عودٌ على بدء: مراجعة لكتاب أشياء سبق الحديث عنها

Picture of غلاء سمير أنس
غلاء سمير أنس

مُترجمة كُتب

فحينما يغدو الاختلاف، ليس مجرد بوْن وتباين، وإنما اختلافاً أنطولوجياً يضع مسافة بين الذات وبين نفسها، فإنه يفسح المجال للابتعاد والانفصال، ويفتح هامش التشكك وإعادة النظر، بل والسخرية من الذات… هذا التخطيء للذات قبل تخطيء الآخر، وهذا الإحساس بأن “علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا” كما يقول كارل بوبر، هو الذي يُمكننا من أن نخالف أنفسنا، ونكون على استعداد كي نَقبل في أنفسنا آخر، فنُقبل من ثمة على الآخرين.

  عبد السلام بنعبد العالي

يضمُّ كتاب “أشياء سبق الحديث عنها” للكاتب والمترجم المغربي عبد السلام بنعبد العالي مقالات جديرة بالاهتمام، تعكس أفكاراً موجزة ومختصرة أراد الكاتب إثباتها من جديد، وعرض مادتها في كتابٍ منفصل انتقى له عنواناً مناسباً. لدى هذا الفيلسوف وجهة نظر مُهمة ليُقدمها، بادية في معظم مقالاته، ويقع عليها القارئ كما يقع على سؤالٍ جوهري شعر به منذ مدة، ولكن عجز عن منحه لغة تليق به.

يتحدث بنعبد العالي عن التكرار في الهوية، وعن النسخ التي تولِّد النصوص من جديد، وعن الكذب السياسي الذي يقول الحقيقة كاذباً حين ينزعها من سياقها ويُلقي بها بين مجموعة من الأخبار والأحداث المنفصلة والمستقلة، فيُجزِّئها ويُميعها ويفككها وينزع منها توجهها إلى طرح سؤال مُهم أو عرض قضية جديرة، ومن هنا فإنه يشير إلى ضرورة فهم إتلاف المعنى في سرد الحقيقة، أو ما يُدعى “بالكذب السياسي” الذي يغيِّب الواقع ويجعل تطور الأحداث حاضراً راهناً ومستمراً في شكله المُجزأ.

أحببتُ حديث الكاتب عن الوظيفة الرمزية للأبواب في الحفاظ على خصوصية الحميمية في حياتنا، والتي تحولت اليوم إلى وظيفة شكلية “تهرب منها الحميمية” وتفقد باستمرار معناها الخاص، وأعجبتُ بمنظور الكاتب حول رؤيتنا أنفسنا في الآخرين ومن خلالهم، أي المحاولة المستمرة للفرد في التماهي مع الجماعة، كما تحاول الجماعة التماهي مع الصورة الإعلانية لتراثها وهويتها، والتي رغم أنها تصوِّره وحدة متماسكة غير أنها تُنتج منه هويات مختلفة ومتعددة تُشكل النسيج المجتمعي بتعدديتها، ومن هنا يشير الكاتب إلى قوة السيمولاكر في إنتاج المعنى والهويات ضمن عود أبدي يحتفي بعالم منطوٍ على الفعالية بدلاً من النماذج.

انتقد الكاتب كذلك الجوانب الصناعية حتى للمفاهيم، كصناعة العطلة التي سلبت من المرء حقه في الاختلاء بنفسه، وفي امتلاك وقت فراغٍ لا يفعل فيه أي شيء، أو لا يستهلك فيه أية منتجات، وتحدث عن مجتمع الفرجة الذي يظل فيه المرء “في سينما” مُستمرة وموضوعاً للتعليق وتحقيق الرغبات والإنجازات السريعة، وانتقد ردود الفعل على العولمة التي ظلت كردود فعلٍ دون أن تُنتج خطاباً يُعزز اختلافها ويقيم ثقافتها التي تزعم ضياعها، مشيراً إلى الفئة التي تستغل “دوخة” العالم اليوم والقيمة المتزعزعة للأخلاق والقيم لتبرير بشاعة موقفها، ومن هنا فإنه ينتقد دور المثقف الذي “يصفق” لهذه الدوخة، ويرى من الحقيق رؤيته من زاوية تُثبت دوره في خلقها.

وفي حديثٍ جميلٍ ويحمل فلسفة مُهمة، يفرِّق الكاتب بين مفهوم السخرية والتهكم، فيقول بأن التهكم مستند إلى فصل المرء ذاته عن الآخرين والحفاظ عليها بعيداً عن الاختلاط بالآخر، والإيمان ببعض المسلمات التي تحفظ وجوده ومشاعره من المساس، في حين أن السخرية تعني سخرية المرء من ذاته قبل الآخرين، وإيمانه بصورة يشترك فيها مع غيره في الوجود الإنساني، وينفي فيها الصفة اليقينية عن النظريات والأفكار، ومن هنا فإن الساخر هو الذي يرى العالم هويات متعددة ينبغي لها التقارب وإيجاد أرض مشتركة لتحقيق مصالحها التي يمكن دائماً مناقشتها وتحقيق جزءٍ منها، على عكس المتهكم الذي يتمسك بمعتقداته ويظل في ابتعاد مستمر عن الوفاق مع الجهات الأخرى.

وفي حديثه عن الاختلاف، تناول الكاتب تجاوزه الاتصال الزماني والهوية المطابقة إلى التعددية الزمانية، وتحدث عن المنظور الأفلاطوني في اعتبار الوجود متستراً بالرموز المُضللة والعلامات التي تُحيل إلى المخفي، غير أن المنظور النيتشوي والحديث يرى بأن الدلالات لا تُحيل إلَّا إلى ذاتها، لذلك فــ”ليس العمق والحالة هذه إلا نتيجة للوهم الذي يبعثه فينا السطح الذي يمنعنا من أن ننظر إليه كسطح. ولكنه ليس السطح الهش الشفاف، وإنما هو سطح سميك ثري”.

كما أشار بنعبد العالي إلى تحول مهمة الفلسفة من نقد الأيديولوجيا قديماً إلى الإشارة إلى الشرور التي تعرِّي نفسها اليوم، والتي قد تتمثل في وثوقيات تُعنِّف النفس وتغلق عليها الأبواب وتحصرها في نموذج ثابت لا يتأثر بوجود الآخر، وذلك في إشارة منه إلى أن المواقف أحادية البعد والفكر ناجمة عن نزعات نفسية في الأصل لا معرفية، نرى انعكاس ذلك في اعتقادنا بأن الحياة الحديثة قد دفعت المرء إلى كشف ستره وسرِّه وإظهاره على العلن، غير أنه لا يكشف سوى ما يعدُّه هو سراً، لذلك فإن الغموض في ذاته يظل موجوداً لمن يملك الفطنة في التعرف إليه: “وإنسان العصر الحديث من الغموض بحيث لا يستطيع أن ينكشف دوماً لنفسه، وبالأحرى أن يكشف نفسه للآخرين”، وفي هذا الصدد فإنه يشير إلى “فلاسفة التوجس” الذين آمنوا بامتلاك المرء ذي الأيديولوجيا “غرفة مُظلمة” في رأسه يعيش فيها صور الواقع والمفاهيم ولكن بصورة مقلوبة رأساً على عقب.

كما يفصل بنعبد العالي بين “التباين الساذج” والاختلاف من حيث أن الأول يُشير إلى تعددية خارجية يُميز فيها الأفراد أنفسهم عن بعضهم البعض ويعدونها ذريعة للتباعد والاختلاف بذواتهم، والثاني يشير إلى تعقيد الذات التي تحمل الآخر في باطنها وتحاوره وتحاول الابتعاد عن نفسها وإثبات تميزها عبر الخروج بأفكار ومفاهيم ولغة تشترك فيها وجودياً مع من حولها، وفي ذلك فإنه يستند غلى موقف ساخر من النفس والوجود الإنساني، ويجعل من امتلاك مفاهيم الحق والخير والجمال مهمة لا يمكن النجاح فيها إلا عبر الآخر وبوساطته: “إن الاختلاف ينخر الكائن ذاته ليضع الآخر في صميمه”.

لقد عاد الكاتب في أكثر من موضع للحديث عن مفهومه للسخرية كموقف من الحياة، ينطوي على غوص في المفارقات العديدة وإثبات للظاهر بما هو عليه دون العودة إلى باطن مفترض له، ويرفض عنف البديهيات والمنظور الأحادي للذات والهوية، الأمر الذي يذكرنا بتعريف التهكم لدى ريتشارد رورتي في كتابه “المُتهكم الليبرالي”.

ومن اللافت موقفه من “عقدة الناجي” التي تصيب الناجين من الكوارث، فهو يُثبتها على الناجين اليوم من أثر البلاهة على النفس، ويقول بأن المرء اليوم، وعبر الفنون والفكر الحُر، ينجو بنفسه من أن يكون ضحية البلاهة التي تقصد وجوده وفكره، ويعبر عن ذلك في “خجل الإنسان أن يكون إنساناً” أمام هؤلاء الضحايا: “صحيحٌ أننا لسنا مسؤولين عن الضحايا، إلا أننا مسؤولون أمام الضحايا، وهم ليسوا بالضرورة ضحايا مخيمات التعذيب، وإنما ضحايا بلاهات الحياة المُعاصرة”.

وينتقل للحديث عن مفهوم الصفح الذي يتمثل في عملية مستمرة تخوضها الشعوب التي تعرضت للاستعمار، لتتمكن من تجاوز الماضي والتطلع لمستقبلها، في مقال “تدبير النسيان”، الذي تعتمده الدول المستعمِرة في محاولة منها لتحويل إجرامها إلى أسطورة أو ذكرى تبتعد بالتدريج عن الواقع، دون أن تعرض نفسها للمساءلة أو المحاكمة. كما تناول مواضيع عديدة أخرى، كخجل الكاتب من الكتابة في واقع مريرٍ يجد فيه الصمت متجاوزاً للأخلاق والأحكام والأهوال الجارية جميعاً، والتعليم الذي تحول من ممارسة نفسية وتهذيبية وتحصيلية إلى موضوع خارجي يمكن “الولوج” إليه عند الحاجة وتوظيفه، ويتناول مفهوم “الصداقة” التي تجمع بين المواطنين، والمتمثلة في حوار دائم يجمع تعدديتهم ويشكِّل منها فعالية وحدوية مستمرة تحاول التماهي مع الأهداف العامة.

لا شكَّ أن الكتاب ثريٌّ بالكثير من وجهات النظر والآراء والمقولات المُهمة، لذلك فإنه يُقرأ على مهلٍ لاستيعاب منظوره الفريد.

شارك الصفحة