المكسب الأخير من الثروة: مراجعة لكتاب سيكولوجية رأس المال

المال عصبُ الحياة..

هذه حقيقةٌ تشرق على الأيام مع كل إشراقةِ شمسٍ جديدة، تتجدد في كل يومٍ ويكثُر أنصارها وطُلّاب الحياة السعيدة. وهي أوضح من شمس النهار عند ذوي الأبصار، وأصدق من المتحدّث الرسمي في نشرة الأخبار. لا يجادل فيها إلا جاهل بمقاييس هذا الزمان، ولا يزهد فيها إلا عاجز وغريب وليس بإنسان. هذا ملخّص حالنا نحن أبناء هذا العصر الرأسمالي بامتياز، لا حديث لنا أشهى من حديث المال، ولا شغل لنا إلا الحديث عن فلانٍ كم ملَك وفلانٍ كم حاز.

المال منذ الأزل كان ولا يزال فتنة، فكما جاء في سورة الكهف: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ولو تساءل أحدنا لماذا أتت هذه الآية في سورة الكهف تحديدًا، لكان في مقصد السورة العام إجابةً فيها العظِة والعبرة. لأن مقصد السورة في بيان منهج التعامل مع الفتن، والمال لابد أن يكون حاضِرًا عند الحديث عن الفِتن.

وقد منّ الله علي وقرأت هذا الكتاب الذي عُنون له بـ سيكولوجيّة المال، فكان نفعهُ عظيم وتأثيره جسيم. ولشدّة إعجابي بما جاء فيه، اصطحبته إلى حيث أعمل وتركته على مكتبي يزيّن المكان ويذكّرني بقواعدهِ الحِسان. وقد استهوى زملائي عنوان الكتاب وودّ أكثرهم لو قرأه واستفاد منه طريقةً تثريه أو خطّةً تعمل في حسابه البنكيّ عمل الفانوس السحريّ. وليست هذه فكرة الكتاب من الأساس، وهذا ما اجتهدت لتوضيحه فكانت الردود متشابهة؛ خذ أنت السيكولوجيّة وأعطنا المال.

والكاتب أجهد عقله ليُفلسِف فكرة الثراء بعيدًا عن حيازة الكثير من المال. وقد يستغرب القارئ بدايةً هذا النهج، لأن الثراء ارتبط منذ ارتجّت الأرض بـهدير الترسانة الرأسمالية بالكثرة والتكثّر، والمزيد والتزوّد. فجاءت فصول الكتاب العشرون تباعًا تحاول رسم تصّور جديد أو حقيقيّ عن طبيعة المال، وما أقصى ما يمكن المال تقديمه للإنسان، وكيف يؤثر كلّ من الماضي والبيئة والحظ على تعاطي الإنسان مع المال حال تدفّقه.

المقارنة الاجتماعية:

كم منّا كان ضحيّة “هبّة” أو ترند كما يحب الناس تسمية هذا الأمر؟ هل اشتريت مضربًا ولعبت البادل يا صديقي؟ هل اشتريت خيطًا مائيًا؟ فرنا هوائيًا؟ عطرًا جديدًا؟ أم زرت مطعمًا يابانيّا؟ أو حضرت فيلمًا لأنه ترند على سبيل المثال؟

الضغط الاجتماعي الذي تفرضه منصات التواصل كبير جدًا، وهو يشبه الريح التي تجبر القبطان على مسايرتها لا الوقوف في طريقها. والترند أصبح حاضرًا بقوّة، وليس ثمة ترند لا يتطلب إنفاق المزيد من المال. ولأن من أهداف الكتاب أن ينبّهك على طرق التعامل مع المال، كان يجب أن يلفت الانتباه إلى الضغط الاجتماعي الذي يُمارس على الأفراد حتى ينفقوا المزيد من المال، ليس للحاجة، بل لمجرد الشعور بالانتماء أو المقدرة. فكثير من الناس تضطره المقارنات الاجتماعية إلى شراء أشياء وزيارة أماكن لا تعني له كثيرًا، ولكنه يريد بذلك إفادة الآخر أنه يشبهه وأنه يستطيع هذا الأمر. لديه مالٍ كافٍ للاقتناء والتجربة والسفر.

والكاتب لا يحرّض الافراد على الإمساك عن الانفاق على الكماليات والترفيه، ولكنه ينبّه على الأساليب التي يمكن من خلالها استنزاف محفظتك حتى تضع لها حدًا يناسب دخلك.

قيمة الأشياء:

من الحيل التي تنطلي على كثيرٍ من الناس، هي اعتقادهم بأن الأشياء التي ينفقون عليها أموالهم تعطيهم قيمةً أعلى في المجتمع وبين أوساط الناس. فمثلا الذي يشتري منتجًا معيّنًا ثم ينشر صورته على مواقع التواصل، أو يتباهى به على مرأى ومسمع زملائه وأصدقائه، ويتلقى إعجابهم بهذا المنتج ويفرح به، يغيب عن عقله أن الإعجاب كان بالمنتج لا به هو. فإن كانت السيارة التي تركب مميزة وباهظة الثمن، فكل من في الشارع قد أبدوا اعجابهم بالسيارة إما بالتحديق، أو الابتسامة، أو التصوير، ليست بك أنت. وكذلك الأمر مع المنتجات الالكترونية والملابس الفاخرة وما شابه. فالإنسان ربّما أنفق مالًا طائلًا ليرفع من قيمته بين أوساط المجتمع إلا أنه لا شيء من ذلك يحدث. الغالب أن قيمة الإنسان مرتبطة بما يفعل وما يقدم وما يعرف، لا بما يملك، حتى وإن أبدى الآخرون تقديرًا كبيرًا لأولئك الذين يملكون أشياء ثمينة، يظل هذا التقدير مؤقتا سرعان ما يزول.

الحظ:

راقتني فكرة الحظ والتي نسمّيها نحن المسلمون “الرزق“. بمعنى أن رزق الإنسان مكفول وهو آتيه بلا نقص وأنه لو جرى من رزقه هربًا كما يفعل مع الموت، لأصابه رزقه كاملًا كما يصيبهُ الموت. وتشبه فكرة الحظ هذه اليد التي تربّت على كتف المسلم حين يعلم أن رزقه مكفول، فهي تربّت على أكتاف هؤلاء الرأسماليين، وأن ما يفعله أحدهم ويُعد نجاحًا باهرًا، قد يفعله الآخر ويُعد فشلًا ذريعًا لمجرد أن الحظ حالف فلان، ولم يقف بصفّ الآخر.

الادخار:

أما الادخار فهو برأيه عين الثراء وأصله وأساسه. فمن يستطيع اقتطاع مبلغٍ من دخله الشهري وتركه بعيدًا عن مطامع نفسه وشهواتها ويستمر على هذه العادة عُمُرًا، فهو الثريّ حقًا. لأن نصيبًا كبيرًا من الثراء يكون في ألا تنفق كلّ ما تملك. فما بال أُناس يتدفق المال في أيديهم لزمن، ما أن ينضب مصدر هذا المال حتى يعودوا معدمين أو شبه معدمين كما كانوا قبل هذا الأمر. المال له طبيعة لا تتبدل، ومن طبيعته أنه يذهب سريعًا إذا أطلقت يدك فيه، ويتكاثر إذا هيّأت له أسباب التكاثر. وقد ضرب مثلًا أجده نافعًا جدًا في هذا الباب حين قارن بين استهلاك الولايات المتحدة الأمريكية للنفط في عام 1960 وفي العصر الحاضر. فكانت كمية الاستهلاك تقريبا مشابهه، مع العلم أن عدد السيارات والطائرات والسفن وما شابه أكثر بكثير منها قبل ستين عامًا. الفارق أن مُستهلكات الطاقة في عصرنا هذا صُممت على أن تستهلك وقودًا أقل، فلم يحتج لزيادة كمية الاستهلاك. تماما مثلك أنت، حين تقتصد في مصروفاتك، فسيكون دخلك زائدًا عن مصروفاتك وتشعر بالوفرة التي ستتحول مع الوقت إلى مدّخرات.

الاستثمار:

ومن أسباب تكاثر المال وأنفعها، الاستثمار طويل الأمد. لا تعجل على الاستثمار حتى يعطيك زُبدته ويريك العجب في قدرته. ذكر المؤلف أسماء أشخاص كثيرون أصبحوا من أثرى أثرياء العالم لفترات من الزمن، ثم طويت تلك الصفحة وأزيلت أسماءهم من سلّم الأثرياء انتهى بهم الأمر مسجونين. بينما هنالك اثنان أو ثلاثة منذ أكثر من عقد من الزمان ولا تزال أسماءهم على رأس قائمة أثرياء العالم. على سبيل المثال ذائع الصيت “وارن بوفيت“. مصادقًا على مقولة أنه ليست الصعوبة في الوصول، بل في الاستمرار في القمة.

من لم يتعلم الصبر في الادخار، لن يصبر على الاستثمار طويل الأمد وكثير النفع. فالادخار البوابة الصحيحة للاستثمار.

والفكرة الأخيرة التي أود الإشارة إليها لأنها دعتني للتفكير بجديّة تجاه المال ككُل، هي في ماذا يمكن أن يُقدّم المال لصاحبه؟ أو ما هو الشيء الذي لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان بغير المال. هذا لو افترضنا أن الإنسان من متوسطي الدخل الذين يملكون سكنًا ووسيلة نقل ويتلقون تعليمًا وخدماتٍ صحيّة ويعيشون في دول مستقرة. لنفترض أنك هذا الرجل أو تلك المرأة، تملك أسباب الحياة، فما الاضافة الكبيرة التي يمكن أن يضيفها الكثير من المال إليك بعيدًا عن توفير سبل الحياة، لو افترضنا في هذه الحالةِ أنها متوفرة.

“The ability to do what you want, when you want, with who you want, for as long as you want, is priceless”

لعل هذه الجملة هي فحوى الكتاب ومداره الذي عليه يدور، وهي كما أفهمها وأترجمها تقول:

“القدرة على فعل ما تريد، وقت ما تريد، مع الشخص الذي تريد، للمدة التي تريد، يعد أمرًا لا ثمن له”، أو بمعنى آخر؛ الإضافة الأهم التي يقدمها الكثير من المال للإنسان. أي بمعنى أوضح وأدق: يمنحك الحريّة. حرية تداول الوقت. فلست ملزمًا بالالتزام بعمل معيّن لساعاتٍ معينة بشكل معيّن في مكان معيّن ومع أشخاص معيّنون خلال حياتك. بل أنت من تحدد هذه الأمور وترسم ملامح يومك كما تريد أو كما يحلو لك. حياة الإنسان عبارة عن ساعات وأيام، إذا انقضى بعضها انقضى بعضه، وهي تشبه ساعة الرمل بالعلاقة مع الإنسان، فكلما مر الوقت، أُخذ من عمر الإنسان بقدر هذا الوقت. وهذا الذي يجعل حرية تداول الوقت أثمن شيء يقدّمه الكثير من المال للإنسان. أن يمتلك حياته إن صح التعبير. فليس مدينًا لأحد من العالمين بوقته الذي هو عمره والذي في نهاية المطاف هو مادة حياته.

ومن الأجدر بالإنسان الذي يسعى لمضاعفة أمواله أن يفكّر في هذه المسألة قبل أن يسلُك الطريق. لو وُهبت حرية الوقت وأصبحت تملك ساعات يومك كلها، ماذا يا ترى ستصنع بها؟ وكيف ستقضيها؟ ومع من؟ وأين؟

أم أنك ستهرب من كل هذه الساعات التي تملك بمزاولة عملٍ ما. أن تنشأ عملك الخاص وتعود لتعيش حياة الفقراء، أو متوسطي الدخل الذين ليست لديهم الحرية في تداول أوقاتهم كما يريدون.

فكّر فيما إذا كنت جاهزًا للكثير من الوقت قبل التفكير في الكثير من المال.

شارك الصفحة