ضمن اهتمامي بنطاق العلوم الإنسانية والاجتماعية الذي يندرج تخصصي التربوي تحته، أحاول بين الفينة والأخرى استكشاف مجالات معرفية أخرى إيمانًا مني بأهمية هذا الاطلاع خارج التخصص في إثراء العقل وتنميته، وكان من ضمن هذه الموضوعات مؤخرًا موضوع الاستشراق وصوره المتجددة، فكان أن قرأت كتاب (الاستشراق الجديد) للأستاذ عبدالله الوهيبي، تزامنا مع الاستماع للدكتورة ملاك الجهني عبر بودكاست جولان في حديثها عن (إدوارد سعيد خارج المكان، داخل الزمان)، ثم كتبت تغريدة عن هذا التزامن المثري، فاقترح علي أحدهم مشكورًا الاطلاع على كتاب الأستاذة هاجر العبيد: الدراسات الاستشراقية مقدمات ومقاربات، وهو موضوع هذه المراجعة.
وموضوع الاستشراق يثير في مخيلة معظم الناس صورًا نمطية تنتمي للماضي، يقفز للذهن ذلك الأوروبي الذي عكف على تعلم اللغة العربية، وأقبل على كتب التراث ليحققها، أو تاريخنا الإسلامي ليشوهه أو ينصفه بحسب مزاجه ومدى موضوعيته، أو نصوصنا الشرعية ليقدح فيها أو يُسلم بسببها، أو ذلك الرحالة الذي اختار مخالطة العرب والمسلمين والكتابة عنهم في منهج أقرب للأنثروبولوجيا، إلا أن الاستشراق متجدد، وصوره متحولة، وهو إن اختفى في صورته القديمة الصريحة، إلا أنه عاد لابسًا أثوابًا أخرى كمراكز الأبحاث، ومراكز الدراسات المستقبلية وغيرها.
ويأتي هذا الكتاب المنشور عام 2021م، والذي بلغ عدد صفحاته (213) ضمن سلسلة تكوين الصادرة عن مركز نماء للبحوث والدراسات، وهي سلسلة تهدف إلى: “تزويد العقل المشتغل بالدراسات الإسلامية والإنسانية بأداة تكوينية ترسي لديه المعالم الأساسية لموضوعات ومسائل ومفاهيم وطرائق تحصيل ملكة النظر في كل علم من العلوم الإسلامية والإنسانية، فكتبها تحتوي على الخصائص التربوية والتعليمية للكتب المؤسسة للدرس في كل علم من العلوم.”
والمؤلفة هي الأستاذة هاجر العبيد، أكاديمية وباحثة ومترجمة مهتمة بالعلوم الاجتماعية وحاصلة على ماجستير في الدراسات الاستشراقية، لها كتاب حول (أثر الاستشراق في الدراسات ما بعد الكولونيالية) وعدد من المقالات المترجمة حول الاستشراق، ويعد الكتاب مدخلًا جيدًا للقارئ غير المتخصص، يعرفه بمفهوم الاستشراق والدراسات الاستشراقية، وتاريخ الاستشراق ويناقش علاقته بحقول معرفية ومفاهيم مقاربة كالأنثروبولوجيا، والعولمة وما بعد الحداثة والإسلاموفوبيا والاستعراب والاستغراب.
عنوان الكتاب معبر عن مضمونه تعبيرًا جيدًا (الدراسات الاستشراقية: مقدمات ومقاربات) فموضوعه الدراسات الاستشراقية (التي تبين الكاتبة الفرق بينها وبين الدراسات الشرقية)، وهو يتناول هذا الموضوع من زاويتين، الأولى مقدمات تعريفية وتاريخية، والأخرى مقاربات لميادين تتقاطع مع الاستشراق بشكل أو بآخر، وقد ذكرت المؤلفة في المقدمة: “ما أريد أن أصل إليه من خلال هذا العنوان هو ذلك التعقيد في موضوع الاستشراق بصفة عامة وتشعبه في أكثر من جانب“.
أما الغلاف فكان اختياره ذكيًا حيث حمل إحدى لوحات الفن الاستشراقي الذي يصور حضارة الشرق بعيون غربية، حيث يحضر السجاد الشرقي والألوان الغنية والعمائم، والكتاب يتقارب كثيرًا في موضوعه وأفكاره وعناصره مع كتاب الأستاذ عبد الله الوهيبي الصادر عن (آفاق المعرفة) الذي قرأت طبعته الثانية الصادرة في نفس العام بعنوان (الاستشراق الجديد: مقدمات أولية) وكلاهما مناسب للقارئ غير المتخصص في تعريفه بحقل الاستشراق وتطوراته.
ويقع الكتاب في ثلاثة فصول: تضمن الأول منها: مقاربات أولية في المفاهيم والنشأة، أما الفصل الثاني، فقد خصصته الباحثة للاستشراق المتجدد، وناقشت في الفصل الثالث: مقاربات حول الاستعراب والاستغراب، ويمكن القول بأن الفصل الأول يمثل (المقدمات) التي أُشير إليها في عنوان الكتاب، بينما يمثل الفصلين الثاني والثالث (المقاربات).
ملخص الكتاب:
قدّم للكتاب الدكتور سعد البازعي مثنيًا على كونه يقدم خارطة واضحة للقارئ المختص وغير المختص عن الاستشراق توضح ضبابية مساراته وتطوراته التي لم تقف عند صورة الاستشراق في الماضي، بل تقصت المؤلفة جوانبه المتنامية التي يحتاج القارئ العربي الاطلاع عليها، ثم تبع ذلك توطئة جميلة من المؤلفة مكتوبة بعناية تشد القارئ للكتاب، وتبيّن أهمية الموضوع، وتشعبه، وغرض الكتاب.
الفصل الأول: مقاربات أولية في المفاهيم والنشأة:
يناقش المبحث الأول مصطلح (الاستشراق) ومراحل نشأته وتطوره، والتذبذب في تعريفه، ثم وضعت المؤلفة بعض الأسس التي تؤطره في ظل صعوبة التعريف المحدد، ثم عرجت في المبحث الثاني على مصطلح (المستشرق) والتحولات التي أصابت دلالته وموقعه من القبول والرفض داخل دائرة الاستشراق وخارجها، وفي المبحث الثالث تأخذنا المؤلفة في رحلة تاريخية نتعرف بها على أطوار الاستشراق من مبعثه إلى حقبة الاستشراق الكلاسيكي، ثم الاستعمار وما بعده، مستعرضة مظاهر كل مرحلة وخصائصها.
الفصل الثاني: الاستشراق المتجدد:
وهو أطول فصول الكتاب وأكثرها تشعبًا في المباحث، حيث يبدأ بالتمهيد حول التغيرات في الاستشراق من أيام مجده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى تغير صورته بعد الحرب العالمية الثانية وانزياح مركز القوة الغربية من أوروبا للولايات المتحدة الأمريكية، والدور الكبير لكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد في سبعينيات القرن العشرين في إنهاء الاستشراق بصورته الكلاسيكية وتدشين مرحلة ما بعد الاستشراق.
وفي مباحث هذا الفصل التي بلغت ستة، تناقش المؤلفة تباعًا، علاقة الاستشراق بحقول متعددة: الأنثروبولوجيا، ما بعد الحداثة، العولمة، دراسات المناطق ومراكز البحوث الأمريكية، والإسلاموفوبيا، ونقد المستشرقين الذاتي للإسلاموفوبيا، وبدت لي بعض المباحث في هذا الفصل بحاجة لمزيد من التنظيم في عرض الأفكار، والتقليل من الاقتباسات، لتكون أكثر إمتاعًا في القراءة.
الفصل الثالث: مقاربات أولية في الاستعراب:
تطرقت المؤلفة في هذا الفصل لمصطلحين مهمين هما (الاستعراب والاستغراب) ويمكن تعريف الأول بأنه الدراسات المعنية بالعرب وخاصة الدراسات الأندلسية، أما الاستغراب فهو حقل يؤسس لنظرية جديدة يكون فيها الشرق دارسًا للغرب، وينتقل من موضوع مدروس إلى ذات دارسة، بغرض القضاء على مركب النقص الذي ولدته المركزية الغربية ودعمها الاستشراق، وتناقش المؤلفة بإسهاب دلالات المصطلحين، ومراحل نموهما، وعلاقتهما بالاستشراق.
غرض الكتاب:
نجحت المؤلفة -من وجهة نظري- في تحديد الغرض الدقيق من الكتاب وتحقيقه، فقد أوضحت في المقدمة أن غرضها ليس الإتيان بجديد، أو تحليل المضامين والحكم عليها، بقدر ما هو تقديم استعراضٍ منهجيّ علميّ موجَز عن الاستشراق وربط أجزائه تاريخيًا، وتوضيح علاقته بالاستعراب والاستغراب، مما يمثل مفاتيح للقارئ يبحر بعدها بالقراءة والاطلاع، ومن أهم أهداف الكتاب تحديث معلومات القارئ العربي حول الاستشراق وتطوراته، فالعلوم تقوم على التراكم والتجديد، وبالنظر لحداثة نشر الكتاب وقت كتابة هذه المراجعة، فقراءته تقدم للقارئ فكرة جيدة عن تطورات الاستشراق.
من أهم أفكار الكتاب:
تطرق الكتاب لعدة أفكار مهمة لفتت انتباهي، من أبرزها أوجه التشابه والاختلاف بين الاستشراق الكلاسيكي والمتجدد، فهما يتقاطعان في وحدة مجالهما الحيوي، فكلاهما يدرس الشرق بهدف فهمه ومن ثم السيطرة عليه، أما أوجه الاختلاف فمتعددة وأبرزها: التحول من الاهتمام بالدراسات اللغوية إلى الدراسات الاجتماعية، أو من منهج الفيلولوجيا إلى الأنثروبولوجيا، وبعبارة أخرى، من دراسة النصوص الشرقية إلى دراسة الإنسان الشرقي، وهذا يعني انضمام متخصصين من الدراسات الإنسانية المختلفة لخدمة الاستشراق في ثوبه الجديد.
وذكرتني هذه الفكرة في الكتاب بندوة شاهدتها في اليوتيوب، أقامتها جامعة كارنيجي ميلون عام 2014 حول مستقبل العلوم الإنسانية، حيث ناقشت تقريرًا بعنوان The Heart of Matter وقيل فيها إن الولايات المتحدة ليست الأفضل في الرخاء الاقتصادي أو الرفاهية الصحية أو الأمن، إلا أنها قوة عظمى لا منازع لها منذ الحرب العالمية الثانية، ويعود الفضل في قوتها العسكرية إلى الحروب التي خاضها علماء الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا والإدارة، أكثر مما يعود للعسكريين؛ فعلماء الإنسانيات هم الذين يسهّلون فهم الشعوب وبقاء النفوذ الأمريكي فيها بعد انتهاء الحروب!
ومن الفروق التي تناولتها المؤلفة بين الاستشراق الكلاسيكي والمتجدد، تحول تركيز الاستشراق من ثنائية الشرق والغرب، إلى تذويب الهويات القومية والثقافية للشعوب بهدف إخضاعها، ومن الانغلاق على النخبة المفكرة إلى تعبئة عامة الجماهير الغربية بأفكار كالإسلاموفوبيا، ويمكن ربط هذين الفرقين بمبحث (الاستشراق وما بعد الحداثة) حيث طرحت المؤلفة تساؤلًا هو: “إذا كان الاستشراق مرتبطًا ارتباطا وثيقًا بالحداثة، فكيف يمكنه أن يكون مرتبطًا بما بعد الحداثة؟” ثم تقدم جوابا: “يمكن ذلك بافتراض أن ما بعد الحداثة في بعض النواحي الحاسمة هي مواصلة للخطاب الحداثوي، أو هي في بعض الدرجات تكوّن تمظهره الأخير الناضج… ولكن من الواضح وجود اختلافات كبرى أيضا“ ثم تعود لتقول “إن عدم الارتياح المعاصر فيما يخص الهوية الثقافية وصلاحية التراث ودعم الأصوات المقهورة -وكلها قضايا ما بعد حداثوية بامتياز- قد تصدّرت الاهتمام بأبحاث المستشرقين التي ساعدت في كثير من الحالات على التركيز على هذه القضايا وتوضيحها“، وبوصفي قارئة مهتمة بموضوع الحداثة وما بعد الحداثة، تمنيت أن تسهب المؤلفة أكثر في إجابة هذه المفارقة.
كذلك شدّني تناول المؤلفة لموضوع (الاستغراب) في الفصل الأخير، ومشروع الدكتور حسن حنفي في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) في تأسيس هذا العلم، فالاستغراب يفتح أملًا للذات العربية لأن تتحول لذات دارسة بدلًا من أن تبقى موضوعًا مدروسًا، أملًا في تقويتها وخروجًا من التبعية الفكرية إلى التفاعل والإنتاج، وتورد المؤلفة آراء مختلفة منها المؤيد للاستغراب لدرجة اعتباره ضرورة حضارية، ومنها الذي يستنكره بحجة أن العرب أضعف فكريًّا من أن يتحولوا لذواتٍ دارسة!
وبقدر ما شدّتني مقدمة الكتاب وأمسكت بيدي بحرارة مصافحةً ومرحبة لألِج عالم هذا الكتاب وأتقلب بين صفحاته، فوجئت بانتهاء الكتاب بمبحث الاستغراب نهاية مفاجئة، لا ختام فيها ولا خلاصة ولا توديع، لأجد نفسي بعدها في صفحة قائمة المراجع، كمسافر فُتح له باب الطائرة وقيل انزل، وهو لم يشعر بهبوطها على المدرج!