مقدمة:
كان العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله- في زيارة علاجية للبنان لما وقع بين يديه كتاب ديل كارنيجي “دع القلق وأبدأ الحياة”، فأُعجب به وقال أنه “رجل منصف”.
وقد ألف العلامة السعدي على ضوء هذا الكتاب رسالة صغيرة الحجم كبيرة المعنى عظيمة النفع قد سماها ” الوسائل المفيدة للحياة السعيدة”.
ومن الأسباب التي عقد لها العلامة السعدي -رحمه الله- فصلاً في دفع القلق وتحصيل السعادة سماه: الاشتغال بعلم من العلوم النافعة.
وقد كنت قيدت نصوصاً وافقت هذا المعنى على فترات كلما تسور التردد والملل على الحزم، وهذه منها:
التسلية بالعلم عن الفقر:
جاء في ترجمة أبي الوليد الباجي: “الإمام، العلامة، الحافظ، ذو الفنون، القاضي، أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، الأندلسي، القرطبي، الباجي، الذهبي، صاحب التصانيف، أصله من مدينة بطليوس، فتحول جده إلى باجة- بليدة بقرب إشبيلية – فنسب إليها، وما هو من باجة المدينة التي بإيفريقية.
ولد أبو الوليد: في سنة ثلاث وأربع مئة”.
وقد عانى رحمه الله في طريق الطلب كما يقول فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه مفهوم العالمية: “الفقر وشظف العيش، وقاسى لواعج الحاجة والحرمان في رحلته إلى المشرق ببغداد، وكذلك بعد عودته إلى موطنه الأصلي بالأندلس؛ فاشتغل بيده حيناً واستأجر نفسه حيناً آخر بل اضطر للتكسب بشعره أحياناً أخرى إلى أن اكتشف الناس تفوقه العلمي ونبوغه الفقهي فكان من أمره ما كان وهرع إليه العلماء والأمراء، ثم صار ( ذا الوزارتين ) في الأندلس… حتى جاء بمصنفات في الفقه، والحديث، والأصول، والجدل، والمناظرة، ما لا يجود الزمان بمثله، ولا يتمخض التاريخ بكفئه”.
ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة وجرت بينهما مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: “تعذرني، فإن أكثر مطالعتي كانت على سُرج الحُرَّاس”.
توفي رحمه الله عام ٤٧٤هـ.
التسلية بالعلم عن المرض:
شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ترجم له الحافظ البزار – رحمه الله- ترجمة حسنة مختصرة سماها ” الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.”
قال عنه الإمام ابن القيم-رحمه الله-:
“وحدثني شيخنا [ابن تيمية] قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض.
فقلت: لا أصبر عن ذلك، وأنا أُحاكمك إلى علمك:
أليست النفسُ إذا فرحت وسُرّتْ قويت الطبيعة، فدفعت المرض؟ فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تُسَرِّ بالعلم فتقوى به الطبيعة، فأجد راحةً.
فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا. أو كما قال”.
توفي رحمه الله عام ٧٢٨هـ.
التسلية بالعلم عن الأهل والوطن:
محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي: علامة عصره في اللغة والأدب.
قال عنه الأديب طه حسين :
“كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريباً للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سنداً ومتنا عن ظهر غيب”.
أخذ العلم في موريتانيا عن أبيه وبعض أقاربه، كما أشار في حماسته:
“غذاني بدر العلم أرأف والدٍ
وأرحم أم لم تُبِتني على غم
ولم يفطماني عنه حتى رويته
عن الأب ثم الأخ والخال والأم.
وعن غيرهم من كل حبر سيمدع
تقي نقي لا عيي ولا فدم”.
ثم ارتحل إلى المشرق وحج، وصار يتردد في الاقامة بين مكة والمدينة إلى أن قصد القسطنطينية، فأكرمه السلطان عبد الحميد وعرف قدره وأوفده ١٣٠٤هـ إلى باريس ولندن والأندلس للاطلاع على ما في خزانتها من الكتب العربية النادرة.
وقد كتب لنفسه رحلة علمية أسماها “الحماسة السَّنِيّة الكاملة المَزِيّة فى الرحلة العلمية الشنقيطية التُّركزية”، ضمنها كما يقول أحمد تيمور باشا: “شيئاً من أخباره وقصائده وردوده على من خالفه في بعض المسائل العلمية”، منها قصيدة في مدح العلم والتحفيز له بدأها بقوله:
“ولـمَّا طعمتُ لذَّة العلمِ صيَّرتْ
سواها من اللَّذات عندي كالسُّمِّ
ولـمَّا عَشِقتُ العلمَ عشقَ درايةٍ
سلوتُ عن الأوطان والأهل والخِلْمِ
ولـمَّا علمتُ ما علمتُ بغربنا
ترحَّلتَ نحو الشرقِ بالحزم والعزمِ
ولم يَثْنِ عزمي نهيُ حسناءَ غادةٍ
شبيهةُ جُمْلٍ بل بُثَينَةَ بل نُعْمِ
ولم يُعْمِ قلبي حبُّ عذراءَ كاعبٍ
وحبُّ العذارى قد يُصِمُّ وقد يُعمِي
رحلتُ لجمع العلم والكتب ذاهبًا
إلى الله أبغي بسطةَ العلمِ في جسمي
وأمعنتُ في إدراك ما رُمتُ نيلَهُ
فأدركتُ ما أدركتُ بالصَّبرِ والحزمِ
وصرتُ بما أدركتُ من ذَينِ هاديًا
بشمسٍ على شمسٍ ونجمٍ على نجمِ”.
توفي رحمه الله ١٣٢٢هـ.
التسلية بالعلم عن الشقاء النفسي:
مصطفى لطفي المنفلوطي أحد أعلام الأدب العربي في عصر النهضة، يقول عنه أحمد حسن الزيات: “وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وفي أمريكا، قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنوناً من القول، وضروباً من الفن، لا نعرفها في أدب العرب، ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها، كما أجمنا أساليب المقامات، من الألفاظ المسرودة، والجمل الجوف، والصناعة السمجة، والمعاني الغثة… وحينذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه [صحيفة] المؤيد، إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النعيم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد، مالم يرد في فقرات الجاحظ وسجعات البديع”.
من مؤلفاته: النظرات، العبرات، في سبيل التاج، الشاعر، ماجدولين، الفضيلة.
نشأ المنفلوطي في بيت علم وقضاء لكن كما يقول محمد أبو الأنوار في دراسته الرائدة عن المنفلوطي: “لكن الأمور لم تستقم بين والده وأمه، فقد طلقت هذي الأم، وتُرى إلى أي حدٍ أثرت هذه الحادثة على نفس حساسة رقيقة تبكي للشيء تتخيله وتئن حتى للوهم يمر بها؟ الذي لا شك فيه أن هذا السبب لعب مبكراً دوره في تعميق إحساس المنفلوطي ببؤس الحياة، وأقنعه أن الخير فيها عارض ومن أجل هذا أحس مأساة الآخرين”.
يقول المنفلوطي: وكنت إنساناً بائساً لم يترك الدهر سهماً من سهامه النافذة لم يرمني به ولا جرعة من كؤوس مصائبه ورزاياه لم يجرعني إياها فقد ذقت الذل أحياناً والجوع أياماً، والفقر أعواماً، ولقيت من بأساء الحياة وضرائها مالم يلق بشر”.
ويذكر أثر تعلقه بالأدب والتسلية به: “فكنت أجد في نفسي من اللذة والغبطة بذلك كله ما لا يقوم به عندي كل ما ينعم به الناعمون من رغد في العيش ورخاء، حتى ظننت أن الله سبحانه وتعالى قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه لما علم أنه لم يكتب لي في لوح مقاديره ما كتبه للسعداء والمجدودين من عباده من مال أو جاهٍ أعيش في ظله وأنعم بثمرته، زخرف لي هذا الجمال الخيالي البريء من الريبة والإثم، وزوره لي تزويراً بديعاً، ووضع لي فيه من الملاذ والمحاسن مالم يضع لغيري، رحمةً لي وإرعاءً علي أن أهلك أو يهلك لبي بين اليأس القاتل والرجاء الكاذب”.
توفي رحمه الله ١٣٤٢هـ ١٩٢٤م.
التسلية به عن الإعاقة الحركية:
الإمام العلامة محمد البشير الابراهيمي، ولد عام 1306هـ الموافق ١٨٨٩م.
قام على تربيته وتعليمه عمه العلامة محمد المكي الابراهيمي، ولم يفارق تعلمه في بيت أسرته.
كانت له حافظة عجيبة وعرف عمه كيف يصرفها فيه، “فحفظ القرآن حفظاً متنقنا وهو في الثامنة، وحفظ معه في تلك السن، ألفية ابن مالك وتلخيص المفتاح، وما بلغ العاشرة حتى كان يحفظ ألفيتي العراقي في الأثر والسير
ونظم الدول لابن الخطيب ومعظم رسائله المجموعة في كتابه ريحانه الكتاب، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كتاب المشرق كالصابي والبديع، مع حفظ المعلقات والمفضليات وشعر المتنبي كله وكثير من الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهر كثيراً من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظ كثيراً من كتب اللغة كاملة كالإصلاح والفصيح، ومن كتب الأدب كالكامل والبيان وأدب الكاتب، ولقد حفظ وهو في تلك السن أسماء الرجال الذين ترجم لهم نفح الطيب وأخبارهم وكثيراً من أشعارهم.
ويقول كنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد ممّا يحقق ما نقرأه من سلفنا من غرائب الحفظ”.
ويقول عنه الشيخ خبيب الواضحي في مناقشات آثاره: “كان الإبراهيميُّ فيلسوفًا في الحياة، هو وابنُ باديس، وكانا على درجةٍ من الوعي، والبصيرةِ بطرقِ الإصلاحِ، عاليةٍ، وعلى همّةٍ في ذلك ماضيةٍ، وكذلك كان أبناءُ ذلك الجيلِ، شحَذتْهم إكراهاتُ الزّمان، ونجَّذَهم ضيقُ الأحوال، فانتهوا إلى أشياءَ نحن اليومَ نَلَغُ فيها وما زلنا لا نفهمُها”.
يقول الإبراهيمي رحمه الله: “ولما بلغت التاسعة أصيبت رجلي اليسرى بمرض، وكان الإهمال والبعد عن التطبيب المنظم أثر في إصابتي بعاهة العرج في رجلي، وقد أنساني ألمها والحزن عليها ما كنت منكباً عليه من التهام كتب كاملة بالحفظ فكان لي في ذلك أعظم سلوى عن تلك العاهة”.
توفي رحمه الله في ١٣٨٥هـ الموافق ١٩٦٥م
التسلية به عن نكبة الحروب والنزاعات:
العلامة محمد الله دراز -رحمه الله- من خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين.
ولد رحمه الله يوم ١٨ نوفمبر ١٨٩٤م في محافظة (كفر الشيخ) المصرية، ونشأ في أسرة ذات دين وعلم وخلق.
كان والده الشيخ عبدالله دراز (ت:١٩٣٢م) فهو من علماء الأزهر المبرزين في علم الأصول وفقه اللغة، وهو شارح كتاب الموافقات للإمام الشاطبي.
حفظ دراز القرآن وهو فتى يافع لما يكمل بعد العقد الأول من سنيه، ثم انتقل إلى الاسكندرية عام ١٩٠٥م حينما كلفَ الإمام محمد عبده والدَه بالإشراف على تأسيس معهد أزهري هناك، والتحق به دراز وحصل الشهادة الابتدائية والعالمية متفوقاً على دفعته.
وكانت أول تجربة مهنية له هي في التدريس الذي بدأه في المعهد ذاته فور تخرجه من عام ١٩١٦م وهو لا يزال في أوائل العشرينات من عمره، وكان يدرس في المساء الفرنسية حتى أتقنها في ثلاث سنوات.
حصل على منحة دراسية بجامعة السوربون، درس خلالها بمثابرة عيون الفلسفة الغربية، مقارنًا لها بما حصّله من دراسة التراث الإسلامي.
وكانت أطروحته لشهادة الدكتوراة بعنوان “أخلاق القرآن”، وأُعجب بها كبار المستشرقين مثل لويس ماسينيون، وبروفنسال.
كان عزيز النفس لم تثنه أهوال الحرب العالمية الثانية وخضوع فرنسا للاحتلال النازي من متابعة دراسته بكل مثابرة، ويحكي نجله محسن أن أباه “رفض مراراً عروض من السفارة المصرية بباريس بإعادته وأسرته إلى مصر خوفاً على حياتهم، فكان رده دائماً “إن مهمتي لم تنته بعد” ولم يقبل العودة إلى مصر قبل نهاية دراسته، وإن كان قد اضطر إلى إرسال أسرته بعد إصابة زوجته في قصف أمريكي لفرنسا المحتلة يوم ٨ يونيو ١٩٤٨م”.
توفي رحمه الله بمدينة لاهور الباكستانية عام ١٩٨٥م.
التسلية به عن الأرق:
هل سمعت بـصامويل أنرماير؟ يصفه ديل كارنيجي بأنه “محام ذائع الصيت، ومفخرة جامعة نيويورك، لما بلغ الحادية والعشرين كان دخله السنوي يقدر بخمسة وسبعين ألفاً من الدولارات، وفي عام ١٩٣١م تقاضى في قضية واحدة مليوناً كاملاً من الدولارات وقد عُمّر هذا الرجل حتى بلغ الحادية والثمانين”.
لما التحق بالجامعة كان يشكو من علتين: الربو والأرق،” ولم يكن يلوح له أن هاتين العلتين ستفارقانه، من أجل ذلك عوّل صمويل على استخلاص ما عساه يكمن من الخير في علته، لقد كان إذا أراد النوم فاستعصى عليه لم يلح في الطلب، بل يقوم إلى مكتبته وينكب على الدراسة، فماذا كانت النتيجة؟ لقد تخرج حائزاً على مرتبة الشرف ولازمه القلق حتى بعد أن تخرج في الجامعة ومارس المحاماة ولكنه لم يمتثل للقلق مطلقاً، وعلى الرغم من ضآلة حظه من النوم كان محتفظاً بصحته وظل قادراً على بذل الجهد، بل كان يبذل مجهوداً يفوق ما يبذله أقرانه من المحامين، ولا عجب فقد كان يعمل بينما زملاؤه نيام”.
خاتمة:
ظلت هذه الحقائق كرامة “يشترك فيها المؤمن وغيره” كما يقول العلامة السعدي رحمه الله، وقد حاول علم النفس تفسيرها كما ينقل ديل كارنيجي بأنه “من المحال لأي ذهن بشري، مهما يكن خارقاً أن ينشغل بأكثر من أمر واحد في وقت واحد”، لذا يقول كارنيجي نفسه بأن “الناس في المكتبات مستغرقون عادة في المطالعة والبحث، فلا يتوفر لديهم وقت للقلق”.
لا تقبل وتسلّم بكل ما هو مذكور في النص، بل ينبغي أن تفحص وتناقش