اختيار الجنون: مراجعة لكتاب: عشرة أيام في نزل الجنون

Picture of طارق اليزيدي
طارق اليزيدي

مؤسس نادي زاد للقراءة

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو كتاب من تأليف الصحفية الأمريكية نيللي بلاي (Nellie Bly)، التي تُعد واحدة من أوائل الصحفيين الاستقصائيين في الولايات المتحدة.

ترجمه إلى العربية عواطف الجاروف وطُبع في دار منطاد.

نُشر الكتاب لأول مرة في عام 1887 كمجموعة من المقالات التي كتبَتْها بلاي لتوثيق تجربتها الشخصية داخل مستشفى بلاكويل آيلاند للأمراض العقلية، حيث قامت بالتظاهر بأنها فاقدة للعقل لتتمكن من الدخول إلى المستشفى ومراقبة أحوال المرضى عن قرب. يُعتبر هذا العمل من أهم الأعمال الصحفية الاستقصائية في القرن التاسع عشر، وقد ساعد بشكل مباشر في إحداث تغييرات كبيرة في نظام رعاية الصحة النفسية في أمريكا.

كانت نيللي بلاي صحفية شابة عندما قررت أن تقوم بهذه المهمة الجريئة. كانت قد التحقت بجريدة نيويورك وورلد، ولها طموح كبير في تغطية القصص التي تتجاوز العناوين اليومية البسيطة. في وقت كانت فيه النساء نادرًا ما يتم منحهن فرصًا للقيام بتحقيقات استقصائية، نجحت بلاي في إقناع رؤسائها بإرسالها في مهمة خطيرة ومثيرة تتمثل في التظاهر بأنها فاقدة للعقل لدخول مستشفى للأمراض العقلية في جزيرة بلاكويل، والتي كانت معروفة بسوء معاملتها للمرضى. كان هدفها كشف الظروف البشعة التي يعيشها المرضى وكشف الإهمال الذي يعانونه.

في الداخل:

بدأت بلاي رحلتها بتعلم كيفية التظاهر بأنها فاقدة للعقل. تدرّبت على التعبير عن جنون وهمي، حيث بدأت تتحدث بشكل غير مفهوم وتتصرف بطريقة غير مألوفة. وفعلاً، بعد سلسلة من الاختبارات الطبية السطحية والمقابلات مع أطباء لم يأخذوا الوقت الكافي لتقييم حالتها النفسية بشكل دقيق، تم إدخالها إلى مستشفى بلاكويل. هذه المرحلة تُظهر بوضوح مدى ضعف الفهم الطبي للأمراض العقلية في ذلك الوقت، وكيف كانت عملية تشخيص الأمراض العقلية غير دقيقة وتعتمد على المظاهر الخارجية.

كانت تجربة بلاي داخل المستشفى صادمة. بمجرد دخولها، بدأت تلاحظ أن الظروف التي يعيشها المرضى لا تتماشى مع أدنى معايير الإنسانية. كان المستشفى مكتظًا، والطعام الذي يُقدّم للمرضى سيئًا لدرجة أنه بالكاد يمكن تناوله. كما كانت المياه التي يشربونها غير نظيفة ومليئة بالملوثات. المرضى كانوا يُتركون دون أي رعاية طبية حقيقية، بل كانوا مُجردين من إنسانيتهم ويتعرضون لإهمال قاسٍ.

كان أحد أكثر الجوانب التي هزت بلاي هو معاملة الطاقم الطبي والممرضات للمرضى. بدلاً من تقديم الرعاية أو المساعدة، كان المرضى يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي بشكل يومي. الممرضات كنّ يصرخن في وجه المرضى، ويعاملوهم بقسوة بالغة، ويضربونهم في بعض الأحيان. أما المرضى الذين حاولوا الاعتراض على هذه المعاملة، فكانوا يُعزلون تمامًا ويُتركون في حالة من العزلة المدمرة. كانت البيئة مليئة بالخوف والترهيب، مما زاد من معاناة المرضى وعمّق شعورهم بالعجز.

عزلةٌ وإقصاء:

أحد الجوانب الأكثر تدميرًا في حياة المرضى هو العزلة التامة التي كانوا يعيشون فيها. لم يكن يُسمح للمرضى بالتحدث مع بعضهم البعض، وكانوا يُجبرون على البقاء صامتين طوال اليوم. هذا التجريد من القدرة على التواصل البشري أدى إلى تدهور حالتهم النفسية بشكل أسرع. حتى نيللي، التي كانت تعرف أن إقامتها ستكون مؤقتة، شعرت بالأثر النفسي السلبي لهذه العزلة، حيث بدأت تفقد الإحساس بالوقت والشعور بالواقع.

لاحظت بلاي أن العديد من المرضى الذين يعيشون في المستشفى لم يكونوا يعانون من اضطرابات عقلية حقيقية. البعض كان قد أُدخل إلى المستشفى لاعتبارات غير مبررة مثل كونهم فقراء أو غير مرغوب فيهم من قِبَل عائلاتهم. في بعض الحالات، كانت النساء تُدخَلن إلى المستشفى فقط لأنهن تصرفن بطريقة غير تقليدية أو لأنهن ببساطة لم يكنّ مرغوبات من المجتمع. هذه الاكتشافات أظهرت إلى أي مدى كانت الأمراض العقلية تُستخدم كذريعة لعزل الأشخاص غير المرغوب فيهم عن المجتمع.

في الخارج:

بعد مرور عشرة أيام داخل المستشفى، شعرت نيللي بلاي أنها جمعت أدلة كافية على الظروف المروعة. استدعت محامي الصحيفة الذي تدخل لإنقاذها من هذه التجربة القاسية. كانت قادرة على العودة إلى حياتها الطبيعية، ولكن تأثير هذه التجربة لم يكن مؤقتًا. عند خروجها، قامت بنشر تجربتها في سلسلة من المقالات التي هزت المجتمع الأمريكي وجعلت القراء يشعرون بالصدمة والغضب تجاه المعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها المرضى.

كان لكتاب “عشرة أيام في نزل الجنون” تأثير كبير وفوري. بعد نشر المقالات، شُكّلت لجنة تحقيق حكومية للنظر في الأوضاع داخل مستشفيات الأمراض العقلية. اكتشفت اللجنة العديد من الانتهاكات التي وثقتها نيللي بلاي وأوصت بإجراء إصلاحات عاجلة. تم تحسين ميزانية المستشفيات، وجرى توظيف طاقم طبي أكثر تأهيلاً، كما تم تحسين ظروف الإقامة وتقديم الرعاية الصحية بشكل أفضل.

الرسالة الأساسية التي تحملها تجربة نيللي بلاي هي أن الجنون ليس بالضرورة مرضًا داخليًا يُعاني منه الأفراد بقدر ما هو حالة قد تخلقها البيئة القمعية التي يُحتجز فيها الناس. البيئة القاسية، الإهمال، وسوء المعاملة قد تجعل من أي شخص سليم نفسيًا مريضًا بسبب العزلة والضغوط النفسية التي يُوضع فيها. الكتاب يُظهر أن الجنون قد يكون نتيجة لسوء معاملة المجتمع للأفراد المختلفين أو الضعفاء.

من خلال تجربتها، لم تقم نيللي بلاي فقط بكشف العيوب في نظام الصحة العقلية، بل طرحت تساؤلات أعمق حول كيفية تعامل المجتمع مع الأشخاص الذين يُعتبرون غير ملائمين. هل نعتبرهم مرضى لأنهم مختلفون؟ أم أن المرض الحقيقي يكمن في الطريقة التي يُعزل بها هؤلاء الأشخاص ويُعاملون على أنهم أقل إنسانية؟

إضافة إلى إلقاء الضوء على النظام العقلي، انتقدت بلاي النظام الطبي ككل. خلال تجربتها القصيرة في مستشفى بلاكويل، اكتشفت أن الأطباء كانوا متسرّعين في التشخيص والخروج باستنتاجات دون النظر بعمق في حالة المريض أو إجراء فحوصات دقيقة. هذه المعاينة السطحية لأعراض المرضى تُظهر فشل النظام الطبي في تلك الفترة، حيث كان الأطباء غير مهيئين للتعامل مع المرضى بطريقة إنسانية أو علمية.

الخلاصة:

“عشرة أيام في نزل الجنون” هو أكثر من مجرد قصة عن التحقيق الصحفي؛ إنه دعوة إلى الإنسانية والإصلاح. من خلال شجاعة نيللي بلاي، نرى كيف يمكن لشخص واحد أن يحدث تغييرًا كبيرًا في المجتمع. الكتاب يسلط الضوء على قضية لا تزال مهمة حتى اليوم: كيفية التعامل مع أولئك الذين يعانون من اضطرابات عقلية، وكيف يجب أن نعيد التفكير في الأنظمة التي تسيء إليهم بدلاً من مساعدتهم.

شارك الصفحة