Author name: nadiim

في مديح البطء: متى كانت آخر مرة رأيت فيها شخصًا يحدّق عبر النافذة في قطار؟

يلاحظ الكاتب الكندي كارل أونوريه في كتابه في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة وجود خلل كبير في أسلوب الحياة الحديث، حين يجد أن الجميع مستغرق في توفير كل لحظة ممكنة من الزمان، وفي ملاحقة الوقت الذي لا يمكن إدراكه في أكثر الحالات، ولئن كان للسرعة منافع واستخدامات مفيدة جدًا لا يمكن التنكّر لها، إلا أنها تحوّلت مع الوقت إلى هوس وإدمان يكتسح كل المجالات، حتى المجالات التي تتطلب بطبيعتها البطء والاسترخاء، مثل القراءة على سبيل المثال، فكم امتلأت المكتبات بالكتب التي كُتبت من أجل تعليم الناس مهارات القراءة السريعة والقفز فوق السطور والكلمات، تعلم لغة جديدة في أسبوعين، أو تعلم البرمجة في خمسة أيام وهلمّ جرا، فيقرر هو بدوره كتابة كتاب يتحدّى فيه عالم يمجّد السرعة، يُعدد المجالات التي تقوّض فيها السرعة جمال اللحظة، وتقلّص الرغبة الملّحة في الإسراع بهجة تجارب الحياة.

صدر الكتاب في نسخته الأصلية عام 2004، بينما نشر مشروع كلمة ترجمته العربية عام 2017م بترجمة ماهر الجنيدي في أكثر من 300 صفحة.

يوضّح أونوريه أنه لا يرغب من خلال كتابه أن يستبدل بعبادة البطء عبادة السرعة، فلسفة البطء كما يتبنّاها لا تعني أسلوب حياة أشبه بالسلحفاة، وإنما يتلخّص في مفهوم التوازن: أسرع عندما يكون من المنطقي أن تسرع، وأبطئ عندما يكون هناك داع للبطء، ولكل شخص له إيقاعه الخاصّ في الإسراع والتباطؤ.

أن تعيش على عجل، يعني أن تكون الحياة أكثر سطحية، أن تقيم اتصالات ضعيفة مع العالم والآخرين، السرعة لا تمنحك الوقت الكافي لتقدير ما يجب تقديره، والتفكير فيما يجب التفكير فيه. وأن تعيش بتوازن بين العجلة والبطء، يعني أن تستغرق في اللحظة عوضًا عن تخطّيها وتجاوزها بمشاعر سريعة مؤقتة، يعني ألا تكون في سباق ضدّ الوقت.

يصوّر الكاتب الشخص السريع بأنه شخص مشغول دائمًا، مندفع متعجّل، ضجر وسطحي، يفضّل الكم على الكيف. وأهم عرض سبّبته عادة السرعة لأشخاصها هو الغضب، الغضب في الطريق، العضب عند التسوّق، الغضب عند الانتظار في أي مكان، فهو شخص متعجل وغاضب. ومن جهة أخرى يصوّر الشخص البطيء بأنه الشخص المتأنِ، الصبور، الهادئ والمنفتح، يرجّح الكيف على الكم، ويفضّل في العادة ممارسات تعزّز من فكرة البطء، مثل القراءة والتأمّل، الرسم والحياكة، البستنة والمشي، اليوغا، ويكونون أكثر هدوءً وراحة، لأنه من خلال تلك النشاطات التي يمارسونها، يتم تبطيء الزمن والانفلات من قبضة السرعة.

للعقل مقدرات عجيبة حين يسرع ويكون في حالة نشاط قصوى، ولكنه يمكنه أن يفعل أكثر في حالة الإبطاء من وقت لآخر، فلتخفيض نشاط الذهن عدّة مزايا منها صحة أفضل، هدوء داخلي، وتركيز معزز، وتفكير أكثر إبداعًا، فبعض الأفكار التي غيّرت العالم جاءت في وقت كان الذهن في حالة من التأمّل والتفكير. يشدد كارل أن أذكى الأشخاص وأبدعهم، يعرفون كيف يتركون لعقولهم من وقت لآخر مساحة للتأمّل والخمول والسرحان، ويعرفون متى يجب عليهم التركيز أكثر، أي متى يفكرون بسرعة ومتى يفكرون ببطء.

في الكتاب يقدّم كارل أونوريه أمثلة وشواهد متنوعة على مزايا تبنّي النهج البطيء، وتأثيره الإيجابي والمباشر على الصحة النفسية:

  • التغذية: ينصح أونوريه بتغيير عاداتنا السريعة في تناول الطعام والاستمتاع بتجربة الطعام بشكل أكثر وعيًا. يشجع على تناول الطعام ببطء، والتذوق والتمتع بالنكهات والروائح. قد يكون الطبخ وسيلة مفيدة للاسترخاء والهدوء العقلي، والبطء في تناول الطعام ضروري لخفض الوزن، لأنه يعطي المعدة الوقت اللازم لتشرح للدماغ بأنها ممتلئة، فإذا تناولنا الطعام أسرع مما يجب، ستصل الإشارة بعد تناول كميات أكبر من حاجتنا.
  • العمل: يشدد أونوريه على ضرورة إدخال البطء في بيئة العمل، يرى أن العمل السريع المستمر يؤدي إلى الإرهاق وتراجع الإنتاجية. بدلاً من ذلك، يشجع على تحقيق التوازن بين العمل والراحة وتخصيص الوقت للاسترخاء والتفكير الإبداعي.
  • التعليم: النهج السريع في التعليم يجعلنا نفقد التركيز والتمعن في المعرفة. يدعو الكاتب إلى التباطؤ والتأمل في عملية التعلم، وذلك بتخصيص وقت كافٍ للانغماس في المواضيع وفهمها بعمق، لأنه كلما تعددت المهام في وقت واحد، كان التركيز في الأمرين أقل.
  • التكنولوجيا: يدعو أونوريه إلى استخدام التكنولوجيا بشكل متوازن وواعٍ. يشجع على قطع الاتصال المستمر بالأجهزة الإلكترونية وتخصيص وقت للابتعاد عنها، وذلك لتحقيق التوازن والتركيز على الحياة الحقيقية والتفاعل الاجتماعي، تساعدنا التكنلوجيا في كسب مزيد من الوقت، ولكنها في الوقت نفسه تزوّدنا بمجموعة جديدة من الواجبات والرغبات والاحتياجات غير الضرورية.

إجمالًا يهدف كتاب “مديح البطء” إلى تعزيز الوعي بأهمية البطء والتوازن في جميع جوانب حياتنا، وكيف يمكن لهذه التوجه أن يساعدنا على أن نكون أكثر حضورًا في حياتنا، وأكثر وعيًا بالتجارب التي نمر بها.

وأنا أيضًا، قررت قراءة الكتاب ببطء، والاستمتاع بأفكاره، محاولة أن أطرح جانبًا نزعة السرعة لدي، لأن “الحياة أقصر من أن نضيّعها بالإسراع”.

شارك الصفحة

في مديح البطء: متى كانت آخر مرة رأيت فيها شخصًا يحدّق عبر النافذة في قطار؟ قراءة المزيد »

مستنار.. رحلة البداية والإنجاز

pexels-fotios-photos-2923463

تسعى نديم إلى اكتشاف مساحات جديدة لتقديم برامجها، والوصول لشرائح متنوعة من أصحاب الاهتمامات المعرفية والثقافية، وتلبية احتياجهم بما يلائم إمكاناتهم.

من هنا أطلقنا مجتمع (مستنار) والذي يقدم للمشتركين فيه مادة ثقافية نوعية في حقلين مهمين هما علم النفس وعلم الاجتماع، ويهدف إلى تكوين مجتمع من القراء المميزين غير المختصين والذين لهم اهتمام بالكتب النفسية، والاجتماعية، من مرونة فكرية وانفتاح عقلي، ورؤية نقدية. وقد حظينا بقراء من تخصصات مختلفة يقدم كل منهم رؤيته الخاصة من تجربته الحياتية، ومجال دراسته وقراءاته السابقة.

أقيم من المجتمع موسمان حتى الآن، بلغ المشتركين فيه 147، كانوا ثلة من القراء المميزين من تخصصات متباينة شملت العلوم الشرعية، والتربوية، والرياضيات، والعلوم النفسية، والاجتماعية، والتخصصات الصحية والطبية، وعلوم اللغة والتخصصات التقنية، مما ساهم في إثراء المحتوى وأضاف تنوعا في الرؤى والأفكار.

وكذلك تنوع الفئات العمرية والاجتماعية للمشتركين بين آباء، وأمهات، وطلاب، وموظفين، وباحثين.

قراءات ثرية

حرصنا على تقديم تجربة قرائية متنوعة، بحيث يخرج المشترك وقد ناقش ثلاث كتب في كل موسم في مجالات متعددة تمس بشكل مباشر اهتمامه وحياته اليومية، وناقش خلفيتها النظرية، وبعض القضايا المتصلة بالعلم الذي تنتمي إليه.

جاء الكتاب الأول “نهاية النسيان” من تأليف: كيت إيكورن، في الجانب الاجتماعي حيث يناقش آثار اختفاء النسيان كظاهرة اجتماعية في عصر التواصل المفتوح.

بينما كان الكتاب الثاني “إخفاق التواصل” للمؤلف: يوهان هاري، يتحدث عن تجربة شخصية واستقصائية ناقدة للمؤلف حول الاكتئاب وحقيقة أسبابه المهملة.

واختتم الموسم بكتاب “صعوبة التخلص من العادات” تأليف: راسل بولدراك، الذي يقدم طرحاً مختلفاً عن كتب العادات التقليدية، يشرح الكتاب عمل العادة وصعوبة تغييرها من منظور بيولوجي عصبي.

أما في الموسم الثاني فقد افتتحناه بكتاب “فلسفة الوحدة” للمؤلف لارس سيفيدسون والذي يتناول فكرة الوحدة والمفاهيم المتصلة بها بأسلوب فلسفي بسيط ومشوق.

وفي الشهر الثاني كنا على موعد مع كتاب “عندما يقول الجسد لا” ومؤلفه هو الطبيب الكندي جابور ماتيه الذي يتناول تأثيرات الضغوط النفسية على الصحة الجسدية بأسلوب قصصي.

وختم الموسم بكتاب “علم النفس ديناً.. مذهب عبادة الذات” حيث يتناول نقد لعلم النفس الذاتي من وجهة نظر دينية مسيحية.

وبلغ مجموع صفحات هذه الكتب = 1533 صفحة.

أمسيات مفتوحة

تضمن المجتمع عددا من الأمسيات التي كانت تهدف لتقديم مادة تثري تجربة القارئ في المجالات النفسية والاجتماعية، في جو من الأريحية والقرب.

كبداية لمستنار كان اللقاء المفتوح الأول لإثراء تجربة القارئ بتجربة شخصية قرائية أخرى فكان لقاء: “تجربة في القراءة النفسية” مع الدكتور محمد عودة.

وللإجابة عن سؤال ملح بحكم النشر الموسع في علم النفس والتداخل بينه وبين العلوم الأخرى قدم مستنار

لقرائه لقاء: “كيف نقرأ علم النفس؟”  وحديث علمي قريب حول القراءة في هذا المجال، وما ينبغي مراعاته فيه.

وكختام للموسم الأول أتى لقاء: “العلاج بالقراءة” ليقدم بعض الأفكار حول القراءة كعلاج حقيقي وناجع للتعامل مع المشكلات الحياتية.

وافتتح الموسم الثاني بلقاء: “قراءة في سيرة عقل غير هادئ” مع الأستاذة تهاني العتيبي لتحليل وقراءة تجربة المؤلفة مريضة ثنائي القطب من وجهة نظر تخصصية.

وتلا ذلك لقاء: “العلاج بالكتابة” والذي كان من اقتراح المشتركين في الموسم الأول قدمته الأستاذة: أشواق الشمري لمناقشة الكتابة كوسيلة للعلاج النفسي والنمو الشخصي.

بالإضافة إلى اللقاء الأخير الذي كان حول علم النفس والأدب، وإطلالة على العلاقة بينهما.

انطباعات وآراء

في نهاية المجتمع حرصنا لأخذ انطباعات المشتركين والإنصات لآرائهم التي تسهم في تطوير المحتوى في المواسم اللاحقة والارتقاء بالتجربة، وكانت هذه بعض آراء المشتركين التي وصلتنا:

– “اللقاءات ممتازة وإدارة الحوار كانت مميزة اختيار الكتب موفق المواضيع مهمة ومترابطة ومتسلسلة بشكل او بآخر”.

– “جدول القراءة كان مرن وأعجبني وجود يومين للاستدراك والراحة، لم يكن جدول القراءة مضغوط، حتى المنشغل بأعمال أخرى يستطع أن ينتهي من الكتاب بالراحة”.

– “المجموعة حفزتني على القراءة عند الملل، اللقاءات كانت ثرية أضافت لي الكثير لفهم علم النفس، شكراً لكل القائمين على هذا النادي سأوصي دائماً بالانضمام له لتأكدي من الفائدة التي سيحصل عليها القارئ عندما يجد مجموعة قرائية تشاركه الاهتمامات والمواضيع التي يحب القراءة فيها في علم النفس والاجتماع ونقاشها مع المختصين”.

وكان لبعض الضيوف ومقدمي اللقاءات نصيب في بث انطباعاتهم حول البرنامج، إذ قالت د.سمية النجاشي: “تشرفت بمناقشة كتاب (صعوبة التخلص من العادات) للمؤلف: راسل بولدراك، في الموسم الأول لمجموعة مستنار، ووصفي للأمسية بالنزهة الفكرية لا يجاور الصواب في أي طرف، فمتعة القراءة حين تتوَّج بمناقشة النص مع فريق مطلع، وعقول متسائلة تجعل الكتاب المقروء أبقى أثرا في الذاكرة، وأمضى نورا في الإدراك والسلوك”.

وتقول د. غادة الخضير: “لقاء كان مثل نافذة مشرعة على أفكار وآراء الحضور التي منحت الحوار ثراء ساهم في طرح إجابات لسؤال اللقاء، طرح الموضوع واختيار محاوره الرئيسة؛ يعكس حرص مستنار على خوض الجديد فيما يتعلق بالقراءات التي تتبنى علم النفس ضمن اهتماماتها، وحرصها على وجود نخبة من الحضور الفاعل يؤكد حرصها أيضاً لتبنى عقول يمكنها من خلال مناقشاتها أن تقدم منحى مختلف للتفكير في الأمور”.

ويعبر د. عزام السحيباني عن تجربته بقوله: “التجربة ثرية جداً بالنسبة لي ومناقشة مواضيع فلسفية واجتماعية تهم الجميع أمر مطلوب لزيادة مساحة الثقافة والنقاش الأدبي الخالي من الإساءة الشخصية. وهذا ما تفتقده بعض منصات التواصل الاجتماعي الأخرى”.

وتذكر أ‌.  تهاني العتيبي بهجة المشاركة بـ:

سعدت بالمشاركة معكم في هذه التجربة والنقاش العلمي الثري،كان لي الشرف بـ مشاركتكم ببرنامج مستنار المميز بـ مواضيعه وضيوفه. أتمنى التوفيق للمشاركين وللبرنامج في نسخته القادمة”.

يواصل نادي مستنار فعالياته في موسمه الثالث، والتي تضم لقاءات وجلسات لمناقشات الكتب، ويمكنك الاشتراك في النادي من هنا.

شارك الصفحة

مستنار.. رحلة البداية والإنجاز قراءة المزيد »

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٤م

نشرنا العام الماضي مفضلات فريق نديم القرائية لسنة ٢٠٢٣م، حيث قدم الفريق من خلالها باقة من الاقتراحات المتنوعة لكتب مميزة ولافتة.

نكرر هذا العام نشرنا لمفضلات الفريق لعام ٢٠٢٤، آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

 

مارد الأحذية، لفيل نايت.

أجمل سيرة ذاتية قرأتها هذا العام، مؤلف الكتاب هو مؤسس شركة نايك، استمتعت بالكتاب ولامسني كثيرًا.

عبيد الظاهري، المشرف على شركة نديم.

لغات الحب الخمسة التي يستخدمها الأطفال، لجاري تشامبان، وروس كامبل.

أكثر الكتب التي قرأتها هذا العام تتعلق بالجانب التربوي، لكن هذا الكتاب أعطاني نظرة مختلفة للتواصل مع الأطفال بذكاء، وفهمهم بعمق.

مريم المحناء، فريق التصميم.

فيض الخاطر، لأحمد أمين.

أحببته بسبب ثرائه وتنوع موضوعاته، وأسلوبه عذب وسلس غير متكلف.

يارا عمار، فريق التحرير.

مفهوم النسوية: داراسة نقدية في ضوء الإسلام، لأمل الخريّف.

تميز الكتاب بإستعراض وبيان مفهوم النسوية، ومن أين جاء وبدأ، وتسليط الضوء على بعض جوانبه وآثاره الهدّامة في الواقع، والمُخالِفة لما جاءت به الشريعة الإسلامية من إكرام وتنزيه وصيانة للمرأة، ودورها الفعّال في المجتمع من خلال الأمومة والأسرة، وسعي النسوية لهدم ذلك كله وتفكيكه.

سهام الحربي، الفريق التطوعي.

تقي الدين المقريزي: وجدان التاريخ المصري، لناصر الرباط.

بقدر ما يُعمل الكاتب أدواته، ويسبر أغوار الحكايات المتصلة بحياة الشخصية، ويستنطق ما كتبه صاحب السيرة سواء عن ذاته أو من اتصلت أسبابه بهم، تخرج لنا سيرة استثنائية، كأنما أملاها صاحبها، فهذا صنيع م. ناصر الرباط في سيرة المقريزي.

وقد اخترته كمقدمة لجرد درر المقريزي.

آلاء الخطيب، فريق المشاريع.

الجواهر: من أخبار النساء في القرآن، لفايز الزهراني.

تقول صديقتي: “هذا الكتاب يستحق أن يُقرأ كل عام”، وهو كذلك.

الكتاب مليء بالمفاهيم التي تفتح آفاقًا رحبة للمرأة المسلمة في عبوديتها لله، والوعي بدورها، ومواضع شرفها، وعزها.

مستلهمة من قدوات نسائية اختارها العليم الحكيم وخلّد ذكرها إلى قيام الساعة.

سارة بن سويدان، الفريق التطوعي.

عين تراقب العصفور، لملاك الجهني.

تصف الدكتورة ملاك ألم الفقد فتقول: “يترك الفقد وشومه الداكنة فيمن يعبرهم، وكما أن الوشم يحرق الموشوم لحظة وشمه، ثم لا يلبث ألمه أن يزول، فينسى صاحبه أنه قد وشم، حتى يبصر وشمه ماثلا أمام عينيه، كذلك يفعل الفقد في صاحبه، يلذعه بحرارته، ثم يتلاشى شعوره بالألم تدريجيا، حتى ليكاد ينسى مصابه، فإذا بأول موقف يصادفه يذكره -بوحشية لا مثيل لها- أنه موشوم بالفقد”.

وقد ترك فيني الكتاب أثرًا كبيرًا وخاصة عندما تضع نفسك أمام مشاعر جديدة، وخاصة مشاعر فقد الزوجة لزوجها، حينها يجب عليك أن تتذكر معية الله، وعينه الحارسة، والإيمان به يأتي ليجدد الأمل فينا فندرك أن للعصفور عينًا تراقبه.

يوسف بنتن، فريق المشاريع.

مفاتيح إقامة الصلاة، لخالد اللاحم.

كتابٌ يُقرأ على مهل، لا تصلح قراءته في جلسة، ولا يوم، ولا أسبوع.

أفضل طريقة للاستفادة قراءة مقدار قليل، ثم التطبيق إن كان هناك ما يطبق عمليا، أو استشعار الجزئية المقروؤة.

قراءة كل جزء أو كل فصل مرة ومرتين وثلاث وأربع، حتى تجد الأثر في قلبك وفي صلواتك.

فهيمة حسين، الفريق التطوعي.

السعي للعدالة، لخالد فهمي.

القراءة لخالد فهمي تدريب بحثي على مراجعة الأطروحات السابقة وفحصها، وبناء الحجج، وتوظيف النظريات.

يكفي أن تكون باحثًا في أي مجال ليكون الكتاب مهمًا لك، مهما كان تخصصك قريبًا أو بعيدًا من حقل الكتاب.

حسان الغامدي، فريق التحرير.

القواعد الذهبية، لنابليون هيل.

هو آخر ما قرأته هذا العام، والكتاب يعد أصل كل كتب تنمية الذات، كتاب مفيد وواضح.

لوله الغامدي، فريق التصميم.

كتابة البحث العلمي، لعبد الله الرشيد.

دليل علمي مبسط لكتابة البحث العلمي لكل باحث جديد، مع عصارة من خبرة المؤلف الغنيّة، استمتعت بقراءته أثناء كتابة بحث الماجستير، غيّر نظرتي عن كتابة البحوث، ووسّعها أكثر.

منيرة التركي، الفريق التطوعي.

الممتع في فقه الدعاء، لعبد الله الفريح.

أعجبني هذا الكتاب في استقبال شهر رمضان، الذي لا يفصلنا عنه غير شهرين.

وجدت فيه بغية كل مسلم في فهم معاني الأدعية الجوامع الصحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والمعلوم أنها تجمع خيري الدنيا والآخرة.

فهذا الكتاب، أو ما يقوم مقامه، مهم، لا سيما أن إجابة الدعاء مرتبة بحضور القلب، وإدراكه لما ينطق به اللسان.

شيماء، فريق المشاريع.

تجارب وخبرات، لباسل شيخو.

كتاب يجمع لك مابين دفتيه مجموعة من المقالات المتنوعة في مجالات متعددة (نفسية، اجتماعية، فكرية، عملية… إلى آخره.)، يجمع لك هذا الكتاب خلاصة خبرات كبار الكُتّاب من الشرق والغرب، تعطيك هذه الخبرات مفاهيم توجهك لمسارات الحياة الأفضل بدلاً من أن تجرب فتقع ببعضها مما قد يضيع الجهد والمال والوقت، كتاب جميل ويستحق القراءة مرات.

حسين العبدلي، الفريق التطوعي.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

مفضلات فريق نديم لعام ٢٠٢٤م قراءة المزيد »

لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة

Picture of كتابة: جينيفر بريهيني.
كتابة: جينيفر بريهيني.

ترجمة: يارا عمار

جينيفر بريهيني والاس صحفية حائزة على جوائز في الصحافة المطبوعة والمرئية، ومساهمة منتظمة في صحيفتَي وول ستريت جورنال وواشنطن بوست. بدأت حياتها المهنية ببرنامج “60 Minutes” على قناة CBS، وكانت ضمن فريق نال جائزة روبرت ف. كينيدي للتميز في الصحافة. كما أنها عضو في مجلس إدارة منظمة الائتلاف من أجل المشردين في مدينة نيويورك.

تستعرض جينيفر في هذه المقالة خمس أفكار رئيسية من كتابها الجديد “لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة – وماذا يسعنا فعله حيال ذلك”.

  1. عدم شعور المرء بأهميته أصلٌ لكثير من المعاناة

تتصدر الصحة النفسية للأطفال قائمة مخاوف الآباء. إن القلق والوحدة والاكتئاب وباء مدمر ينتشر بين الشباب في وقتنا الحالي، لدرجة أنه دفع طبيب الجراحة العامة (فيفيك مورثي) إلى إصدار تحذير صحي عام بخصوص هذا الموضوع. لاحظ مورثي أن صحة الشباب النفسية تتأثر بعوامل كثيرة، بدءً من التركيب الجيني إلى القوى الاجتماعية الأكبر، مثل الرسائل الثقافية التي تُضعف الشعور بالقيمة الذاتية- بغرس شعور لدى الشباب بأن شكلهم ليس حسنًا بما فيه الكفاية، أو أنهم ليسوا مشهورين بما فيه الكافية، أو ليسوا أذكياء بما فيه الكفاية، أو ليسوا أغنياء بما فيه الكفاية.

وفي صميم هذا الشعور “بعدم الكفاية” يأتي ما يسميه علماء النفس بالحاجة إلى الشعور بالأهمية، أي الاعتقاد الشخصي بأن قيمتنا تكمن في جوهرنا، بعيدًا عن أي إنجازات خارجية. أظهرت الأبحاث المتزايدة منذ ثمانينيات القرن الماضي أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عال من الشعور بالأهمية -يشعرون بقيمتهم وأن الآخرين يعتمدون عليهم لإضفاء قيمة على حياتهم- هم الأكثر عرضة للازدهار في مرحلتَي المراهقة والبلوغ. لكننا اليوم نواجه عجزًا في الشعور بالأهمية داخل الأسر المعيشية والمدارس وأماكن العمل والمجتمعات بأكملها. إلا أنّ الجانب الإيجابي هو أن الشعور بالأهمية يعد أساسًا قويًا لحماية صحة الشباب النفسية.

إن مفهوم الأهمية بسيط بقدر ما هو عميق، فهو يطرح أسئلة تشغل الجميع: هل الناس يشعرون بقيمتي ويقدّرونني ويحترمونني، أم أنني غير مرئي؟ هل أنتمي إلى هذا العالم، أم أنني وحيد فيه؟ هل حياتي مؤثرة في حياة الآخرين، أم أنّها عديمة الأهمية؟

يعبر مفهوم الأهمية عن الحاجة العميقة والعالمية لأن نشعر بأن مَن حولنا يروننا ويهتمون بنا ويقدروننا. إنّ الشعور بأهميتك الذاتية قوةٌ أساسية ودرع تحميك من الضغوطات الخارجية.

  1. علينا أن نساعد الأطفال على الفصل بين قيمتهم الذاتية وإنجازاتهم لكي يشعروا بأهميتهم

سعيت في البحث عن الأشخاص المجتهدين والصحيين لمعرفة القاسم المشترك بينهم: ما الذي ركز عليه آباؤهم في المنزل؟ كيف كانت طريقة تفكيرهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم؟ اتضح أنهم جميعًا كانوا يشعرون بأهميتهم داخل أُسرهم ومدارسهم ومجتمعاتهم الأوسع. إننا في عالم يجعلنا نشعر بالنقص دائمًا، والشعور بالأهمية يطمئننا بأن قيمتنا تكمن في ذواتنا، بغض النظر عما نفعله.

وللتوضيح: الأهمية لا تتعارض مع الأداء، بل تعد وقودًا له. فعندما نشعر بأهميتنا نميل إلى المشاركة بشكل إيجابي وصحي في أُسرنا ومدارسنا ومجتمعاتنا. لا يكفي أن نحب أطفالنا حبًا غير مشروط، بل يجب أن يشعروا بذلك. يجب أن يعلموا أنّ أهميتهم وقيمتهم ليست موضع نقاش أبدًا.

أخبرني أحد الآباء الحكماء بطريقة لتوضيح فكرة الحب غير المشروط والأهمية: أخرج ورقة نقدية من محفظتك واسأل طفلك إن كان يريدها. ثم جعّدها وارمها على الأرض، ثم اغمرها في كوب من الماء، ثم أمسك هذه الورقة المجعدة والمبللة واسأل طفلك “هل ما زلت تريدها؟”. بعد ذلك قل له بوضوح: إنّ قيمتك لا تتغير مثل هذه الورقة النقدية، سواء استُبعدتَ من الفريق أو حصلت على درجة سيئة أو شعرت أنّ صديقًا لا يقبلك. قيمتك هي قيمتك، ثابتة لا تتغير أبدًا.

  1. مساعدة الطفل تبدأ بمساعدة مَن يعتني به

في الماضي، ركز علماء النفس المهتمون بمساعدة الأطفال المتعثرين على تدخلات معينة: مثل وضع قيود صارمة لكن معقولة، أو الحنوّ على الطفل دون تدخل، أو تقديم ملاحظات صادقة دون انتقاد. لكن تبيّن أنّ التأثير الأكبر على الطفل لا يأتي من قائمة الأوامر والنواهي، بل أهم شيء أن يكون البالغون في حياة الطفل أسوياء نفسيًا، ولديهم مصادر دعم قوية وموثوقة. يقول علماء النفس إن هذا التوجيه قلب تطور الطفل رأسًا على عقب، فصارت مساعدة الطفل تبدأ بمساعدة مَن يعتني به.

إن الآباء هم “المستجيبون الأوائل” للصعوبات التي يواجهها أطفالهم، والاهتمام المستمر بمشاعرهم المتقلبة والضغوطات الاجتماعية والأكاديمية يمكن أن يحدث أثرًا سلبيًا. كل الطرق التي تعرّضنا لضغوط مفرطة -المواعيد النهائية للعمل، الأعباء المالية، تلبية كل احتياجات أطفالنا- يمكن أن تُضعف قدرتنا على أن نكون آباء حساسين ومتجاوبين، وتجعلنا أقل تفهمًا للإشارات العاطفية لأبنائنا. الخطر هنا هو أن أطفالنا يمكن أن يسيئوا تفسير الإجهاد الذي نشعر به وعدم صبرنا، فيعتقدون أن المشكلة تكمن فيهم. لاحظ الباحثون أنّ عدم شعور الفرد بأهميته ينبع غالبًا من الأفعال الصغيرة التي تتراكم يوميًا.

لا يحتاج الأطفال آباءً يبالغون في التضحية الذاتية، بل يحتاجون آباء لديهم رؤية متوازنة لثقافة الإنجاز المشحونة المحيطة بهم. إنهم بحاجة إلى آباء يتمتعون بالحكمة والطاقة والسعة النفسية لتحدي القيم غير الصحية لثقافة الإنجاز. قد يبدو الأمر غير منطقي، لكن الحقيقة أننا يجب أن نعتني بأنفسنا أولًا حتى نعتني بأطفالنا، لأن مرونة الطفل تعتمد على مرونة من يقوم على أمره.

  1. المرونة تعتمد على العلاقات

ليس مفتاح المرونة هو “الوقت الشخصي” الذي يروّجه مجال العناية بالنفس بمليارات الدولارات للآباء المتعبين. بل وجدت الأبحاث أن المرونة تعتمد على قوة علاقاتنا: هل لدينا علاقات ثرية تجعلنا نشعر بالحب والاهتمام والرعاية، كما نحاول مع أطفالنا؟

كما أنّ مرونة الطفل تعتمد على مرونة أبويه، كذلك مرونة الأبوين تعتمد على عُمق علاقاتهم والدعم الذي يحصلون عليه منها. إن الصداقات العميقة بمثابة ممتصات للصدمات، حيث تساعد في تخفيف الضغوطات اليومية، وتقليل القلق، وتنظيم المشاعر. لكن في عصرنا الحديث المزدحم لا يجد الآباء غالبًا الوقت أو القدرة العاطفية لتعميق روابط الصداقة وحميميتها. يكاد يكون محالًا أن تلتقي بصديق لتناول القهوة سويًا أو للحديث عن مخاوفك بسبب المتطلبات الكثيرة للأبوّة- كمساعدة الأطفال في أداء الواجبات المنزلية أو طهي الطعام أو مراقبة وقت الشاشة.

وجد الباحثون أنّ الناس لا يحتاجون إلى قضاء ساعاتٍ سويًا لبناء صداقات أصيلة، بل يحتاجون إلى وقت مخصص ورغبة في الانفتاح. انظر إلى مدى دقة التخطيط في جدول أسرتك، سواء في ترتيب وقت للعب أو موعد لطبيب أسنان طفلك. ماذا لو أعطيت نفس هذا القدر من الاهتمام للصداقات التي تدعمك؟ غالبًا ما يفترض الناس أن الصداقات تحدث تلقائيًا، وهذ الاعتقاد الخاطئ يُثنينا عن السعي لإقامة علاقات عميقة ورعايتها.

  1. نحن جميعًا نبحث عن دليل اجتماعي يثبت أهميتنا

يميل الآباء إلى التركيز على يُقال إنه الهدف النهائي: تنشئة أطفال مستقلين ومعتمدين على أنفسهم. تعزيز الاستقلالية أمر مهم بلا شك، لكن هناك درس أهم يجب أن نعلمه أطفالنا إن كنا نرغب في حماية صحتهم النفسية: وهو الاعتمادية المتبادلة، أي كيفية الاعتماد على الآخرين واعتماد الآخرين عليهم بطرق صحية. يدرك الآباء الذين يعلّمون أطفالهم مهارات الاعتمادية المتبادلة قدرَ الشجاعة اللازمة لطلب الدعم وقبوله. إنهم يدربون أطفالهم على دورة الكرم: كما أن مساعدة الآخرين مهمة، كذلك علينا أن نكون مستعدين لمرور بأوقات ضعف وقبول هذا الدعم. الاعتمادية المتبادلة توفر للأطفال فرصًا لإشباع الشعور بأهميتهموتقدير أهمية الآخرين.   

كثير من الناس ليس لديهم إحساس قوي بأهميتهم، فيشككون فيها وفي وقيمتهم، وهذا ينعكس على سلوكهم ويظهر في صور عدة، كالمنافسة الشديدة والتصرفات غير اللائقة والغضب. لا يمكن أن نشعر بأهميتنا إلا من خلال علاقاتنا مع الآخرين. من السهل للغاية أن نغفل عن أهميتنا، ولذلك نحتاج إلى مَن يخبرنا ويذكّرنا ويؤكد لنا قيمتنا الجوهرية، ويحتاج الآخرون أيضًا إلينا لتذكيرهم بأهميتهم. تخيل كيف سيكون العالم إن أدرك الناس أنهم ذوي أهمية حقيقية وعميقة ومؤكدة لأسرهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم؟ الأمر في متناول أيدينا، لا نحتاج سوى الشجاعة للاعتراف بأهميتنا وتأكيد أهمية الآخرين في حياتنا.

المصدر

 

شارك الصفحة

لا يكفي أبدًا: عندما تصبح ثقافة الإنجاز سامة قراءة المزيد »

مراجعة لكتاب: التاريخ العجيب للقلب

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يأتي كتاب “التاريخ العجيب للقلب” للطبيب والباحث فنسنت إم. فيغيريدو (Vincent M. Figueredo) ليسدّ فجوة مهمة في دراسة تاريخ الطب من منظور يجمع بين الدقة العلمية والعمق الثقافي.

الكتاب يقع في 393 صفحة وترجمه إلى العربية الدكتور مدى شريقي وطُبع في دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع عام 2023.

يتميّز المؤلف فنسنت إم. فيغيريدو بخلفيّته الطبية المتخصّصة في أمراض القلب، إلى جانب اهتمامه بتاريخ العلوم، مما مكّنه من بناء نص شامل يستعرض التحولات الجوهرية في فهم البشرية لهذا العضو المركزي، بدءاً من تصوّرات الحضارات القديمة ووصولاً إلى أحدث المنجزات الطبية والجراحية. لا ينحصر الكتاب في مسار سردي تقليدي، بل يقدّم رؤية بانورامية تتداخل فيها المعاني الرمزية والثقافية بالقوانين الفسيولوجية، في محاولة لتفكيك التصوّر الثنائي التقليدي للقلب: فهو ليس فقط مضخّة للدم، بل أيضاً مركزاً رمزياً للمشاعر والهوية الروحية. بهذا، يحقق المؤلف توازناً نادراً بين المنهج التاريخي الدقيق والتحليل العلمي الرصين والرؤية الإنسانية الشاملة.

منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنّ هدف فيغيريدو لا يقتصر على توثيق الحقائق الطبية، بل يسعى إلى تقديم مقاربة متعددة الأبعاد لفهم القلب. يراعي المؤلف المنهج العلمي عبر الاستناد إلى مصادر موثوقة، سواء كانت نصوصاً طبية قديمة، أو سجلات تشريح، أو أبحاثاً حديثة في مجال علم القلب، ليضعها جنباً إلى جنب مع أعمال أدبية وفنية ودينية تناولت القلب بوصفه مستودعاً للمشاعر وأيقونة للحب أو موطناً للضمير الأخلاقي. هذه الازدواجية في التعاطي مع الموضوع تمثل نقطة قوة الكتاب: فهو يقود القارئ في رحلة زمنية طويلة، تبدأ من الرؤى الأسطورية التي ارتبطت بالقلب كجوهر للحياة، وتمرّ بالتطبيقات العلمية الأولى التي سعت لفهم تركيبه ووظيفته، وتنتهي بالعصر الحديث الذي يشهد تطوّراً هائلاً في التقنيات التشخيصية والجراحات المعقدة وزراعة القلب والأعضاء الصناعية. بهذه الصورة الشاملة، يرسم الكتاب خريطة معرفية تربط بين منجزات العقل البشري وتصوراته الروحية، لتقديم قراءة متكاملة للتاريخ العجيب للقلب.

 

الجذور التاريخية والتمثلات البدائية للقلب في الحضارات القديمة

ينطلق المؤلف من أقدم النصوص المكتوبة وأقدم الشواهد الأثرية للكشف عن مكانة القلب في وعي الإنسان البدائي. قبل اكتشاف مبادئ التشريح التجريبي، اعتمدت الحضارات القديمة على الملاحظة المباشرة وربطت نبض القلب وسرعة خفقانه بعناصر الحياة والموت. ففي حضارة وادي النيل، حمل القلب بُعداً دينياً وأخلاقياً محورياً، إذ اعتُبر موضعاً للضمير ومركزاً لتقييم أعمال الإنسان بعد مماته. في هذه النصوص، نرى أنّ المصريين القدماء تعاملوا مع القلب باعتباره جوهر الهوية البشرية، يتلقى الحساب في العالم الآخر، ويزن أمام ريشة الإلهة ماعت. وفي حضارة وادي الرافدين، اقترنت نبضات القلب بالقوى الخفية التي تحرك الكون، فيما انعكست في المنظومات الفلسفية القديمة في الهند والصين رؤى مختلفة تربط القلب بمنظومة الطاقة الداخلية (Qi) أو البرانا، مع اعتبار القلب نقطة التقاء المسارات الحيوية، مما أكسبه بعداً كوزمولوجياً وصحياً يتجاوز مجرد كونه عضواً تشريحياً.

أما في الحضارة الإغريقية، فقد كانت المعرفة الطبية لا تزال تتشكل تحت تأثير الفلسفة، فاعتمد أرسطو على التأمل المنطقي في وصف القلب كمركز الفكر والإدراك. وهنا يبيّن المؤلف كيف ساد الاعتقاد بأن القلب منشأ المشاعر والأحاسيس، وأن الدم يحمل “النفس” التي تمنح الحياة للأعضاء الأخرى. رغم بدائية هذه الأفكار من منظورنا المعاصر، فإنها وضعت اللبنة الأولى لإدراك أهمية القلب ودوره الحيوي. وعندما ننتقل إلى الحضارات القديمة في الأمريكيتين، كحضارة الأزتك والمايا، نكتشف حضوراً طقسياً للقلب في الاحتفالات الدينية والتضحيات البشرية، إذ اعتُبر القلب ذبيحة مقدّمة للآلهة، في سياق تصورات كونية معقدة رأت في الدم قوةً لاستمرار دورة الحياة. كل هذه الشهادات التاريخية المبكرة، التي يجمعها الكتاب، تكشف عن تفاعل الإنسان مع القلب بوصفه لغزاً يتخطى المحدوديات المعرفية، وتشكّل إرثاً فكرياً وثقافياً يمهد للمنهجية التشريحية والتجريبية التي ستأتي لاحقاً.

 

من التنظير الفلسفي إلى التجريب التشريحي – التحولات المعرفية بين العصور الوسطى والنهضة

مع دخول البشرية حقبة جديدة تتسم بظهور الحضارات الإسلامية وازدهار الترجمة والعلم في بلاد العرب، بدأ الأطباء والمفكّرون في مراجعة الأفكار الإغريقية والرومانية القديمة ونقدها. هنا يبرز دور العلماء المسلمين الذين استفادوا من إرث جالينوس وأرسطو، ولكنهم لم يكتفوا بمجرّد النقل، بل أضافوا تصويبات مهمة. يأتي اسم الطبيب والفقيه ابن النفيس في مقدمة هؤلاء، إذ اكتشف الدورة الدموية الصغرى (الرئوية) في القرن الثالث عشر، كاشفاً عن مسار الدم بين القلب والرئتين، وممهّداً الطريق لفهم أفضل لطبيعة القلب بوصفه مضخّة فعّالة تعمل وفق نظام دقيق. لم تكن هذه الرؤية نتيجة حدس مجرّد، بل استندت إلى تشريح منهجي ودراسات مقارنة سمحت بتشكيل تصوّر أكثر واقعية لدور القلب في ضخّ الدم.

ومع انتقالنا إلى أوروبا في عصر النهضة، تتبلور معالم ثورة طبية وفلسفية: اتسعت آفاق المعرفة بفضل إعادة اكتشاف النصوص الكلاسيكية وتطوير أدوات جديدة للتشريح. وهنا يسطع نجم ويليام هارفي (القرن السابع عشر)، الذي قدّم للعالم اكتشاف الدورة الدموية الكبرى، وأثبت عملياً أنّ القلب ليس مخزناً للحرارة أو للعواطف، بل مضخة قوية تضخّ الدم باستمرار في الشرايين والأوردة في حلقة متكاملة. بهذا الاكتشاف، اهتزّت قناعات طبية عمرها قرون، وفتح الباب أمام المنهج التجريبي ليحلّ مكان التنظير الفلسفي. يشير المؤلف إلى مدى صعوبة هذه القفزة المعرفية، إذ اصطدمت في بدايتها بعوائق اجتماعية ودينية، لكن بفضل الإصرار على الدليل التجريبي، وإقامة جلسات التشريح العلني، واختراع المجاهر، بدأت تتضح الملامح التفصيلية لأجزاء القلب الداخلية، من صمامات وبطينات وأذينات. احتاجت البشرية قروناً لتتجاوز التصورات الأسطورية، لكن الدقة العلمية التي أرسيت في هذه الفترة مكّنت من صياغة فهم حديث لوظيفة القلب، وأسهمت في بناء أساس متين للطب الحديث. وعبر هذه المسيرة، يتجلّى للقارئ كيف أنّ تراكم المعرفة الطبية حول القلب كان نتاج توتر دائم بين المعارف السابقة والمنهج التجريبي الجديد، وبين التقاليد الراسخة والابتكار العلمي الجريء.

 

أبعاد رمزية وثقافية – القلب بين الدين والفن والفلسفة

لا يكتفي المؤلف بسرد حقائق علمية، بل يفتح الباب أمام القرّاء لاستكشاف المعاني الرمزية التي التصقت بالقلب عبر القرون. ففي الأديان الكبرى، اكتسب القلب مكانة مقدسة، كما في المسيحية التي حظي فيها “القلب المقدّس” بأهمية روحية وأيقونية، وفي التصوف الإسلامي حيث رُفع القلب إلى مصاف المركز الروحي الذي يشرق بنور الإيمان ويمتاز بالقرب من الله. هذا البعد الروحي الديني يبرز دور القلب في نظام القيم الأخلاقية، حيث تُنسب إليه القدرة على التمييز بين الخير والشر، وأصبح الحَكم الخفيّ على أفعال الإنسان ونواياه.

من جهة أخرى، كان للأدب والفن نصيب وافر في صياغة صورة القلب. فالشعراء والمسرحيون والروائيون استخدموا القلب كاستعارة للتعبير عن الحب والحنين والرغبات الجامحة، وصوّروه في مختلف الحالات الشعورية، من الشوق إلى الفقدان. كذلك خَلَق الفنانون التشكيليون، عبر القرون، أعمالاً فنيّة صوّرت القلب بأشكال رمزية، بدءاً من الرسوم الدينية في القرون الوسطى، ووصولاً إلى فناني عصر النهضة الذين اهتموا بالتشريح الدقيق في لوحاتهم، ثم الحركات الفنية الحديثة التي استلهمت شكل القلب المجرّد من حقيقته التشريحية لتصنع رموزاً عالمية للحب والرومانسية. ويشير المؤلف إلى انتشار الرمز الشكلي للقلب، ذلك الشكل الذي يأخذ هيئة منحنيات علوية وقمة مدببة سفلية، والذي بات أيقونة عالمية تتخطى الثقافات، على الرغم من كونه بعيداً عن الشكل التشريحي الحقيقي للقلب. هذا التحوّل الرمزي يعكس قدرة الإنسان على تحويل الحقائق التشريحية إلى أيقونات فنية وفكرية، ويؤكد أنّ تاريخ القلب ليس فقط تاريخ تقدّم علمي، بل أيضاً مسار اجتماعي وثقافي غني بالتفاعلات والتأويلات.

وفي الفلسفة، يستعرض الكتاب جدلية توزيع الوظائف بين العقل والقلب. فعلى مرّ التاريخ، تنازعت الأفكار حول إن كان القلب مصدراً للمشاعر فحسب، أم أنه موضع الإدراك والحكمة. ومن خلال تتبّع آراء الفلاسفة، من أرسطو الذي اعتبر القلب مركز الفكر إلى ديكارت الذي وضع العقل في الدماغ، يظهر الكتاب كيف تأثر فهم القلب بالمناخ الفلسفي والروحي، وكيف تباينت الآراء باختلاف الأنماط الثقافية والحقب الزمنية. بهذا يرسم المؤلف لوحة شاملة تُظهر أنّ القلب لم يكن مجرد عضلة، بل مرآة تنعكس عليها تصورات الإنسان عن ذاته وعن الكون من حوله.

إنجازات الطب الحديث وآفاق المستقبل

بعد استعراض التطورات التاريخية والثقافية، يتجه الكتاب إلى تناول مرحلة التحولات الجذرية في فهم القلب منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. يستعرض المؤلف كيفية إسهام اختراع السماعة الطبية (الستيتوسكوب) وأجهزة تخطيط القلب الكهربائي (ECG) وتقنيات التصوير الحديثة (مثل الأشعة السينية، والأشعة المقطعية، والتصوير بالرنين المغناطيسي، وتصوير الأوعية) في تمكين الأطباء من فهم أدق لوظائف القلب وحالاته المرضية. كما يسلّط الضوء على التجارب السريرية التي ساعدت في تطوير عقاقير جديدة وتحسين معايير التشخيص والعلاج.

يخصّص الكتاب مساحة لمناقشة التطوّر الهائل في جراحات القلب، بدءاً من العمليات الجراحية الطفيفة وصولاً إلى جراحات القلب المفتوح، وزرع القلب، والاستعانة بأجهزة مساعدة الدورة الدموية. كما يتوقف عند تطور علم الجينات القلبية والبحوث التي تستكشف الخلفية الوراثية لاعتلالات العضلة القلبية، ما يفتح المجال أمام طب شخصي يضع المريض في بؤرة الاهتمام. لا يغفل المؤلف ذكر التحديات الحاضرة والمستقبلية، مثل ازدياد معدلات أمراض القلب الناتجة عن أنماط الحياة غير الصحية، وانتشار عوامل الخطر كالسمنة والتدخين وداء السكري. كما يناقش الآفاق المستقبلية، مثل تطوير قلوب صناعية أكثر كفاءة، والاستفادة من الخلايا الجذعية في إصلاح أنسجة القلب التالفة، واستخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين التشخيص المبكر وتحديد مخاطر المرض.

إنّ عرض هذه الإنجازات الطبية الحديثة في سياق تاريخي يبرز القيمة المعرفية للكتاب، إذ يبيّن للقارئ أنّ الانجازات التكنولوجية والطبية الحالية لم تنبثق من فراغ، بل كانت ثمرة قرون من الجهد، والاستقصاء، والنقد، والتجريب. هذا الربط المتين بين الماضي والحاضر يجعل الكتاب دليلاً مفيداً لفهم طبيعة التقدم العلمي، وأن التطوّر في فهم القلب لا ينفصل عن التطوّر الإنساني برمّته. بهذا، يضيف المؤلف بُعداً مستقبلياً للقلب، حيث يقدّم تصوراً عن إمكانات العلم في رسم معالم فهم أكثر عمقاً لهذه المضخّة الحيوية، ويشجّع القرّاء على التفكير في الخطوات القادمة نحو مزيد من الاكتشافات والإنجازات.

 

الخلاصة والتقييم النقدي للكتاب

يمثّل “التاريخ العجيب للقلب” عملاً يجمع بين الغزارة المعرفية والاتساع التاريخي، ويقدّم طرحاً متكاملاً لمسيرة فهم القلب عبر مختلف الأزمنة والفضاءات الثقافية. يمتاز الكتاب بأسلوب علمي صارم في توثيق الحقائق والمعلومات، مدعوماً بشبكة من المراجع الموثوقة، مما يمنحه طابعاً أكاديمياً متيناً. في الوقت نفسه، لا يتخلّى المؤلف عن النزعة السردية التي تجعل النص ممتعاً وشيقاً، إذ يروي الأحداث والمكتشفات بلغة مفهومة، ويعرض شخصية العلماء والأطباء بصورة حية. هذه الثنائية في الأسلوب، بين الدقة البحثية والجاذبية الأدبية، تزيد من قيمة الكتاب بوصفه جسراً بين المختصين والقرّاء المهتمين بالشؤون العلمية والثقافية.

من الناحية النقدية، قد يشعر بعض القرّاء بأن المؤلف منح بعض الحقب التاريخية اهتماماً أكبر من غيرها، أو أنّه مرّ سريعاً على بعض التفاصيل التشريحية المعقدة. لكن يمكن تفهّم هذه الانتقائية في ضوء اتساع الموضوع وتشعّبه. كما قد يثير التساؤل مدى اعتماد المؤلف على مصادر ثانوية أحياناً، إلا أنّ هذا أمر معتاد في الدراسات التاريخية واسعة النطاق. إذا كان ثمة ملاحظة، فقد تتعلّق بعدم التعمّق في بعض الجوانب الفلسفية أو عدم إبراز الاختلافات في الرأي بين المؤرخين والأطباء حول قضايا معيّنة، ولكنّ هذه تبقى ملاحظات طفيفة في مقابل الجهد المبذول.

يحسن بالقارئ الذي يبحث عن فهم شامل للعلاقة بين الطب والثقافة والتاريخ أن يقتني هذا الكتاب. فهو لا يكتفي بعرض المسار العلمي لفهم القلب، بل يُظهر أهمية النظر إلى العلم في سياق حضاري أوسع. ويُقدّم دروساً حول كيفية نمو المعرفة الإنسانية في بيئات متقاطعة، سواء كانت دينية أو فلسفية أو فنية. إنّ “التاريخ العجيب للقلب” يذكّرنا بأن العلم لا ينمو في فراغ، بل يتفاعل مع المناخ الفكري والاجتماعي والقيمي، وأنّ معرفتنا بالجسد مرتبطة بفهمنا للإنسانية ككل. باختصار، هو عمل موسوعي يعيد للقارئ الاعتبار في النظر إلى الطب كتجربة إنسانية معقّدة، يصعب اختزالها في مختبرات التعقيم والأدوات الجراحية وحدها. إن هذا الكتاب إضافة مهمة للمكتبة العربية والعالمية، إذ يُثري النقاش حول القلب بوصفه موضوعاً طبياً عريقاً، ورمزاً إنسانياً متعدد الأبعاد، وجدير بأن يُقرأ بعين فاحصة وعقل منفتح.

شارك الصفحة

مراجعة لكتاب: التاريخ العجيب للقلب قراءة المزيد »

نهاية القراءة

pexels-jakubzerdzicki-29711758

يستضيف برنامج الكتابة الخاص بي ندوة صيفية كل عام، يقدم فيهام أعضاء هيئة التدريس استراتيجيات تعليمية حديثة (مثال: التصحيح بدون درجات، وكيفية تطبيق هذا الأسلوب؟)ويتبادلون الأفكار حول المشكلات المستجدة (مثال: كيفية إدارة استخدام الطلاب ChatGPT  في الكتابة الجامعية.) وفي هذا العام قدمتُ بالتعاون مع أحد الزملاء عرضًا يتناول مشكلةً كبيرة ومتنامية تتعلق بتدريس الكتابة للجيل الحالي من الطلاب الجامعيين: ألا وهي عدم القراءة.  

من عادتي أن أبدأ محاضرات الكتابة التي أقدمها للمستجدين بالتعرف على طلابي (القاعات صغيرة، مما يشجع على النقاش). أسألهم مَن يحب الكتابة ومن لا يحبها، وما هي عاداتهم ومهاراتهم في الكتابة، وكيف كانت تجربتهم الكتابية في المرحلة الثانوية، وغير ذلك.

كما أطرح عليهم هذا السؤال: ما هي أفضل طريقة لتحسين الكتابة؟ وتأتيني نفس الإجابة دائمًا: الإكثار من الكتابة، فأقول إن هذه هي ثاني أفضل طريقة. أفضل طريقة لتحسين الكتابة هي الإكثار من القراءة. لا يروقهم هذا الكلام، فأسمع منهم عبارات مثل “لم أقرأ كتابًا منذ عشر سنوات!” أو “لم أقرأ كتابًا مذ كنت في الصف السادس!” أو حتى “لم أقرأ كتابًا قط.”

هذا أمر لا يصدق! كيف يتخرج شخص من المدرسة الثانوية ويُقبل بالجامعة دون أن يقرأ كتابًا منذ سنوات (أو في حياته)؟ لدي بعض النظريات المدعومة بالبحوث الأخيرة (انظر المراجع أدناه)[1]:

  1. التكنولوجيا: نشأ الجيل زد (الذين هم في الجامعة الآن) مع جوجل والهواتف الخلوية ووسائل التواصل الاجتماعي، وكلها توفر معلومات سهلة وسريعة لا تتطلب جهدًا إدراكيًا مقارنة بالمقالات المطولة والكتب.
  2. الاختبارات الموحدة: يُدرَّب طلاب المرحلة الثانوية على فحص فقرات منفصلة وتحديد فكرتها الرئيسية، وهي مهارة مفيدة للاختبارات، لكنها لا تفيد في التعلم عن الطبيعة البشرية والعالم، ولا تحسّن المهارات الكتابية، لأن ذلك يتطلب قراءة عميقة ومستمرة.
  3. الجداول المزدحمة: طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية مشغولون للغاية بالواجبات المنزلية والرياضة والعمل والتدريس والتطوع باسم الاستعداد للجامعة، فيشعرون أن لا وقت لديهم للقراءة الترفيهية أو حتى القراءة الإلزامية.

العزوف عن القراءة بين الأجيال ينعكس على طلابنا في عدة صور: أصبحت القراءة الجهرية في الفصول الدراسية ممارسة صعبة، حيث يعجز بعض الطلاب عن تهجّي اسم مؤلف غير مألوف أو نطق الكلمات الشائعة حتى. يميل الطلاب إلى الكتابة مثلما يتحدثون، حيث تُكتب المقالات بلغة غير رسمية وعامية بوجه عام بسبب عدم التعرض لنماذج كافية بقراءة الأدب والكتابات الأكاديمية. هنا يحضرني نموذج المدخلات والمخرجات للحوسبة: لا بد أن تقرأ كتابات رصينة حتى تُخرج كتابة متقنة. أخيرًا، يصعُب أحيانًا فهم رسائل البريد التي يرسلها الطلاب، لأنها تشبه الرسائل النصية كثيرًا ومليئة بالاختصارات، ومن دون علامات ترقيم أو إلقاء التحية.

أود أن أؤكد على أنّ هذا التراجع في القراءة اتجاه وليس قاعدة. يسرني دائمًا السماع من الطلاب عن الكتاب الذي قرأوه في الصيف وأعجبهم، أو عن كاتب مفضل اكتشفوه مؤخرًا، وأذكر طالبًا العام الماضي كان يعزو مهاراته القوية في الكتابة التقنية إلى قراءة الكثير من الأدلة الفنية للسيارات. لكن التراجع في القراءة اتجاه متزايد، وهذا أمر مُقلق.

أشار أحد المتحدثين الضيوف في ندوتنا الصيفية إلى أن الطلاب الجامعيين يقرأون كثيرًا في الواقع، إلا أن محتوى قراءتهم قد تطور، فصار كل ما يُقرأ الآن عبارة عن رسائل وتغريدات وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكني لا أوافق على ذلك.

إن نوع “القراءة” الذي يمارسه الناس على منصات التواصل الاجتماعي قصير ومجزّأ ويركز على المعلومات: أحب هذا، لا أحب ذاك، أنت مخطئ، أنا على حق، انظر إليّ، اشترِ هذا، لا تشتر ذاك. هذه التفاعلات الموجزة مجتمعة تجعل الناس على اطلاع دائم بما يفكر فيه كل إنسان في العالم في اللحظة الحالية (وهو أمر مرهق).

إلا أنّ التطور السليم للعقل البشري يتطلب شيئًا أعمق من مثل هذه الجرعات السريعة من المعلومات المنفصلة. تحتّم علينا القراءة المستمرة متابعة الأفكار والتفكير العميق وفهم وجهات النظر المختلفة. ونحن بذلك نخضع لتعلم عميق، فالمدخلات الجديدة تعيد تنظيم الاتصال العصبي في أدمغتنا، فنرى العالم بطريقة جديدة حقًا. بعبارة أخرى: نحن نتعلم عندما نقرأ.

جميع المواد الأكاديمية مهمة، فكل منها يساهم بشيء لفهم أنفسنا وعالمنا. لكني أزعم أن لا شيء منها أهم من القراءة، لأنه عندما نعرف كيف نقرأ -أقصد القراءة الحقيقية- سنستطيع أن نتعلم ونفهم أي شيء.

ما الذي يمكن فعله إذًا لتحسين مهارات القراءة عند الشباب؟

  1. إيجاد طرق للحد من أشكال القراءة السطحية (مثل تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي)، وبذلك يتوفر المزيد من الوقت للأشكال الأعمق للقراءة.
  2. إدراك أن مهارات القراءة اللازمة لأداء الاختبارات مهمة، لكنها ليست أساسية للتطور البشري مثل القراءة العميقة التي تعزز فهمنا للطبيعة البشرية وعالمنا وتساعدنا على عيش حياة مُرضية.
  3. الحرص على اقتطاع وقت لقراءة أي شيء يجذب اهتمامك، سواء كان أدلة فنية للسيارات أو محاورات أفلاطون. يحتاج الشباب إلى وقت للراحة، وإلى تذكير بأن وقت الراحة هذا قد يعني قراءة كتاب بدلًا من تصفح وسائل التواصل الاجتماعي.

حاليًا أقرأ مع ابني في المرحلة المتوسطة أن تقتل طائرًا محاكيًا، نتبادل الدور في القراءة جهرًا. وسأقرأ مع طلابي المستجدين فصلين يتحدثان عن الجيل زد من كتابين جديدين، أحدهما الأجياللجين توينج، والآخر لا يكفي أبدًا لجينيفر والاس. أتطلع لرؤية استجابة طلابي لهذه الإضافات الممتازة للأدبيات المعاصرة عن فهم هذا الجيل ومساعدتهم حتى يصبحوا قراء ومفكرين وكتّاب مثقفين ومطلعين كما يطمحون.

[1] Twenge, J. M. (2023). Generations: the real differences between Gen Z, Millennials, Gen X, Boomers, and Silents : and what they mean for America’s future. First Atria Books hardcover edition. New York, NY, Atria Books.

Wallace, J. B. (2023). Never enough: when achievement culture becomes toxic– and what we can do about it. New York, Portfolio/Penguin.

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها
آملين أن تجدوا فيها ما يحفز فضولكم لاقتنائه، وقرائته مع تطبيق نديم!

نهاية القراءة قراءة المزيد »

حوارٌ مع جمعية كون النسائية

Picture of حوار: سارة المطيري
حوار: سارة المطيري

ساهم في الحوار: رزان الحماد، غالية الفوزان

في حِوارٍ جديد تحدثنا مع ضيفتنا أ. عائشة العقيل المديرة التنفيذية لجمعية كون النسائية للرّيادة الشبابيّة حول أهدافِ الجمعية وإنجازاتها ومبادراتها النوعية، مثل برنامج “كون وكتاب” الذي يسعى لتعزيز ثقافة القراءة وصناعة قادة ملهمين. كما ناقشت التحديات التي تواجه الجمعية وسُبل التغلب عليها، مع استعراضٍ لتجربة المستفيدات وتأثير البرامج عليهن في مختلفِ جوانب حياتهن الشخصية والمهنية. من خلال هذا الحوار، نستكشف كيف استطاعت “كون” بناء نموذج ريادي يلبي احتياجات الفتيات في الجوانب النفسيّة والاجتماعيّة والقيميّة، ويعزّز أدوارهن القيادية ضمن بيئة مجتمعية متجددة وواعدة.

نترككم مع الحوار.

كيف تأسست ونشأت جمعيّة؟ 

تأسست جمعية كون النسائية للرّيادة الشبابية عام 1440ه، على يد أستاذات خبيرات في المجال التربوي، وفي التخصص التربوي؛ وامتدادًا لخبرتهم وعطائهم في الندوة العالمية للشباب الإسلامي، برزت وجاءت فكرة جمعية “كون” النسائية.

بعد مرور هذه السنوات، هل وجدّتم الأهداف المرجوةِ التي خططتم لها عند التأسيس؟

للجمعيّة عادة أهداف فرعية وأهداف استراتيجية بعيدة المدى؛ الأهداف الفرعية أو الأهداف قصيرة المدى تأخذ عادةً مؤشراتها أو نجاحها بعد انتهاء البرنامج مباشرة، لكن الأهداف الاستراتيجية بالطبع بعيدة المدى؛ ومِن ثَمَّ فهي تشكّل رؤية أساس الجمعية ورسالتها في صناعة قيادة شبابية بدأت تظهر الأهداف وتتشكل في الشخصيات القيادية في مخرجات برامج الجمعية. في أهدافنا الاستراتيجية نركز على تعزيز الشخصية الإيجابية وصناعة القيادات الشبابية، وتمكين الفتيات من إدارة البرامج المجتمعية. على سبيل المثال برنامج “نقش”، مستفيدات البرنامج الآن قادرات على قيادة فريق عمل وقيادة مبادرات مجتمعية، إضافةً إلى التغير الذي نلمسه في السلوك وفي مفاهيمهم وتغير أيضًا في مفهومهم للقيم وتأثيرها عليهم بشكل خاص أو بشكل أوسع تأثيرهم على الأسرة وتأثيرهم على المجتمع من حولهم؛ ومِن ثَمَّ انعكس على ممارساتهم في المجتمع وفي بيئات العمل لديهم.

كيفَ رأيتِ الإقبال على الجمعية من قِبل الفتيات؟ 

الإقبال -اللهم لك الحمد- جيد لكون برامج نوعية ومميزة وذات طابع مختلف يغطي عدة جوانب في شخصية الفتاة، إذ يركّز على الجوانب كافة، الجانب القيمي والجانب النفسي والاجتماعي، ودون القصور كذلك حتى في الجانب الصحي أو الجانب البدني، إضافة إلى الجانب الترويحي وتغذيته بشكلٍ مباشر، كون برامج الجمعية تغطي احتياجات الجوانب الأساسية لدى الفتاة. وما زال الإقبال جيدًا عندنا على البرامج. ورغم أنه يوجد انفتاح أكثر وتوسع أكبر وانتشار في الجمعيات وفي الأنشطة؛ فإنَّ برامج كون تظل متميزة وتحظى بإقبال على برامجها.

برنامج “كون وكتاب” هو أحدُ برامج جمعية كون، لماذا القراءة تحديدًا في جمعية تستهدف صنع القادة؟  وهل هُناك صِلةٌ بين القائد والقراءة؟

من أهم صفات القائد القراءة، وما في شك أنَّ القراءة من أهم المعايير الأساسية التي تدل على نهضة الأمة، والأمة التي لا تقرأ لا يتوقع منها أن تبني حضارة؛ فالقراءة تغذي الروح والعقل. القراءة ليست هواية لكنَّها ضرورة وأمر لا بُد منه إذ إنها تبني العقل والفكر وتؤثر في قيم الإنسان وسلوكه وتنمي مداركه. ومن هنا فالإنسان يكتمل وعيه. ويركز برنامج كون وكتاب على القراءة المكثفة؛ البرنامج كل شهر لكن فيه مواسم، والموسم الواحد ثلاثة أشهر، يركز على مفهوم واحد وموسم واحد في مجال معين؛ ما يعطي عمقًا أكثر لقراءة الكتاب والإفادة منه؛ ومِن ثَمَّ اللقاء يكون فيه إثراء واستماع لوجهات نظر مختلفة. أيضًا ينمي مهارات النقد البنّاء إذ يوجد نقاش حول الأفكار المطروحة في الكتاب وتغذيتها وإثراءها من جوانب متعددة واختلاف الأشخاص الحاضرين واختلاف وجهات النظر يثري ويوسع المدارك ويفتح لهم آفاقًا أوسع تنمي مداركهم وتنمي أيضًا عندهم مهارات النقد وتحليل المادة المكتوبة، فليست قراءة إنهاء عدد معين من الصفحات وحسب.

أكملَ برنامج كون وكتاب سنتين أي إنَّه مستمر والمستفيدات من البرنامج يزددن ويتجددن، مع وجود مجموعة مستمرة في البرنامج منذ سنتين نمت عندهم مهارات في انتقاء الكتب وفي اختيار الكتب. ربما يكون الكتاب في مجال معين مؤلف بالعربية أو مترجم؛ هذه المهارة تكتسب مع الوقت ومع القراءة ومع تقبُّل الأفكار وتقبل النقد وتقبل وجهات النظر المختلفة. ومِن ثَمّ نركز على القراءة لأنَّ القراءة تنمي مدارك الإنسان بشكل مباشر، والقارئ الجيد لا بُد أنْ يكون عنده جانب يركز على القراءة فيه وتنميته وتطويره.

كيف كان تفاعل المشاركات مع برنامج كون وكتاب؟

التفاعل ملموس وانطباعاتهم بعد كلّ لقاء تُثري مجموعة الواتساب في جوال الجمعية، إذ يكون فيها حماس للموسم القادم أو للكتاب القادم. ومن المجموعات التي تحضر يصير فيه تطرق إلى موضوع معين، كأن تقرأ إحدى المستفيدات كتابًا وتطرحه على المجموعة، هل ممكن هذا الكتاب نقرأه هذا الكتاب أفدت منه في هذا المجال… فقد صار لهنَّ دورٌ أساسي في التشارك وفي التخطيط وفي اختيار الكتب وانتقائها. فلدينا جو من الألفة والحميمية بين المشاركات أنفسهن لأن المجموعة مثل ما ذكرتُ مستمرة فصار فيه قبول بينهم بوجهات النظر والتعبير عن الآراء والأفكار، وصار فيه تغيير حتَّى في السلوكيات وفي المفاهيم وتقبل وجهات النظر المختلفة.

مع تعدد الأنشطة في الرياض وكثرة الجهات والوسائل الشاغلة، كيف تصِلون للفتيات والفئة المستهدفة لكون؟

على كثرة الأنشطة والفعاليات المتنافسة، لكن يظل لكون طريقتها الخاصة في الوصول إلى مستفيدات كون ومن يرغبن بهذا الطابع المختلف والمتميز في البرامج. نحن عادة نستخدم قاعدة بيانات مستفيدات الجمعية وكل من تحضر لقاء تؤثر بشكل أو بآخر على المحيط من حولها للانضمام لبرامج الجمعية، كذلك نستخدم طريقة وسائل التواصل الاجتماعي لتويتر والإنستغرام، وهذه السنة أنشأنا قناة كون لمتابعة جديد برامج الجمعية، وكذلك نركز الآن على الوصول الفئة المستهدفة اللي هم الفئة الجامعة والوصول لهم في مقراتهم، وفِي أماكن دراستهم يسهل علينا تغطية شريحة مجتمعية أكبر من استقطابهم لمقر الجمعية.

 ماهي التحديات التي تواجه جمعيّة كون وكيف تتغلب عليها؟

لا يوجد عمل كامل فالكمال الله وفعلًا سواء كانت جمعية كون أو باقي الجمعيات أو باقي بيئات العمل في تحديات لا بد أنَّها تؤثر على العمل بشكل أو بآخر؛ لكن نحاول ألّا تؤثر التحديات على جودة البرنامج أو في نوعية البرنامج؛ لكن ثمّة نقطة نؤكد عليها فكرة النمط الاجتماعي الآن،طبيعة أوقات الدوام، الازدحام المروري في الرياض، يؤثر بشكل أو بآخر على التفرغ الذهني والتفرغ لحضور البرامج، إضافة إلى أن الفئة المستهدفة عندنا للجمعية إمّا أنَّها تكون طالبة جامعة أو موظفة في بداية سلكها الوظيفي أو أمًّا جديدة أو في بداية حياتها الأسرية؛ فِي هذا الجانب جميع الفئات هذه الثلاثة أو الأربع كلهن يحتجن إلى برامج تروّح عن النفس وتعتبر لهن مثل المتنفس ويكون فيها أيضًا جانبٌ تطويري وجانبٌ قيمي يضيف لهنَّ على الرغم من ارتباطاتهم المهنية أو ارتباطاتهم الاجتماعية، ومِن ثَمَّ نحن صراحة نحاول نركز على اختيار وانتقاء مواعيد البرامج اللي تقدَم والنظر في هذا الموضوع سواء كان في الإجازات أو في المواسم أيضًا. نركز على أن نقدم البرامج عادة في نمط المخيمات التي تكون في إجازة نهاية الأسبوع بحيث أن البرنامج يقدم بشكل متكامل، مخيم مثلًا تقدم فيه المحاور بشكل مترابط بحيث أنَّ المستفيدة عندما تقرر الحضور يكون في وسعها أن تفرغ نفسها لمدة يوم تحضر لقاء متكامل، تخرج منه بفائدة مكثفة، يكون فيها ربط بين المعلومات، يكون فيها تكامل، يتشكل عند المستفيدات جو من الألفة، ويكون فيه تغيير عن نمط البرامج التي تقدم عادةً بنمط الساعة والساعتين. طبعًا ما زالت فيه برامج في هذا الجانب لكن نحن نحاول أن نغطي جوانب بحيث أننا نصل إلى أكبر فئة مستهدفة من الفتيات.

ختامًا: نشكر لكم حرصكم واختياركم وانتقاءكم لجمعية كون ونسأل الله لنا ولكم يا رب دوام التوفيق والسداد ولجمعية كون مزيدًا من التقدم والتمييز… وكون أُفق الرحب، رحب في مجالها في برامجها في مستفيديها، ولكلّ من يحب كون وأعجب بكون شكرًا لكم على حسن الاستضافةجزاكم الله خيرا.

شارك الصفحة
المزيد من الحوارات

حوارٌ مع جمعية كون النسائية قراءة المزيد »

السلطة ومعرفتها: مراجعة لكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد 

مقدمة: رحلة بين الشرق والغرب

حين تصطدم الأنظار بالشرق، يصبح من الصعب على الغرب أن يراه كما هو. فدائمًا يراه كما يريد أن يراه. هذا هو جوهر كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق”، الذي يُعدّ بمثابة دعوة جريئة لتفكيك الصور المشوهة التي رسمها الغرب للشرق على مر العصور. في هذا الكتاب، لا يقتصر سعيد على مجرد تحليل الأكاديميا الاستشراقية، بل يتوغل في عمق العلاقة بين المعرفة والسلطة، كاشفًا كيف أن الاستشراق كان أداة للهيمنة. لقد أصبح الشرق، في نظر الغرب، كائنًا معلقًا في فلكه، تابعًا له في كل شيء: في تمثيلاته، وتقييماته، وصوره الذهنية. هو كتابٌ يُغني العقل ويثير الأسئلة العميقة التي تفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين الشرق والغرب.

الاستشراق: أكثر من مجرد دراسة

قد يُظن للوهلة الأولى أن الاستشراق هو مجرد دراسة أكاديمية عن الشرق، لكن إدوارد سعيد يبين أن الاستشراق كان -ولا يزال- أداة ثقافية قوية تم استخدامها لتمرير سياسات الهيمنة الغربية. فليس الاستشراق مجرد محاولات لفهم الشرق، بل هو نظام معرفي يصوّر الشرق على أنه كائن متخلف، جامد، وغريب. وهذه الصور لم تكن افتراضات فكرية بحتة، بل كانت تبريرًا لاستعمار الأرض والتاريخ، وأداة لفرض الهيمنة السياسية.

لقد كان الاستشراق بالنسبة للغرب وسيلة للتأكيد على تفوقه الثقافي والاقتصادي، فُرسمت صورة عن الشرق باعتباره “الآخر” الذي يحتاج إلى التنوير من قبل الحضارة الغربية. هذا التصور جعل من الهيمنة الاستعمارية مسألة مشروعة، مُعززة بقوة “الاختلاف” الثقافي والديني بين الشرق والغرب.

 الاستشراق كأداة سلطوية

في قلب هذا الكتاب، يكشف سعيد عن العلاقة العميقة بين المعرفة والسلطة. فبينما تتعالى الأبواق الغربية مدّعية أنها توصلت إلى معرفة “صحيحة” عن الشرق، فإن الحقيقة هي أن هذه المعرفة كانت، وما تزال، وسيلة لترسيخ الهيمنة. فالاستشراق لم يكن مجرد علم محايد، بل كان أداة ثقافية مسيطرة، تستند إلى أن الشرق يحتاج إلى “توجيه” الغرب، وأنه يعاني من عجز فكري وحضاري.

لقد توافقت هذه “المعرفة” مع أهداف الاستعمار، مما جعل من المشروع الغربي في الشرق ليس فقط ذا طابع اقتصادي، بل ثقافي أيضًا. فالاستشراق كان يشكل أحد أسس فرض الهيمنة على شعوب الشرق، ويقدمها باعتبارها شعوبًا بلا تاريخ أو هوية حقيقية، في الوقت الذي كانت فيه هذه الشعوب تُمارس سياسات الاحتلال والاستغلال.

تمثيلات الشرق في الأدب والفن

كان الأدب والفن الغربيان من أبرز وسائل نشر التصورات الاستشراقية. فالأدب الغربي -سواء في أعمال فلوبير أو هوغو أو في الروايات الكلاسيكية- كان يقدم الشرق كعالم غارق في الخرافات، مليء بالأسرار التي يحتاج الغرب إلى حلها. ولذا، كان الشرق في هذه الروايات عبارة عن كائن غريب يشكل تهديدًا لمفهوم الحضارة الغربية.

وتُظهر هذه الأعمال الأدبية كيف كان الغرب يُصور الشرق في قالب من الانحلال والوحشية، مما يعزز الصورة النمطية المرسومة عنه كعالم لا يمكنه إدارة نفسه. هذه الصورة، التي تكرست في الأدب الغربي، أسهمت في تكريس الاستعمار وفي نشر فكرة أن الشرق بحاجة إلى التوجيه الغربي المستمر.

الاستشراق والسياسة: هيمنة الفكر والممارسات

لا يقتصر تأثير الاستشراق على الأدب فحسب، بل يتعداه إلى السياسة. كيف يمكن تفسير الانخراط الاستعماري الغربي في الشرق، إن لم يكن من خلال نظرة الاستشراق التي أضفت مشروعية على التسلط الغربي؟ يوضح سعيد أن الاستشراق لم يكن مجرد تصورات ثقافية، بل كان أداة سياسية بامتياز. في الوقت الذي كانت فيه القوى الغربية تستغل ثروات الشرق وتفرض هيمنتها العسكرية، كانت الأكاديميا الغربية تكرس هذه الهيمنة من خلال معارف تدّعي الحياد والموضوعية، بينما هي في الواقع مصممة لترسيخ التفوق الغربي.

وإذا كانت المعرفة الغربية قد قدمت الشرق ككائن متخلف، فقد كانت النتيجة الطبيعية لهذه الصورة أن يتم الاستعمار وفرض السيطرة السياسية والاقتصادية عليه. وفي هذا السياق، يقدم سعيد صورة واضحة عن كيف كان الاستشراق ليس مجرد علم، بل أداة ثقافية مسيطرة تُسهم في توجيه السياسات الاستعمارية.

إعادة بناء الهوية الشرقية

في محاولة لإعادة رسم صورة الشرق، يطرح سعيد فكرة إعادة بناء الهوية الشرقية بعيدًا عن التأثيرات الغربية. فالشرق الذي صوره الاستشراق ليس هو الشرق الحقيقي، بل هو مجرد انعكاس لتصورات الغرب المشوهة. لذا، من المهم أن يعيد الشرق بناء نفسه بعيدًا عن أنماط الفهم الغربية، وأن يستعيد ثقافته وهويته بما يتناسب مع خصوصيته.

ويؤكد سعيد أن الشرق ليس مجرد “آخر”، بل هو كائن حي ذو تاريخ طويل وثقافة غنية. وهكذا يدعو سعيد الشرق إلى العودة إلى ذاته، بعيدًا عن التصورات الغربية. وتكمن أهمية هذا النداء في ضرورة أن يعيد الشرق تعريف نفسه بعيدًا عن الصورة التي رسمها له الغرب، والابتعاد عن محاولة إثبات تفوقه الثقافي.

الاستشراق في العصر الحديث: تكرار للصور النمطية

على الرغم من أن الاستعمار العسكري قد انتهى في معظم أنحاء العالم، إلا أن الاستشراق لم يُمحَ. بل على العكس، استمر في التأثير على العلاقات بين الشرق والغرب في العصر الحديث. ففي الأزمات السياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، لا يزال الشرق يُصوّر باعتباره تهديدًا أو مشكلة يحتاج الغرب إلى التدخل فيها. ولا تزال الأفكار الاستشراقية حية في الإعلام والسياسة الغربية، مما يؤكد أن الاستشراق لا يزال أداة لتوجيه الرؤى الغربية عن الشرق بما يتناسب مع مصالحها.

الختام: دعوة لتفكيك الصور النمطية

يُعد كتاب الاستشراق أكثر من مجرد دراسة أكاديمية. إنه بمثابة صرخة لفضح العلاقة المعقدة بين السلطة والمعرفة، ودعوة للكشف عن الطبقات العميقة التي تراكمت عبر القرون لتشكل صورة مشوهة عن الشرق. ورغم الانتقادات التي قد تُوجه له، فإن هذا الكتاب يظل حجر الزاوية في نقد العلاقة بين الشرق والغرب. إنه دعوة للشرق ليتعرف على ذاته بعيدًا عن التصورات الغربية، وللغرب ليتوقف عن تصوير “الآخر” وفقًا لصورته النمطية.

يبقى كتاب الاستشراق مرجعًا رئيسيًا لكل من يسعى إلى فهم الديناميكيات الثقافية والسياسية التي تشكل الوعي العام في عالمنا المعاصر. وهو نص يستحق أن يُقرأ بتمعن، لأنه لا يقدم مجرد دراسة أكاديمية، بل يقدم رؤية جديدة لعلاقة الشرق بالغرب، قائمة على التفكيك والمراجعة العميقة لكل الصور التي تم رسمها عبر قرون من الهيمنة المعرفية والسياسية.

شارك الصفحة

السلطة ومعرفتها: مراجعة لكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد  قراءة المزيد »

أعماق السطحية: مراجعة لكتاب “نظام التفاهة” لآلان دونو

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يُعدّ كتاب “نظام التفاهة” للكاتب والمفكر الكندي آلان دونو من الأعمال الفريدة التي تتناول ظاهرة اجتماعية معقدة، تتعلق بكيفية تحول المجتمعات الحديثة إلى نظم تهيمن عليها ثقافة التفاهة. في هذا الكتاب، يوضح دونو أن التفاهة لم تعد مجرد صفة سلبية لأشخاص أو أفعال معينة، بل أصبحت نظامًا متكاملًا يتحكم في مختلف مجالات الحياة، من التعليم والسياسة إلى الاقتصاد والثقافة. إذ تسيطر قيم الامتثال والخضوع على حساب الإبداع والتميز، ويتم تهميش الأفراد الذين يسعون لتغيير هذا الواقع أو التميز فيه.

اعتنى بالكتاب ونقله إلى العربية الدكتورة مشاعل الهاجري مع إثرائها بتعليقات وشرح وافي زاد من فائدة الكتاب المعرفية، وطُبع الكتاب في دار سؤال للنشر وعدد صفحاته 366 صفحة.

يتناول الكاتب تحولات المجتمع بتفصيل دقيق وعميق، ليقدم نقدًا شاملاً للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحديثة، ويبين كيف أن هذه النظم قد أصبحت تدعم التفاهة وتستبعد أي محاولة للخروج عن الخطوط المرسومة لها. يعتمد دونو على منهج علمي وأدبي في آنٍ واحد لتحليل هذه الظاهرة، وهو ما يجعل الكتاب قراءة ضرورية لكل من يسعى لفهم التحولات العميقة التي يشهدها العالم المعاصر.

 

الفكرة المحورية: نظام التفاهة

يرى دونو أن التفاهة قد أصبحت نظامًا، ولم تعد مجرد ظاهرة سلوكية فردية. وفقًا له، النظام المعاصر -وخاصةً في الدول الصناعية المتقدمة- أصبح يعتمد على “تسطيح” كل ما يتعلق بالقيم والمعايير المجتمعية. يتم تمكين الأفراد الذين يتماشون مع التيار السائد ولا يتحدون القواعد، بينما يتم تهميش وإقصاء الأفراد الذين يملكون مواهب أو قدرات استثنائية ويرغبون في تحدي هذا النظام.

هذا النظام قائم على تجنب المخاطر وتفضيل الحلول المريحة والسهلة التي لا تتطلب إبداعًا أو اجتهادًا. ويؤدي ذلك إلى إحلال التفاهة في جميع جوانب الحياة: من السياسية إلى الاقتصادية والتعليمية، وحتى في الحياة اليومية للأفراد. ويعزز النظام الرأسمالي هذه الظاهرة من خلال سعيه الدائم لزيادة الاستهلاك، مما يدفع المجتمعات إلى تفضيل الحلول الجاهزة والقوالب الجاهزة على التفكير النقدي أو الإبداع.

التفاهة في التعليم: إنتاج العمال وليس المفكرين

يشير دونو إلى أن النظام التعليمي الحديث أصبح من أهم المؤسسات التي تخدم نظام التفاهة. التعليم، كما يراه، لم يعد يهدف إلى تحفيز التفكير النقدي أو تطوير الإبداع لدى الأفراد، بل أصبح موجهًا نحو إنتاج عمال أكثر من كونه موجهًا نحو إنتاج مفكرين. الطلاب يتم تدريبهم على قبول ما يُملى عليهم دون التفكير بعمق أو مساءلة الأمور من حولهم.

الهدف الأساسي من التعليم اليوم، وفقًا لدونو، هو إعداد الأفراد للاندماج في سوق العمل والامتثال للقواعد الاقتصادية والسياسية السائدة. يتم تعليم الطلاب المهارات الضرورية للبقاء في النظام وليس المهارات التي تمكنهم من تغييره أو تطويره. وبهذا، يتحول التعليم إلى وسيلة للحفاظ على الوضع الراهن بدلًا من أن يكون أداة لتطوير المجتمع.

كما أن النظام التعليمي يشجع على الامتثال أكثر من تشجيعه على التفكير النقدي. الطلاب يُحَثّون على اتباع المسارات التقليدية وعدم محاولة الخروج عن المألوف أو تقديم أفكار جديدة. وبالتالي، يتم تقويض دور التعليم كأداة لتطوير المجتمع والإبداع الفكري.

 

التفاهة في السياسة: قادة بلا رؤية

يركز دونو بشكل خاص على المجال السياسي، حيث يرى أن التفاهة قد تمكنت من الاستيلاء على السياسة بشكل كبير. القادة السياسيون اليوم، وفقًا لدونو، ليسوا بالضرورة الأكثر ذكاءً أو خبرةً، بل هم الأكثر قدرةً على التماشي مع النظام القائم. هؤلاء القادة لا يسعون إلى تقديم رؤى جديدة أو إحداث تغيير جذري، بل يهتمون بالمحافظة على مواقعهم في السلطة والبقاء في قلب النظام.

السياسيون في هذا النظام يفضلون استخدام لغة مبسطة وسطحية وسهلة الفهم، حتى لو كانت هذه اللغة تفتقر إلى العمق أو الحقيقة. يتم تقديم الأفكار السياسية كمنتجات استهلاكية يمكن تسويقها بسهولة للجماهير، ويتم تفضيل الشعارات البسيطة التي تلقى قبولًا واسعًا دون الحاجة إلى التفكير أو النقاش.

بالتالي، تحولت السياسة إلى مجال يخدم التفاهة، حيث لا يتم اختيار القادة بناءً على الكفاءة أو الإبداع، بل بناءً على قدرتهم على البقاء ضمن الإطار المحدد لهم. السياسيون الذين يجرؤون على تقديم رؤى جديدة أو تحدي النظام القائم يتم تهميشهم أو حتى استبعادهم.

 

التفاهة في الإعلام: تسطيح الوعي

وسائل الإعلام لم تسلم من تأثير نظام التفاهة، بل أصبحت أحد أدواته الرئيسية. الإعلام اليوم، كما يصفه دونو، يعتمد على تسطيح الوعي وتقديم محتوى سطحي وسهل الهضم للجماهير. يتم التركيز على الأخبار السريعة والمعلومات الترفيهية التي تجذب الانتباه لفترات قصيرة دون أن تتطلب تفكيرًا عميقًا أو تحليلًا نقديًا.

يُعَد الإعلام أحد العوامل التي تساهم في ترويج ثقافة الاستهلاك السريع للمعلومات دون التحليل أو التعمق. يتم توجيه الجمهور نحو استهلاك الأخبار بشكل متكرر وسريع، مع التركيز على الإثارة والترفيه بدلاً من تقديم معلومات دقيقة أو متعمقة. وبهذا، يتحول الإعلام إلى أداة لترويج التفاهة بدلًا من أن يكون وسيلة لتنوير المجتمع أو تعزيز الوعي العام.

يتم تسليط الضوء على القصص المثيرة أو الغريبة التي تجذب الانتباه بسهولة، في حين يتم تهميش الأخبار الجادة أو المعقدة التي تتطلب تحليلًا أو تفكيرًا نقديًا. وبالتالي، يتحول الإعلام إلى أداة لتغذية ثقافة التفاهة بدلاً من أن يكون وسيلة لتنوير المجتمعات أو تعزيز النقاش العام حول القضايا الهامة.

 

التفاهة في الاقتصاد: الشركات وقيم الامتثال

الاقتصاد أيضًا ليس بمعزل عن تأثير نظام التفاهة. وفقًا لدونو، الشركات والمؤسسات الاقتصادية اليوم أصبحت تفضل الأفراد الذين يمكن التنبؤ بسلوكهم والذين يتبعون القواعد المحددة دون محاولة تجاوزها أو تحسينها. يتم تشجيع الامتثال والطاعة على حساب الإبداع والتفكير الخلّاق.

في النظام الاقتصادي الحديث، يتم تفضيل الموظفين الذين ينفذون الأوامر دون طرح تساؤلات أو اقتراحات لتحسين النظام. الابتكار والتغيير يتم تهميشهما لأنهما يمثلان تهديدًا للنظام القائم. بل إن النجاح في هذا النظام يعتمد بشكل أساسي على مدى قدرة الفرد على التماشي مع القواعد المعمول بها دون السعي لتحديها أو تحسينها.

يرى دونو أن هذا النوع من الاقتصاد يعزز نظام التفاهة بشكل كبير لأنه يحد من الإبداع والتميز. الموظفون الذين يحاولون تقديم أفكار جديدة أو الذين يرغبون في تغيير طرق العمل التقليدية يواجهون غالبًا بالرفض أو التهميش. وبهذا، يتم تكريس نظام يفضل الاستقرار والجمود على الابتكار والتطور.

 

التفاهة في الثقافة: الترفيه السطحي بدلاً من الفن

الثقافة بدورها لم تسلم من تأثير نظام التفاهة. يشير دونو إلى أن الإنتاج الثقافي في المجتمعات الحديثة أصبح موجهًا نحو الترفيه السريع والسطحي بدلاً من تقديم أعمال فنية ذات قيمة فكرية أو جمالية. الأفلام والمسلسلات والأغاني أصبحت تعتمد بشكل كبير على جذب الجمهور بأبسط الطرق الممكنة، دون إيلاء أهمية للجودة أو المضمون.

الثقافة أصبحت تركز بشكل أساسي على تسويق المنتجات الثقافية كمجرد سلع استهلاكية سريعة الزوال. يتم تقديم الأفلام والمسلسلات الموسيقية والمسرحيات وغيرها من المنتجات الثقافية بطريقة تجعلها سهلة الاستهلاك، دون أن تتطلب تفكيرًا عميقًا أو نقدًا فنيًا. وبهذا، يتحول الفن إلى مجرد وسيلة لجذب الجمهور بدلاً من أن يكون وسيلة لتحفيز التفكير أو التعبير عن الأفكار المعقدة.

كما أن دور المثقفين في المجتمع قد تقلص إلى حد كبير. المثقفون، الذين كان يُفترض أن يكونوا قادة الرأي وصناع الثقافة، تم تهميشهم أو تحييدهم لصالح فنانين أو مشاهير يمكن استهلاك منتجاتهم بسهولة. وبهذا، تتحول الثقافة إلى منتج سطحي، يمكن استهلاكه بسرعة دون أن يترك أثرًا دائمًا.

 

نقد المجتمع: تجديد الروح النقدية

في نهاية الكتاب، يدعو دونو إلى إحياء الروح النقدية في المجتمعات. يعتقد أن الحلول لا تكمن في المؤسسات القائمة، بل يجب أن تبدأ من الأفراد الذين يتحلون بالشجاعة للتفكير خارج الأطر المحددة لهم. النظام الحالي يعتمد على الامتثال، ومن ثم فإن أي محاولة لتحديه يجب أن تبدأ بالتحرر من هذه القيود.

يرى دونو أن الأفراد يجب أن يتحدوا النظام الذي يعزز التفاهة عن طريق تطوير قدراتهم النقدية والإبداعية. يمكن للإنسان أن يرفض الاستسلام لهذا النظام إذا اختار التفكير النقدي والبحث عن حلول جديدة للمشاكل التي تواجهه.

شارك الصفحة

أعماق السطحية: مراجعة لكتاب “نظام التفاهة” لآلان دونو قراءة المزيد »

عودٌ على بدء: مراجعة لكتاب أشياء سبق الحديث عنها

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

فحينما يغدو الاختلاف، ليس مجرد بوْن وتباين، وإنما اختلافاً أنطولوجياً يضع مسافة بين الذات وبين نفسها، فإنه يفسح المجال للابتعاد والانفصال، ويفتح هامش التشكك وإعادة النظر، بل والسخرية من الذات… هذا التخطيء للذات قبل تخطيء الآخر، وهذا الإحساس بأن “علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا” كما يقول كارل بوبر، هو الذي يُمكننا من أن نخالف أنفسنا، ونكون على استعداد كي نَقبل في أنفسنا آخر، فنُقبل من ثمة على الآخرين.

  عبد السلام بنعبد العالي

يضمُّ كتاب “أشياء سبق الحديث عنها” للكاتب والمترجم المغربي عبد السلام بنعبد العالي مقالات جديرة بالاهتمام، تعكس أفكاراً موجزة ومختصرة أراد الكاتب إثباتها من جديد، وعرض مادتها في كتابٍ منفصل انتقى له عنواناً مناسباً. لدى هذا الفيلسوف وجهة نظر مُهمة ليُقدمها، بادية في معظم مقالاته، ويقع عليها القارئ كما يقع على سؤالٍ جوهري شعر به منذ مدة، ولكن عجز عن منحه لغة تليق به.

يتحدث بنعبد العالي عن التكرار في الهوية، وعن النسخ التي تولِّد النصوص من جديد، وعن الكذب السياسي الذي يقول الحقيقة كاذباً حين ينزعها من سياقها ويُلقي بها بين مجموعة من الأخبار والأحداث المنفصلة والمستقلة، فيُجزِّئها ويُميعها ويفككها وينزع منها توجهها إلى طرح سؤال مُهم أو عرض قضية جديرة، ومن هنا فإنه يشير إلى ضرورة فهم إتلاف المعنى في سرد الحقيقة، أو ما يُدعى “بالكذب السياسي” الذي يغيِّب الواقع ويجعل تطور الأحداث حاضراً راهناً ومستمراً في شكله المُجزأ.

أحببتُ حديث الكاتب عن الوظيفة الرمزية للأبواب في الحفاظ على خصوصية الحميمية في حياتنا، والتي تحولت اليوم إلى وظيفة شكلية “تهرب منها الحميمية” وتفقد باستمرار معناها الخاص، وأعجبتُ بمنظور الكاتب حول رؤيتنا أنفسنا في الآخرين ومن خلالهم، أي المحاولة المستمرة للفرد في التماهي مع الجماعة، كما تحاول الجماعة التماهي مع الصورة الإعلانية لتراثها وهويتها، والتي رغم أنها تصوِّره وحدة متماسكة غير أنها تُنتج منه هويات مختلفة ومتعددة تُشكل النسيج المجتمعي بتعدديتها، ومن هنا يشير الكاتب إلى قوة السيمولاكر في إنتاج المعنى والهويات ضمن عود أبدي يحتفي بعالم منطوٍ على الفعالية بدلاً من النماذج.

انتقد الكاتب كذلك الجوانب الصناعية حتى للمفاهيم، كصناعة العطلة التي سلبت من المرء حقه في الاختلاء بنفسه، وفي امتلاك وقت فراغٍ لا يفعل فيه أي شيء، أو لا يستهلك فيه أية منتجات، وتحدث عن مجتمع الفرجة الذي يظل فيه المرء “في سينما” مُستمرة وموضوعاً للتعليق وتحقيق الرغبات والإنجازات السريعة، وانتقد ردود الفعل على العولمة التي ظلت كردود فعلٍ دون أن تُنتج خطاباً يُعزز اختلافها ويقيم ثقافتها التي تزعم ضياعها، مشيراً إلى الفئة التي تستغل “دوخة” العالم اليوم والقيمة المتزعزعة للأخلاق والقيم لتبرير بشاعة موقفها، ومن هنا فإنه ينتقد دور المثقف الذي “يصفق” لهذه الدوخة، ويرى من الحقيق رؤيته من زاوية تُثبت دوره في خلقها.

وفي حديثٍ جميلٍ ويحمل فلسفة مُهمة، يفرِّق الكاتب بين مفهوم السخرية والتهكم، فيقول بأن التهكم مستند إلى فصل المرء ذاته عن الآخرين والحفاظ عليها بعيداً عن الاختلاط بالآخر، والإيمان ببعض المسلمات التي تحفظ وجوده ومشاعره من المساس، في حين أن السخرية تعني سخرية المرء من ذاته قبل الآخرين، وإيمانه بصورة يشترك فيها مع غيره في الوجود الإنساني، وينفي فيها الصفة اليقينية عن النظريات والأفكار، ومن هنا فإن الساخر هو الذي يرى العالم هويات متعددة ينبغي لها التقارب وإيجاد أرض مشتركة لتحقيق مصالحها التي يمكن دائماً مناقشتها وتحقيق جزءٍ منها، على عكس المتهكم الذي يتمسك بمعتقداته ويظل في ابتعاد مستمر عن الوفاق مع الجهات الأخرى.

وفي حديثه عن الاختلاف، تناول الكاتب تجاوزه الاتصال الزماني والهوية المطابقة إلى التعددية الزمانية، وتحدث عن المنظور الأفلاطوني في اعتبار الوجود متستراً بالرموز المُضللة والعلامات التي تُحيل إلى المخفي، غير أن المنظور النيتشوي والحديث يرى بأن الدلالات لا تُحيل إلَّا إلى ذاتها، لذلك فــ”ليس العمق والحالة هذه إلا نتيجة للوهم الذي يبعثه فينا السطح الذي يمنعنا من أن ننظر إليه كسطح. ولكنه ليس السطح الهش الشفاف، وإنما هو سطح سميك ثري”.

كما أشار بنعبد العالي إلى تحول مهمة الفلسفة من نقد الأيديولوجيا قديماً إلى الإشارة إلى الشرور التي تعرِّي نفسها اليوم، والتي قد تتمثل في وثوقيات تُعنِّف النفس وتغلق عليها الأبواب وتحصرها في نموذج ثابت لا يتأثر بوجود الآخر، وذلك في إشارة منه إلى أن المواقف أحادية البعد والفكر ناجمة عن نزعات نفسية في الأصل لا معرفية، نرى انعكاس ذلك في اعتقادنا بأن الحياة الحديثة قد دفعت المرء إلى كشف ستره وسرِّه وإظهاره على العلن، غير أنه لا يكشف سوى ما يعدُّه هو سراً، لذلك فإن الغموض في ذاته يظل موجوداً لمن يملك الفطنة في التعرف إليه: “وإنسان العصر الحديث من الغموض بحيث لا يستطيع أن ينكشف دوماً لنفسه، وبالأحرى أن يكشف نفسه للآخرين”، وفي هذا الصدد فإنه يشير إلى “فلاسفة التوجس” الذين آمنوا بامتلاك المرء ذي الأيديولوجيا “غرفة مُظلمة” في رأسه يعيش فيها صور الواقع والمفاهيم ولكن بصورة مقلوبة رأساً على عقب.

كما يفصل بنعبد العالي بين “التباين الساذج” والاختلاف من حيث أن الأول يُشير إلى تعددية خارجية يُميز فيها الأفراد أنفسهم عن بعضهم البعض ويعدونها ذريعة للتباعد والاختلاف بذواتهم، والثاني يشير إلى تعقيد الذات التي تحمل الآخر في باطنها وتحاوره وتحاول الابتعاد عن نفسها وإثبات تميزها عبر الخروج بأفكار ومفاهيم ولغة تشترك فيها وجودياً مع من حولها، وفي ذلك فإنه يستند غلى موقف ساخر من النفس والوجود الإنساني، ويجعل من امتلاك مفاهيم الحق والخير والجمال مهمة لا يمكن النجاح فيها إلا عبر الآخر وبوساطته: “إن الاختلاف ينخر الكائن ذاته ليضع الآخر في صميمه”.

لقد عاد الكاتب في أكثر من موضع للحديث عن مفهومه للسخرية كموقف من الحياة، ينطوي على غوص في المفارقات العديدة وإثبات للظاهر بما هو عليه دون العودة إلى باطن مفترض له، ويرفض عنف البديهيات والمنظور الأحادي للذات والهوية، الأمر الذي يذكرنا بتعريف التهكم لدى ريتشارد رورتي في كتابه “المُتهكم الليبرالي”.

ومن اللافت موقفه من “عقدة الناجي” التي تصيب الناجين من الكوارث، فهو يُثبتها على الناجين اليوم من أثر البلاهة على النفس، ويقول بأن المرء اليوم، وعبر الفنون والفكر الحُر، ينجو بنفسه من أن يكون ضحية البلاهة التي تقصد وجوده وفكره، ويعبر عن ذلك في “خجل الإنسان أن يكون إنساناً” أمام هؤلاء الضحايا: “صحيحٌ أننا لسنا مسؤولين عن الضحايا، إلا أننا مسؤولون أمام الضحايا، وهم ليسوا بالضرورة ضحايا مخيمات التعذيب، وإنما ضحايا بلاهات الحياة المُعاصرة”.

وينتقل للحديث عن مفهوم الصفح الذي يتمثل في عملية مستمرة تخوضها الشعوب التي تعرضت للاستعمار، لتتمكن من تجاوز الماضي والتطلع لمستقبلها، في مقال “تدبير النسيان”، الذي تعتمده الدول المستعمِرة في محاولة منها لتحويل إجرامها إلى أسطورة أو ذكرى تبتعد بالتدريج عن الواقع، دون أن تعرض نفسها للمساءلة أو المحاكمة. كما تناول مواضيع عديدة أخرى، كخجل الكاتب من الكتابة في واقع مريرٍ يجد فيه الصمت متجاوزاً للأخلاق والأحكام والأهوال الجارية جميعاً، والتعليم الذي تحول من ممارسة نفسية وتهذيبية وتحصيلية إلى موضوع خارجي يمكن “الولوج” إليه عند الحاجة وتوظيفه، ويتناول مفهوم “الصداقة” التي تجمع بين المواطنين، والمتمثلة في حوار دائم يجمع تعدديتهم ويشكِّل منها فعالية وحدوية مستمرة تحاول التماهي مع الأهداف العامة.

لا شكَّ أن الكتاب ثريٌّ بالكثير من وجهات النظر والآراء والمقولات المُهمة، لذلك فإنه يُقرأ على مهلٍ لاستيعاب منظوره الفريد.

شارك الصفحة

عودٌ على بدء: مراجعة لكتاب أشياء سبق الحديث عنها قراءة المزيد »