لقد فقدت مقولة “الجهل نعمة” بريقها بصفتها مبدأ في ثقافتنا، وانتشرت في مقابلها عبارات أخرى مثل “أدَّ العمل”، “لا مخرج إلا بالعبور”، “إن رأيت شيئًا مريبًا فأبلغ عنه”. لكن هذا لا يغيّر من أن مقولة توماس غراي التي تعود إلى القرن الثامن عشر تظل صحيحة ويكون الجهل نعمة أحيانًا، كما في حالة المكنونات الداخلية لأجسادنا.
نحن مجتمع من المصابين بتوهّم المرض، مجموعة من البلهاء الذين يتجولون بين تيك توك وريديدت وبيانات ساعة آبل والموقع الطبي WebMD سعيًا للحصول على تفسيرات علمية زائفة للأعراض التي نعاني منها، والحكم على أنفسنا بالموت. لكن كما سيخبرك أي معالج هاوٍ غير محترف: شعور السيطرة لا يدوم. فلا نكاد نستوعب معلومة فسيولوجية حتى يعاودنا ذلك التعطش للمعلومات عشرة أضعاف، وهذه المرة في شكل أسئلة أكثر مما كانت تراودنا في السابق.
يستكشف المحرر والأكاديمي الإنجليزي ويل ريس هذ المأزق بتفصيل أنيق في كتابه “هيبوكوندريا” [توهّم المرض] وهو مؤلَّف مكثف يجمع بين السيرة الذاتية والتاريخ والنظريات في محاولة لفهم موضوعه الغامض.
لم يتمكن ريس من الوصول لتفسير واضح لهاذا الموضوع -بطبيعة الحال- لكن هذا الإخفاق قاده إلى مسار آخر. يقول: إن الهيبوكوندريا “تشخيص يشكّك في يقيننا في أي تشخيص”. بما في ذلك هذا التشخيص نفسه. “سمِّه كما تشاء، ما يهمني هو فكرة الشك، وليس التصنيفات التي نحاول أن نحصره بها”.
يعرف ريس عن كثب محنة الهيبوكوندريا، إذ يقول بلهجة مشؤومة: “أصبت بصداع يومًا ما من عام 2010″، صداع عادي، ليس مبرحًا لكنه مستمرًا. وبعد شهر أخبر الطبيب ريس أنه يعاني من صداع التوتر ككثير من الطلاب الجامعيين. إلا أنه رفض تناول مسكنات الألم إذ بدت له الفكرة “غير مسؤولة، بل متهوّرة تمامًا كفصل إنذار الحريق لأنه أيقظك من سباتك”، وفضّل عليها خوض رحلة مستوحاة من كافكا “لفهم هذا الصداع”.
سيتمتم القارئ “بالتوفيق!” بينما يمضي مؤلفنا ببراءة في طريق الهيبوكوندريا الذي لا عودة منه، فأعراضه الجديدة تتراكم ككرة من الأربطة المطاطية تنمو باستمرار.صار ينسى الكلمات والأماكن التي رأى فيها وجوهًا معينة من قبل، وعيناه ترتعشان أحيانًا، ومذاق القهوة معدني، ولاحظ أن الحازوقة تأتيه من مرة إلى ثلاث مرات يوميًا (يقول: سألت جوجل “أيمكن أن تكون الحازوقة ناجمة عن سرطان المخ؟ فأجاب نعم، إن تفاقمت) لكن الأطباء لم يجدوا أي خلل.
هنا يصل ريس إلى أقصى درجات الحدّة والبراعة، حيث يكشف عن الرؤية القاصرة التي ابتُلي بها العقل البشري منذ تطوره، خاصة أولئك الذين يقضون وقتًا طويلًا في التفكير المفرط الذي لا طائل من ورائه.
وهذا الكتاب الصغير نسبيًا لا يخلو من الدراما. فلا يكتفي ريس بتجاربه الخاصة، بل يحيلنا إلى كتاب روبرت بيرتون “تشريح السوداوية” المنشور عام 1621 حيث يسرد حالات المصابين بالهيبوكوندريا الذين كانوا يعتقدون أن أجسادهم تحولت إلى خزف أو زجاج، كما يتطرق إلى النبذ العنيف لنظرية أبوقراط في الطب “الأخلاط الأربعة” في أربعينيات القرن السادس عشر. وفي عام 2013 حين كان ريس في أوج نوبته التي استمرت خمس سنوات، يذكر أنه “لم يعد للهيبوكوندريا وجود”، إذ حُذف المصطلح من الطبعة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (D.S.M.-5).
وعليه، عزم على كتابة “دراسة علمية جادة” تتبع تطور هذه الحالة من اليونان القديمة إلى وقتنا الحاضر. وهذا الكتاب ليس كذلك، لكنه أكثر تشويقًا وأكثر نفعًا ربما: إنه جهد عقل واحد يسعى إلى توفيق تصوراته عن العالم -رغم كونها مشوّهة- مع تصورات سلسلة طويلة من المفكرين السابقين له، وفي هذه العملية نمت فكرة الهيبوكوندريا التي لا ترقى إلى مستوى النظرية لتصبح أطروحة شاملة حول القوة الدائمة للشك البشري.
يشير ريس إلى الغموض المزدوج المحيط بالهيبوكوندريا، فالمصطلح نفسه من الناحية الطبية طالما كان “يكتنفه الظلام” على حد تعبير فرويد عام 1909. ويرى ريس أن هذا ينطبق أيضًا على المصاب، حيث يقول “لا أجد وصفًا للمكان المظلم الذي يجد المصابون بالهيبوكوندريا أنفسهم فيه، فرغبتهم في الوصول إلى فهم قاطع وواضح تدفعهم بلهفة إلى التمسك بأقصى حدود معرفتهم”.
يأخذ ريس في التعافي ويواصل حياته التي صارت تتمركز حول الكتابة عن المرض وغيابه. لكن الترتيب الزمني للأحداث في هذا الكتاب متداخل، تمامًا كما ترد الأفكار على أذهاننا. نُشر أحد فصول الكتاب كمقالة في مجلة، وهو يروي أسبوعين أمضاهما ريس في الفحوص بعد إصابته بالحمى واحتمال وجود عقدة ليمفاوية رُصدت في صورة الأشعة السينية على الصدر. يقول إن هذه المدة المليئة بسحب العينات والمكث في غرف الانتظار والتقارير الطبية انتهت بخروجه من المشفى لكن دون يقين من أنه معافى.
ثم تأتي إضافة غير متوقعة تحاكي شعور التيه الذي يمر به المصاب بالهيبوكوندريا. فبعد عام من نشر المقالة يقترب رجل غريب من ريس في إحدى المناسبات ويقول له: “عليك أن تجري فحصًا آخر”. يقول ذلك الرجل إنه بعد قراءة المقالة لم يخطر بباله سوى فكرة واحدة: “هذا الشخص مصاب بسرطان الغدد الليمفاوية”. وهنا يشعر القارئ أن الأضواء تنطفئ وتزول عنه أوهام اليقين المتغطرسة.
لا نعرف نتيجة أشعة الرنين المغناطيسي التي أجراها ريس بعد ذلك، وهو نفسه يقول “أفضّل ألا أعرفها”، لا يوجد حل مُرضٍ له ولا لنا. حكاية صحتنا لا تنتهي بوضوح… حتى يحين الأجل.