Author name: nadiim

تسوندوكو: فن شراء الكتب وعدم قراءتها

pexels-fernando-gonzalez-2626178-4227666

من الظواهر المثيرة للاهتمام التي تؤثر علينا نحن القراء “تسوندوكو” ( باليابانية: 積ん読): فن شراء الكتب وعدم قراءتها. نناقش في هذه المقالة مفهوم تسوندوكو، وما يمكن فعله كي لا تقع ضحية لهذه الظاهرة.

ما المقصود بتسوندوكو؟

تعريف هذا المفهوم بسيط للغاية: عادة شراء الكتب وعدم قراءتها. وهو مصطلح ياباني يعود إلى القرن السابع عشر، ويتكوّن من جزئين: “تسون” يعني تكديس الأشياء، “دوكو” يعني القراءة.

كيف تحولت هذه الكلمة اليابانية التي تدل على شراء الكتب وعدم قراءتها إلى ظاهرة عالمية؟ المعنى الأصلي لتسوندوكو أعمق قليلًا مما نعلمه اليوم. استُخدم المصطلح في اليابان لعدة قرون وله جذور عميقة في الثقافة اليابانية، فقد كان يُعتقد أن الكتب ممتلكات ثمينة للغاية، فكانت تُجمع وتوَرَّث من جيل لآخر.

كانت الكتب سلعًا آنذاك، ومن الطبيعي أن يقتنيها الناس ويحتفظوا بها عندما يقدرون على شرائها، وإن لم تكن لهم نية في قراءتها. لم يكن شراء الكتب دون قراءتها يُرى عادةً سلبية بالضرورة، بل كان استثمارًا حكيمًا.

يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما. قد يبدو المصطلحان مماثلين تمامًا للوهلة الأولى، لكن إن دققنا أكثر سيتضح الفرق بينهما. البيبلومانيا حالة تنطوي على جمع الكتب (أحيانًا مع نزعة للوسواس القهري) إلى حد يشكل خطرًا على الصحة أو يؤثر سلبًا على حياة الشخص وعلاقاته.

هنا يكمن الفرق المهم: المصاب بالبيبلومانيا لا يهتم بقراءة الكتب، هو فقط يسعد بمجرد امتلاكها ويشعر بالارتياح أو المتعة بوجودها حوله. أما المصاب بالتسوندوكو فيشعر بالاستياء من امتلاك الكتب وعدم توفر وقت لقراءتها.

إذًا، المصاب بالبيبلومانيا يرغب في تملك الكتب فحسب، بينما الذي يعاني من متلازمة تسوندوكو لديه رغبة قوية في شراء الكتب، لكن أيضًا يشعر بالحزن لعدم قدرته على قراءتها كلها.

هل تسوندوكو عادة حسَنة؟

ما المشكلة في شراء كتب أكثر مما أستطيع قراءته؟ الأمر يعتمد على تأثير ذلك على حياتك وعاداتك القرائية. شراء الكتب وجمعها في حد ذاته ليس عادة سلبية، لكن مشكلة تسوندوكو تحدث في بعض الحالات.

يجدر الانتباه إلى أن الزمن تغير منذ صياغة مصطلح تسوندوكو في الثقافة اليابانية. لم تعد الكتب في أيامنا هذه سلعًا (ما لم تكن جامعًا جادًا وتبحث باستمرار عن الكتب الثمينة)، وقيمتها الحقيقية لا تنبع من كونها أشياء مادية، بل إن قيمتها تكمن في محتواها والمعلومات التي تستفيدها من قراءتها والتجربة التي تعيشها معها.

وبالتالي يعد تسودونكو مشكلةً إن وجدت أن المال الذي تنفقه على الكتب أكثر من الوقت الذي تقضيه في قراءتها. كقاعدة عامة: ما لم تكن جامعًا يحب مجرد امتلاك الكتب، فإن المقصد من شراء الكتب هو الاستفادة من محتواها والتجربة التي توفرها. إن شعرت أنك مقصّر في القراءة وقائمتك القرائية تطول شيئًا فشيئًا، مما يُشعرك بالإحباط، فإنّ تسوندوكو مشكلة بالنسبة لك حينئذ وتحتاج إلى تعلم كيفية التغلب عليها.

قد تؤثر متلازمة تسوندوكو سلبًا على تجربتك القرائية ونظرتك للقراءة كنشاط. إن كنت تشعر دائمًا بعدم الرضا عن مقدار قراءتك وتربط كثيرًا بين هذا النشاط والشعور بالإحباط، فمن المحتمل أن ينشأ لديك موقف سلبي تجاه القراءة.

قد تشعر في مرحلة ما بالضغط من عدد الكتب التي عندك عندما تدرك أنك متأخر جدًا في القراءة لدرجة أنك قد تستغرق أعوامًا حتى تنهيها جميعها.

كيف تتغلب على متلازمة تسوندوكو؟

رغم السلبيات المرتبطة بمتلازمة تسوندوكو، إلا أنه يمكن التغلب عليها، بل واستخدامها لصالحك.  توجد عدة طرق للتعامل مع الأمر بناءً على هدفك النهائي كقارئ.

فيما يلي بعض الاستراتيجيات الشائعة للتغلب على تسوندوكو بمجرد ظهورها.

  1. حدد هل هي مشكلة حتى تعالجها أم لا

كما ذكرت آنفًا، ليس بالضرورة أن تكون تسوندوكو مشكلة حتى تحتاج إلى حل. في الحياة أمور كثيرة قد يحدث أسوأ من إحاطة نفسك بالكتب، وكونك متحمسًا تجاه الكتب والقراءة وشراء روايات جديدة باستمرار حتى تستمع بها لا يستدعي علاجًا.   

إليك بعض الحالات التي قد تشير إلى أن لديك مشكلة حقًا ويجب أن تنظر فيها:

  • عندما تنفق على الكتب أكثر من مقدرتك.
  • عندما تشعر بالضغط والإرهاق باستمرار بسبب امتلاك كتب كثيرة لم تقرأها.
  • عندما تتأثر أنشطتك اليومية بسبب الشراء المستمر للكتب.
  • عندما تجد نفسك في حالة فوضى مستمرة بسبب أن الكتب الجديدة أكثر من اللازم فلا تستطيع أن تنظمها.

ما لم تصدُق عليك بعض هذه الحالات فلا داعي للقلق، أنت شخص عادي يحب الكتب لكن لا يجد وقتًا للقراءة. أما إن شعرت أن الأمر أصبح مشكلة، فلا بد من السعي لحلها.

  1. ضع حدًا للشراء

بكل وضوح: أسرع وأضمن طريقة لتقليل الضغط أو الانزعاج الناتج عن تسوندوكو هي أن تراجع عاداتك في الشراء. ومن هنا يوجد احتمالان مختلفان يعتمدان على ما يسبب لك الضيق: هل تقلق أكثر بسبب المال الذي تنفقه، أم بسبب المساحة التي تشغلها الكتب في منزلك؟

إن كنت قلقًا بشأن المال فحدد ميزانية، واجعلها قاعدة ألا تنفق على الكتب أكثر من القدر المحدد شهريًا. عيّن الحد والقدر الذي تستطيعه، وتذكر أنه ليس بالضرورة أن تمتنع عن شراء الكتب تمامًا، المهم أن تضع حدًا يناسبك.

وإن كانت المساحة هي المشكلة فينبغي أن تحد من عدد الكتب التي تشتريها، أو تجرب الصيغ البديلة (الكتب الإلكترونية، الكتب الصوتية).

  1. ارفق بنفسك

يكمن السر في التعامل مع تسوندوكو في تغيير نظرتك وتقبّل الأمر. نعم، ربما اشتريت كتبًا كثيرة ولا تستطيع قراءتها، لكن هذه ليست كارثة.

ينبغي أن تركز على الجانب الإيجابي، وهو أن لديك وفرة من الكتب لتقرأها! إن علمت نفسك ووجدت طريقة للامتناع عن شراء الكتب حتى تقرأ ما لديك، فسيكون كل شيء على ما يرام.

أما القسوة على نفسك فلن تفيدك. كلما زاد إحباطك قلّ ما تقرؤه، وسيزداد إحباطك أكثر وستسعى للتخفيف عن نفسك بشراء المزيد من الكتب. تجنب هذه الدوامة بأي ثمن كان.

  1. اعرف متى تتوقف

تعلمنا أنه لا بد من إنهاء أي كتاب بدأنا فيه. لكن طريقة التفكير هذه ليست صائبة بالضرورة، فأحيانًا يكون ترك كتاب لا يستحق القراءة أفضل كثيرًا من مواصلة قراءة شيء لا يعجبنا. المفترض أن تُشعرنا القراءة بالمتعة وتضيف لنا قيمة، وإن لم تفعل فلا فائدة من إجبار أنفسنا على قراءة شيء لا يستحق وقتنا.

  1. بِع أو تبرع بالكتب الزائدة

كذلك أحيانًا يكون من الأفضل أن تبيع أو تتبرع بالكتب التي تشغل مساحة كبيرة للغاية من المنزل. بدلًا من أن تعاقب نفسك بسبب الكتب المتراكمة وتظل تضع خططًا لقراءتها كلها مع أن وقتك لا يتسع لها، حاول على الأقل أن تسترد جزءً من استثمارك أو أن تترك أثرًا بالتبرع بها.

  1. اقرأ أكثر

أعلم أن الكلام أسهل من الفعل، لكن يجب أن تعلم أيضًا أن المشكلة الحقيقية ليست في ضيق الوقت. إن كانت طريقة تفكيرك منضبطة مع الاستفادة من الأدوات المساعدة على اكتساب عادات القراءة الإيجابية، ستندهش من القدر الذي تستطيع قراءته إن كانت لديك عزيمة.

أخيرًا، القراءة نشاط مرن للغاية من حيث المكان والوقت الذي يمكن أداؤها فيه: فيمكن أن تقرأ وأنت تتناول قهوتك الصباحية أو في طريقك إلى العمل أو وقت استراحة الغداء أو أثناء السفر أو حتى أثناء ممارسة الرياضة أو قبل النوم. أهم شيء أن يكون لديك الدافع الكافي والأدوات اللازمة لتكوين عادات قرائية إيجابية.

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

تسوندوكو: فن شراء الكتب وعدم قراءتها قراءة المزيد »

على المسرح: مراجعة لكتاب تقديم الذات في الحياة اليومية

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

“إذ يعلم الفرد أن جمهوره قادرٌ على تكوين انطباعات سيئة عنه، قد يشعر بالخجل من فعلٍ صادقٍ حسن النية لمجرد أن سياق أدائه يترك انطباعات زائفة سيئة. وعند الشعور بهذا الخجل غير المُبرر، قد يشعر أن من الممكن رؤية مشاعره، وإذ يشعر بأنه مرئي على هذا النحو، قد يشعر أن مظهره يُثبت هذه الاستنتاجات الخاطئة حياله. وقد يضيف بعدئذٍ إلى هشاشة موقعه الانخراط في تلك المناورات الدفاعية التي كان ليستخدمها لو كان مذنباً حقاً. وبهذه الطريقة، من الممكن لنا جميعاً أن نصبح عند أنفسنا، ولوهلة عابرة، أسوأ شخص يمكن أن نتخيل أن الآخرين يمكن أن يتخيلوننا عليه. وبقدر ما يحافظ الفرد على عرضٍ أمام الآخرين لا يؤمن به هو نفسه، فإن بمقدوره أن يختبر عالماً خاصاً من الاغتراب عن الذات ونوعاً خاصاً من حذر الآخرين”

 إرفنغ غوفمان

قد يكون “تقديم الذات في الحياة اليومية” من أفضل الكتب التي ترصد الحياة الاجتماعية للبشر، وتعقيدها أمام الحياة الفردية التي يمكن أن يعيشها المرء مستغرقاً في نفسه، ففي هذا الكتاب، يشرح غوفمان الأداء المسرحي الذي نظهر به أمام بعضنا، والانطباعات التي نريد تعزيزها في نفوس الآخرين عنا، والكيفية التي يستطيع بها كلٌ منا رسم صورته الاجتماعية التي قد تكون متناقضة تماماً مع صورته كفرد عادي.

ولتوضيح الكيفية التي يلعب بها المؤدون أدوارهم في مسرح الحياة، يبدأ الكاتب في الحديث عن الانطباع الذي يريد كلٌّ منا تركه على الآخرين بحكم الدور الذي يؤطر نفسه ودوره في داخله، ورغم أنه قد يبدو متهكماً حيال دوره أو يستغرقه دوره ويستنزفه، فإنه يعتمد في كلتا الحالتين على تعريف لوضعه وإعدادٍ له يشمل البيئة المحيطة، ومظهرٍ مناسب له وأدوات ينقل عبرها الانطباع الذي يريده، وهذا كله يتطلب منه طاقة وجهداً وعناية بالتفاصيل وانتباهاً فريداً، الأمر الذي يشغله عن شخصيته الحقيقية ويخلق بينه وبينها مسافة تظل في ابتعادٍ مستمر:

“كثيراً ما يجد الأفراد أنفسهم أمام معضلة التعبير مقابل الفعل. فأولئك الذين لديهم الوقت والموهبة لأداء مهمة من المهمات على نحوٍ حسن قد لا يكون لديهم، بسبب ذلك، الوقت أو الموهبة لتبيان أنهم يؤدون أداءً حسناً”

وفي أدائه لدوره، فإن المرء لا بد أن يستند إلى “كواليس” أو خلفية وجودية له يمارس فيها دوره الطبيعي أو الأكثر حقيقة، أي الحيز الذي يمكن أن تتمثل فيه شخصيته الحقيقية وسماته وخصائصه، وهو الحيز الذي يشاركه مع غيره من المؤدين ويحتفظون فيه بأسرار الدور وكواليسه وطرق إخراجه والمبادئ الضرورية لإنجاحه وسلامته. وبقدر المثالية التي يضفيها الأفراد على أدوارهم وأدائهم، فإنها تظل هشة أمام الزلات والهفوات والأخطاء، الأمر الذي يتطلب منهم حرصاً دقيقاً لمنعها، لا سيَّما عندما يكون الجمهور مترصداً لهذه الأخطاء، يعظِّمها ويبرزها وينتقد الأفراد فيها، ومن هنا، تكون المكانة الاجتماعية تمثيلًا يؤدى بحرص وليس شيئاً يُمتلك.

وعندما يُعنى المرء بأدائه في الحياة، فإنه يرسم “واجهة شخصية” له تعبر عن وسطه وموقعه، فيعمد إلى التحقيق الدرامي لدوره ومن ثم إضفاء الطابع المثالي على دوره في المجتمع الذي يريد أن يكون جزءاً منه، فيلجأ إلى الحذر الشديد والتحكم التعبيري بنفسه ورصد حركاته وأقواله وانفعالاته ضمن صورته الجديدة التي يريد تثبيتها، غير أنه، ورغم ذلك، قد يقع في زلات وهفوات وإساءة تمثيل درامي تكشف عن بعض زيفه أو تصل منطقة الواجهة الشخصية لديه بمنطقة الخلفية التي يعيش فيها كفرد عادي.

وفي رسم المرء لصورته الاجتماعية وعنايته بدوره المسرحي، فإنه ينضم إلى فريق أو أكثر من فرق الحياة، والذي تسود فيه ملامح التعاضد بين أعضائه والاتفاق المشترك على حفظ أسرار الإخراج والأدوار، والإبقاء على الكواليس بعيدة عن أعين الجمهور، فتنشأ بين أفراده علاقات وطيدة تدعم الدور في النهاية وتعززه. قد يكون فريقاً مهنياً أو طبقياً أو فنياً وخلافه، وعندها سيتوجب عليه اتباع قانون الفريق في الحفاظ على صورته العامة وهيبته وسمعته، وهو في فريقه يتنقل بين المناطق (الواجهة والخلفية) فيتبدل سلوكه تماماً تبعاً للمنطقة ومعاييرها، كما تُبدل مضيفات الطيران سلوكهن أمام الركاب ومن خلفهم، حيث لكل منطقة قوانينها ومعاييرها الواجب اتباعها، ولكن قد يواجه المرء منطقة ثالثة متمثلة في مقابلته جمهوراً جديداً ومختلفاً أثناء مقابلته جمهوراً معيناً ومحدداً، وعندها سيتوجب عليه الفصل بينهما لتمثيل دوره على أكمل وجه أمام كل منهما.

وقد يلعب الأفراد أدواراً مختلفة في حياتهم، تخدم الفريق تارة والجمهور تارة أخرى، وتكون جميعاً مستندة إلى معرفة الفرد بأسرار الدور وطبيعته وإعداده والطريقة التي تضمن مثاليته، ففي حين يترصد فردٌ من الجمهور للأخطاء، يختار آخر إفشاء أسرار الفريق للجمهور، وآخر يستخدم حنكته لإصلاح الأخطاء والتبرير لها، وآخر يكون مختصاً بإعداد الدور وضمان الانطباع السليم عنه، وآخر يشاهد العرض وينخرط فيه واعياً بدوره لإثبات مثالية أداء الفريق، وآخر يلعب دور السمسار في التوفيق بين فريقين، وهناك من يكتفي بدور المشاهد الذي لا يُعتد برأيه ولا يؤخذ بمنظوره.

وبين أعضاء الفريق، يكون هناك اتصال خفي وضروري يضمن نقل المعلومات والإشارات في حضرة الجمهور، منعاً لاطلاع الأخير على ما يجري بعيداً عن أنظاره، كما يحدث في انتقاص الأفراد لقدر الجمهور في غيابه، وتواطؤ الأعضاء في عدم إفشاء أسرار الدور، وإعادة اصطفافهم ضمن فرق عديدة مختلفة عند مقابلتهم مختلف الطبقات والمجموعات الاجتماعية، كما يشمل ذلك حديث الأفراد عن شروط الإخراج ومبادئه.

إلا أن بعض الأخطاء تحدث بالفعل، لا سيَّما عندما يطلع أحد من الجمهور على الكواليس بفعل الصدفة أو بعد الترصد الحريص، ما يتطلب من الفريق ضرورة الإيمان بالولاء الدراماتورجي للدور وتحقيق الانضباط بينهم والاحتراس لمنع تكرار أية أخطاء سابقة، الأمر الذي يُدعى بضرورة إدارة الانطباع. أما الجمهور فيكون واعياً لوقوع هذه الأخطاء، فقد يتسم باللباقة في المسامحة والغفران والتغاضي، وقد يتبع إجراءات وقائية عديدة تمنع إيقاع المؤدين في الحرج في حضرته. ما يفسر الاضطراب الشعوري الذي يلازم الفرد في حياته الاجتماعية، مفكراً في سلامة دوره وانطباعات الآخرين، فيظل في موقف دفاعي مستمر لا يفتأ اللجوء إليه.

غير أن لحظات الاعتراف أو الصراحة تظل حاضرة عندما ينهار هذا البناء الهش، ويتمكن كلا الفريقين من الاطلاع “على عورات” الآخر، وعندئذٍ “تتكشف فجأة وبشدَّة البنية الدراماتورجية للتفاعل الاجتماعي برمَّتها، ويختفي مؤقتاً الخط الفاصل بين الفريقين. وسواءً كانت هذه النظرة القريبة إلى الأشياء تجلب العار أو تثير الضحك، فمن المرجح أن يعود الفريقان بسرعة إلى شخصيتيهما المُحددتين”.

ينطوي التفاعل الاجتماعي في حد ذاته على اضطرابات على مستوى الشخصية والتفاعل والبنية الاجتماعية، أي أن الإحراج وملامح الإذلال التي يشعر بها المرء تكون جزءاً أصيلاً منه. ومن هنا فإن السمة الأخلاقية للدور لا تكون حقيقية بل تُعد جزءاً من الأخير وتمثيلاً له، الأمر الذي يدعوه الكاتب بتجارة الأخلاق: “نحنُ كمؤدِّين تجار أخلاق. ويومنا مكرَّس للتماس الحميم مع البضائع التي نعرضها وعقولنا مفعمة بتفهمها العميق”. لذلك نظل منشغلين بهذه “البضائع” التي نعرضها وبدرجة الإقناع التي يمكننا الوصول إليها مع المشترين لها.

يشير الكاتب في النهاية إلى أن هذه الأدوار والأداءات تكون مؤقتة في الغالب، وضرورية للحفاظ على الأوضاع الاجتماعية للمرء في البنية الاجتماعية التي يعيش ضمنها، ويؤكد على أن هذه خصائص المجتمع المدني الذي يفصل بين المجالين العام والخاص فصلاً حاداً، الأمر المختلف في بقية المجتمعات، لاختلاف حدة هذا الفصل وطبيعته.

يُقدم الكاتب أطروحته مشيراً إلى أهمية المقاربة الدراماتورجية في دراسة المؤسسات الاجتماعية، وإلى أن لعبة الفرد التي يلعبها كل منا في وجوده الحقيقي والخاص تكون في العادة أكثر سهولة وأخلاقية ولباقة وصدقاً من لعبة الأداء المسرحي التي نهتم بموجبها بصورتنا في أعين الآخرين، وانطباعاتهم عنا وعن تفضيلاتنا، والتي تنطوي على تجارة الأخلاق والتصنع المستمر، وفي هذا الصدد، فهو لا يشبه الحياة بالدراما المسرحية كما هو المثل الشعبي، بل يخبرنا ببساطة أن التقنيات التي يستند إلهيا الأداء المسرحي مستمدة في الأصل من الواقع، فنحن جميعاً نلجأ إليها لتثبيت أوضاعنا الاجتماعية في منطقة ما وفريق ما، تماماً كما يعمد الممثل المسرحي إلى تثبيت وضعه أمامنا ضمن القصة التي يظهر لنا ببراعة أنه يعيشها.

شارك الصفحة

على المسرح: مراجعة لكتاب تقديم الذات في الحياة اليومية قراءة المزيد »

لا شيء معي إلا كلمات: مراجعة كتاب الكلمات وتأثيرها على العقل

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يُعد كتاب “الكلمات وتأثيرها على العقل” للدكتور أندرو نيوبيرغ ومارك روبرت والدمان مرجعًا متعمقًا يستكشف العلاقة بين اللغة وكيفية تأثير الكلمات على العقل البشري. نقلته إلى العربية الأستاذة رفيف غدار وطُبع في الدار العربية للعلوم ناشرون.

يقدم الكتاب فهماً علمياً وأدبياً حول كيفية استخدام الكلمات ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل كأداة قوية تؤثر على هيكلية الدماغ وعملياته العصبية. ويقدم كذلك رؤية متكاملة بين علم الأعصاب وعلم النفس واللغويات. يعتمد الكاتبان في تفسيراتهما على دراسات علمية وتجارب عملية، مما يضفي مصداقية على ما يقوله الكتاب حول قوة الكلمات في تشكيل إدراكنا وسلوكياتنا.

الأساس العلمي لتأثير الكلمات على العقل

يستند الكتاب إلى فرضية أن الكلمات ليست مجرد رموز لنقل المعلومات، بل هي محفزات عصبية قوية تؤثر على التركيبة الكيميائية للدماغ. يوضح الكاتبان، من خلال تجارب علمية ودراسات تصوير الأعصاب، كيف أن الكلمات التي نستخدمها ونسمعها تؤثر على نشاط مناطق معينة في الدماغ. فعلى سبيل المثال، الكلمات الإيجابية تعزز من إفراز هرمونات السعادة مثل الدوبامين، بينما يمكن للكلمات السلبية أن تثير مناطق الخوف في الدماغ مثل اللوزة الدماغية، مما يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.

تشير الدراسات التي أوردها الكتاب إلى أن استخدام الكلمات الإيجابية يساهم في تحفيز النشاط العصبي في مناطق الدماغ المرتبطة بالرفاهية والتفاؤل. ومن المعروف أن استخدام لغة إيجابية يعزز من مستويات الثقة بالنفس ويزيد من التفاعلات الاجتماعية الإيجابية. يوضح الكتاب كيف أن هذه الكلمات تؤثر مباشرة على المناطق القشرية في الدماغ مثل القشرة الأمامية، التي تُعنى بالتخطيط واتخاذ القرارات، ويعزز هذا التأثير من قدرة الإنسان على التفكير بشكل منطقي واتخاذ قرارات مدروسة.

على الجانب الآخر، تُحدث الكلمات السلبية تأثيرًا مغايرًا تمامًا. حيث يتسبب استخدامها المتكرر في تحفيز المناطق الدماغية المرتبطة بالخوف والتوتر. تستجيب اللوزة الدماغية لهذه الكلمات بطريقة مشابهة لاستجابتها للتهديدات الجسدية الحقيقية، مما يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والإجهاد. ويشير الكاتبان إلى أن التأثير لا يتوقف على اللحظة الحالية فحسب، بل يمكن أن يكون للكلمات السلبية آثار طويلة المدى تؤثر على الصحة العقلية والجسدية للفرد، ويمكن أن تؤدي إلى تطور اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، حيث تضعف الكلمات السلبية الروابط العصبية المسؤولة عن التفاعل الاجتماعي والتعاطف.

استند نيوبيرغ ووالدمان إلى تجارب متعددة باستخدام تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) ودراسات الموجات الدماغية EEG لقياس تأثير الكلمات على مناطق مختلفة من الدماغ. تشير هذه التجارب إلى أن الدماغ يستجيب للكلمات كما لو كانت أحداثًا مادية. على سبيل المثال، إذا سمع الفرد كلمة تحمل معنى سلبيًا، فإن نشاط الدماغ يكون مشابهاً لذلك الذي يظهر عند تعرض الشخص لخطر حقيقي، وقد اكتشفا أن التعرض المتكرر للغة سلبية أو عدائية يؤثر على بنية الدماغ الفعلية، حيث يؤدي إلى تغييرات طويلة الأمد في المناطق المسؤولة عن الذاكرة والعاطفة.

أبعادٌ أخرى للتأثير

واحدة من النقاط المهمة التي تناولها الكتاب هي تأثير الكلمات على الإدراك الاجتماعي. يوضح الكاتبان كيف أن الكلمات التي نستخدمها للتفاعل مع الآخرين تؤثر على طريقة تفكيرنا فيهم وفي أنفسنا، فحين يستخدم الشخص كلمات مشجعة وإيجابية مع الآخرين، فإن هذا لا يؤثر فقط على مشاعرهم بل ينعكس أيضًا على نظرته لنفسه وقدراته. على العكس، فإن استخدام لغة سلبية أو ناقدة يؤدي إلى تفاقم العزلة الاجتماعية وتدمير العلاقات الشخصية.

في سياق أدبي، يعرض الكتاب كيفية تأثير الكلمات على العاطفة والإبداع. يذهب الكاتبان إلى ما هو أبعد من الجانب العلمي لتفسير الأثر الشعري والروائي للكلمات. الكلمة الواحدة قد تحمل معانٍ متعددة حسب السياق، وتخلق عالمًا من الإيحاءات التي تتفاعل مع مشاعر الفرد وخياله. ومن هنا، يمكن أن تلعب الكلمات دورًا في تشكيل التجارب الشخصية والفنية.

يؤكد الكتاب أن استخدام الكلمات الإيجابية والهادئة يمكن أن يكون له تأثير علاجي. في الأدب والشعر، غالبًا ما تُستخدم الكلمات لنقل مشاعر عميقة وتجارب إنسانية معقدة. يشير الكاتبان إلى أن قراءة نصوص أدبية مفعمة بالمعاني الإيجابية يمكن أن تعزز من عملية الشفاء العاطفي وتخفيف التوتر. الأدب يمكن أن يُستعمل كوسيلة لإعادة بناء الذات وتقوية الشعور بالهوية.

الأدب هو أحد أكثر الأشكال تأثيرًا للكلمات، حيث يعكس تفاعل الخيال البشري مع اللغة. يوضح الكاتبان أن الكلمات الأدبية قادرة على استحضار صور وأحاسيس في العقل بطريقة قد تكون أعمق من الكلمات العادية، فالقراءة تعزز من تدفق الدوبامين في الدماغ، مما يسهم في تحسين المزاج والإبداع. كلما تعمق القارئ في نص أدبي مليء بالخيال، كلما أصبح ذهنه أكثر انفتاحًا على أفكار جديدة ووجهات نظر مختلفة.

الذات وكلماتها

يُعنى الكتاب أيضًا بتقديم نصائح عملية حول كيفية استخدام الكلمات بطريقة تعزز الصحة النفسية والعقلية، فيكشف المؤلفان عن عدة أساليب يمكن للأفراد اتباعها لتقليل تأثير الكلمات السلبية وزيادة التأثير الإيجابي.

يشير الكاتبان إلى أهمية الانتباه إلى الكلمات التي يستخدمها الفرد في حديثه مع نفسه. الكلمات التي نوجهها لأنفسنا يمكن أن تكون أقوى من تلك التي نتلقاها من الآخرين. ومن هنا، يأتي مفهوم “إعادة تشكيل اللغة الذاتية”، أي تحويل الحديث الداخلي السلبي إلى حديث إيجابي أو على الأقل محايد. على سبيل المثال، بدلاً من قول “أنا فاشل”، يمكن للشخص أن يقول “لقد تعلمت من هذا الخطأ”. هذا التغيير البسيط يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في الصحة العقلية للفرد.

الكتاب يركز أيضًا على كيفية استخدام الكلمات كأداة تحفيزية. يعتمد الكثير من القادة والمدربين على لغة إيجابية ومشجعة لبناء فرق ناجحة وتحفيز الآخرين على تحقيق أهدافهم. يقدم الكتاب أمثلة حول كيفية استخدام العبارات الملهمة في التأثير على الأداء الشخصي والجماعي. يمكن للغة التحفيزية أن ترفع من الروح المعنوية وتزيد من الإنتاجية، سواء في العمل أو الحياة الشخصية.

من خلال استعراض تأثير الكلمات على المجتمع، يشير الكاتبان إلى أن الكلمات لا تؤثر فقط على الأفراد، بل يمكن أن يكون لها تأثيرات جماعية. في السياسة، الإعلام، والدين، تُستخدم الكلمات كأدوات للتأثير على الجمهور وتشكيل الرأي العام. يستعرض الكتاب أمثلة من التاريخ توضح كيف تمكنت بعض الشخصيات من استخدام اللغة بفعالية للتأثير على ملايين الأشخاص، سواء بشكل إيجابي أو سلبي. يشدد الكتاب على أن الفهم العميق لقوة الكلمات يمكن أن يساعد الأفراد على التفكير النقدي وتجنب التأثيرات السلبية للكلمات الخطابية.

الخلاصة:

يقدم كتاب “الكلمات وتأثيرها على العقل” للدكتور أندرو نيوبيرغ ومارك روبرت والدمان نظرة شاملة ومتكاملة حول تأثير اللغة والكلمات على العقل البشري. يجمع الكتاب بين الأدلة العلمية والتفسيرات الأدبية ليُظهر كيف يمكن للكلمات أن تؤثر بشكل مباشر على دماغنا وعواطفنا وسلوكياتنا. سواء كانت الكلمات إيجابية أو سلبية، فإنها تلعب دورًا محوريًا في تشكيل تجاربنا الحياتية، ليس فقط على المستوى الفردي بل على المستوى الجماعي أيضًا. يعزز الكتاب من أهمية الوعي باللغات التي نستخدمها ويدعونا إلى التفكير في كيفية استخدام الكلمات بشكل إيجابي وبناء لتحسين حياتنا وحياة الآخرين.

شارك الصفحة

لا شيء معي إلا كلمات: مراجعة كتاب الكلمات وتأثيرها على العقل قراءة المزيد »

الفضول

Picture of الكاتب: روز هندريكس
الكاتب: روز هندريكس

ترجمة: يارا عمار

كنت أتصفح أمازون يومًا ما، فاقترح لي الموقع كتابًا بغلاف أسود مع صورة بومة عنوانه “الفضول”. انتابني الفضول بطبيعة الحال: كتاب كامل عن الفضول؟ ماذا عساه أن يُقال؟  وبعد 45 ثانية تقريبًا كنت شرعت في قراءته. كان الكتاب ممتعًا، مليئًا بالقصص واستعراضات الأبحاث والحكايات التاريخية. كما كان زاخرًا بالاقتباسات الثرية، سواء للمؤلف نفسه أو لغيره ممن كتب عن نفس الموضوع على مر القرون، وستقوم المراجعة على هذه النقولات.

تصنيف الفضول

الفضول ليس نوعًا واحدًا، لكنه كما يذكر إيان ليزلي على ثلاثة أنواع، تتميز بناءً على السياقات التي تنشأ فيها، والسلوكيات التي تستحثها.

الفضول المشتت: وهو الانجذاب لكل ما هو جديد. يُظهر البشر هذا النوع من الفضول عند تصفّح إكس مثلًا أو تقليب قنوات التلفاز 30 مرةً في الدقيقة، وهو ليس مجرد فضول سطحي عديم الفائدة، لكنه نقطة الانطلاق التي تدفعنا لخوض تجارب جديدة والتعرف على أناس جدد، وتمهّد الطريق لنوعَي الفضول الأعمق.

الفضول المعرفي: يظهر هذا النوع من الفضول عندما يُصقَل الفضول المشتت ويتحول إلى سعي للمعرفة أو الفهم، وهو “أعمق” وأكثر انضباطًا ويتطلب جهدًا أكثر من النوع الأول حيث يهدف إلى فهم العالم. يستخدم علماء النفس مفهوم “الحاجة إلى الإدراك” مقياسًا للفضول الفكري: ذوو المستوى العالي يزدهرون ويستمتعون بالتحديات الفكرية، بينما ذوو المستوى المنخفض يفضّلون أن تكون حياتهم العقلية بسيطة قدر الإمكان.

الفضول التعاطفي: وهو الدافع لفهم أفكار الآخرين ومشاعرهم، ويمكن تحقيقه بتعلم وضع أنفسنا مكان الآخرين.

تاريخ الفضول

يأخذنا ليزلي في جولة عبر تاريخ الفضول المتقلّب على مر القرون: ففي بعض العصور كان يُنظر إليه بازدراء، ولم تحدث ابتكارات تُذكر في تلك الأوقات. وفي عصور أخرى -كعصر النهضة على سبيل المثال- انتشر الفضول التعاطفي والمعرفي انتشارًا واسعًا، مما أدى إلى طفرة ثقافية.

وما زال الرأي العام حول الفضول متضاربًا حتى الآن: فنحن نحذر ونقول “الفضول يقتل صاحبه”، ونصف الشخص بأنه فضولي عندما يتصرف بغرابة، ونركز في التعليم على المهارات العملية أكثر من أي شيء. وفي الوقت ذاته تجد سوقًا لبيع مثل هذه الكتب التي تشيد بهذه السمة، بل تزعم أن “حياتك تعتمد عليها”.

كيف يؤثر الإنترنت على فضول المجتمع؟ يوفر الإنترنت ثروة من المعلومات في متناول أيدينا حرفيًا، مما يتيح للفضوليين بطبيعتهم البحث والاستكشاف بلا حدود، وهو ما يفعله الكثير. لكن الذين لديهم مستوى أقل من “الحاجة إلى الإدراك” قد يستخدمون الإنترنت بطريقة تكبح فضولهم، وهو ما يفعله الكثير أيضًا. يمكن عادة الإجابة على أي سؤال: مَن/ما/متى/أين، بكتابة عبارة موجزة على جوجل، والنقر على نتيجة البحث الأولى دون قراءتها، والمرور سريعًا على جملة أو اثنتين من صفحة الويب. هذا النوع من البحث عن المعلومات لا يتطلب جهدًا، وبالتالي فلا ينشّط العمليات العميقة المرتبطة بالفضول الحقيقي. يكرر ليزلي هذا الموضوع كثيرًا: على الرغم من الإمكانات العظيمة التي يوفرها الإنترنت لتوسيع آفاقنا وتبادل أفكارنا بسرعة غير مسبوقة، فإنه -إن لم نحذر- قد يقمع فضولنا مما يلحق بالمجتمع ضررًا بالغًا.

تشبيهات الفضول

الأحاجي والألغاز: ينسب ليزلي هذا التمييز إلى غريغوري تريفيرتون الخبير في الأمن والاستخبارات. يقول إن بعض المشكلات كالأحاجي:

“لها إجابات محددة… ومنظمة، لها بداية ونهاية. وبمجرد اكتشاف المعلومات المجهولة، فلا تعد أحجية بعد الآن. يُستبدل الشعور بالرضا بالإحباط الذي أصابك وأنت تبحث عن الإجابة. أما الألغاز فهي أشد غموضًا وأقل ترتيبًا، إذ تطرح أسئلة لا يمكن الإجابة عليها إجابةً قاطعة لأن الإجابات تعتمد غالبًا على مجموعة من العوامل شديدة التعقيد والتداخل، وقد تكون معلومة أو غير معلومة… الأحاجي تسأل غالبًا عن الكم أو المكان، أما الألغاز فتسأل عن السبب أو الكيفية.”

فقراءة رواية بوليسية أحجية أيضًا، لأنه بمجرد الانتهاء منها تعرف مَن فعل ماذا وتحَل المشكلة. أما رواية مثل (غاتسبي العظيم/ The Great Gatsby) فهي لغز لأنها تجعلك تفكر في أسئلة ليس لها إجابات محددة، مثل الطابع الحقيقي للحلم الأمريكي.

يُنسب إلى الشاعر اليوناني أرخيلوخوس فكرة أنّ “الثعلب يعلم أشياء كثيرة، أما القنفذ فيعلم شيئًا واحدًا مهمًا” ومن هنا يشجعنا ليزلي على الجمع بين صفتَي الثعلب والقنفذ، فهذا هو الحل الأوسط لمسألة ما إذا كان الأفضل أن نكون مثقفين بوجه عام، أم خبراء في مجالات محددة.  ينتج عن الجمع بين الأمرين معرفةً يمكن تشبيهها بشكل الحرف T: يمثل الجزء الأعلى منه المعرفة السطحية، والجزء الآخر العمودي والطويل والنحيل يمثل المعرفة المكثفة في مجال واحد على الأقل. بعبارة أخرى “المتعلمون الفضوليون يتعمقون ويتوسعون.”

مرونة الفضول

يؤكد ليزلي أن “فضول الإنسان حالة أكثر من كونه سمة”. ذلك يعني أنه رغم أننا نولد بدرجات مختلفة من “الحاجة إلى الإدراك”، فإن الفضول يتأثر ببيئتنا المحيطة بشدة.

للأسئلة أهمية بالغة لأنها إحدى أدوات اكتساب المعرفة. قد يبدو طرح الأسئلة قدرةً أساسية، إلا أنه في الواقع يتطلب عددًا من المهارات المهمة: يجب أن تعرف أنّ هناك أشياء لا تعرفها، وأن تكون قادرًا على تصور احتمالات مختلفة لما لا تعرفه، وأن تدرك أنّ الآخرين مصدر من مصادر المعلومات. يسأل الطفل بين عمر الثانية والخامسة نحو 40000 سؤال توضيحي. وعندما يتحدث الكبار مع الأطفال ويسألونهم بأنفسهم، يبدأ الأطفال في طرح المزيد من الأسئلة. المغزى من كل ذلك أن طرح الأسئلة على الأطفال يحفزهم على التساؤل أكثر، وهذا إلى جانب اكتساب المعرفة يعلّمهم أن هذا الاستفسار سلوك مثمر.

أهمية الفضول

الفضول يعزز الابتكار. أصبحت أجهزة الحاسوب الآن أذكى من البشر في مهام كثيرة، إلا أنها ليست فضولية، ولهذا السبب يقول ليزلي:

“سيزداد الطلب على الشخص الفضولي بحق. يبحث أصحاب العمل عمن لا يقتصر على مجرد اتباع الإجراءات بكفاءة أو الاستجابة للطلبات، يبحثون عمن لديه رغبة داخلية قوية في التعلم وحل المشكلات وطرح الأسئلة النافذة. قد يصعب إدارة هؤلاء الأشخاص أحيانًا بسبب اهتماماتهم وحماسهم الذي ربما يقودهم إلى مسارات غير متوقعة، وصعوبة توجيه تفكيرهم، إلا أنهم يستحقون الجهد المبذول معهم في الغالب.”

لماذا يتفوق الفضوليون في الابتكار على غيرهم أو على أجهزة الحاسوب؟ لأنهم يتميزون “بقدرتهم الفريدة على إقامة روابط إبداعية بين مختلف المجالات، مما ينتج عنه أفكار جديدة.”

تعرف أنجيلا داكوورث مفهوم grit/ المثابرة بأنه: “القدرة على التعامل مع الإخفاق، والتغلب على العقبات، والتركيز على الأهداف بعيدة المدى”، ثبت أنّ هذا المفهوم مؤشر أساسي من مؤشرات النجاح في جميع مناحي الحياة. سمعت مرةً أستاذين جامعيين يتحدثان عن أنجح طلاب الدراسات العليا، ويقولان إنهم هم الذين يتمتعون بالمثابرة، وقد ظلت محادثتهما تدور في ذهني نحو أسبوع أو أكثر.  إن المثابرة والفضول صفتان متلازمتان: فإن كنت فضوليًا فستستمر في التعلم والاستكشاف حتى بعدما تعرف ما أردت تعلمه في البداية. وإن كنت مثابرًا فستواصل المسير حتى وإن ظهرت العوائق في طريقك وازداد الهدف الذي تسعى له صعوبةً.   

حتى تكون فضوليًا لا بد أن يكون لديك أساس من المعرفة. يرى جورج لوينشتاين أنّ الفضول ينشأ من إدراك وجود فجوة في المعلومات: عندما تعرف بعض الأمور عن موضوع ما، ثم تدرك أنك لا تعرف كل شيء، لكن يمكن تعلم المزيد. وهكذا تنشأ حلقة إيجابية رائعة: كلما تعلمت أكثر، زادت رغبتك في التعلم.

 المصدر

شارك الصفحة

الفضول قراءة المزيد »

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك

Picture of كتابة: إليزابيث جورج
كتابة: إليزابيث جورج

ترجمة: يارا عمار

pexels-ron-lach-8036320

إنّ القراءة -لا سيما النقدية- جزء لا يتجزأ من عملية البحث. ومع ذلك، فالقراءة البحثية ليست مجرد مسح سريع للأوراق البحثية، بل يلزم أن يتفاعل القارئ مع النص وأن يستخلص منه المعلومات لتطوير أفكاره الخاصة. ولذا، من الضروري أن يدرك طلاب الدكتوراه والباحثون أهمية القراءة النقدية، وأن ينمّوا روح الاستقصاء العلمي في بداية رحلتهم البحثية. مما لا يخفى أنّ القراءة البحثية الفعالة والكتابة الأكاديمية عالية الجودة يسيران جنبًا إلى جنب: كلما أتقنت استراتيجيات القراءة النقدية، استطعت أن تقدم عملك في الأوراق البحثية بشكل أفضل. لكن ما هي القراءة النقدية؟ وما استراتيجيات القراءة النقدية التي يمكن أن تتبعها للربط بين قراءة الأدبيات وعملية الكتابة البحثية بطريقة مجدية؟ سنجيب على هذه الأسئلة الشائعة بين الباحثين في هذه المقالة.

ما هي القراءة النقدية؟

تنطوي القراءة النقدية على قراءة النص بنشاط لفهم وجهة نظر المؤلف وهدف الدراسة البحثية وكيف تساهم النتائج في النهوض بالبحث في مجالك. لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش الافتراضات التي تعرضها الأوراق البحثية، وأن توظف تجربتك وخبرتك لتطوير أفكار ووجهات نظر جديدة.

تساهم القراءة النقدية بقدر كبير في تحويل القرّاء إلى باحثين مبدعين. إنّ مهارات القراءة النقدية الجيدة تعزز قدرتك على تحديد مواطن القوة ومواطن الضعف في الأبحاث السابقة في مجال معين، وتسليط الضوء على الثغرات في التحليل أو الأدبيات نفسها. كما أن الأفكار التي تنشأ من هذه العملية تساعد في تحويل الاستجابات المستنيرة القائمة على القراءة النقدية إلى دراسات بحثية مستقبلية يمكن أن تنهض بالعلوم، وكذلك تساعد في بناء أسس نظرية متينة، وتحسين تصميم البحث ومنهجيته. إن صقل مهاراتك في القراءة النقدية يسهّل عليك تقييم الأدلة ودمج هذه المعلومات في كتابتك البحثية.

استراتيجيات القراءة النقدية للباحثين

نستعرض فيما يلي بضع استراتيجيات للقراءة النقدية تعين الباحثين على الفهم التام لمحتوى الأدبيات التي يقرؤنها وتقييمها تقييمًا نقديًا. سنركز على الاستراتيجيات الأساسية التي يمكن أن يتبعها الباحث حتى تصير القراءة النقدية عادةً له:

  1. اقرأ بهدف محدد: من أهم استراتيجيات القراءة النقدية أن تقرأ الورقة البحثية مع وجود هدف أو سؤال محدد في ذهنك. مُر سريعًا على كل فصل في البحث وظلل الفقرات التي تتناول هدفك المحدد حتى تعلم ما إذا كانت الورقة بأكملها تستحق القراءة أم لا. وبمرور الوقت ستصقَل مهاراتك في القراءة النقدية وستتمكن من تقييم مدى أهمية الورقة البحثية بسرعة. كما ستفهم كيفية هيكلة الأوراق البحثية عالية الجودة، وستستفيد منها بتطبيقها في كتابتك.
  2. اكتب ملاحظات: من المهم أن تضع خطًا تحت العبارات الرئيسية، وأن تدوّن ملاحظات أثناء قراءة المؤلفات العلمية. علّم على التعليقات والأفكار المهمة، واكتب تفسيراتك أو أي أسئلة ترد على ذهنك نتيجةً للقراءة الدقيقة للنص. هذه الاستراتيجية تساعد الباحثين على استنباط المعنى الصحيح، وتشكيل حجج ذكية أثناء كتابة البحوث. كما أن تظليل الأجزاء المهمة والمطلوبة من النص يجعل القراءة أشمل ويسهّل الرجوع إليها لاحقًا، مما يسرّع عملية الكتابة الأكاديمية بوجه عام.
  3. ضع تحيزاتك جانبًا أثناء القراءة: من أساسيات القراءة النقدية أن تكون ذا عقل متفتح. على سبيل المثال: قد تمر عليك وجهات نظر وحجج توافقها أو تخالفها بشدة أثناء قراءة المقالات العلمية، هنا من الضروري أن تنحي جانبًا معتقداتك الشخصية وتفاعلاتك العاطفية التي قد تؤثر على وجهة نظرك أو فهمك للورقة البحثية التي تقرؤها. القراءة النقدية يعني أن تكون قادرًا على التعمق وفهم الحجج التي يطرحها المؤلف حتى تُحسن الاستشهاد بها في كتابتك.
  4. ضع النص في سياقه: يحتاج الباحثون أثناء القراءة النقدية إلى استيعاب السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية الذي أجري وكُتب البحث في إطارها. من المهم أن تقارن بين الموقف الذي كُتب فيه النص وواقعك، حتى تستنتج وتستخلص المعنى الصحيح وتطور حجتك.
  5. ابحث عن الروابط: جزء من عملية القراءة النقدية أن تبحث عن الروابط بين الأوراق المنشورة سابقًا في مجال دراستك، فالتعرف على الأنماط واكتشاف الروابط يساعدك في البناء على المعرفة القائمة وتعزيز بحثك وإبراز المساهمة التي سيضيفها عملك إلى مجال بحثك. كذلك من مزايا البحث عن النصوص والمصادر ذات الصلة أنه يضفي على دراستك وكتابتك البحثية منظورًا عالميًا أكثر، ويمنحك فرصة التعرف على مؤلفيها والتواصل معهم لمواصلة تعليمك البحثي.
  6. اقرأ عدة مرات: ينبغي أن يقرأ الباحثون المقالة مرات عديدة مع تجنب المشتتات. إن تكرار القراءة النقدية مع تحديد الهدف منها يعينك على زيادة فهمك تدريجيًا ورسم الروابط التي ربما غفلت عنها في القراءة العامة الأولى. قد يبدو هذا غير ضروري، لكن من المهم أن تدرك أن بناء عادة القراءة النقدية القوية -كالكتابة الأكاديمية تمامًا- عملية تدريجية تتطلب وقتًا لإتقانها.
  7. خصص دفترًا: لكتابة الأفكار والسرديات والمراجع المهمة ومواضع الاتفاق أو الاختلاف أثناء قراءة المقالات البحثية. ويحسن أيضًا أن تكتب أي تساؤلات أو شكوك تنشأ في هذا الدفتر. إلى جانب أنك تعد مرجعًا جاهزًا للمستقبل، سيكون هذا الدفتر مصدرًا رائعًا عندما تبحث عن أفكار للمشروعات البحثية المستقبلية.
  8. أعد الصياغة وبسّط: تساعد القراءة النقدية على معالجة المعلومات التقنية المعقدة، لكن قد تظل أجزاء من النص محيّرة للقرّاء. من الطرق الحسنة لتبسيط مثل هذه المفاهيم أن تعيد صياغتها، فإعادة كتابة النص بكلماتك دون تغيير جوهره يحسّن فهمك لمحتوى الورقة البحثية، كما يقوّي مهاراتك في الكتابة الأكاديمية.
  9. وسّع مفرداتك: قد تمر عليك كلمات وعبارات جديدة ذات صلة بمجال بحثك وأنت تقرأ المؤلفات العلمية قراءة نقدية: احرص على تسجيلها حتى تستكشف معانيها والسياق الذي استُخدمت فيه. هذا يسرّع وتيرة قراءتك النقدية بمرور الوقت وسيُثري كتابتك بتوسيع نطاق المفردات التي تستخدمها.

إنّ اتباع استراتيجيات القراءة النقدية المذكورة أعلاه يحسّن كفاءتك في القراءة ويزوّدك بمستودع من الأفكار البحثية. ثم بعد ذلك قد تتحول ملاحظاتك على العمل المنشور سابقًا وتفسيراتك له إلى بحث رائد محتمل يضعك على طريق النجاح.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

9 استراتيجيات للقراءة النقدية وأثرها على كتابتك قراءة المزيد »

حوارٌ حول برامج القراءة في مركز باحثات

Picture of حوار: سارة المطيري
حوار: سارة المطيري

ساهم في الحوار: غالية الفوزان

الحديثُ عن القراءة حديثٌ يجعل القلب مُفعمًا بالسعادةِ والحماسة، ونحن اليوم في مركز باحثات الذي يهتم بقضايا المرأة المعاصرة، ويعالجها من أبعاد معرفية مختلفة. تحدثنا مع ضيفتنا نسيبة باوزير المديرة التنفيذية لشركة أوقاف مركز باحثات عن مشاريع القراءة في باحثات، ابتداءً من فكرتها ودوافعها، وطريقة انضمام الفتيات إليها، وإقامة ندوات القراءة والتفاصيل التي تحيط بهذه اللقاءات والمناقشات. 

نترككم مع الحوار

– بدايةً حدثينا عن نشأة مشروع القراءة في باحثات، ابتداءً من فكرتها ودوافعها، وكيف انطلقت هذه المشاريع؟

انطلقت مشاريع القراءة في باحثات منذ عام ١٤٢٨ تقريبا؛ نشأ المركز نشأةً تخصصية، وكان يركز أولًا على الأكاديميين والمثقفين والمهتمين بالجانبِ الفكري وقضايا المرأة، ومما لا يَخفى في هذا المسار أن القراءة مدخل أساسي عند المثقفين والمهتمين والأكاديميين، سواء من الناحية المعرفية أو التطوير، فقد كانت القراءة وما زالت محورًا مهمًّا.

وتمثلت أبرز جهود “باحثات” في إصدارِ ما لا يقل عن ستين كتابًا حتَّى الآن، وعندما بدأ باحثات العمل في إطار المشاريع ليكون أقرب إلى السوق المحلي والمستفيدين، بدأنا التفكير في ماهية القوالب الحيوية والمناسبة للمستفيدين، باختلاف أنواعها، جربنا إقامة نادي قراءة للفتيات، ونادي قراءة للأمهات، ونادي قراءة للمثقفين والمهتمين، فقد كانت نوادي القراءة في “باحثات” على مشارب شتى وفئات متعددة، ولكل فئة طريقتها وآلياتها وكتبها، وطريقتها في الحوار والاستضافات المعينة، وطريقة التحفيز لها من أجل إتمامها. ومن هذا الباب، ولأننا نؤمن بأنَّ القراءة من أهم الطرق المعرفية لنمو الإنسان، فقد كانت نوادي القراءة من الأشياء الأساسية مُنذ سنوات طويلة، تقريبًا من عام ١٤٣٥هـ حيث أنشأنا أول نادٍ، وبعده تسلسلت الفروع.

والآن ونحن في عام ١٤٤٦، في باحثات نادي قراءة يستهدف الأمهات والمربيات، كما يستهدف المثقفين والمهتمين، وكان تحت مسمى نادي صبغة، ويستهدفُ الهُوية الإسلامية، ونادي للأمهات يستهدف مواضيع تربوية تحت اسم فَنن التربوي. 

– إذا أرادت إحدى الفتيات الانضمام إلى نادي القراءة، ولا سيما بمركز باحثات فثمّة أسباب عديدة تحثها على ذلك، برأيك لماذا تختار باحثات؟ 

في السنوات الثلاث الأخيرة نحن لا نستهدف الفتيات للانضمام إلى نوادي القراءة، لدينا فقط برامج ولا نقيمها في باحثات، ولكن عن طريق شركاء تنفيذين، يستهدفون الفتيات رأسًا، نحن في باحثات نعد أنفسنا بيتًا من بيوت الخبرة، يُصدر كثيرًا من الوثائق والبرامج للسوق المحلي والجهات الشريكة، الفتيات عامةً ستتوجهن إلى شركاء وليس إلى باحثات، “باحثات” سيظهر بصورةِ شريك في البرنامج للشركات المنفّذة.  

– ما هو خط سير مشروع القراءة في “باحثات” عبر مراحل وطرق من البدء وحتى إغلاق المشروع؟

ينطلقُ أي مشروعٍ من التخطيط المناسب. وندرك بصفتنا إداراتِ مشاريع، أنَّ المبادرات الجيدة قد بُذل فيها وقت نوعي، فنوادي القراءة مثلاً عندما نخطط لها:  

نبدأ بتحديدِ الأطر العامة لها (مثل الفئة المستهدفة، والغاية، والأهداف، والمُبررات، والقيمة المضافة، والقضية أو القضايا الموضوعية التي سنخدمها في هذا النادي…) 

وبعد تحديد الأطر الأساسية، نُبحر في ضبطِ المحتوى العلمي للنادي، عن طريق دراسة الحاجات، وسؤال الخبراء، وورش العمل، والاستمارات، فنجمعُ ما يمكن من الأفكار لإنضاج الفكرة الرئيسة، وبعدها نطيلُ العمل في ورش عمل، وجلسات تركيز لخروج النادي بأبهى حلة.  

وفي هذا الإطار، نحنُ حريصون على أن تكون نوادي القراءةِ التابعةُ لـ”باحثات”، ذاتَ أثرٍ عميق أكثر من مجرد قراءة كتاب، حيث نحرص كثيرًا على صُنع أواصرَ اجتماعيةٍ بين المستفيدات، ولدينا فقرة ثابتة نسميها “الخطة الاجتماعية” هدفها توليد العلاقات، وكسر الجمود، وتحقيق الألفة.  

وإذا عدنا لنتحدث عن المحتوى فلدينا معايير في اختيار الكتب، وقد تكون هذه من أصعب مراحل العمل في النادي، حيث تبدأ رحلة البحث عن الكتب إلى ما بعد تحديد الموضوعات والقضايا التي يخدمها النادي، فنضع سمات الفئة المستهدفة نصب أعيننا ونحاول اختيار كتب تناسب الفئة طولًا وقِصَرًا، وسهولةً وصعوبة.  

فنختار لكل فئة ما يناسبها، ونتأكد من وجود الكتب، وسهولة وصول المستفيد إليها، ونحرص في مرحلة جمع الخِيارات على حفظها وتقييمها في صفحة مصنفة وفق الموضوعات، حتى يُستفاد منها لاحقًا.  

كما نسعى جاهدين أثناء التنفيذ وبعد الانطلاق لاختيار المناقش المناسب الذي يثري القراء، كما نحب في النادي فكرة توسيع الأثر ونقل المعرفة، وذلك بمساعدة المستفيدين على تصدير المعارف المكتسبة من النادي.  

ولا يخفى عليكم أثر الصورة والتصميم الجذاب والملائم، لذا نحرص على الإبداع في الهوية الإعلامية لكلّ ناد. 

– هل ثمة معايير لاختيار الكتب القديمة والحديثة؟ 

ربما نختار من كتب التراث أو كتب المتقدمين أو العلماء، أو نختار كتابًا حديثًا يجمع ما بين المتقدمين والواقع المعاصر، وهذا يكون على حسب اختيارنا للموضوع وتحريرنا لموضوعات النادي، ونحن حينما نحرر ذلك نضع لكل محور هدفًا، فعندما أقول لها أريدها أن تفهم عن موضوع اضطراب الهويات اليوم أو تصادم الهويات اليوم، فإنني أقول ما الهدف الذي أود أن يخرج به المستفيد؟ وسيقرأ كتابًا مكونًا من ٥٠ صفحة أو ١٠٠ أو ٢٠٠، فكل شخص من الناس سيستفيد من زاوية مختلفة عن شخص آخر، لأن مدخلاتنا مختلفة، ومن ثَمّ إفادتنا مختلفة، ونرجع لنقول ما الهدف الذي يود أن يكتسبه فلان؟ أحيانًا يكون أمرًا تأصيليًّا، فعندما أريد أن يكون الهدف تأصيلًا لقضية ما أو معرفة ما، فأنا أحرص أن تكون الكتب المقروءة من كتب المتقدمين، أما عندما يكون الكتاب مواكبًا لأحداث العصر والواقع لكي نعرف إلى أين يتجه المجتمع؟ فسأختار كتابًا معاصرًا، أما عندما أتكلم مثلًا عن النسوية، أو الشذوذ، أو الجندر، أو الإجهاض، فسأختار مجموعة المركز المتمثلة في المصطلحات الثقافية، وهي قطعًا كتب معاصرة. لكن عندما أود الحديث عن تأصيل شرعي، أو تأصيل لحقوق المرأة، أو تأصيل لقضايا نسائية، أو الفرق بين الذكر والأنثى، فسأختار كتابًا تأصيليًّا من كتب المتقدمين، وأحيانًا نقدم بعد ذلك الفقرات الاستثنائية للنادي مثل الكبسولات، أو نتصل بالكاتب إذا استطعنا ذلك، أو تحرير لسريرة هذا العلم وقصته، بحيث لا يشترط في هذه القارئة أن تكون قد بحثت كثيرًا، لأنَّ هناك عددًا كبيرًا من القراء الذين يأتوننا مشغولين، فهي قرأت وأتت، لذا أقول لها كيف أعطيها خلاصة المعرفة؛ وهذه قيمة مضافة لأنني أعطيكِ خلاصة الخلاصة التي تحتاج إلى بحث لكي تصلي لها. كما نحرص على تطعيم النادي بهذه القيم المختلفة والنقاط المضافة التي تُعطي المستفيد زاوية أكثر اتساعًا من مجرد قراءة كتاب، إضافة إلى النقاش حول الكتاب، فهذه فكرة المتقدمين أو الكتب القديمة أو الحديثة، وذلك بحسب المحور الأساسي الأعلى في جدولة النادي.

– ماهي التفاصيل التي تُحيط بهذهِ اللّقاءات والمُناقشات؟

نستطيع القول القلوب في عيون المستفيدين، والسَّعادة التي تأتيك مقبلة بشغف لقراءة الكتاب، ومتحمسة لإعداد الكتب على الطاولات، وعدد الحضور، والديكور، ورائحة القهوة العربية إلى حدٍّ ما! ويا سلام على القراءة في مكتبة باحثات في هذا الجو مع الديكور ورائحة البخور، إذ تصير هذه الأمور تفاصيل فارقة، كما يصبح الحضور فارقًا، أضيفي إلى ذلك، نوعية المستفيدين من باحثات، الحمد لله نحن في تزايد على صعيد مستفيدي باحثات وعملائها، إنهم أناس مختلفون حقيقةً، لأن أول من نشأ نشأةً خاصةً، كان يركز على مستوى عالٍ، فلما توسع ونزل إلى طبقات أوسع في المجتمع، أصبح بحمد الله ذا سمعة، ووصل إلى الأثر البالغ، وخاصةً أن باحثات قد اكتسبت قوتها من الجانب العلمي، فأصبحنا كلما قدمنا أي برنامج، على ثقة تامة بأن القوة العلمية موجودة، أضيفي إلى ذلك أنّنا نهتم جدًّا بالقوالب والعملاء والتواصل مع كل فرد مسجل أو نحتاج لأن نصل إليه، سواء حضر أو لم يحضر، وإذا غاب بعضهم نتفقدهم، فهذه من القيم الفارقة في باحثات. كما أن لدينا اهتمامًا بالناس الذين وصلوا إلينا أو أحبوا الانضمام لنا، سواء في القرائية أو غيرها، فهذا جانب من التفاصيل التي تحيط بالسعادة في نوادي باحثات.

– ما استدامة مشاريع القراءة في باحثات؟

في نادي فنن مثلًا وهو بالمناسبة يستهدف الأمهات، وبوصفه ناديًا للقراءة فقد ابتدأ بمبادرة فردية، من نادٍ في البيت، إلى الوصول اليوم في الموسم الخامس إلى سبع مناطق في المملكة. فقد كان بين مجموعة من الصديقات في المنزل، ثم تبنت باحثات الفكرة، وصنعت الوثيقة ودعمتها في النسخة الأولى من قِبل السبيعي الخيرية، جزاهم الله عنّا خير الجزاء، في الرياض، والثانية في الرياض، وفي الثالثة أردنا التوسع، في الرَابعة أيضًا توسعنا، وفي النسخة الخامسة في سبع مناطق حضوريًّا وعن بُعد أيضًا.

فتلك هي الاستدامة، ونحن سعداء وفخورون بأننا أنشأنا النادي وصدرناه إلى الجمهور في مناطق متعددة من أنحاء مملكتنا، فحتى لو قررنا في باحثات أن نتوقف في أي ظرف ما عن أن يكون نادي فنن في باحثات، فإننا نستطيع مع الشركاء أن يكون في القصيم ومكة وجدة وأبها، فالشرقية وجازان، ونسأل الله البركة والسداد، وهذا الشكل المستدام. ونحن نؤمن حقيقةً بالشراكة ابتداءً، لكونها أحد أهم الأسباب المؤثرة في استدامة المشاريع، فعامةً وكما تعلمين نحن لا نصنع الوثيقة في القطاع الخيري لكي تكون ربحًا شخصيًّا أو مزايدة، ولكن حتى ينتشر الأثر ويعم النفع، فالوصول إلى هذا الحد من النفع وتمكين الجهات من إقامة المشروع، بحيث لا يتبقى ولا يكون لديهم أي عبء على تكراره، ويتشربون المشروع ويتبنونه، فهذا في حد ذاته بحمد الله نظن أنه جزء مهم من الاستدامة.

ختامًا: فكلّ الشكر لكم في نديم، وأسأل الله أن يبارك لكم في جهودكم ويتقبلها بقبول حسن، شكرًا لاختياركم باحثات، نتمنى أن نكون عند حسن الظن دائمًا.

شارك الصفحة
المزيد من الحوارات

حوارٌ حول برامج القراءة في مركز باحثات قراءة المزيد »

اختيار الجنون: مراجعة لكتاب: عشرة أيام في نزل الجنون

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو كتاب من تأليف الصحفية الأمريكية نيللي بلاي (Nellie Bly)، التي تُعد واحدة من أوائل الصحفيين الاستقصائيين في الولايات المتحدة.

ترجمه إلى العربية عواطف الجاروف وطُبع في دار منطاد.

نُشر الكتاب لأول مرة في عام 1887 كمجموعة من المقالات التي كتبَتْها بلاي لتوثيق تجربتها الشخصية داخل مستشفى بلاكويل آيلاند للأمراض العقلية، حيث قامت بالتظاهر بأنها فاقدة للعقل لتتمكن من الدخول إلى المستشفى ومراقبة أحوال المرضى عن قرب. يُعتبر هذا العمل من أهم الأعمال الصحفية الاستقصائية في القرن التاسع عشر، وقد ساعد بشكل مباشر في إحداث تغييرات كبيرة في نظام رعاية الصحة النفسية في أمريكا.

كانت نيللي بلاي صحفية شابة عندما قررت أن تقوم بهذه المهمة الجريئة. كانت قد التحقت بجريدة نيويورك وورلد، ولها طموح كبير في تغطية القصص التي تتجاوز العناوين اليومية البسيطة. في وقت كانت فيه النساء نادرًا ما يتم منحهن فرصًا للقيام بتحقيقات استقصائية، نجحت بلاي في إقناع رؤسائها بإرسالها في مهمة خطيرة ومثيرة تتمثل في التظاهر بأنها فاقدة للعقل لدخول مستشفى للأمراض العقلية في جزيرة بلاكويل، والتي كانت معروفة بسوء معاملتها للمرضى. كان هدفها كشف الظروف البشعة التي يعيشها المرضى وكشف الإهمال الذي يعانونه.

في الداخل:

بدأت بلاي رحلتها بتعلم كيفية التظاهر بأنها فاقدة للعقل. تدرّبت على التعبير عن جنون وهمي، حيث بدأت تتحدث بشكل غير مفهوم وتتصرف بطريقة غير مألوفة. وفعلاً، بعد سلسلة من الاختبارات الطبية السطحية والمقابلات مع أطباء لم يأخذوا الوقت الكافي لتقييم حالتها النفسية بشكل دقيق، تم إدخالها إلى مستشفى بلاكويل. هذه المرحلة تُظهر بوضوح مدى ضعف الفهم الطبي للأمراض العقلية في ذلك الوقت، وكيف كانت عملية تشخيص الأمراض العقلية غير دقيقة وتعتمد على المظاهر الخارجية.

كانت تجربة بلاي داخل المستشفى صادمة. بمجرد دخولها، بدأت تلاحظ أن الظروف التي يعيشها المرضى لا تتماشى مع أدنى معايير الإنسانية. كان المستشفى مكتظًا، والطعام الذي يُقدّم للمرضى سيئًا لدرجة أنه بالكاد يمكن تناوله. كما كانت المياه التي يشربونها غير نظيفة ومليئة بالملوثات. المرضى كانوا يُتركون دون أي رعاية طبية حقيقية، بل كانوا مُجردين من إنسانيتهم ويتعرضون لإهمال قاسٍ.

كان أحد أكثر الجوانب التي هزت بلاي هو معاملة الطاقم الطبي والممرضات للمرضى. بدلاً من تقديم الرعاية أو المساعدة، كان المرضى يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي بشكل يومي. الممرضات كنّ يصرخن في وجه المرضى، ويعاملوهم بقسوة بالغة، ويضربونهم في بعض الأحيان. أما المرضى الذين حاولوا الاعتراض على هذه المعاملة، فكانوا يُعزلون تمامًا ويُتركون في حالة من العزلة المدمرة. كانت البيئة مليئة بالخوف والترهيب، مما زاد من معاناة المرضى وعمّق شعورهم بالعجز.

عزلةٌ وإقصاء:

أحد الجوانب الأكثر تدميرًا في حياة المرضى هو العزلة التامة التي كانوا يعيشون فيها. لم يكن يُسمح للمرضى بالتحدث مع بعضهم البعض، وكانوا يُجبرون على البقاء صامتين طوال اليوم. هذا التجريد من القدرة على التواصل البشري أدى إلى تدهور حالتهم النفسية بشكل أسرع. حتى نيللي، التي كانت تعرف أن إقامتها ستكون مؤقتة، شعرت بالأثر النفسي السلبي لهذه العزلة، حيث بدأت تفقد الإحساس بالوقت والشعور بالواقع.

لاحظت بلاي أن العديد من المرضى الذين يعيشون في المستشفى لم يكونوا يعانون من اضطرابات عقلية حقيقية. البعض كان قد أُدخل إلى المستشفى لاعتبارات غير مبررة مثل كونهم فقراء أو غير مرغوب فيهم من قِبَل عائلاتهم. في بعض الحالات، كانت النساء تُدخَلن إلى المستشفى فقط لأنهن تصرفن بطريقة غير تقليدية أو لأنهن ببساطة لم يكنّ مرغوبات من المجتمع. هذه الاكتشافات أظهرت إلى أي مدى كانت الأمراض العقلية تُستخدم كذريعة لعزل الأشخاص غير المرغوب فيهم عن المجتمع.

في الخارج:

بعد مرور عشرة أيام داخل المستشفى، شعرت نيللي بلاي أنها جمعت أدلة كافية على الظروف المروعة. استدعت محامي الصحيفة الذي تدخل لإنقاذها من هذه التجربة القاسية. كانت قادرة على العودة إلى حياتها الطبيعية، ولكن تأثير هذه التجربة لم يكن مؤقتًا. عند خروجها، قامت بنشر تجربتها في سلسلة من المقالات التي هزت المجتمع الأمريكي وجعلت القراء يشعرون بالصدمة والغضب تجاه المعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها المرضى.

كان لكتاب “عشرة أيام في نزل الجنون” تأثير كبير وفوري. بعد نشر المقالات، شُكّلت لجنة تحقيق حكومية للنظر في الأوضاع داخل مستشفيات الأمراض العقلية. اكتشفت اللجنة العديد من الانتهاكات التي وثقتها نيللي بلاي وأوصت بإجراء إصلاحات عاجلة. تم تحسين ميزانية المستشفيات، وجرى توظيف طاقم طبي أكثر تأهيلاً، كما تم تحسين ظروف الإقامة وتقديم الرعاية الصحية بشكل أفضل.

الرسالة الأساسية التي تحملها تجربة نيللي بلاي هي أن الجنون ليس بالضرورة مرضًا داخليًا يُعاني منه الأفراد بقدر ما هو حالة قد تخلقها البيئة القمعية التي يُحتجز فيها الناس. البيئة القاسية، الإهمال، وسوء المعاملة قد تجعل من أي شخص سليم نفسيًا مريضًا بسبب العزلة والضغوط النفسية التي يُوضع فيها. الكتاب يُظهر أن الجنون قد يكون نتيجة لسوء معاملة المجتمع للأفراد المختلفين أو الضعفاء.

من خلال تجربتها، لم تقم نيللي بلاي فقط بكشف العيوب في نظام الصحة العقلية، بل طرحت تساؤلات أعمق حول كيفية تعامل المجتمع مع الأشخاص الذين يُعتبرون غير ملائمين. هل نعتبرهم مرضى لأنهم مختلفون؟ أم أن المرض الحقيقي يكمن في الطريقة التي يُعزل بها هؤلاء الأشخاص ويُعاملون على أنهم أقل إنسانية؟

إضافة إلى إلقاء الضوء على النظام العقلي، انتقدت بلاي النظام الطبي ككل. خلال تجربتها القصيرة في مستشفى بلاكويل، اكتشفت أن الأطباء كانوا متسرّعين في التشخيص والخروج باستنتاجات دون النظر بعمق في حالة المريض أو إجراء فحوصات دقيقة. هذه المعاينة السطحية لأعراض المرضى تُظهر فشل النظام الطبي في تلك الفترة، حيث كان الأطباء غير مهيئين للتعامل مع المرضى بطريقة إنسانية أو علمية.

الخلاصة:

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو أكثر من مجرد قصة عن التحقيق الصحفي؛ إنه دعوة إلى الإنسانية والإصلاح. من خلال شجاعة نيللي بلاي، نرى كيف يمكن لشخص واحد أن يحدث تغييرًا كبيرًا في المجتمع. الكتاب يسلط الضوء على قضية لا تزال مهمة حتى اليوم: كيفية التعامل مع أولئك الذين يعانون من اضطرابات عقلية، وكيف يجب أن نعيد التفكير في الأنظمة التي تسيء إليهم بدلاً من مساعدتهم.

شارك الصفحة

اختيار الجنون: مراجعة لكتاب: عشرة أيام في نزل الجنون قراءة المزيد »

أبو العيناء: سيرةُ ضريرٍ صلف اللِّسان

قبل سنتين من الآن كنت مكبًّا على قراءة كتابٍ سَنِيٍّ يُعدُّ من أطايب التراث العربي الإسلامي؛ وأعني: “البصائر والذّخائر” لفيلسوف الأدباء أبو حيان التوحيدي. وكان مما لاحظته في هذا الكتاب الفخيم تكرُّرَ اسمٍ في مضمار ذكر التوحيدي لحفنةٍ من الطرائف المسلية والنوادر اللطيفة التي تبثُّ الحبور في النفس، وتُلطّفها، وتبعث في الصّدر عزيمةً وإرادةً كبيرتين على مواصلة الغور في هذا الكِتاب الدسم. وهذا الاسم كان هو أبو العيناء.

بحثت في الشبكة العنكبية فوجدتُ تعريفًا يختزلُ سيرته، وبعض المقالات المتناثرة التي عرفتُ من خلالها أنّه يوجد ديوانٌ يتيم جمع أشعاره المرصّعة بالأساليب البلاغية والمشبّعة بالحِكم التي تنمُّ عن خبرةٍ عاليّةٍ ببلاوى الدّهر وتصاريف الأحوال، وتشي أيضًا بمعرفة واسعة بطباع الناس سواءً أكانت محمودة ومستحبة، أو مذمومة يتكرّه منها كلّ من ملك النّزر اليسير من التعقُّل، ويُنبئ هذا الديوان بأنّ صاحبه ناثرٌ سجّاع وشاعرٌ جدلٌ، بيِّنُ الإشارة ودقيق العبارة، يُجيدُ التلاعب باللفظين: الجزل والشائن، وتلك مزيّةٌ لا نجدها عند غالبية الكُتَّاب في التراث.

انصرمت الشهور ولم أجد هذا الديوان إلى أن ساقتني الأقدار فعثرتُ عليه صدفةً في إحدى المكتبات الجامعية العربية، فكان ذلك اليوم بمثابة عيدٍ عندي، وصار لساني يلهجُ بالقول الذي قرضهُ الشّاعر: “هذا هو العيد فلتصف النفوس به وبذلك الخير فيه خير ما صنعا”. وحدها الكتب النادرة والمكتظّة بالنُّضرة والألق من تستحقُّ أن يُنشد عنها هذا البيت الشِّعري.

عكفتُ عكوف الزاهد على قراءة هذا الديوان الصغير الذي يمتد على مساحة 144 صفحة من القطع الكبير، وقد أسدى المحقق الجليل أنطوان القوّال خدمةً جليلة للتراث العربي الإسلامي حينما اعتنى بتحقيقه والتعليق عليه. وجدتهُ ديوانًا كيّسًا، مرتَّبًا، ومليئًا بالأشعار الحكيمة المتأرجحة بين اللغة الفتّانة، وحينة أخرى يبدو صاحبه وكأنّه مهتجسٌ بالحكمة والقضية أكثر من الاهتمام باللغة؛ فتصيرُ هذه الأخيرة متنابذة مع التي سبكَ بها أشعارًا أخرى؛ بيد أنَّه بالرغم من ذلك لا يقع في مصيدة الإملاق الجمالي. أفرد المحقق قسمًا كاملًا لكتاباته الشّعرية التي تنبئ بأنّ صاحبها كان حصيفًا على بينةٍ من الأمور، مرتَّبَ الأفكار، ذليق اللسان لا يُهادن من تجرَّأ عليه، وصريحًا متبرِّمًا من الختل والمخادعة، لا يستحبُّ إلّا الصدق والإيثاق، وإن أحبَّ شخصًا تودّد إليه، وإن كره آخر غمرهُ بالقول البذيء ولفَّه بالعبارات المنحطة المنتقاة بعناية فائقة من قاموس الكلام المقذع. وأمثال أبو العيناء هم في انقراضٍ متواصل؛ إذ عمَّ زمننا الضّنين هذا وبشُ القوم البارعين في المداهنة والمماذقة والتزلف، لا يفترون عن إظهار المحاسن قصد بلوغ مآرب ذاتية وبعدها يتلونون مظهرين كومةً من المقابح التي لا تماري في أنْ يستبشعها كلُّ عاقلٍ سويٍّ.

انطوى هذا الديوان على ثلاثة أقسام: الأول كان في غاية التكثيف والاختزال؛ إذ روى فيه المحقِّقُ سيرة أبو العيناء وتنقله من الأهواز التي تعرَّف فيها على الوجود، ثم انتقاله إلى البصرة التي عاش فيها ردحًا من العمر قبل أن يُداهمه فيها المنتصرُ على الإنسان دائمًا: الموت. تتلمذَ على يد أساتذة أجلاء وشعراء لامعين من قبيل: الأصمعي، وكان ضريرًا يُعاني وَبيْلَ الاحولال، يرتحلُ في درب الحياة متكئا على حكمتهِ وفصاحته وملاحة عبارته، ومستندًا أيضًا على رجاحة عقله وأحوذيّته البائنة وسلاطة لسانه التي كان يخشاها ناسٌ كثرٌ ومن بينهم علية القوم.

فالخليفة العباسي العاشر المتوكّل كان من بين الذين احتووا أبا العيناء واهتمّ به وأغدق عليه بجوده وجعله زاهيًا في قصره، غير أنّه كان دائمَ التوجس من قوة لسانه؛ فالقوة هنا ليست كناية على الفصاحة والبلاغة وحسن القول، بل توجسه كان من البذاءة وصفاقة القول. نقرأ في هذا المضمار ما ورد في ديوان أبو العيناء:

“لمَّا أُدخلتُ على المتوكل عابثني جلساؤه فلما برزت عليهم قال المتوكل: ادفعوا إليه عشرة آلاف درهم اتقاءً للسانه. فقلت: قد قتلتني والله يا أمير المؤمنين. قال لي: ويحك، وكيف ذلك؟ قلتُ: لأنَّ من خِفتهُ لا يعيش. فقال: ليس خوف فَرَقٍ، ولكن خوف صيانة”.

ولعل الباعث على الانذهال في سيرة أبو العيناء هو أن أساطين النثر العربي المائزين الذين نُصِّبوا في مصاف ألمع من طوَّع اللغة العربية وتلهوا بها هم أيضًا وجدوا أنفسهم خانعين أمام صريمة لسان أبو العيناء، وأضرب هنا من باب التمثيل حكايته مع الجاحظ؛ حيث قزَّم منزلة هذا الأخير أمام الناس وجعلهُ عاجزًا عن مجاراته بعدما طنزَ صاحب كتاب “البُخلاء” من العاهة التي يُعاني منها أبو العيناء:

“قال الجاحظ مقابلًا بين اسمي الرجلين وكنيتهما ولقبيهما: علمتُ أنّ أبا القاسم أحسن من عمرو بن بحر، وأنّ أبا عبد الله أحسن من أبي عثمان. ولكن الجاحظ أحسن من أبي العيناء. فقال هذا الأخير: هيهات. جئت إلى ما يخفى من أمورنا ففضّلتني عليك فيه، وإلى ما يُعرف، ففضّلت نفسكَ فيه. إنّ أبا العيناء يدل على كنيةٍ، والجاحظ يدلُّ على عاهةٍ. والكنية، وإن سمجت، أصلحُ من العاهة، وإن ملحت”.

هذه الصلافة التي طبَعت لسان أبي العيناء جعلته يظفر بنعت “الوقح”؛ إذ لم يسلم منه أحد، وكان لسانه يقطرُ بالعبارات الجامعة للألفاظ المُسكتة والنّاسفة لمنزلة للآخر، وقد ردّ على من نعتوه بذلك قائلًا:

“أمَا علمتم أنّ للحياء شرائط ليست معي واحدة منهن؟ أولهنّ العين، ولستُ أبصرُ، والثانية اجتناب الكذب، وأنا من رهط مسيلمة الكذاب، والثالثة أنّ النبي محمد قال: الحياء من الإيمان، فأيُّ إيمانٍ ترون معي؟”.

والقسمين الثاني والثالث خُصِّصا لشعره الذي كان في مجملهِ ردًّا على أناسٍ زاحموا أبا العيناء وكلَّفهم ذلك سماع قوله القميء والمستهجن، ثم لأخباره الطريفة ونوادره المستظرفة مع الخليفة المتوكل والقضاة وكتّاب الدواوين وأفناء البشر أيضًا.

اجتمع في نوادر أبي العيناء ما تفرق في غيرها؛ إذ زاوج بين البصيرة الثاقبة في النظر إلى أمور الحياة وبين الحكمة في التصرف، وجمع بين رقّة البيان وفخامة المعنى وطراوة اللفظ والقدرة الهائلة على التفكُّه والتندر وبين الجلافة وجهامة اللسان، وامتلك أيضًا مقاليد الحكي والتناظر؛ إذ كان يروي مروياته وأخبار الآخرين باستحكامٍ كبير يبيّن براعته في التنقل الرشيق من واقعة لأخرى، وكان يرمي من ذلك تلطيف الجو وجعل القلوب مغتبطة، لذلك نالَ باقتدار صفة: فاكهة مجالس ندمائه وخلّانه.

فضلًا عن أنه كان يردُّ بأجوبةٍ مسكتة في غاية العجل لا تخفى على كلّ من حاول التصغير منه أو التطاول عليه أو المسّ بتوقيره، فكلّ من ارتأى أذيّته فقد حكم على نفسه بسماع ما قد لا يستحسنهُ، ولربما يصل الأمر بأبي العيناء إلى لسع الآخر بقوارص الكلم وقول عبارة جارحة تقصمُ ظهره وتنغرسُ في صدره آبيةً أن تبرحه بعدما تعجزُ السّنون على انصرامها على تذويبها. وهذا تأكيدٌ وتشاكلٌ مع ما ورد في كتاب البصائر والذخائر: “جرحُ اللسان أعمقُ من جرحِ اليد”. يُقرُّ ياقوت الحموي في مصنّفه الرّحيب بذلاقة وعذوبة قول أبو العيناء وسطوة لسانه. قال عنه: “وكان فصيحًا من ظرفاء العالم، آيةً في الذّكاء واللسن وسرعة الجواب”.

هل القوّة التي توفّرت في لسان هذا الأديب الظريف هي تعويضٌ على الفقد الذي حلّ بعينيه؟ ألم يذكر الماوردي في كتابه أدب الدّنيا والدّين “أنّ “العينان أنمُّ من اللسان”؟ هل للسان مقدرةٌ تفوق العين؟ الجواب على الأرجح يقتضي الكثير من الحذر لأنّ التسليم بحكمٍ قطعي هو مُجازفةٌ حقيقيّة. يظهر من خلال تجربة أبي العيناء الذي عاقره الضرُّ في عينيه أنّه لم يستسلم لهذا الداء الوبيل بل جابه تقلُّبات الحياة وعرف كيف يُعوّض هذا الفقد الذي لحقه، وانكبَّ على الأدب شعرًا ونثرًا، حفظًا وقرضًا، ونهل من تراث القدامى، وعرف طرائفهم وأخذ يرويها بسخاء، وحينة أخرى يستدعي قدراته التخييلية ليبتدعَ قصصًا لم يقرأها في أيّ مصنفٍ من ذي قبل، وهذا ما منحه التميز والتفرد، وجعل كثيرين من الساسة والمسؤولين على الرعية أن يغمروه بالعطف والحدب، ويجعلوه متطامنًا في أحضانهم، ليستغلّ الفرصة وينشر الفرح في الندماء وكلّ من حظيَّ بمُجالسته.

والأمتع أنّ أبا العيناء صار هو والطّرائف مترادفين؛ إذ لا يكاد يمرُّ يومٌ ولا يُصادفُ شخصًا فيُساجله ويفحمه بعباراته الوجيعة-المضحكة-المسكتة التي تُظهر سرعة البديهية عنده وأنّه غير فدمٍ يُعاني ثقل الفهم وعسر الاستيعاب؛ فيرتقي الحادث إلى مرتبة طرفة تروى عنه. لنأخذ من باب التمثيل بعض الطّرائف عنه: “قالتْ قينةٌ لأبي العيناء: هبْ لي خاتمك وأذكرك به. فقال لها: اُذكري أنكِ طلبته منّي ومنعتُكِ”، ونجد في موقعٍ آخر من الدّيوان: “مرَّ أبو العيناء يومًا بباب عبد الله بن منصور، وكان يكرهه. وكان عبد الله مريضًا، وقد صحَّ. فسأل غلامهُ: كيف خبره؟ فقال: كما تُحبّ. فقال أبو العيناء: ما لي لا أسمع الصراخ عليه”! وذات مرّة تبجّحَ أبو العيناء على قينةٍ بفطنته المتّقدة وصفاء لغته وفشو اسمه في صفوف القاصي والداني، فلمّا رأته استقبحت منظره، وتحاشته، فكان ذلك أن هيّج بداخله الغضب إزاء تصرفها ذاك وقرضَ في وجهها البيتين الآتيين:

“وشاطرةٍ لما رأتني تنكَّرتْ   وقالت: قبيحٌ أحْوَلُ ما له جسمٌ

فإنْ تُنْكِري منّي احولالًا فإنني   أديبٌ أريبٌ لا عييٌّ ولا فَدْمٌ”.

لمّا سمعت القينة هذين البيتين شرعت في إحباط عُنجهيته تلك بقولٍ لم يتوقعهُ على الإطلاق: “إنّي لم أردكَ أن أوليّك على ديوان العراق”.

لقد كان أبو العيناء يُواربُ الحياة العصيبة بالسخرية والتندر وكأنّه اتخذهما دواءين لداءين عاصفين هما: العَمى، والحمد لله أنّه عانَى العمى العُضويّ، ولم يكن عَمِهَ البصيرة مثل كثيرين في هذا الزمن، والفرق بينهما بائنٌ لا يخفى على أحدٍ. والداء الثاني هو أنّ شظف العيش كان ينهشهُ ولم يعرف سبيلًا إلى الرفه ورغد الحياة إلّا حينما عانقته الشُّهرة وصار يُشار إليه بالبَنان؛ فأخذه بعض الوزراء والقضاة للعيش تحت كنفهم، وقبل ذلك عاش في قصر المتوكل ليتنعم ببحبوحة العيش، ولكي يُجابه كلّ هذا البؤس الذي عمَّر في حياته نزع إلى السخريةوالتي تظهر بشكلٍ أوضح في الرسالة الآتية التي بعثها إلى صديقٍ له تقلّد مهمةً جسيمة، والحقُّ أنّها رسالةٌ كانت عامرةً بالتلميح العابر والسّريع والملغوم وفعل أبو العيناء ذلك مُحتميًا بأحابيل اللغة التي منحته فسحةً شاسعة للنّط على الترميز والإيماء المُحتاجين للتروّي والتبصُّر لاستكناه مرامي أبا العيناء:

أمّا بعد فإنّي أعظكَ بموعظة الله تعالى، لأنّك غنيٌّ عنها، ولا أخوِّفك إيّاه لأنك لا تخافهُ… واعلم أنّ الخيانة فطنةٌ والأمانة خرقةٌ، والجمعُ كيسٌ والمنع صرامةٌ، فاذكر أيام العُطلة في حال الولاية، ولا تحقرن شيئًا صغيرًا فالذود إلى لذود إبل، والولاية رقدة، فتنبّه قبل أن تنبَّه… وما هذه الوصية كما أوصى به الحكماء، ولكنّي رأيتُ الحزم في أخذ العاجل وترك الآجل”.

كيف كان سيعيشُ أبو العيناء لو لم يكن لوذعيًا قويمَ اللسان، طريّ اللفظ، بديع العبارة، سيئ اللسان، ألمعيًا في السّرد والنثر والشِّعر، دؤوبَ السعي إلى إطراب ندمائه بالنوادر والطرائف المُبيدة للهمّ والغمّ، ميالًا إلى السخرية والتفكه، مقبلًا بشكلٍ ظاهرٍ على الحياة غير متبرمٍ منها رغم أنّه فاقدٌ لنعمة البصر وكأنّه كان بهذا الإقبال يُطبِّقُ وصيَّةَ الكِندي في رسالته الشهيرة “في الحيلة لدفع الأحزان” التي قال فيها: الحزن والسرور ضدان لا يثبتان في النفس معا… فينبغي إذن أن لا نحزن على الفائتات ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضيةً بكل حالٍ، لنكون مسرورين أبدًا“؟. على الأرجح إنّه كان سيظلّ ضريرًا حاردًا على وضعه، ومعانقًا الفاقة وضيق الحال والتكفف، وسيصطبر مضطرًا على تكالب الدهارس عليه، ولن يحظى بالمساناة التي من شأنها أن تشمله بالبهجة، ولن يظفر بأكلٍ باذخ على سفرةٍ تسلبُ العقل واللب، أو ينال بدنه سمتًا حسنًا، أو يحتويه مكانٌ يكون مرتعًا للوسن حينما يستحليه ويقيه نكزات الشمس والصَّرَدِ. لا غرو إذا قلت إن هذه الحظوة التي سَعِد بها أبو العيناء جرّت عليه طائفةً من الحسدة الذين تمنوا لو كانوا مكانه، وخامرتهم مأربة أن يبعدوه عن قصر الخليفة المتوكل، وهذا ديدن الحُسَّاد؛ إذ كلّما حسدوا امرأ روّجوا عنه الافتراءات، وحاكوا له المكائد والدسائس، ومضوا في تشويه سمعته وجعلِه سافرًا في صفوف الناس، وقد يتعدّون ذلك إلى الإيذاء البدني، وهذه بعضٌ من مثالب الحسّاد الذين وصفهم التوحيدي بأنّهم “مناشيرٌ لأنفسهم”، ولعل أَجَلَّ مثال على هذا الحسد هو ما هو ما قرضهُ الشّاعر أبو علي البصير عن أبي العيناء حيث قال:

“قد كنتُ خِفتُ يد الزمان   عليك إذا ذهب البصر

ولم أدرِ أنَّك بالعَمى   تغنى ويفتقرُ البشر”.

شارك الصفحة

أبو العيناء: سيرةُ ضريرٍ صلف اللِّسان قراءة المزيد »

التسلية بالعلم

Picture of معاذ الأنصاري
معاذ الأنصاري

مؤسس مبادرات قرائية

pexels-osmanozumut-14493661

مقدمة:

كان العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله- في زيارة علاجية للبنان لما وقع بين يديه كتاب ديل كارنيجي “دع القلق وأبدأ الحياة”، فأُعجب به وقال أنه “رجل منصف”.

وقد ألف العلامة السعدي على ضوء هذا الكتاب رسالة صغيرة الحجم كبيرة المعنى عظيمة النفع قد سماها ” الوسائل المفيدة للحياة السعيدة”.

ومن الأسباب التي عقد لها العلامة السعدي -رحمه الله- فصلاً في دفع القلق وتحصيل السعادة سماه: الاشتغال بعلم من العلوم النافعة.

وقد كنت قيدت نصوصاً وافقت هذا المعنى على فترات كلما تسور التردد والملل على الحزم، وهذه منها:

التسلية بالعلم عن الفقر:

جاء في ترجمة أبي الوليد الباجي: “الإمام، العلامة، الحافظ، ذو الفنون، القاضي، أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، الأندلسي، القرطبي، الباجي، الذهبي، صاحب التصانيف، أصله من مدينة بطليوس، فتحول جده إلى باجة- بليدة بقرب إشبيلية – فنسب إليها، وما هو من باجة المدينة التي بإيفريقية.

ولد أبو الوليد: في سنة ثلاث وأربع مئة”.

وقد عانى رحمه الله في طريق الطلب كما يقول فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه مفهوم العالمية: “الفقر وشظف العيش، وقاسى لواعج الحاجة والحرمان في رحلته إلى المشرق ببغداد، وكذلك بعد عودته إلى موطنه الأصلي بالأندلس؛ فاشتغل بيده حيناً واستأجر نفسه حيناً آخر بل اضطر للتكسب بشعره أحياناً أخرى إلى أن اكتشف الناس تفوقه العلمي ونبوغه الفقهي فكان من أمره ما كان وهرع إليه العلماء والأمراء، ثم صار ( ذا الوزارتين ) في الأندلس… حتى جاء بمصنفات في الفقه، والحديث، والأصول، والجدل، والمناظرة، ما لا يجود الزمان بمثله، ولا يتمخض التاريخ بكفئه”.

 ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة وجرت بينهما مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: “تعذرني، فإن أكثر مطالعتي كانت على سُرج الحُرَّاس”.

توفي رحمه الله عام ٤٧٤هـ.

التسلية بالعلم عن المرض:

شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ترجم له الحافظ البزار – رحمه الله- ترجمة حسنة مختصرة سماها ” الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.”

قال عنه الإمام ابن القيم-رحمه الله-:

“وحدثني شيخنا [ابن تيمية] قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض.

فقلت: لا أصبر عن ذلك، وأنا أُحاكمك إلى علمك:

 أليست النفسُ إذا فرحت وسُرّتْ قويت الطبيعة، فدفعت المرض؟ فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تُسَرِّ بالعلم فتقوى به الطبيعة، فأجد راحةً.

فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا. أو كما قال”.

توفي رحمه الله عام ٧٢٨هـ.

التسلية بالعلم عن الأهل والوطن:

محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي: علامة عصره في اللغة والأدب.

قال عنه الأديب طه حسين  :

“كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريباً للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سنداً ومتنا عن ظهر غيب”.

أخذ العلم في موريتانيا عن أبيه وبعض أقاربه، كما أشار في حماسته:

“غذاني بدر العلم أرأف والدٍ

وأرحم أم لم تُبِتني على غم

ولم يفطماني عنه حتى رويته

عن الأب ثم الأخ والخال والأم.

وعن غيرهم من كل حبر سيمدع

تقي نقي لا عيي ولا فدم”.

 ثم ارتحل إلى المشرق وحج، وصار يتردد في الاقامة بين مكة والمدينة إلى أن قصد القسطنطينية، فأكرمه السلطان عبد الحميد وعرف قدره وأوفده ١٣٠٤هـ إلى باريس ولندن والأندلس للاطلاع على ما في خزانتها من الكتب العربية النادرة.

وقد كتب لنفسه رحلة علمية أسماها “الحماسة السَّنِيّة الكاملة المَزِيّة فى الرحلة العلمية الشنقيطية التُّركزية”، ضمنها كما يقول أحمد تيمور باشا: “شيئاً من أخباره وقصائده وردوده على من خالفه في بعض المسائل العلمية”، منها قصيدة في مدح العلم والتحفيز له بدأها بقوله:

“ولـمَّا طعمتُ لذَّة العلمِ صيَّرتْ

سواها من اللَّذات عندي كالسُّمِّ

ولـمَّا عَشِقتُ العلمَ عشقَ درايةٍ

سلوتُ عن الأوطان والأهل والخِلْمِ

ولـمَّا علمتُ ما علمتُ بغربنا

ترحَّلتَ نحو الشرقِ بالحزم والعزمِ

ولم يَثْنِ عزمي نهيُ حسناءَ غادةٍ

شبيهةُ جُمْلٍ بل بُثَينَةَ بل نُعْمِ

ولم يُعْمِ قلبي حبُّ عذراءَ كاعبٍ

وحبُّ العذارى قد يُصِمُّ وقد يُعمِي

رحلتُ لجمع العلم والكتب ذاهبًا

إلى الله أبغي بسطةَ العلمِ في جسمي

وأمعنتُ في إدراك ما رُمتُ نيلَهُ

فأدركتُ ما أدركتُ بالصَّبرِ والحزمِ

وصرتُ بما أدركتُ من ذَينِ هاديًا

بشمسٍ على شمسٍ ونجمٍ على نجمِ”.

توفي رحمه الله ١٣٢٢هـ.

التسلية بالعلم عن الشقاء النفسي:

مصطفى لطفي المنفلوطي أحد أعلام الأدب العربي في عصر النهضة، يقول عنه أحمد حسن الزيات: “وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وفي أمريكا، قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنوناً من القول، وضروباً من الفن، لا نعرفها في أدب العرب، ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها، كما أجمنا أساليب المقامات، من الألفاظ المسرودة، والجمل الجوف، والصناعة السمجة، والمعاني الغثة… وحينذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه [صحيفة] المؤيد، إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النعيم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد، مالم يرد في فقرات الجاحظ وسجعات البديع”.

من مؤلفاته: النظرات، العبرات، في سبيل التاج، الشاعر، ماجدولين، الفضيلة.

نشأ المنفلوطي في بيت علم وقضاء لكن كما يقول محمد أبو الأنوار في دراسته الرائدة عن المنفلوطي: “لكن الأمور لم تستقم بين والده وأمه، فقد طلقت هذي الأم، وتُرى إلى أي حدٍ أثرت هذه الحادثة على نفس حساسة رقيقة تبكي للشيء تتخيله وتئن حتى للوهم يمر بها؟ الذي لا شك فيه أن هذا السبب لعب مبكراً دوره في تعميق إحساس المنفلوطي ببؤس الحياة، وأقنعه أن الخير فيها عارض ومن أجل هذا أحس مأساة الآخرين”.

يقول المنفلوطي: وكنت إنساناً بائساً لم يترك الدهر سهماً من سهامه النافذة لم يرمني به ولا جرعة من كؤوس مصائبه ورزاياه لم يجرعني إياها فقد ذقت الذل أحياناً والجوع أياماً، والفقر أعواماً، ولقيت من بأساء الحياة وضرائها مالم يلق بشر”.

ويذكر أثر تعلقه بالأدب والتسلية به: “فكنت أجد في نفسي من اللذة والغبطة بذلك كله ما لا يقوم به عندي كل ما ينعم به الناعمون من رغد في العيش ورخاء، حتى ظننت أن الله سبحانه وتعالى قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه لما علم أنه لم يكتب لي في لوح مقاديره ما كتبه للسعداء والمجدودين من عباده من مال أو جاهٍ أعيش في ظله وأنعم بثمرته، زخرف لي هذا الجمال الخيالي البريء من الريبة والإثم، وزوره لي تزويراً بديعاً، ووضع لي فيه من الملاذ والمحاسن مالم يضع لغيري، رحمةً لي وإرعاءً علي أن أهلك أو يهلك لبي بين اليأس القاتل والرجاء الكاذب”.

توفي رحمه الله ١٣٤٢هـ ١٩٢٤م.

التسلية به عن الإعاقة الحركية:

الإمام العلامة محمد البشير الابراهيمي، ولد عام 1306هـ الموافق ١٨٨٩م.

قام على تربيته وتعليمه عمه العلامة محمد المكي الابراهيمي، ولم يفارق تعلمه في بيت أسرته.

كانت له حافظة عجيبة وعرف عمه كيف يصرفها فيه، “فحفظ القرآن حفظاً متنقنا وهو في الثامنة، وحفظ معه في تلك السن، ألفية ابن مالك وتلخيص المفتاح، وما بلغ العاشرة حتى كان يحفظ ألفيتي العراقي في الأثر والسير

ونظم الدول لابن الخطيب ومعظم رسائله المجموعة في كتابه ريحانه الكتاب، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كتاب المشرق كالصابي والبديع، مع حفظ المعلقات والمفضليات وشعر المتنبي كله وكثير من الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهر كثيراً من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظ كثيراً من كتب اللغة كاملة كالإصلاح والفصيح، ومن كتب الأدب كالكامل والبيان وأدب الكاتب، ولقد حفظ وهو في تلك السن أسماء الرجال الذين ترجم لهم نفح الطيب وأخبارهم وكثيراً من أشعارهم.

ويقول كنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد ممّا يحقق ما نقرأه من سلفنا من غرائب الحفظ”.

ويقول عنه الشيخ خبيب الواضحي في مناقشات آثاره: “كان الإبراهيميُّ فيلسوفًا في الحياة، هو وابنُ باديس، وكانا على درجةٍ من الوعي، والبصيرةِ بطرقِ الإصلاحِ، عاليةٍ، وعلى همّةٍ في ذلك ماضيةٍ، وكذلك كان أبناءُ ذلك الجيلِ، شحَذتْهم إكراهاتُ الزّمان، ونجَّذَهم ضيقُ الأحوال، فانتهوا إلى أشياءَ نحن اليومَ نَلَغُ فيها وما زلنا لا نفهمُها”.

يقول الإبراهيمي رحمه الله: “ولما بلغت التاسعة أصيبت رجلي اليسرى بمرض، وكان الإهمال والبعد عن التطبيب المنظم أثر في إصابتي بعاهة العرج في رجلي، وقد أنساني ألمها والحزن عليها ما كنت منكباً عليه من التهام كتب كاملة بالحفظ فكان لي في ذلك أعظم سلوى عن تلك العاهة”.

توفي رحمه الله في ١٣٨٥هـ الموافق ١٩٦٥م

التسلية به عن نكبة الحروب والنزاعات:

العلامة محمد الله دراز -رحمه الله- من خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين.

ولد رحمه الله يوم ١٨ نوفمبر ١٨٩٤م في محافظة (كفر الشيخ) المصرية، ونشأ في أسرة ذات دين وعلم وخلق.

كان والده الشيخ عبدالله دراز (ت:١٩٣٢م) فهو من علماء الأزهر المبرزين في علم الأصول وفقه اللغة، وهو شارح كتاب الموافقات للإمام الشاطبي.

حفظ دراز القرآن وهو فتى يافع لما يكمل بعد العقد الأول من سنيه، ثم انتقل إلى الاسكندرية عام ١٩٠٥م حينما كلفَ الإمام محمد عبده والدَه بالإشراف على تأسيس معهد أزهري هناك، والتحق به دراز وحصل الشهادة الابتدائية والعالمية متفوقاً على دفعته.

وكانت أول تجربة مهنية له هي في التدريس الذي بدأه في المعهد ذاته فور تخرجه من عام ١٩١٦م وهو لا يزال في أوائل العشرينات من عمره، وكان يدرس في المساء الفرنسية حتى أتقنها في ثلاث سنوات.

حصل على منحة دراسية بجامعة السوربون، درس خلالها بمثابرة عيون الفلسفة الغربية، مقارنًا لها بما حصّله من دراسة التراث الإسلامي.

وكانت أطروحته لشهادة الدكتوراة بعنوان “أخلاق القرآن”، وأُعجب بها كبار المستشرقين مثل لويس ماسينيون، وبروفنسال.

كان عزيز النفس لم تثنه أهوال الحرب العالمية الثانية وخضوع فرنسا للاحتلال النازي من متابعة دراسته بكل مثابرة، ويحكي نجله محسن أن أباه “رفض مراراً عروض من السفارة المصرية بباريس بإعادته وأسرته إلى مصر خوفاً على حياتهم، فكان رده دائماً “إن مهمتي لم تنته بعد” ولم يقبل العودة إلى مصر قبل نهاية دراسته، وإن كان قد اضطر إلى إرسال أسرته بعد إصابة زوجته في قصف أمريكي لفرنسا المحتلة يوم ٨ يونيو ١٩٤٨م”.

توفي رحمه الله بمدينة لاهور الباكستانية عام ١٩٨٥م.

التسلية به عن الأرق:

هل سمعت بـصامويل أنرماير؟ يصفه ديل كارنيجي بأنه “محام ذائع الصيت، ومفخرة جامعة نيويورك، لما بلغ الحادية والعشرين كان دخله السنوي يقدر بخمسة وسبعين ألفاً من الدولارات، وفي عام ١٩٣١م تقاضى في قضية واحدة مليوناً كاملاً من الدولارات وقد عُمّر هذا الرجل حتى بلغ الحادية والثمانين”.

لما التحق بالجامعة كان يشكو من علتين: الربو والأرق،” ولم يكن يلوح له أن هاتين العلتين ستفارقانه، من أجل ذلك عوّل صمويل على استخلاص ما عساه يكمن من الخير في علته، لقد كان إذا أراد النوم فاستعصى عليه لم يلح في الطلب، بل يقوم إلى مكتبته وينكب على الدراسة، فماذا كانت النتيجة؟ لقد تخرج حائزاً على مرتبة الشرف ولازمه القلق حتى بعد أن تخرج في الجامعة ومارس المحاماة ولكنه لم يمتثل للقلق مطلقاً، وعلى الرغم من ضآلة حظه من النوم كان محتفظاً بصحته وظل قادراً على بذل الجهد، بل كان يبذل مجهوداً يفوق ما يبذله أقرانه من المحامين، ولا عجب فقد كان يعمل بينما زملاؤه نيام”.

خاتمة:

ظلت هذه الحقائق كرامة “يشترك فيها المؤمن وغيره” كما يقول العلامة السعدي رحمه الله، وقد حاول علم النفس تفسيرها كما ينقل ديل كارنيجي بأنه “من المحال لأي ذهن بشري، مهما يكن خارقاً أن ينشغل بأكثر من أمر واحد في وقت واحد”، لذا يقول كارنيجي نفسه بأن “الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق”.

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
لماذا لا يقرأ الطلاب الجامعيون؟ وماذا يسعنا أن نفعله حيال ذلك؟
يجب التمييز بوضوح بين تسوندوكو والبيبلومانيا/هوس اقتناء الكتب لفهم حقيقة كل منهما.

لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش

التسلية بالعلم قراءة المزيد »

الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا

Picture of الكاتب: بو سيو
الكاتب: بو سيو

ترجمة: يارا عمار

“بو سيو بطلٌ في المناظرات نال البطولة العالمية مرتين، وكان مدربًا سابقًا لفريق المناظرات الوطني الأسترالي واتحاد مناظرات كلية هارفارد. يقدم سيو في هذه المقالة خمس أفكار رئيسية من كتابه الحديث “الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا”.

١. المناظرات فرصة للتعبير عن النفس:

لم أكن أتحدث الإنجليزية عندما انتقلت من كوريا الجنوبية إلى أستراليا وأنا في الثامنة من عمري. سرعان ما أدركت أن أصعب جزء في التغلب على الحواجز اللغوية هو التكيف مع المحادثات اليومية، وأنّ أصعب المحادثات في التكيف معها هي الخلافات. هنا حيث تشتد الانفعالات وتنهار أنماط الحديث العادية ويقاطع المتحدثون بعضهم بعضًا.

شعرت أن اختلافاتي عن أقراني -إذا ما انكشفت- ستجعلني شخصًا دخيلًا بينهم، وستقوّض أي شعور بالانتماء حققته في هذا المكان الجديد. ولذلك عزمت على أن أكون متوافقًا للغاية، وأن أبتسم وأومئ برأسي، وأن أحتفظ بمعظم أفكاري لنفسي. ثم أصدر معلّمي في الصف الخامس قرارًا بأن على الجميع التزام الصمت عندما يتحدث أحد الطرفين في المناظرات، وكان هذا ما أخرجني من حالة العزوف عن خوض النزاعات. بدا الأمر نوعًا من الخلاص بالنسبة لشخص اعتاد على مقاطعة كلامه واستبعاده من المحادثات.

لقد وجدت في فريق المناظرة هيكلًا ومجتمعًا وثروة من المعرفة، مما مكّنني كل ذلك من رفع صوتي والتعبير عن نفسي بوضوح وثقة.

٢. كل حجة لا بد أن تثبت صحة ادعائها وأهميته:

الحجة ليست مجرد مجموعة عشوائية من الأفكار أو الصيحات، وليست تكرارًا لكل ما يراود ذهنك فيما يخص موضوعًا معينًا، بل هي أداةٌ لتغيير الآراء، ولا بد أن تثبت أمرين أساسيين: صحة ادعائها الأساسي، وأهميته.

تخيل أنك تدّعي أن علينا الامتناع عن أكل اللحوم لأنّ النباتية تفيد البيئة. حتى تستقيم هذه الحجة، عليك أولًا أن تثبت أنّ كون الشخص نباتيًا -في الواقع- مفيد للبيئة، وإلا فقولك إن إصلاح البيئة يتطلب الامتناع عن أكل اللحوم ادّعاءٌ لا أساس له. ثانيًا، السؤال الأساسي الذي يجب طرحه في هذه الحجة هو: لماذا يجب أن نعطي الأولوية لسلامة البيئة على متعتنا الشخصية؟

غالبًا ما يتجاهل الناس الجزء الثاني. لا يكفي أن تعرض وجهة نظرك، بل لا بد أن تجعلها ذات قيمة عند الطرف الآخر. هذا يستلزم السؤال عن سبب تغير رأيك وسلوكك بناءً على صحة هذه الحجة.

٣. اختر معاركك، وانتصر فيها:

عندما تبدأ في تعلم استراتيجيات المناظرة الفعالة وأسرارها، ستبدو لك كل عبارة مرفوضة يقولها الناس فرصةً للجدال وإثبات وجهة نظرك “فإن كنت لا تملك من الأدوات سوى المطرقة، فسترى كل شيء أمامك وكأنه مسمار”. لكن من المعلوم أن المحادثات والعلاقات الفعالة بها مواضع اتفاق إلى جانب مواضع الاختلاف. إن كانت القدرة على حُسن الجدال وإثبات وجهة النظر مقياسًا للذكاء، فإنّ الحكمة تكمن في معرفة متى تخوض الجدال ومتى تُحجم. عالجت هذه المشكلة بوضع قائمة مرجعية أطلقت عليها اختصارًا: RISA.

RISA : هل الخلاف حقيقي (Real) ومهم (Important) ومحدد (Specific) ومتوافق (Alignedعلى سبيل المثال، قبل أن تدخل في أي خلاف اسأل نفسك هل هذا الخلاف خلاف حقيقي أم أنه إساءة متوهمَة أو شيء من هذا القبيل؟ ثانيًا: هل الخلاف مهمكفاية حتى يبرّر الجدال؟ ثالثًا: هل الخلاف محدد بحيث تستطيع أن تحرز تقدمًا في الوقت المحدد؟ رابعًا: هل الطرفان متوافقان في أهدافهم من الخلاف؟ أم أن الطرف الآخر -على سبيل المثال- يسعى إلى إزعاجك فحسب؟

يجدر ملاحظة أن الالتزام بهذه القائمة المرجعية لا يعني الوصول إلى نتيجة إيجابية بالضرورة، لكنه يشير إلى تحقق الشروط التي تساهم في ذلك. تأنَّ ولا تتسرع بالخوض في الخلافات من منطلق الكبرياء أو الدفاع عن النفس، وحينها ستركز على الخلافات المثمرة في الغالب.

٤. الأفعال تولّد التعاطف.

عندما كنت صغيرًا كنت أكره أن يُطلب مني أن أتعاطف مع زملائي في الفصل لأني لم أكن أعرف معنى “التعاطف”. البعض يصف التعاطف بأنه حالة ذهنية سحرية تعتريك تلقائيًا عندما تنظر في أعين الشخص الآخر. ويصفه آخرون بأنه فضيلة يملكها خير الناس، ويأمل الباقون في بلوغها. لكن المناظرات علّمتني أن أرى التعاطف بطريقة مختلفة: وهو أنه سلسلة من الأفعال، وليس مجرد شعور.

إنّ قدرًا كبيرًا من المناظرة يدور حول إثبات صحة الحجة. فأنت تؤمن إيمانًا راسخًا بوجهة نظرك، وتأتي بأفضل الحجج الممكنة التي تدعم موقفك، وتجمع أكثر الأدلة إقناعًا التي تبرهن حجتك. لكن أقوى المناظرين يفعلون شيئًا عجيبًا في الدقائق الخمس التي تسبق بدء الجولة: يحضرون ورقة جديدة ويكتبون أفضل أربع حجج للطرف الآخر، أو يراجعون كلامهم من وجهة نظر الخصم ويحاولون أن يجدوا أكبر عدد ممكن من أوجه القصور فيه.

يعرف هذا الأسلوب بتبادل الأدوار. ونظرًا لأنه لا شيء يضاهي الاستماع من الطرف الآخر، فلن يساعدك هذا الأسلوب على التعاطف معه، لكنه ينشئ مساحة للتأمل والتفكير، فتشعر أنه قد توجد طريقة أخرى لرؤية هذه القضية الخلافية. وعندما تحتدم خلافاتنا ونشعر أنها كحرب الخنادق، كل طرف غير قادر على فهم الآخر، حينها أرى أنّ هذه المساحة للتأمل تفيد في كسر هذا الجمود وتمهيد الطريق لتحقيق التعاطف.

٥. الخلاف الهدّام لا يقابله الاتفاق.

الخلاف الهدام يقابله الخلاف البنّاء. مُنعت مجموعات كاملة من الناس على مر التاريخ من التحدث بحكم مركزهم الاجتماعي، فلم تتوفر لهم أي منصة أو فرصة للتحدث والتعبير عن آرائهم. ما نفعله نحن اليوم -تقبل مختلف الآراء في مجتمعاتنا، ومنح الناس فرصة للتعبير عن أنفسهم في الساحة العامة، ومحاولة إدارة خلافاتنا- كلها أشياء غير مسبوقة. لذلك أرى أن بناء الحجج السليمة خطوة نحو مستقبل مثالي، وإن لم نرَ الصورة الكاملة له في الوقت الحالي.

علينا أن نستعيد الثقة والإيمان في قوة الحجج السليمة، مع إدراك أن الخلاف قد يمثل أساسًا لإجراء محادثات أثرى، وإقامة علاقات وثيقة، وطرح استفسارات أعمق، أكثر مما نأمل في تحقيقه من الاتفاق. إنّ بناء الحجج ليس أمرًا وليد الصدفة، بل مهارةً وشكلًا من أشكال الفن واجتهادًا. يعد عالَم المناظرات رمزًا لما يمكن أن يحققه المجتمع بتقبّل الخلاف -لا تجنبه- كما أنه ثري بالمعارف التي يمكن أن نطبقها في حياتنا اليومية حتى نحقق هذا المستقبل.. مستقبل لا يقوم على الاتفاق، بل على الخلاف البناء الذي يقدّر ثراء اختلافاتنا ويشجعنا على التعبير عنها.

المصدر

 

شارك الصفحة

الحجج السليمة: كيف تعلمنا المناظرات الإنصات والإفهام عنا قراءة المزيد »