأثير وهم المعرفة أو تأثير دانينغ-كروجر، والذين يقعون في هذا الوهم غالبًا ما يتخذون قرارات سيئة بسبب افتراضاتهم الخاطئة وعدم إدراك حدود قدراتهم.

يتمثل خطر وهم المعرفة في أنه قد يؤدي إلى شعور زائف بالثقة، مما يفضي إلى ارتكاب أخطاء ذات عواقب وخيمة محتملة.

وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار المعرفة الزائفة

لقد سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي على الناس الوصول إلى المعلومات ومشاركتها مع الآخرين وخوض النقاشات التي ترسخ معتقداتهم. ومع ذلك، فهذه السهولة في الوصول للمعرفة يصحبها جانب سلبي خطير، وهو انتشار المعلومات الزائفة التي تؤدي إلى وهم المعرفة.

صُممت وسائل التواصل الاجتماعي في الأساس لإنشاء روابط بين الناس وتشجيع بناء المجتمعات، لكنها مع ذلك قد تُستخدم كأداة لنشر المعلومات المضللة والدعاية. خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعطي الأولوية للمحتوى بناءً على عدد الإعجابات والمشاركات عوضًا عن الدقة أو المصداقية. وهذا يعني أن القصص الموضوعة قد تنتشر كالنار في الهشيم، بينما يتم إهمال المحتوى الواقعي لأنه لا يأتي بالتفاعل المطلوب.

متلازمة السلطة الزائفة

يُعرف وهم الخبرة أيضًا بمتلازمة السلطة الزائفة، وهي تشير إلى ميل الناس إلى افتراض أنهم يعلمون أكثر من معرفتهم الحقيقية. يظهر خطر هذه المتلازمة على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات وحل المشكلات.

تُعد تحيزاتنا المعرفية الفطرية أحد أسباب هذه المشكلة، فنحن نميل إلى المبالغة في تقدير قدراتنا ومعرفتنا بسبب الأنا البشرية والانحياز للمصلحة الذاتية. إضافة لذلك، غالبًا ما نفرط في الثقة بما نعلمه لأننا تعرضنا لمعلومات كثيرة حول موضوع معين، وإن كان كثير منها غير دقيق أو غير مكتمل.

إنّ وهم المعرفة مشكلة كبيرة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد في جميع المجالات. لا بد من معرفة ما لا نعلم وإدراك مواطن ضعفنا حتى نفهم الواقع بصورة أدق. يعد الاعتراف بجهلنا ولزوم التواضع الفكري هو المفتاح لفهم العالم من حولنا بطريقة أفضل، واستخدام الأدلة لحل المشكلات الكبرى. الأمر يتطلب ذهنًا متفتحًا ورغبة في التعلم وتأملًا ذاتيًا منتظمًا.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق.
المعرفة ليست مجرد حفظ المعلومات الدقيقة المفصلة.

وهم المعرفة قراءة المزيد »