Author name: nadiim

القراءة الجهرية للأطفال وأثرها على السلوك والانتباه

pexels-tara-winstead-6692845

من المسلّمات في مجال نموّ الطفل أن الأطفال الصغار يتعلمون من خلال العلاقات والتفاعلات المتبادلة، بما في ذلك التفاعلات التي تحدث عندما يقرأ لهم الآباء. تقدم إحدى الدراسات الحديثة دليلًا على مدى التأثير المستدام للقراءة واللعب مع الأطفال الصغار، حيث تشكّل تطورهم الاجتماعي والعاطفي بطرق تتجاوز مساعدتهم على تعلم اللغة ومهارات القراءة المبكرة. وجدت الدراسة أن اللحظات التي يقضيها أحد الوالدين والطفل مع الكتاب تساعد في الحد من المشكلات السلوكية، كالعدوانية وفرط الحركة وصعوبة الانتباه.

قال الدكتور آلان مندلسون، الأستاذ المساعد في طب الأطفال بكلية الطب جامعة نيويورك، والباحث الرئيسي في دراسة نشرت في مجلة طب الأطفال تحت عنوان (القراءة الجهرية واللعب والتطور الاجتماعي والعاطفي): “نحن نرى القراءة من زوايا مختلفة كثيرة، لكن هذه الدراسة تقدم منظورًا جديدًا لم نفكر فيه من قبل”.

أظهر الباحثون -وكثير منهم أصدقاء وزملاء لي- أن هذا التدخل القائم على الرعاية الأولية للأطفال، والذي يهدف إلى تشجيع الآباء على القراءة الجهرية واللعب مع أطفالهم الصغار يمكن أن يحدث تأثيرًا مستدامًا على سلوك الأطفال.

شملت الدراسة 675 أسرة تتراوح أعمار أطفالهم من سن الولادة إلى خمس سنوات. كانت تجربةً عشوائية تلقت فيها 225 أسرة التدخل المسمى بمشروع  الفيديو التفاعلي، بينما ظلت الأسر المتبقية كمجموعة مقارنة. طُور نموذج المشروع في الأصل عام 1998، ودرسته هذه المجموعة البحثية على نطاق واسع منذ ذلك الحين.  

مُنحت الأسر المشاركة كتبًا وألعابًا أثناء زيارتهم عيادة الأطفال، واجتمعوا مدة وجيزة مع مدرب التربية في البرنامج للتحدث عن نمو أبنائهم، وما لاحظه الآباء، وما قد يُتوقع من الناحية التنموية، ثم صُوروا بالفيديو وهم يلعبون ويقرأون مع أطفالهم لمدة خمس دقائق (أو أطول قليلًا في الجزء من الدراسة الذي استمر حتى سنوات ما قبل المدرسة). وبعد ذلك مباشرة شاهدوا المقطع المسجل مع أخصائي التدخل في الدراسة، والذي وضّح لهم استجابات الطفل.

قالت أدريانا ويزليدر، وهي مؤلفة مشاركة في الدراسة وأستاذة مساعدة في قسم علوم الاتصال والاضطرابات في جامعة نورث ويسترن “شاهد الآباء أنفسهم على أشرطة الفيديو المسجلة، مما كشف لهم عن طريقة تفاعل أطفالهم معهم عند القيام بأشياء مختلفة. لقد حاولنا أن نسلط الضوء على الأمور الإيجابية في هذا التفاعل. قد يشعر الوالدان أن ما يقومون به سخيف بعض الشيء، ثم نعرض لهم على الشريط مدى حب طفلهم لهذه الأشياء واستمتاعه بها. هذا محفز للغاية”.

وقال الدكتور بينارد دراير، أستاذ طب الأطفال في كلية الطب بجامعة نيويورك والرئيس السابق للأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، وهو المؤلف الرئيسي للدراسة “إن أنشطة التربية الإيجابية تؤثر تأثيرًا حقيقيًا على الأطفال”. لقد لاحظ أن الفترة الحرجة في نمو الطفل تبدأ من الميلاد، وهو الوقت الذي تكثر فيه زيارات طبيب الأطفال، ويضيف “هذه فرصة رائعة لنا للوصول إلى الآباء ومساعدتهم على تحسين مهارات الوالدية، وهو ما يريدونه”.

بدأ مشروع الفيديو التفاعلي كبرنامج للرضّع والأطفال الصغار من الميلاد إلى سن الثالثة، وكان يركز على الأسر الحضرية منخفضة الدخل في نيويورك أثناء زياراتهم العيادات. أظهرت بيانات منشورة سابقًا من تجربة عشوائية مضبوطة بتمويل من المعهد الوطني لصحة الطفل والتنمية البشرية أن الأطفال في سن الثالثة الذين تلقوا التدخل قد تحسّنوا سلوكيًا – أي أنهم كانوا أقل عرضة للعدوانية وفرط الحركة مقارنةً بالأطفال في مثل سنهم في المجموعة الضابطة.

فحصت هذه الدراسة الجديدة أولئك الأطفال بعد عام ونصف -قريبًا من دخول المدرسة- ووجدت أن التأثيرات على السلوك ما زالت مستمرة. كما كان الأطفال المشاركين الأصغر سنًا أقل عرضة لظهور المشكلات السلوكية -العدوانية، فرط الحركة، صعوبة الانتباه- التي تصعّب على الأطفال التفوق والتعلم والازدهار عند الالتحاق بالمدرسة.

انضم بعض الأطفال إلى مرحلة ثانية من المشروع، وحصلوا على كتب وألعابًا وصُوروا أيضًا أثناء زياراتهم العيادة من سن الثالثة إلى الخامسة. تبيّن أن هناك علاقة مباشرة بين زيادة جرعة التدخل وتحسن سلوك الأطفال، فزيادة التعرض لأساليب “التربية الإيجابية” يعني تأثيرات إيجابية أقوى.

قال الدكتور مندلسون “إن انخفاض فرط الحركة يعني انخفاض المستويات المَرضية التي تستدعي تدخلًا طبيًا، نحن بذلك قد نساعد بعض الأطفال حتى لا يحتاجوا إلى الخضوع لأنواع معنية من التقييمات”. إن الأطفال الذين ينشؤون في ظل الفقر معرّضون بدرجة أكبر بكثير لخطر المشكلات السلوكية في المدرسة، ولذا فإن تقليل خطر مشكلات الانتباه والسلوك هذه من أهم الاستراتيجيات للحد من الفوارق التعليمية، وكذلك تحسين المهارات اللغوية عند الأطفال – مصدرٌ آخر للمشكلات المدرسية التي يعاني منها الأطفال الفقراء.

لكن ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة واللعب على التطور المعرفي والاجتماعي والعاطفي، بالإضافة إلى قيمة اهتماهم في مساعدة الطفل على الازدهار. قالت الدكتورة فايزليدر إن الأطفال أثناء اللعب والقراءة يواجهون مواقف أصعب مما يواجهونه في الحياة اليومية عادة، ويمكن أن يساعدهم الكبار في التفكير في كيفية إدارة هذه المواقف.

تقول “الإكثار من القراءة واللعب يقلل المشكلات السلوكية عند الأطفال بشكل مباشر، ذلك لأنها تُشعرهم بالسعادة، كما تجعل الأبوين يستمتعون بطفلهم ويرون هذه العلاقة بنظرة إيجابية”.

قد توفر القراءة الجهرية والألعاب التخيلية فرصًا اجتماعية وعاطفية خاصة. يقول الدكتور مندلسون “عندما يُكثر الآباء من القراءة واللعب مع الأطفال، فإنه تتاح لهم فرصة التفكير في الشخصيات، وفي مشاعر تلك الشخصيات. فيتعلمون استخدام الكلمات لوصف المشاعر التي قد يصعب عليهم الإفصاح عنها، وهذا يمكّنهم من ضبط سلوكهم عندما يمرون بمشاعر سلبية كالغضب أو الحزن”.

 “الرسالة الأساسية هنا بالنسبة لي هي أن قراءة الآباء مع أبنائهم واللعب معهم في سن صغيرة جدًا -نتحدث عن سن الميلاد إلى الثالثة- لها تأثيرات كبيرة حقًا على سلوك الأطفال”. وهذا ليس مقتصرًا على الأسر المعرضة للخطر، بل إن “جميع الأسر يجب أن تعلم أنه بقراءتهم مع أبنائهم ولعبهم معهم يساعدونهم على تعلم ضبط سلوكهم” مما يهيّئهم للانتباه والتعلم في المدرسة.

المصدر 

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

القراءة الجهرية للأطفال وأثرها على السلوك والانتباه قراءة المزيد »

المراجعات المعادية: عادة بسيطة لقراءة أذكى 

Picture of كتابة: سكوت يونج
كتابة: سكوت يونج

ترجمة: يارا عمار

pexels-karolina-grabowska-5852298

من أكثر العادات التي حسّنت جودة تجربتي القرائية: قراءة الردود المعارضة.

سأقدّم ببيان السياق للتوضيح.

طالما استمتعت بقراءة الكتب التي تعالج أفكارًا تحويلية في مجالات العلوم والأعمال وتطوير الذات، وتتنوع هذه الكتب ما بين الأكثر مبيعًا (مثل أسلحة وجراثيم وفولاذ) إلى الكتب المجهولة نسبيًا (مثل لغز العقل).

في أكثر الحالات لا يكون لدي خبرة عميقة في الموضوع الذي أقرأ عنه، والأدبيات البحثية التي يستشهد بها المؤلف ليست مألوفة لي، وبالتالي لا أدري إن كانت الفكرة المطروحة تمثل رأيًا شبه مجمع عليه أم مجرد نظرية شاذة تتبناها أقلية هامشية.

ونتيجة لذلك قد تؤدي قراءة مثل هذه الكتب إلى نمط شائع:

  1. لا تعرف شيئًا عن الموضوع (س) وأفكارك المسبقة عنه قليلة أو منعدمة.
  2. تقرأ كتابًا يطرح مؤلفه فكرة جريئة (ص) ويدّعي بأنها الطريقة الصحيحة للتفكير في (س)، ويدعم هذا الادعاء باقتباسات منمّقة ورسوم بيانية وردود مبهرة على اعتراضات لم تخطر لك على بال.
  3. تنهي القراءة وأنت على قناعة بأن (ص) هي الطريقة الصحيحة للتفكير في (س).
  4. يشير أحدهم إلى بعض الثغرات الموجودة في (ص)، وربما تطالع كتابًا آخر يفصّل أسباب كون (ص) طريقة خاطئة للتفكير في (س)!
  5. فتشعر بأنك خُدعت، ذلك المؤلف الأصلي الذي طرح الفكرة (ص) قد ضلّلك! ما كان جليًا لم يعد كذلك، ولا تدري ماذا تصدق.

إن مررت بهذه الدورة عدة مرات فمن الصعب ألا تصبح متشككًا. ما الفائدة من قراءة الكتب إن كان الأمر ينتهي غالبًا بخداعك بالأفكار المغلوطة؟ كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟

لماذا لا يُجدي “التفكير النقدي”؟

النصيحة التقليدية لمعالجة هذه المشكلة هي تطوير مهارات “التفكير النقدي”، تتعدد أشكال هذه النصيحة لكن من بينها:

  1. أن نطالب بالأدلة القوية: مثل التجارب العشوائية المضبوطة بتصميمات مسجلة مسبقًا، أو الأساليب الاقتصادية القياسية الدقيقة للتمييز بين الارتباط والسببية، أو العينات الكبيرة. إلا أن مثل هذه الأدلة القوية غير موجودة غالبًا، وإن وُجدت فقد يصعب تجميعها. كثيرًا ما يستشهد المؤلفون بالدراسات المتقَنة التي تدعم استنتاجهم، ويتجاهلون غيرها من الأبحاث المعارضة رغم كونها على نفس القدر من الجودة.
  2. أن نكشف عن الحجج الباطلة والمغالطات المنطقية: يرى آخرون من أنصار التفكير النقدي أننا يجب أن نقرأ بتأنٍّ ونلاحظ الأخطاء المنطقية، فنسأل مثلًا: هل كان ذلك هجومًا شخصيًا؟ هل ارتكب المؤلف مغالطة المصادرة على المطلوب وافترض صحة ما يحاول إثباته؟ يبدو هذا النهج ذكيًا، لكنه يفترض أن جميع الحجج مبنية على الاستنتاج وتُعرض في شكل قياس منطقي، لكن معظم الاستدلال يعتمد على الاستقراء (والاستنباط) وليس الاستنتاج. وفي الوقت ذاته كثير من أخطاء الاستنتاج المنطقي قد تفيد في أشكال أخرى من الاستدلال (على سبيل المثال: هل تفضيل رأي عالم متخصص على رأي شخص عادي على الإنترنت يعد هجومًا شخصيًا؟) لكن هذا النهج ليس حلًا شاملًا لجميع أشكال التفكير الخاطئ.
  3. أن نستثمر جهدًا في دراسة الأفكار بعمق وتشكيل آرائنا بأنفسنا: لا توجد طريقة متبعة على الإطلاق من هذا المنظور، فالتفكير النقدي ببساطة يعني أن نتعامل مع الأفكار بذكاء وألا تنخدع بغير المتقَن منها. عندما نقرأ كتابًا فإننا غالبًا نكون في وضع غير مواتٍ للأسف، فالمؤلف قد أمضى سنوات في دراسة حجة لم نفكر فيها من قبل، وصمم طريقة عرضها بعناية مسبقًا، فيما نحن مطلوب منا أن نرتجل حججًا مضادة أثناء القراءة.

لا أعتقد أن التفكير النقدي مهارة على الإطلاق، بل إن كثيرًا مما نسميه تفكيرًا نقديًا ما هو إلا امتلاك معرفة أكثر عن الموضوع المطروح للمناقشة. يكتشف الخبراء المغالطات المنطقية في بعض الحجج لأنهم غمروا أنفسهم في تاريخ الأفكار والنقاشات في هذا المجال على مدى سنوات، أما المبتدئين فلم يفعلوا ذلك، وبالتالي لا يستطيعون اكتشاف المغالطات المنطقية.

وهنا تكمن الصعوبة: كيف تقرأ كالخبراء دون أن تكون واحدًا منهم؟

المراجعات “المُعادية” مفتاح القراءة بذكاء

 يصعب إعداد رد مدروس لفكرة معروضة بطريقة مُحكمة، إذ يتطلب ذلك خبرةً وجهدًا ذهنيًا أكثر مما يرغب أو يستطيع معظمنا بذله على كتاب اشتريناه لأنه أثار اهتمامنا.

الحل الأمثل أن تبحث عن أفضل الحجج المضادة المطروحة. عادة ما يكون أصحاب هذه الحجج خبراء منافسين في نفس المجال. انظر ما الخطأ الذي يراه هؤلاء الخبراء في فكرة الكتاب؟

قد يظن المرء أن قراءة رد معارض ستؤدي إلى نقض أطروحة الكتاب الأصلية. إن قرأت كتابًا ثم قرأت الرد عليه ألن تشعر بفوضى مُربكة؟

لكن الأمور لا تسير على هذا النحو في الواقع. أكثر الكتب لا تقدم أطروحة واحدة، بل تتضمن مجموعة واسعة من الأفكار وتداعياتها، وعندما تقرأ الردود فإن التركيز يكون على بعض نقاط الضعف الموجودة في حجة المؤلف.

بل إن الردود قد تعزز تقديرك للفكرة الأصلية لأنك تتعرف على الأجزاء التي يؤكدها أشد المنتقدين. عندما يعترف معارضوك بأنك على صواب في أمر ما، فإن هذه علامة قوية على أن هذا الجزء من فكرتك صائب.

والأهم من ذلك، قراءة الردود المدروسة تتطلب الاستعانة بشخص مؤهل يتمتع بالخبرة والتفكير المكثف اللازمَين لاكتشاف الثغرات في الأفكار التحويلية، فمَن أفنى حياته في القراءة والتفكير في موضوع ما سيُحسن في ملاحظة الخطأ ما أكثر منك.

كيف تطبق هذه الاستراتيجية حتى تحسّن تفكيرك

مصدري المفضل للاطلاع على هذا النوع من الردود هو مراجعات الكتب العلمية، فغالبًا ما يكون كتّاب هذه المراجعات خبراء في المجال، على عكس كتّاب المراجعات الصحفية. حتى تجد هذه المراجعات اكتب في محرك الباحث العلمي من جوجل “مراجعة” و”اسم الكتاب” وستظهر لك بعض الأمثلة.

وإن لم يُجد هذا نفعًا فابحث عن الكتاب نفسه على الباحث العلمي واضغط على “تم اقتباسه في” حتى تجد مادة تناقش الكتاب بدلًا من مجرد الإشارة إليه. إن اقتبس العديد من المؤلفين من هذا الكتاب، فابحث عن المراجعات أو الانتقادات ضمن المقالات التي اقتبست العمل الأصلي.  

ماذا عن الكتب التي لا تتوفر لها مراجعات؟ أو التي لا تتعمق مراجعاتها في الفكرة نفسها؟ في هذه الحالة أنتقل إلى البحث عن المصطلحات الأكاديمية التي تشير إلى الأفكار التي يناقشها المؤلف، فمثلًا الحتمية الجغرافية أو البيئية هي الفكرة التي يتناولها كتاب “أسلحة وجراثيم وفولاذ” لجارد دايموند.

إن البحث عن المصطلحات التي تشير إلى الأفكار المطروحة في الكتاب يساعد في الوصول إلى انتقادات تلك الأفكار، وإن لم تكن تستهدف كتابا معينًا. أي فكرة تقريبًا لها اسم، وبمجرد أن تعرف اسمها ستعثر على مَن يتفق معها ومَن يخالفها.

يحسُن هنا أن تستعين بـ ChatGPT  والنماذج اللغوية الكبيرة. لكن انتبه إلى أن مجرد سؤال نموذج لغوي “ما هي أكثر الاعتراضات الواردة على الرأي س؟” لا يضمن لك ملخصًا دقيقًا للأدبيات، لكنه قد يمثل نقطة بداية بتعريفك على بعض المصطلحات المتخصصة التي قد تبحث عنها لاحقًا.

ألا يُطيل هذا وقت القراءة؟

ليس بالضرورة. غالبًا ما تتألف الكتب من بضع مئات من الصفحات، ومراجعة الكتاب لا تتجاوز صفحات معدودة، وحتى قراءة عدد من المراجعات لا تضيف أكثر من 10% من الوقت الإجمالي للقراءة.

تقبل حقيقة نقص أكثر الأفكار

من التحولات التي تحدث عندما تنتظم في هذه العادة أنك تدرك أنّ بعض الحجج لا يوجد لها حجج مضادة قوية، وبعض الأفكار لا يوجد لها عيوب ظاهرة.

لكن أعتقد أن تقبل أنّ أكثر الحجج ناقصة، وأن الأفكار الصحيحة حتى لها ردود معارضة مقنعة، خطوةٌ أساسية للارتقاء بمستوى التفكير، فهو يجنبك التقلبات الشديدة من الاعتقاد الحماسي المتبوع بخيبة الأمل، ويشجعك على النظر إلى القضايا من زوايا مختلفة.

أفضل عادة لتحسين قراءتك أن تسأل بعد كل حجة حماسية “ما الرد عليها؟”

المصدر

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

المراجعات المعادية: عادة بسيطة لقراءة أذكى  قراءة المزيد »

رياض الاتياض: مراجعة لكتاب ارتياض العلوم

 يعدُّ كتاب “ارتياض العلوم” من المؤلفات التي تعين المرء على تذليل الصعاب وتيسيرها للوصول إلى المطلوب المرغوب. مهما بلغ الإنسان من مراتب العلم والإيمان فقد تعتريه فترات ضعف وفتورٍ، وإن لم يدركها بالدواء المناسب غدت النفس عليلة هزيلة. لذا من الجدير أن نسلط الضوء على الكتب المميزة التي تبعث بالنفس البشرية الخير وتحثها على النهوض بذاتها ومجتمعها. وطالب العلم في أشد الحاجة إلى مثل هذه الكتب. إذ تعينه على ضبط معارفه وتوجيهها واستثمارها على النحو الأمثل. هنا وجدت أسرار العلم ودقائقه ورقائقه وثمرته ونتاجه، فهو أعذب ما يكون وأرق ما يوصف! غاص المؤلف في أعماق ولب العلم والمعرفة واستخرج لآلئها ودررها.

الكتاب في جوهره هو نتاج تأمل المؤلف، وحصيلة مطالعته الواسعة، وكثرة مباحثته العميقة وطول مدارسته المستمرة، كتبها بأسلوب أدبيُّ بليغ، وسرد فريد، وسياق رصين، مع يسرٍ في العرض وسهولة في التلقي. ولخص المؤلف مضمون الكتاب بقوله:

 “متعلقات التحصيل العلمي من النظر في وسائل العلم، وغاياته، وأجناسه، ومدارج تحصيله، بما يمثل مجموعة مقدمة في الوعي.. رجاءَ الظفر بما يحصل به للنفس ارتياح، وللعقل ارتياض”.

ضمَّ هذا السِّفرُ جُلَّ الأسئلة التي يحتاجها طالب العلم منذ بداياته وحتى وصوله إلى مراتب الصناعات العلمية الرصينة والمكينة. وكان للمؤلف باعٌ واسع في الاقتباس من المصادر الأدبية،الذي يعكس سعة اطلاع المؤلف وقدرته على الربط بين العلوم، مثل “الإمتاع والمؤانسة”، “الموازنة”، “دلائل الإعجاز” وغيرهم الكثير، مما أضفى على الكتاب عمقاً وإثراءً بالغ الحسن والفائدة. وأجمل ما استُهلّت به ديباجته هي الاستشهاد بالترحيب النبوي لطالب العلم عندما قال له النبي ﷺ “مرحباً بطالب العلم”.

  • باب حب العلم:

 خصصه المؤلف لجمع المقولات التي تحثُّ طالب العلم على محبّة المعرفة وتُبيّن دواعي ذلك. كما أشار إلى أهمية ترويض النفس على حبّ العلم وأهله ومجالسه. فكلِّ شيءٍ متعلَّم ومُكتَّسب، وهذه قاعدةٌ ينبغي أن يستنَّ بها طالب العلم. فإذا أحببت شيئاً قادك الشغف إلى الاستزادة منه والبحث عنه في كل موضع. وكما قال المؤلف: “كل حركة في العالم فإنما يبعثها الحب..”.

والشيء بالشيء يذكر، فقال ابن القيم رحمه الله: “إن المحب لا يرى طول الطريق لأن المقصود يعينه”، أي ما دام القلب مشحوناً بالمحبّة، هانت في سبيلها الصعاب، وخفّت المشقّة، إذ تتحول العواطف الإنسانية إلى طاقة دافعة، فهي أصل كل مبدوء. وختم بأهم الأمور التي تُعين على حبّ العلم ومنها اختيار البيئة الصالحة والمجالس النافعة والمشاركة الفاعلة. إذ يقول:

 “اجعل طلبك للعلم روحاً ساريةً في محيطك، مجالسك، أقرانِك، كن بالعلم منه وإليه”.

  • باب سراب العلم:

كلمة “سَرَاب” تحمل دلالتين؛ الأولى تشير إلى الظاهرة الطبيعية التي ترى كمسطحاتٍ مائية من بعيد، والثانية تعني المسلك الخفيّ، كما ورد في قولة ﷻ ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ [الكهف: 61] أي مسلكا خفيّاً. ويقدم هذا الباب في طيّاته دافعاً وحافزا كبيراً للاستزادة من العلم وأخذه بقوة.

  • باب شعاب العلم:

عنوانٌ يشير إلى الجذور الراسخة للعلوم وكثرة تفرّعاتها. كان العلم قديما وشائج مترابطة دون التقسيم، وكان مدلوله يتّسع ليشمل الفقه في الدين بشتى موضوعاته. أما اليوم انولدت الفروع المصدرية واستقلت حتى تسهم في استقلالها، وإلا فنشوءُها مرتبط بالمصدر الأم وما هي إلا تمثلات لجوانب منه. وهذا الأمر يساعد في اتساع رقعة التخصصات المختلفة حيث كان لابن عباس-رضي الله عنه- مدرسة تفسيرية مكية، وكان لعليّ -رضي الله عنه- مدرسة فقهية كوفية، ومع تعاقب الأزمنة نشأت ثغرات معرفية استدعت استحداث علوم متخصصة وبيّن المؤلف ذلك فقال:

 “مع مرور الأزمنة = ظهرت على السطح ثغرات علمية استدعت سدّها بإحالة العلوم التي كانت في العهد الأول مَلَكاتٍ لتكون صناعاتٍ؛ ففساد اللسان أفضى إلى تصنيع علوم اللغة، واختلال الاستدلال أفضى إلى تصنيع علوم أصول الفقه، بدء فشوِّ الكذب كان تمهيدًا لتصنيع علوم الحديث”.

كما تناول المؤلف مسألة “ثنائية التخصُّص والتوسُّع” مستعرضا آراء العلماء، موضحًا أمرين:

الأمر الأول: يرى العلماء أن العلم بحرٌ لا يُؤخذ دفعةً واحدة، بل يُرتشف شيئا فشيئا، وأن ليس لأحد بمفرده التشعب بشتى مسائل الفقه والدراية، وأن التوسع في العلم يؤدي إلى العجلة لتطويقه وتحصيله، والعلم لا يأتي بالمسارعة وإلا ذهب لبه وجوهره، وذكر قول يونس بن يزيد عندما قال له الإمام مالك رحمهم الله جميعًا:

“يا يونس لا تكابر هذا العلم، فإنما هو أودية، فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خُذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع اللَّيالي والأيام”.

ومنهم من قدر أن اتساع العلم ربما أغرق الطالب في لججه فأوصى بأن يتجه اهتمامه إلى أنفعه، كما قال ابن عباس رضي الله عنه:

 “العلم أكثر من أن يُحصى، فخذوا من كل شيء أحسنَه”.

ومنهم من أوصى بدقائق العلوم خشيه ضياعها، ومنهم من قدر أن مع اتساع العلم يأخذ الطالب بعجلة فيمر عليه العلم دون تحقيقٍ لمسائله. وفى هذا قال الخليل بن أحمد رحمه الله:

 “إذا أردت أن تكون عالما فاقصد لفنٍّ من العلم، وإن أردت أن تكون أديبًا فخذ من كل شيء أحسنه”.

الأمر الثاني: يؤكد أن في كل علمٍ مساحاتٍ يمكن الإحاطة بها مع قصور النظر في غيرها، كما هناك مساحات لا تُستوعب إلا بتجاوز حدود التخصص والتعمق فيها، وقد ضرب المؤلف ثلاثة نماذج على ذلك، أحدها حمّادُ بن أبي سليمان شيخ فقيه الدنيا أبي حنيفة، الذي مع إمامته في الفقه واتساع دائرته فيه، لم يكن ذا باعٍ في الحديث وهذا لم يكن قادحًا في إمامته الفقهية، لكنة أثر سلبًا في جوانب فقهه لاشتراك أرضية الرأي والأثر فيها.

وفي الختام، لخَّّص ابن حزم-رحمه الله- هذه المسألة بقوله: “من اقتصر على علمٍ واحد لم يطالع غيره أوشك أن يكون ضُحكَةً، وكان ما خفِي عليه من علمه الذي اقتصر عليه أكثر مما أدرك منه، لتعلُّقِ العلوم بعضها ببعض، وأنها درجٌ بعضها إلى بعض. ومن طلب الاحتواء على كل علمٍ أوشك أن ينقطِعَ وينحسِرَ، ولا يحصل على شيء، وكان كالمحضر إلى غير غاية، إذ العمرُ يقصُرُ عن ذلك”.

ونبَّه أن جهل العلم بالعربية يؤدي إلى فساد الرأي والنظر، كما قال الجاحظ -رحمه الله- “للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية، وموضع كلام يدل عندهم على معانيهم وإدارتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخر، ولها حينئذٍ دلالات أُخر، فمن لم يعرفها جَهِلَ تأويل الكتاب والسنة، والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم وليس هو من هذا الشأن هلك وأهلك”.

  • باب تحقيق العلم:

وقد فصل فيه بين الضبط والتحقيق. فالضبط يُعنى بمقدمات ونتائج العلوم، أما التحقيق فيتعلق بتحرير مسائلها، والتوغّل في أغوارها، والوقوف على مقاصدها. وقد عقد المؤلف مقارنة بين هذين الأصلين المرجعيين، مبيناً الفارق بينهما:

  • من حيث الوظيفة، فإن الضبط يُراد منه جمع مسائل العلم في سياقٍ يسهل على الطالب الإحاطة بمسائله وضبطها. أمّا التحقيق فيُراد منه تحقيق مسائل العلم وتنقيحها وتحرير دلائله.
  • ومن حيث المضمون، ينبغي أن يشتمل على خلاصاتٍ مركزةٍ لنتاج علماء ذلك الفن، بينما التحقيق يستلزم مادةً عاليةً محققةً تمرن القارئ على تحقيق المسائل وتحرير الدلائل.
  • أما من حيث الحجم، فإن الأصل في الضبط أن يكون الكتاب موجزاً أو متوسطًا، ليسهل على الطالب استيعابه، في حين أن التحقيق يقتضي توسعاً واستطراداً لذا يجدر به أن يكون متوسطا أو مبسوطا، ليكون بمنزلة ورشة تدريبية على مهارات التمحيص والتحقيق.
  • ومن حيث التأثير، فلا يُشترط في الضبط أن يكون ذا وقعٍ عميقٍ أو محل عناية العلماء، بخلاف التحقيق الذي لا بد أن يُثمر أثراً ملموسا لعلمٍ، أو أصلاً لاتجاه، أو محل درس العلماء وتدارسهم.
  • ومن حيث التعدُد، فإن الأصل في كل علم أن يُتّخذ فيه مرجعٌ للضبط، أما أصل التحقيق فيرتبط بعامل الزمن، إذ إن العمر لا يتسع لا تخاذه منهجاً في كل فن، نظراً لما يتطلبه من عمقٍ في البحث، ونفاذٍ في التأمل، وحفرٍ في جذور المسائل العلمية.

وبعد استيفاء المؤلف لهذا التحليل العميق، أورد نماذج لأعلامٍ راعوا هذه الحثيثات، فكان منهم من تميّز بالضبط، ومنهم من بلغ في التحقيق غايته، ومنهم من جمع بينهما في توازنٍ دقيق.

  • باب فرحة العلم:

يحُثّ المؤلف في هذا الباب على التأمل في جوهر العلم ومكنونه، يرى أنه رأس الأعمال العلمية. والسرّ الكامن وراء استثمار المعلومات وتخير هيئتها وحسن التصرف فيها لا مجرد العلم بها، بل التأمل في جوهر المعلومة، وتخيراً لأوجه الاستفادة منها. وقلما ينسى المرء مسألةً تأملها، وبقدر تأمله لها يزداد ثباتها ورسوخها.

وقد أشار المؤلف إلى أن فاعلية التأمل مقترنةٌ بعملية التحصيل ذاتها، فكلما فاقت قدرة الطالب على الجمع، كان تأثير تأمله في المسائل العلمية أكبر وأنفع. يقول في هذا السياق: “التحقيق العلمي يتعاظم بقدر استكمال الطالب لقوتي الجمع والتأمل”. وضرب مثلا بابن تيمية -رحمه الله- الذي كان عنواناً في التأمل، وأبوابه مفتوحةً على كل مسألةٍ تستحق النظر، فكانت كتبه ورسائله تجسيداً لسعة التأمل وعمق الاستنباط.

وقد شدّد المؤلف على أن فاعلية التأمل مرتبطةٌ بعملية التحصيل وجمع المعلومات، فلا يتحرك الطالب في فضاءٍ خاوٍ من المضمون، فقال:

 “التأمل مشروع فكرةٍ، والاطلاع المجرد مشروع معلومةٍ، وإنما يحصل التمايز بين الطلبة بقدر استحواذهم على الأفكار لا المعلومات”.

وبرهن على ذلك بقول العقاد رحمه الله: “اقرأ كتابا جيدًا ثلاث مرات، أنفع لك من أن تقرأ ثلاث كتب جديدة”، أي أن الإكثار من التأمل في الكتاب الواحد، وحسن الاطلاع عليه والتأمل فيه، هو السبيل إلى استنتاج المعرفة الخالصة دون شوائب. وسُمي هذا الباب “فرحة العلم” استناداً إلى قول الجاحظ -رحمه الله- “للعلم سَورةٌ، ولانفتاحه بعد استغلاقه فرحةٌ، لا يضبطها بشريٌّ وإن اشتدَّت حُنكته، وقَوِيَت مُنَّتُه، وفَضَلت قُوَّتُه” والسَورة -بفتح السين- تعني شدته، وحدته، وأثره العميق في النفس.

  • باب إثارة العلم:

يتناول المؤلف قضية ملكة الصناعة البحثية. مميزا بين الكتابة البحثية التي هي وسيلةٌ ناقلة، والصناعة البحثية التي هي وسيلة منتجة.  

يقول “ربما كان مُحصَّلُ الصناعة البحثية سطراً واحداً، لكن الباحث احتاج للوصول إلى هذا السطر أن يقرأ عشرات وربما مئات الصفحات، كما احتاج إلى أن يستثمر مختلف حواسه المعرفية”. ثم أورد خمس صناعات بحثية:

  • التمييزات المعرفية الذهبية، المقصود بها ملاحظة أنواع المعارف وأجناسها وفرزها، مع استصحاب الذهنية البحثية أثناء القراءة والمعالجة، وتمر هذه العملية بمرحلتين: قبليّة وبعديّة.
  • احتفاء العقل بالسؤالات، وغايتها الوصول إلى النتائج، إذ التمييزات بحثٌ في المقدمات يؤدي إلى النتائج، بينما السؤالات بحثٌ في النتائج يُفضي إلى الكشف عن المقدمات، وكثيرٌ من السؤالات الكبرى كانت إجاباتها أطروحاتٍ علمية متكاملة.
  • تحديد موقع المادة، أي تحديد موقعها في عمود البحث، من خلال استبانة الطريق واستقامة تصوُّر موقع المادَّة، ملاحظًا موضعَها مما قبلها وتأثيرَها فيما بعد.
  • توسيل المعلومة، وغايتها أن تكون للمعلومة علائق تربطها بغيرها من مباحث العلم، ولها في ذلك صورٌ متعددة.
  • استجلاب الأفق المعرفي، موجزه أن “لكل علم أوائل تفضي إلى أواخره، ولكل موضوع مداخل تقود إلى حقائقه، ولكل بحث صناعاتٌ تمكّن الباحث من حصد جواهره، وفَرقُ ما بين باحثٍ وآخر جودةُ مداخله، وإحكامُ صناعاته، ومدى قدرته على الوصول إلى منابع العلم وخزائنه”.
  • باب حياة العلم:

يتناول هذا الباب أهمية التلقي عن العلماء الكبار، وضرورة المذاكرة العلمية بين الأصحاب، حيث إن الإنسان اجتماعي بطبعه، فالأولى أن يكون اختلاطه بأهل العلم قائما على تبادل المسائل وإثارة الأسئلة التي تستفز الفكر للبحث عن أجوبتها والتغلغل في مدلولها.

  • باب تعليم العلم:

يُعدُّ التعليم إحدى طرق المذاكرة العلمية. فالمعلِّم غالبا يكون في المادَّة التي يقدَّمها أعلى رتبة من المتلقِّي، وهذا يمنحه ولاية عرض المعرفة وإدارة تقديمها. مع إشراك الطلاب في تداولها. فبطرح الأسئلة تنكشف ثغرات المادَّة العلمية، وبذلك يستوفى أركان المادَّة، وتعرض بصورة متكاملة. وهنّا يزهر جمال مهنة التعليم، إذ لا يقتصر نفعه على المتعلِّم فحسب، بل يمتد إلى المعلِّم. فيزيده إحكامًا لمادته العلمية، كما قال المؤلف: “التعليم يقدِّم للمعلم تصوُّرًا أنضجَ حول مادَّته العلمية بتجويد مكوِّناتها وملءِ فراغاتها”، ولعلّ سرّ تفوّق المذهب الحنفي يرجع إلى طبيعة التفاعل بين التلاميذ وأستاذهم، فقد نشأ عن احتكاك فكري عميق، صقله النقاش وبلورته المدارسة. فهم عدد من التلامذة النجباء يوجِّههم أستاذٌ عبقريٌ.

  • فصل دمع العلم:

ويحمل هذا الباب استفتاحيه لافتة لأبو بكر القفال -رحمه الله- قال: “ما أغفلنا عمّا يراد بنا”، فما أشد الغفلة عن الغاية التي من أجلها يُطلب العلم. ويحذر هذا الباب من أن يكون التحصيل مجرد تكديس للمعلومات دون أن يثمر صلاحًا في القلب والعمل. كما يلخص معناه قول أبو الدرداء رضي الله عنه: “ويل لمن لا يعلم ولا يعمل مرَّةً، وويلٌ لمن يعلم ولا يعمل سبعَ مرَّات“، فيدعو فيه المؤلف طالب العلم إلى أن يكون همه صلاح القلب، إذ به يُعرف صدق قصده واستقامة مسيرته. فالعبرة ليست في كثرة ما يُحصِّله المرء، بل في نفعه وأثره في تهذيب النفس وتقويم السلوك، فالعلم الذي لا يُورث عملاً، يوشك أن يكون حجةً على صاحبه. لذا يقتضي أن يكون همّ طالب العلم صلاح قلبه واستقامة قصده.

  • باب نجاز الارتياض:

يستشهد المؤلف بقول أحد السلف: “لا ينبغي لأحدٍ عنده شيءٌ من العلم أن يضيع نفسه”، ومختصر القول إن طالب العلم إذا عرف حقيقة ما يطلبه ومكانته ومقامه عند الله ﷻ أيقن أن أخذه ولو بالقليل الذي يقربه من الله ﷻ خير من كثير يبعده عنه ويثبطه:

“فلتكن وارث الأنبياء، معتمداً في تحصيله العلمي على الله وحدَه، متخلِصاً من حَولِه وطَولِه وقُوَّتِه، إذ لا حول ولا طول ولا قوة إلا بالله”

شارك الصفحة

رياض الاتياض: مراجعة لكتاب ارتياض العلوم قراءة المزيد »

خدعة الشغف: مراجعة لكتاب الوظيفة المُرضية

Picture of كتابة: سيكار رايتس
كتابة: سيكار رايتس

ترجمة: يارا عمار

“الوظيفة المُرضية: استرداد حياةٍ سلبها العمل”، كتابٌ يسلط الضوء على أسطورة أنّ قيمتنا مرتبطة بحياتنا المهنية. رغم تركيز الكتاب على ثقافة العمل في الولايات المتحدة، فإني موقنة بأن هذه الظاهرة شائعة في جميع أنحاء العالم، وأنّ رسالة الكتاب عالمية. يروي سيمون ستولزوف في كل فصل قصصًا من قطاعات مختلفة، مما يجعل الكتاب مناسبًا للقراء من مختلف الخلفيات، ويشجع على التأمل في علاقة الفرد بالعمل. يوصي المؤلف باستخدام الكتاب كأداة للتأمل، حتى تدرك أن هويتك تتجاوز عملك الذي تكسب به قوت يومك.

أرى أن الكتاب سيلقى قبولًا لدى أولئك الذين ينعمون بالامتياز والأمن المالي الذي يسمح لهم باختيار وظائفهم وتحديد معنى الرضا بالنسبة لهم، أما من يعيش على الكفاف فقد يصعب عليهم تطبيق أفكار الكتاب. يتناول ستولزوف هذه القضايا النظامية ويختتم ببعض التوصيات: على الحكومات أن تفصل بين البقاء والعمل، وعلى الشركات أن تهتم بأمر موظفيها بصدق، وعلى الأفراد أن يحددوا معنى الرضا بأنفسهم.

الملخص

كل إنسان مشغول في ظل هذا العالم المعولم. جميعنا محاصرون في نظام رأسمالي يتجاوز الاقتصاد، بل هو اعتقاد اجتماعي أيضًا. هذا الاعتقاد يخبرنا أنّ قيمتنا مرتبطة بقدر ما ننتج، فصارت الإنتاجية تُرى فضيلة أخلاقية، وليست مجرد مقياس.

لماذا نعمل كثيرًا؟

  • العوامل الاقتصادية: الأجور الراكدة تجبر كثيرًا من الناس على العمل ساعات أطول من أجل توفير الاحتياجات الأساسية فحسب.
  • العوامل النظامية: يفتقر الكثير إلى قوة المساومة الاجتماعية للمطالبة بتحسين ظروف العمل.
  • العوامل الأيديولوجية: كانت الرأسمالية متأصلة بعمق في ثقافتنا، إلا أننا شهدنا تحولًا ثقافيًا كبيرًا في العقود الأخيرة، حتى صار يُتوقع الآن أنّ العمل وسيلة لتحقيق الذات والشعور بالمعنى. وبهذا الاعتقاد الجديد أصبح العمل انعكاسًا لشغفنا وهويتنا.

توقع أن العمل سيكون مُرضيًا دائمًا قد يفضي إلى المعاناة

أثبتت الدراسات أن “الشغف المفرط” بالعمل يؤدي غالبًا إلى ارتفاع معدلات الإرهاق والضغوط المرتبطة بالعمل. أضف إلى ذلك أن أنماط الحياة المتمركزة حول العمل في دول مثل اليابان تساهم بشكل كبير في انخفاض معدلات الخصوبة. كما أن التوقعات المبالغ فيها عن النجاح المهني مرتبطة بارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق. ومما ينذر بالخطر أن العدد السنوي للوفيات الناتجة عن المشكلات المرتبطة بالعمل الزائد أكبر من عدد الوفيات الناتجة عن الملاريا.

“سيظل العمل هو نفسه العمل. بعض الناس يعملون فيما يحبونه، وبعضهم يعمل ليتسنّى لهم ممارسة ما يحبونه في أوقات فراغهم، وكلا الغرضين شريف.”

أنيس مججاني

وبعيدًا عن الأبحاث: نحن نعلم بديهيًا أن التوقعات العالية للغاية تؤدي غالبًا إلى خيبة الأمل. عندما نتوقع أن العمل هو سبيل تحقيق الذات، فسنرى كل ما هو دون ذلك فشلًا. وظائفنا ليست بيدنا دائمًا، وربط قيمتنا الذاتية بحياتنا المهنية نهج محفوف بالمخاطر.

ربط الحياة المهنية بالهوية

تشير الأبحاث النفسية إلى أننا نُحسن التعامل مع الصدمات عندما نطور جوانب مختلفة من أنفسنا. إن تركنا جانبًا واحدًا من هويتنا يهيمن على شعورنا بالذات، فستقل قدرتنا على التأقلم مع التغيير. على سبيل المثال، الأشخاص ذوو الاهتمامات المتنوعة أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب أو الأمراض الجسدية بعد المرور بحدث مرهق.

عندما ترتبط هويتك بشيء واحد، مثل وظيفتك أو ثروتك أو نجاحك كأب، فإن أي مشكلة في هذا الجانب يمكن أن تضر باحترامك لذاتك بشدة. فقدان هويتك المهنية قد يكون صدمةً كبرى، خاصة إن لم تبذل وقتًا لتطوير جوانب أخرى ذات معنى في حياتك.

نحن أكثر من مجرد وظائفنا، نحن أشقّاء وأصدقاء وهواة وجيران. وتحتاج هوياتنا، مثل النباتات، إلى وقت ورعاية حتى تنمو، وإن لم نرعَها قد تذبل. غالبًا ما يكون أصحاب الهوايات والاهتمامات المتنوعة خارج العمل أكثر إنتاجيةً في وظائفهم.

إعادة النظر في وظائف الأحلام

  • نحن نعزز مفهوم وظيفة الأحلام ونجعله الهدف النهائي في الحياة منذ اللحظة التي نسأل فيها الطفل: ماذا تريد أن “تكون” عندما تكبر؟
  • النصيحة الشائعة بأن تتبع شغفك قد تكون مضلّلة أو مؤذية حتى. بالنسبة لأولئك الذين يحبون عملهم: توقع أن هذه الوظيفة ستظل وظيفة الأحلام دائمًا يجعلهم عرضة لخيبة.
  • الوظيفة علاقة اقتصادية في المقام الأول.

عملك لا يساوي قيمتك

تقول عالمة النفس جانا كورتز إنه ينبغي أن نستكشف هُويات مختلفة ونستثمر بجد في أنشطة خارج العمل حتى نبني شعورًا أقوى بالذات. بعبارة أبسط: حتى نفهم مَن نحن خارج إطار وظائفنا، ينبغي أن نقوم بأنشطة غير مرتبطة بالعمل.

الهوايات التي تركز على هدف، مثل التدريب لسباق الماراثون أو تحديد هدف قرائي للعام، قد تحفزنا للقيام بأنشطة خارج العمل، لكنها ما زالت تنطوي على شعور بالإنجاز، وهو ما يجعلها تبدو شبيهة بالعمل. هذا لا يعني أنّ هذه الهوايات ضارة، لكنها قد تُنسينا متعة اللعب التي عرفناها في الصغر.

يعد اللعب علاجًا طبيعيًا للهوس بالعمل، فهو يركز على الفضول والدهشة بدلًا من المنفعة أو التحسن، ويساعدنا على عيش اللحظة، ويذكّرنا بأننا أكثر من مجرد موظفين.

المكانة لا تعادل النجاح

عندما نقول إن شخصًا ما ناجح فنحن نقصد غالبًا أنه يكسب مالًا كثيرًا، لا أنه سعيد ومُعافى. نحن نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي الآن منابرَ لإظهار إنجازاتنا. قد تلهمنا الجوائز والتقديرات لتحقيق أهدافنا، إلا أننا نفقد استقلاليتنا باعتماد تعريفات غيرنا للنجاح. فبدلًا من أن ننشئ فكرتنا الخاصة للنجاح، نقبل فكرة موضوعة مسبقًا.

إن اختيار مهنة بناءً على الرغبات الشخصية فحسب، دون النظر إلى متطلبات السوق، يُحتمل أن يؤدي إلى نفقات تعليمية باهظة ثم قد لا تحظى بفرصة عمل جيدة. الفنانون -على سبيل المثال- قد يجدون صعوبة في التركيز على فنهم بسبب القلق المستمر إزاء دفع الإيجار. ومن الجهة الأخرى، اختيار مهنة بناءً على متطلبات السوق فحسب، دون النظر إلى الشغف الشخصي، قد يؤدي إلى سلوك طريق لم يرغب فيه المرء أبدًا. حتى وإن كنت تحب ما تفعله، فإن الضغط من أجل التقدم في حياتك المهنية قد يطغى على المتعة التي جذبتك إليها في المقام الأول.

الحل هو أن تضع تعريفًا شخصيًا للنجاح يوازن بين قيمك ومتطلبات السوق. كما قال عالم اللاهوت فريدريك بوخنر: ابحث عن “النقطة التي تتلاقى فيها متعتك العميقة وأشد احتياجات العالم”.

مشكلة العمل الزائد لا تخضع لسيطرتنا وحدنا

العمل الزائد مشكلة نظامية تتأثر بالعوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية، مما يصعّب معالجتها فرديًا.

كما أن الحلول النظامية لها حدودها. على سبيل المثال، سياسات العطلات السخية والمزايا الصحية للموظفين لا تحدث فرقًا كبيرًا إن استمر المديرون في فرض أعباء عمل ثقيلة على الموظفين.

وعلى المستوى السياسي، الحماية الحكومية لا تؤثر إلا عندما تطبَّق بصرامة.

تغيير ثقافة العمل يتطلب أكثر من مجرد إعلان الشركات عن أيام للصحة النفسية أو ممارسة الموظفين هواياتهم. كثير منا يحتاج إلى إعادة التفكير بشكل جذري في دور العمل في حياتنا. على المؤسسات أن تغيّر عملياتها، وعلى الموظفين أن يتخلصوا من فكرة أن قيمتهم مرتبطة بإنتاجيتهم فحسب.

المصدر

شارك الصفحة

خدعة الشغف: مراجعة لكتاب الوظيفة المُرضية قراءة المزيد »

هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟

pexels-mikhail-nilov-7929356

قبل أن أُرزق بمولودٍ ذكر؛ استحال عليّ فهم العلاقة بين الابن وأبيه، وذلك لأن أبي توفّي عنّا ولم أبلغ الخامسة من عمري. ولا أجد له في ذاكرتي سوى مقاطع متفرّقة لا تشفع بتكوين صورةٍ متكاملة عن طبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء، ولا أجد في نفسي مشاعر حقيقيّة حيال هذه العلاقة، وبالتالي لم أستطع التفريق بين هذه العلاقة وعلاقة الإنسان بأمه حتى وقت قريب. وطالما تساءلت:

  • ما طبيعة العلاقة بين الابن وأبيه إن لم تكن عاطفةً محضة، وأمنيات كبيرة، ودعوات مستمرة، وغزيرة؟
  • وهل يجب أن يُحب الأب ابنه حبًّا رقيقًا كما تحبُّه أمه؟
  • وهل القرد في عين أبيه غزالًا كما هو حاله في عيون الأمهات؟

في الأدب الحديث بقطبيه الشرقيّ والغربي، جاءت محاولات عدّة في زجّ الأب داخل حلبةٍ من المقارنات مع الأم، وهذا لا يتم إلا بافتراض تقاربٍ مفتعل بين دوريهما. فمثلا جاء في الأدب الغربي في محاولات كثيرة؛ الأب الذي يقوم بدور الأم بعد أن تُفقد الأم أو تقرر التخلي عن ابنها أو بنتها. الأب الحنون الذي يعطي بلا مقدمات ويقدّم الحنان على التوجيه، والعاطفة على العقل، ويكبر ويتّسع حضنه أكثر مما يُتكأ على كتفه وظهره. حاول بعضهم لفت النظر لهذا النوع من الآباء الذين حتّمت عليهم الظروف لعب دور الأبوّة والأمومة معًا، وصارت مقارنة عاطفة الأب بعاطفة الأم مقبولة من هذا الباب، لكني أجدها محاولات بائسة ولا تمثل واقع الرجل الحقيقي الذي نعرفه في الشرق وفي الغرب.

وجاء في الأدب الحديث محاولات كثيرة لمقاربة هذه العلاقة، وفهم دور الأب بعيدًا عن الأم، وحينا بالمقارنة معها. والذي يهمنا في هذا السياق والأشهر في هذا الصدد رواية البؤساء لفيكتور هوغو، والذي حاول فيها تصوير علاقة الأب بـابنته حتى وإن كانت علاقةً بالتبنّي. “فالجان”بطل قصّتنا؛ يختار طواعيةً منه تبنّي الفتاة “كوزيت”، وهو باختياره تبنّي هذه الطفلة الوحيدة والمظلومة يشبه كل الآباء في كل زمان ومكان. الأب يختار حب الذريّة لا يُوهبها كما في حالة الأم. فالقصّة تلخّص عاطفة الأب تجاه بنيه بشكلها الطبيعي. أن يكبر الحب وينمو مع الأيام، ولكنها لا ترقى لأن تصوّر الأب كأم ثانية بمعنى الحاضنة والحنونة والعاطفيّة.

وفي المقابل، قصة ذكرها المفكر عبد الوهاب المسيري وكانت حجرَ أساس في هدايته للإيمان بوجود الله بعد أن كان في شكٍّ من ذلك في أول حياته. يذكر أنه لما بلغ مبلغ الرجال وقرر الزواج، وقد أحب زميلته في الجامعة وعزم على الدخول بها بعد أن تمدد الحب وكبُر بين الإثنين، فكان أن تُوّج هذا الحب بالزواج. ومضت الحياة كما يتوقعها متلذذا بالحب ومغمورًا به إلى أن جاءت اللحظة التي تبدّل فيها كل شيء؛ لحظة الولادة. ذُهل صاحبنا من عاطفة الأم المفاجئة التي نشأت بلا مقدّمات مع ولادة المولود الجديد، وأن الفتاة صارت تحب هذا المخلوق الجديد والضعيف وكثير البكاء أكثر منه. وهو الذي بذل وأعطى وضحّى حتى استحق حبّها وحنانها ورعايتها، أما هذا المخلوق الصغير فماذا فعل حتى تحبّه كل هذا الحب، وتُؤثره على كل أحد. لم يستوعب هذه العلاقة الجديدة والتي هي فطريّة وبلا شروط. ما أن تلد المرأة حتى تحبّ مولودها وتتفانى في هذه المحبة. بعكس الرجل الذي ينمو حب أولاده فيه مع الوقت، لا يأتي دفعةً واحدة. من هذه الحادثة علِم يقينًا أن الذي وهبهم هذا الطفل لم يتركه عبثًا وفجّر قلب أمه بالعاطفة والحب حتى ترعاه حق الرعاية، ومن هنا علِم أن الإنسان لم يُخلق عبثًا وأن الطبيعة لا تعمل من تلقاء نفسها، بل بـ تدبير الله وحكمته.

ووجدت في نفسي بعد أن صرتُ أبًا أن الأب لا يمكن أن يكون أمًّا ثانية، وأنه رغم قربه ووالديّته؛ عقل مدبّر ومتّزن أكثر مما هو قلبٌ مخلصٌ ومحبّ. فالابن ليس في عين أبيه غزالًا، لأن الأبَ لا يغض الطرف عن مساوئ الأبناء كما تفعل الأم وتلهج لربّها لهم بالدعاء.

وهذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء. الأب كالعصا التي تنذر بالعقاب ليستقيم سيرك وتنضبط برؤيته أنت وغيرك، بينما الأم كالحياة التي تُوهب بلا مقدّمات. هي هبة ربّانية خالصة؛ وتظل كما هي حتى آخر يوم من العمر.

الأب هو المُؤدّب والمُؤدب لابد له من عصا، والعصا هنا رمزيّتها أبعد من النزعة للعقاب، بل قد تجيء بمعنى السند الذي يُتّكأ عليه، والمعيل الذي يُهَشّ بها عليهم. فهكذا وصف نبي الله موسى عليه السلام عصاه: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)). والهشُّ: “أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود”. وهنا يتجلّى دور الأب الحقيقي، الذي يأتي بمعنى المقوّم للخطأ، والسند الذي يُتكأ عليه، والمعيل الذي يُلتفت إليه لما تتكوّن الرغبات.

والأب حضن دافئ مالم تخرج عن طاعته أو تخالف التوقعات، فهنا تضطرب في قلبه العاطفة وربّما خاب أمله وانحنى ظهره وآثر الصمت على الكلام، ونقص في قلبه الحب والاهتمام، بينما الأم تظل حضنًا دافئًا لك حتى وإن كنتَ طاغيةً مجرمًا شريرًا.

والأب بحسب تضحياته وكثرة مسؤوليّاته يظن ظن المتيقّن أن الأبناء سيفعلون الشيء ذاته، حين يطول به العمر ويحتاج فيه لهم. فهو ينظر إليهم نظرته للعصا، تلك التي سيتكئ عليها بينما كان يهشّ بها على نفسه والعيال. فالعصا هنا تجيء بمعنى أن يكون الأب هو السند الذي يعوّل عليه الأبناء، ثم تلعب الدور ذاته حين يتقدم بالأب العمر، فيكون الابناء هم العصا التي يتكئ عليها في كبره والتي تهشّ عليه من ورق الشجر وثمره.

وكما يقول جاسم الصحيّح:

روحُ الأُبُوَّةِ تحمينا من الكِبَرِ   ما مِنْ أبٍ فائضٍ عن حاجةِ البشرِ

ما مِن أبٍ فائضٍ عن حجمِ لهفتِنا   للحُبِّ.. للفطرةِ الأسمى من الفِطَرِ

آباؤُنا! يا لَأَفعالٍ مُضارِعةٍ   مرفوعةٍ بالضَّنا والكدِّ والسهرِ

هُمْ يحملونَ الليالي عن كواهلِنا   فيكبرونَ، ونبقى نحنُ في الصِّغَرِ

والخلاصة أن كلاهما يحبّ ضناه ويسعى بجَهدهِ ووقتهِ ومالِه لمضاعفةِ سعادتهم وتقليلِ آلامهم على طريقته وما جُبل عليه منذ اليوم الأول من مجيئهم إلى الدنيا، ولكن كلٌ بما جُبل عليه.

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

هل الأب أمٌ ثانية، أم هل القرد في عين أبيه غزالة؟ قراءة المزيد »

هل استعدت أي ذكريات طيبة في الآونة الأخيرة؟

pexels-hson-5216874

وقعت قبل يومين على مقالة تتحدث عن “تسع عادات يومية للأثرياء” والتي تميزهم عن ذوي الإمكانيات المتواضعة. أغلب العناصر المدرجة في المقالة واضحة، لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم “يقرأون… لكن ليس من أجل المتعة”. لا يضيع الأثرياء ساعات طويلة بين دفتي رواية، بل يُفترض أنهم يكرسون وقت قراءتهم للكتب غير الروائية، مثل التي تتناول استراتيجيات تحسين الذات أو المعلومات العملية المتعلقة بوظائفهم. يرتبط بهذه المقالة أيضًا مقالة أخرى عن الإدارة المالية تناقش “نمط تفكير معين يميل الجميع [الأثرياء] إلى تجنبه”.

تلك العادة الذهنية السلبية -وفقًا للمقالة- هي الحنين إلى الماضي. ببساطة: لا يشعر الأثرياء بالحنين إلى الماضي، بل إن “عقليتهم موجهة نحو المستقبل” ولا تقدّر في الماضي سوى الدروس التي يُستفاد منها في اتخاذ قرارات الأعمال المستقبلية. وبما أني شخص ذو شهية نهمة للروايات الخيالية وميل إلى الحنين، فمن الطبيعي الآن أن أتساءل عن العامل المشترك بين هاتين العادتين السلبيتين (وما إذا كان عليّ أن أغير نهجي غير العملي). كشفت بعض البحوث عن وجود قدر كبير من القواسم المشتركة بين القراءة الترفيهية والحنين إلى الماضي. فبالإضافة إلى أن كليهما أنشطة ذهنية تقدَّر في المقام الأول للمتعة التي تجلبها -وهو سبب غير نفعي على الإطلاق- فقراءة الروايات للاستمتاع واسترجاع ذكريات الماضي يشتركان في بعض القواسم الدقيقة التي تجعلهما أنشطة عملية أكثر مما يبدو للوهلة الأولى.

من الخصائص المشتركة والمهمة للغاية بين قراءة الروايات والشعور بالحنين: الشبكة العصبية التي يوظفها كل منهما. عندما ينهمك شخص في مهمة تتطلب تركيز شديدًا -كصفقة تجارية مثلًا- تنشط “الشبكة التنفيذية المركزية” في دماغه. وعندما لا يوجَّه الانتباه نحو مهمة محددة، تنشط “شبكة الوضع الافتراضي”. وهذه الشبكة -يطلق عليها أيضًا وضع “شرود الذهن”- هي التي تنشط أثناء التحديق خارج النافذة أو أثناء القيادة لمسافات طويلة على طريق سريع ممتد. وتنشط أيضًا عند القراءة الترفيهية واسترجاع ذكريات الماضي، فكلا النشاطين يتضمن إنشاء تمثيلات ذهنية للمشاهد المحكية: المشاهد الافتراضية في الحالة الأولى، والذاكرة الشخصية في الثانية. قد يبدو ربط هذه المشاهد الذهنية بوضع شرود الذهن داعمًا للطبيعة غير النفعية المتصوَّرة عن القراءة الترفيهية والشعور بالحنين، وصحيح أن الوضع الافتراضي أحيانًا يصرف انتباهنا عن المهام التي تتطلب تركيزًا تامًا، إلا أنه لا يلزم أن يكون كل خروج عن الوضع التنفيذي تافهًا أو غير عملي.

 الأمر كله متعلق بما يشرد فيه الذهن عندما يفعَّل الوضع الافتراضي. من النتائج العملية لشرود الذهن المرتبط بالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين: زيادة الإبداع. أظهرت دراسة أجريت في جامعة تورونتو أن قراءة عمل خيالي قللت مستوى “الإغلاق المعرفي” أو الرغبة في “التخلص من الغموض والحصول على إجابات محددة”، مما زاد من مرونة الأفراد المشاركين في التعامل مع حل المشكلات. وتوصلت دراسة أخرى أجريت في جامعة ساوثهامبتون عن الشعور بالحنين إلى نتائج مشابهة أيضًا، حيث وُجد أن المشاركين الذين شعروا بالحنين كانوا أكثر إبداعيةنتيجة “الانفتاح على التجربة” أو “التحول من حالة تجنب المخاطرة إلى الرغبة في خوض تجارب جديدة” المرتبطة بالشعور بالحنين. وهذا الانفتاح على الأفكار والتجارب المرتبطة بالقراءة والشعور بالحنين يعزز الأساليب الإبداعية في اتخاذ القرارات وحل المشكلات.

توجد نتيجة أخرى عملية وغير متوقعة للقراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات، وهي تتعلق بالتفاعل الاجتماعي. عادة ما يفسَّر الانغماس في قراءة الكتب أو عيش تجارب الماضي ذهنيًا على أنه سلوك غير اجتماعي، لكن قد يكون العكس هو الصحيح. فمحاكاة العالم الاجتماعي التي يجربها المرء عندما ينغمس في عمل خيالي يمكن أن تحسّن مهاراته الاجتماعية، حيث تتاح له فرصة تجربة مجموعة من التفاعلات الاجتماعية بشكل خيالي. وهذه “المعرفة الاجتماعية” المكتسبة من التفاعلات الخيالية يمكن نقلها إلى العالم الواقعي وتطبيقها خارج دفتي الكتاب، وبالتالي سيُحسن القارئ التصرف في مختلف المواقف الاجتماعية. ومن المثير للدهشة أن الحنين إلى الماضي كذلك له بُعد اجتماعي. نظرًا لأن ذكريات الحنين تتضمن غالبًا أشخاصًا آخرين -مثل العائلة والأصدقاء- فاسترجاع التجارب المشتركة معهم يمكن أن يعزز الشعور بالترابط الاجتماعي، ويحسّن “ثقة المرء في قدرته على بدء التفاعلات والعلاقات، ومشاركة أفكاره، وتقديم الدعم العاطفي للآخرين”. وبالتالي، فالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين -على عكس الصورة النمطية- وسيلة لتقريبنا من الناس، لا إبعادنا عنهم.

أيضًا من فوائد القراءة الترفيهية والشعور بالحنين ما يتعلق بتطوير المهارات الاجتماعية: التعاطف. فالانغماس في قراءة الروايات -خاصة الروايات الأدبية- يحسن قدرة القارئ على فهم ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به، مما يؤدي إلى زيادة التعاطف والسخاء. وكذلك الحنين إلى الماضي -وهو عاطفة اجتماعية تبني اتصالًا رمزيًا مع أحبّائنا- يعزز الإحساس بالترابط الاجتماعي، فيزداد التعاطف والرغبة في مساعدة الآخرين. يساعد التعاطف مع الآخرين على فهم طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للعالم. وهذا الفهم وإن كان قيمة جوهرية من وجهة نظر إنسانية بحتة، إلا أن له فائدة عملية وهي توقع استجابات الآخرين لمبادرات المرء في الساحة الاجتماعية.

إنني أشك أن الأثرياء -كقاعدة عامة- يتعمدون تجنب القراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات بحجة الإضرار بأعمالهم. إن كان من الطامحين إلى الثراء مَن يميل إلى تجنب هذه المسليات الذهنية لأنها غير عملية ويراها مضيعة للوقت، أقول له: لا داعي للقلق، القراءة الترفيهية والشعور بالحنين بالتأكيد لن يؤثروا على فرص المرء في الثراء، بل قد يساعدان بطريقتهما الخفية!

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

هل استعدت أي ذكريات طيبة في الآونة الأخيرة؟ قراءة المزيد »

لماذا نعيد قراءة الكتب؟

pexels-stockphotoartist-1082953

إعادة القراءة متعة يشوبها الشعور بالذنب بالنسبة لكثير من الناس، كما تصفها باتريشيا ماير سباكس في كتابها حول إعادة القراءة بـ “الانغماس في متعة مُذنبة”. كيف يترك قارئ متفانٍ قائمته القرائية الزاخرة بالقصص الجديدة التي تنتظر من يستكشفها، ويضيّع وقته مع كتاب يعرفه بالفعل؟ وفي الوقت ذاته، يشيد الأكاديميون على مر التاريخ بإعادة القراءة باعتبارها الطريقة الوحيدة لفهم النص فهمًا حقيقيًا. ولو قابل قارئ جاد شخصًا يقول إنه “قرأ هذا الكتاب عشرات المرات”، فقد يشعر بشيء من النقص.   

إلا أنّ معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها، وبالتالي ربما تخف حدة المشاعر غير المريحة المصاحبة لكلتا الحالتين.

محاسن إعادة القراءة

لماذا نعيد القراءة؟ تتعدد الإجابات كما تتعدد أسباب قراءة الكتاب للمرة الأولى، والمتعة على رأسها. ومع ذلك، فإعادة القراءة تعطي القارئ شعورًا بالراحة النفسية بفضل استقرار القصة المقروءة وطبيعتها الثابتة، أو توقظ فيه مشاعر الحنين إلى ذكريات محبوبة. وقد تمثل إعادة القراءة تجربةً اجتماعية أيضًا، وذلك عندما يكون هدفها مشاركة شخص يقرأ الكتاب لأول مرة.  

فهم التعقيدات

غالبًا ما يناقش الأكاديميون فوائد إعادة القراءة من جهة كونها وسيلة لتحسين فهم النصوص المعقدة وفهم الذات.

يتّفق معلّمو الأطفال في سن القراءة المبكرة مع معلّمي اللغات الأجنبية على أن إعادة القراءة تحسّن الاستيعاب، ولا يقتصر ذلك على التعرف على الكلمات الأساسية، بل يشمل فهم الأحداث وإدراك التفاصيل الدقيقة وتطوير المهارات التحليلية أيضًا. كذلك لا غنى عن إعادة القراءة بالنسبة للبالغين، خاصة في البيئات الأكاديمية، من أجل فهم النص بما يكفي لبناء حجج نقدية قوية. وقد وصل الأمر إلى درجة تحديد قيمة العمل الأدبي بناءً على قابلية إعادة قراءته.

يقول فلاديمير نابوكوف في كتابه محاضرات في الأدب:

“عندما نقرأ كتابًا للمرة الأولى، فإن الجهد المبذول في تحريك أعيننا من بداية السطر إلى نهايته، سطرًا بعد سطر، وصفحة بعد صفحة، هذا العمل الجسدي المعقد الذي نقوم به تجاه الكتاب، إلى جانب عملية فهم ما يتحدث عنه الكتاب، كل هذا يحول بيننا وبين تقدير قيمته الفنية”.

إن إعادة القراءة تُكسب القارئ فهمًا للنص لا يتحقق بمجرد القراءة الأولى. ومن دونها ربما يكون من المحال تقدير المواهب الدقيقة للكاتب، أو فهم الأفكار والموضوعات المعقدة للنص.

 

فهم الذات

تعد إعادة القراءة شكلًا من أشكال التأمل الذاتي. تقول سباكس: “إعادة القراءة الهادفة في حد ذاتها تُنتج نوعًا من الوعي الذاتي”. وبما أن الكتاب لا يتغير أبدًا، فقد يمثل معيارًا يُقاس عليه مدى نمو القارئ، كما توضح: “إن ثبات الكتب المُعاد قراءتها يبني شعورًا قويًا بالذات… فهو يكشف عن تطور الذات أو استمراريتها”. وبالتالي، قد تمثل إعادة القراءة وسيلةً لإعادة النظر في الذات والتغيرات التي طرأت عليها منذ القراءة الأولى.

مثالب إعادة القراءة

ومع ذلك توجد مساوئ محتملة لإعادة القراءة، فهي تستهلك الوقت، وتصرف القراء عن قوائمهم القرائية الطويلة، وقد تكون تجربة مُحبطة إن لم يظل الكتاب محبوبًا للقارئ كما كان في ذاكرته منذ القراءة الأولى. قد ينزعج المرء أيضًا من إدراك التغيرات التي طرأت عليه، كما قد تضيع بعض التفاصيل الدقيقة، وتحسين الفهم ليس مضمونًا بالضرورة.

ظاهرة المكسب والخسارة

يطرح ديفيد غاليف في كتابه “أفكار ثانية” ظاهرة المكسب والخسارة في إعادة القراءة: حقيقة أن بعض التجارب لا يمكن أن تُعاش إلا في القراءة الأولى، وتُفقد في القراءات التالية. يقول “النظرة السائدة لإعادة القراءة أنها عملية مكمّلة نتعلم منها أكثر وأكثر حتى نستوعب كل كلمة في الكتاب. إلا أن مثل هذه المراجعة المستمرة قد تُضعف حساسيات معينة” ومن بينها تأثير الحبكة، كالتشويق والعفوية. فالمشاعر التي تنتاب القارئ، كالمتعة والإثارة والفضول، تدفعه إلى الإسراع في القراءة، مما يجعله يغفل عن التفاصيل الدقيقة التي تظهر في القراءات التالية، لكن هذه المشاعر عناصر مهمة أيضًا قد تخفت في القراءات التالية.  

زيادة الألفة زيادة الاستيعاب

إضافة إلى ما سبق، ما لم تكن إعادة القراءة مركزة ومقصودة لاكتساب أفكار جديدة، فقد لا تؤدي إلى تحسين الفهم. نشرت مطبعة بيلكناب التابعة لجامعة هارفارد عام 2014 مقالة تنتقد إعادة القراءة كاستراتيجية دراسية لأنها “تنطوي غالبًا على نوع من الخداع الذاتي غير المقصود، إذ أن زيادة الألفة مع النص تبدو وكأنها إتقان للمادة”. وهذا ينطبق كذلك على إعادة قراءة الأدب، فلا يلزم أن يكون فهم مَن قرأ كتابًا عشرات المرات أدق ممن قرأه مرةً أو اثنتين فقط، لكن كان يسعى إلى استيعاب النص وتعميق رؤيته مع كل قراءة.

لماذا نعيد القراءة؟

لماذا نكترث إذًا بإعادة القراءة إن كان لها مثل هذه المثالب؟ يجدر الانتباه إلى أن ظاهرة المكسب والخسارة التي اقترحها غاليف تختلف من كتاب لآخر ومن قارئ لآخر. فالروايات الغامضة مثلًا تفقد عنصر التشويق، والقصص القصيرة ذات النهاية المفاجئة تفقد عنصر المفاجأة، لكن إعادة القراءة تجعل القارئ في حالة ترقب. إلا أن ذلك لا ينطبق على الجميع بالضرورة كما يشير غاليف، فالقارئ المناسب قد يستمتع أكثر بقراءة القصة وهو يعرف نهايتها. وقد يصعب فهم أعمال ويليام فولكنر وإن كان في القراءة الثانية أو الثالثة (أو الرابعة حتى)، لكن هذه الصعوبة جزء من المتعة التي يعيشها القارئ المناسب.

لإعادة القراءة قيمة جوهرية، لكن هذه القيمة ذاتية. إن أعدت القراءة من أجل تحسين فهمك للجوانب الفنية الدقيقة والمعقدة، فاعزم على أن تخرج من النص بأكثر من مجرد الألفة. وإن كنت تعيد القراءة من أجل المتعة، فركز على الجوانب التي تستمع بها، وانتبه إلى أن بعض العناصر قد لا تجد لها نفس التأثير في القراءة التالية.

لا ينبغي أن يشعر أي قارئ بأنه غير مُنجز لأنه آثر إعادة قراءة كتاب مفضل على الالتزام بقائمته القرائية، أو لأنه لا يعيد القراءة إلا نادرًا، فلكل من الحالتين متعة خاصة.

المصدر 

 

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
ينبغي أن يدرك الآباء جميعهم مدى تأثير القراءة على التطور المعرفي والاجتماعي
كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لماذا نعيد قراءة الكتب؟ قراءة المزيد »

سؤالات الإبداع: مراجعة لكتاب الدماغ الخلّاق

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يتحدث كتاب “الدماغ الخلّاق” لعالمة الأعصاب نانسي أندرياسن (Nancy Andreasen) الذي نُشر في عام 2005 عن موضوع الإبداع من زاوية علمية تتجاوز التفسيرات التقليدية التي تحصر الإبداع الفني أو الابتكار العلمي في مجرد “موهبة فطرية” أو “إلهام مبهم.”

الكتاب يقع في 254 صفحة، ترجمه إلى العربية حميد يونس ونشرته جامعة الكوفة في قسم الدراسات الفكرية عام 2019م

ينطلق العمل من تعريف الإبداع بوصفه عملية عقلية معقّدة تنتج أفكاراً جديدة وأصيلة ذات قيمة، سواء في المجالات الفنية أو العلمية أو الثقافية عموماً. ما يميز هذا الطرح هو أنه لا يكتفي بالمظاهر الخارجية للابتكار، بل يسعى إلى فهم الأسس العصبية الكامنة وراء القدرة على تجاوز المألوف وإعادة صياغة المعارف والأدوات بطرق مبتكرة.

يتمحور الإطار النظري لأندرياسن حول فرضية أن الدماغ البشري يمتلك بنية ووظائف مرنة تمكّنه من إيجاد روابط غير متوقعة بين أفكار ومعلومات متباعدة، وتوليد حلول جديدة لمعضلات معقّدة. وترى المؤلفة أنّ القدرة الإبداعية ليست حكراً على الأفراد “العباقرة” وحسب، بل إنها كامنة في معظم العقول، وإنْ بدرجات متفاوتة، ويمكن تعزيزها بالمحفزات الصحيحة.

ما يثير الاهتمام في هذا الكتاب هو طموحه لتوحيد نتائج أبحاث متفرقة: دراسات تصوير الدماغ الوظيفي، وتحاليل المقارنة بين سِيَر مبدعين مرموقين، وأبحاث في علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب الوجداني. هذه المقاربة التكاملية تمهّد السبيل لفهم أكثر علمية لما يحدث حين “تتوهّج” الفكرة الخلّاقة في الذهن، وحين تنبثق لحظة “الإلهام” التي طالما حيرت الباحثين. يتيح هذا المدخل النظري للقارئ رؤية جديدة للإبداع، بوصفه نتاجاً لعلاقة بنيوية بين نشاط القشرة المخية، والظروف البيئة، والعوامل النفسية، ما يجعل العملية الإبداعية ظاهرة يمكن وضعها تحت مجهر علم الأعصاب بشكل منهجي.

الأسس العصبية وبيولوجيا التفكير المبتكر

يركّز الكتاب على رسم خريطة عصبية للإبداع، في محاولة للكشف عن المسارات الدماغية التي تؤدي إلى إنتاج الأفكار المبتكرة. توصّلت أندرياسن، عبر استعراضها للدراسات التي استخدمت تقنيات التصوير العصبي، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET)، إلى أن الإبداع ليس وظيفة منطقة واحدة منعزلة، بل نشاط متداخل لشبكات عصبية متعددة الاختصاصات. تتضمن هذه الشبكات مناطق مسؤولة عن التركيز والانتباه، وأخرى معنيّة بعملية استدعاء الذاكرة بعيدة المدى، بالإضافة إلى مناطق تهتم بالتمثيل البصري والتخيل الرمزي.

يظهر من هذه الدراسات أن المخ البشري يوظّف بمرونة عدّة أنماط من التفكير: النمط التقاربي الذي يسعى لإيجاد الحل “الصحيح” لمسألة ما، والنمط التباعدي الذي يجمع بين عناصر متباعدة لا يجمعها رابط واضح. هذا النمط الثاني هو ما يميز التفكير المبتكر، إذ يتيح للدماغ اختبار فرضيات جديدة، والتجرؤ على السير في مسارات ذهنية غير مألوفة. وتلفت المؤلفة الانتباه إلى أنّ المناطق المسؤولة عن معالجة الدلالات المجازية، وإقامة تشبيهات غير اعتيادية، تلعب دوراً أساسياً في تعزيز القدرة على الابتكار.

من جهة أخرى، يؤكد الكتاب على مفهوم “المرونة العصبية” (Neuroplasticity)، أي قابلية الدماغ لإعادة تشكيل الروابط بين الخلايا العصبية استجابة للخبرات الجديدة. هذه الخاصية تمنح الدماغ الحرية لإعادة تنظيم معارفه، واختبار علاقات سببية وموضوعية مختلفة، ما يسمح بتوليد حلول غير مسبوقة. بناء عليه، يمكن فهم الإبداع بوصفه ديناميكية عصبية مستمرة، تهدف إلى تطوير نماذج عقلية جديدة بدل الاقتصار على الأنماط المستهلكة.

الذكاء، الخيال والظروف النفسية المساعدة

لا يتجاهل الكتاب أهمية الذكاء في عملية الإبداع، لكنه يفصل بين الذكاء بوصفه قدرة تحليلية وحلّالية، وبين الخيال الذي يمكّن العقل من تجاوز الواقع المباشر. تُظهر الدراسات التي تستعرضها أندرياسن أن مستوى الذكاء فوق المتوسط قد يكون شرطاً ضرورياً، لكنه ليس كافياً وحده لإنتاج الأفكار الخلّاقة. فالذكاء التحليلي يساعد على تنظيم المعلومات، غير أن الإبداع يتطلّب إطلاق العنان للتخيل، والانفتاح على احتمالات جديدة.

تشدّد المؤلفة أيضاً على أهمية الظروف النفسية والعاطفية في دعم التفكير المبتكر. فالإبداع يحتاج إلى قدر من الحرية الداخلية، وإلى بيئة ذهنية تخلو من القيود الصارمة أو الخوف المفرط من الفشل. يعمل الانفتاح الوجداني، وحب الاستطلاع، والشغف المعرفي على تغذية الرغبة في الاستكشاف العقلي، وتحويل التحديات إلى فرص لاختبار خيارات جديدة. هكذا يتضح أن العملية الخلّاقة تنبثق عند توازن دقيق بين التحليل المنضبط والخيال الحر.

ترتبط القدرة على التفكير الابتكاري كذلك بسمات شخصية معيّنة، مثل المرونة أمام التغيير، وتقبّل الغموض، والاستعداد للتعلم المستمر. هذه السمات توفر بيئة داخلية خصبة للتجريب، وتمكّن الفرد من تحدي القوالب النمطية والخروج من شرنقة المألوف. بذلك، يجتمع الذكاء والخيال والحالة النفسية الداعمة لتشكيل أساس صلب ينطلق منه الدماغ نحو عوالم جديدة من الأفكار.

البيئة والتنشئة ودورهما في دعم التفكير الخلّاق

يؤكد الكتاب على أن الإبداع ليس نتاجاً لمعطى بيولوجي ثابت فحسب، بل إن السياق الاجتماعي والثقافي يلعب دوراً محورياً في تنمية القدرات الذهنية الخلّاقة. فقد يبرز الدماغ المبتكر عند الأفراد الذين يحظون ببيئة تحفّز التساؤل، وتسمح بتجاوز الحدود المعرفية السائدة. تُظهر أندرياسن كيف أنّ التنشئة التي تشجع الأطفال على طرح الأسئلة، واستكشاف الأفكار المختلفة، وتنمية مواهبهم وتقدير محاولاتهم، تسهم في تأسيس قاعدة متينة للإبداع المستقبلي.

تظهر أهمية التدريب والممارسة في هذا السياق. فحين يتعرض الفرد لتجارب متنوّعة، ويلتقي بأشخاص من خلفيات معرفية مختلفة، ويطّلع على أعمال فنية وعلمية مبتكرة، يصبح الدماغ أكثر استعداداً لإقامة روابط ذهنية جديدة. علاوة على ذلك، تلعب المؤسسات التعليمية والمنظومات الاجتماعية دوراً في توفير “مساحة ذهنية آمنة” للتجريب. مجتمعات تقدّر الاختلاف وتكافئ التفكير النقدي تعزّز بروز العبقريات.

من جهة أخرى، يشير الكتاب إلى أهمية الفترات الزمنية والظروف التاريخية. فالثورات العلمية والفنية الكبرى غالباً ما بزغت في لحظات ازدهار فكري ساهمت فيها جامعات، ومراكز علمية، وحركات ثقافية نشطة. هذا البعد الحضاري يؤكد أن الإبداع ظاهرة جماعية بقدر ما هو موهبة فردية، وأن البيئة الملائمة قد تحفّز عقولاً عديدة للوصول إلى ابتكارات فذّة.

الموهبة، العبقرية والاضطرابات العقلية المحتملة

يتطرّق الكتاب إلى مسألة طالما أثارت الجدل: العلاقة بين العبقرية والاضطرابات النفسية. يعرض المؤلفون في الدراسات التي تستعين بها أندرياسن أدلة على أن نسبة ملحوظة من الشخصيات المبدعة عبر التاريخ عانت من حالات مثل الاكتئاب أو الاضطراب ثنائي القطب. يفسّر البعض هذه العلاقة بأن الحساسية العالية لدى المبدعين، ونزوعهم لاستكشاف أعماق المشاعر، قد تجعلهم أكثر عرضة للمعاناة النفسية.

مع ذلك، تحرص المؤلفة على عدم اختزال العبقرية في الإضطراب العقلي. الإبداع ليس نتيجة اختلال وظيفي فقط، بل قد يكون للألم النفسي دور في حفز عملية البحث عن حلول جديدة ومبتكرة. لا توجد علاقة خطية تحتم ارتباط الموهبة بالمرض، إلا أنّ بعض العقول المبدعة تعمل في ظروف وجدانية مضطربة تعيد تشكيل النظرة للعالم.

تعالج أندرياسن هذه النقطة بحذر، مشيرة إلى ضرورة فهم هذه العلاقة في سياقها، وعدم اتخاذها كقاعدة عامة. فقد يبدع المرء دون أن يعاني من أي اضطراب، والعكس صحيح. الأهم هنا هو إدراك أن النفس البشرية، بما فيها من تعقيد وانفعالات مختلطة، قد تهيّئ أحياناً مساحات جديدة للخيال، وتدفع نحو إعادة تشكيل الواقع، وفي ذلك مؤشر على درجة من التداخل بين الجانب الانفعالي والعصبي في إنتاج الأفكار الخلّاقة.

الإبداع في الفنون والعلوم: توافقات واختلافات

يستعرض الكتاب أمثلة تاريخية لفهم كيفية تجلي الإبداع في مجالات مختلفة. ففي الفنون، يميل المبدع إلى تحرير الخيال من قيود المنطق المباشر، والسماح للأفكار والمشاعر بالتعبير في صور غير مألوفة. أما في العلوم، فيتجلى الإبداع في صياغة نظريات جديدة، واختبار فرضيات غير مطروقة، وإعادة تفسير المعطيات بطرق مبتكرة. لكن المفارقة تكمن في أن التفكير العلمي المبدع أيضاً يحتاج إلى جانب تخيّلي، يتيح له تجاوز المعطيات الخام وتكوين نماذج تصورية تساعد على فهم الظواهر.

هكذا يتضح أن الإبداع ليس حكراً على حقل معرفي دون آخر، بل هو خاصية عامة للعقل البشري. والاختلاف قد يكمن في طبيعة المقاييس التي يقيّم بها كل مجال مدى أصالة الإنتاج. ففي الفن، قد يكفي التعبير الجديد والإحساس الجمالي غير المسبوق. أما في العلم، فيحتاج الإبداع إلى برهنة تجريبية ومنطقية لتأكيد صلاحية الفكرة.

من خلال هذه المقارنة، يوضح الكتاب أن الإبداع عملية تعددية الأدوات والوسائل. سواء أكان المرء عالماً فيزيائياً أم روائياً أم موسيقياً، فهو يوظف آليات عصبية متشابكة تتيح له تشكيل رؤية جديدة للعالم. هذا التنوع هو ما يجعل الإبداع متجذراً في طبيعة العقل البشري، وقابلاً للظهور في ساحات فكرية وجمالية متعددة.

دور الذاكرة واللغة والتصوير الدماغي في كشف أسرار الإبداع

تمنحنا دراسة الذاكرة واللغة رؤية أعمق لآلية تشكّل الأفكار المبتكرة. فالذاكرة ليست مخزناً سلبياً للمعلومات، بل منظومة ديناميكية لإعادة تشكيل المعارف وإعادة دمجها في سياقات جديدة. الإبداع يتطلّب استدعاء معلومات مختلفة، وقدرة الدماغ على “تفقيس” روابط مفاجئة بين عناصر غير مترابطة ظاهرياً. هنا يتجلى دور الذاكرة بعيدة المدى في تقديم مخزون ثري من الأفكار، ودور “ذاكرة العمل” في دمجها لحظياً لإنتاج تصوّرات طازجة.

اللغة أيضاً تسهم في تشخيص الإبداع، إذ تسمح ببناء رموز تمثيلية للأفكار، وصياغة استعارات ومقارنات تفتح آفاقاً غير مسبوقة في فهم المفاهيم. فالقدرة على اللعب بالكلمات والصور الذهنية تيسّر تكوين تركيبات عقلية جديدة. يتجلّى هذا بوضوح عند الشعراء أو المفكرين الذين يستخدمون لغة مجازية لإعادة صياغة الواقع، وعند العلماء الذين يصيغون نظرياتهم في نماذج لغوية تساعد على استيعاب ظواهر معقّدة.

أما التصوير الدماغي فقد ساهم في تقديم أدلّة تجريبية ملموسة على وجود أنماط نشاط مميزة ترافق اللحظات الإبداعية. عندما يشعر المرء بما يُعرف بـ”ومضة البصيرة” (Insight)، يرصد الباحثون تبدّلات في نشاط مناطق معيّنة من الفصوص الصدغية والجبهية. تلك المعطيات التجريبية تدعم التفسيرات النظرية، وتتيح لنا رؤية “حيّة” لعمل الدماغ وهو يعيد ترتيب الأفكار ويرسم مسارات جديدة في شبكة معقّدة من الخلايا العصبية.

نحو فهم أعمق للإبداع وتطبيقات مستقبلية

يصل الكتاب في ختامه إلى نتيجة محورية: الإبداع ظاهرة متعددة الأوجه، تتداخل فيها العوامل البيولوجية والمعرفية والوجدانية والثقافية، وتتجلّى في مجالات متنوعة. هذا الفهم المعمّق يفتح الباب أمام تطبيقات عملية عديدة. فمن خلال فهم آليات الإبداع، يمكن للتربية أن تعمل على تنمية القدرة على التفكير النقدي والتصوري لدى الأطفال. ويمكن للمؤسسات التعليمية والبحثية توفير بيئة تحفّز الجرأة الفكرية، وتحتضن الأفكار غير النمطية، وتشجع على تبادل الخبرات المتنوعة.

كما قد يساعد هذا الفهم مؤسسات الابتكار التكنولوجي والصناعي على صياغة بيئات عمل مرنة، وفرق متعددة التخصصات، تشجع العاملين على استثمار تنوّع أفكارهم. في السياق نفسه، يمكن استخدام نتائج الأبحاث العصبية للتعامل مع المشكلات النفسية التي قد تواجه المبدعين، من خلال فهم أفضل للعوامل التي تؤثر على تذبذب المزاج والحالة العاطفية، وتقديم دعم يساعد على تحويل التوتر والقلق إلى طاقة ابتكارية إيجابية.

يخلص القارئ، بعد الاطلاع على هذا الاستعراض، إلى أنّ “الدماغ الخلّاق” لا يقدّم إجابات نهائية لكل الأسئلة، لكنه يضع أساساً علمياً متيناً لفهم أعمق للإبداع. إنّ إدراكنا بأن الأفكار الجديدة ليست مجرد خواطر عابرة، بل نتاج عمليات عصبية منظمة ومرنة، يجعلنا أكثر قدرة على توجيه قدراتنا نحو تطوير معارفنا وحل مشكلاتنا. بهذا، لا يظل الإبداع لغزاً مغلقاً، بل يتحول إلى حقل معرفي قابـل للدراسة والتحليل، وأداة أساسية لدفع عجلة الحضارة إلى الأمام.

شارك الصفحة

سؤالات الإبداع: مراجعة لكتاب الدماغ الخلّاق قراءة المزيد »

في مسرح الحياة: مراجعة لكتاب فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

كتاب فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها من الكتب التي تجرأتْ على التحليل النفسي للعوالم التي نعيشها بالتوازي مع حياتنا الواقعية، وبيَّنت ذلك في فصول عديدة يحمل كلٌّ منها مستوى مختلفاً من التحليل ويربطه مع سمة نفسية أو خصيصة أو أسلوب فنِّي أو أدبي، ما جعل الكتاب دراسة موجزة ومُهمة للعلاقة الوطيدة بين الفن والروح الإنسانية التي تصيبها الواقعية بالعقم.

يعيش كلٌّ منا في عالمه وواقعه راغباً في أشياء كثيرة، وشاعراً بحاجات عديدة، فإن لم تتحقق هذه في حياته وشعر بأن الأوان قد فات على المحاولة من جديد، شعر بالإحباط، لا سيما إن كان يتذرَّع به من أجل مواجهة مواقف تتطلب منه تغيير ذاته أو فكره لتحقيق ما يريد، عندئذٍ يكون الإحباط والغوص فيه ذريعة لذيذة يقبلها، بل يختارها، ليظل في موقع الضحية. ولكن هذا الموقف النفسي الرافض للتغيير والتأقلم يُنتج رغبة في الانتقام من العالم الذي لم يكن سهلاً، ولم يمنحنا ما نريد بدون مطالبته إيانا بتغيير بعض جوانب تفكيرنا، ويتمثل هذا الانتقام في كراهية الذات والآخر، ومطالبة الآخرين بالمستحيل، وفرض الرغبات عليهم من دون اعتبارٍ لما يريدونه وما يفضِّلونه، ويطرح الكاتب مثالاً على ذلك مسرحية الملك لير، حينما طالب لير ابنته الصغرى بأن تعلن له عن حبها، فرفضت الأخيرة لأنها رأت في ذلك نفاقاً لا يُشبهها، فكانت المسرحية تعبيراً عن محاولاته الانتقام منها.

نفهم من ذلك أن الإحباط ليس موقفاً سلبياً، بل مُنتجاً للعديد من الاضطرابات والمشاكل النفسية، كالوهم والخداع، بمعنى أن الشاعر بالإحباط نادراً ما يدري سبب إحباطه، فالإحباط ينتاب المرء مع غشاوة توضع على عينيه، فلا يعود يفهم سبب تعاسته وتصرفاته القهرية المؤذية، وعندما لا يعرف الإنسان نفسه جيداً، أي يجهل مصادر إحباطه وحقيقة حاجاته ورغباته وموقفه من الحياة، فإنه يُرضي نفسه بإشباعات تعويضية ووسائل تُخدِّر ألمه: الإحباط غير المُدرك، أو غير المُمثل، لا يُمكن إشباعه أو حتى الاعتراف به.

عندما لا يُدرك المرء في علاقة الحب سبب استنزاف مشاعره وقواه النفسية وشغفه ولهفته على ما يُحب من أنشطة ومهام، ويغفل عن مصدر ذلك في شريكه المنتقد له باستمرار، والذي يجعله في موقف دفاعي دائم عن نفسه كي لا يبدو غبياً أو أحمق أو سخيفاً لانهمامه بمهام يُحبها، فإنه يدمن محاولات إرضاء شريكه ويخلق الخوف في نفسه مما يُحب من أعمال، ويلزمه سلوك قهري بالتشكيك فيما يُحب ويفعل وفي مستوى قدراته وحقيقة مشاعره، فيظهر ذلك في سلوكات تعويضية يحاول عبرها التخفيف من ألمه، كالإدمان على العمل حتى الإرهاق، أو الرعاية المفرطة لشريكه، أو لوم الحياة على خياراتها المنقوصة دائماً، أو التقلب بين الخيارات النفسية الفقيرة لديه، فتارة يمتنع وتارة يحاول من جديد وتارة يتجاهل وتارة يكتئب وينكمش على نفسه. 

يجب أن يعترف المرء لنفسه بسبب إحباطه لكي يتمكن من إشباع رغباته بالطريقة الملائمة. فتجاهل الإحباط ومصدره والإدمان على الوسائل التعويضية التي لا تُجدي نفعاً لا يُمكن أن يطول، بل هو قصير المدى ومنتجٌ لاضطرابات نفسية ستحل محله فيزداد البؤس تعقيداً. إن الصورة المشوهة لدينا عن الإحباط الذي ينتابنا تترافق مع الصورة المشوهة عن الإشباع الذي نريده، فإن لم ندرك سبب الإحباط ومصدره، كيف سندرك العلاج الأمثل له، أي الإشباع؟

يطرح الكاتب مثال علاقات الحب لتبيان أن الحبَّ نتعرف إليه على شكل مُحتاجٍ ومانح، بدءاً من العلاقة بين الأم والطفل، والاعتراف بأن طبيعة الحب منطوية بالضرورة على انعدام مساواة بين الطرفين يوفِّر عليهما الكثير من التشوه في الصور، إن الإنسان مُحتاج إلى الآخر بالضرورة، وكلٌّ منا أدنى أو أعلى من الآخر في جوانب عديدة، ولكن تجربة الإحباط المشوهة تجعل المرء خائفاً من مواجهة خيارات الحياة الواقعية، والتي لا تكون مثالية، فيهرب إلى عالم الخيال والأمثلة الذهنية التي يتصور فيها إشباعه على هيئة إنسان يفهمه ويلبي ما يحتاجه، ربما من دون أن يطلب منه ذلك، ولكن هذا الإشباع لا يكون حقيقياً، بل مفرطاً في المثالية إلى درجة يكون فيها مجرد مراضاة نفسية مؤقتة، في مقابل الإشباع الواقعي ذي الاحتمالات العديدة. وإن المرء إذ يجد حبيباً في حياته الواقعية فإنه يكتشف عبره إحباطه الذي لازمه وظل خفياً عنه، وذلك إثر الإشباع الذي يمنحه إياه الحبيب، وهنا تكون تجربة اختيار الإشباع الواقعي رديفة الشعور المكثف بالإحباط لدى المرء، إثر اكتشافه إياه، وكأن المرء يتعرف إلى ما ينقصه عبر الآخر وبوساطته: مهما كنت تريد وترغب وتتمنى مقابلة الشخص الذي تحلم به، لن تبدأ الشعور بافتقاده إلا عندما تقابله“.

جدير بالذكر أن الكاتب يعود للتأكيد على أن الحلول الوهمية التي منَّينا بها أنفسنا من قبل ردَّاً على إحباطاتنا قد تظل ترافقنا طيلة حياتنا، ونلجأ إليها مراراً حتى لو كنا مدركين لطبيعتها وطبيعة حاجاتنا وضرورة الإشباع الواقعي لها، فالمعرفة لا تنفي الشعور في هذه الحالة، وعادة ما نهرب إلى الخيال من المشاعر التي تنتابنا تجاه الآخرين، عندئذٍ، قد يتحول هذا الإحباط إلى انتقامٍ، ويرتبط مصير المرء بما سيسفر عنه إحباطه.

إن تجربة الرغبة التي يخوضها المرء مُلزمة لنا بأن نكتشف الواقع من حولنا وإمكاناته وما يُمكن أن يقدمه لنا على هيئة إشباع مقبول، وعندما ندرك أن الإشباع الواقعي مهما كان مُرضياً لا يرقى إلى الإشباع الذهني والخيالي لدينا، فإننا نقع فيما يُدعى الإخفاق المتوقع للإشباع، ما قد يُسفر عن محاولة الإنسان تغيير ظروفه وشروط حياته لتحقيق إشباع أفضل، وهذا فعل إيجابي على النقيض من الانتقام من العالم. قد يبدو أن المرء ينتقل من إحباط عدم تلبية حاجته إلى إحباط تلبية حاجته بطريقة غير مثالية ومختلفة عما تصورها، ما يُبرر شعورنا بالغضب والتعاسة والحيرة، ولكن لا حلَّ لهذه المعضلة إلا عبرها، أي عبر إدراك حقيقتها وألا مفر منها، وليس في مقدورنا سوى تخفيف ألمها إلى الدرجة الأدنى.

إن المعرفة الزائفة التي يدَّعيها المرء عما يريد وعن حاجاته ورغباته تعميه عن معرفة ماهية إحباطه وكيفية إشباعه، بل ستعوقه دائماً في محاولات تصحيح ما يراه خاطئاً في نفسه والعالم، لذلك قد يرتدُّ إلى الانتقام والاستمتاع بالإحباط، وهذا مفهوم لأننا مجبولون على كره مواطن الضعف فينا والاعتراف بحاجاتنا، لذلك نلجأ إلى المداراة والتعويضات المؤقتة، غير أن علينا المحافظة على الرابط بيننا وبين الواقع عبر قبول ما يُتيحه لنا، ومحاولة تحسينه إن كان في مقدورنا ذلك. علينا أن نفهم بأن حاجاتنا غير واقعية، ولكن السبيل الوحيد إلى إشباعها يتمُّ بطريقة واقعية.

ولأننا نرفض ألم المعرفة بذواتنا وحقيقتنا فإننا نكره التحليل النفسي الذي يعرِّينا، غير أن معرفة الذات شرط مُهم لتحقيق الاتزان النفسي، سيتعين علينا الاختيار بين متعة المعرفة ومتعة السذاجة، أو ألم المعرفة وألم الإحباط، وبالطبع فإن عدم إدراك المرء نفسه متوازٍ مع فقر تواصله العاطفي مع نفسه والآخرين، إن الجاهل بنفسه لا يمكنه أن يتحدث بسهولة عن عواطفه، ولكن علينا الانتباه إلى أن ادعاء الإدراك عبر خلع المعاني التي نريد على الفعل أو السلوك رديفُ الجهل وعدم الإدراك، يجب أن يدرك الإنسان نفسه من حيث غموضه لا من حيث بساطة معرفته، لا يجب أن تكون رحلة اكتشاف الذات سهلة وإلا كانت مزيفة.

ولكن في حياة عدم الإدراك قد يكون الخيار مقصوداً لما وصفه لاكان شغفنا بالجهل أو فتغنشتاين بأننا مفتونونبإدراك الأمور، فلأننا نعرف أن في مقدورنا أن ندرك أو لا ندرك، وقد جربنا واختبرنا كلا الأمرين وكلا الحياتين، فإننا نختار حياة عدم الإدراك للآفاق الواسعة المنطوية عليها، وللعنف اللذيذ الذي تفرضه علينا، ومن هنا يكون التحليل النفسي مُحرراً لنا من حاجة أن نُدرِك وأن نُدرَك، أي يُخلص المرء من محاولة الإدراك وإقناعه بحياة الجهل لا لأنه يصعب عليه فهم الشيء بل لأن ليس هناك أي شيء لأن يفهمه، فالتحليل يُذكرنا بمحدودية إمكاناتنا وقدراتنا، أجل، يجب أن نفهم أنفسنا وندرك حاجاتنا كي لا ندع الإحباط يدمرنا، ولكن يجب أن ندرك في الآن ذاته أن هذه العملية طويلة وشاقة وغير مضمونة، وأننا محدودون بإمكاناتنا في اكتشاف ذواتنا، إننا كائنات معقدة لا يمكن لها أن تفهم ما يجري فيها، يقول الكاتب: أفضل قراءة لعمل فرويد هي بوصفه مرثاة طويلة لقابلية حياتنا للفهم. إننا نفهم حياتنا حتى تكون لدينا حُرية ألا نضطر لفهمها“.

وفي ذلك إشارة إلى ضرورة أن نقبل وجود الآخر من دون أن نحاول تأويله وفهمه وخلع معانينا عليه، إن امتلاك الآخر رديف الجهل بطبيعة الإنسانية ويجعلنا أكثر بعداً عن توقع السلوكيات الحتمية، كالتمرد والخيانة، علينا التصالح مع حقيقة حاجتنا إلى الآخرين والقبول بهم كمشروعات إنسانية مُستقلة عن محاولتنا تأويلهم، ومن هذا التصالح نفهم أن معرفة الآخر غير مهمة بقدر قبوله والإقرار بوجوده وحُريته في الخيار: إن معرفة الآخرين، في مصطلح التحليل النفسي، يُمكن أن يكون دفاعاً، أو الدفاع، ضد إقرار وجودهم الفعلي، وما نريد وجودهم من أجله“. ومع ذلك يجب أن يكون لدينا الحد الأدنى من هذه المعرفة، أو أن نقبل “بوهم المعرفة” شرط أن ندرك دائماً بأنها معرفة عرضية وزائفة ومتقلبة، فهذه المعرفة الجزئية تُمكننا من الإقرار بوجود الآخرين، وهي تدحض الرغبة أو تنفيها أو تُمنطقها، غير أنها لا تكون عملية إن تعلقت بالآخر أو الذات، ولا بأس في ذلك، فهذا جزء من ألم الواقع الذي يجدر بنا احتماله.

يقول الكاتب بأن إفلاتنا بالحياة المتخيلة التي نحملها في أذهاننا وتمسكنا بها لا يعني تمردنا على سلطة الواقع والاتجاه نحو الحرية بقدر ما يعني استبدال سُلطة بأخرى، إن المرء لا يحلُم إلا تحت شروط مُعينة، قد يرفض شروط الواقع ولكن هذا لا يعني أنه حُر، بل إنه حتماً خالقٌ لشروط أخرى يرتضيها بنفسه ويحتكم إليها، لذلك لا تكون الحياة الذهنية الموازية للواقعية حياة حُرة، بل حياة بقيود أخرى، والنجاح بهذا المعنى يعني إفلاتنا بهذه الحياة بلا عواقب.

ولكن الفرار من الحياة الواقعية إلى المتخيلة ينطوي على إقرار منا بمعرفة ما كانت لتؤول إليه الأمور لو عشنا فقط الحياة الواقعية، وادعاء بأننا نعرف المستقبل، ولكن معرفتنا بأن هذا الموقف المعرفي مُزيف تماماً لا يعني الرضى بالحياة التي نرفضها في الواقع، بل التفكير في بدائل أخرى ترضينا ويشملها الواقع، لا سيما أننا نرفض أموراً ندعي أننا نعرفها أكثر مما نعرف ما عشناه في الحقيقة، ومعرفة ما ترفضه لا يعني معرفتك بما تريد. إن ما ينتابنا حول المستقبل هو مجرد إحساس نثق به لشدة ما نعانيه في الواقع، ولكن لا يجب أن نترك الألم يدفعنا إلى التمسك بالوهم، بل يجب أن نسخِّره للتخفيف منه. إن الرغبة فيما نريد واليقين بذلك وادعاء معرفة ما نريد تشوه إدراكنا للتجربة التي نعيشها وتلك التي نريد عيشها على حد سواء:

 فلماذا يبدو أننا نعرف عن التجارب التي لم نعشها أكثر مما نعرف عن التجارب التي نعيشها؟ لأن هذا وحده هو ما يجعل الهروب ممكناً، ولأن الحرمان هو ما يجعلنا نتخيل الموقف. وما يُطلق عليه فرويدتجريب الفعل في الذهنهو عبارة عنماذا لوالتي تولد من الرغبة في الإشباع. إن ما يغوينا هو المنطق الذي يولِّده الخوف. والعلم بكل شيء ذريعة وعذر. ففي هذا السيناريو، نهرب قبل أن نعرف ما الذي نهرب منه. ويمكن أن نقول إن الهدف هو عدم معرفة ما يهرب المرء منه، فشرط الخروج يسبق التجربة“.

قد يكون لعدم إدراكنا التجارب التي نعيشها أثرٌ في إفساح المجال للتأويل الي نُحبه، أي ممارسة الفن واستخدامه كوسيلة للهروب، إننا نهرب من الحياة عبر الفن وشجاعة التأويل والتأليف، وإن لم نرضَ بوهم المعرفة لنحقق الهروب ظللنا أسرى الماضي ومحاولة تغييره، في مقابل المستقبل الذي يمكننا خلقه من جديد: أولئك الذين لا يمكنهم التظاهر بمعرفة كل شيء عن الماضي محكوم عليهم بتكراره“. 

إن المعاناة الناجمة عن الفرق بين إشباعاتنا الذهنية المثالية ونظيرتها الواقعية المنقوصة ملازمة لنا لا محالة، وتتمثل في الصراع بين الأنا والأنا المتعالية، لذلك يكون البطل التراجيدي هو المُتخلي عن رغبته فيما يريد لرغبته في معرفة ذاته وإمكانات واقعه، ومن هنا يُطرح السؤال: هل تكون غاية التحليل النفسي انتقامنا من أنفسنا عبر المعرفة؟

إننا عبر الحياة المزدوجة التي نعيشها نشترك مع المجانين في تجربتهم، ولكننا أقرب إلى مُمثلي المسرح الذين يقدمون أدواراً لا تشبه حقيقتهم، ونحن كذلك نعيش في الحياة وكأنها مسرح عظيم، نقدم فيها أدواراً واقعية لا تتشابه وحقيقتها التي نفضل أن نعيشها، وكأن رغبتنا في عيش حياة أخرى هي رغبة مسرحية، ولكن في أي دورٍ نكون أكثر حقيقة؟ لا يُمكن لأحدٍ أن يُجيب. إننا في المسرح نحتفي بتمثيل الجنون كما نحتفي في الواقع بتمثيل الأدوار، وهذا ما خصَّص له غوفمان كتاباً سماه تمثيل الذات في الحياة اليومية“.

إن مراحل نضوج المرء هي مراحل من الخيبات المتتالية، ويجب عليه أن يقبل هذه الحقيقة، فالبديل لذلك تشوه في تصور الحياة والنفس، وهذا نقيض يقابل نقيض المثالية الذهنية، أما الواقع فهو في المنتصف، ينطوي على ألمٍ محتمل ولذة منقوصة، بالطبع قد يحتوي على إشباع مثالي، ولكن يجب ألا نتوقع منه ذلك. تكمن الشجاعة في الاعتراف بأننا لن يوماً إلى فهم أنفسنا ولا رغباتنا، وبأن المثالية المتخيلة عارضٌ يُنبهنا إلى ضرورة تغيير الواقع لا ضرورة ملاحقتها.

شارك الصفحة

في مسرح الحياة: مراجعة لكتاب فوائت الحياة: في مدح حياة لم نعشها قراءة المزيد »

تلاشي القراءة العميقة: مراجعة لكتاب أيها القارئ عُد إلى وطنك

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يأخذنا كتاب “أيها القارئ: عُد إلى وطنك” في رحلة استقصائية استثنائية، تجمع بين التحليل العلمي الدقيق والتأمل الإنساني العميق. الكتاب يقع في 391 صفحة وترجمه إلى العربية شوق العنزي وهو من إصدارت دار أدب للنشر والتوزيع عام 2021م.

صدر هذا العمل عن عالمة الأعصاب الإدراكية والباحثة في مجال القراءة واللغة ماريان وولف، التي عُرفت بأبحاثها حول كيفية تشكّل الدوائر العصبية للقراءة في الدماغ الإنساني، فضلاً عن كتاباتها السابقة مثلبروست والحبار” (Proust and the Squid) التي استكشفت فيها أصول القراءة وتطورها.

في هذا الكتاب، تضع وولف بين أيدينا خلاصة تجربتها الأكاديمية والبحثية، مستندة إلى سنوات طويلة من دراسة التأثيرات المعرفية والثقافية لتكنولوجيا المعلومات على النشاط الذهني الإنساني.

منذ الرسالة الأولى، يكشف الكتاب عن رسالته الجوهرية: الحث على التفكير النقدي في أثر التحول الرقمي على قدراتنا الذهنية والقرائية. تُقرّ المؤلفة بأن القراءة ليست مجرد مهارة تقنية لفك الرموز اللغوية، بل هي عملية معقدة ومتعددة الأبعاد تتشكل فيها علاقات عصبية تتجاوز مجرد التعرف على الكلمات والجمل، لتصل إلى فهم المعاني المعقدة، والتحليل النقدي، والتأمل الأخلاقي، وبناء القدرة على التعاطف الإنساني. في عالم تطغى فيه الشاشات والرسائل النصية والإشعارات القصيرة على الوعي الجمعي، تطرح وولف تساؤلاً مصيرياً: هل ما زالت عقولنا قادرة على الحفاظ على نمط “القراءة العميقة” الذي شكّل لقرون أسس المعرفة والابتكار والفهم الثقافي؟

هذا الانشغال بشؤون القراءة لا ينبع من حنين رومانسي إلى عالم ما قبل الرقمنة، بل من وعي علمي بأن أشكال التعلم والتفكير والتفاعل الاجتماعي تتغيّر بتحوّل وسائط الاتصال. فالكتاب يتجاوز مجرد مرافعة لصالح الكتاب الورقي التقليدي، ليقدم رؤية علمية لحقيقة التغيّرات الهيكلية التي تحدث في الدماغ عندما نتعرض لزخم معلوماتي لا يتيح لنا التنفس القرائي العميق. وتستند وولف في ذلك إلى عدد كبير من الدراسات التجريبية والنفسية والعصبية، لتبيان كيف يعاد تشكيل الوصلات الدماغية تحت وطأة الاستخدام المكثف للتكنولوجيا. ليس الغرض من الطرح تحريض القارئ على نبذ التكنولوجيا، بل التأكيد على ضرورة الموازنة بين الأدوات الرقمية والعودة إلى “وطن” القراءة العميقة، ذلك الوطن الذي يتيح لنا استكشاف المعاني وتجسيد الأفكار والتأمل في التجارب الإنسانية.

يعطي الكتاب بعده الإنساني وزناً كبيراً لدور القراءة في تشكل الهوية الثقافية والفكرية. فتاريخياً، لم تكن القراءة مجرّد وسيلة لنقل المعرفة، بل كانت فضاءً للتأمل في النصوص الأدبية والفلسفية، وميداناً لاحتضان أفكار جديدة، وتطوير حس نقدي مستقل. تذكّرنا وولف بأن القراءة غرست عبر القرون جذوراً عميقة في بنية المجتمع، وأسهمت في صقل الذاكرة الجماعية، وتحرير الفرد من قيود العاجل والمبتذل. وفي عالم من الإلهاءات البصرية والتدفق الفوري للمعلومات، يخشى الكتاب فقدان هذه الجذور. من هنا تأتي أهمية هذا العمل الذي يمزج بين العلم والسلوك الاجتماعي، في محاولة لصياغة رؤية متكاملة حول مستقبل القراءة.

الأبعاد العصبية والمعرفية للقراءة:

تستهلّ وولف كتابها في الرسائل الاولى بتمهيد علمي حول البنية العصبية للدماغ الإنساني عند القراءة. هنا تكمن إحدى أهم أطروحاتها: لم يُولد الدماغ البشري “مهيأً بيولوجياً” للقراءة، إذ لم تظهر الكتابة على مسرح الحضارة الإنسانية إلا منذ بضعة آلاف من السنين، وهي فترة قصيرة جداً مقارنة بعمر التطور البشري. على عكس مهارات كالنطق وفهم اللغة الشفهية، التي ترتكز على دوائر عصبية عريقة، تتكون القدرة على القراءة عبر إعادة توظيف دوائر عصبية مُعدّة أصلاً للتعرف البصري، والربط بين الرموز والصوت والمعنى. من هذا المنطلق، تؤكد المؤلفة أن القراءة ليست عملية غريزية، بل مهارة مكتسبة تتشكل عبر التعلم التدريجي، وتكتسب عمقها من خلال التمرين والممارسة والتفاعل مع نصوص متنوعة.

إن عملية “القراءة العميقة” التي تُشير إليها وولف ليست مجرد التعرف على الكلمات وفهم معناها السطحي، بل هي نمط تفكير يتضمن التحليل، والاستنتاج، والتركيب، والتأمل. عندما نقرأ نصاً أدبياً معقداً أو مقالة فلسفية، فإن الدماغ ينشط سلاسل عصبية متعددة، تربط بين الذاكرة العاملة، والمعرفة السابقة، والخيال، والوجدان. إن هذه العملية المعقدة تتيح لنا إعادة تشكيل الأفكار، واستخلاص دلالات جديدة، وتحدي القناعات المسبقة. بعبارة أخرى، القراءة العميقة ليست استهلاكاً سلبياً للمعلومات، بل فعالية ذهنية خلاقة تتجاوز الورق والحبر لتصبح جزءاً من هوية القارئ الفكرية.

وعند الانتقال إلى مناقشة التطورات التكنولوجية، تبرز خطورة الانزلاق نحو القراءة السطحية. في ظل الشاشات المتعددة، والروابط التشعبية، والتدفق المتواصل للمحتوى الرقمي، تتكيف عقولنا تدريجياً مع نمط جديد من القراءة يقوم على التنقل السريع بين معلومات مشتتة، وهضم كميات كبيرة من المعطيات دون تمحيص. هذا النمط الجديد يُغيّر تكوين وصلات الدماغ، ويضعف القدرة على التركيز الطويل، ويقلل من استيعاب المعاني المركّبة. تشير وولف إلى أن هذه الظاهرة ليست نظرية فحسب، بل أصبحت ملموسة في الأجيال الصاعدة التي تجد صعوبة في الانغماس الكامل في نص طويل أو معقد.

تستخدم المؤلفة مجموعة من الأدلة العلمية والاختبارات المعرفية التي أُجريت على طلاب الجامعات والمتعلمين الرقميين. تكشف هذه الاختبارات عن تراجع القدرة على فهم النصوص المعقدة، وصعوبة في ربط المعاني المجردة، واضمحلال في الحس النقدي لدى القارئ المُنهك من “التقليب” الرقمي. من خلال هذه المعطيات، تتبلور حجة وولف في أن القراءة ليست مهارة ثابتة، بل هي خاضعة لتأثير الوسيط التقني وللسياق الثقافي. وهذه الفكرة تمهّد الطريق نحو مناقشة أعمق حول معنى “القراءة المعاصرة” وعلاقتها بالهوية البشرية.

تحديات الرقمنة وتأثيرها على القدرة القرائية:

ينتقل الكتاب في مرحلة لاحقة إلى تحليل التأثيرات السلبية الناجمة عن الاعتماد المتزايد على الوسائط الرقمية، مع التحوّل من صفحات الكتب إلى شاشات الحواسيب والهواتف الذكية والأجهزة اللوحية. تنطلق وولف من مفهوم “اقتصاد الانتباه”، لتوضيح كيفية تسليع الانتباه الإنساني وتحويله إلى مورد نادر يتصارع عليه المسوّقون ومصممو التطبيقات، ممن يهدفون إلى إبقاء المستخدم في حالة يقظة سطحية مستمرة، دون منحه فرصة للغوص في العمق. هذا النظام الاقتصادي-التكنولوجي يخلق بيئة معلوماتية مبنية على التقلب السريع للمحتوى، وانتقال مُربِك بين النصوص والصور ومقاطع الفيديو، مما يقوّض ركائز التركيز والتمعّن.

تشير الدراسات التي توردها وولف إلى أن الإدمان على الشاشات الإلكترونية يخلق أنماطاً جديدة من العادات المعرفية. فبدلاً من التمهل أمام فقرة معقدة، أو إعادة قراءة جملة لفهم معناها، بات القارئ الرقمي يميل إلى التقدّم بسرعة، مستسلماً لإغراء الانتقال إلى صفحة أخرى أو نافذة أخرى أو رسالة جديدة. هذا السلوك يحد من قدرة الدماغ على بناء الوصلات المعرفية المتينة التي تميّز القارئ العميق. وبالتالي، تتراجع قدرة الإنسان على تقييم المعلومات نقدياً، وعلى تمييز الحقيقة من الزيف، وعلى بناء تصوّر شمولي للمواضيع.

ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذا التحول لا يؤثر على مجرد عادات القراءة، بل يمتد إلى بنية الدماغ نفسها. الدماغ، بحسب ما توضحه وولف، مرن جداً، إذ يُعيد تشكيل دوائره العصبية باستمرار تبعاً لأنماط السلوك. ومع الزمن، يحلّ نمط القراءة السطحية محل البنى العصبية التي دعمها التدريب على القراءة المتأنية. بذلك، نصبح أقل قدرة على فهم النصوص الأدبية العميقة، وأقل ميلاً لقراءة الأعمال الفكرية المعقدة التي تتطلب تركيزاً عالياً. يفقد القارئ المتأثر بالرقمنة بعض مهارات التحليل والاستدلال، كما قد يتضاءل حسّه الأخلاقي والجمالي المنبثق من فهم السياقات الثقافية والتاريخية التي تغذي النص.

إن هذا الواقع يحمل تبعات اجتماعية وتعليمية وثقافية. في عالم عربي يعاني أصلاً من تحديات متعلقة بانتشار القراءة العميقة وضعف مستوى الإقبال على الدراسات النقدية، قد يؤدي تفاقم مشكلة القراءة السطحية إلى المزيد من الابتعاد عن التراث الفكري والإنساني. فالتكنولوجيا، رغم أنها تفتح آفاقاً رحبة للوصول إلى المعلومات، قد تُفاقم مشكلة سطحية الفهم إذا لم نكن حذرين. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن الحلول التي يمكن اتخاذها للحفاظ على المهارات القرائية العميقة، وعن الدور الذي يجب أن يلعبه الأهل والمعلمون وصنّاع السياسات الثقافية في هذا الصدد.

استراتيجيات استعادة القراءة العميقة:

يأتي الجزء الأهم من الكتاب عندما تتوجه وولف نحو طرح الاستراتيجيات العملية والنفسية والمعرفية لاستعادة مهارات القراءة العميقة، لا سيما في ظلّ البيئة الرقمية. تدعو المؤلفة إلى مفهوم الازدواجية القرائية” (the biliterate reading brain)، أي القدرة على التنقل بمرونة بين نمط القراءة الرقمي السريع ونمط القراءة العميقة المتمهلة، بحيث يستطيع القارئ الاستفادة من المنصات الرقمية في الوصول السريع إلى المعلومات، وفي الوقت نفسه، تخصيص مساحات زمنية ونفسية للقراءة التأملية.

تقترح وولف بناء “ملاجئ قرائية” صغيرة في الحياة اليومية، مثل تخصيص وقت للقراءة الورقية بعيداً عن الأجهزة الإلكترونية، واختيار نصوص أدبية أو فكرية معقدة تحفّز الذهن على التحليل والتأمل. كما تؤكد أن العودة إلى الكتب الورقية ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل ضرورة لإعادة تدريب الدماغ على التركيز على النص دون إلهاء، واستعادة لذة التفاعل البطيء مع المعاني. وتنبثق من هذه الفكرة منهجيات تعليمية جديدة يمكن أن يتبناها المربّون، مثل تشجيع الطلاب على القراءة التحليلية للنصوص الأدبية، وتعويدهم على إعادة القراءة وتلخيص الأفكار في دفاتر خاصة، بدلاً من الاعتماد فقط على الشاشات.

علاوة على ذلك، تحثّنا على توظيف التكنولوجيا نفسها لخدمة القراءة العميقة. ففي عصر يمكن فيه تخصيص تطبيقات ومنصات رقمية تتسم بالهدوء والتركيز، يمكن للمستخدم بناء مكتبات رقمية عالية الجودة، تختار النصوص وتعرضها بخط واضح ودون إعلانات تشوّش الانتباه. كما يمكن للتقنيات الرقمية أن تساعد على توفير معاجم وتفاسير فورية تُعين القارئ على فهم المعنى من دون الحاجة لمغادرة النص. المسألة تكمن في كيفية تسخير التكنولوجيا لتعميق عملية الفهم، بدل استغلالها في تعزيز ظاهرة “التقلّب السطحي”.

كما يشير الكتاب إلى أهمية تجديد العقد الاجتماعي للقراءة، بحيث يصبح المجتمع، بمؤسساته الثقافية والتعليمية والإعلامية، شريكاً في إعادة الاعتبار للقراءة العميقة. وهنا يأتي دور صناع القرار، من المسؤولين التربويين إلى الناشرين، في توفير بيئة تشجع على اقتناء الكتب الجادة، وإطلاق مبادرات وأنشطة تثقيفية، وتحفيز التعلّم النقدي في المدارس. إن هذه الجهود المشتركة تمثل نوعاً من “التحصين الثقافي” ضد الهيمنة المطلقة للنصوص الخفيفة والمشتتة. يشير هذا المنظور إلى أن استعادة العمق القرائي ليس مهمة فردية فحسب، بل ضرورة حضارية تقتضي تظافر الجهود على المستوى الجماعي.

البعد الإنساني والثقافي للقراءة:

لا تكتفي وولف بتحليل الآليات العصبية والمعرفية، بل تتجاوزها إلى تأملات أوسع حول البعد الإنساني للقراءة. إن القراءة، في نظرها، ليست نشاطاً ذهنياً منعزلاً، بل تجربة تواصلية عميقة مع عقول الآخرين، سواء كانوا مؤلفين يعيشون في حيز جغرافي وزماني آخر، أو شخصيات روائية تخيّلية تعبّر عن مشاعر إنسانية جامعة. هذه الخاصية الفريدة للقراءة، المتمثلة في قدرتها على نقلنا عبر الزمان والمكان والثقافات، تُكسبها قيمة حضارية عميقة.

تربط المؤلفة بين مهارات القراءة العميقة وبين تنمية قدرات التعاطف الإنساني. عندما نقرأ رواية تصور معاناة شخصيات مختلفة الخلفيات والثقافات، فإننا نتعلم كيف نفهم مشاعر الآخرين، ونضع أنفسنا مكانهم، ونستوعب التعقيد الإنساني. هذا “التقمّص الوجداني”، الذي تحفّزه القراءة المتأنية، قد يتلاشى في بيئة قرائية سطحية، حيث يفقد النص الأدبي عمقه وتتحول الشخصيات إلى مجرد هياكل لغوية بلا روح. إن تراجع هذا المستوى من التفاعل الإنساني مع النصوص قد يُضعف قدرتنا على بناء مجتمعات متعاطفة ومتسامحة.

كما ترى وولف أيضاً أن القراءة العميقة تلعب دوراً جوهرياً في تكوين الهوية الثقافية، إذ إن أدب أي أمة ليس مجرد ركام من الحروف والكلمات، بل هو ذاكرة جمعية تنصهر فيها الخبرات التاريخية والفلسفية والأخلاقية. إذا ما حُرِم مجتمع من الانكباب على قراءة نصوصه التأسيسية وفهمها وتأملها، فإن الروابط الثقافية قد تتفكك، وتصبح الهوية ضبابية. ومن هنا، لا يقتصر أثر القراءة السطحية على الأفراد وحدهم، بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي برمته.

إن هذا الجانب الإنساني يبرز أهمية القراءة في ظل التحديات العالمية المعاصرة، كالاختلافات الثقافية، وتصاعد نزعات التعصّب، وتفشي الأخبار المضلّلة. حين يجري تدريب القارئ على التمهّل في قراءة النصوص، والغوص في معانيها، وبحث جذورها الثقافية، تُمنح له الفرصة ليكون مواطناً عالمياً مستنيراً. وبهذا يتحول الكتاب من مجرد وسيلة لنقل المعرفة إلى وسيلة لإعادة تشكيل الوعي الإنساني، وتعزيز القيم الأخلاقية التي تصون الإنسانية من الانزلاق في صراعات وسطحية فكرية.

الخلاصة وأهمية الكتاب للقارئ العربي:

في الختام، يمثل كتاب “أيها القارئ، عُد إلى وطنك” دعوة حقيقية لإعادة النظر في علاقتنا بالقراءة في العصر الرقمي. إنه عمل يجمع بين الدقة العلمية والعمق الفكري، ويقدم تحليلاً شاملاً للتغيّرات العصبية والاجتماعية والثقافية التي تُصاحب انغماسنا المتزايد في العوالم الرقمية. لا يكتفي الكتاب برصد المشكلة، بل يضعنا أمام مقترحات عملية لاستعادة التوازن بين القراءة السطحية والقراءة العميقة، ويدفعنا للتأمل في جوهر القراءة باعتبارها عملية إنسانية فريدة، تشكّل بصمتنا الثقافية وتصقل وعينا النقدي.

بالنسبة للقارئ العربي، يحظى هذا الكتاب بأهمية إضافية. ففي ظل تحديات تواجه الثقافة العربية، من ضعف انتشار القراءة في بعض البلدان العربية، إلى الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي، وقلة الاهتمام بنصوص أدبية كلاسيكية وفلسفية عميقة، قد يكون هذا العمل مرجعاً لتحفيز القارئ على استعادة علاقته الجادة بالكتاب. كما أنه يشجع المربين والمعلمين وصنّاع القرار الثقافي على ابتكار أساليب تعليمية جديدة تحثّ الطلاب والناشئة على الغوص في النصوص، وإعادة اكتشاف لذة التفكير النقدي والبحث المعرفي.

وفي عصر تتنازع فيه القيم والمعلومات، ويصعب فيه أحياناً التمييز بين الغثّ والسمين، تأتي أطروحات وولف بمثابة منارة فكرية تذكّرنا بأن قدرتنا على التفكير النقدي ليست مضمونة، وأنها قد تتلاشى إن لم نحافظ عليها. إن الخطر الأكبر لا يكمن في انتشار التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في عدم توظيفها بشكل مستنير. وحدها القراءة العميقة تتيح لنا فهم المعاني المركبة، واستيعاب السياقات المتشابكة، والتأمل في قضايا الوجود والهوية والعدالة.

ختاماً، يشكّل “أيها القارئ، عُد إلى وطنك” أكثر من مجرد كتاب نظري، بل هو نداء عالمي لإحياء القيم القرائية التي دعمت الحضارات الإنسانية عبر القرون. في وقت تتصاعد فيه حمى الاستهلاك السريع للمعلومات، ويسود فيه الإيجاز المخلّ، يقترح الكتاب مساراً بديلاً: طريق العودة إلى “وطن القراءة”، ذلك الفضاء الذهني الذي يمنحنا الحرية في اختيار الأفكار، والتأمل في الوجود، وبناء ثقافة إنسانية أكثر رحابة وانفتاحاً. إنّه عمل يحتفي بقدرة الكلمة على صياغة الهوية والفكر، ويحمّلنا مسؤولية إعادة هندسة علاقتنا بالنصوص لصون إرثنا المعرفي. بذلك، يستحق هذا الكتاب قراءة متأنية وعميقة، لا سيما في عالم يزداد فيه الضجيج وتتلاشى فيه لحظات السكون الفكري.

شارك الصفحة

تلاشي القراءة العميقة: مراجعة لكتاب أيها القارئ عُد إلى وطنك قراءة المزيد »