يُعد كتاب “الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام”، للكاتبة الأمريكية سوزان كين من أفضل ما قرأت من الكتب التي تخاطب النفس البشرية وتصل إلى تحليل مكنونها، بطريقة غاية في السلاسة والسهولة، وفي الوقت نفسه غاية في الحميمية والصدق.
يشعر الكثير منا بالغرابة weirdness في الأجواء الاجتماعية أو برفقة الشخصيات الأكثر انفتاحاً منهم على التجارب المختلفة والتعارف المستمر، ورغم نجاح جهودهم الحثيثة في تزييف سعادتهم وسرورهم بوجودهم برفقة الآخرين، إلا أن ذلك يتطلب منهم وقتاً طويلاً “لإعادة شحن” بطاريتهم الاجتماعية، ما يستلزم منهم أياماً طويلة يقضونها بعيدين عن الضجيج وأحاديث الآخرين، ليتمكنوا من خلق التوازن في حياتهم.
ولكن ليست هذه بالمهمة السهلة، على عكس ما تبدو، وبخاصة وإن عاش المرء منا مقتنعاً بأن ثمة خطب ما فيه، وبأنه أقرب للكآبة والرفض المجتمعي بسبب شخصيته التي ترفض الاجتماع مع الآخرين لأكثر من يوم واحد في الأسبوع مثلاً، وإن نشأ المرء في بيئة تعزز النموذج الانبساطي وتراه المثال الأكثر قرباً للنجاح وتحقيق الذات، فستضاف إلى معاناة المرء مشاعر الذنب والقلق الكبير في أنه لن يحقق ما يصبو إليه إلا إن تمكن من قهر طبيعته وكسرها، ما يزيد من رهابه الاجتماعي وشعوره بالفشل والوقوع في العديد من الفخاخ النفسية التي ستستنزف قواه تماماً ليتمكن من فهمها، قبل الخروج منها.
هذا الكتاب مُطمئن بدرجة كبيرة للانطوائيين، فهو يبين العديد من جوانب هذه الشخصية الطبيعية للغاية، ويناقش تجاربها الثمينة، ويستنطق العلوم المتعلقة بها، ويتضمن جانباً حميمياً للغاية فيه، ذاك أن الكاتبة شخصية انطوائية كتبت هذا الكتاب هدية لنا، الأمر الذي سيجده العديد من القراء عظيماً للغاية.
ورغم أنني وجدتُّه من الكتب التي يمكن أن أحط من شأنها إن كتبت مراجعة عنها، وأخشى أن تفسد لغتي الجامدة حميميته وصدقه، فإنني سأختصر القول في بعض مواضيعه، خدمة لمن يريدون الإطار العام للكتاب قبل تقرير اقتناءه.
تتحدث الكاتبة عن النموذج الانطوائي “المظلوم” مجتمعياً وأكاديمياً بصورته السلبية الأقرب للكآبة والتقوقع بعيداً عن الآخرين والمجتمع، مصححة الصورة في أذهان العديدين في أن الشخصية الانطوائية تقدر التفاعل الاجتماعي، ولكن البنّاء والعميق والذي يحمل القيمة الجدية لها، ولا تثمن الأحاديث السريعة الأفقية التي يمكن أن يجريها الغرباء مع بعضهم.
وتتناول الكاتبة ربط النجاح العملي بالشخصية الانبساطية في بلادها، أمريكا الشمالية، واختراع سوق العمل “للمثل الأعلى الانبساطي” الذي بوسعه تحقيق النجاحات المتتالية تبعاً للشبكة الاجتماعية التي ينسجها، الأمر الذي تخلل الاتجاه الكنسي حتى، وذلك بربط الإيمان بالتفاعل الاجتماعي الانبساطي، حتى بات الانطوائيون يشعرون بأنهم بمجرد وجودهم لا يخدمون الرب بصدق وأمانة.
وفي بيئة العمل، تحدثت الكاتبة عن الفرق التي تحد من النشاط الإبداعي للأعضاء، والتي عادة ما تشوش فكر الانطوائيين وتقيد قدراتهم وتضاعف جهودهم ضمن المجموعة، مقارنة بما يمكن أن ينجزوه بأنفسهم، مقدمة العديد من الأمثلة على الشخصيات الناجحة في مجال الأعمال، والتي تفضل العمل وحدها معظم الوقت، تبعاً لميولها الانطوائية في ذلك، ذاك أن الانخراط في العمل الجماعي يشتت الأفكار ويضيع الغاية والهدف، بينما تساعد العزلة المرء على التركيز على أهدافه وقضاء وقت أطول في التفكير في مختلف الحلول والجوانب الممكنة، ومن هنا، فإن التعاون الجماعي قد يقتل روح الإبداع لدى الشخصيات الانطوائية.
ثم تحدثت الكاتبة عما يُنشئ الشخصية الانطوائية، كالعوامل الوراثية والبيئة التي ينشأ فيها المرء، وعن الميول المختلفة لكلا الشخصيتين التي تجعل الانطوائي يميل إلى الحذر والهدوء والاستمتاع بالتدفق الذي يدفعه إلى العمل لمجرد العمل والاستمتاع به، على خلاف الانبساطي الذي يستمتع بالجلبة والعلاقات والتفكير العالي، وعادة ما يدفع إلى العمل لتوقعه الحصول على مكافأة جديرة.
وكان من الماتع للغاية حديثها عن المجتمعات الآسيوية والمجتمع الأمريكي، والفروقات الكبيرة بينها، والظاهرة خاصة عند تفاعلهما سوية، فالمجتمعات الشرقية تقدر الجماعة والهدوء والإنصات ومراعاة الآخرين، بينما يثمن المجتمع الأمريكي الفردية والتعبير والإفصاح، مشيرة إلى الفروق الكبيرة بين الثقافات التي تشابه الفروق بين الشخصيات.
ثم تتبعت طرق الانطوائيين في تزييف انبساطيتهم، الأمر الذي يفعلونه عادة في محاولة لتقليل الحرج والتأقلم مع بيئة خلقت للانبساطيين أصلاً، متناولة طريقة الرصد الذاتي التي يعمد فيها الانطوائي إلى خلق نسخة انبساطية منه ليتمكن من تحقيق بعض غاياته، مع ضرورة أن يمتلك “أماكن الإنعاش” لإعادة شحن نفسه وتذكيرها بأنه لا يزال على ما هو عليه بطبيعته، رغم التمثيلية التي يضطر إليها.
أما الفصل العاشر فكان أفضل الفصول وأكثرها حميمية، فقد تناولت فيه طبيعة الزواج الذي يضم الشخصية الانبساطية ونظيرتها الانطوائية، وسير الأمور عادة فيه، وطبيعة ما يشعر به كلا الطرفين المتضادين والراغبين، في الوقت نفسه، في الحفاظ على علاقتهما، مستعينة ببعض التجارب الواقعية الذي خاضها بعض الأزواج، وفي الفصل الأخير أوجزت بعض النصائح والإرشادات للتعامل مع الأطفال الانطوائيين، تضمنت احترام اختياراتهم والبعد عن محاولة فرض أي واقعٍ يرفضونه ويزيد من قلقهم ورهابهم تجاه المجتمع، ومساعدتهم على تثمين قدراتهم في عالمٍ يعج بالانبساطيين “إحصائياً” ومُصمم خصيصاً لهم.
إنه أحد كتبي المفضلة، وأنا ممتنة للغاية للكاتبة، أرشحه للجميع، وللانطوائيين خاصة.