هل استعدت أي ذكريات طيبة في الآونة الأخيرة؟

pexels-hson-5216874

وقعت قبل يومين على مقالة تتحدث عن “تسع عادات يومية للأثرياء” والتي تميزهم عن ذوي الإمكانيات المتواضعة. أغلب العناصر المدرجة في المقالة واضحة، لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم “يقرأون… لكن ليس من أجل المتعة”. لا يضيع الأثرياء ساعات طويلة بين دفتي رواية، بل يُفترض أنهم يكرسون وقت قراءتهم للكتب غير الروائية، مثل التي تتناول استراتيجيات تحسين الذات أو المعلومات العملية المتعلقة بوظائفهم. يرتبط بهذه المقالة أيضًا مقالة أخرى عن الإدارة المالية تناقش “نمط تفكير معين يميل الجميع [الأثرياء] إلى تجنبه”.

تلك العادة الذهنية السلبية -وفقًا للمقالة- هي الحنين إلى الماضي. ببساطة: لا يشعر الأثرياء بالحنين إلى الماضي، بل إن “عقليتهم موجهة نحو المستقبل” ولا تقدّر في الماضي سوى الدروس التي يُستفاد منها في اتخاذ قرارات الأعمال المستقبلية. وبما أني شخص ذو شهية نهمة للروايات الخيالية وميل إلى الحنين، فمن الطبيعي الآن أن أتساءل عن العامل المشترك بين هاتين العادتين السلبيتين (وما إذا كان عليّ أن أغير نهجي غير العملي). كشفت بعض البحوث عن وجود قدر كبير من القواسم المشتركة بين القراءة الترفيهية والحنين إلى الماضي. فبالإضافة إلى أن كليهما أنشطة ذهنية تقدَّر في المقام الأول للمتعة التي تجلبها -وهو سبب غير نفعي على الإطلاق- فقراءة الروايات للاستمتاع واسترجاع ذكريات الماضي يشتركان في بعض القواسم الدقيقة التي تجعلهما أنشطة عملية أكثر مما يبدو للوهلة الأولى.

من الخصائص المشتركة والمهمة للغاية بين قراءة الروايات والشعور بالحنين: الشبكة العصبية التي يوظفها كل منهما. عندما ينهمك شخص في مهمة تتطلب تركيز شديدًا -كصفقة تجارية مثلًا- تنشط “الشبكة التنفيذية المركزية” في دماغه. وعندما لا يوجَّه الانتباه نحو مهمة محددة، تنشط “شبكة الوضع الافتراضي”. وهذه الشبكة -يطلق عليها أيضًا وضع “شرود الذهن”- هي التي تنشط أثناء التحديق خارج النافذة أو أثناء القيادة لمسافات طويلة على طريق سريع ممتد. وتنشط أيضًا عند القراءة الترفيهية واسترجاع ذكريات الماضي، فكلا النشاطين يتضمن إنشاء تمثيلات ذهنية للمشاهد المحكية: المشاهد الافتراضية في الحالة الأولى، والذاكرة الشخصية في الثانية. قد يبدو ربط هذه المشاهد الذهنية بوضع شرود الذهن داعمًا للطبيعة غير النفعية المتصوَّرة عن القراءة الترفيهية والشعور بالحنين، وصحيح أن الوضع الافتراضي أحيانًا يصرف انتباهنا عن المهام التي تتطلب تركيزًا تامًا، إلا أنه لا يلزم أن يكون كل خروج عن الوضع التنفيذي تافهًا أو غير عملي.

 الأمر كله متعلق بما يشرد فيه الذهن عندما يفعَّل الوضع الافتراضي. من النتائج العملية لشرود الذهن المرتبط بالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين: زيادة الإبداع. أظهرت دراسة أجريت في جامعة تورونتو أن قراءة عمل خيالي قللت مستوى “الإغلاق المعرفي” أو الرغبة في “التخلص من الغموض والحصول على إجابات محددة”، مما زاد من مرونة الأفراد المشاركين في التعامل مع حل المشكلات. وتوصلت دراسة أخرى أجريت في جامعة ساوثهامبتون عن الشعور بالحنين إلى نتائج مشابهة أيضًا، حيث وُجد أن المشاركين الذين شعروا بالحنين كانوا أكثر إبداعيةنتيجة “الانفتاح على التجربة” أو “التحول من حالة تجنب المخاطرة إلى الرغبة في خوض تجارب جديدة” المرتبطة بالشعور بالحنين. وهذا الانفتاح على الأفكار والتجارب المرتبطة بالقراءة والشعور بالحنين يعزز الأساليب الإبداعية في اتخاذ القرارات وحل المشكلات.

توجد نتيجة أخرى عملية وغير متوقعة للقراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات، وهي تتعلق بالتفاعل الاجتماعي. عادة ما يفسَّر الانغماس في قراءة الكتب أو عيش تجارب الماضي ذهنيًا على أنه سلوك غير اجتماعي، لكن قد يكون العكس هو الصحيح. فمحاكاة العالم الاجتماعي التي يجربها المرء عندما ينغمس في عمل خيالي يمكن أن تحسّن مهاراته الاجتماعية، حيث تتاح له فرصة تجربة مجموعة من التفاعلات الاجتماعية بشكل خيالي. وهذه “المعرفة الاجتماعية” المكتسبة من التفاعلات الخيالية يمكن نقلها إلى العالم الواقعي وتطبيقها خارج دفتي الكتاب، وبالتالي سيُحسن القارئ التصرف في مختلف المواقف الاجتماعية. ومن المثير للدهشة أن الحنين إلى الماضي كذلك له بُعد اجتماعي. نظرًا لأن ذكريات الحنين تتضمن غالبًا أشخاصًا آخرين -مثل العائلة والأصدقاء- فاسترجاع التجارب المشتركة معهم يمكن أن يعزز الشعور بالترابط الاجتماعي، ويحسّن “ثقة المرء في قدرته على بدء التفاعلات والعلاقات، ومشاركة أفكاره، وتقديم الدعم العاطفي للآخرين”. وبالتالي، فالقراءة الترفيهية والشعور بالحنين -على عكس الصورة النمطية- وسيلة لتقريبنا من الناس، لا إبعادنا عنهم.

أيضًا من فوائد القراءة الترفيهية والشعور بالحنين ما يتعلق بتطوير المهارات الاجتماعية: التعاطف. فالانغماس في قراءة الروايات -خاصة الروايات الأدبية- يحسن قدرة القارئ على فهم ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به، مما يؤدي إلى زيادة التعاطف والسخاء. وكذلك الحنين إلى الماضي -وهو عاطفة اجتماعية تبني اتصالًا رمزيًا مع أحبّائنا- يعزز الإحساس بالترابط الاجتماعي، فيزداد التعاطف والرغبة في مساعدة الآخرين. يساعد التعاطف مع الآخرين على فهم طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للعالم. وهذا الفهم وإن كان قيمة جوهرية من وجهة نظر إنسانية بحتة، إلا أن له فائدة عملية وهي توقع استجابات الآخرين لمبادرات المرء في الساحة الاجتماعية.

إنني أشك أن الأثرياء -كقاعدة عامة- يتعمدون تجنب القراءة الترفيهية واسترجاع الذكريات بحجة الإضرار بأعمالهم. إن كان من الطامحين إلى الثراء مَن يميل إلى تجنب هذه المسليات الذهنية لأنها غير عملية ويراها مضيعة للوقت، أقول له: لا داعي للقلق، القراءة الترفيهية والشعور بالحنين بالتأكيد لن يؤثروا على فرص المرء في الثراء، بل قد يساعدان بطريقتهما الخفية!

المصدر

شارك الصفحة
المزيد من المقالات
هذا هو الخيط الرفيع بين الآباء والأمهات بالنظر إلى الأبناء

لكن لفت انتباهي من بينها عادة بعينها، وهي أنهم "يقرأون... لكن ليس من أجل

معرفة القيمة الحقيقية لإعادة القراءة تأتي من بحث محاسنها ومثالبها