
من أكثر العادات التي حسّنت جودة تجربتي القرائية: قراءة الردود المعارضة.
سأقدّم ببيان السياق للتوضيح.
طالما استمتعت بقراءة الكتب التي تعالج أفكارًا تحويلية في مجالات العلوم والأعمال وتطوير الذات، وتتنوع هذه الكتب ما بين الأكثر مبيعًا (مثل أسلحة وجراثيم وفولاذ) إلى الكتب المجهولة نسبيًا (مثل لغز العقل).
في أكثر الحالات لا يكون لدي خبرة عميقة في الموضوع الذي أقرأ عنه، والأدبيات البحثية التي يستشهد بها المؤلف ليست مألوفة لي، وبالتالي لا أدري إن كانت الفكرة المطروحة تمثل رأيًا شبه مجمع عليه أم مجرد نظرية شاذة تتبناها أقلية هامشية.
ونتيجة لذلك قد تؤدي قراءة مثل هذه الكتب إلى نمط شائع:
- لا تعرف شيئًا عن الموضوع (س) وأفكارك المسبقة عنه قليلة أو منعدمة.
- تقرأ كتابًا يطرح مؤلفه فكرة جريئة (ص) ويدّعي بأنها الطريقة الصحيحة للتفكير في (س)، ويدعم هذا الادعاء باقتباسات منمّقة ورسوم بيانية وردود مبهرة على اعتراضات لم تخطر لك على بال.
- تنهي القراءة وأنت على قناعة بأن (ص) هي الطريقة الصحيحة للتفكير في (س).
- يشير أحدهم إلى بعض الثغرات الموجودة في (ص)، وربما تطالع كتابًا آخر يفصّل أسباب كون (ص) طريقة خاطئة للتفكير في (س)!
- فتشعر بأنك خُدعت، ذلك المؤلف الأصلي الذي طرح الفكرة (ص) قد ضلّلك! ما كان جليًا لم يعد كذلك، ولا تدري ماذا تصدق.
إن مررت بهذه الدورة عدة مرات فمن الصعب ألا تصبح متشككًا. ما الفائدة من قراءة الكتب إن كان الأمر ينتهي غالبًا بخداعك بالأفكار المغلوطة؟ كيف تتعلم أشياء جديدة دون أن تقع في شرَك الحجج المضللة؟
لماذا لا يُجدي “التفكير النقدي”؟
النصيحة التقليدية لمعالجة هذه المشكلة هي تطوير مهارات “التفكير النقدي”، تتعدد أشكال هذه النصيحة لكن من بينها:
- أن نطالب بالأدلة القوية: مثل التجارب العشوائية المضبوطة بتصميمات مسجلة مسبقًا، أو الأساليب الاقتصادية القياسية الدقيقة للتمييز بين الارتباط والسببية، أو العينات الكبيرة. إلا أن مثل هذه الأدلة القوية غير موجودة غالبًا، وإن وُجدت فقد يصعب تجميعها. كثيرًا ما يستشهد المؤلفون بالدراسات المتقَنة التي تدعم استنتاجهم، ويتجاهلون غيرها من الأبحاث المعارضة رغم كونها على نفس القدر من الجودة.
- أن نكشف عن الحجج الباطلة والمغالطات المنطقية: يرى آخرون من أنصار التفكير النقدي أننا يجب أن نقرأ بتأنٍّ ونلاحظ الأخطاء المنطقية، فنسأل مثلًا: هل كان ذلك هجومًا شخصيًا؟ هل ارتكب المؤلف مغالطة المصادرة على المطلوب وافترض صحة ما يحاول إثباته؟ يبدو هذا النهج ذكيًا، لكنه يفترض أن جميع الحجج مبنية على الاستنتاج وتُعرض في شكل قياس منطقي، لكن معظم الاستدلال يعتمد على الاستقراء (والاستنباط) وليس الاستنتاج. وفي الوقت ذاته كثير من أخطاء الاستنتاج المنطقي قد تفيد في أشكال أخرى من الاستدلال (على سبيل المثال: هل تفضيل رأي عالم متخصص على رأي شخص عادي على الإنترنت يعد هجومًا شخصيًا؟) لكن هذا النهج ليس حلًا شاملًا لجميع أشكال التفكير الخاطئ.
- أن نستثمر جهدًا في دراسة الأفكار بعمق وتشكيل آرائنا بأنفسنا: لا توجد طريقة متبعة على الإطلاق من هذا المنظور، فالتفكير النقدي ببساطة يعني أن نتعامل مع الأفكار بذكاء وألا تنخدع بغير المتقَن منها. عندما نقرأ كتابًا فإننا غالبًا نكون في وضع غير مواتٍ للأسف، فالمؤلف قد أمضى سنوات في دراسة حجة لم نفكر فيها من قبل، وصمم طريقة عرضها بعناية مسبقًا، فيما نحن مطلوب منا أن نرتجل حججًا مضادة أثناء القراءة.
لا أعتقد أن التفكير النقدي مهارة على الإطلاق، بل إن كثيرًا مما نسميه تفكيرًا نقديًا ما هو إلا امتلاك معرفة أكثر عن الموضوع المطروح للمناقشة. يكتشف الخبراء المغالطات المنطقية في بعض الحجج لأنهم غمروا أنفسهم في تاريخ الأفكار والنقاشات في هذا المجال على مدى سنوات، أما المبتدئين فلم يفعلوا ذلك، وبالتالي لا يستطيعون اكتشاف المغالطات المنطقية.
وهنا تكمن الصعوبة: كيف تقرأ كالخبراء دون أن تكون واحدًا منهم؟
المراجعات “المُعادية” مفتاح القراءة بذكاء
يصعب إعداد رد مدروس لفكرة معروضة بطريقة مُحكمة، إذ يتطلب ذلك خبرةً وجهدًا ذهنيًا أكثر مما يرغب أو يستطيع معظمنا بذله على كتاب اشتريناه لأنه أثار اهتمامنا.
الحل الأمثل أن تبحث عن أفضل الحجج المضادة المطروحة. عادة ما يكون أصحاب هذه الحجج خبراء منافسين في نفس المجال. انظر ما الخطأ الذي يراه هؤلاء الخبراء في فكرة الكتاب؟
قد يظن المرء أن قراءة رد معارض ستؤدي إلى نقض أطروحة الكتاب الأصلية. إن قرأت كتابًا ثم قرأت الرد عليه ألن تشعر بفوضى مُربكة؟
لكن الأمور لا تسير على هذا النحو في الواقع. أكثر الكتب لا تقدم أطروحة واحدة، بل تتضمن مجموعة واسعة من الأفكار وتداعياتها، وعندما تقرأ الردود فإن التركيز يكون على بعض نقاط الضعف الموجودة في حجة المؤلف.
بل إن الردود قد تعزز تقديرك للفكرة الأصلية لأنك تتعرف على الأجزاء التي يؤكدها أشد المنتقدين. عندما يعترف معارضوك بأنك على صواب في أمر ما، فإن هذه علامة قوية على أن هذا الجزء من فكرتك صائب.
والأهم من ذلك، قراءة الردود المدروسة تتطلب الاستعانة بشخص مؤهل يتمتع بالخبرة والتفكير المكثف اللازمَين لاكتشاف الثغرات في الأفكار التحويلية، فمَن أفنى حياته في القراءة والتفكير في موضوع ما سيُحسن في ملاحظة الخطأ ما أكثر منك.
كيف تطبق هذه الاستراتيجية حتى تحسّن تفكيرك
مصدري المفضل للاطلاع على هذا النوع من الردود هو مراجعات الكتب العلمية، فغالبًا ما يكون كتّاب هذه المراجعات خبراء في المجال، على عكس كتّاب المراجعات الصحفية. حتى تجد هذه المراجعات اكتب في محرك الباحث العلمي من جوجل “مراجعة” و”اسم الكتاب” وستظهر لك بعض الأمثلة.
وإن لم يُجد هذا نفعًا فابحث عن الكتاب نفسه على الباحث العلمي واضغط على “تم اقتباسه في” حتى تجد مادة تناقش الكتاب بدلًا من مجرد الإشارة إليه. إن اقتبس العديد من المؤلفين من هذا الكتاب، فابحث عن المراجعات أو الانتقادات ضمن المقالات التي اقتبست العمل الأصلي.
ماذا عن الكتب التي لا تتوفر لها مراجعات؟ أو التي لا تتعمق مراجعاتها في الفكرة نفسها؟ في هذه الحالة أنتقل إلى البحث عن المصطلحات الأكاديمية التي تشير إلى الأفكار التي يناقشها المؤلف، فمثلًا الحتمية الجغرافية أو البيئية هي الفكرة التي يتناولها كتاب “أسلحة وجراثيم وفولاذ” لجارد دايموند.
إن البحث عن المصطلحات التي تشير إلى الأفكار المطروحة في الكتاب يساعد في الوصول إلى انتقادات تلك الأفكار، وإن لم تكن تستهدف كتابا معينًا. أي فكرة تقريبًا لها اسم، وبمجرد أن تعرف اسمها ستعثر على مَن يتفق معها ومَن يخالفها.
يحسُن هنا أن تستعين بـ ChatGPT والنماذج اللغوية الكبيرة. لكن انتبه إلى أن مجرد سؤال نموذج لغوي “ما هي أكثر الاعتراضات الواردة على الرأي س؟” لا يضمن لك ملخصًا دقيقًا للأدبيات، لكنه قد يمثل نقطة بداية بتعريفك على بعض المصطلحات المتخصصة التي قد تبحث عنها لاحقًا.
ألا يُطيل هذا وقت القراءة؟
ليس بالضرورة. غالبًا ما تتألف الكتب من بضع مئات من الصفحات، ومراجعة الكتاب لا تتجاوز صفحات معدودة، وحتى قراءة عدد من المراجعات لا تضيف أكثر من 10% من الوقت الإجمالي للقراءة.
تقبل حقيقة نقص أكثر الأفكار
من التحولات التي تحدث عندما تنتظم في هذه العادة أنك تدرك أنّ بعض الحجج لا يوجد لها حجج مضادة قوية، وبعض الأفكار لا يوجد لها عيوب ظاهرة.
لكن أعتقد أن تقبل أنّ أكثر الحجج ناقصة، وأن الأفكار الصحيحة حتى لها ردود معارضة مقنعة، خطوةٌ أساسية للارتقاء بمستوى التفكير، فهو يجنبك التقلبات الشديدة من الاعتقاد الحماسي المتبوع بخيبة الأمل، ويشجعك على النظر إلى القضايا من زوايا مختلفة.
أفضل عادة لتحسين قراءتك أن تسأل بعد كل حجة حماسية “ما الرد عليها؟”
لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل