تلاشي القراءة العميقة: مراجعة لكتاب أيها القارئ عُد إلى وطنك

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مشرف على مبادرات قرائية

يأخذنا كتاب “أيها القارئ: عُد إلى وطنك” في رحلة استقصائية استثنائية، تجمع بين التحليل العلمي الدقيق والتأمل الإنساني العميق. الكتاب يقع في 391 صفحة وترجمه إلى العربية شوق العنزي وهو من إصدارت دار أدب للنشر والتوزيع عام 2021م.

صدر هذا العمل عن عالمة الأعصاب الإدراكية والباحثة في مجال القراءة واللغة ماريان وولف، التي عُرفت بأبحاثها حول كيفية تشكّل الدوائر العصبية للقراءة في الدماغ الإنساني، فضلاً عن كتاباتها السابقة مثلبروست والحبار” (Proust and the Squid) التي استكشفت فيها أصول القراءة وتطورها.

في هذا الكتاب، تضع وولف بين أيدينا خلاصة تجربتها الأكاديمية والبحثية، مستندة إلى سنوات طويلة من دراسة التأثيرات المعرفية والثقافية لتكنولوجيا المعلومات على النشاط الذهني الإنساني.

منذ الرسالة الأولى، يكشف الكتاب عن رسالته الجوهرية: الحث على التفكير النقدي في أثر التحول الرقمي على قدراتنا الذهنية والقرائية. تُقرّ المؤلفة بأن القراءة ليست مجرد مهارة تقنية لفك الرموز اللغوية، بل هي عملية معقدة ومتعددة الأبعاد تتشكل فيها علاقات عصبية تتجاوز مجرد التعرف على الكلمات والجمل، لتصل إلى فهم المعاني المعقدة، والتحليل النقدي، والتأمل الأخلاقي، وبناء القدرة على التعاطف الإنساني. في عالم تطغى فيه الشاشات والرسائل النصية والإشعارات القصيرة على الوعي الجمعي، تطرح وولف تساؤلاً مصيرياً: هل ما زالت عقولنا قادرة على الحفاظ على نمط “القراءة العميقة” الذي شكّل لقرون أسس المعرفة والابتكار والفهم الثقافي؟

هذا الانشغال بشؤون القراءة لا ينبع من حنين رومانسي إلى عالم ما قبل الرقمنة، بل من وعي علمي بأن أشكال التعلم والتفكير والتفاعل الاجتماعي تتغيّر بتحوّل وسائط الاتصال. فالكتاب يتجاوز مجرد مرافعة لصالح الكتاب الورقي التقليدي، ليقدم رؤية علمية لحقيقة التغيّرات الهيكلية التي تحدث في الدماغ عندما نتعرض لزخم معلوماتي لا يتيح لنا التنفس القرائي العميق. وتستند وولف في ذلك إلى عدد كبير من الدراسات التجريبية والنفسية والعصبية، لتبيان كيف يعاد تشكيل الوصلات الدماغية تحت وطأة الاستخدام المكثف للتكنولوجيا. ليس الغرض من الطرح تحريض القارئ على نبذ التكنولوجيا، بل التأكيد على ضرورة الموازنة بين الأدوات الرقمية والعودة إلى “وطن” القراءة العميقة، ذلك الوطن الذي يتيح لنا استكشاف المعاني وتجسيد الأفكار والتأمل في التجارب الإنسانية.

يعطي الكتاب بعده الإنساني وزناً كبيراً لدور القراءة في تشكل الهوية الثقافية والفكرية. فتاريخياً، لم تكن القراءة مجرّد وسيلة لنقل المعرفة، بل كانت فضاءً للتأمل في النصوص الأدبية والفلسفية، وميداناً لاحتضان أفكار جديدة، وتطوير حس نقدي مستقل. تذكّرنا وولف بأن القراءة غرست عبر القرون جذوراً عميقة في بنية المجتمع، وأسهمت في صقل الذاكرة الجماعية، وتحرير الفرد من قيود العاجل والمبتذل. وفي عالم من الإلهاءات البصرية والتدفق الفوري للمعلومات، يخشى الكتاب فقدان هذه الجذور. من هنا تأتي أهمية هذا العمل الذي يمزج بين العلم والسلوك الاجتماعي، في محاولة لصياغة رؤية متكاملة حول مستقبل القراءة.

الأبعاد العصبية والمعرفية للقراءة:

تستهلّ وولف كتابها في الرسائل الاولى بتمهيد علمي حول البنية العصبية للدماغ الإنساني عند القراءة. هنا تكمن إحدى أهم أطروحاتها: لم يُولد الدماغ البشري “مهيأً بيولوجياً” للقراءة، إذ لم تظهر الكتابة على مسرح الحضارة الإنسانية إلا منذ بضعة آلاف من السنين، وهي فترة قصيرة جداً مقارنة بعمر التطور البشري. على عكس مهارات كالنطق وفهم اللغة الشفهية، التي ترتكز على دوائر عصبية عريقة، تتكون القدرة على القراءة عبر إعادة توظيف دوائر عصبية مُعدّة أصلاً للتعرف البصري، والربط بين الرموز والصوت والمعنى. من هذا المنطلق، تؤكد المؤلفة أن القراءة ليست عملية غريزية، بل مهارة مكتسبة تتشكل عبر التعلم التدريجي، وتكتسب عمقها من خلال التمرين والممارسة والتفاعل مع نصوص متنوعة.

إن عملية “القراءة العميقة” التي تُشير إليها وولف ليست مجرد التعرف على الكلمات وفهم معناها السطحي، بل هي نمط تفكير يتضمن التحليل، والاستنتاج، والتركيب، والتأمل. عندما نقرأ نصاً أدبياً معقداً أو مقالة فلسفية، فإن الدماغ ينشط سلاسل عصبية متعددة، تربط بين الذاكرة العاملة، والمعرفة السابقة، والخيال، والوجدان. إن هذه العملية المعقدة تتيح لنا إعادة تشكيل الأفكار، واستخلاص دلالات جديدة، وتحدي القناعات المسبقة. بعبارة أخرى، القراءة العميقة ليست استهلاكاً سلبياً للمعلومات، بل فعالية ذهنية خلاقة تتجاوز الورق والحبر لتصبح جزءاً من هوية القارئ الفكرية.

وعند الانتقال إلى مناقشة التطورات التكنولوجية، تبرز خطورة الانزلاق نحو القراءة السطحية. في ظل الشاشات المتعددة، والروابط التشعبية، والتدفق المتواصل للمحتوى الرقمي، تتكيف عقولنا تدريجياً مع نمط جديد من القراءة يقوم على التنقل السريع بين معلومات مشتتة، وهضم كميات كبيرة من المعطيات دون تمحيص. هذا النمط الجديد يُغيّر تكوين وصلات الدماغ، ويضعف القدرة على التركيز الطويل، ويقلل من استيعاب المعاني المركّبة. تشير وولف إلى أن هذه الظاهرة ليست نظرية فحسب، بل أصبحت ملموسة في الأجيال الصاعدة التي تجد صعوبة في الانغماس الكامل في نص طويل أو معقد.

تستخدم المؤلفة مجموعة من الأدلة العلمية والاختبارات المعرفية التي أُجريت على طلاب الجامعات والمتعلمين الرقميين. تكشف هذه الاختبارات عن تراجع القدرة على فهم النصوص المعقدة، وصعوبة في ربط المعاني المجردة، واضمحلال في الحس النقدي لدى القارئ المُنهك من “التقليب” الرقمي. من خلال هذه المعطيات، تتبلور حجة وولف في أن القراءة ليست مهارة ثابتة، بل هي خاضعة لتأثير الوسيط التقني وللسياق الثقافي. وهذه الفكرة تمهّد الطريق نحو مناقشة أعمق حول معنى “القراءة المعاصرة” وعلاقتها بالهوية البشرية.

تحديات الرقمنة وتأثيرها على القدرة القرائية:

ينتقل الكتاب في مرحلة لاحقة إلى تحليل التأثيرات السلبية الناجمة عن الاعتماد المتزايد على الوسائط الرقمية، مع التحوّل من صفحات الكتب إلى شاشات الحواسيب والهواتف الذكية والأجهزة اللوحية. تنطلق وولف من مفهوم “اقتصاد الانتباه”، لتوضيح كيفية تسليع الانتباه الإنساني وتحويله إلى مورد نادر يتصارع عليه المسوّقون ومصممو التطبيقات، ممن يهدفون إلى إبقاء المستخدم في حالة يقظة سطحية مستمرة، دون منحه فرصة للغوص في العمق. هذا النظام الاقتصادي-التكنولوجي يخلق بيئة معلوماتية مبنية على التقلب السريع للمحتوى، وانتقال مُربِك بين النصوص والصور ومقاطع الفيديو، مما يقوّض ركائز التركيز والتمعّن.

تشير الدراسات التي توردها وولف إلى أن الإدمان على الشاشات الإلكترونية يخلق أنماطاً جديدة من العادات المعرفية. فبدلاً من التمهل أمام فقرة معقدة، أو إعادة قراءة جملة لفهم معناها، بات القارئ الرقمي يميل إلى التقدّم بسرعة، مستسلماً لإغراء الانتقال إلى صفحة أخرى أو نافذة أخرى أو رسالة جديدة. هذا السلوك يحد من قدرة الدماغ على بناء الوصلات المعرفية المتينة التي تميّز القارئ العميق. وبالتالي، تتراجع قدرة الإنسان على تقييم المعلومات نقدياً، وعلى تمييز الحقيقة من الزيف، وعلى بناء تصوّر شمولي للمواضيع.

ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذا التحول لا يؤثر على مجرد عادات القراءة، بل يمتد إلى بنية الدماغ نفسها. الدماغ، بحسب ما توضحه وولف، مرن جداً، إذ يُعيد تشكيل دوائره العصبية باستمرار تبعاً لأنماط السلوك. ومع الزمن، يحلّ نمط القراءة السطحية محل البنى العصبية التي دعمها التدريب على القراءة المتأنية. بذلك، نصبح أقل قدرة على فهم النصوص الأدبية العميقة، وأقل ميلاً لقراءة الأعمال الفكرية المعقدة التي تتطلب تركيزاً عالياً. يفقد القارئ المتأثر بالرقمنة بعض مهارات التحليل والاستدلال، كما قد يتضاءل حسّه الأخلاقي والجمالي المنبثق من فهم السياقات الثقافية والتاريخية التي تغذي النص.

إن هذا الواقع يحمل تبعات اجتماعية وتعليمية وثقافية. في عالم عربي يعاني أصلاً من تحديات متعلقة بانتشار القراءة العميقة وضعف مستوى الإقبال على الدراسات النقدية، قد يؤدي تفاقم مشكلة القراءة السطحية إلى المزيد من الابتعاد عن التراث الفكري والإنساني. فالتكنولوجيا، رغم أنها تفتح آفاقاً رحبة للوصول إلى المعلومات، قد تُفاقم مشكلة سطحية الفهم إذا لم نكن حذرين. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن الحلول التي يمكن اتخاذها للحفاظ على المهارات القرائية العميقة، وعن الدور الذي يجب أن يلعبه الأهل والمعلمون وصنّاع السياسات الثقافية في هذا الصدد.

استراتيجيات استعادة القراءة العميقة:

يأتي الجزء الأهم من الكتاب عندما تتوجه وولف نحو طرح الاستراتيجيات العملية والنفسية والمعرفية لاستعادة مهارات القراءة العميقة، لا سيما في ظلّ البيئة الرقمية. تدعو المؤلفة إلى مفهوم الازدواجية القرائية” (the biliterate reading brain)، أي القدرة على التنقل بمرونة بين نمط القراءة الرقمي السريع ونمط القراءة العميقة المتمهلة، بحيث يستطيع القارئ الاستفادة من المنصات الرقمية في الوصول السريع إلى المعلومات، وفي الوقت نفسه، تخصيص مساحات زمنية ونفسية للقراءة التأملية.

تقترح وولف بناء “ملاجئ قرائية” صغيرة في الحياة اليومية، مثل تخصيص وقت للقراءة الورقية بعيداً عن الأجهزة الإلكترونية، واختيار نصوص أدبية أو فكرية معقدة تحفّز الذهن على التحليل والتأمل. كما تؤكد أن العودة إلى الكتب الورقية ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل ضرورة لإعادة تدريب الدماغ على التركيز على النص دون إلهاء، واستعادة لذة التفاعل البطيء مع المعاني. وتنبثق من هذه الفكرة منهجيات تعليمية جديدة يمكن أن يتبناها المربّون، مثل تشجيع الطلاب على القراءة التحليلية للنصوص الأدبية، وتعويدهم على إعادة القراءة وتلخيص الأفكار في دفاتر خاصة، بدلاً من الاعتماد فقط على الشاشات.

علاوة على ذلك، تحثّنا على توظيف التكنولوجيا نفسها لخدمة القراءة العميقة. ففي عصر يمكن فيه تخصيص تطبيقات ومنصات رقمية تتسم بالهدوء والتركيز، يمكن للمستخدم بناء مكتبات رقمية عالية الجودة، تختار النصوص وتعرضها بخط واضح ودون إعلانات تشوّش الانتباه. كما يمكن للتقنيات الرقمية أن تساعد على توفير معاجم وتفاسير فورية تُعين القارئ على فهم المعنى من دون الحاجة لمغادرة النص. المسألة تكمن في كيفية تسخير التكنولوجيا لتعميق عملية الفهم، بدل استغلالها في تعزيز ظاهرة “التقلّب السطحي”.

كما يشير الكتاب إلى أهمية تجديد العقد الاجتماعي للقراءة، بحيث يصبح المجتمع، بمؤسساته الثقافية والتعليمية والإعلامية، شريكاً في إعادة الاعتبار للقراءة العميقة. وهنا يأتي دور صناع القرار، من المسؤولين التربويين إلى الناشرين، في توفير بيئة تشجع على اقتناء الكتب الجادة، وإطلاق مبادرات وأنشطة تثقيفية، وتحفيز التعلّم النقدي في المدارس. إن هذه الجهود المشتركة تمثل نوعاً من “التحصين الثقافي” ضد الهيمنة المطلقة للنصوص الخفيفة والمشتتة. يشير هذا المنظور إلى أن استعادة العمق القرائي ليس مهمة فردية فحسب، بل ضرورة حضارية تقتضي تظافر الجهود على المستوى الجماعي.

البعد الإنساني والثقافي للقراءة:

لا تكتفي وولف بتحليل الآليات العصبية والمعرفية، بل تتجاوزها إلى تأملات أوسع حول البعد الإنساني للقراءة. إن القراءة، في نظرها، ليست نشاطاً ذهنياً منعزلاً، بل تجربة تواصلية عميقة مع عقول الآخرين، سواء كانوا مؤلفين يعيشون في حيز جغرافي وزماني آخر، أو شخصيات روائية تخيّلية تعبّر عن مشاعر إنسانية جامعة. هذه الخاصية الفريدة للقراءة، المتمثلة في قدرتها على نقلنا عبر الزمان والمكان والثقافات، تُكسبها قيمة حضارية عميقة.

تربط المؤلفة بين مهارات القراءة العميقة وبين تنمية قدرات التعاطف الإنساني. عندما نقرأ رواية تصور معاناة شخصيات مختلفة الخلفيات والثقافات، فإننا نتعلم كيف نفهم مشاعر الآخرين، ونضع أنفسنا مكانهم، ونستوعب التعقيد الإنساني. هذا “التقمّص الوجداني”، الذي تحفّزه القراءة المتأنية، قد يتلاشى في بيئة قرائية سطحية، حيث يفقد النص الأدبي عمقه وتتحول الشخصيات إلى مجرد هياكل لغوية بلا روح. إن تراجع هذا المستوى من التفاعل الإنساني مع النصوص قد يُضعف قدرتنا على بناء مجتمعات متعاطفة ومتسامحة.

كما ترى وولف أيضاً أن القراءة العميقة تلعب دوراً جوهرياً في تكوين الهوية الثقافية، إذ إن أدب أي أمة ليس مجرد ركام من الحروف والكلمات، بل هو ذاكرة جمعية تنصهر فيها الخبرات التاريخية والفلسفية والأخلاقية. إذا ما حُرِم مجتمع من الانكباب على قراءة نصوصه التأسيسية وفهمها وتأملها، فإن الروابط الثقافية قد تتفكك، وتصبح الهوية ضبابية. ومن هنا، لا يقتصر أثر القراءة السطحية على الأفراد وحدهم، بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي برمته.

إن هذا الجانب الإنساني يبرز أهمية القراءة في ظل التحديات العالمية المعاصرة، كالاختلافات الثقافية، وتصاعد نزعات التعصّب، وتفشي الأخبار المضلّلة. حين يجري تدريب القارئ على التمهّل في قراءة النصوص، والغوص في معانيها، وبحث جذورها الثقافية، تُمنح له الفرصة ليكون مواطناً عالمياً مستنيراً. وبهذا يتحول الكتاب من مجرد وسيلة لنقل المعرفة إلى وسيلة لإعادة تشكيل الوعي الإنساني، وتعزيز القيم الأخلاقية التي تصون الإنسانية من الانزلاق في صراعات وسطحية فكرية.

الخلاصة وأهمية الكتاب للقارئ العربي:

في الختام، يمثل كتاب “أيها القارئ، عُد إلى وطنك” دعوة حقيقية لإعادة النظر في علاقتنا بالقراءة في العصر الرقمي. إنه عمل يجمع بين الدقة العلمية والعمق الفكري، ويقدم تحليلاً شاملاً للتغيّرات العصبية والاجتماعية والثقافية التي تُصاحب انغماسنا المتزايد في العوالم الرقمية. لا يكتفي الكتاب برصد المشكلة، بل يضعنا أمام مقترحات عملية لاستعادة التوازن بين القراءة السطحية والقراءة العميقة، ويدفعنا للتأمل في جوهر القراءة باعتبارها عملية إنسانية فريدة، تشكّل بصمتنا الثقافية وتصقل وعينا النقدي.

بالنسبة للقارئ العربي، يحظى هذا الكتاب بأهمية إضافية. ففي ظل تحديات تواجه الثقافة العربية، من ضعف انتشار القراءة في بعض البلدان العربية، إلى الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي، وقلة الاهتمام بنصوص أدبية كلاسيكية وفلسفية عميقة، قد يكون هذا العمل مرجعاً لتحفيز القارئ على استعادة علاقته الجادة بالكتاب. كما أنه يشجع المربين والمعلمين وصنّاع القرار الثقافي على ابتكار أساليب تعليمية جديدة تحثّ الطلاب والناشئة على الغوص في النصوص، وإعادة اكتشاف لذة التفكير النقدي والبحث المعرفي.

وفي عصر تتنازع فيه القيم والمعلومات، ويصعب فيه أحياناً التمييز بين الغثّ والسمين، تأتي أطروحات وولف بمثابة منارة فكرية تذكّرنا بأن قدرتنا على التفكير النقدي ليست مضمونة، وأنها قد تتلاشى إن لم نحافظ عليها. إن الخطر الأكبر لا يكمن في انتشار التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في عدم توظيفها بشكل مستنير. وحدها القراءة العميقة تتيح لنا فهم المعاني المركبة، واستيعاب السياقات المتشابكة، والتأمل في قضايا الوجود والهوية والعدالة.

ختاماً، يشكّل “أيها القارئ، عُد إلى وطنك” أكثر من مجرد كتاب نظري، بل هو نداء عالمي لإحياء القيم القرائية التي دعمت الحضارات الإنسانية عبر القرون. في وقت تتصاعد فيه حمى الاستهلاك السريع للمعلومات، ويسود فيه الإيجاز المخلّ، يقترح الكتاب مساراً بديلاً: طريق العودة إلى “وطن القراءة”، ذلك الفضاء الذهني الذي يمنحنا الحرية في اختيار الأفكار، والتأمل في الوجود، وبناء ثقافة إنسانية أكثر رحابة وانفتاحاً. إنّه عمل يحتفي بقدرة الكلمة على صياغة الهوية والفكر، ويحمّلنا مسؤولية إعادة هندسة علاقتنا بالنصوص لصون إرثنا المعرفي. بذلك، يستحق هذا الكتاب قراءة متأنية وعميقة، لا سيما في عالم يزداد فيه الضجيج وتتلاشى فيه لحظات السكون الفكري.

شارك الصفحة