“إن الرمز في حالات الصراع، في مخاطبته للقلب والوجدان، أشد فتكاً وتأثيراً من الأداة في توجهها نحو المنفعة”.
ياسر سليمان المعالي
كتاب مُهم وجدير، يقف على مكانة اللغة العربية اليوم في أذهان أهلها وأعدائهم، منطلقاً في تحليلها من الدراسات المتعلقة بالأيديولوجيا اللغوية والقلق اللغوي وتعلق اللغة بالإرهاب.
يناقش المعالي أولاً الوظيفة الرمزية والأداتية للغة العربية، فالأخيرة تكتفي بوظيفة اللغة ومنفعتها للتواصل، والأولى متعلقة بهوية المرء والمجتمع والطابع الأيديولوجي الذي يُطلب من اللغة التعبير عنه والحديث بلسانه، وفي حديثه عن اللغة التي تحمل الهم الوجودي لأهلها والناطقين بها، تناول محاولات الجبرتي في التصدي للحملة الفرنسية على مصر في تعزيزه اللغة العربية الفصيحة، وتناول إحياء الحركة الصهيونية للغة العبرية في فلسطين، التي أقصت العربية وطغت على الإنجليزية (زمن الانتداب البريطاني)، لإثبات الوجود اليهودي الجديد على الأرض الفلسطينية.
ثم ينتقل للحديث عن الأيديولوجيا اللغوية من حيث كونها نظاماً ترميزياً موجهاً إلى غايات معينة، مستنداً إلى رمزية اللغة وحتمية انتقاء المرء من واقعه الأحداث والأفكار والتأويلات لتمثيل الواقع في ذهنه، ومعتمداً على المراوغة الدلالية للمعاجم والتبسيط المعرفي وتصورات الأفراد غير الدقيقة حول مفاهيم العلوم الاجتماعية:
“تبقى المعتقدات والأفكار السائدة في المجتمع، حول اللغة، لغويات شعبية بحتة، ولا تنتقل إلى الفضاء الأيديولوجي الفاعل إلا في الحالات التي يجري فيها توظيف هذه اللغويات في محاولات التأثير في السياسات العامة في المجتمع”.
لذلك، تكون غايات الخطاب الأيديولوجي اللغوي التنفيس عن غضب الجماعة ورفع معنوياتها وتحقيق التضامن بين أفرادها والترويج لهويتها، ويكون الخطاب متماسكاً وقائماً على قناعة بالتفوق والسمو لدى لغة بعينها على بقية اللغات، وهجران أهلها لها وخطر الازدواجية اللغوية في مجتمع أهلها، في فترة ازدادت فيها الأيديولوجيا اللغوية العربية حِدة وشدة في مواجهة الاستعمار الأجنبي.
وتستند الأيديولوجيا اللغوية العربية إلى رمزية اللغة وارتباطها بقومية العرب وهويتهم ودينهم الإسلامي، من أجل التأثير على السياسات اللغوية المتبعة لدى الحكومة، وهذا ما يدعى بالتوظيف الذرائعي للغة العربية، أي توظيف عناصر اللغة الهوياتية والرمزية والوطنية والدينية لأغراض سياسية تؤثر على بعض القضايا المهمة، الأمر الذي نجده في خطابات المحامي إلياس كوسا إلى السلطات البريطانية أثناء احتلالها فلسطين:
“.. إن إقصاء هذه اللغة أداتياً من ساحة المعاملات الرسمية هو أيضاً إقصاء مجازي مزدوج للوطن الفلسطيني ومواطنيه العرب، يُراكم الإقصاء الحقيقي الذي يتعرضون له في إسرائيل، في استلاب أراضيهم وفي مواطنتهم المنقوصة. وإذا كان الإقصاء الثاني هو إقصاء الجيد والمادة، فإن الإقصاء الأول هو إقصاء الروح والقلب”.
ونجد هذا التوظيف كذلك في الخطاب الأمريكي للمهاجرين، والداعم للتحدث بالإنجليزية فقط تناغماً مع الفضاء العام ومتطلبات الهوية الأمريكية الجديدة.
وفي حديثه عن القلق اللغوي، يتحدث المعالي عن الخطاب الذي ينعى العربية ويركز على هجران أهلها لها وضعف مكانتها، الأمر الذي يُدلِّل على تفسخ هوية أصحابها، فالتهديد الذي يطال متن اللغة يطال كذلك هوية صاحبها ومكانة مجتمعه، ويرتبط القلق بالإبهام في فهم الأحداث المحيطة، واجترار الماضي الذهبي، والتخبط الهوياتي، وانعدام القدرة على الرؤية الموضوعية لواقع اللغات ونشوئها وتطورها والتغيرات الطبيعية التي تدخل عليها. ورغم ذلك، يتناول الكاتب منافع القلق اللغوي في الحفاظ على الأمن اللغوي والتشبث بالهوية الأصل، بيَّن ذلك في تحليله الموجز لكتاب المسدي “انتحار اللغة العربية”.
غير أن الكاتب يرى المبالغة في الخطاب الأيديولوجي حول اللغة العربية اليوم، فاللغة لا تزال حاضرة ومتداولة، والتهديدات التي تطالها تطال بقية اللغات بالدرجة ذاتها، ويحلل المعالي هذه المبالغة في سرده لمجموعة من الشخصيات والعناوين المستندة إلى معجمٍ من المصطلحات المتعلقة بالقلق اللغوي، تعيد تكرارها باستمرار. ومن هنا فإنه يشيد بموقف أمين معلوف في ضرورة الحفاظ على اللغة والهوية مع الانفتاح في الآن ذاته على اللغات المختلفة.
ويتناول المعالي السمة العالمية لظاهرة القلق اللغوي، والتي أصابت اللغات المختلفة ولا تزال، كالفرنسية والإنجليزية، ذاك أن تطور اللغات وامتدادها أو تقلصها أمر منوط بعوامل عديدة ليس أقلُّها إنتاج أهلها المعرفي والخطابي والعلمي والإنساني. وبمعنى آخر، فإن القلق اللغوي يُعيد إنتاج نفسه بالضرورة:
“إن المبالغة الشديدة في قراءة “فنجان” هذا القلق قراءة كارثية، في الحالة العربية، قد تُسارع في تحقيق نبوءاتها بتكريس منطق الهزيمة وتعميق حالة الضعف والتبعية، والتي ينشد حُماة اللغة الانعتاق من أغلالها”.
وفي تناوله لارتباط اللغة العربية بالإرهاب، تحدث الكاتب عن الشعور الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام 2001، والذي عززته وسائل الإعلام والصور المضللة، ليربط بين ثلاثة مفاهيم ويطابقها سوية: العرب والإسلام والإرهاب (الجهاد). فاقترنت الحرب الكلامية بالحرب على الإرهاب، وما زاد الأولى ضراوة قدرتها الرمزية التي تشمل عناصر الصراع وقت الأزمات.
وفي هذا الصدد، يتناول عدداً من الحالات والأحداث المُعبرة عن قلق الأمريكيين من العربية وارتباطها في أذهانهم بالعداوة والميول الإرهابية، ويتناول الكاتب تجاوز التنميط الرمزي للعربية الفضاء السياسي إلى الفضاء العام، كما في حادثة خالد جرار والموقف من أكاديمية جبران خليل جبران الدولية في نيويورك. الأمر الذي أنتج خطاباً مضاداً ساخراً من هذا التطرف الفكري والتعميم الخاطئ، والذي تقوده الأيديولوجيا اللغوية الإنجليزية، كما نرى في الصورة أدناه لحقيبة تسخر ممَّن يخشون رؤية العربية حولهم:
ويتابع الكاتب حديثه عن الموقف الأمريكي تجاه اللغة العربية والرامي إلى التوجه إليها وتعلمها لأغراض أمنية سياسية ضرورية، الأمر الذي يعود من جديد ليصب في القالب الأيديولوجي المُضلل ذاته، فمهما كانت النوايا الأمريكية صادقة في إقامة العلاقات مع الشعوب العربية، فإن الصورة النمطية في مخيلة الأمريكيين ستكون عائقاً أمام هذه الجهود، لارتباط اللغة في أذهانهم بالتطرف والكراهية والإرهاب، ذاك أن “الانشغال باللغة استناداً إلى الهاجس الأمني قد يفشل في تحقيق الأمن المُرتجى، حتى لو جرى الإعلان عن أهمية اللغة في إطار علاقة تقوم على الاحترام والتقدير مع الآخر”.
الكتاب مُتماسك في طرحه، سلس وواضح وغير معقد، والأهم من ذلك كله، أنه جدير بالقراءة والمراجعة والنظر.