يعد مجال الفلسفة -فن إبداع المفاهيم- من أخصب المجالات نقلًا عن الآخر والتأثر به، وقد تفاوت التأثر العربي الإسلامي تأثراً متفاوتا على مختلف العصور، فمنذ مراحل الاشتغال الفلسفي الإسلامي وقع الفكر العربي في منزلق الإشكالات الفلسفية وسؤالاتها متأثرا بجميع التحولات الفلسفية التي رصدت عن الثقافة الغربية، وجاءت تلك المراحل بإجمال على النحو الآتي: المرحلة الأولى التي تمحورت حول مبحث الوجود والتي تبحث عن العلل الغائية للموجودات، ومثَل هذه المرحلة سقراط (ت:399ق.م) وأفلاطون (ت:347ق.م) وأرسطوطاليس (ت:322ق.م) الملقب بالمعلم الأول، ثم تلت تلك المرحلة الوسيطة التي مثلتها الفلسفة الإسلامية، ولم تخل الكتابات الفلسفية من تلك الانطباعات التي برزت في المرحلة السابقة لها، ومن أبرز أسماء تلك المرحلة الفارابي (ت:950م) وابن سينا (ت:1037م) والغزالي (ت:1111م) وابن رشد (ت:1198م) ثم نأتي بعد ذلك إلى المرحلة الثانية في القرن السابع عشر وهي ما عرف بعصر النهضة أو الحداثة، وأول من أشعل فتيل هذه المرحلة الفيلسوف ديكارت (ت:1650م) الذي نقل البحث الفلسفي من الوجود إلى الذات، موضحاً أن علل الموجودات تكمن في الذات المفكرة وليس في الوجود نفسه، ولذلك لقب بـ “أبو الفلسفة الحديثة” ثم تلاه بعد ذلك الفيلسوف كانت (ت:1804م) الناقد للعقل المجرد والعملي والذي تبلور على يديه مبحثا المعرفة والأخلاق، وبذلك اكتملت أركان الفلسفة أو السؤالات الكبرى للفلسفة وهي: سؤال الوجود والمعرفة والأخلاق، ثم نصل أخيراً عند المرحلة الثالثة وهي المرحلة الأوسع والتي تكونت فيها العلوم الإنسانية، ألا وهي مرحلة التأويل، ويقصد بها الخروج أو التحرر من الذات المفكرة إلى آفاق أرحب أداتها التأويل، وأبرز أسماء هذه المرحلة ماركس (ت:1883م) ونيتشه (ت:1900م) وفرويد (1939ت:م) وهذه صورة مختزلة لأبرز التحولات الفلسفية التي تؤطر سؤالاتها وطريقة تناولها.
يرصد كتاب الفيلسوف المغربي الدكتور عبد الرحمن -الصادر عام 2014م، الطبعة الثالثة عن المركز الثقافي العربي بالمغرب، وعدد صفحاته 216- اشتباك الفلسفة الغربية مع تحولاتها بالثقافة الإسلامية، والإشكالات العديدة التي نشأت من التعلق بالمنهج الأوربي للفلسفة سؤالًا وتفكيرًا ومنهجًا، وأثر الارتكاز على منطلقات افترقت عنها الثقافة الإسلامية في المجال التداولي.
إن مناقشة هذا الكتاب لقضية الأثر الفلسفي يدعو على نحو راسخ إلى إعادة تثوير الفلسفة وتمحيصها وتقويمها ودفعها إلى مجال عربي إسلامي تداولي، يفصلها عن الفلسفة الأجنبية، كما يمثّل ببعض الممارسات الفلسفية الخاطئة التي تؤدي إلى الجمود في حين أن الاشتغال الحقيقي للفلسفة لا ينبغي أن يكون إلا في ضوء المنجزات اللسانية المرتبطة بالقومية والمجال التداولي.
يتضمن الكتاب مقدمة، وستة فصول، وخاتمة يعرض فيها المؤلف شبهة قد تتولد بعد قراءة الكتاب، وهي الدعوة إلى صناعة فلسفة عربية غير إسلامية، كون القومية والإسلام ضدان لا يجتمعان، وقد سمى المؤلف هذه الشبهة (شبهة الفكر الفلسفي الكبرى) وقد تناول المؤلف ردها بحسب ما جاء في النظم الكريم من استعمال مفهوم القومية.
نقد السؤال الفلسفي:
يكشف طه عبد الرحمن عن حقيقة الأسئلة الفلسفية التي تعد ركيزة أساسية من ركائز الفلسفة بغية تجاوزها والخروج من مآلات الحداثة، فالسؤال الفلسفي القديم اليوناني ارتكز على فحص الدعوى بالأسئلة، بقصد الوقوف على حدود العقل، في حين ارتكز السؤال الفلسفي الأوربي الحديث على النقد متوسلاً بمعايير العقل وحدها، جاعلاً العقل نفسه موضع تساؤل، وهذا التفريق الدقيق من قبل المؤلف يوقفنا على الفرق بين المنطق الصوري القديم الذي عُني بالعمليات العقلية التي تؤدي إلى تحصيل التصورات والتصديقات، والمنطق المادي الذي يقوم على حقائق الواقع، وبذلك فإن سؤال الفحص يعنى بالشكل والصورة، بخلاف سؤال النقد الذي يعنى بمضمون الفكر ومادته، وعلى ذلك التصور يتجاوز المؤلف هذين الشكلين من السؤال إلى شكل أحدث وهو “السؤال المسؤول” وهو سؤال يسأل عن وضعه كسؤال بقدر ما يسأل عن موضوعه، وبذلك يصحح السؤال من السؤالية إلى المسوؤلية والتي بدورها أن تجعل الفلسفة أخلاقاً يقوم الفيلسوف على تطبيقها من منطلق المسؤولية وليس التنظير كما في السؤالية، فالفيلسوف العربي الجديد ليس هو الذي يخوض في أي سؤال اتفق ولا ذاك الذي يخوض في سؤال خاض فيه غيره تقليدا له، إنما هو الذي لا يسأل إلا السؤال الذي يلزمه وضعه ويلزمه الجواب عنه، أي عليه مسؤولية وضعه ومسؤولية الجواب عنه، ولا لزوم للسؤال الفلسفي ولا للجواب عنه في وضعية هذا المتفلسف إلا حيث تتعين الحاجة إلى تحرير القول الفلسفي العربي وفتح آفاق الإبداع فيه.
الفلسفة قومية لا كونية:
بالأدلة والبراهين وبالارتباطات المتعددة الجوانب ينقض المؤلف دعوى كونية الفلسفة، وأولى هذه الارتباطات، ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي الاجتماعي، وهو ارتباط بدهي، فكل فلسفة نتاج السياق التاريخي والاجتماعي المخصوص، وتقديم البدهي على غيره في الحجج ترتيب منطقي وأولى أن يقدم، والارتباط الثاني هو ارتباط الفلسفة بالسياق اللغوي الأدبي واللغة هي الوعاء للفلسفة والمحل لها ولا بد أن يتأثر الحال بالمحل، أما الحجة الثالثة هو الاختلاف الفكري بين الفلاسفة داخل الأمة الواحدة حتى أضحت الفجوة داخل ذلك الاختلاف تصدّر الفلسفة بأسماء الفلاسفة، كما الأرسطية والكانطية و …، فإذا كان هذا داخل أمة واحدة فكيف يكون الحال بين سائر الأمم؟ فلا شك أن ذلك الاختلاف سيكون أكبر من أن يقارب، والحجة الرابعة هو التصنيف القومي للفلسفة، كما في الفلسفة الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، وأن هذا التقسيم هو تقسيم في جوهر هذه الفلسفات نتيجة تأثرها بالأفكار القومية.
طاقات اللغة في إبداع المفاهيم الفلسفية:
كثيرا ما يولي طه عبد الرحمن أهمية بالغة في تناول المصطلحات والمفاهيم ويفجر طاقاتها الكامنة فيها، منطلقاً من الجذور اللغوية ثم المعاني المنبثقة من السياق التداولي، يقول المؤلف في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث: “لا يخفى على أحد أن اللغة أداة من أقوى الأدوات التي يستخدمها المتكلم لتبليغ مقاصده إلى المخاطب وللتأثير فيه بحسب هذه المقاصد؛ وبقدر ما تكون هذه الأسباب مألوفة للمخاطب وموصولة بزاده من الممارسة اللغوية فهماً وعملاً يكون التبليغ أقيد والتأثير أشد“. وعلى هذا الأساس نجده يطبق ذلك على مصطلح القومية ويوضح الخواص والميزات له، فيذكر له ثلاث خصائص أساسية هي: القيام والقِوام والقَومة، فالقيام مشتق من القيام التي فيها النهوض والحركة والعمل، وهي ضد القعود وطبيعته السكون، وبذلك يكون القوم بناء على ما سبق، أنه اسم جمع يدل لا على مجرد الجماعة إنما الجماعة التي لا تفتأ أن تتحرك وتعمل، أما القوام فهو ما ينبغي أن يتقوم عليه الأمر وليس أن يكون كيف كان، وعلى ذلك فإن القومية الحية هي جملة من القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع، أما القومة فهي عمل الجهاد والاجتهاد الذي يقوم به القوم، وبذلك يتضح أن القومية الحية هي اجتماع القوم على دوام العمل وفق القيم العليا وأن القومة هي بلوغ العمل القيمي الغاية وشموله لجميع أفراد القوم، ومن خلال هذه الرؤية يحقق المؤلف مبتغاه بمكنة لغوية فكرية، بأن الفلسفة العالمية المفروضة لا تندفع إلا بمثل هذه القومية الحية.
وإذا كان هذا دأب المؤلف في عرضه للمصطلحات فإنه يشدد النظر على المفاهيم المنقولة وأنه يجب التفريق بين ما هو عبارة عقلية تعم الغربيين وما عداهم، فيفيدهم النظر والبناء عليها، وما هو إشارة خيالية تخص الغربيين من دون سواهم، فلا يفيد الاشتغال بها إلا على سبيل الاطلاع ما يختص به غيرهم، مما أدى ذلك إلى الوقوع في التجميد للطاقة الدلالية للمفاهيم.
ويقسم المؤلف المفاهيم الفلسفية إلى قسمين: مفاهيم مأصولة أو أصلية، ومفاهيم منقولة، والمنقولة هي التي تؤول إلى الجمود والتكلس، كونها لا تتأسس على معطيات موضوعية ولأنها حاملة لخصوصية المجال الأجنبي التي ولدت منه، مما يترتب عليه أنها تأتينا مسلوخة من القيم والمعايير، ولا أدل على ذلك من مصطلح الحداثة، فجموده يكمن أن من تسموا بالحداثيين من مثقفي العرب لا ينفكون يرددون بشأنه في سياقه العربي الجديد ما علموا من أوصافه وأطواره في مجاله الأصلي، حتى زعموا أنه ينبغي أن يتحقق في هذا السياق العربي بنفس الأسباب التاريخية التي تحقق بها في أصله الأوربي، لتسليمهم بمبدأ منقول هو الآخر، وهو مبدأ التاريخ الإنساني الكلي، وإدراج هذا المفهوم في فضائنا الفلسفي الخاص كان يستلزم إخضاعه للقيم العملية التي تميز المجال التداولي العربي.
والذي ينبغي الأخذ بالمدلول اللغوي للمفهوم الفلسفي العربي وبناء المدلول الاصطلاحي عليه، وضعاً وظيفياً، فالفيلسوف الحي لا يكتفي بأن يجد وجوها من المناسبة بين المدلولين، حتى يجلب المشروعية لاستعمال اللفظ الذي استعمله لهذا المفهوم، بل يدخل في إنشاء فلسفي حوله من خلال حقله الدلالي، مقارنا ومفرعا وموسعا، والخروج عن هذه الأعراف التداولية يوقع في عقم التعريفات للفلسفة من كون جانبها التقريري قد لا يستند إلى الجانب التمثيلي أو يستند إلى جانت تمثيلي غريب عن المجال التداولي للمتلقي؛ وفي المقابل يأتي إنتاج التعريفات في الفلسفية الحية من كون جانبها التقريري يستند بالضرورة إلى الجانب التمثيلي أو ينتقل عن جانبه التمثيلي الأصلي الذي لا يوافق المجال التداولي للمتلقي إلى تمثيل يوافق هذا المجال.
الإبداع الفلسفي:
على عادة المؤلف نراه يتناول المصطلح من عدة نواحي؛ وفي ذلك تثوير للفكرة وإغنائها وإذكاء معانيها وتزكية حدودها، فعند تناوله لتعريف الإبداع نجده يلامس مرادفاته وما يقابلها، فمرادف الإبداع الابتكار ومقابله الاحتذاء، والاختراع مقابله الاقتباس، والانشاء مقابله الانتحال، وبهذا يكون أدنى درجات الإبداع الابتكار ثم الاختراع ثم الإنشاء، وتعليل هذا الترتيب، أن الابتكار إبداع صورة، والاختراع إبداع مادة، والإنشاء إبداع للصورة أو للمادة مع صنعة، والإبداع بصنعة أقوى من إبداع بلا صنعة، والإبداع كما هو معلوم مرهون بانتفاء الموانع، وأشد تلك الموانع الأساطير ولكل من هذه العوامل مجموعة مخصوصة من الأساطير المتفرغة من الأسطورة الأصلية تكون مانعاً.
فالابتكار يحصل إضفاء شيء جديد على معلوم سابقاً، ومانع الابتكار هو التقديس المنقول من ترجمة القول الفلسفي الأجنبي على صورته الأصلية كما ينقل النص الديني على وجهه، والخروج من هذا التقديس هو التصرف في النص المنقول وفق المجال التداولي العربي، فمدار التفلسف ليس على الرواية إنما على الدراية.
أما الاختراع الذي يحصل من لا شيء أو من غير معطى سابق، وعلى هذا يترتب أن الاختراع هو بمنزلة دعوة إلى خرق حدود طاقة الإنسان وإلى خرق طبائع الأشياء، بالمختصر هو تحقيق ما يشبه المعجزة، وعلى ما تقدم فإن مانع الاختراع هو الإعجاز، ومدخل الإعجاز عند العربي الأول أتى من الافتنان بما نسج حول ظهور الفلسفة من أخبار وأساطير عجيبة منسوبة إلى فعل الآلهة بتوسط الكهنة والمتنبئين، وهذا الطريق في تلقي الفلسفة لم يكن بطريق العقل الخالص كما كان ينبغي، وإنما بطريق متغلغل في الأسطورة، إضافة إلى أنها جاءت في شكل نموذج فكري يختلف عما عهده العرب، إذ تنبني هذه الفلسفة من مقدمات ونتائج في تسلسل منطقي محكم، بينما كانت حكمة العرب عبارة عن أقوال متفرقة لا تقديم ظاهر فيها ولا استنتاج صارم، فهالهم الفرق بين هذين المسلكين، وطريق الخروج من التصور الإعجازي المنسوج حول الفلسفة هو أن ينطلق المتفلسف العربي من معطيات القول الطبيعي، أشكالاً ومضامين، ألفاظاً وتراكيب، ثم يشتغل عليها، استشكالًا واستدلالًا، للارتقاء بها من عالم التجربة المباشرة التي تدور فيه إلى عالم الفكرة غير المباشرة الذي تجد فيه دلالاتها العقلية، وإذا تمكن من ذلك فيكون لدى المتفلسف العربي قولان: عربي وأجنبي، وهو بهذا لا يشعر أن الغير يفضله في قدرته أو في قوله.
أما الإنشاء الذي هو إبداع فيه صنعة والصنعة هنا إخراج القول الفلسفي في أشكال بلاغية لا يستغنى عنها بغيرها، وعند استبدال هذا الشكل يخرج القول إلى غرض آخر، وبذلك يكون المانع الذي ينبغي رفعه لحصول الإنشاء هو بالذات هذا الاستقلال عن الشكل، ويكون ادعاء استقلال المعنى العقلي عن الشكل اللغوي مؤسساً على اعتقاد أسطوري ما انفك عنه عبر توالي طبقات الفلاسفة، وقد برزت هذه الأسطورة عند العرب في مظهرين: أسبقية المعنى على اللفظ، وأسبقية النطق على الرسم، ومقاومة عائق الاستقلال الذي تتولد منه أساطير أسبقية المعنى على اللفظ وأسبقية النطق على الرسم، ولا مقاومة لهذا العائق إلا عن طريق العمل بمبدأ كتابية القول الفلسفي الذي يجعل المتفلسف يحد اللفظ بالمعنى ويحد المعنى باللفظ كما يجعله يعامل الشكل البلاغي في المكتوب معاملته له في المنطوق.