يُعد كتاب “الكلمات وتأثيرها على العقل” للدكتور أندرو نيوبيرغ ومارك روبرت والدمان مرجعًا متعمقًا يستكشف العلاقة بين اللغة وكيفية تأثير الكلمات على العقل البشري. نقلته إلى العربية الأستاذة رفيف غدار وطُبع في الدار العربية للعلوم ناشرون.
يقدم الكتاب فهماً علمياً وأدبياً حول كيفية استخدام الكلمات ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل كأداة قوية تؤثر على هيكلية الدماغ وعملياته العصبية. ويقدم كذلك رؤية متكاملة بين علم الأعصاب وعلم النفس واللغويات. يعتمد الكاتبان في تفسيراتهما على دراسات علمية وتجارب عملية، مما يضفي مصداقية على ما يقوله الكتاب حول قوة الكلمات في تشكيل إدراكنا وسلوكياتنا.
الأساس العلمي لتأثير الكلمات على العقل
يستند الكتاب إلى فرضية أن الكلمات ليست مجرد رموز لنقل المعلومات، بل هي محفزات عصبية قوية تؤثر على التركيبة الكيميائية للدماغ. يوضح الكاتبان، من خلال تجارب علمية ودراسات تصوير الأعصاب، كيف أن الكلمات التي نستخدمها ونسمعها تؤثر على نشاط مناطق معينة في الدماغ. فعلى سبيل المثال، الكلمات الإيجابية تعزز من إفراز هرمونات السعادة مثل الدوبامين، بينما يمكن للكلمات السلبية أن تثير مناطق الخوف في الدماغ مثل اللوزة الدماغية، مما يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.
تشير الدراسات التي أوردها الكتاب إلى أن استخدام الكلمات الإيجابية يساهم في تحفيز النشاط العصبي في مناطق الدماغ المرتبطة بالرفاهية والتفاؤل. ومن المعروف أن استخدام لغة إيجابية يعزز من مستويات الثقة بالنفس ويزيد من التفاعلات الاجتماعية الإيجابية. يوضح الكتاب كيف أن هذه الكلمات تؤثر مباشرة على المناطق القشرية في الدماغ مثل القشرة الأمامية، التي تُعنى بالتخطيط واتخاذ القرارات، ويعزز هذا التأثير من قدرة الإنسان على التفكير بشكل منطقي واتخاذ قرارات مدروسة.
على الجانب الآخر، تُحدث الكلمات السلبية تأثيرًا مغايرًا تمامًا. حيث يتسبب استخدامها المتكرر في تحفيز المناطق الدماغية المرتبطة بالخوف والتوتر. تستجيب اللوزة الدماغية لهذه الكلمات بطريقة مشابهة لاستجابتها للتهديدات الجسدية الحقيقية، مما يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والإجهاد. ويشير الكاتبان إلى أن التأثير لا يتوقف على اللحظة الحالية فحسب، بل يمكن أن يكون للكلمات السلبية آثار طويلة المدى تؤثر على الصحة العقلية والجسدية للفرد، ويمكن أن تؤدي إلى تطور اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، حيث تضعف الكلمات السلبية الروابط العصبية المسؤولة عن التفاعل الاجتماعي والتعاطف.
استند نيوبيرغ ووالدمان إلى تجارب متعددة باستخدام تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) ودراسات الموجات الدماغية EEG لقياس تأثير الكلمات على مناطق مختلفة من الدماغ. تشير هذه التجارب إلى أن الدماغ يستجيب للكلمات كما لو كانت أحداثًا مادية. على سبيل المثال، إذا سمع الفرد كلمة تحمل معنى سلبيًا، فإن نشاط الدماغ يكون مشابهاً لذلك الذي يظهر عند تعرض الشخص لخطر حقيقي، وقد اكتشفا أن التعرض المتكرر للغة سلبية أو عدائية يؤثر على بنية الدماغ الفعلية، حيث يؤدي إلى تغييرات طويلة الأمد في المناطق المسؤولة عن الذاكرة والعاطفة.
أبعادٌ أخرى للتأثير
واحدة من النقاط المهمة التي تناولها الكتاب هي تأثير الكلمات على الإدراك الاجتماعي. يوضح الكاتبان كيف أن الكلمات التي نستخدمها للتفاعل مع الآخرين تؤثر على طريقة تفكيرنا فيهم وفي أنفسنا، فحين يستخدم الشخص كلمات مشجعة وإيجابية مع الآخرين، فإن هذا لا يؤثر فقط على مشاعرهم بل ينعكس أيضًا على نظرته لنفسه وقدراته. على العكس، فإن استخدام لغة سلبية أو ناقدة يؤدي إلى تفاقم العزلة الاجتماعية وتدمير العلاقات الشخصية.
في سياق أدبي، يعرض الكتاب كيفية تأثير الكلمات على العاطفة والإبداع. يذهب الكاتبان إلى ما هو أبعد من الجانب العلمي لتفسير الأثر الشعري والروائي للكلمات. الكلمة الواحدة قد تحمل معانٍ متعددة حسب السياق، وتخلق عالمًا من الإيحاءات التي تتفاعل مع مشاعر الفرد وخياله. ومن هنا، يمكن أن تلعب الكلمات دورًا في تشكيل التجارب الشخصية والفنية.
يؤكد الكتاب أن استخدام الكلمات الإيجابية والهادئة يمكن أن يكون له تأثير علاجي. في الأدب والشعر، غالبًا ما تُستخدم الكلمات لنقل مشاعر عميقة وتجارب إنسانية معقدة. يشير الكاتبان إلى أن قراءة نصوص أدبية مفعمة بالمعاني الإيجابية يمكن أن تعزز من عملية الشفاء العاطفي وتخفيف التوتر. الأدب يمكن أن يُستعمل كوسيلة لإعادة بناء الذات وتقوية الشعور بالهوية.
الأدب هو أحد أكثر الأشكال تأثيرًا للكلمات، حيث يعكس تفاعل الخيال البشري مع اللغة. يوضح الكاتبان أن الكلمات الأدبية قادرة على استحضار صور وأحاسيس في العقل بطريقة قد تكون أعمق من الكلمات العادية، فالقراءة تعزز من تدفق الدوبامين في الدماغ، مما يسهم في تحسين المزاج والإبداع. كلما تعمق القارئ في نص أدبي مليء بالخيال، كلما أصبح ذهنه أكثر انفتاحًا على أفكار جديدة ووجهات نظر مختلفة.
الذات وكلماتها
يُعنى الكتاب أيضًا بتقديم نصائح عملية حول كيفية استخدام الكلمات بطريقة تعزز الصحة النفسية والعقلية، فيكشف المؤلفان عن عدة أساليب يمكن للأفراد اتباعها لتقليل تأثير الكلمات السلبية وزيادة التأثير الإيجابي.
يشير الكاتبان إلى أهمية الانتباه إلى الكلمات التي يستخدمها الفرد في حديثه مع نفسه. الكلمات التي نوجهها لأنفسنا يمكن أن تكون أقوى من تلك التي نتلقاها من الآخرين. ومن هنا، يأتي مفهوم “إعادة تشكيل اللغة الذاتية”، أي تحويل الحديث الداخلي السلبي إلى حديث إيجابي أو على الأقل محايد. على سبيل المثال، بدلاً من قول “أنا فاشل”، يمكن للشخص أن يقول “لقد تعلمت من هذا الخطأ”. هذا التغيير البسيط يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في الصحة العقلية للفرد.
الكتاب يركز أيضًا على كيفية استخدام الكلمات كأداة تحفيزية. يعتمد الكثير من القادة والمدربين على لغة إيجابية ومشجعة لبناء فرق ناجحة وتحفيز الآخرين على تحقيق أهدافهم. يقدم الكتاب أمثلة حول كيفية استخدام العبارات الملهمة في التأثير على الأداء الشخصي والجماعي. يمكن للغة التحفيزية أن ترفع من الروح المعنوية وتزيد من الإنتاجية، سواء في العمل أو الحياة الشخصية.
من خلال استعراض تأثير الكلمات على المجتمع، يشير الكاتبان إلى أن الكلمات لا تؤثر فقط على الأفراد، بل يمكن أن يكون لها تأثيرات جماعية. في السياسة، الإعلام، والدين، تُستخدم الكلمات كأدوات للتأثير على الجمهور وتشكيل الرأي العام. يستعرض الكتاب أمثلة من التاريخ توضح كيف تمكنت بعض الشخصيات من استخدام اللغة بفعالية للتأثير على ملايين الأشخاص، سواء بشكل إيجابي أو سلبي. يشدد الكتاب على أن الفهم العميق لقوة الكلمات يمكن أن يساعد الأفراد على التفكير النقدي وتجنب التأثيرات السلبية للكلمات الخطابية.
الخلاصة:
يقدم كتاب “الكلمات وتأثيرها على العقل” للدكتور أندرو نيوبيرغ ومارك روبرت والدمان نظرة شاملة ومتكاملة حول تأثير اللغة والكلمات على العقل البشري. يجمع الكتاب بين الأدلة العلمية والتفسيرات الأدبية ليُظهر كيف يمكن للكلمات أن تؤثر بشكل مباشر على دماغنا وعواطفنا وسلوكياتنا. سواء كانت الكلمات إيجابية أو سلبية، فإنها تلعب دورًا محوريًا في تشكيل تجاربنا الحياتية، ليس فقط على المستوى الفردي بل على المستوى الجماعي أيضًا. يعزز الكتاب من أهمية الوعي باللغات التي نستخدمها ويدعونا إلى التفكير في كيفية استخدام الكلمات بشكل إيجابي وبناء لتحسين حياتنا وحياة الآخرين.